موسوعة أحكام الطهارة

دبيان الدبيان

[المقدمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فالفقه الإسلامي بحاجة إلى إعادة بعثه وتصنيفه بما يؤام هذا الوقت، فإن زمن قصر العناية على المتون الفقهية قد انتهى إن شاء الله تعالى إلى غير رجعة، وزمن التقليد أخذ ينحصر، وأتوقع أن لا يمضي وقت طويل حتى يقضي الله بمشيئته على بدعة التقليد، فالصحوة تبشر ببعث جديد، يعود فيه دور الفقيه المسلم إلى حياة المسلمين، فالصحوة سلفية، وفقهها سلفي، والعناية بمتون السنة أولى من العناية بكلام البشر، وصرف الأوقات في تحليل عبارات الرجال (¬1). ولقد شارك في هذه الصحوة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى مؤسسات كثيرة وعلماء جهابذة، فالجامعات الإسلامية في هذا البلد المعطاء قامت منذ طلائع هذه الصحوة ببعث التراث الإسلامي مهتمين ببيان الحديث الصحيح ¬

_ (¬1) ولا يعني هذا القول بأني أدعو إلى الاعتماد اعتماداً كلياً على كتب السنة وعدم الاستفادة من أقوال الأئمة؛ فإن كتبهم ومؤلفاتهم من أعظم الأسباب التي تعين طالب العلم على فهم الأدلة الشرعية، ومراد الشارع منها، وبيان المخصص، والمقيد للأدلة العامة والمطلقة، ومنهجي في هذا البحث شاهد على ما أقول، ولكني في الوقت نفسه لا أرى الاكتفاء بكتب الفقه، والاقتصار على المتون، وعدم النظر في كتب السنة، وترك العناية في البحث فيها، وبيان صحيحها من ضعيفها.

من الضعيف، ولا ينسى دور بعض العلماء الذين تحملوا في ذلك عبئاً كبيراً في تعليم الناس الفقه السلفي، المبني على الدليل البعيد عن التقليد والمذهبية، وأترك ذكر الأسماء حتى لا يفهم الحصر؛ لأن استيعابهم يطول. ورأيت مشاركة مني أن أكتب بحوثاً علمية في الفقه الإسلامي أجمع فيها بين أقوال الفقهاء، وأدلة المحدثين، يكون البحث فيه متناسقاً بين الآثر والنظر، فالنظر الخالي من الأثر نظر أعمى، والأثر الخالي من الفقه نص معطل المنافع، ولا بد للأثر من فقيه يستخرج كنوزه، ولا بد للفقيه من طريقة المحدثين حتى يعرف الضعيف من الصحيح فلا يبني بناءه على شفا جرف هار، فكان هذا المشروع الذي أرجو أن يكون لبنة في هذا البناء الشامخ الذي شرع فيه أوائل هذه الأمة في وضع أسسه وضوابطه. إن هذا المشروع بالنسبة لي هو مشروع حياة، سوف أنذر وقتي إن شاء الله على إكماله وسأصل الليل بالنهار، وانقطع من كل نشاط حتى أبلغ كماله أو أعذر، والمعذور له أجره كاملاً كما روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا حميد الطويل، (1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة. قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر (¬1). (2) وروى البخاري أيضاً، قال: حدثنا مطر بن الفضل، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا العوام، حدثنا إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي، قال: سمعت أبا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4423).

بردة واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة: سمعت أبا موسى مراراً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحاً (¬1). وقد قاربت من نهاية كتاب الطهارة في اثني عشر مجلداً تقريباً، طبع منه كتاب الحيض والنفاس في ثلاث مجلدات كبيرة، وكان تقديم طباعته على غيره نظراً لحاجة المكتبات إلى كتاب متخصص في الحيض والنفاس يجمع بين أقوال الفقهاء ونظر الأطباء، فكان هذا الكتاب ولله الحمد. ثم صدر منه أيضاً كتاب أحكام المسح على الحائل في مجلد كبير جداً يقع في ستمائة وسبعين صفحة، طبع في شتاء عام 1420 هـ واليوم أقدم أربع مجلدات في المياه، وآداب الخلاء وسنن الفطرة، وسوف يصدر الباقي تباعاً إن شاء الله تعالى. منهجي في هذا البحث. سبق أن ذكرت منهجي في عرض أقوال المذاهب، وأدلة المسائل في كتاب الحيض والنفاس، فلا داعي لإعادته في هذا البحث، ولكني أنبه فيه على مسألة أخذت عليَّ في البحوث السابقة، حول خلو البحث من كلام الفقهاء المعاصرين. فأقول: لقد فعلت ذلك عن عمد، وذلك طلباً لعلو الإسناد إلا في كلام للمعاصرين لم أره للمتقدمين، فيكون مقتضى الأمانة أن أذكره لهم إذا احتجت إلى نقله، ولقد كان الإمام أحمد لا يروي عن الأحياء إلا في عدد ¬

_ (¬1) البخاري (2996).

دراسة مقارنة بين هذا البحث وبعض المتون المشهورة.

قليل جداً من الرواة، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، باستثناء من أفضى منهم إلى ما قدم كالشيخ أحمد شاكر رحمه الله، وليس الحامل على هذا هو التقليل من شأن العلماء المعاصرين، ولكني رأيت في طلابهم من يتعصب لأقوال شيخه ويغضب لمخالفتها أشد من غضب المتمذهبين لمذاهبهم، وصاروا يدعوننا بدلاً من اتباع الأئمة إلى تقليد شيوخهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أرى أن ربط الناس بعلماء السلف عند الترجيح، وأن هذا هو رأي الإمام أحمد أو سفيان أو مالك أو الزهري خير من ربطهم بالعلماء المعاصرين، وأين الثرى من الثريا، فلا تكاد تجد قولاً قوياً لبعض العلماء المعاصرين إلا وتجد أنه قد قال به إمام من أئمة السلف، فكان مقتضى العدل والإنصاف والأمانة في النقل أن ينسب هذا القول لمن قاله، لا لمن نقله. ثم إني إذا تعرضت للنقل عن المعاصرين حملني هذا في بعض الأحيان إلى نقد ما أنقله، إما بزيادة أو حذف، فليس كل ما ينقل يُسَلَّم، فيكون هذا سبباً في إيغار الصدور، وأنا إلى تأليف القلوب، وسلامة الصدور أحوج مني إلى نقل كلام زيد، وعرضه للنقد، وهذا الفعل مني اجتهاد لا أدعي أنه صواب، وقد دفعني للبوح به ما بلغني من بعض الإخوة من عتاب في عدم ذكر بعض المشايخ عند الترجيح، فأردت أن يفهم الحامل على هذا، وأن لا يسيئ الظن أحد من إخواني في تحميل الأمر ما لا يحتمل. دراسة مقارنة بين هذا البحث وبعض المتون المشهورة. تعود طلبة العلم في الديار النجدية من البلاد السعودية حرسها الله أن يتعلموا ويتخرجوا على دراسة بعض المتون الفقهية والتي تلقى عناية من المشايخ وطلبة العلم سواء في حلق المساجد أو في الجامعات والمعاهد العلمية،

وقد أجريت مقارنة بين مسائل هذه المتون وبين هذا البحث ليكون طالب العلم على دراية بأن مسائل هذه المتون قد دخلت ضمن هذه الموسوعة. وقد أخترت كتابين من المتون المشهورة عندنا، وهما زاد المستقنع، وشرحه الروض المربع. فكتاب زاد المستقنع يكاد يكون من أكثر المتون الفقهية التي تدرس في المساجد والمعاهد العلمية، حتى قال عنه بعض مشايخنا: قد شغف فيه المبتدئون من طلاب العلم على مذهب الحنابلة، وحفظه كثير منهم عن ظهر قلب، وكان شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى يحثنا على حفظه ويدرسنا فيه، وقد انتفعنا به كثيراً ولله الحمد (¬1). ويقول شيخنا صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله: وحيث إن مختصر المقنع (زاد المستقنع) لشرف الدين أبي النجا موسى الحجاوي اشتمل على مهمات المسائل في المذهب الحنبلي لذا اعتنى به الفقهاء من الحنابلة بدراسته وتدريسه وتفهمه وتفهيمه، وبالأخص في البلاد النجدية (¬2). اهـ وأما كتاب الروض المربع فيقول عنه بعض طلبة العلم: كتاب الروض المربع يعتبر بحق من أهم الموسوعات الفقهية التي اشتملت على كثير من الأحكام الشرعية مقرونة بأدلتها التفصيلية، وقد اعتنى به عامة طلبة العلم، وخصوصاً في هذه البلاد حرسها الله من كل سوء ومكروه سواء من القضاة والمحاكم الشرعية أو في المدارس النظامية في كليات الشريعة وما يماثلها أم في حلق المساجد والجوامع إذ لا تكاد تخلو مدينة من عالم يدرس هذا الكتاب في حلقته، ولا غرابة في ذلك فقد أودع فيه البهوتي رحمه الله ¬

_ (¬1) الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/ 5). (¬2) السلسبيل (1/ 11) ئ.

جملة من النصوص والآثار إذ بنى معظم مسائل هذا الكتاب على نص من السنة أو أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم (¬1). فإذا أحصينا مسائل زاد المستقنع والروض المربع في كتاب المياه وآداب الخلاء وسنن الفطرة وجدناها بلغت مائة وخمساً وأربعين مسألة، وبلغت مسائل هذا البحث مائة وست وثمانين مسألة، أي بزيادة إحدى وأربعين مسألة فقهية، وهو عدد ليس بالقليل كما ترى، فإذا أضيف إلى هذا أن مسائل البحث قد درست دراسة مقارنة عرض فيها ما يمكن عرضه من أقوال الأئمة الأربعة والفقهاء المجتهدين، وجمع فيها ما يمكن من أدلة من أحاديث مرفوعة وآثار عن الصحابة والتابعين أدرك القارئ الكريم قدر هذا البحث من الناحيتين الفقهية والحديثية، وإليك تفصيل مسائل كل كتاب من هذه الكتب. بلغت مسائل زاد المستقنع في باب المياه ثلاثاً وعشرين مسألة فقيهة. وزاد الروض المربع على زاد المستقنع في باب المياه سبعة عشر مسألة، لتكون مسائل الروض المربع أربعين مسألة فقهية. وبلغت مسائل الموسوعة في باب المياه أربعين مسألة فقهية. وفي كتاب الاستنجاء، بلغت مسائل زاد المستقنع ست وثلاثين مسألة، وزاد الروض المربع خمساً وعشرين مسألة ليكون المجموع إحدى وستين مسألة، وبلغت مسائل هذا البحث تسعين مسألة فقهية، وهذا يعني أن الموسوعة زادت على الكتابين بمقدار الثلث، أي بمقدار ثلاثين مسألة فقهية لم ¬

_ (¬1) مقدمة كتاب الروض المربع لمجموعة من المشايخ الفضلاء: الطيار والغصن والمشيقح (1/ 10).

يتعرض لها الكتابان، وهو قدر لا يستهان به كما ترى. وأما الكتاب الثالث: وهو سنن الفطرة: فبلغت مسائل زاد المستنقنع ثلاث عشرة مسألة فقط. وزاد عليها صاحب الروض المربع إحدى وثلاثين مسألة ليكون المجموع أربعاً وأربعين مسألة، فإذا قارناهما في الموسوعة، نجد أن مسائل سنن الفطرة فيها بلغت ستاً وخمسين مسألة أي بفارق أثني عشر مسألة، فإذا ضممنا هذه الزيادة للزيادة السابقة تكون الموسوعة قد زادت على الكتابين بمقدار أحدى وأربعين مسألة فقهية ليست موجودة فيهما، فالحمد لله أولاً وآخراً، لا نحصي ثناء عليه. أما مقارنة الموسوعة في المتون الحديثية فإنه لا وجه فيها للمقارنة إذا علمت أن أحاديث الموسوعة مع المكرر بلغت 770 حديثاً وأثراً فقط في الثلاثة مجلدات التي هي المياه والخلاء وسنن الفطرة، وكان كتاب الحيض والنفاس من قبل قد شمل ما يقدر بخمسائة وثلاثين حديثاً، وباب المسح على الحائل شمل مائة وثمانين حديثاً ليكون المجموع ألفاً وأربعمائة وثمانين حديثاً مع المكرر، ويتوقع أن تبلغ أحاديث كتاب الطهارة أكثر من ألفي حديث، فلا يكاد يوجد متن في الحديث يقاربها، فإذا علمت أن أحاديث السواك بلغت ما يقارب مائة حديث، علمت أن البحث من الناحية الحديثية عمل موسوعي شمل ما في السنن والمسانيد والمعاجم مما يمكن أن يكون دليلاً في الباب، ولم يقتصر العمل على جمع هذه الموسوعة الحديثية بل خرجت أحاديثها، وأوليت متونها عناية خاصة، في بيان الشاذ والمحفوظ منها مع تتبع أحكام العلماء المتقدمين وما نقل عنهم في بيان بعض العلل الخفية، وقدمت تراجم للرواة

خطة البحث في هذا الكتاب

المختلف فيهم فقط طلباً للاختصار، ونقلت تراجمهم من أمهات كتب التراجم، ولم أقتصر على التهذيب، وإن كان فيه كفاية فكنت أنقل كلام أبي حاتم من الجرح والتعديل، وكذا كلام يحيى بن معين والقطان وأحمد والبخاري من التاريخ الكبير والأوسط، ومن ضعفاء العقيلي ومن الثقات لابن حبان ومن غيرها من كتب الجرح والتعديل، فجاء الكتاب ولله الحمد أشبه ما يكون بالفتح، ولذلك بلغ كتاب الطهارة ما يقارب اثني عشر مجلداً في عمل غير مسبوق، وأسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يمن علي لإكمال هذا المشروع الموسوعي الذي إن بلغني الله إكماله فإنه سيكون إضافة حقة للمكتبة الإسلامية، وإن أراد الله بحكمته غير ذلك فقد بينت منهجاً يمكن أن يكمل المشروع من بعدي، ولو تبنى المشروع مؤسسة، وكان معي فريق يساعدني على إكمال هذه الموسوعة لأنجزت في زمن قياسي، والله المستعان وحده والموفق. خطة البحث في هذا الكتاب أحكام المياه، ويشتمل على مقدمة، وأبو اب، ويشتمل كل باب منها على فصول، والفصول على مباحث وفروع ومسائل، على النحو التالي: توطئة: منهج الباحث في الشذوذ وزيادة الثقة. المقدمة: وفيها ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف الطهارة. المبحث الثاني: تعريف النجاسة.

المبحث الثالث: بيان الأصل في المياه والأعيان. الباب الأول: أقسام المياه. الباب الثاني: الوضوء بالماء المحرم كالمغصوب ونحوه. الباب الثالث: حكم رفع الحدث وإزالة الخبث من ماء زمزم. الباب الرابع: في الماء المتغير، وفيه فصول: الفصل الأول: في الماء المتغير بالطاهرات. وفيه مباحث: المبحث الأول: الماء المتغير بطاهر غير ممازج المبحث الثاني: الماء المتغير بطاهر يشق صون الماء عنه المبحث الثالث: الماء المتغير بمكثه المبحث الرابع: الماء المتغير بالملح. الفرع الأول: الماء إذا وضع فيه ملح فتغير به. الفرع الثاني: الخلاف في ماء البحر. المبحث الخامس: الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه. وفيه فرعان: الفرع الأول: الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه. الفرع الثاني: خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ. الفصل الثاني: في الماء المتغير بنجاسة، وفيه مبحثان: المبحث الأول: الماء المتغير بمجاورة النجاسة. المبحث الثاني: الماء المتغير بمخالطة النجاسة.

الباب الخامس: في الماء المستعمل. الفصل الأول: حكم الماء المستعمل في رفع الحدث. الفصل الثاني: الماء المستعمل في طهارة مستحبة. الفصل الثالث: الماء المستعمل في طهارة غير مشروعة. الفصل الرابع: الماء المستعمل في التبرد والنظافة. الفصل الخامس: الماء المستعمل في غمس يد القائم من نوم الليل. الفرع الأول: حكم غسل اليد قبل إدخالها الإناء. الفرع الثاني: هل الحكم خاص في من قام من نوم الليل. الفصل السادس: الماء المستعمل في إزالة النجاسة. الباب السادس: في الكلام على فضل الوضوء. الفصل الأول: حكم وضوء الرجال والنساء جميعاً إذا كانوا من المحارم. الفصل الثاني: في فضل وضوء المرأة. الفصل الثالث: في فضل وضوء الرجل. الباب السابع: في الشك والاشتباه. الفصل الأول: في الشك في الماء ونحوه. الفصل الثاني: إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس. الفصل الثالث: إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر. الفصل الرابع: إذا اشتبه ثياب طاهرة بمحرمة أو نجسة. الفصل الخامس: في الإخبار بنجاسة الماء.

المبحث الأول: إذا أخبره رجل أو امرأة بنجاسة الماء. المبحث الثاني: أذا أخبره صبي عن نجاسة الماء. المبحث الثالث: إذا أخبره فاسق عن نجاسة الماء. المبحث الرابع: في السؤال عن الماء. الباب الثامن: في الماء النجس. الفصل الأول: في الماء القليل إذا لاقته نجاسة ولم يتغير الفصل الثاني: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة المبحث الأول: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فغيرته المبحث الثاني: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فلم تغيره. فرع: حكم ماء بئر المقبرة. الفصل الثالث: في المائع غير المائي تخالطه النجاسة. الفصل الرابع: في الماء المسخن. المبحث الأول: الماء المسخن بنجس. المبحث الثاني: الماء المسخن بالشمس. الباب التاسع: في تطهير الماء المتنجس. هذا فيما يتعلق في كتاب المياه، وأرجو أن أكون أتيت على أكثر مسائل المياه، وأما خطة البحث في باب الآنية فهي كالتالي. الفصل الأول: في الأواني الثمنية من غير الذهب والفضة. الفصل الثاني: في أواني الذهب والفضة. المبحث الأول: في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة.

المبحث الثاني: في حكم استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب. المبحث الثالث: في حكم الطهارة من آنية الذهب والفضة. المبحث الرابع: في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة. الفصل الثالث: في الأواني المضببة بالذهب والفضة. المبحث الأول: في تضبيب الأواني بالذهب. المبحث الثاني: خلاف العلماء في التضبيب بالفضة. الفصل الرابع: في آنية الكفار. الفصل الخامس: في الأواني المتخذة من الميتة. المبحث الأول: في الأواني المتخذة من جلود الميتة. المبحث الثاني: في الآنية المتخذة من عظام الميتة وقرنها وحافرها. المبحث الثالث: في الآنية المتخذة من شعر الميتة، وصوفها ووبرها. هذا في ما يتعلق بخطة هذا المجلد، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل العمل خالصاً لوجهه، وأن يتقبله مني بقبول حسن، وأن ينفع به، وأنه يجعله من العمل الصالح الذي لا ينقطع، إنه ولي ذلك والقادر عليه. كتبه أبو عمر دبيان بن محمد الدبيان. السعودية -القصيم- بريدة.

توطئة منهج الباحث في الشذوذ وزيادة الثقة.

توطئة منهج الباحث في الشذوذ وزيادة الثقة. نظراً إلى أن الخلاف في بعض المسائل الأصولية ينبني عليها تضعيف أو تصحيح كثير من الأحاديث، والخطأ في مسألة أصولية واحدة يعني: الخطأ في عشرات المسائل المتفرعة من تلك المسألة، فكم من خطأ أصولي أوقع في أخطاء كثيرة، وأذكر بعض الأمثلة: المثال الأول: يرى بعض الباحثين أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا عارض قوله، حمل الفعل على أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحاول أن يجمع بين الفعل والقول وذلك بحمل النهي على الكراهة والأمر على الاستحباب، ولا شك أن هذا القول خطأن ولا تثبت الخصوصية إلا بدليل صريح أن هذا الفعل خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذا القول لقائله لو أحصينا المسائل التي خالف فيها القول الراجح بسبب هذا المنهج لجاءت مسائل كثيرة متفرقة على أبواب الفقه، هذا مثال، وقس عليه غيره. مثال آخر: أخذ بعضهم من الأمر المطلق بقوله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا عني مناسككم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي أن الأصل في جميع أفعال الحج والصلاة الوجوب، إلا لصارف وقرينة يدل على أن الحكم فيها للاستحباب. ولا شك أن الاستدلال بمثل هذا الأمر العام المشتمل على أحوال وهيئات، وصفات وأقوال، أحكامها مختلفة، لا أرى أن يستدل على وجوبها بهذا العموم. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا عني مناسككم " يدل على

كونه مشروعاً، وأنه من أفعال المناسك، أما دلالته على الوجوب فيحتاج إلى دليل خاص، كما أن دلالته على الشرطية أو الركنية يحتاج إلى دليل خاص كذلك. فإذا كان ورود الأمر الخاص فيه نزاع في دلالته على الوجوب كما هو معلوم في أصول الفقه، فما بالك في حديث: "خذوا عني مناسككم" والذي يشمل جميع أفعال المناسك. ولأهمية هذه المسألة رأيت أيت أن أذكر منهجي في مسائلة مهمة يختلف فيها الاجتهاد من باحث لآخر، ويترتب على الخلاف فيها اختلاف في الحكم على مئات الأحاديث صحة وضعفاً، فرأيت أن أقدم ما آراه صواباً مدعوماً بالحجة في منهج المحدثين في الشذوذ وزيادة الثقة. ومسألة الشذوذ مسألة شائكة مترامية الأطراف، ومن أكبر أسس العلة تصحيحاً وتضعيفاً، وقد خاض في هذه المسألة طوائف من العلماء مختلفة مشاربهم، خالفوا فيها جمهور المحدثين، على رأسهم جمهور الأصوليين المتأثرين بعلم الكلام، البعيدين كل البعد عن الممارسة والتطبيق في تصحيح الأحاديث وتضعيفها وبيان عللها، وتأثر كثير من طلبة العلم بمنهج الأصوليين، وأصبح منهج جمهور المحدثين غير معمول به عند كثير من الطلبة، وممن له عمل في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وليست هذه هي الجناية الوحيدة من الأصوليين على مصطلح الحديث، فقد أقحموا مباحث كثيرة، ونشروا أراء لم تكن معروفة عند أهل الحديث، وليس هذا مجال بحثها. ومما زاد الطين بلة أن الحافظ ابن حجر رحمه الله قرر في نخبة الفكر رأي الأصوليين واعتمده، فانتشر هذا الرأي بسبب انتشار النخبة، بينما الحافظ نفسه ضعف ما رجحه في النخبة في كتابه القيم النكت على مقدمة ابن

القول الأول: منهج الفقهاء.

الصلاح، ورد عليه في كلام طويل أوردت بعضه في هذا البحث. ولم أقصد في هذا البحث أن أتوسع في هذه المسألة، وإنما أردت أن أعطي إشارات ليفهم منها القارئ منهج جمهور المحدثين، وليعلم سبب تضعيفي لبعض الزيادات في بعض الأحاديث التي قد تكون في الصحيحين أو في بعضهما، وأشهر الأقوال في قبول زيادة الثقة ما يلي: القول الأول: منهج الفقهاء. ذهب جمهور الفقهاء والأصوليين إلى قبول زيادة الثقة، ما لم تكن منافية لرواية من هو أوثق منه، ومعنى منافية: أي يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى (¬1). واستدلوا على ذلك: أولاً: قالوا: إن الراوي إذا كان ثقة، وانفرد بالحديث من أصله كان مقبولاً، فكذلك انفراده بالزيادة. وأجيب عن هذا قال الحافظ في النكت: هناك فرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله، وبين تفرده بالزيادة؛ لأن تفرده بالحديث من أصله لا يلزم منه تطرق السهو والغفلة إلى غيره من الثقات، إذ لا مخالفة في روايته لهم بخلاف تفرده بالزيادة إذا لم يروها من هو أوثق منه حفظاً، وأكثر عدداً، فالظن غالب بترجيح روايتهم له على روايته (¬2). اهـ وقال أيضاً في النكت: الحديث الذي يتحد مخرجه، فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه، ويرويه ثقة دونهم في الضبط والاتقان على وجه، ¬

(¬1) انظر المنهل الروي (ص: 58)، الكفاية في علم الرواية (ص: 424،425). (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 691).

يشتمل على زيادة تخالف ما رووه إما إما متناً أو إسناداً، فكيف تقبل زيادته، وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم، ولا سيما إذا كان شيخهم ممن كان يجمع حديثه، ويعتنى بمروياته، كالزهري وأضرابه بحيث يقال: لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه، ولو سمعوها لرووها، ولما تطابقوا على تركها، والذي يغلب على الظن في مثل هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة (¬1). الدليل الثاني للفقهاء: قالوا: من الجائز أن يقول الشارع كلاماً في وقت، فيسمعه شخص ويزيده في وقت آخر، فيحضره غير الأول، ويؤدي كل منهم ما سمع، وبتقدير اتحاد المجلس فقد يحضر أحدهما في أثناء الكلام، فيسمعه ناقصاً، ويضبطه الآخر تاماً، وينصرف أحدهما قبل فراغ الكلام، ويتأخر الآخر، وبتقدير حضورهما، فقد يذهل أحدهما، أو يعرض له ألم أو جوع أو فكر شاغل، أو غير ذلك من الشواغل، ولا يعرض لمن حفظ الزيادة، ونسيان الساكت محتمل، والذاكر مثبت، وغاية ما فيه أنه لم يذكر الزيادة. وأجيب: قال الحافظ في النكت: إن الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة إنما هو في زيادة بعض الرواة التابعين فمن بعدهم، وأما الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر إذا صح السند إليه فلا يختلفون في قبولها، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في قصة آخر من يخرج من النار، وأن الله يقول له بعد أن يتمنى ما يتمنى: لك ذلك ومثله معه. قال ¬

(¬1) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 688).

القول الثاني: قول جمهور المحدثين.

أبو سعيد رضي الله عنه: أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لك ذلك، وعشرة أمثاله. ثم قال الحافظ: وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث بقبولها من غير الحافظ، حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه، كمالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ، وأنفرد دونهم بعض رواته بزيادة فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها، فتفرد واحد منهم بها دونهم، مع توافر دواعيهم على الأخذ عنه، وجمع حديثه، يقتضي ريبة توجب التوقف فيها (¬1). قلت: واضح أن الفقهاء عند ما ساقوا دليلهم الثاني كانوا لا يعلمون من طريقة المحدثين إلا ما يعرفونه من حلق تدريس الفقه، فقد يحضر طالب متقدم، ويتأخر آخر، فيسمع المتقدم قبل المتأخر، إن هذا الكلام لا يتمشى مع طريقة المحديثين والعناية بمروياتهم، وربما امتحن حفظ الشيخ بعد سنوات من تحديثه، فإذا زاد فيه أو نقص كان هذا دليلاً على عدم حفظه، وكانوا بعضهم لا يحدث إلا على آداب معروفة من الطهارة وقصد التحديث، بل إنك تجد المحدثين يفرقون بين ما سمعوه في المذاكرة، وإن كان على سبيل الرواية، وبين غيره؛ لأن المذاكرة قد يتساهل الشيخ في النص المروي .. فلله درهم!! كيف حفظ الله بهم دينه، وأين هذا من طريقة الفقهاء والأصوليين، وما أبعد التنظير النظري عن التطبيق العملي. القول الثاني: قول جمهور المحدثين. قالوا: إن زيادة الثقة لا تقبل مطلقاً، ولا ترد مطلقاً، بل ينظر في كل ¬

(¬1) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 692).

زيادة بحسبها، على حسب ما يقوم عندهم من القرائن المحتفة بالقبول أو الرد. يقول ابن حجر عن منهج الشيخين: والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد، بل هو دائر مع القرائن، فمهما ترجح بها اعتمداه، وإلا فكم حديثٍ أعرضا في تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله (¬1). وقال الزيلعي رحمه الله: من الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل: وهي أنها تقبل في موضع دون موضع، فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة، وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها (¬2). اهـ وقال ابن دقيق العيد: من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند، أو رافع وواقف، أو ناقص وزائد، أن الحكم للزائد، فلم يصب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول (¬3). وقد يقول بعض الحفاظ: هذه زيادة من ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة، فيفهم من ليس له ممارسة واطلاع على عمل المحدثين أن الزيادة مقبولة مطلقاً إذا لم تكن منافية، وهذا فهم غير دقيق. قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لعلل الترمذي: وهكذا الدراقطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة، ثم يرد في بعض المواضع ¬

(¬1) فتح الباري (10/ 203). (¬2) نصب الراية (1/ 336). (¬3) النكت على ابن الصلاح (2/ 604).

زيادات كثيرة من الثقات، ويرجح الإرسال على الإسناد، فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في تلك الموضع خاصة، وهي إذا كان الثقة مبرزاً في الحفظ على من لم يذكرها (¬1). اهـ فقد أراحنا ابن رجب رحمه الله في هذا التفسير من اعتراض بعض الطلبة ممن تخرج على النخبة، ولم يمارس التصحيح، فيقطع نصاً من كلام بعض العلماء، ويقول: انظر الإمام فلان يقول: هذه زيادة من ثقة، وزيادة الثقة مقبولة، فلا يعني هذا الكلام قبول زيادة الثقة مطلقاً، كما لا يعني أيضاً: قبولها بشرط أن لا تكون منافية، فهذا التفصيل على منهج المحدثين غير معروف. فإذا كان ترجيح الأئمة يدرو مع القرائن، فإني سوف أستعرض لك أشهر القرائن التي تكون سبباً في ترجيح الأئمة على زيادة بالحفظ أو الرد، فمنها: الأولى: الكثرة، وهي من أشهر القرائن وأوضحها. قال الشافعي رحمه الله: العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد (¬2). (3) مثال ذلك، ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، عن علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن ابن المنكدر، عن جابر مرفوعاً في إجابة المؤذن: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته". تفرد محمد بن عوف، عن علي بن عياش بزيادة: إنك لا تخلف الميعاد، كما في سنن البيهقي (¬3)، فهذه الزيادة شاذة لمخالفة محمد بن عوف جماعة من ¬

(¬1) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: سقط هذا الهامش من المطبوع. (¬2) الرسالة (ص: 281)، وسنن البيهقي (2/ 25). (¬3) سنن البيهقي (1/ 410).

الحفاظ، منهم: الأول: البخاري في صحيحه (¬1). الثاني: أحمد بن حنبل (¬2)، ومن طريق أحمد أخرجه أبو داود (¬3). الثالث: محمد بن سهل البغدادي، كما في سنن الترمذي (¬4). الرابع: إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، كما في سنن الترمذي (¬5). الخامس: محمد بن يحيى الذهلي، كما في سنن ابن ماجة (¬6). السادس: أبو زرعة الدمشقي، كما في شرح معاني الآثار (¬7). السابع: موسى بن سهل الرملي، كما في صحيح ابن خزيمة (¬8). الثامن: محمد بن جعفر السمناني، كما في سنن ابن ماجه (¬9). التاسع: العباس بن الوليد الدمشقي، كما في سنن ابن ماجه (¬10). العاشر: عمرو بن منصور النسائي، كما في سنن النسائي (¬11). ¬

(¬1) رقم (614). (¬2) المسند (3/ 354). (¬3) رقم (529). (¬4) رقم (211). (¬5) الرقم السابق. (¬6) رقم (722)، وابن حبان (1689). (¬7) شرح معاني الآثار (1/ 146). (¬8) رقم (420). (¬9) رقم (722). (¬10) الرقم السابق. (¬11) رقم (680).

مثال آخر

فاتفاق العشرة على عدم ذكر زيادة محمد بن عوف، يدل على ضبطهم، ووهمه. مثال آخر: (4) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب، فقال: كيف صلاة الليل؟ فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت. ورواه مسلم (¬1). وقد رواه الطيالسي (¬2)، وأحمد (¬3)، وابن أبي شيبة (¬4)، وأبو داود (¬5)، والترمذي (¬6)، والنسائي في الكبرى وفي المجتبى (¬7)، وابن ماجه (¬8)، والدرامي (¬9)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (¬10)، وابن حبان (¬11)، والبيقهي ¬

(¬1) روه البخاري (473)، ومسلم (749). (¬2) رقم (1932). (¬3) المسند (2/ 26). (¬4) المصنف (2/ 74). (¬5) رقم (1295). (¬6) رقم (597). (¬7) في الكبرى (472)، والمجتبى (1666). (¬8) برقم (1322). (¬9) برقم (1458). (¬10) (1/ 334). (¬11) برقم (2482).

(¬1)، من طريق علي البارقي، وهو صدوق عن ابن عمر، بلفظ: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. بزيادة: كلمة (والنهار). وقد رواه جماعة عن ابن عمر بدون هذه الزيادة، منهم على سبيل المثال لا الحصر: الأول: نافع كما في موطأ مالك (¬2)، ومسند أحمد (¬3)، وصحيح البخاري (¬4)، ومسلم (¬5)، وأبي داود (¬6)، والترمذي (¬7)، والنسائي في الكبرى (¬8)، والمجتبى. الثاني: سالم، كما في مصنف ابن أبي شيبة (¬9)، وأحمد (¬10)، والبخاري (¬11)، ومسلم (¬12)، والنسائي (¬13)، والطبراني في مسند الشاميين (¬14). ¬

(¬1) السنن الكبرى (2/ 487). (¬2) الموطأ (1/ 123). (¬3) المسند (2/ 5). (¬4) برقم (473،990،998). (¬5) برقم (729،749). (¬6) برقم (1326). (¬7) برقم (437). (¬8) في الكبرى (1399)، وفي المجتبى (1670،1671). (¬9) (2/ 74). (¬10) المسند (2/ 133). (¬11) برقم (1137). (¬12) برقم (749). (¬13) المجتبى (1668،1672). (¬14) برقم (642).

الثالث: عبد الله بن دينار، كما في موطأ مالك (¬1)، ومصنف ابن أبي شيبة (¬2)، والبخاري (¬3)، ومسلم (¬4)، والنسائي (¬5). الرابع: عبد الله بن شقيق، كما في مصنف ابن أبي شيبة (¬6)، وأحمد (¬7)، ومسلم (¬8)، وأبي داود (¬9). الخامس: طاووس، كما في مصنف ابن أبي شيبة (¬10)، وأحمد (¬11)، ومسلم (¬12)، والنسائي (¬13). السادس: أبو سلمة، كما في مسند أحمد (¬14)، وسنن النسائي (¬15)، ¬

(¬1) برقم (269). (¬2) المصنف (2/ 74). (¬3) برقم (991). (¬4) برقم (749). (¬5) برقم (1694). (¬6) المصنف (2/ 74). (¬7) المسند (2/ 40). (¬8) برقم (749). (¬9) برقم (1421). (¬10) المسند (7/ 313). (¬11) المسند (2/ 30،113). (¬12) صحيح مسلم (146 - 749). (¬13) برقم (1667). (¬14) (2/ 10). (¬15) رقم (1669).

السابع: القاسم بن محمد كما في صحيح البخاري (¬1)، والنسائي (¬2). الثامن: حميد بن عبد الرحمن بن عوف، كما في مصنف عبد الرزاق (¬3)، ومسند أحمد (¬4)، وصحيح مسلم (¬5)، والنسائي (¬6)، وأبي عوانة (¬7)، وشرح معاني الآثار (¬8). التاسع: عبيد الله بن عبد الله بن عمر، كما في صحيح مسلم (¬9). العاشر: عقبة بن حريث، كما في مسند أحمد (¬10)، وصحيح مسلم (¬11)، ومسند أبي عوانة (¬12)، والبيهقي (¬13). الحادي عشر: لا حق بن حميد أبو مجلز، كما في سنن ابن ماجه (¬14). ¬

(¬1) برقم (993). (¬2) برقم (1692). (¬3) برقم (4677). (¬4) المسند (2/ 134). (¬5) برقم (749). (¬6) برقم (1673). (¬7) مسند أبي عوانة (2/ 331). (¬8) (2/ 278). (¬9) برقم (749). (¬10) المسند (2/ 44). (¬11) برقم (749). (¬12) (2/ 330). (¬13) سنن البيهقي (2/ 486). (¬14) برقم (1175).

الثاني عشر: أنس بن سيرين كما في مسند أحمد (¬1)، والبخاري (¬2). الثالث عشر: محمد بن سيرين، كما في مصنف عبد الرزاق (¬3)، ومسند أحمد (¬4). الرابع عشر: عطية بن سعد العوفي، كما في مسند أحمد (¬5). الخامس عشر: عقبة بن مسلم، كما في شرح معاني الآثار (1/ 279). السادس عشر: عقبة بن سعد، كما في مسند أحمد (2/ 155). السابع عشر: سعد بن عبادة كما عند الطبراني في الصغير (1/ 125). فهؤلاء سبعة عشر راوياً فيهم من هو من أخص أصحاب ابن عمر مثل سالم ونافع، ومنهم ثمانية حفاظ في الصحيحين أو في أحدهما، كلهم يروون هذا الحديث وليس فيه ما ذكره علي البارقي. قال النسائي كما في سننه عن زيادة والنهار: هذا الحديث عندي خطأ والله أعلم. اهـ وضعف الزيادة يحيى بن معين، وقال: مَنْ عليّ الأزدي حتى أقبل منه؟! (¬6). وضعف الزيادة ابن تيمية (¬7). ¬

(¬1) المسند (2/ 31). (¬2) برقم (995). (¬3) برقم (4675). (¬4) المسند (2/ 32،33). (¬5) المسند (2/ 155). (¬6) الفتح (2/ 479). (¬7) قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/ 359) عن زيادة البارقي هذا: يرويه =

وقد روى ابن أبي شيبة والطحاوي في شرح معاني الآثار بسند صحيح عن ابن عمر، أنه كان يصلي بالليل مثنى مثنى، ويصلي بالنهار أربعاً، وهذا يؤكد خطأ البارقي (¬1). فاتفاق العدد الكثير على لفظ، وانفراد واحد عنهم بزيادة توجب ريبة في قبول زيادته، إذ لو كانت محفوظة كيف يغفل عنها هذا العدد الكثير ممن ¬

= الأزدي، عن علي بن عبد الله البارقي، عن ابن عمر، وهو خلاف ما رواه الثقات المعروفون عن ابن عمر؛ فإنهم رووا ما في الصحيحين: أنه سئل عن صلاة الليل؟ فقال: " صلاة الليل مثنى مثنى , فإذا خفت الفجر فأوتر بواحدة"، ولهذا ضعف الإمام أحمد وغيره من العلماء حديث البارقي، ولا يقال: هذه زيادة من الثقة، فتكون مقبولة، لوجوه: أحدهما: أن هذا متكلم فيه. الثاني: أن ذلك إذا لم يخالف الجمهور، وإلا فإذا انفرد عن الجمهور ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره. الثالث: أن هذا إذا لم يخالف المزيد عليه، وهذا الحديث قد ذكر ابن عمر "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل؟ فقال: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة". ومعلوم أنه لو قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة لم يجز ذلك، وإنما يجوز إذا ذكر صلاة الليل منفردة، كما ثبت في الصحيحين، والسائل إنما سأله عن صلاة الليل، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد يجيب عن أعم مما سئل عنه، كما في حديث البحر " لما قيل له: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". لكن يكون الجواب منتظما كما في هذا الحديث، وهناك إذا ذكر النهار لم يكن الجواب منتظماً؛ لأنه ذكر فيه قوله:" فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة "، وهذا ثابت في الحديث لا ريب فيه. حتى قال: وهذه الأمور وما أشبهها متى تأملها اللبيب علم أنه غلط في الحديث، وإن لم يعلم ذلك أوجب ريبة قوية تمنع الاحتجاج به على إثبات مثل هذا الأصل العظيم. اهـ (¬1) انظر مصنف ابن أبي شيبة (2/ 74)، وشرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 334).

روى الحديث. (5) مثال آخر. نقل الحافظ في النكت في حديث رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي عياش، عن سعد بن أبي وقاص، في بيع الرطب بالتمر نسيئة. قال الدراقطني: قد رواه مالك وإسماعيل بن أمية، وأسامة بن زيد، والضحاك بن عثمان، عن أبي عياش، فلم يقولوا: نسيئة. قال الدارقطني: واجتماعهم على خلاف ما رواه يحيى يدل على ضبطهم ووهمه (¬1). فهذه أمثلة ثلاثة، وهي تفصح عن غيرها، فالقصد من ذكر ما سبق هو ضرب المثال، ولو استطرد الباحث في ذكر الأمثلة على رد أئمة الحديث زيادات خالف فيها الفرد الثقة من هم أكثر منه عدداً لجاء ذلك في رسالة خاصة. القرينة الثانية: الحفظ: وهو أن يكون أحد الراويين أحفظ وأتقن وأضبط، فيقدم الأحفظ على الحافظ، والأوثق على الثقة. قال الحازمي في الاعتبار في ذكر وجوه الترجيح: أن يكون أحد الراويين أتقن وأحفظ، بنحو ما إذا اختلف مالك وشعيب بن أبي حمزة في الزهري، فإن شعيباً وإن كان حافظاً غير أنه لا يوازي مالكاً في إتقانه وحفظه، ومن اعتبر حديثهما وجد فيه بوناً بعيداً (¬2). القرينة الثالثة: الاختصاص بالراوي، فأبو معاوية الضرير: محمد بن خازم من أثبت أصحاب الأعمش، فإذا خالفه غيره في الأعمش قدم عليهم، ¬

(¬1) النكت (2/ 689،690). (¬2) الاعتبار (ص: 11).

ومثله هشام بن حسان في ابن سيرين، وحماد بن سلمة في ثابت البناني. وهذا النوع كثير. القرينة الرابعة: أن يكون المعروف عن الراوي خلافه. (6) مثاله: حديث ابن عباس في شاة ميمونة، فرواه الشيخان وغيرهما بلفظ: هلا انتفعتم بإهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها. والحديث مداره على الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، واختلف على الزهري فيه: فرواه ابن عيينة، كما في صحيح مسلم (¬1)، عن الزهري بذكر الدباغ، بلفظ: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به. ورواه جماعة من أصحاب الزهري، عنه، بدون ذكر الدباغ، وهاك بعض من وقفت عليهم: الأول: الإمام مالك رحمه الله، وهو من أجل من روى عن الزهري، وروايته في الموطأ (¬2)، ومن طريقه رواه أحمد (¬3)، والنسائي في الكبرى، وفي المجتبى (¬4). الثاني: يونس بن يزيد، كما في صحيح البخاري (¬5)، ومسلم (¬6)، ¬

(¬1) صحيح مسلم (363). (¬2) (2/ 498). (¬3) المسند (1/ 327). (¬4) الكبرى (4561)، والمجتبى (4235). (¬5) البخاري (1421). (¬6) مسلم (363).

وصحيح ابن حبان (¬1)، البيهقي في السنن (¬2). الثالث: صالح بن كيسان، كما في مسند أحمد (¬3)، وصحيح البخاري (¬4)،ومسلم (¬5)، وأبي عوانة (¬6). الرابع: معمر، كما في مصنف عبد الرزاق (¬7)، وأحمد (¬8)، وأبي عوانة (¬9)، وابن المنذر في الأوسط (¬10)، وأبي داود (¬11)، والطبراني في المعجم الكبير (¬12). الخامس: الأوزاعي، كما في مسند أحمد (¬13)، ومسند أبي يعلى (¬14)، وابن حبان (¬15)، والطبراني في الكبير (¬16). ¬

(¬1) صحيح ابن حبان (1284). (¬2) سنن البيهقي (1/ 20،23). (¬3) المسند (1/ 262). (¬4) رقم (2221). (¬5) رقم (363). (¬6) (1/ 210). (¬7) رقم (184،185). (¬8) (1/ 365). (¬9) (1/ 210). (¬10) رقم (832). (¬11) سنن أبي داود (4121). (¬12) (23/ 428) رقم 1038. (¬13) (1/ 329). (¬14) رقم (2419). (¬15) رقم (1282). (¬16) (23/ 428) رقم 1039.

السادس: حفص بن الوليد، كما في سنن النسائي الكبرى والصغرى (¬1). وحفص روى عنه جماعة، ولم يوثقه إلا ابن حبان، وفي التقريب صدوق. السابع: عقيل، فقد قال أبو داود في إثر حديث (4122) لم يذكر الأوزاعي ويونس وعقيل في حديث الزهري ذكر الدباغ (¬2). اهـ الثامن: إسحاق بن راشد، كما في معجم الطبراني (¬3) فهؤلاء ثمانية رواة لم يذكروا لفظ الدباغ، وفيهم من يعد من أجل من روى عن الزهري، كمالك ومعمر ويونس، والأوزاعي. وقد رد الأئمة زيادة ابن عيينة بذكر الدباغ، لأن الزهري الذي مدار الحديث عليه ينكر الدباغ، ويفتي بجواز الانتفاع به، ولو لم يدبغ، والحديث حديثه، ومداره عليه، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف (¬4)، عن معمر، كان الزهري ينكر الدباغ، ويقول: يستمتع به على كل حال، وممن طعن في هذه الزيادة الإمام أحمد قال ابن تيمية: ليس في صحيح البخاري ذكر الدباغ، ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه، لكن ذكره ابن عيينة، ورواه مسلم في ¬

(¬1) الكبرى (4562)، والصغرى (4236). (¬2) وقد وقفت على ورواية عقيل وفيها ذكر الدباغ، فقد أخرجها الدارقطني (1/ 41) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 20) وزاد: أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها؟، وفي رواية: أو ليس في الماء والدباغ ما يطهرها. إلا أنها من طريق يحيى بن أيوب عن عقيل. قال الذهبي في تنقيح التحقيق (. . .): ذكر الدباغ في حديث عقيل مما انفرد به يحيى بن أيوب، وقد لين. (¬3) (23/ 428) رقم 1040. (¬4) المصنف (1/ 62)، وأخرجه أحمد (1/ 365)، وأبو داود (4122) من طريق عبد الرزاق به.

صحيحه، وقد طعن الإمام أحمد في ذلك، وأشار إلى غلط ابن عيينة فيه، وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث (¬1). فلما كان معروفاً عن الزهري خلاف ما زاده ابن عيينة اعتبر ذلك قرينة على وهمه، ولم تعتبر زيادته محفوظة. القرينة الخامسة: الاختلاف على الراوي، فكثرة الاختلاف على الراوي في لفظ الحديث دليل على عدم ضبطه، فيقدم الراوي الذي لم يختلف عليه، على الراوي الذي اختلف عليه. فهذه بعض القرائن، وهي ليست محصورة؛ لأن أسباب الترجيح كثيرة، وهي أكثر من أن تحصر، وما ذكرته إنما على سبيل التمثيل، وكل حديث له قرينة خاصة تستدعي ترجيح هذا اللفظ على آخر، والله أعلم. وبقي قولان في المسألة: أحدهما: عدم قبول الزيادة مطلقاً، أي ترجيح الموقوف على المرفوع، والمرسل على الموصول، والناقص على الزائد (¬2). قال ابن الصلاح: الإرسال نوع قدح في الحديث، فترجيحه وتقديمه من قبيل تقديم الجرح على التعديل (¬3). وثانيهما: قبول زيادة الثقة مطلقاً، وهذا رأي جماعة من أئمة الفقه والأصول (¬4). ¬

(¬1) انظر مسائل أحمد رواية عبد الله (1/ 38) رقم 43، ومجموع الفتاوى (21/ 101). (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 604). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص: 94). (¬4) الكفاية (ص: 411 - 425).

هذا ما أردت الإشارة إليه، وقد تبين لنا أن عمل أئمة الحديث من الدقة بحيث تكون كل زيادة معرضة للنقد، فتجري مقارنة بين ألفاظ جميع من روى الحديث عن هذا الشيخ، وينظر في ما اتفقوا عليه، وتمحص تلك الزيادة التي قد يزيدها بعض الرواة، هل تابعه عليها أحد، أم لا؟ وهل من ذكرها أحفظ ممن لم يذكرها أم لا؟ فدراسة الاسناد سهلة جداً، وهي كد كثير من المتأخرين مع الأسف، فمعرفة هل الرواي ثقة أو ضعيف ليس عملاً شاقاً، فيكفي أن يقلب الباحث التقريب ليعرف درجة الراوي في الحفظ، ولكن دراسة المتن، والعناية به، ومقارنة المتون بعضها ببعض، لينظر تصرف بعض الرواة في المتن، وروايتهم له بالمعنى، فإن الفهم قد يدخله ما يدخله، والضبط عند الرواة ليس بدرجة واحدة، ورحم الله الإمام أحمد حين كان يتهيب في قبول زيادة من إمام في الحفظ مثل الإمام مالك حتى وجده قد توبع. قال الترمذي في العلل الصغير: روى مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر في رمضان على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير. فزاد مالك كلمة (من المسلمين) قال ابن رجب في شرحه لهذا النص: قال أحمد في رواية عنه: كنت أتهيب حديث مالك (من المسلمين) يعني: حتى وجده من حديث العمريين، قيل له: محفوظ عندك (من المسلمين)؟ قال: نعم. قال ابن رجب: وهذه الرواية تدل على توقفه في زيادة واحد من الثقات، ولو كان مثل مالك حتى يتابع على تلك الزيادة (¬1). اهـ والله أعلم. ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (ص: 239).

[المياة]

المقدمة وتشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف الطهارة. المبحث الثاني: تعريف النجاسة. المبحث الثالث: بيان الأصل في المياه والأعيان.

المبحث الأول تعريف الطهارة

المبحث الأول تعريف الطهارة الطهارة في اللغة: النظافة والنزاهة جاء في اللسان: الطهر: نقيض الحيض، والطهر: نقيض النجاسة، والجمع أطهار، وقد طَهَرَ يَطْهُر وطَهُرَ طُهْراً وطهارة المصدران عن سيبويه. وفي الصحاح طَهَر وطَهُر بالضم: طهارة فيهما. وطَهَّرته: أنا تطهيراً وتَطَهَّرت بالماء، ورجل طاهر. وقال أيضاً: وتَطَهَّرت المرأة: اغتسلت. وطَهَّره بالماء: غسله. واسم الماء: الطَّهُور، وكل ماء نظيف طَهُور. وماء طَهُور: أي يتطهر به، وكل طهور طاهر، وليس كل طاهر طهوراً. قال الأزهري: وكل ما قيل في قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (¬1)، فإن الطهور في اللغة: هو الطاهر المطهر؛ لأنه لا يكون طَهُوراً إلا وهو يتطهر به، كالوضوء: هو الماء الذي يتوضأ به، والنشوق: ما يستنشق به، والفطور: ما يفطر عليه من شراب أو طعام، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته: أي المطهر أراد أنه طاهر يطهر. وقال الشافعي رضي الله عنه: كل ماء خلقه الله نازلاً من السماء، أو نابعاً من عين في الأرض، أو بحر لا صنعة فيه لآدمي غير الاستقاء، ولم يغير لونه شيء يخالطه، ولم يتغير طعمه منه، فهو طهور، كما قال الله عز وجل، وما عدا ذلك من مار ورد، أو ورق شجر، أو ماء يسيل من كرم، فإنه وإن كان طاهراً فليس بطهور، وفي الحديث: لا يقبل الله صلاة بغير طهور. ¬

(¬1) الفرقان: 48.

قال ابن الأثير: الطُهور بالضم التطهر، وبالفتح الماء الذي يتطهر به كالوَضُوء والوُضُوء والسَحُور والسُحُور. وقال سيبويه: الطَهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معاً، قال: فعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وضمها، والمراد بهما التطهر. والماء الطَهُور بالفتح: هو الذي يرفع الحدث، ويزيل النجس؛ لأن فعولاً من أبنية المبالغة، فكأنه تناهى في الطهارة، والماء الطاهر: كالمستعمل في الوضوء والغسل. والمطهرة: الإناء الذي يتوضأ به، ويتطهر به. والطهارة: اسم يقوم مقام التطهر بالماء: الاستنجاء والوضوء. والطهارة: فضل ما تطهرت به، والتطهر: التنزه، والكف عن الإثم وما لا يحل، ورجل طاهر الثياب: أي منزه، ومنه قول الله عز وجل في ذكر قوم لوط وقولهم في مؤمني قوم لوط {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (¬1)، أي يتنزهون عن إتيان الذكور. وقيل: يتنزهون عن أدبار الرجال والنساء، قاله قوم لوط تهكماً، والتطهر: التنزه عما لا يحل، وهم قوم يتطهرون: أي يتنزهون من الأدناس، وفي الحديث: " السواك مطهرة للفم " ورجل: طهر الخلق، وطاهره، والأنثى طاهرة وإنه لطاهر الثياب: أي ليس بذي دنس في الأخلاق، ويقال: فلان طاهر الثياب، إذا لم يكن دنس الأخلاق قال امرؤ القيس: ثياب بني عوف طهارى نقية ............. ¬

(¬1) الأعراف: 82.

وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬1) معناه: وقلبك فطهر، وعليه قول عنترة: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم أي شككت قلبه. وقيل: معنى وثيابك فطهر: أي نفسك. وقيل: معناه لا تكن غادراً، فتدنس ثيابك؛ فإن الغادر دنس الثياب. قال ابن سيده: ويقال للغادر: دنس الثياب. وقيل: معناه: وثيابك فقصر؛ فإن تقصير الثياب طهر؛ لأن الثوب إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن تصيبه نجاسة، وقصره يبعده من النجاسة. وقيل معنى قوله: وثيابك فطهر، يقول: عملك فأصلح، وروى عكرمة، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يقول: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على فجور وكفر، وأنشد قول غيلان: إني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من خزية أتقنعا والتوبة التي تكون بإقامة الحدود نحو الرجم وغيره طهور للمذنب تطهره تطهيراً، وقد طهره الحد. وقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬2)، يعني به الكتاب: لا يمسه إلا المطهرون عنى به الملائكة. وكله على المثل. وقيل: لا يمسه في اللوح المحفوظ إلا الملائكة. وقوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} (¬3)، أي: ¬

(¬1) المدثر: 4. (¬2) الواقعة: 79. (¬3) المائدة: 41.

تعريف الطهارة اصطلاحا

أن يهديهم (¬1). تعريف الطهارة اصطلاحاً: تعريف الحنفية: قال في الجوهرة النيرة: الطهارة: عبارة عن رفع حدث وإزالة نجس، حتى يسمى الدباغ والتيمم طهارة، وأعم من هذا أن يقال: عبارة عن إيصال مطهر إلى محل يجب تطهيره، أو يندب إليه، والمطهر: هو الماء عند وجوده، والصعيد عند عدمه (¬2). وجاء في مجمع الأنهر: الطهارة في الشرع (¬3): نظافة المحل عن النجاسة حقيقة كانت أو حكمية، سواء كان لذلك المحل تعلق بالصلاة كالبدن والثوب والمكان، أو لم يكن كالأواني والأطعمة (¬4). تعريف المالكية: جاء في مواهب الجليل: تطلق الطهارة في الشرع على معنيين: أحدهما: الصفة الحكمية القائمة بالأعيان التي توجب لموصوفها استباحة الصلاة به أو فيه أوله، كما يقال: هذا الشيء طاهر، وتلك الصفة الحكمية التي هي الطهارة الشرعية: هي كون الشيء تباح ملابسته في الصلاة والغذاء. ¬

(¬1) لسان العرب (4/ 504 - 505)، القاموس المحيط (ص: 554)، العين (4/ 18،19)، مختار الصحاح (2/ 379)، وانظر أنيس الفقهاء (ص:46). (¬2) الجوهرة النيرة (1/ 3)، وانظر البحر الرائق (1/ 8)، والعناية شرح الهداية (1/ 12). (¬3) يبغي أن يقول: الطهارة في الاصطلاح، وإنما يكون التعريف بالشرع، إذا كانت حقيقته شرعية كالإيمان والصلاة، ونحوهما. (¬4) مجمع الأنهر (1/ 9).

تعريف الشافعية والحنابلة

والمعنى الثاني: رفع الحدث وإزالة النجاسة، كما في قولهم: الطهارة واجبة. وفي كلام القرافي: أن المعنى الأول حقيقة، والثاني مجاز، فلذلك عرفها ابن عرفة بقوله صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أوله، فالأوليان من خبث، والأخيرة من حدث انتهى. ويقابلها بهذا المعنى النجاسة، ولذلك عرفها ابن عرفة: بأنها صفة حكمية توجب لموصوفها منع استباحة الصلاة به أو فيه انتهى. واعترض ابن عرفة على من عرف الطهارة بالمعنى الثاني فقال: وقول المازري وغيره: الطهارة إزالة النجس، أو رفع مانع الصلاة بالماء أو في معناه، إنما يتناول التطهير، والطهارة غيره لثبوتها دونه فيما لم يتنجس، وفي المطهر بعد الإزالة (¬1). تعريف الشافعية والحنابلة: قالوا: الطهارة: هي ارتفاع الحدث، وما في معناه، وزوال الخبث (¬2). وقد اشتمل التعريف على ثلاثة أقسام، كل منها يطلق عليه طهارة شرعية. الأول: رفع الحدث. الثاني: إزالة النجاسة ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 43،44)، وانظر شرح حدود ابن عرفة (ص: 12)، الخرشي (1/ 60،61)، الفواكه الدواني (1/ 122). (¬2) انظر في كتب الشافعية: المجموع (1/ 123)، أسنى المطالب (1/ 4)، شرح البهجة (1/ 13)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 19)، وانظر في كتب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 23)، المطلع على أبواب المقنع (ص: 5).

الأول: رفع الحدث.

الثالث: ما في معناهما. الأول: رفع الحدث. لا شك أن ارتفاع الحدث يسمى طهارة شرعية، سواء كان الحدث أصغر أو أكبر، فإذا توضأ الإنسان أو اغتسل من الحدث فقد تطهر، قال تعالى، بعد أن ذكر طهارة الوضوء من الحدث الأصغر والأكبر، في طهارة الماء والتيمم {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬1). والذي لم يتطهر يقال له محدث بنص السنة. (7) فقد جاء في الصحيحين من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (¬2) الثاني من أقسام الطهارة: إزالة النجاسة، فإذا أزيلت النجاسة عن المحل فقد حصلت له طهارة شرعية من هذه النجاسة. (8) روى مسلم في صحيحه من طريق محمد بن سيرين، وهمام بن منبه كلاهما عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولا هن بالتراب (¬3). فالطهارة التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا الإناء ليست من الحدث، ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) البخاري (135)، ومسلم (2ـ 225). (¬3) مسلم (91، 29 - 279).

ولكنها طهارة من الخبث، وهي النجاسة، ومع ذلك اعتبرها الشارع طهارة شرعية، بل لو قيل: إن الطهارة من النجاسة هي الأصل في إطلاق الطهارة؛ لأن الطاهر عكس النجس، بخلاف طهارة الحدث فإنها ليست عن نجاسة، وقد لا يزال بها وساخة لم يكن القول بعيداً من حيث اللغة. بهذه الأدلة تبين لنا أن رفع الحدث طهارة، وزوال النجاسة طهارة أيضاً. وقد جمع الله سبحانه وتعالى طهارة الحدث، وطهارة النجاسة في آية واحدة في سورة البقرة على القول الصحيح. قال تعالى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬1). فقوله سبحانه: حتى يطهرن. أي من النجاسة، التي هي انقطاع دم الحيض. وقوله: فإذا تطهرن: أي من الحدث الأكبر بالغسل بعد الطهارة من الحيض. النوع الثالث: هناك طهارة لا يرتفع بها الحدث، ولا تزال بها النجاسة، وهي مع ذلك طهارة شرعية. سماها الفقهاء: " في معنى ارتفاع الحدث، وفي معنى إزالة النجاسة. فالطهارة التي في معنى ارتفاع الحدث كتجديد الوضوء، فهو طهارة شرعية، ومع ذلك لم يرتفع بها الحدث، لأن الحدث قد ارتفع، ومثله الأغسال المستحبة شرعاً، ومثله الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء. والطهارة التي في معنى إزالة النجاسة طهارة المستحاضة، فإنه يحكم لها بالطهارة وإن كان الحدث مستمراً، ومثله من به سلس بول، ومن قال: إن هذه إستباحة وليست طهارة فالخلاف معه قريب من اللفظي (¬2)، لأننا إذا ¬

(¬1) البقرة، آية: 122. (¬2) وقد يقال: إنه خلاف معنوي، وله ثمرة، حيث إنهم يوجبون على المتيمم التيمم =

أبحنا له فعل الصلاة، فقد حكمنا له بالطهارة. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لا يقبل الله صلاة بغير طهور " وقد سبق تخريجه. فلما أذن له شرعاً بالصلاة علم أنها هذه طهارته ¬

_ = لكل صلاة، ولو لم يحدث، والمخالف لهم يبيح له الصلاة بتيممه ما لم يحدث، أو يمكنه استعمال الماء.

المبحث الثاني تعريف النجاسة

المبحث الثاني تعريف النجاسة تعريف النجاسة. قال في القاموس: النجس ضد الطاهر. وقال في كتاب العين: نجس: النجس الشيء القذر، وكل شيء قذرته فهو نجس (¬1). وقال في مختار الصحاح: نجس الشيء من باب طرب، فهو نجس بكسر الجيم وفتحها. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬2)، وأنجسه غيره ونجسه: بمعنى (¬3). فقيل: النجس بفتح الجيم عين النجاسة وبكسرها ما لا يكون طاهراً والنَّجْس والنِّجْس والنَّجَس: القذر من الناس ومن كل شيء قذرته. ونَجِسَ الشيء بالكسر يَنْجَس نجساً، فهو نَجِسٌ، ونَجَسٌ. ورجل نَجِسٌ ونَجَسٌ، والجمع: أنجاس. وقيل: النجس يكون للواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد، رجل نجس، ورجلان نجس، وقوم نجس، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬4)، فإذا كسروا، ثنوا وجمعوا وأنثوا، فقالوا: أنجاس ونجسة. ¬

(¬1) العين (6/ 55). (¬2) التوبة: 28. (¬3) مختار الصحاح (ص: 270). (¬4) التوبة: 28.

النجاسة اصطلاحا

وقال الفراء: نجس لا يجمع ولا يؤنث. والنجس: الدنس والنجس أيضاً: اتخاذ عوذة للصبي عند أهل الجاهلية، وقد نجس له ونجسه: عوذه. ويقال للمعوذ منجس (¬1). النجاسة اصطلاحاً: هناك تعريفات كثيرة في النجاسة نقتصر على بعضها: التعريف الأول: قيل: النجاسة عين مستقذرة شرعاً (¬2). فقوله: "عين" خرج به الوصف؛ فإن النجاسة عين لها جرم محسوس، وليست من المعاني. وقوله: "مستقذرة شرعاً" خرج به الأشياء المستقذرة بالطبع، ولم يأت الشرع بتنجيسها، كالمخاط والبصاق. التعريف الثاني: قال المتولي: النجاسة في اصطلاح الفقهاء: كل عين حرم تناولها على الإطلاق، مع إمكان التناول لا لحرمتها. قال: وقولنا: على الإطلاق احتراز من السموم التي هي نبات؛ فإنها لا يحرم تناولها على الإطلاق، بل يباح القليل منها، وإنما يحرم الكثير الذي فيه ضرر. قال: وقولنا: مع إمكان التناول احتراز من الأشياء الصلبة؛ لأنه لا يمكن تناولها، وقولنا: لا لحرمته احتراز من الآدمي. ¬

(¬1) بتصرف يسير انظر لسان العرب (6/ 226، 227). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 85).

التعريف الثالث

قال النووي: وهذا الذي حدد به المتولي ليس محققاً فإنه يدخل فيه التراب والحشيش المسكر والمخاط والمني وكلها طاهرة مع أنها محرمة. وفي المني وجه أنه يحل أكله، فينبغي أن يضم إليها لا لحرمتها أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل والله أعلم (¬1). وزاد بعضهم قيداً آخر، وهو كونه في حالة الاختيار؛ لأن الضرورة لا تحريم معها (¬2). التعريف الثالث: النجاسة: هي كل عين جامدة، يابسة أو رطبة أو مائعة، يمنع منها الشرع بلا ضرورة، لا لأذى فيها طبعاً، ولا لحق الله أو غيره شرعاً (¬3). وهذا التعريف قريب من التعريف الذي قبله، والتعريف الأول أرجح، لأنه أسهل وأسلم من غيره، وإن كان قد يعترض عليه بأن كسب الحجام خبيث، ومع ذلك ليس بنجس لكن قد يقال: إن الخبث هنا يعني الرديء، وليس الخبث الذي هو النجاسة، والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع (2/ 565)، المنثور في القواعد (3/ 248)، الإنصاف (1/ 26). (¬2) المطلع على أبواب المقنع (ص: 7)، والمنثور في القواعد (3/ 248)، أسنى المطالب (1/ 9). (¬3) الإنصاف (1/ 26).

المبحث الثالث الأصل في المياه

المبحث الثالث الأصل في المياه الأصل في المياه الطهارة، بل الأصل طهارة الأعيان كلها (¬1). دليل هذه القاعدة. الأول: الإجماع، وقد نقل الإجماع على هذا الأصل ابن تيمية، قال: الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسات محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر، كما يقولونه فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل، وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك (¬2). وقال أيضاً: الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر (¬3). الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (¬4). قال ابن تيمية على هذه الآية: التفصيل: التبيين، فبين سبحانه وتعالى أنه بين المحرمات، فما لم يبين تحريمه ليس بمحرم، وما ليس بمحرم فهو حلال، إذ ليس إلا حلال أو حرام (¬5). قال الشوكاني: حق استصحاب البراءة الأصلية، وأصالة الطهارة، أن ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (1/ 33)، تفسير القرطبي (1/ 251)،. (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 542، 591). (¬3) المرجع السابق. (¬4) الأنعام: 119. (¬5) مجموع الفتاوى (21/ 536).

يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل، فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك، وإن عجز عنه، أو جاء بما لا تقوم به الحجة، فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة (¬1). وعليه فلا يطالب من يدعي طهارة عين أو إباحتها بالدليل، لأن دليله الأصل والبراءة، ولكن يطالب من زعم أن عيناً من الأعيان نجسة أو محرمة. وهذا أصل عظيم من أصول الشريعة، يحتاج إليه الفقيه في كثير من الأعيان المختلف في نجاستها. ¬

(¬1) السيل الجرار (1/ 31).

الباب الأول في أقسام المياه

الباب الأول في أقسام المياه اختلف العلماء في أقسام المياه: فقيل: ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، وهو قول الجمهور (¬1). وقيل: الماء قسمان: طهور، ونجس. وهو رواية عن الإمام أحمد، وهى التي نص عليها في أكثر أجوبته (¬2)، وذكره ابن تيمية مذهباً لأبي حنيفة (¬3)، ¬

(¬1) أي في الجملة وإن اختلفوا في بعض أنواع المياه هل تلحق بالطاهر أم بالطهور، فالذي يعنينا أن الماء عندهم ثلاثة أنواع بمعنى أنهم أثبتوا قسم الطاهر وهو النوع المختلف فيه، وأما الطهور والنجس فلم يختلف أحد من أهل العلم في ثبوتهما. انظر في مذهب الحنفية إثباتهم لقسم الطاهر في بدائع الصنائع (1/ 66، 67)، وحاشية ابن عابدين "رد المحتار" (1/ 200،201)، والبناية (1/ 349)، وفتح القدير (1/ 87)، تبيين الحقائق (1/ 19). وفي مذهب المالكية: المقدمات الممهدات (1/ 86)، وبداية المجتهد (1/ 271)، والكافي في فقه أهل المدينة (ص:15). وانظر في مذهب الشافعية: مغنى المحتاج (1/ 18)، والمجموع (1/ 150)، وكفاية الأخيار (1/ 23)، والحاوي الكبير (1/ 46). وفي مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 30)، وشرح منتهى الإرادات (1/ 14) والفروع (1/ 79)، والمبدع (1/ 41). (¬2) الفتاوى (21/ 25). وانظر شرح الزركشي (1/ 119) والمغني (1/ 21). (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 25)، والذي في كتبهم إثبات الماء الطاهر في الماء المستعمل في طهارة شرعية (واجبة أو مستحبة) فالرواية المشهورة عنهم أنه طاهر غير مطهر، وقيل نجس ولم يأت في كتبهم البتة أنه طهور. والله أعلم.

أدلة القائلين بأن الماء ثلاثة أقسام

ومال إليه ابن قدامة (¬1)، واختاره ابن تيمية (¬2)، والشوكاني (¬3). أدلة القائلين بأن الماء ثلاثة أقسام: الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية (¬4). وجه الاستدلال: الماء ورد في الآية مطلقاً لم يقيد بشىء، والماء المطلق هو الماء الباقي على خلقته. أما الماء المتغير فلا يسمى ماء مطلقاً، إنما يضاف إلى تلك المادة التي يتغير بها كماء ورد أو زعفران أو ماء غريب، أو ماء مستعمل ونحو ذلك. إذاً دلت الآية على أن الطهارة بالماء المطلق، فإن لم يوجد انتقلنا إلى التيمم (¬5). الدليل الثاني: (9) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماء البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته (¬6). ¬

(¬1) انظر المغني (1/ 21 - 22)، والكافي (1/ 7). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 25)، الإنصاف (1/ 22). (¬3) السيل الجرار (1/ 56) (¬4) المائدة: 6. (¬5) بتصرف - الفتاوى (21/ 24)، والحاوي الكبير (1/ 48)، والأوسط (1/ 257). (¬6) أحمد (2/ 237).

[الحديث صحيح] (¬1). ¬

(¬1) الحديث اختلف في إسناده، فقيل: عن مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة به. وتابع مالكاً إسحاق بن إبراهيم المزني، وعبد الرحمن بن إسحاق المدني، فروياه عن صفوان بن سليم به. كما توبع صفوان بن سليم. فقد تابعه الجلاح عند الحاكم (1/ 141)، والبيهقي (1/ 3) من طريق عبيد بن شريك قال حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب قال: حدثني الجلاح أبو كثير أن ابن سلمة المخزومي أخبره أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة فذكر نحوه. واختلف على الليث فيه: فروه يحيى بن بكير، عن الليث، عن يزيد بن حبيب، عن الجلاح، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، كما سبق .. ورواه الإمام أحمد (2/ 378) من طريق قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن الجلاح، عن المغيرة، عن أبي هريرة. فالليث تارة يحدث به عن يزيد بن حبيب، عن الجلاح كما فى رواية يحيى بن بكير عنه وتارة يحدث به عن الجلاح مباشرة كما فى رواية قتيبة بن سعيد عنه. كما أن فى رواية يحيى بن بكير مخالفة أخرى. فيحيى أبي بن بكير فى روايتة جعل بين الجلاح وبين المغيرة سعيد بن سلمة كما في رواية مالك. بينما قتيبة جعل الجلاح يروى عن المغيرة مباشرة. وهذا الاختلاف يمكن فيه الترجيح فلا يحكم له بالاضطراب، والراجح والله أعلم رواية يحيى بن بكيرعن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن الجلاح عن سعيد بن سلمة عن المغيرة عن أبي هريرة به. ورجحت رواية يحيى وإن كان قتيبة أحفظ منه وأضبط للأسباب التالية: أولاً: أن يحيى بن بكير، قال فيه ابن عدى: كان جار لليث بن سعد، وهو من أثبت الناس فيه. انظر تهذيب التهذيب (11/ 238)، ولم أجده في الكامل. وقال فية الحافظ: (7580): ثقة في الليث. =

. . . . . . . . . . . ¬

_ = ثانياً: أن يحيى بن بكير لم ينفرد به. فقد توبع كما أخرج أبو عبيد فى كتابة الطهور (ص: 294)، قال: حدثنا أبو النضر ويحيى بن بكير عن الليث به. وأبو النضر هو هاشم بن القاسم بن سلمة الليثى. قال فيه الحافظ (7256): ثقه ثبت. وقال بعضهم: إن الراوي عن يحيى هو عبيد بن عبد الواحد بن شريك فيه كلام. فقد جاء فى الترجمة من تاريخ بغداد (11/ 99). قال الدار قطنى: صدوق. وقال أبو مزاحم موسى بن عبيد الله: كان أحد الثقات، ولم أكتب عنه فى تغيره شيئاً. وعن محمد بن العباس قال: قرىء على علي ابن المنادى - وأنا أسمع- قال عبيد بن عبد الواحد بن شريك أبو محمد البزار: أكثر الناس عنه، ثم أصابه أذى فغيره فى آخر أيامه، وكان على ذلك صدوقاً. وقال إسماعيل بن على الخطبي: لم أكتب عنه شيئاً ..... الخ ". فالجواب: أنه لم يتفرد به عبيد بن شريك فقد تابعه القاسم بن سلام فى كتابه الطهور (294). والقاسم بن سلام إمام لايحتاج إلى من يترجم له. ثالثاً: ومما يرجح أيضاً أن سعيد بن سلمة هو الراوي عن المغيرة كما في رواية يحيى بن بكير، أن النسائي قد رواه (59) عن قتيبة بن سعيد نفسه عن مالك عن صفوان بن سلمة عن المغيرة به، فرواية قتيبة بن سعيد عن مالك أرجح من روايته عن الليث. واختلف على يزيد بن أبي حبيب فيه، فقد رواه الليث عن يزيد عن الجلاح عن سعيد بن سلمة عن المغيرة به كما سبق. وخالفه محمد بن إسحاق عند الدارمي (728)، والبيهقي في المعرفة (1/ 227) فرواه عن يزيد عن الجلاح عن عبد الله بن سعيد عن المغيرة عن أبيه عن أبي هريرة فأسقط ابن إسحاق سعيد بن سلمة ووضع بدلاً منه عبد الله بن سعيد كما أنه جعل بين المغيرة وبين أبي هريرة والد المغيرة. قال ابن حبان فى كتاب الثقات (5/ 410): " من أدخل بينه وبين أبي هريرة أباه فقد وهم ". والظاهر أن هذا من محمد بن إسحاق حيث لم يحفظ الحديث، فقد جاء الحديث عند البخارى فى تاريخه الكبير (2/ 1/رقم 1599) من طريق محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن جلاح عن عبد الله بن سعيد المخزومى عن المغيرة بن أبي بردة عن =

. . . . . . . ¬

_ = أبي هريرة. فهذا ابن إسحاق لم يذكر والد المغيرة. ولكنه ذكر عبد الله بن سعيد بدلاً من سعيد بن سلمة. وأخرجه البخارى أيضاً قال: قال سلمة حدثنا ابن إسحاق عن يزيد عن اللجلاج والصواب عن الجلاح كما نقله عنه البيهقى فى المعرفة (1/ 227) عن سلمة بن سعيد والصواب سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة حليف بني عبد الدار عن أبي هريرة. وهذا هو الصواب. فأنت ترى أن محمد بن إسحاق تارة يذكر والد المغيرة وتارة يسقطه، وتارة يذكر سعيد بن سلمة وتارة يسقطه ويذكر بدلاً منه عبد الله بن سعيد، فهذا الاضطراب يسقط رواية محمد بن إسحاق لانه لم يحفظ الحديث ولكن لا ينبغى أن تعل به رواية الامام مالك عن صفوان، فقد أقام الإمام مالك إسناده، والله أعلم. وقد صحح الحديث جماعة منهم: البخاري فيما ذكره عنه الترمذي في " كتاب العلل " المفرد له قال: سألت محمداً عن حديث مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن أبي سلمة أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل ..... وذكر الحديث. فقال: " هو حديث صحيح " نصب الراية (1/ 96). وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح " سنن الترمذي (1/ 100، 101). وصححه ابن خزيمة كما في صحيحه (1/ 58، 59). وابن حبان كما في الإحسان (1243)، وابن المنذر، وقال ثابت: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته" كما في الأوسط (1/ 247). وقال البيهقي: " هو حديث صحيح كما قال البخاري " المعرفة (1/ 152). وقال ابن عبد البر في التمهيد: " وهو عندي صحيح، لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء". التمهيد (16/ 219). وقال النووي: " حديث صحيح "، كما في المجموع (1/ 127). وصححه الدارقطني قال في العلل (9/ 13): " وأشبهها بالصواب قول مالك ومن تابعه عن صفوان بن سليم ".، وصححه الحافظ ابن حجر كما في تلخيص الحبير (1/ 9 - 12). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وغيرهم كثير. وضعفه الشيخ ابن دقيق العيد، جاء في نصب الراية عنه: " وهذا الحديث يعل بأربع علل: العلة الأولى: جهالة سعيد بن سلمة، والمغيرة بن أبي بردة، وقالوا: لم يرو عن المغيرة إلا سعيد بن سلمة، ولا عن سعيد بن سلمة إلا صفوان بن سليم. والجواب: أن سعيد بن سلمة قد روى عنه صفوان بن سليم، والجلاح أبو كثير، قال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (10/ 480). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (6/ 364). فارتفعت عنه جهالة العين والحال. وأما المغيرة بن أبي بردة قال الآجري عن أبي داود: معروف. تهذيب التهذيب (10/ 229). وقال النسائي: ثقة. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحافظ: وصحح حديثه عن أبي هريرة في البحر ابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر والخطابي والطحاوي وابن مندة والحاكم وابن حزم والبيهقي وعبد الحق وآخرون. المرجع السابق. فهذا توثيق ضمني من هؤلاء، والله أعلم. العلة الثانية: أنهم اختلفوا في اسم سعيد بن سلمة، فقيل: هذا، وقيل: عبد الله بن سعيد، وقيل سلمة بن سعيد. والجواب: أن الصحيح أنه سعيد بن سلمة لأنها رواية مالك مع جلالته وهذا مع وفاق من وافقه، والاسمان الآخران من رواية محمد بن إسحاق وقد بينت فيما سبق أنه لم يحفظ الحديث وأن الخطأ جاء من قبله زيادة ونقصاً. العلة الثالثة: الإرسال. قال ابن عبد البر: " ذكر ابن أبي عمرو الحميدي والمخزومي عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن المغيرة بن أبي بردة أن ناساً من مدلج أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... الحديث. قال: وهذا مرسل لا يقوم بمثله حجة. ويحيى بن سعيد أحفظ من صفوان بن سليم وأثبت من سعيد بن سلمة قال الشيخ: وهذا مبني على تقديم إرسال الأحفظ على إسناد من دونه وهو مشهور في الأصول. والجواب: أن يحيى بن سعيد الأنصاري قد اختلف عليه اختلافاً كبيراً جداً يسقط روايته. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = انظر العلل للدار قطني (9/ 11، 13). فلا ينبغي أن تعل رواية سعيد بن سلمة بمثل هذا، ولذلك قال الدارقطني بعد أن بين الاختلاف على يحيى بن سعيد: " وأشبهها بالصواب قول مالك ومن تابعه عن صفوان بن سليم". وقال البيهقي في المعرفة (1/ 231) بعد أن ساق الاختلاف على سعيد قال: " وهذا الاختلاف يدل على أنه لم يحفظ كما ينبغي، وقد أقام إسناده مالك بن أنس عن صفوان بن سليم، وتابعه على ذلك الليث بن سعد عن يزيد عن الجلاح أبي كثير، ثم عمرو بن الحارث عن الجلاح، كلاهما عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة فصار الحديث بذلك صحيحاً كما قال البخاري في رواية أبي عيسى عنه. العلة الرابعة: الاضطراب. فقد ذكروا الاضطراب في رواية كل من محمد بن إسحاق ويحيى بن سعيد الأنصاري. انظر نصب الراية (1/ 97) والعلل للداقطني (9/ 11، 13) وقد بينت أن هذا يضعف روايتهما ولكن لا تعل به رواية الامام مالك عن صفوان بن سليم ومن تابعه، كما أن للحديث شاهدين سنأتي على ذكرهما في تخريج الحديث. [تخريج الحديث] أما حديث مالك، فتخريجه كالتالي: الحديث هو في الموطأ (1/ 22)، ولفظه عن أبي هريرة: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ به؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته. ورواه عن مالك جماعة: الأول: عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، رواه أحمد كما في إسناد الباب (2/ 237)، وكذلك (2/ 393)، وسنن الدارقطني (1/ 36). الثاني: قتيبة بن سعيد، عن مالك. كما في سنن الترمذي (69)، النسائي في الكبرى (58) والصغرى (59، 332) الثالث: القعنبي كما في سنن أبي داود (83)، وابن حبان (1243، 5258)، وسنن الدارقطني (1/ 36)، والمستدرك (1/ 140، 141). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الرابع: هشام بن عمار، كما في سنن ابن ماجه (386). الخامس: محمد بن المبارك، كما في سنن الدارمي (729، 2011). السادس: أبو سلمة الخزاعي، كما في مسند أحمد (2/ 361). السابع: عبد الله بن وهب، عن مالك، كما في صحيح ابن خزيمة (1/ 59). الثامن: الشافعي (1/ 23)، وسنن البيهقي (1/ 3)، تاريخ بغداد (9/ 129) التاسع: أحمد بن إسماعيل المدني، كما في سنن الدارقطني (1/ 36). العاشر: بشر بن عمر، كما في المنتقى لابن الجارود (43). وتابع إسحاق بن إبراهيم بن سعيد المزني، وعبد الرحمن بن إسحاق تابعا مالكاً، فروياه عن صفوان بن سليم. فأما متابعة عبد الرحمن بن إسحاق، فقد أخرجها الحاكم في المستدرك (1/ 141) من طريق محمد بن المنهال ومحمد بن أبي بكر، كلاهما عن يزيد بن زريع، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، ثنا صفوان بن سليم به. وأخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (1/ 225) من طريق محمد بن أبي بكر، عن يزيد بن زريع به. وأما متابعة إسحاق بن إبراهيم المزني، فقد أخرجه الحاكم أيضاً (1/ 141) ومن طريقه البيهقي في المعرفة (1/ 225) من طريق سعيد بن كثير بن يحيى بن حميد الأنصاري، ثنا إسحاق بن إبراهيم، عن صفوان بن سليم به. كما توبع صفوان بن سليم. فقد تابعه الجلاح أبو كثير عند الحاكم (1/ 141)، والبيهقي في السنن (1/ 3) وفي المعرفة (1/ 226) من طريق عبيد بن شريك، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: حدثني الجلاح أبو كثير، أن ابن سلمة المخزومي أخبره، أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة فذكر نحوه. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3/ 478) وقال عبد الله - يعني ابن صالح كاتب الليث - حدثنا الليث حدثنا يزيد بن أبي حبيب به. واختلف على الليث فيه: فرواه يحيى بن بكير، عن الليث، عن يزيد بن حبيب، عن الجلاح، عن سعيد بن سلمة، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، كما سبق .. ورواه الإمام أحمد (2/ 378) من طريق قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن الجلاح، عن المغيرة، عن أبي هريرة. فالليث تارة يحدث به عن يزيد بن حبيب، عن الجلاح كما فى رواية يحيى بن بكير عنه وتارة يحدث به عن الجلاح مباشرة كما فى رواية قتيبة بن سعيد عنه. كما أن فى رواية يحيى بن بكير مخالفة أخرى. فيحيى أبي بن بكير فى روايتة جعل بين الجلاح وبين المغيرة سعيد بن سلمة كما في رواية مالك. بينما قتيبة جعل الجلاح يروى عن المغيرة مباشرة. ورواية يحيى بن بكير أرجح، كما أسلفت في أول التخريج، وذكرت مجموعة من الأوجه في كونها أرجح، يضاف إلى ذلك أن عمرو بن الحارث المصري تابع يزيد بن أبي حبيب، فقد رواه البخاري في التاريخ الكير (3/ 478) والبيهقي في المعرفة (1/ 227) من طريق ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن الجلاح، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة. فذكر في الإسناد عن الجلاح، عن سعيد بن سلمة. وأما تخريج رواية ابن إسحاق، فهي كما يلي: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3/ 478)، والدارمي (728) والبيهقي في المعرفة (1/ 227) من طريق محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جلاح، عن عبد الله بن سعيد المخزومي، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي هريرة. هكذا في رواية الدارمي والبيهقي، وليس في التاريخ الكبير، عن أبيه، وهذا الإسناد فيه مخالفتان: الأولى: قوله: عبد الله بن سعيد المخزومي، والصواب سعيد بن سلمة. الثاني: قوله: " عن أبيه " ولم يقل أحد عن أبيه إلا ابن إسحاق. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3/ 478، 479) من طريق سلمة بن الفضل الأبرش، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن اللجلاح، عن سلمة بن سعيد، عن المغيرة به، فانقلب اسمه من سلمة بن سعيد إلى سعيد بن سلمة. وأخرجه البخاري (3/ 479) وعلقه البيهقي في المعرفه عنه (1/ 227) قال البخاري: وحدثني يوسف بن راشد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، قال: أخبرنا ابن إسحاق، عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يزيد بن أبي حبيب، عن اللجلاج، عن عبد الله بن سعيد المخزومي، عن مغيرة بن أبي بردة، الكناني، عن أبي هريرة. قال البيهقي: قال البخاري: وحديث مالك أصح، وللجلاج خطأ. قال البيهقي: الليث بن سعد أحفظ من ابن إسحاق، وقد أقام إسناده عن يزيد بن أبي حبيب، وتابعه على ذلك عمرو بن الحارث، عن الجلاح، فهو أولى أن يكون صحيحاً. قال البيهقي: وقد رواه يزيد بن محمد القرشي، عن المغيرة بن أبي بردة، نحو رواية من رواه على الصحة، ثم ساق إسناده في المعرفة (1/ 228) أخبرنا علي بن محمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: حدثنا عبيد بن شريك، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثني خالد بن يزيد، أن يزيد بن محمد القرشي حدثه عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، قال: أتى نفر من بني فراس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: نصيد في البحر، فنتزود من الماء العذب، فربما تخوفنا العطش، فهل يصلح أن نتوضأ من ماء البحر، فقال: نعم توضأوا به، وحل ميت ما طرح. ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 142) حدثنا علي بن حمشاد العدل، ثنا عبيد بن عبد الواحد، ثنا ابن أبي مريم به. وإسناده حسن إن شاء الله. وأما طريق سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فأخرجه الدارقطني (1/ 37)، والحاكم (1/ 142) من طريق عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وهذا إسناد ضعيف، لضعف عبد الله القدامي. قال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة، وهو ضعيف على ما تبين لي من رواياته واضطرابه فيها ولم أر للمتقدمين فيه كلاما فأذكره. الكامل (4/ 257). وقد ضعفه الدارقطني في غرائب مالك في مواضع بعبارات مختلفة مرة قال ضعيف ومرة قال غيره اثبت منه. وقال ابن حبان: كان تقلب له الأخبار فيجيب فيها، كان آفته ابنه، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الاعتبار، ولعله قلب له على مالك أكثر من مائة وخمسين حديثاً فحدث بها كلها، وعن إبراهيم بن سعد الشيء الكثير. روى عن إبراهيم، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. المجروحين (2/ 39). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأما طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة، فأخرجه الدارقطني (1/ 36) والحاكم (1/ 142) من طريق محمد بن غزوان، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وهذا إسناد ضعيف من أجل محمد بن غزوان. قال أبو زرعة: منكر الحديث. الجرح والتعديل (8/ 54). وقال ابن حبان: يقلب الأخبار، ويسند الموقوف، لا يحل الاحتجاج به. المجروحين (2/ 299). وأما طريق يحيى بن سعيد، فقال البيهقي في سننه (1/ 3) اختلف فيه على يحيى ابن سعيد: فروي عنه، عن المغيرة بن أبي بردة، عن رجل من بني مدلج، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروي عنه، عن عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة، أن رجلا من بني مدلج. وروي عنه، عن عبد الله بن المغيرة الكندي، عن رجل من بني مدلج. وعنه، عن المغيرة بن عبد الله، عن أبيه. وقيل: غير هذا. اهـ فأخرجه أحمد بن عمرو بن الضحاك في الآحاد والمثاني (2818) حدثنا هدبة، نا حماد، عن يحيى بن سعيد، عن المغيرة بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ماء البحر هو الطهور ماؤه، الحلال ميتته. ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 141، 142) من طريق حجاج بن منهال، ثنا حماد به. ورواه البيهقي (1/ 230) من طريق محمد بن أبي بكر، قال: حدثنا حماد بن زيد به. قال الحاكم: وقال سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن المغيرة، عن أبيه. ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 141) والبيهقي في المعرفة (1/ 228، 229) من طريق هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، عن رجل من بني مدلج، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه البيهقي (1/ 229) من طريق القعنبي، قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة، أن رجلاً من بني مدلج قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ... فذكر نحوه. وأخرجه أيضاً (1/ 230) من طريق أبي خالد، عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عبد الله بن المغيرة، عن رجل من بني مدلج. وأخرجه أيضاً (1/ 230) من طريق ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، قال: حدثني عبد الله بن المغيرة الكندي، عن رجل من بني مدلج. ورواه ابن عبد البر في التمهيد بإسناده (16/ 219) من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن رجل من أهل المغرب يقال له المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، أن ناسا من بني مدلج أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله إنا نركب أرماتا في البحر بنحوه. وهو في معرفة السنن للبيهقي بنحوه (1/ 229) من طريق سفيان به. قال ابن عبد البر في التمهيد (16/ 220): أرسل يحيى بن سعيد الأنصاري هذا الحديث، عن المغيرة بن أبي بردة لم يذكر أبا هريرة. ويحيى بن سعيد أحد الأئمة في الفقه والحديث، وليس يقاس به سعيد بن سلمة ولا أمثاله، وهو أحفظ من صفوان بن سليم، وفي رواية يحيى بن سعيد لهذا الحديث ما يدل على أن سعيد بن سلمة لم يكن معروف الحديث عند أهله، وقد روي هذا الحديث عن يحيى بن سعيد، عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصواب فيه عن يحيى بن سعيد، ما رواه عنه ابن عيينة مرسلا كما ذكرنا والله أعلم. والصواب أن رواية يحيى بن سعيد ليست محفوظة للاختلاف عليه، قال البيهقي: هذا الاختلاف يدل على أنه لم يحفظ كما ينبغي، وقد أقام إسناده مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، وتابعه على ذلك الليث بن سعد، عن يزيد، عن الجلاح أبي كثير، ثم عمرو بن الحارث، عن الجلاح، كلاهما عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصار الحديث بذلك صحيحاً كما قال البخاري في رواية أبي عيسى عنه. وللحديث شواهد: الشاهد الأول: حديث جابر: روى الإمام أحمد (3/ 373) قال: حدثنا أبو القاسم بن أبي الزناد، أخبرني إسحاق بن حازم، عن أبي مقسم، - يعني عبيد الله بن مقسم - عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. قال الحافظ في الدراية (ص45): إسناده لا بأس به. اهـ وأبو القاسم بن أبي الزناد. قال الحافظ في التقريب (8309): " ليس به بأس". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأثنى عليه الإمام أحمد، وقال فيه ابن معين: ليس به بأس. انظر تهذيب الكمال (34/ 192). وإسحاق بن حازم: قال فيه الحافظ (348): صدوق تكلم فيه للقدر. اهـ قلت: لنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثقه أحمد ويحيى بن معين كما في تهذيب الكمال (2/ 417، 418). وعبيد الله بن مقسم ثقة مشهور أخرج له البخاري ومسلم. انظر التقريب (434). فهو شاهد قوي لحديث أبي هريرة. [تخريج حديث جابر] الحديث أخرجه أحمد، ومن طريق أحمد أخرجه ابن ماجه (388) وابن الجارود في المنتقى (879)، وابن خزيمة (112)، وابن حبان (1244) والدارقطني (1/ 34) والبيهقي (1/ 251 - 252). واختلف فيه على إسحاق بن حازم، فروى عنه كما سبق. وأخرجه الدراقطني (1/ 34) من طريق عبد العزيز بن أبي ثابت، عن إسحاق بن حازم، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، عن أبي بكر الصديق مرفوعاً. فهنا عبد العزيز بن أبي ثابت جعله من مسند أبي بكر، وجعل وهب بن كيسان مكان عبيد الله بن مقسم، وعبد العزيز بن أبي ثابت ضعيف جداً، فروايته منكرة، والمعروف رواية الإمام أحمد، والله أعلم. وأخرجه الطبراني في الكبير (1759) قال: حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، ثنا الحسين بن بشر، ثنا المعافى بن عمران، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته. وأخرجه الدارقطني (1/ 34) قال: حدثنا عبد الباقي بن قانع نا محمد بن علي بن شعيب به. وأخرجه الحاكم (1/ 143) قال: حدثناه عبد الباقي بن نافع الحافظ، ثنا محمد بن علي بن شعيب به. قال الحافظ في التلخيص (1/ 11) وإسناده حسن ليس فيه إلا ما يخشى من التدليس. الشاهد الثاني: حديث ابن عباس. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رواه أحمد (1/ 279) قال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا أبو التياح، عن موسى بن سلمة، عن ابن عباس من حديث طويل، وفيه: " وسألته عن ماء البحر، فقال: ماء البحر طهور. وهذا إسناد صحيح إلا أنه موقوف على ابن عباس. واختلف فيه على حماد بن سلمة، فرواه عفان، عن حماد به موقوفاً. ورواه سريج بن النعمان عن حماد به مرفوعاً، وعفان من أثبت أصحاب حماد بلامنازع ورجح الدارقطني الموقوف، وإليك تخريجها. فقد أخرجه الدارقطني (1/ 35) قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، نا إبراهيم بن راشد، نا سريج بن النعمان، نا حماد بن سلمة، عن أبي التياح، نا موسى بن سلمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر، فقال: ماء البحر طهور. قال الدارقطني: كذا قال، والصواب موقوف. وأخرجه الحاكم (1/ 140) قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا سريج بن النعمان، ثنا حماد بن سلمة به مرفوعاً. الشاهد الثالث: حديث الفراسي، هو ضعيف. أخرجه ابن ماجه (387) من طريق يحيى بن بكير، حدثني الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة، عن بكر بن سوادة، عن مسلم بن مخشي، عن ابن الفراسي قال: كنت أصيد وكانت لي قربة أجعل فيها ماء، وإني توضأت بماء البحر، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. وهذا مرسل، وابن الفراسي تابعي. وجاء في الزوائد: (ص: 86) رجال هذا الإسناد ثقات إلا أن مسلماً لم يسمع من الفراسي وإنما سمع من ابن الفراسي ولا حجة له، وإنما روى هذا الحديث عن أبيه، فالظاهر أنه سقط من هذه الطريق. وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (16/ 220) من طريق يحيى بن بكير به. إلا أنه قال: عن الفراسي بدلاً من ابن الفراسي، وهذا منقطع لأن مسلماً لم يسمع من الفراسي كما ذكر ذلك البوصيري فيما سبق. فالحديث إما مرسل أو منقطع، وبالتالي فهو ضعيف، لكن يصلح في الشواهد والمتابعات. والله أعلم. الشاهد الرابع: حديث أنس بن مالك، وهو ضعيف جداً. =

وجه الاستدلال: الصحابة رضي الله عنهم يعلمون أن ماء البحر ليس بنجس، فإذاً هو طاهر عندهم بلا شك، ولكن هذا الصحابي لا يعلم هل هو طهور أم لا؟ لذلك سأل النبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فدل ذلك على أنه قد استقر في ذهن ¬

_ = أخرجه عبد الرزاق (320) قال: عن الثوري، عن أبان، عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مختصراً. وأخرجه الدارقطني (1/ 35) قال: حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر، نا محمد بن حرب، نا محمد بن يزيد، عن أبان به. قال الدارقطني: أبان بن أبي عياش متروك. الشاهد الخامس: حديث علي بن أبي طالب. أخرجه الدارقطني (1/ 35) قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، نا أحمد بن الحسين بن عبد الملك، نا معاذ بن موسى، نا محمد بن الحسين، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 142، 143) قال: حدثناه أبو سعيد أحمد بن محمد النسوي ثنا أحمد بن محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن الحسين بن علي حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب. قال الحافظ في التلخيص (1/ 12): " رواه الدارقطني والحاكم من حديث علي بن أبي طالب، من طريق أهل البيت، وفي إسناده من لا يعرف ". اهـ الشاهد السادس: حديث عبد الله بن عمرو. أخرجه الدارقطني (1/ 35) والحاكم (1/ 143) من طريق المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ميتة البحر حلال وماؤه طهور. والمثنى بن الصباح ضعيف، وقد سبقت ترجمته في مسألة التسوك بالأصبع، وذكرنا أقوال أهل الجرح فيه.

الدليل الثالث

الصحابة أن هناك ماء طاهراً وليس بطهور (¬1) الدليل الثالث: استدل أيضاً من يقسم الماء إلى ثلاثة بأحاديث النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، وبالنهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها إذا استيقظ من نوم الليل. وأترك ذكر متون هذه الأحاديث؛ لأنها سوف تأتي مسألة مسألة. وجه الاستدلال: أن هذه المياه مع كونها ليست نجسة فقد ورد النهي عن الاغتسال فيها ومنها كالاغتسال في الماء الراكد، فكونه يوجد ماء ليس بنجس ولا يمكن التطهر منه، هذا هو الماء الطاهر؛ لأن الماء الطاهر ليس بنجس، ولا يمكن التطهر منه (¬2). الدليل الرابع: من النظر. قالوا: الماء إما أن يجوز الوضوء به أو لا. فإن جاز فهو الطهور، وإن لم يجز فلا يخلوا، إما أن يجوز شربه أو لا، فإن جاز فهو الطاهر، وإلا فهو النجس (¬3). أدلة القائلين بأن الماء قسمان الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ

_ (¬1) المجموع (1/ 130)، المبدع (1/ 33)، الشرح الكبير (1/ 35، 36). (¬2) انظر المبدع (1/ 45)، والمغني (1/ 33، 34، 35). (¬3) المبدع (1/ 32).

الدليل الثاني

مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). وجه الاستدلال: أن كلمة " ماء " نكرة فى سياق النفى فتعم كل ماء سواء كان مطلقاً أومقيداً، مستعملاً أو غير مستعمل، خرج الماء النجس بالإجماع وبقى ما عداه على أنه طهور (¬2). وقال ابن المنذر: قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬3). فالطهارة على ظاهر كتاب الله بكل ماء إلا ما منع منه كتاب أو سنة أو إجماع. والماء الذي منع الإجماع الطهارة منه هو الماء الذى غلبت عليه النجاسة بلون أوطعم أو ريح (¬4). الدليل الثاني: (10) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب (¬5)، عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله توضأ منها وهى يلقى فيها ما يلقى من النتن؟ فقال إن الماء لا ينجسه شيء (¬6). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 25)، الكافي (2/ 5)، الزركشي (1/ 119). (¬3) المائدة: 6. (¬4) الأوسط (2/ 268). (¬5) سقط اسم (سليط بن أيوب) من المطبوع، واستدركته من أطراف المسند (6/ 269). (¬6) المسند (3/ 15، 16).

[حديث صحيح بشواهده] (¬1). ¬

(¬1) [تخريج الحديث من هذا الطريق] الحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده (1304) من طريق يونس بن محمد. وأخرجه النسائي (327) من طريق عبد الملك بن عمرو. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 12) من طريق عيسى بن إبراهيم البركي. ثلاثتهم عن عبد العزيز بن مسلم به، إلا أن إسناد الطحاوي سقط منه سليط. ورواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 257) من طريق عبد الله بن مسلمة، ثنا عبد العزيز بن مسلم به. وفي هذا الإسناد خالد بن أبي نوف: ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (3/ 355). وقال أبو حاتم الرازي: يروى ثلاثة أحاديث مراسيل. المرجع السابق، يقصد منقطعة. وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (6/ 264). وفي التقريب: مقبول، يعني إن توبع، وإلا فلين. وفيه سليط بن أيوب: وسليط: روي عنه خالد بن أبي نوف، ومحمد بن اسحاق، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (4/ 287). ذكره ابن حبان في الثقات (6/ 340). ولا أعلم وثقه أحد غيره، وفي التقريب (2520) مقبول. واختلف فيه على سليط، فتارة يحدث به عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه كما في إسناد أحمد. وتارة يحدث به عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع عن أبي سعيد من طريق ابن اسحاق عنه، إلا أن ابن إسحاق قد اختلف عليه اختلافاً كثيراً، فقيل: عن ابن إسحاق، عن سليط، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع. وقيل: عن ابن إسحاق، عن سليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع، عن أبي سعيد. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقيل فيه: عن ابن إسحاق، عن سليط، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع. وقيل: عن ابن إسحاق، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد. ليس فيه سليط. وقيل: عن ابن إسحاق، عن عبيد الله بن عبد الله. وقيل: عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الرحمن. وقيل: عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن عبد الله بن رافع عن أبي سعيد، وإليك تخريج هذه الروايات: أما رواية ابن إسحاق، قال: حدثني سليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد، فأخرجه أحمد في مسنده (3/ 86) قال: حدثنا يعقوب، حدثني أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني سليط بن أيوب بن الحكم الأنصاري، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري ثم أحد بني عدي بن النجار، عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه الدارقطني (1/ 31) من طريقين، عن يعقوب بن إبراهيم به. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 11) من طريق الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري به. وتابع محمد بن سلمة إبراهيم بن سعد: فقد أخرجه أبو داود (67) ومن طريقه البيهقي (1/ 257) قال: حدثنا أحمد بن أبي شعيب وعبد العزيز بن يحيى الحرانيان، قالا ثنا محمد بن سلمة به. وأخرجه الدارقطني (1/ 30) من طريق محمد بن معاوية بن مالج، عن محمد بن سلمة به إلا أنه قال: عن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري. ولا يتصور أنه خطأ في الإسناد؛ لأن البيهقي بعد أن أخرجه من طريق أحمد بن أبي شعيب وعبد العزيز بن يحيى الحرانيان، قالا ثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري، عن أبي سعيد الخدري. قال البيهقي: كذا روياه عن محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، وقيل: عن محمد بن سلمة في هذا الإسناد، عن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري .. الخ كلامه. وأما رواية ابن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، فأخرجه الدارقطني =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (1/ 31) قال: حدثنا محمد بن أحمد بن صالح الأزدي، نا محمد بن شوكر، نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ح وثنا أحمد بن كامل، نا محمد بن سعد العوفي، نا يعقوب بن إبراهيم، نا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني سليط بن أيوب بن الحكم الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري عن أبي سعيد به. تابع أحمد بن خالد الوهبي إبراهيم بن سعد في ذكر عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، فقد أخرجه الدارقطني (1/ 31) من طريق أحمد بن خالد الوهبي، نا ابن إسحاق، عن سليط، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع به. وهو في تهذيب الكمال (11/ 336) من نفس الطريق إلا أنه قال: عن عبيد الله بن عبد الرحمن. وأما رواية ابن إسحاق، عن عبيد الله بن عبد الله، فقد أخرجها أبو داود الطيالسي (2199) حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي سعيد به. وقال البيهقي في السنن الكبرى: وقال يحيى بن واضح، عن ابن إسحاق، عن سليط، عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع، كما قال محمد بن كعب. وقال إبراهيم بن سعد وأحمد بن خالد الوهبي ويونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن سليط، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع. وقيل: عن إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن عبد الله بن رافع. وقيل: عن سليط، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه. اهـ كلام البيهقي. فهنا نرى أن ابن إسحاق فيه اختلاف كثير، ومع أنه صرح بالتحديث كما عند أحمد إلا أنه جاء في المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 155، 156) قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وساق حديث بئر بضاعه بإسناده عن محمد بن اسحاق، عن سليط، عن أبي سعيد ثم قال: قال أبي: محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي بينه وبين سليط رجل. اهـ والراجح فيه ما قيل فيه: عبيد الله بن عبد الله بن رافع، وما قيل: عبد الله بن عبد الله فهو اختلاف في اسمه، فإنه حكي في اسمه الوجهان، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقد أخرجه الدارقطني (1/ 31) من طريق عبيد الله بن سعد، حدثني عمي ثنا ابن إسحاق قال حدثني عبد الله بن أبي سلمة أن عبد الله بن عبد الله بن رافع حدثه أنه سمع أبا سعيد فذكره. وعبيد الله بن سعد: هو عبيد الله بن سعد الزهري. وعمه: هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وعبيد الله هذا: أخرج له البخاري. وعمه يعقوب: أخرج له الشيخان وأبوه: إبراهيم بن سعد أخرجا له أيضاً. وقد صرح ابن اسحاق بالتحديث عن عبد الله بن أبي سلمة فزال ما يخشى من تدليسه. قال الدارقطني في العلل كما نقل ذلك عنه ابن عبد الهادي في التنقيح وأقره (1/ 206) قال: " وأحسنها إسناداً حديث الوليد بن كثير عن محمد بن كعب، وحديث ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي سلمة " اهـ وحديث الوليد بن كثير الذي أشار إليه الدارقطني، أخرجه أحمد (3/ 31) حدثنا أبو أسامة، حدثنا الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله - وقال أبو أسامة مرة: عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج - عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب؟ قال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 133)، وأبو داود (66)، والترمذي (66)، والنسائي (1/ 174) وابن الجارود (47)، والدارقطني (1/ 30)، والبيهقي في السنن (1/ 4، 257) من طريق أبي أسامة به. وعبيد الله بن عبد الله بن رافع: ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (2/ 321). وضعفه ابن القطان الفاسي، فقال: وأمره إذا بين - يعني الحديث - يبين منه ضعف الحديث لا حسنه، وذلك أن مداره على أبي أسامة، عن محمد بن كعب، ثم اختلف على أبي أسامة في الواسطة التي بين محمد بن كعب وأبي سعيد: فقوم يقولون: عبد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج. وقوم يقولون: عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وله طريق آخر من رواية ابن إسحاق، عن سليط بن أيوب، واختلف على ابن إسحاق في الواسطة بين سليط وأبي سعيد: فقوم يقولون: عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع. وقوم يقولون: عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع. وقوم يقولون: عن عبد الرحمن بن رافع. فتحصل في هذا الرجل الراوي له عن أبي سعيد خمسة أقوال: عبد الله بن عبد الله بن رافع، وعبيد الله بن عبد الله بن رافع، وعبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، وعبد الرحمن بن رافع، وكيفما كان، فهو لاتعرف له حال ولا عين!! بيان الوهم والإيهام (1059). وقال ابن مندة: مجهول. تهذيب التهذيب (7/ 26). قلت: كيف يكون مجهول الحال والعين، وقد صحح حديثه الأئمة، منهم أحمد كما في معالم السنن (1/ 74) تلخيص الحبير (1/ 13). وابن معين كما في التخليص (1/ 13). وابن الملقن كما في البدر المنير (2/ 51). وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد جود أبو أسامة هذا الحديث، فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد، وفي الباب عن ابن عباس وعائشة. سنن الترمذي (1/ 101). وقال البغوى: " هذا حديث حسن صحيح " شرح السنة (2/ 61). وصحح الحديث ابن تيمية، قال في الفتاوى (21/ 41): " قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: إنك تتوضأ من بئر بضاعة .. قال الحافظ في التلخيص (1/ 13): نقل ابن الجوزي أن الدارقطني، قال: إنه ليس بثابت، قال الحافظ: ولم نر ذلك في العلل له، ولا في السنن، وقد ذكر في العلل الاختلاف فيه على ابن إسحاق وغيره .. ثم قال: وأحسنها إسناداً رواية الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب ... الخ كلامه. والحق أن كلام الدارقطني موجود في العلل (8/ 156) لكنه عنى به حديث المقبري، عن أبي هريرة في بئر بضاعة، ولم يقصد هذا الحديث، والله أعلم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أبو داود الطيالسي (2155) قال حدثنا قيس، عن طريف بن سفيان، عن أبي نظرة، عن أبي سعيد، قال: كنا مع رسو الله - صلى الله عليه وسلم - فأتينا على غدير فيه جيفة، فتوضأ بعض القوم، وأمسك بعض القوم حتى يجيئ النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات الناس، فقال: توضؤوا واشربوا؛ فإن الماء لا ينجسه شيء. وقيس: هو ابن الربيع مختلف فيه، والراجح ضعفه، وقد حررت القول فيه في مسألة دفن الظفر والشعر، فارجع إليه إن شئت. وما يخشى من سوء حفظه قد زال بالمتابعة فقد تابعه شريك بن عبد الله النخعي عن طريف به إلا أن شريكاً تارة يرويه بالشك عن جابر أو أبي سعيد، كما أخرجه الطحاوي (1/ 12)، والبيهقي (1/ 258)، وتارة يرويه بالجزم عن جابر وحده، كما عند ابن ماجه (520)، وتارة يرويه بالجزم عن أبي سعيد وحده كما جاء ذلك عند ابن عدي في الكامل (4/ 117) وهو الصواب. وهذا الشك إنما جاء من قبل شريك، فإنه صدوق سىء الحفظ. والحديث ضعيف لضعف طريف بن سفيان، ويقال: طريف بن سعد ويقال: طريف ابن شهاب. قال ابن عبد البر كما في تهذيب التهذيب (5/ 11): " طريف اجمعوا على أنه ضعيف الحديث " اهـ. إلا أن الحديث صالح في الشواهد والمتابعات. قال ابن عدي (4/ 118): " طريف قد روى عن الثقات، وإنما أنكر عليه في متون الأحاديث أشياء لم يأت بها غيره، وأما أسانيده مستقيمة. والحديث له شواهد، منها: الشاهد الأول: حديث سهل بن سعد. قال ابن القطان في الوهم والإيهام (5/ 224): " بعد أن ضعف حديث أبي سعيد الخدري، قال: ونذكر الآن هنا أن له إسناداً صحيحاً من رواية سهل بن سعد، ثم نقل من كتاب قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا ابن وضاح، حدثنا أبو علي: عبد الصمد بن أبي سكينة الحلبي بحلب، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قالوا: يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وفيها ما ينجي الناس، والمحائض والخبث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء لا ينجسه شيء. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال قاسم: هذا من أحسن شيء في بئر بضاعة. وقال محمد بن عبد الملك بن أيمن: حدثنا ابن وضاح فذكره أيضاً بإسناده ومتنه -وذكر ابن حجر أن محمد بن عبد الملك أخرجه في مستخرجه، كما في تلخيص الحبير (1/ 14). ثم قال ابن القطان: قال ابن حزم: وعبد الصمد بن أبي سكينة ثقة مشهور. وقال قاسم: ويروى حديث عن سهل بن سعد في بئر بضاعة من طرق، هذا خيرها، فاعلم ذلك. اهـ وقال ابن حجر في التلخيص متعقباً (1/ 14): ابن أبي سكينة الذي زعم ابن حزم أنه مشهور، قال ابن عبد البر وغير واحد: إنه مجهول، ولم نجد عنه راوياً إلا محمد بن وضاح. اهـ قلت: على فرض أن يكون ضعيفاً، فهو شاهد صالح لحديث أبي سعيد الخدري. كما أن له متابعاً، فقد أخرجه الإمام أحمد (5/ 337، 338)، والدار قطنى (1/ 32) من طريق الفضيل بن سليمان، والطحاوى في شرح معاني الآثار (1/ 12) من طريق حاتم بن إسماعيل، كلاهما عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، عن أمه، قالت: دخلنا على سهل بن سعد فى أربع نسوة فقال: لو سقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم ذلك. وقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها بيدى. وقال الحافظ فى أطراف مسند الإمام أحمد (2/ 560) رواه إسحاق فى مسنده قال: حدثنا بعض أصحابنا، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن أبي يحيى به. ومحمد بن أبي يحيى: قال العجلي: مدني ثقة. معرفة الثقات (2/ 257). وقال عباس بن محمد الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: محمد بن أبى يحيى ثقة. الجرح والتعديل (7/ 282). وقال الآجري: سألت أبا داود عن عن أبيه - يعني أبا يحيى، فقال: أبوه ثقة. تهذيب التهذيب (9/ 460). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (7/ 372). وقال أبو حاتم: تكلم فيه يحيى القطان. تهذيب التهذيب (9/ 460). ولم أقف عليه في مظانه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن شاهين: فيه لين. المرجع السابق. وقال: الخليلي ثقة. المرجع السابق. وأمه مجهولة لم يرو عنها إلا ابنها هذا محمد قال عنها الحافظ فى التقريب (8769): مقبولة. واختلف على حاتم بن إسماعيل فأخرجة البيهقى (1/ 259) من طريق علي بن بحر القطان، والطبرانى (6/ 207) من طريق هشام بن عمار، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن أبي يحيى الأسلمى، عن أبيه قال: دخلت على سهل بن سعد في نسوة ..... وساق الحديث، وهذا لفظ البيهقي، فصار الفضيل بن سليمان يرويه عن محمد بن يحيى الأسلمي عن أمه. وأما حاتم بن إسماعيل فرواه على الوجهين: عن أبيه تارة، وعن أمه تارة. ومحمد بن أبي يحيى حدث عن أبيه، كما حدث عن أمه، وأبوه سمعان قال فيه الحافظ فى التقريب (2633): لا بأس به. وجاء فى مسند الطبراني: " جابر بن إسماعيل " وهو تصحيف والصحيح حاتم بن إسماعيل كما عند الطحاوى والبيهقى. فهذا الطريق إذا انضم إلى الذي قبله قوي الحديث عن سهل بن سعد. والله أعلم. الشاهد الثاني: حديث عائشة. أخرجه أبو يعلى في مسنده، قال: حدثنا الحماني، حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الماء لا ينجسه شيء. وفي هذا الإسناد الحماني: قال أحمد: ما زلنا نعرف أنه يسرق الأحاديث أو يتلقفها أو يتلقطها، وقال: قد طلب وسمع ولو اقتصر على ما سمع لكان له فيه كفاية، فالحماني حافظ مجروح، لكنه لم ينفرد به، فقد رواه الطبري في تهذيب الآثار (2/ 709) والبزار في مسنده كما في كشف الأستار (1/ 132) والطبراني في الأوسط (2114) من طريق أبي أحمد الزبيري، ثنا شريك به. وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن المقدام إلا شريك. قال الحافظ في المطالب العالية (1) إسناده حسن، فإن الحماني لم ينفرد به. والحق أن إسناده ضعيف، والحماني وإن توبع، فإن ضعفه من قبل شريك، فقد تفرد به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقول الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 214) رجاله ثقات بعد أن عزاه للبزار وأبي يعلى والطبراني في الأوسط فيه نظر للعلة نفسها، فإن شريكاً قد تفرد عندهم بهذا الحديث. وقد رواه شريك كما سبق من مسند أبي سعيد وشك فيه، فتارة يجزم به عنه، وتارة يشك فيه عن أبي سعيد أو جابر، وتارة يجزم به عن جابر، وهنا جعله من مسند عائشة، وهذا التخليط إنما جاء من قبل سوء حفظه رحمه الله، فلا يقبل ما تفرد به والله أعلم. ورواه أحمد من طريق آخر بسند صحيح إلا أنه موقوف على عائشة، قال أحمد (6/ 172) ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة، قالت: سألت عائشة عن الغسل من الجنابة فقالت: إن الماء لا ينجسه شيء، قد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، يبدأ فيغسل يديه. الشاهد الثالث: حديث ابن عباس. ما رواه أحمد (1/ 235) قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء لا ينجسه شيء. ومداره على سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس. ورواه عن سماك جمع، منهم، سفيان الثوري، وشعبة، وحماد بن سلمة، وأبو الأحوص وشريك، وغيرهم، وإليك بيانها. الأول: سفيان الثوري، عن سماك. أخرجه عبد الرزاق (396) قال: عن الثوري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن امرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - استحمت من جنابة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ من فضلها، فقالت: إني غتسلت منه، فقال: إن الماء لا ينجسه شيء. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (1/ 284)، وابن الجارود (49) والطبراني (11714)، والبيهقي (1/ 267). ورواه أحمد (1/ 235)، والنسائي (325)، وابن خزيمة (109)، وابن حبان (1242)، والحاكم (1/ 195) من طرق عن ابن المبارك عن سفيان به. وأخرجه الدارمي (734)، وابن الجارود في المنتقى (48)، والبيهقي (1/ 188) من طريق عبيد الله بن موسى، عن سفيان به. ورواه الطحاوي (1/ 26) وابن خزيمة (109) من طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه أحمد (1/ 308) حدثنا عبد الله بن الوليد، قال حدثنا سفيان به، ومن طريق عبد الله بن الوليد أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 286). ورواه أحمد (1/ 235، 308) عن وكيع. ومن طريق وكيع أخرجه ابن ماجه (371)، وابن خزيمة (109) إلا أن وكيعاً رواه عن سفيان واختلف عليه، فرواه أحمد عن وكيع من حفظه موصولاً، ورواه أحمد عن وكيع من مصنفه مرسلاً. قال الإمام أحمد (1/ 308) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الماء لا ينجسه شيء " قال أبي في حديثه: حدثنا به وكيع في المصنف، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة، ثم جعله بعد عن ابن عباس. قال أحمد شاكر: هذا بيان للإسناد السابق، يريد الإمام أن يوضح أن شيخه وكيع بن الجراح حدثه بالحديثين على وجهين: حدثه به في كتابه المصنف، عن عكرمة مرسلاً، ثم حدثه به بعد ذلك متصلاً، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقد رواه غير وكيع عن سفيان مرفوعاً كما تقدم من رواية ابن المبارك وعبد الرزاق وعبد الله بن الوليد وعبيد الله بن موسى وأبي أحمد الزبيري. ولعل هذا ما جعل الإمام أحمد يقول: أتقيه لحال سماك، وليس أحد يرويه غيره، وقال: هذا فيه اختلاف شديد، بعضهم يرفعه وبعضهم لا يرفعه. تنقيح التحقيق (1/ 220). وكما اختلف على وكيع في وصله وإرساله اختلف فيه على شعبة أيضاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام على طريق شعبة. الثاني: أبو الأحوص، عن سماك. رواه ابن أبي شيبة (1/ 38) رقم 353، ومن طريقه ابن ماجه (370) قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها أو ليتوضأ، فقالت: يا رسول الله إني كنت جنبا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الماء لا يجنب. ورواه أبو داود (68) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 89، 267)، قال: حدثنا مسدد، قال: ثنا أبو الأحوص به. ورواه الترمذي (65) قال: حدثنا قتيبة، حدثنا أبو الأحوص به. ومن طريق قتيبة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن سعيد أخرجه ابن حبان في صحيحه (1261، 1269). ورواه ابن حبان في صحيحه (1241) عن أبي معمر القطيعي، حدثنا أبو الأحوص به. ووراه ابن حبان أيضاً (1248) من طريق عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوص به. الثالث: حماد بن سلمة، عن سماك. أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 274) رقم 11715 قال: حدثنا بشر بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، ثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب به. الرابع: شريك، عن سماك. أخرجه أحمد (1/ 337) قال: ثنا حجاج، أن شريكاً حدثه، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أجنب النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة، فاغتسلت ميمونة في جفنة، وفضلت فضلة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل منها، فقالت: يا رسول الله إني قد اغتسلت منه، فقال -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -إن الماء ليست عليه جنابة، أو قال: إن الماء لا ينجس. وأخرجه أبو داود الطيالسي (1625)، ومن طريقه أخرجه أحمد (6/ 330)، والدارقطني (1/ 53)، عن شريك به. وأخرجه أحمد (3/ 330) من طريق هاشم بن القاسم عن شريك به، ورواه أبو يعلى (7098) قال: حدثنا أبو عامر عبد الله بن عامر، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي، حدثنا شريك به. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (24/ 18) قال: حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور الجوهري، ثنا عصمة بن سليمان الخزاز، حدثنا شريك به. ووراه الطبراني أيضاً (23/ 425) من ثلاثة طرق، عن شريك به. واختلف على شريك، فرواه عنه من سبق من مسند ابن عباس، ورواه ابن الجعد في مسنده (2333) قال: أنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: أجنبت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاغتسلت من جفنة، وفضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها، قلت: قد اغتسلت منها، فاغتسل، وقال: إن الماء ليس عليه جنابة. فجعله من مسند ميمونة. وهذا من قبل شريك؛ لأنه سيء الحفظ. جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/ 43): سألت أبا زرعة عن حديث رواه سفيان، عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسلت من جنابة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت له، فتوضأ بفضلها، وقال: إن الماء لا ينجسه شيء. ورواه شريك عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن ميمونة، فقال: الصحيح عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا ميمونة. اهـ قال الدارقطني: اختلف في هذا الحديث على سماك، ولم يقل فيه: عن ميمونة غير شريك. الخامس: يزيد بن عطاء، عن سماك. وأخرجه الدارمي (735) قال: أخبرنا يحيى بن حسان، ثنا يزيد بن عطاء، عن سماك به، إلا أنه قال: إنه ليس على الماء جنابة، بدلاً من قوله: إن الماء لا ينجسه شيء. اهـ السادس: حصين، عن عكرمة. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 132) قال: حدثنا هشيم، عن حصين، عن عكرمة قال الماء طهور لا ينجسه شيء، فهنا أوقفه حصين، على عكرمة، لكن إسناده ضعيف، لأن هشيماً قد عنعن، وهو مدلس. لكن أخرجه ابن الجعد في مسنده (2998) قال: أنا أبو جعفر، عن حصين، قال: سألت عكرمة عن الحمام يدخله الجنب واليهودي والنصراني والمجوسي ونحو ذلك فقال إن الماء لا ينجسه شيء. فهنا تابع أبو جعفر هشيماً في وقفه على عكرمة. السابع: شعبة، عن سماك. أخرجه ابن خزيمة (91) قال: نا أحمد بن المقدام العجلي ومحمد بن يحيى القطعي، قال: حدثنا محمد بن بكر، نا شعبة به. ومن طريق شعبة أخرجه البزار كما في كشف الأستار (1/ 35)، والحاكم في المستدرك (1/ 159). وقال ابن عبد البر في التمهيد (1/ 332، 333): " رواه جماعة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس منهم شعبة والثوري الا أن جل أصحاب شعبة يروونه عنه، عن سماك، عن عكرمة مرسلاً، ووصله عنه محمد بن بكر، وقد وصله جماعة عن سماك منهم الثوري، وحسبك بالثوري حفظاً وإتقاناً، ثم ساق الحديث بإسناده من طريق وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس وذكر الحديث، ثم قال: وهكذا رواه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أبو الأحوص وشريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً، وكل من أرسل هذا الحديث فالثوري أحفظ منه، والقول فيه قول الثوري ومن تابعه على إسناده. اهـ قلت أيضاً روي مرسلاً من طريق وكيع، عن سفيان وسبق الكلام عليه. الطريق الثامن: إسرائيل، عن سماك. أخرجه عبد الرزاق (497) عن إسرائيل، عن عكرمة به. كذا في المطبوع، والظاهر أنه سقط من إسناده سماك؛ لأن إسرائيل ليست له رواية عن عكرمة، وإنما يروي عن سماك، والله أعلم. وعلته رواية سماك عن عكرمة، قال علي بن المديني: رواية سماك عن عكرمة مضطربة. تهذيب الكمال (12/ 115). وقال أبو داود في مسائله لأحمد (ص: 440) رقم 2016: سمعت أحمد قال: قال شريك: كانوا يلقنون سماكاً أحاديثه عن عكرمة، يلقنونه عن ابن عباس، فيقول: عن ابن عباس. اهـ وقال يعقوب: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح وليس من المتثبتين، ومن سمع من سماك قديماً مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم ". المرجع السابق. وقال الحافظ: وقد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة؛ لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه شعبة، عن سماك، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم. اهـ فتح الباري (1/ 300). قال النسائي: كان ربما لقن، فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة؛ لأنه كان يلقن فيتلقن تهذيب التهذيب (4/ 204). وقال العجلي: سماك بن حرب البكري كوفي تابعي جائز الحديث، وكان له علم بالشعر، وأيام الناس، وكان فصيحاً إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء عن ابن عباس، وربما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كان عكرمة يحدث عن ابن عباس، وكان سفيان الثوري يضعفه بعض الضعف، وكان جائز الحديث، لم يترك حديثه أحد، ولم يرغب عنه أحد. معرفة الثقات (1/ 436).

الدليل الثالث

وجه الاستدلال من الحديث: أن حديث أبي سعيد أثبت قسماً من الماء وهو الماء الطهور، وثبت الماء النجس بالإجماع فهذان قسمان من الماء أحدهما ثبت بحديث أبي سعيد، والآخر ثبت بالإجماع، وبقى الماء الطاهر لا دليل على ثبوته فيكون الماء قسمين: طهوراً ونجساً ولا ثالث لهما. أو يقال: الحديث أثبت طهورية الماء، وأنه لا ينجسه شيء، فالماء إذاً باق على طهوريته لا يخرج منها إلا بإجماع، وهذا لا يكون إلا بتغيره بالنجاسة. الدليل الثالث: (11) ما رواه البخاري، قال حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً (¬1). الدليل الرابع: (12) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها، قالت: دخل علينا رسول الله

_ (¬1) صحيح البخاري (1265) ومسلم (1206).

الدليل الخامس

صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه تعني إزاره (¬1). وجه الاستدلال من الحديثين. قالوا: الماء إذا أضيف إليه السدر لا بد أن يتغير، وإذا كان هذا المتغير بشىء طاهر يطهر الميت فطهارة الحي كطهارة الميت، فما طهر الميت طهر الحي (¬2). الدليل الخامس: (13) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو وابن أبي بكير، قالا: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ قالت: اغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة من إناء واحد قصعة فيها أثر العجين (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1253) ومسلم (939). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 26). (¬3) مسند أحمد (6/ 341، 342). (¬4) رجاله ثقات، وعبد الملك بن عمرو هو أبو عامر العقدي. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (242) وفي الصغرى (240) قال: أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - قال: حدثنا إبراهيم بن نافع به. ومن طريق محمد بن بشار أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/ 15). وأخرجه ابن ماجه (378) حدثنا أبو عامر الأشعري عبد الله بن عامر، ثنا يحيى =

. . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن بكير، ثنا إبراهيم بن نافع به. وأخرجه البيهقي (1/ 7) وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 137) من طريق أبي عامر، عن إبراهيم بن نافع به. وأخرجه الطبراني في الكبير (24/ 430) رقم 1051 من طريقين عن يحيى بن بكير، عن إبراهيم بن نافع به. وقد توبع مجاهد، عن أم هانئ، تابعه عطاء، والمطلب بن عبد الله بن حنطب، ويوسف بن ماهك، وأبو مرة مولى عقيل، وقيل: مولى أم هانئ. أما طريق عطاء، عن أم هانئ. فقد أخرجه النسائي (415) قال: أخبرنا محمد بن يحيى بن محمد، قال: حدثنا محمد بن موسى بن أعين، قال: حدثنا أبي، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال: حدثتني أم هانئ أنها دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، وهو يغتسل، قد سترته بثوب دونه في قصعة فيها أثر العجين، قالت: فصلى الضحى، فما أدري كم صلى حين قضى غسله. في إسناده: محمد بن موسى بن أعين، روى عنه جماعة. ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (9/ 64) ولم يوثقه من المتقدمين أحد غيره. روى له البخاري حديثاً واحداً من طريقه، عن أبيه، حدثنا عمرو بن الحارث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن محمد بن جعفر حدثه، عن عروة، عن عائشة مرفوعاً: من مات وعليه صيام صام عنه وليه. ثم قال البخاري: تابعه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، ورواه يحيى بن أيوب، عن ابن أبي جعفر. وقال الذهبي: ثقة. الكاشف (5174). وفي التقريب: صدوق. وفيه أيضاً عبد الملك بن أبي سليمان، جاء في ترجمته: قيل لشعبة مالك لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سليمان وكان حسن الحديث؟ قال: من حسنها فررت. انظر الجرح والتعديل (5/ 366)، والضعفاء للعقيلي (3/ 31). وعن أبي بكر بن خلاد، قال: سمعت يحيى يقول: عن عبد الملك ين سليمان فيه شيء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مقطع يوصله، أو موصل يقطعه. الضعفاء للعقيلي (3/ 31). وقال يحيى ابن معين أيضاً: ضعيف. كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (5/ 366). وسئل يحيى مرة عبد الملك بن أبي سليمان أحب إليك أو ابن جريج. فقال: كلاهما ثقتان. كما في رواية عثمان بن سعيد عنه. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: لا بأس به. انظر المرجع السابق. وقال الخطيب: قد أساء شعبة في اختياره حيث حدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي وترك التحديث عن عبد الملك بن أبي سليمان لأن محمد بن عبيد الله لم تختلف الأئمة من أهل الأثر في ذهاب حديثه وسقوط روايته وأما عبد الملك فثناؤهم عليه مستفيض وحسن ذكرهم له مشهور. تاريخ بغداد (10/ 393). وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً ثبتاً. انظر الطبقات (6/ 350). وقال ابن عمار الموصلي: ثقة ثبت في الحديث. وقال الترمذي: ثقة مأمون لا نعلم أحداً تكلم فيه غير شعبة. وقال الثوري: حفاظ الحديث أربعة، فذكره منهم. وسماه هو وابن المبارك: الميزان. انظر تهذيب التهذيب (6/ 352). وفي التقريب: صدوق له أوهام. والحق أنه ثقة، فقد وثقه أحمد، ويحيى بن معين، والنسائي، وابن سعد، والترمذي، وابن عمار الموصلي، والثوري وابن المبارك والدارقطني. وأخذ عليه وهمه في حديث الشفعة، ثم ماذا؟ ومن الذي لا يهم؟ ولذلك لم يمنع هذا الوهم من أن يوثقه الأئمة. قال يحيى بن معين عندما سئل عن حديث الشفعة، قال: هو حديث لم يحدث به إلا عبد الملك، وقد أنكره الناس عليه، ولكن عبد الملك ثقة صدوق لم يرد على مثله. وقال أحمد: هذا حديث منكر - يعني: حديث الشفعة- وعبد الملك ثقة. انظر تهذيب التهذيب (6/ 352). فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى، وعبد الملك بن أبي سليمان قد توبع تابعه ابن جريج. فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف (4857) عن ابن جريج، قال: أخبرنا عطاء، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن أم هانئ بنت أبي طالب، أنها دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، وهو في قبة له، فوجدته قد اغتسل بماء كان في صحفة إني لأرى فيها أثر العجين، ورأيته يصلي الضحى. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (6/ 341)، والطبراني في الكبير (24/ 427)، وابن حزم في المحلى (1/ 200). وهذا السند رجاله كلهم ثقات، وابن جريج قد صرح بالتحديث، وهو مكثر عن عطاء، فلا تضر عنعنته، والله أعلم. فهذه متابعة قوية لعبد الملك بن أبي سليمان في روايته عن عطاء. وأما طريق المطلب بن حنطب، عن أم هانئ. فقد أخرجها عبد الرزاق (4860)، عن معمر، عن ابن طاووس، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أم هانىء قالت: نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح بأعلى مكة، فأتيته، فجاءه أبوذر في جفنة فيها ماء قالت: إني لأرى فيها أثر العجين، قالت: فستره أبو ذر، فاغتسل ثم ستر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر فاغتسل، ثم صلى ثماني ركعات، وذلك ضحى. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الإمام أحمد (6/ 341) والطبراني في الكبير (24/ 426)، وابن خزيمة (1/ 119)، والبيهقي (1/ 8)، وابن حزم (1/ 200) وليس عند أحمد: " ثم ستر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر فاغتسل ". قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 269) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، وهو في الصحيح خلا قصة أبي ذر، وستر كل واحد منهما الآخر. والمطلب بن حنطب: قال الحافظ في التقريب: صدوق كثير التدليس والإرسال. قلت: لم أجد أحداً نص على تدليسه سوى الحافظ في التقريب، ولم يذكر ذلك عنه في التهذيب، ولا في تعريف أهل التقديس، ولم يذكر ذلك عنه المزي في تهذيب الكمال، والله أعلم. نعم لم يلق المطلب أم هانئ، فروايته عنها من قبيل الإرسال، والإرسال ليس من التدليس عند ابن حجر، وكثيراً ما يخلط بينهما. قال الترمذي في سننه (2916): قال محمد - يعني البخاري - لا أعرف للمطلب بن عبد الله سماعاً من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال: وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: لا نعرف للمطلب سماعاً من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ..... الخ. وقال محمد بن سعد: كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه؛ لأنه يرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً، وليس له لقي، وعامة أصحابه يدلسون. الطبقات الكبرى (5/ 332). وقال أبو حاتم: في روايته عن عائشة مرسل، ولم يدركها، وقال في روايته عن جابر يشبه أن يكون أدركه، وقال في روايته عن غيره من الصحابة مرسل، وعامة حديثه مراسيل غير أني رأيت حديثاً يقول فيه حدثني خالي أبو سلمة. اهـ الجرح والتعديل (8/ 359). وفي هذا الحديث أن أبا ذر هو الذي كان يستر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاء في الصحيحين أن فاطمة هي التي كانت تستره. وجمع بينهما الحافظ في الفتح (3/ 64): بأن ذلك تكرر منه، ويؤيده ما رواه ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم هاني، وفيه أن أبا ذر ستره لما اغتسل، وفي رواية أبي مرة عنها أن فاطمة بنته هي التي سترته. اهـ قلت: ليس في صحيح ابن خزيمة من طريق مجاهد عنها أن أبا ذر ستر النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما جاء عنده ذلك من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أم هانئ. ورواية مجاهد عنها أخرجها ابن خزيمة (1/ 119، 120) وفيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغتسل وميمونة من قصعة فيها أثر العجين، وهى بلفظها عند أحمد (6/ 341)، والنسائي (1/ 131) وابن ماجه (378)، وسبق تخريجها. ومما يبعد تكرار ذلك أنها قالت عند مسلم (81 - 336): فلم أره سبحها قبل ولا بعد. قال الحافظ: " ويحتمل أن يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر في أثنائه ". قلت: تفرد بذكر أبي ذر في ستره للنبي - صلى الله عليه وسلم - المطلب بن عبد الله بن حنطب، وهو لم يسمع من أم هانئ، وعليه فيكون ضعيفاً، وما في الصحيحين مقدم عليه، ولا أرى داعياً للتكلف بالجمع بين الحديثين ما دام أن أحدهما ضعيف. والله أعلم، وأما طريق يوسف بن ماهك. فقد رواه أحمد (6/ 424) قال: " ثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا زهير عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: حدثني يوسف بن ماهك، أنه دخل على أم هانىء بنت أبي طالب، فسألها عن مدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فسألها: هل صلى عندك النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = دخل في الضحى، فسكبت له في صحفة لنا ماء إني لأرى فيها وضر العجين، قال يوسف: ما أدري أي ذلك أخبرتني أتوضأ أم اغتسل؟ ثم ركع في هذا المسجد -مسجد في بيتها- أربع ركعات. وأخرجه الطبراني (24/ 428) من طريق عمرو بن خالد الحراني ثنا زهير بن معاوية به .. وأخرجه أيضاً (24/ 429) من طريق يحيى بن سليمان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم به. فمدار هذا الإسناد على عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن أم هانئ. وعبد الله بن عثمان بن خثيم جاء في ترجمته: قال يحيى بن معين: ثقة حجة. وقال أيضاً: أحاديثه ليست بالقوية، كما في رواية عبد الله بن الدورقي عنه. الكامل (4/ 161)، تهذيب التهذيب (5/ 275). وقال أبو حاتم الرازي: ما به بأس. صالح الحديث. الجرح والتعديل (5/ 111). وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (15/ 279). وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وإنما خرجت هذا لئلا يجعل ابن جريج عن أبي الزبير، وما كتبناه إلا عن إسحاق بن إبراهيم، ويحيى بن سعيد القطان لم يترك حديث ابن خثيم ولا عبد الرحمن، إلا أن علي بن المديني قال: ابن خثيم منكر الحديث، وكأنَّ علياً خلق للحديث. سنن النسائي (5/ 248). وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث حسنة. الطبقات (5/ 487). وقال ابن عدي: هو عزيز، وأحاديثه حسان، مما يجب أن يكتب. الكامل (4/ 161). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 281). وقال العجلي: مكي ثقة. ثقات العجلي (2/ 46). وقال ابن حبان: كان من أهل الفضل والنسك والفقه. مشاهير علماء الأمصار (1/ 87). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (5/ 34). وفي التقريب: صدوق. فالإسناد حسن إن شاء الله، وهو صحيح لغيره، إلا أن قوله: "فصلي أربع ركعات " مخالف لما في الصحيحين وغيرهما من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى ثماني =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ركعات، إلا إن كان المقصود بأربع ركعات إطلاق الركعة على التسليمة فيكون موافقاً لما في الصحيحين. وقد اختلف في عدد الركعات التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، هل هى اثنتان أم أربع أم ست أم ثمان؟ ورواية الصحيحين، وهي رواية الأكثر، أنها ثمان. وليس هذا موضع تحريرها؛ لأن البحث في اغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - من قصعة فيها أثر العجين. وأما رواية أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانئ. فرواه عنه جماعة، منهم سعيد بن أبي هند، والمقبري، وأبو النضر، وميمون بن ميسرة، وغيرهم: أما رواية سعيد بن أبي هند، فأخرجها ابن أبي شيبة (7/ 407) رقم 36928 حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب، عن أم هانئ بنت أبي طالب، قالت: لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم، قالت: فخبأتهما في بيتي، فدخل علي أخي علي بن أبي طالب، فقال: لأقتلنهما. قالت: فأغلقت الباب عليهما، ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة، وهو يغتسل في جفنة إن فيها أثر العجين، وفاطمة ابنته تستره، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غسله أخذ ثوبا فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم أقبل فقال: مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك؟ قالت: قلت: يا نبي الله فر إلي رجلان من أحمائي فدخل علي علي بن أبي طالب فزعم أنه قاتلهما. فقال: لا قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وأمنا من أمنت. وهذا إسناد حسن، وابن إسحاق قد صرح بالتحديث عند الطحاوي وغيره. ومن طريق عبد الرحيم بن سليمان أخرجه الطبراني في الكبير (24/ 420) رقم 1020 من طريق الحماني، عن عبد الرحيم. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 323) من طريق عبد الله بن إدريس، حدثني محمد بن إسحاق، حدثني سعيد بن أبي هند. وأخرجه ابن بشكوال (1/ 142) من طريق زياد بن عبد الله البكائي، ثنا محمد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن إسحاق به، وقد صرح بالتحديث. وأما طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة. فأخرجه أحمد (6/ 323، 324) قال: ثنا سفيان، عن ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أم هاني قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بأعلى مكة فلم أجده، ووجدت فاطمة فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليه أثر الغبار، فقلت: يا رسول الله إني قد أجرت حموين لي، وزعم ابن أمي أنه قاتلهما، قال: قد أجرنا من أجرت، ووضع له غسل في جفنه، فلقد رأيت أثر العجين فيها، فتوضأ، أو قال اغتسل - أنا أشك - وصلى الضحى في ثوب مشتملاً به. وتابع الحميدي في مسنده الامام أحمد (331) في روايته عن سفيان به. وأخرجه ابن بشكوال في غوامض الأسماء المبهمة (1/ 141) من طريق الحميدي به. وأخرجه ابن عبد البر في الاستذكار (6/ 137) من طريق سفيان به. وأخرجه البيهقي (1/ 8) من طريق سفيان به. لكنه قال فيه: عن ابن عجلان عن رجل عن أبي مرة مولى عقيل. وابن عجلان صدوق، وهو وإن كانت اختلطت عليه أحاديث سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة بأحاديث سعيد المقبري عن أبي هريرة، إلا أنه قد توبع هنا فقد تابعه ابن أبي ذئب، عن المقبري، فقد أخرجه أحمد (6/ 341) ثنا زيد بن الحباب، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري به. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 323) من طريق بشر بن عمر الزهراني، ثنا ابن أبي ذئب به. وأما طريق ميمون بن ميسرة، عن أم هانئ، فأخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/ 76) رقم 4861 عن مالك، عن ميمون بن ميسرة، عن أم هانئ به. وأما طريق إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبي مرة، فأخرجه أحمد (6/ 342) حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد - يعني ابن عمرو - عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبي مرة به. وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات إلا محمد بن عمرو، وهو صدوق. =

الدليل السادس

وجه الاستدلال: أن هذا الماء لا بد أن يتغير من العجين لا سيما في آخر الأمر إذا قل الماء وانحل العجين، ولم يمنع هذا من اغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجه، فدل هذا على أن الماء إذا تغير بشىء طاهر يبقى طهوراً، ولا يتحول إلى طاهر غير مطهر (¬1). الدليل السادس: (14) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو، قال: أخبرني كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان في بعض الليل قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ من شن معلق ... الحديث قطعة من حديث طويل (¬2). وجاء في الصحيحين (¬3)، من حديث عمران بن حصين الطويل في قصة انتفاع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من ماء مزادة امرأة مشركة، واغتسال من أصابته جنابة منها. وجه الاستدلال: أن هذه الأسقية لا بد أن تؤثر في الماء في طعمه ولونه ورائحته، ولم يمنع ¬

= وأما طريق أبي النضر سالم بن أبي أمية، فأخرجه أحمد (6/ 344) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن أبي النضر، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب به. وسنده صحيح. (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 27، 28). (¬2) صحيح البخاري (859)، ومسلم (186 - 763). (¬3) البخاري (3571)، ومسلم (312، 682).

الدليل السابع

هذا من التطهر منه، ولم يتحول الماء إلى كونه طاهراً في نفسه غير مطهر لغيره، فدل على أن الماء قسمان لا ثالث لهما: طهور ونجس (¬1). الدليل السابع: من النظر، قالوا: إثبات قسم من الماء لا طهور ولا نجس. الحاجة إلى بيانه أشد من الحاجة إلى بيان كثير من الآداب والأحكام، لأن المسلم إما أن يتوضأ، وإما أن يتيمم. والمسألة تتعلق بالصلاة التي هى أعظم أركان الإسلام العملية فلو كان هذا القسم موجودا لبينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القول - أعني: تقسيم الماء إلى قسمين - هو الراجح. والجواب: عن أدلة القول الأول مايلى: أما استدلالهم بقوله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬2). الآية فقد علمت الجواب عنه، وأن كلمة (ماء) نكرة فى سياق النفي فتعم كل ماء إلا ما دل الاجماع على خروجه، وهو الماء النجس. وأما الجواب عن السؤال عن طهورية ماء البحر وأنه كان مستقراً فى ذهن الصحابه أن هناك ماء طاهراً وليس بطهور فغير مسلم. ويجاب عنه من ثلاثة وجوه: الأول: لا نسلم أن الاشكال الذى يكون عند رجل من الصحابة يؤخذ منه هذا العموم؛ إذ كيف يؤخذ من فرد واحد من الصحابه سأل عن طهورية ماء البحر بأنه قد استقر فى ذهن الصحابة عموم رأي جميع الصحابة، ¬

(¬1) المغني (1/ 21). (¬2) المائدة: 6.

أن هناك ماء ليس بطهور وليس بنجس، وهو الطاهر، ولو قيل: إنه قد استقر في ذهن هذا الصحابي فقط لكان فيه نزاع فكيف بهذا التعميم، والصحابة منهم الفقهاء، ومنهم من لم يُعْرَف بالفقه، وشرف الصحبة شىء والفقه شىء آخر. الثاني: يحتمل أن يكون الصحابي سأل عن التطهر بماء البحر، لأن بعض الصحابة كان يكره التطهر منه كابن عمر، وكعبد الله بن عمرو، فلذلك سأل عن هذا (¬1). ولم تكن علة الكراهة عندهما أنه طاهر. الثالث: أنتم جعلتم الشك الذي قام عند الصحابي دليلاً على وجود الطاهر، ونحن نرى أن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - على البحر بأنه طهور دليل على أنه لا يضر تغير الماء بشىء طاهر؛ فإن ماء البحر متغير بالملح ومع ذلك هو طهور، والاستدلال بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى من الأستدلال بشك فرد واحد من الصحابة إن سُلِّم لكم بأنه قد شك. أما الجواب عن الاغتسال بالماء الراكد، وعن النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها ثلاثاً إذا استيقظ من النوم فسوف تأتي مناقشة الأدلة بالتفصيل إن شاء الله في مسائل مستقلة. وهناك قولان آخران تركتهما في أخر البحث؛ لأنهما ضعيفان لايخرجان عن القولين الأولين. ¬

(¬1) التمهيد (16/ 221).

القول الأول: الماء المشكوك فيه (¬1)، وهذا القول في الحقيقة لا يخرج عن القولين السابقين لأن الشك إنما هو من قبل الإنسان نفسه، وأما الشارع فلا يمكن أن يقوم عنده شك في حقيقة الماء. نعم قد يحصل عند بعض المكلفين تردد في الماء هل هو طهور أم نجس؟ لكن يبقى الماء في حقيقة الأمر إما هذا، وإما هذا، ومع القول بأن الماء لا ينجس إلا بالتغير تصبح صورة هذا النوع قليلة أو نادرة؛ لأن التغير أمر مشاهد محسوس اللهم إلا أن يقال: قد يقع في بعض الصور كما لو كان التغير بسبب ولوغ الكلب، أو كان الإنسان فاقداً للشم أو أعمى، فهذا ممكن أن لا يشعر بالتغير، والله أعلم. القول الثاني: زاد قوم آخرون الماء المغصوب. قالوا: وحكم هذا الماء لا يمكن أن يرفع به الحدث لكن تزال به النجاسة (¬2). لماذا لا يرفع الحدث وهو ماء طهور؟ قالوا: لأنه ماء استعماله محرم، فلو قلنا: إنه يرفع الحدث لرتبنا على المحرم أثره، إذ كيف يكون محرماً ويتقرب به الإنسان. ولماذا إذاً قلتم بأنه يزيل النجاسة؟ قالوا: لأن النجاسة إذا ذهبت بالماء المحرم فقد زال حكمها فالحكم بنجاسة المحل مع زوال النجاسة غير ممكن، ولا يشترط لإزالة النجاسة نية ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 22). (¬2) نيل المآرب شرح دليل الطالب (1/ 39).

القربة بخلاف رفع الحدث، والصحيح أن هذا القسم لا يخرج عن القولين الأولين؛ لأن الغصب صفة خارجه عن الماء راجعة إلى الغاصب، أما الماء في حقيقته فطهور.

الباب الثاني الوضوء بالماء المحرم كالمغصوب ونحوه

الباب الثاني الوضوء بالماء المحرم كالمغصوب ونحوه إذا تعدى الإنسان على مال غيره، وكان غيره بحاجة إليه، كالماء مثلاً فإنه يأثم بذلك، ولكن هل يرتفع الحدث، ويزول الخبث، أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك: فقيل: يأثم، ويرتفع حدثه وخبثه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: لا تصح الطهارة به، ويرتفع به الخبث، اختاره بعض الحنابلة (¬4). وقيل: لا يرتفع به حدث، ولا خبث، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، وهو اختيار ابن حزم (¬6). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 48)، الفصول في الأصول (2/ 179)، حاشية ابن عابدين (1/ 341). (¬2) أنواع البروق في أنواع الفروق (2/ 84)، الخرشي (1/ 181)، و (3/ 44)، الفواكه الدواني (1/ 124)، حاشية الدسوقي (1/ 144) و (3/ 54)، منح الجليل (1/ 138). (¬3) إعانة الطالبين (1/ 55)، المجموع (2/ 295)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 59، 68). (¬4) قال في منار السبيل (1/ 15): " ماء يحرم استعماله ولا يرفع الحدث، ويزيل الخبث وهو ماليس مباحاً كمغصوب ونحوه ". اهـ (¬5) قال في الإنصاف (1/ 28): وأما الوضوء بالماء المغصوب، فالصحيح من المذهب، أن الطهارة لا تصح به. وهو من مفردات المذهب. وعنه: تصح وتكره، اختاره ابن عبدوس في تذكرته. اهـ وانظر قواعد ابن رجب القاعدة التاسعة (ص: 12)، كشاف القناع (1/ 30)، مطالب أولي النهى (4/ 62)، المبدع (1/ 40). (¬6) المحلى (1/ 208).

دليل من قال لا يرتفع به الحدث.

دليل من قال لا يرتفع به الحدث. الدليل الأول: القياس على الصلاة في الثوب المسبل، فإذا كانت الصلاة في ثوب مسبل حرام لا تصح، فكذلك المسح على شيء محرم لا يصح (15) فقد روى أحمد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال، ثنا أبان وعبد الصمد، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما رجل يصلي، وهو مسبل إزاره، إذ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال: ما لك يا رسول الله، ما لك أمرته يتوضأ؟ ثم سكت، قال: إنه كان يصلي، وهو مسبل إزاره، وإن الله عز وجل لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره (¬1). [إسناده ضعيف، ومتنه منكر] (¬2). ¬

(¬1) المسند (4/ 67). (¬2) فيه أبو جعفر المدني الأنصاري، لم يرو عنه سوى يحيى بن أبي كثير. قال الدارمي: أبو جعفر هذا رجل من الأنصار. وقال ابن القطان: مجهول. وفي التقريب: مقبول، ومن زعم أنه محمد بن علي بن الحسين فقد وهم. اهـ قلت: قال ابن حبان في صحيحه هو محمد بن علي بن الحسين. فتعقبه الحافظ في التهذيب، وقال: ليس هذا بمستقيم؛ لأن محمد بن علي لم يكن مؤذناً، ولأن أبا جعفر هذا قد صرح بسماعه من أبي هريرة في عدة أحاديث، وأما محمد بن علي بن الحسين فلم يدرك أبا هريرة فتعين أنه غيره. تهذيب التهذيب (12/ 58). =

وجه النكارة فيه؛ إذا كانت الصلاة لا تقبل من أجل الإسبال، فلماذا يطلب منه إعادة الوضوء، وهو لم يحدث، ما بال الوضوء؟! ولماذا لم يبلغه بأن يرفع إزاره، فقد يكون الرجل جاهلاً، والبلاغ تعليمه ¬

_ = واختلف أيضاً في إسناده فرواه أبان، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل عن أبي هريرة. وخالفه حرب بن شداد، في سنن البيهقي (2/ 241) فرواه عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن أبا جعفر المدني حدثه، أن عطاء بن يسار حدثه، أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثه، فذكره، فزاد في الإسناد إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. وكما صرح يحيى بن أبي كثير بالتحديث من إسحاق، قد صرح أيضاً بالتحديث من أبي جعفر كما في بغية الباحث في زوائد مسند الحارث (138،573)، فلعله سمعه منهما. وقال النووي: على شرط مسلم، انظر رياض الصالحين (ص: 358)، ولم يصب. وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 92): " وفي إسناده أبو جعفر المدني، إن كان محمد بن علي بن الحسين، فروايته عن أبي هريرة مرسلة له، وإن كان غيره فلا أعرفه". [تخريج الحديث] الحديث رواه أحمد أيضا (5/ 379) بالإسناد نفسه. ورواه النسائي في الكبرى (9703) عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن هشام الدستوائي به مختصراً بلفظ: " لا تقبل صلاة رجل مسبل إزاره ". وأخرجه أبو داود (638، 4086) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة به. فسمى الصحابي. ورواه البيهقي في السنن (2/ 241) من طريق أبي إسماعيل الترمذي، ثنا موسى بن إسماعيل به. ورواه الحارث في مسنده كما في بغية الباحث (138، 573) حدثنا يزيد بن هارون، ثنا هشام الدستوائي به.

الدليل الثاني

ما أخطأ فيه، لا أن يحيله على أمر قد أحسنه، فما إعادته للوضوء إلا عبث، حتى تجديد الوضوء لا يشرع في هذه الصورة؛ لأنه ما إن فرغ من وضوئه حتى طلب منه أن يعيده، لا لنقص في الوضوء، ولكن لأن الله لايقبل صلاة المسبل إزاره!!. الدليل الثاني: الماء المغصوب كسبه محرم بالاتفاق. (16) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فإن دماءكم وأموالكم، قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب (¬1). فإذا كان كسبه محرماً وصححنا الوضوء به نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. (17) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعاً عن أبي عامر، قال عبد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد، عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه ¬

(¬1) البخاري (105)، ومسلم (1679).

أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى رد: أي مردود عليه، والوضوء بالماء المغصوب خلاف أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حزم رحمه الله: من توضأ بماء مغصوب، أو أخذ بغير حق، أو اغتسل به، أو من إناء كذلك، فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أن استعماله ذلك الماء وذلك الإناء في غسله ووضوئه حرام، وبضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الحرام المنهي عنه هو غير الواجب المفترض عمله، فإذ لا شك في هذا فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به، والذي لا تجزئ الصلاة إلا به، بل هو وضوء محرم، هو فيه عاص لله تعالى، وكذلك الغسل، والصلاة بغير الوضوء الذي أمر الله تعالى به وبغير الغسل الذي أمر الله تعالى به لا تجزئ، وهذا أمر لا إشكال فيه. ونسأل المخالفين لنا عمن عليه كفارة إطعام مساكين، فأطعمهم مال غيره، أو من عليه صيام أيام، فصام أيام الفطر والنحر والتشريق، ومن عليه عتق رقبة فأعتق أمة غيره، أيجزيه ذلك مما افترض الله تعالى عليه؟ فمن قولهم: لا. فيقال لهم: فمن أين منعتم هذا وأجزتم الوضوء والغسل بماء مغصوب وإناء مغصوب؟ وكل هؤلاء مفترض عليه عمل موصوف في مال نفسه، محرم عليه ذلك من مال غيره بإقراركم سواء سواء. وهذا لا سبيل لهم إلى الانفكاك منه. وليس هذا قياساً، بل هو حكم واحد داخل تحت تحريم الأموال، وتحت العمل بخلاف أمر الله تعال، ى وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وكل هؤلاء عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود بحكم ¬

(¬1) صحيح مسلم (1718).

الدليل الثالث

النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأجيب: بأن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع. الدليل الثالث: قالوا إن المعدوم شرعا كالمعدوم حساً فتكون صورة التطهير معدومة حساً مع العمد، وذلك مبطل للصلاة والطهارة. وأجيب: بأن هذا النظر إنما يتم لو سلم أن الله تعالى أمر بالطهارة واشترط في ذلك أن تكون الأداة مباحة، ونحن لا نسلم ذلك بل نقول: إن الله تعالى أوجب الطهارة والصلاة مطلقاً، وحرم الغصب، ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون عدمه شرطاً. ألا ترى أنه لو سرق في صلاته لم تبطل صلاته مع مقارنة المحرم، فكذلك في هذه المسألة (¬2). الدليل الرابع: وقال بعضهم: إن تجويز الوضوء بالماء المغصوب يؤدي إلى إتلافه، وما يؤدي إلى إتلاف مال الغير ينبغي أن يحكم ببطلانه، بخلاف الصلاة في المكان المغصوب، والثوب المغصوب، فإنه لا يؤدي إلى إتلاف المغصوب. ¬

(¬1) المحلى (1/ 207، 208). (¬2) أنوار البروق (2/ 99).

أدلة القائلين بصحة الوضوء.

وأجيب: بأن الحكم ببطلان الطهارة لن يرفع تلف الماء، فلا فائدة في الحكم ببطلان الطهارة. أدلة القائلين بصحة الوضوء. عدم الدليل المقتضي لفساد الطهارة، فهذا قد تطهر الطهارة الشرعية بغسل ما يجب غسله، فطهارته صحيحة، ولا يحكم ببطلانها إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل هنا. الدليل الثاني: إن المنع من الوضوء بالماء المغصوب لا يختص بالطهارة، فالغاصب مأذون له في المسح في الجملة، والمنع عارض أدركه من جهة الغصب، لا من جهة الطهارة، فأشبه غاصب مدية الذبح، وكلب الصيد، فيأثمون، ويصح فعلهم. دليل من فرق بين الحدث والخبث. الحنابلة قالوا: إن الماء المغصوب لا يرفع الحدث، ولكن يزيل الخبث. لماذا لا يرفع الحدث وهو ماء طهور؟ قالوا: لأنه ماء استعماله محرم، فلو قلنا: إنه يرفع الحدث لرتبنا على المحرم أثره، إذ كيف يكون محرماً ويتقرب به الإنسان، وكل الأدلة التي سقتها في القول الأول يستدلون بها على المنع من رفع الحدث. ولماذا إذاً قلتم بأنه يزيل النجاسة؟ قالوا: لأن النجاسة إذا ذهبت بالماء المحرم فقد زال حكمها فالحكم بنجاسة المحل مع زوال النجاسة غير ممكن، ولا يشترط لإزالة النجاسة نية

القربة بخلاف رفع الحدث. الراجح: أن الماء المغصوب تصح الطهارة منه في رفع الحدث والخبث، مع التحريم، فجهة المنع من قبل الغصب، لا من قبل الطهارة، ولا يكون النهي مقتضياً لفساد المنهي عنه إلا إذا عاد النهي إلى ذات العبادة، كما هو مقرر في أصول الفقه، والله أعلم.

الباب الثالث حكم رفع الحدث والخبث من ماء زمزم

الباب الثالث حكم رفع الحدث والخبث من ماء زمزم اختلف العلماء في استعمال ماء زمزم في رفع الحدث وإزالة الخبث، فقيل: يكره استعماله في إزالة الخبث، ولا يكره في رفع الحدث، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يكره فيهما، وهو مذهب المالكية. وقيل: في إزالة النجاسة بماء زمزم خلاف الأولى، ولا يكره الوضوء والغسل منه، وهو مذهب الشافعية (¬3). وقيل: يكره فيهما، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4)، اختاره ابن تيمية (¬5). وقيل: يحرم فيهما، حكاه قولاً بعض الفقهاء (¬6)، وهو وجه في مذهب ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 180)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (1/ 16). (¬2) الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل (1/ 58)، الفروع (1/ 74)، الإنصاف (1/ 27)، المغني (1/ 28). (¬3) إعانة الطالبين (1/ 107)، حاشية البجيرمي (1/ 59)، حواشي الشرواني (1/ 174). (¬4) المغني (1/ 28)، وساقه رواية عن أحمد، وقد جاء في مسائل أحمد رواية صالح (1094): قلت: الغسل من ماء زمزم، وقد قال العباس: لا أحلها لمغتسل؟ فقال أحمد: يتمالك الناس من هذا؟ قال: وكان سفيان بن عيينة يحكي عن ابن عباس: لا أحلها لمغتسل، فيحكى عن العباس، وابن العباس، قال: وإن توقاه أعجب إلي. (¬5) الاختيارات (ص: 4). (¬6) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (1/ 16).

دليل من منع الطهارة من ماء زمزم مطلقا.

الحنابلة (¬1). وقيل: يحرم إزالة النجاسة فقط، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يستحب الوضوء من زمزم، اختاره ابن الزاغوني من الحنابلة (¬3). وقيل: يكره الغسل، دون الوضوء، وهو رواية عن أحمد (¬4). دليل من منع الطهارة من ماء زمزم مطلقاً. بعضهم يرجع المنع إلى كونه ماء مباركاً، فيكون النهي من باب التعظيم، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن زمزم، كما في صحيح مسلم: إنها مباركة، إنها طعام طعم (¬5). دليل من فرق بين الغسل وبين الوضوء. أما من فرق بين الوضوء والغسل فيرجع المنع إلى مخالفة شرط الواقف. (18) فقد روى عبد الرزاق في المصنف، قال: عن معمر، قال: أخبرني ابن طاووس، عن أبيه، أنه سمع ابن عباس يقول وهو قائم عند زمزم، إني لا أحلها لمغتسل، ولكن هي لشارب - أحسبه قال - ومتوضئ حل وبل (¬6). ¬

(¬1) الفروع (1/ 74). (¬2) الهداية لأبي الخطاب (1/ 10)، الفروع (1/ 74)، الإنصاف (1/ 27، 29). (¬3) الفروع (1/ 77). (¬4) تصحيح الفروع (1/ 76). (¬5) صحيح مسلم (2473). (¬6) مصنف (5/ 114) رقم 9115. وإسناده صحيح. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 41)، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله =

دليل من فرق بين رفع الحدث وإزالة الخبث.

دليل من فرق بين رفع الحدث وإزالة الخبث. وجه هذا القول: أن الحدث ليس فيه إهانة لماء زمزم، لأنه ماء طهور، لاقى بدناً طاهراً، بخلاف الخبث، فإن فيه إهانة، وهو ماء مبارك ليس كسائر المياه. دليل من جوز رفع الحدث والخبث. أما جواز رفع الحدث به، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1)، وهذا ماء طهور، فلا يجوز التيمم مع وجوده، وقد توضأ الصحابة من الماء الذي نبع من أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع كونه ماء مباركاً. وأما جواز رفع الخبث، فلأنه لا يوجد ما يمنع منه، وكونه ماء مباركاً ¬

= ابن أبي يزيد، عن ابن عباس، قال: لا أحلها لمغتسل يغتسل في المسجد، وهي لشارب ومتوضئ حل وبل. وإسناده صحيح. ورواه الفاكهي في أخبار مكه (2/ 64) من طريقين عن سفيان به، وذكر قصة، ولفظه: قال إن رجلا من بني مخزوم من آل المغيرة اغتسل في زمزم، فوجد من ذلك ابن عباس رضي الله عنهما وجداً شديداً، وقال: لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب ومتوضىء حل وبل. قال سفيان: يعني في المسجد. وقد ورد مثل ذلك عن العباس، فقد روى أحمد في العلل ومعرفة الرجال (2/ 187) حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، قال: سمعت العباس، وذكر زمزم، فقال: هي حل وبل، لا أحلها لمغتسل. وروى الفاكهي في أخبار مكة (2/ 63) حدثنا محمد بن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثت عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش به. وأخرج عبد الرزاق في المصنف (9114) عن معمر، قال: أخبرني ابن طاووس، عن أبيه، قال: أخبرني من سمع عباس بن عبد المطلب يقول: وذكره. (¬1) المائدة: 6.

الراجح من الأقوال

فهذا وحده غير كاف، وجنس الماء في نفسه مطعوم، ومن المال، ومع ذلك يزال به الخبث، والله سبحانه وتعالى أنزل الماء ليطهرنا، ولم يفرق بين ماء وآخر، ومن منع فعليه الدليل، والحل هو الأصل. الراجح من الأقوال: أرى الجواز له قوة، ولا يوجد دليل يمنع من رفع الحدث أو إزالة الخبث، لكن إن وجد غيره في إزالة الخبث فتركه أولى، وإن لم يوجد غيره فلا مانع من إزالة الخبث به، والله أعلم.

الباب الرابع في الماء المتغير

الباب الرابع في الماء المتغير ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: في الماء المتغير بالطاهرات. الفصل الثاني: في الماء المتغير بنجاسة.

الفصل الأول في الماء المتغير بالطاهرات

الفصل الأول في الماء المتغير بالطاهرات

المبحث الأول الماء المتغير بطاهر غير ممازج

المبحث الأول الماء المتغير بطاهر غير ممازج تمهيد: هل يشمل التغير بغير ممازح اللون والطعم؟ اختلف الفقهاء رحمهم الله، هل يشمل المتغير بغير ممازج جميع أوصاف الماء من طعم ولون ورائحة أو يشمل التغير بالرائحة فقط .. على قولين. القول الأول: قالوا: المقصود بالتغير تغير الرائحة فقط؛ لأن تغير اللون أو الطعم لا يتصور إلا بانفصال أجزاء واختلاطها بالماء، وبالتالي يكون التغير تغيراً عن ممازجة ومخالطة وليس تغيراً بالمجاورة. وقد اختار هذا القول أكثر المالكية (¬1)، واختاره الماوردي (¬2) وابن الصلاح من الشافعية (¬3)، وظاهر عبارة صاحب المهذب (¬4)، ومفهوم عبارة الشافعي في ¬

(¬1) الإكليل شرح مختصر خليل (1/ 6). (¬2) الحاوي الكبير (1/ 53) قال رحمه الله: إذا تغير بالكافور فله ثلاث أحوال: الأولى: حال يعلم انحلال الكافور فيه فاستعماله غير جائز لأنه تغير عن مخالطة. الثانية: وحال يعلم أنه لم يدخل فيه فاستعماله جائز لأنه تغير عن مجاورة. الثالثة: وحال يشك فيه، فينظر في صفاء التغير، فإن تغير الطعم دون الرائحة فهو دال على تغير المخالطة ولا يجوز استعماله، وإن كان تغير الريح ففيه لأصحابنا وجهان. (¬3) نقل النووي عن ابن الصلاح في المجموع (1/ 154) قوله: "وعندي أن التغير بالمجاورة لا يكون إلا بالرائحة؛ لأن تغير اللون والطعم لا يتصوران إلا بانفصال أجزاء واختلاطها، والرائحة تحصل بدون ذلك، ولهذا تتغير رائحته بما على طرف الماء لا طعمه ولونه ". (¬4) قال رحمه الله (1/ 154): وإن وقع فيه ما لا يختلط به فغير رائحته كالدهن الطيب =

الأم (¬1). واختاره من الحنابلة المجد في شرحه وتبعه صاحب الحاوي الكبير (¬2). وقيل: إن التغير بغير ممازج يشمل الأوصاف الثلاثة. واختاره النووي من الشافعية: وقال إنه هو الموافق لإطلاق كلام الأصحاب. بل قد صرح به أبو حامد وصاحبه المحاملي بأنه شامل لأوصاف الماء كلها (¬3). والراجح القول الأول: أنه لا يشمل إلا الريح فقط. إذ لا يتصور أن يتغير لون الماء ثم يكون تغيره عن مجاورة وليس عن ممازجة، فالتغير بالمجاورة مقصور على الريح فقط. خلاف العلماء في الماء إذا تغير بطاهر غير ممازج. إذا تغير الماء بطاهر غير ممازج كالدهن وقطع الكافور، فاختلف العلماء فيه هل يبقى على طهوريته أم يتحول إلى طاهر: فقيل: الماء طهور بلا كراهة، وهو مذهب الحنفية (¬4)، واختاره ابن رشد وابن الحاجب من ¬

= والعود. ثم قال: وإن وقع فيه قليل كافور فتغيرت به رائحته. (¬1) قال رحمه الله (1/ 7): ولو صب فيه دهن طيب أو ألقي فيه عنبر أو عود أو شيء ذو ريح لا يختلط بالماء فظهر ريحه بالماء توضأ به. الخ (¬2) الإنصاف (1/ 23)، والحاوي الكبير هذا كتاب حنبلي، وهو غير كتاب الماوردي، لأن الماوردي شافعي. (¬3) النووي في المجموع (1/ 155). انظر متن المهذب مع شرحه المجموع. (¬4) في مذهب الحنفية لا يفرقون بين الممازج وغير الممازج، فإذا كان الممازج طهوراً عندهم، فغير الممازج من باب أولى، انظر شرح فتح القدير (1/ 72)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 21)، البحر الرائق (1/ 71).

المالكية (¬1)، وهو مذهب الشافعية (¬2)، ورجحه ابن حزم (¬3)، وابن قدامة (¬4). وقيل: يكون طاهراً، اختاره من المالكية ابن عرفة وابن مرزوق والأجهوري (¬5)، وهو وجه في مذهب الشافعية رجحه البويطي (¬6)، واختاره ¬

(¬1) قال في حاشية الدسوقي (1/ 36): " وإن كان تغير ريحه بدهن لا صق: أي برياحين مطروحة على سطح الماء، فنشأ من ذلك تغير ريحه فلا يضر على ما قاله المصنف تبعاً لابن عطاء الله وابن بشير وابن رشد وابن الحاجب، وهو ضعيف، والمعتمد أنه يضر مثل تغير اللون والطعم كما قال ابن عرفة: إنه ظاهر الروايات، والحاصل أن التغير بالمجاور الغير الملاصق لا يضر مطلقاً: أي سواء تغير الريح أو اللون أو الطعم أو الثلاثة، وسواء كان التغير بيناً أولا، كان الماء قليلاً أو كثيراً، وأما التغير بالمجاور الملاصق فيضر اتفاقاً إن كان المتغير لوناً أو طعماً، كان التغير بيناً أولا، قل الماء أو كثر، وفي تغير الريح خلاف، والمعتمد الضرر، وأما التغير بالممازج فيضر مطلقاً باتفاق، هذا محصل كلام الشارح، وانظر مواهب الجليل (1/ 54) والتاج والإكليل (1/ 75)، وشرح الخرشي (1/ 70). (¬2) الأم (1/ 20): " ولو صب فيه دهن أو طيب، أو ألقي فيه عنبر أو عود أو شيء ذو ريح لا يختلط بالماء، فظهر ريحه في الماء توضأ به؛ لأنه ليس في الماء شيء منه يسمى الماء مخوضاً به، ولو كان صب فيه مسك أو ذريرة أو شيء ينماع في الماء حتى يصير الماء غير متميز منه فظهر فيه ريح لم يتوضأ به؛ لأنه حينئذ ماء مخوض به، وإنما يقال له: ماء مسك مخوضة وذريرة مخوضة، وهكذا كل ما ألقي فيه من المأكول من سويق أو دقيق ومرق وغيره، إذا ظهر فيه الطعم والريح مما يختلط فيه لم يتوضأ به؛ لأن الماء حينئذ منسوب إلى ما خالطه منه. اهـ. وانظر المجموع (1/ 155) .. (¬3) قال ابن حزم في المحلى (مسألة 147): " وكل ماء خالطه شيء طاهر مباح، فظهر فيه لونه وريحه وطعمه إلا أنه لم يزل عنه اسم الماء، فالوضوء به جائز، والغسل للجنابة جائز، ثم قال: سواء كان الواقع فيه مسكاً أو عسلاً أو زعفراناً، أو غير ذلك. (¬4) انظر المغني (1/ 23)، والمبدع شرح المقنع (1/ 36)، والإنصاف (1/ 23). (¬5) الإكليل (1/ 6)، حاشية الدسوقي (1/ 36). (¬6) المجموع (1/ 154).

دليل من قال الماء طهور مكروه.

أبو الخطاب في الانتصار (¬1)، والمجد، وصاحب الحاوي الكبير من الحنابلة (¬2). وقيل: يصبح طهوراً مكروهاً، وهو المشهور عند الحنابلة (¬3). دليل من قال الماء طهور مكروه. قالوا إن الماء إذا تغير بغير ممازج، فإنه طهور يرفع الحدث ويزيل النجاسة. ومكروه: أي يثاب تاركه امتثالاً. ولا يعاقب فاعله. فلماذا هو طهور، وقد تغير؟ قالوا: لأن هذا التغير ليس عن ممازجة وإنما هو عن مجاورة. ولماذا هو إذاً مكروه؟ قالوا: لأن بعض العلماء يقولون بأنه طاهر فقلنا إنه مكروه خروجاً من الخلاف. والتعليل بالكراهة لوجود الخلاف قول ضعيف، وهو قد زاد من الخلاف، ولم يخفف الخلاف، وسبب ذلك: أولاً: أنتم لم تأتوا بقول يجمع بين القولين حتى يقال: دفعكم إلى القول به وجود الخلاف، فلا أنتم تمسكتم بالقول بأنه طهور بلا كراهة، ولا أنتم قلتم بأنه طاهر، فأنتم في الحقيقة أحدثتم قولاً ثالثاً لا لدليل دعاكم إلى القول بهذا القول، ولكن الذي دعاكم إلى هذا وجود قولين في المسألة وبدلاً من أن يصبح في المسألة قولان أصبح فيها ثلاثة أقوال: طهور مطلقاً، وطاهر، والقول الذي أحدثتموه (طهور مكروه). ¬

(¬1) الانتصار في المسائل الكبار (1/ 126). (¬2) الإنصاف (1/ 23). (¬3) الإنصاف (1/ 123).

دليل من قال الماء طاهر غير مطهر.

ثانياً: أن الكراهة حكم شرعي يقوم على دليل شرعي ووجود الخلاف ليس من أدلة الشرع المتفق عليها ولا المختلف فيها. ثالثاً: لو أخذنا بالخلاف كدليل أو تعليل للحكم الشرعي للزم أن كل مسألة خلافية نقول إنها مكروهة، وهذا لا يقول به أحد. فالصحيح أن الخلاف نوعان: نوع يكون الخلاف فيه ضعيفاً جداً، فهذا نطرحه ولا نبالي. وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلافاً له حظ من النظر. فإذا كان الخلاف ليس له حظ من النظر الشرعي أو العقلي (الأثر أو التعليل) فلا يراعى. النوع الثاني من الخلاف: خلاف يكون قوياً فتجد كل قول في المسألة له دليل قوي. فهنا يقال: إن الخروج من الخلاف فيه احتياط، وليس السبب وجود الخلاف وإنما السبب هو احتمال الأدلة .. فهو من باب دع ما يريبك إلا ما لا يريبك. دليل من قال الماء طاهر غير مطهر. قالوا: إن هذا الماء قد تغير بطاهر فيكون كما لو تغير بغير ممازج، قال أبو الخطاب: من سلم من أصحابنا أن التغير بالكافور والعود والدهن لا يمنع من الطهارة، قال: لأن ذلك تغير مجاورة لا مخالطة، والمانع تغير المخالطة، وهذا غير صحيح، فإن الكافور يوجد طعمه في الماء ومرارته، وكذلك طعم الدهن، وليس ذلك إلا بحصول جزء منه في الماء، ومخالطة له (¬1). ¬

(¬1) الانتصار (1/ 127).

دليل من قال الماء طهور بلا كراهة.

دليل من قال الماء طهور بلا كراهة. لا يحتاج هذا القول إلى دليل؛ لأن الأصل أن الماء طهور، ومن أراد أن ينقله عن أصله طلب منه الدليل، وإلا بقي على أصله، ومع ذلك فإن الأدلة كثيرة على عدم وجود قسم الطاهر، فالماء إما طهور أو نجس، ولاثالث لهما، وإذا ضعفنا القول بوجود الماء الطاهر فإن الماء في هذه المسألة يصبح طهوراً؛ لأن أحداً لم يقل بأنه إذا خالطه طاهر يصبح نجساً، وإنما الخلاف هل يصبح طاهراً أم طهوراً، وقد أفردت مسألة مستقلة في الخلاف في أقسام الماء، وذكرت أدلة كثيرة على أن الماء قسمان، وكل هذه الأدلة تصلح أن تكون أدلة في مسألتنا، والله أعلم.

المبحث الثاني الماء المتغير بطاهر يشق صون الماء عنه

المبحث الثاني الماء المتغير بطاهر يشق صون الماء عنه مثاله: ماء نابت بجواره أشجار كثيرة، فإذا حركت الرياح الأشجار تساقطت الأوراق .. فتقع تلك الأوراق في الماء فيتغير بها. أو نبت في الماء طحلب فتغير بسببه فهنا تغير الماء بشيء طاهر وليس بنجس، وهذا الطاهر يصعب الاحتراز منه، فما حكمه؟ اختلف الفقهاء في ذلك: فقيل: الماء طهور، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3)، واختاره العراقيون من أصحاب الإمام مالك (¬4)، ورجحه ¬

(¬1) لا يفرق الحنفية بين ما يشق التحرز منه، وما لا يشق، والتغير عندهم بشيء طاهر لا يضر مطلقاً، انظر البناية (1/ 304). (¬2) قال الشيرازي في المهذب (1/ 150): " وإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة نظرت، فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه كالطحلب، وما يجري عليه الماء من الملح والنورة وغيرهما جاز الوضوء به؛ لأنه لا يمكن صون الماء منه، فعفي عنه .. الخ كلامه. قال النووي شارحاً لعبارته (1/ 150): " أما قوله: إذا تغير بما لا يمكن حفظه منه جاز الوضوء به، فمجمع عليه، ووجهه ما ذكره من تعذر الاحتراز ". وقول النووي: مجمع عليه، إن كان يقصد في المذهب فذاك، وإن كان يقصد الإجماع العام، فغير مسلم؛ لأن الخلاف فيه محفوظ في المذهب المالكي، كما سيأتي، والله أعلم. (¬3) قال صاحب المغني (1/ 25): " الثاني ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب، وسائر ما ينبت في الماء، وكذلك ورق الشجر الذي يسقط في الماء، أو تحمله الريح فتلقيه فيه، وما تجذبه السيول من العيدان والتبن ونحوه، فتلقيه في الماء، وما هو في قرار الماء كالكبريت والقار وغيرهما إذا جرى عليه الماء فتغير به، أو كان في الأرض التي يقف فيها الماء، فهذا كله يعفى عنه؛ لأنه يشق التحرز منه ... الخ كلامه رحمه الله. وانظر الإنصاف (1/ 22). (¬4) قال محمد البناني على حاشية الزرقاني (1/ 13): " الذي يظهر من كلام أهل =

ابن رشد (¬1)، وابن حزم (¬2)، وابن تيمية (¬3)، وغيرهم. وقيل: يسلبه الطهورية، ولا فرق في ذلك بين ما يشق التحرز منه، وما لا يشق، وهو قول في مذهب المالكية (¬4). ¬

المذهب، ونقولهم التي ذكرناها ترجيح القول بأن ذلك - يعني تغير الماء بما يقع فيه مما يشق التحرز منه - لا يسلبه الطهورية؛ لأنه قول شيوخنا العراقيين، وقدمه صاحب الطراز وابن عرفة، واقتصر عليه صاحب الذخيرة، ولم يذكر غيره، واختاره ابن رشد، فكان ينبغي للمصنف أن يقتصر عليه، أو يقدمه، فإن القول الذي قدمه هو قول الابياني، وقد علمت أنه في غاية الشذوذ، كما قال ابن رشد، لكن المصنف والله أعلم إنما اعتمد في تقديمه على ما يفهمه من كلام اللخمي من أنه هو المعروف من المذهب، وذلك على ما أصله، وقد علمت أنه ضعيف. انتهى. وجاء في المنتقى للباجي (1/ 55): " إذا سقط ورق الشجر أو الحشيش في الماء فتغير فإن مذهب شيوخنا العراقيين أنه لا يمنع الوضوء به. وقال أبو العباس الأبياني: يمنع. وجه القول الأول: أنه مما لا ينفك الماء عنه غالباً، ولا يمكن التحفظ منه، ويشق ترك استعماله كالطحلب، وقد روى في المجموعة ابن غانم، عن مالك في غدر تردها الماشية، فتبول فيها وتروث، فتغير طعم الماء ولونه: لا يعجبني الوضوء به، ولا أحرمه، ومعنى ذلك أن هذا مما لا ينفك الماء عنه غالباً، ولا يمكن منعه منه. اهـ (¬1) محمد البناني على حاشية الزرقاني (1/ 13) وفيه: أن ابن رشد قال عن القول بأنه يسلبه الطهورية، قال عنه: بأنه شاذ خارج عن أصل المذهب، فلا ينبغي أن يلتفت إليه، ولا يعرج عليه ... انتهى" (¬2) المحلى (مسألة: 147). (¬3) انظر الفروع (1/ 77). (¬4) قال الخرشي (1/ 72): اختاره اللخمي، وقال: وهو المعروف من المذهب، وقدمه خليل في مختصره (ص: 5).

دليل من قال إن الماء طهور.

دليل من قال إن الماء طهور. أولاً: الإجماع. نقل الإجماع على طهوريته النووي (¬1)، وفيه نظر؛ لأن الخلاف في المذهب المالكي محفوظ. ثانياً: إن التحرز منه يشق، فعفي عنه، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). قال أبو الخطاب: ما لا يمكن التحرز منه لا يحرج به الشرع، بل يعفو عنه كأثر الاستنجاء، والتراب القليل في الأموال الربوية، وملاقاة الماء للنجاسة قبل الانفصال، والعمل القليل في الصلاة، ويسير الدماء وغير ذلك (¬3). ثالثاً: قدمت الخلاف في أقسام المياه، وأن وجود ماء طاهر غير مطهر لا يثبت من حيث الأدلة، وأن الماء قسمان طهور ونجس، ولا ثالث لهما، فكل دليل ذكرته في تلك المسألة يصلح أن يكون دليلاً لهذه المسألة، والله أعلم. دليل من قال إن الماء طاهر غير مطهر. قالوا: إذا تغير الماء بشيء طاهر فإنه يسلبه الطهورية، لا فرق بين ما يشق وما لا يشق، لأن العلة هي التغير بشيء طاهر وقد حصل، وذلك أن الحكم بتغير الماء حكم وضعي، فكما أن النجاسة إذا وقعت في الماء فغيرته يكون نجساً، لا فرق بين نجاسة يشق التحرز عنها وبين غيرها، فكذلك الطاهر إذا وقع في الماء فإنه يسلبه الطهورية لا فرق بين ما يشق، وبين ما لا يشق. ¬

(¬1) المجموع (1/ 150). (¬2) الحج، آية: 78. (¬3) الانتصار (1/ 128).

وهذا القول صحيح لو سلمنا أن الماء إذا تغير بشيء طاهر لا يشق التحرز منه يصبح طاهراً، ولكن الصحيح أن الماء طهور، ولو تغير طعمه ولونه ورائحته بشيء طاهر وضع فيه ما لم يخرج عن مسمى الماء، لأن الماء كما قدمنا قسمان لا ثالث لهما، وقد ذكرت أحاديث كثيرة تدل على التطهر بالماء الذي تغير بشيء طاهر، مثل حديث: "اغسلوه بماء وسدر" لمن وقصته ناقته، وسبق تخريجه، وقوله في حديث أم عطية في تغسيل ابنته رضي الله عنها: "اغسلوها بماء وسدر" وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - اغتسل هو وزوجه من قصعة فيها أثر العجين، وسبق تحرير الخلاف في أن الماء قسمان، فارجع إليه غير مأمور.

المبحث الثالث الماء المتغير بطول مكثه

المبحث الثالث الماء المتغير بطول مكثه إذا طال ركود الماء في المكان، تغير إما في لونه أو طعمه أو ريحه. ويسمى الماء الآجن والآسن. فذهب الآئمة الأربعة إلى أنه ماء مطلق، طهور غير مكروه (¬1). وقيل: يكره استعماله، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬2). الدليل على طهورية الماء الآجن. أولاً: الإجماع على طهوريته. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوضوء بالماء الآجن الذي قد طال مكثه في الموضع من غير نجاسة حلت فيه جائزة إلا شيئاً يروى عن ابن سيرين (¬3). وقال ابن تيمية: أما ما تغير بمكثه ومقره فهو باق على طهوريته باتفاق ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية البحر الرائق (1/ 71)، الفتاوى الهندية (1/ 21)، حاشية ابن عابدين (1/ 186) المبسوط (1/ 72) بدائع الصنائع (1/ 15). وانظر في مذهب المالكية أحكام القرآن لابن العربي (3/ 440،441)، شرح الخرشي (1/ 68)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 33)، جواهر الإكليل (1/ 78). وانظر في مذهب الشافعية الأم (1/ 20)، المجموع (1/ 221)، أسنى المطالب (1/ 8)، تحفة المحتاج (1/ 70). وفي مذهب الحنابلة انظر المغني (1/ 26)، الفتاوى الكبرى (1/ 214)، الفروع (1/ 73)، الإنصاف (1/ 22)، كشاف القناع (1/ 26) (¬2) الإنصاف (1/ 22). (¬3) الأوسط (1/ 259).

العلماء (¬1). (19) وأما ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا ابن عون، عن ابن سيرين أنه كان يكره الوضوء بالماء الآجن (¬2). [وسنده صحيح] (¬3). فلعل المقصود أن نفسه تكرهه؛ لأنه منتن الرائحة لا أنها كراهة شرعية، والله أعلم. ثانياً: لأن تغيره جاء من غير مخالطة، فلم يخالطه شيء لا طاهر ولانجس، والماء طهور في نفسه حتى تخالطه الأخباث العارضة، وهذا ما لم يحصل في الماء الآجن. وأما ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه توضأ بماء آجن، فهذا الحديث يذكره الفقهاء كصاحب المبدع، والروض، ولا يذكرون من خرجه، ولم أجده في كتب السنة من السنن والمسانيد والمعاجم، وقد ذكر ابن قاسم النجدي في حاشيته بأنه رواه البيهقي، وبالرجوع إلى البيهقي لم أجده بهذا اللفظ، وإليك ألفاظه: (20) فقد روى البيهقي، قال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو جعفر محمد بن عبد الله البغدادي، ثنا محمد بن عمرو بن خالد، ثنا أبي، ثنا ابن ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (1/ 6)، وحكاه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 36)، وحكى الإجماع ابن مفلح في المبدع (1/ 36). (¬2) المصنف (1/ 46) رقم 458. (¬3) ورواه أبو عبيد في كتاب الطهور (ص: 310).

لهيعة، ثنا أبو الأسود، عن عروة في قصة أحد وما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه، قال: وسعى علي بن أبي طالب إلى المهراس، فأتى بماء في مجنة، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشرب منه، فوجد له ريحاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا ماء آجن، فمضمض منه، وغسلت فاطمة عن أبيها الدم (¬1). [ضعيف] (¬2). (21) وروى البيهقي أيضاً، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني من لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، قال: فلما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فم الشعب، خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس، ثم جاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشرب منه، فوجد له ريحاً، فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه، وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه - صلى الله عليه وسلم - (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 269). (¬2) وهذا فيه علتان: الأولى: أنه مرسل. والثانية: فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف وسيأتي إن شاء الله بيان ابن لهيعة وأنه ضعيف مطلقاً قبل احتراق كتبه وبعدها. (¬3) سنن البيهقي (1/ 269). (¬4) وهذا فيه علتان أيضاً: =

(22) وقال ابن المنذر: احتج إسحاق بحديث روي عن الزبير بن العوام، قال إسحاق: أنا وهب بن جرير، ثنا أبي، قال: سمعت محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعدين في أحد، قال: ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب فأتى المهراس، فأتى بماء في درقته، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشرب منه، فوجد له ريحاً، فعافه، فغسل به الدماء التي في وجهه، وهو يقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الذي أدمى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عتبة بن أبي وقاص. قال إسحاق: ففي ذلك بيان على أنه طاهر، ولولا ذلك لم يغسل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدم به (¬1). [إسناده صحيح] وإذا ثبت أنه ليس بنجس، فإنه طهور؛ لأن الماء إما طهور وإما نجس، ولا ثالث لهما كما تبين في الخلاف السابق عند الكلام على أقسام الماء، والله أعلم. ¬

= الأولى: كونه مرسلاً. الثانية: فيه رجل مبهم، ومع ذلك اختلف فيه على ابن إسحاق. قال البيهقي: هكذا رواه يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق ورواه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن وهب بن جرير عن أبيه عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، وهو إسناد موصول. اهـ كلام البيهقي. (¬1) الأوسط لابن المنذر (1/ 260).

المبحث الرابع الماء المتغير بالملح

المبحث الرابع الماء المتغير بالملح ويشتمل على فرعين: الفرع الأول: الماء إذا وضع فيه ملح فتغير به. الفرع الثاني: الخلاف في ماء البحر.

الفرع الأول الماء إذا وضع فيه ملح فتغير به

الفرع الأول الماء إذا وضع فيه ملح فتغير به اختلف العلماء في الماء المتغير بالملح: فقيل: طهور مطلقاً، سواء كان الملح مائياً أو معدنياً، طرح قصداً أو من غير قصد، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3)، ¬

(¬1) مذهب الحنفية أوسع المذاهب من جهة الماء إذا تغير بشيء طاهر سواء كان من الملح أو من غيره، ولذلك قال ابن نجيم في البحر الرائق (1/ 71): " يجوز الوضوء بالماء، ولو خالطه شيء طاهر، فغير أحد أوصافه التي هي: الطعم واللون والريح ". اهـ فلا يقيدون التغير أن يكون مما لا يمكن حفظ الماء عنه، ولا بكونه تراباً، ولا بكونه ملحاً مائياً. وبخصوص التغير بالملح فلهم قيد أن يكون ماء انعقد به الملح، لا بماء الملح: أي الحاصل بذوبان الملح. والفرق بينهما أن ماء الملح: يجمد في الصيف، ويذوب في الشتاء عكس الماء. فماء الملح: هو ماء يتحول إلى ملح لجوهر الماء، وليس بسبب الأرض السبخة، وله عيون تسمة عيون الملح تنبع ماء، ثم يتحول إلى ملح. فالحنفية يجوزن الطهارة بماء وقع فيه ملح بسبب الأرض ونحوها، ولا يجوزن الطهارة بماء الملح؛ لأنهم يرونه جنساً آخر غير الماء. انظر تبيين الحقائق (1/ 19)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 21)، (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 36،37)، شرح خليل (1/ 69). وقال في مواهب الجليل (1/ 57): " الماء إذا تغير بشيء طرح فيه، وكان ذلك المطروح من جنس ما هو من قرار الماء كالتراب والملح، فإن ذلك لا يسلبه الطهورية، ولو كان الطرح قصداً، وهذا هو المشهور. وقيل: إن ذلك يسلبه الطهورية إذا كان الطرح قصداً، حكاه المازري وغيره، ونقله ابن عرفة. وانظر المنتقى شرح الموطأ (1/ 55). (¬3) روضة الطالبين (1/ 11).

واختاره ابن تيمية (¬1). وقيل: إن تغير بملح مائي فهو طهور، وإن تغير بملح معدني فهو طاهر غير مطهر، وهذا ما عليه أكثر أصحاب الإمام الشافعي (¬2). وقيل: أن تغير بملح معدني فإنه طاهر .. وإن تغير بملح مائي فإنه طهور ¬

(¬1) لا يفرق ابن تيمية رحمه الله بين ما تغير بالملح، أو تغير بشيء طاهر، فكل ذلك عنده طهور، ما دام يسمى ماء، انظر مجموع الفتاوى (21/ 24)، والفتاوى المصرية (ص: 5). بل إن ابن تيمية رحمه الله لا يثبت القسم الطاهر، ويرى أن الماء قسمان: طهور ونجس. (¬2) قال النووي في روضة الطالبين: والمتغير بالملح فيه أوجه: أصحها: يسلب الجبلي منه دون المائي. والثاني: يسلبان. والثالث: لا يسلبان. وانظر المجموع (1/ 151). ويشترط في الجبلي حتى يكون سالباً للطهورية أن لا يكون بممر الماء، فإن كان بممر الماء لم يسلبه الطهورية لمشقة التحرز منه، كما سبق تحريره في مسألة الماء المتغير بما يشق صون الماء عنه. انظر أسنى المطالب (1/ 8). قال الماوردي: الماء الذي ينعقد منه ملح إن بدأ في الجمود، وخرج عن حد الجاري، لم تجز الطهارة به. وإن كان جارياً فهو ضربان: ضرب يصير ملحاً لجوهر التربية كالسباخ إذا حصل فيها مطر أو غيره صار ملحاً، جازت الطهارة به. وضرب يصير ملحاً لجوهر الماء كأعين الملح التي ينبع ماؤها مائعاً، ثم يصير ملحاً، فظاهر مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه: جواز الطهارة به؛ لأن اسم الماء يتناوله في الحال، وإن تغير في وقت آخر، كما يجمد الماء فيصير ثلجاً. وقال أبو سهل الصعلوكي: لا يجوز؛ لأنه جنس آخر كالنفط، وكذا نقل القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وجهين في الماء الذي ينعقد منه ملح، وعبارة البغوي: ماء الملاحة، والصواب الجواز مطلقاً مادام جارياً، والله أعلم. اهـ

دليل من قال الماء طهور.

مكروه، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬1). وقيل: إن طرح فيه الملح قصداً سلبه الطهورية، وإلا فلا، وهو قول في مذهب المالكية اختاره ابن يونس (¬2)، ووجه في مذهب الإمام أحمد (¬3). دليل من قال الماء طهور. الدليل الأول: (23) ما رواه البخاري، قال حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم ¬

(¬1) مطالب أولي النهى (1/ 31، 32)، (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 37) قال: " والأرجح عند ابن يونس السلب للطهورية بالملح المطروح قصداً، وهو ضعيف " اهـ وانظر مواهب الجليل (1/ 57). وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 32): " حاصله أن المتأخرين اختلفوا في الملح المطروح قصداً: فقال ابن أبي زيد: لا ينقل حكم الماء كالتراب، وهذا هو المذهب. وقال القابسي: إنه كالطعام، فينقله، واختاره ابن يونس. وقال الباجي: المعدني كالتراب، والمصنوع كالطعام، فهذه ثلاث طرق للمتأخرين. ثم اختلف من بعدهم: هل ترجع هذه الطرق إلى قول واحد؟ فيكون من جعله كالتراب أراد المعدني. ومن جعله كالطعام أراد المصنوع، وحينئذ اتفقت الطرق على أن المصنوع يضر ... الخ كلامه رحمه الله. (¬3) الإنصاف (1/ 23).

الدليل الثاني

القيامة ملبياً (¬1). الدليل الثاني: (24) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه يعني إزاره (¬2). وجه الاستدلال من الحديثين: أن السدر أضيف إلى الماء، ولا بد أن يتغير به، ومع ذلك لم يمنع أن يتطهر به الميت، وما طهر الميت طهر الحي إذ لا فرق، وإذا كان السدر لم يسلب الماء الطهورية لم يسلبه الملح من باب أولى. الدليل الثالث: (25) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو وابن أبي بكير، قالا: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ قالت: اغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة من إناء واحد قصعة فيها أثر العجين (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1265) ومسلم (1206). (¬2) صحيح البخاري (1253) ومسلم (939). (¬3) مسند أحمد (6/ 341، 342).

الدليل الرابع

[إسناده صحيح] (¬1). أن هذا الماء لا بد أن يتغير من العجين لا سيما في آخر الأمر إذا قل الماء وانحل العجين، ولم يمنع هذا من اغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجه، فدل هذا على أن الماء إذا تغير بشىء طاهر يبقى طهوراً، ولا يتحول إلى طاهر غير مطهر (¬2). الدليل الرابع: إثبات قسم من الماء لا طهور ولا نجس، الحاجة إلى بيانه أشد من الحاجة إلى بيان كثير من الآداب والأحكام، لأن المسألة إما أن يتوضأ، وإما أن يتيمم. والمسألة تتعلق بالصلاة التي هى أعظم أركان الإسلام العملية فلو كان هذا القسم موجودا لبينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القول هو الراجح. دليل من فرق بين الملح المائي والمعدني. قالوا: تغير الماء بالملح المائي يشبه تغيره بالتراب؛ وذلك لأن الملح منعقد من الماء، فيكون حكمه حكم الثلج إذا ذاب وتحول إلى ماء فما دام ملحاً لا يجوز الوضوء به، فإذا صار ماء عاد عليه اسم الماء، ولا يضره تغير طعمه به، لأن الملح منه. وأما الملح المعدني فلم يكن قط ماء، فإذا تغير الماء به يكون حكمه كما لو تغير بالطعام، فلا تصح الطهارة منه. والصحيح أن الملح المعدني إذا وقع في الماء فغير أحد أوصافه فإنه ماء، فالماء المالح يسمى ماء على الإطلاق، وإذا كان الماء المالح كالبحر لم يمنع أن ¬

(¬1) سبق تخريجه في الخلاف في أقسام المياه. (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 27، 28).

وجه قول من قال طهور مكروه

يسمى ماء، وتصح الطهارة منه، فكذلك الماء إذا وضع فيه المالح فغير طعمه لا يمنع أن يسمى ماء، ولا يتحول عنه اسم الماء بمجرد أنه تغير، وحكم الماء إذا تغير بشيء طاهر سوف يبحث في مسألة مستقله إن شاء الله. وجه قول من قال طهور مكروه لماذا قالوا: إنه طهور وقد تغير؟ قالوا: لأنه تغير بشيء منعقد من الماء. ولماذا يكون مكروهاً؟ قالوا: لأن بعض العلماء يقولون عنه بأنه طاهر فخروجاً من الخلاف، قلنا: إنه مكروه. وقد سبق أن الكراهة بسبب وجود الخلاف قول ضعيف جداً. وجه من قال إن وضع قصداً سلبه الطهورية. قالوا: لما فارق الملح الأرض أصبح طعاماً لا يجوز التيمم عليه، فصار حكمه حكم إذا وضع فيه شيء طاهر (¬1). والجواب عنه كالجواب عن الذي قبله، ويضاف إليه أن القصد نية متعلقة بالقلب وليست متعلقة بالماء، والقلب أجنبي عن الماء، فكما أنه لا تؤثر النية في تغير الماء بالنجاسة، فإذا تغير بالنجاسة نجس، سواء كان عن قصد أو غير قصد، فكذلك وقوع الشيئ الطاهر بالماء لا تؤثر فيه النية، فإن كان يسلب الماء الطهورية سلبه سواء كان عن قصد أو من غير قصد، وإذا كان لا يسلبه فكذلك. فقيد القصد قيد ضعيف، والله أعلم. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 58).

الراجح

الراجح من الخلاف كما قدمت أن الماء طهور مطلقاً سواء تغير بالملح المائي أو المعدني، وسواء وضع فيه عن قصد أو عن غير قصد.

الفرع الثاني الخلاف في طهورية ماء البحر

الفرع الثاني الخلاف في طهورية ماء البحر في طهورية ماء البحر خلاف شاذ، يلزم ذكره عند الكلام على طهورية ماء البحر ليعلم أن المسألة ليست إجماعاً، وهاك بيان الخلاف فيه: فقيل: ماء البحر طهور، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، وبه قال ابن حزم (¬2). وقيل: يكره التطهر بماء البحر، وهو مروي عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو (¬3). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: الهداية (1/ 17)، البحر الرائق (1/ 166)، بدئع الصنائع (1/ 15)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 43)، شرح فتح القدير (1/ 70)،. وفي مذهب المالكية: انظر حاشية الدسوقي (1/ 34)، أسهل المدارك (1/ 34)، المنتقى للباجي (1/ 55)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 446،447)، الفواكه الدواني (1/ 124). وفي مذهب الشافعية: انظر الأم (1/ 16)، المجموع (1/ 136)، الوجيز (1/ 4). وفي مذهب الحنابلة: انظر المغني (1/ 22،23)، المبدع (1/ 33)، الكافي (1/ 3)، وكشاف القناع (1/ 26)، (¬2) المحلى (1/ 210). (¬3) ذكره الترمذي بعد أن ساق حديث (69)، وانظر: المجموع (1/ 136)، المغني (1/ 22)، المحلى (1/ 210). وقد عبر الترمذي في سننه بالكراهة، فقال: وقد كره بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء بماء البحر منهم ابن عمر وعبد الله بن عمرو. وقال ابن حزم في المحلى (1/ 210): " روينا عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة أن الوضوء للصلاة والغسل من ماء البحر لا يجوز ولا يجزئ ". اهـ والتعبير بعدم الإجزاء هو المنقول عنهما في مصنف بن أبي شيبة كما سيأتي تخريجه عنهم، والكراهة عند =

دليل الجمهور

دليل الجمهور: الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). وجه الاستدلال: كلمة (ماء) نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، نزل من السماء أو نبع من الأرض، إلا ما خصه الدليل، وماء البحر لم يستثن، بل الثابت جواز الوضوء منه. الدليل الثاني: إذا كان طعام البحر، وصيده حلالاً لنا، فيلزم منه أن يكون ماؤه طهوراً، فكيف يكون الطعام حلالاً والماء ليس بطهور، قال سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (¬2). الدليل الثالث: (26) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماء البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته (¬3). [الحديث صحيح، وسبق تخريجه]. الدليل الرابع: القياس على الماء العذب، فإن كلاً منهما باق على أصل خلقته التي ¬

= السلف قد تحمل على كراهة التحريم، والله أعلم. (¬1) المائدة: 6. (¬2) المائدة: 96. (¬3) أحمد (2/ 237).

الدليل الخامس

خلقه الله عليها، ولم يتغير لونه أو ريحه أو طعمه. الدليل الخامس: حكى بعضهم الإجماع على طهوريته، وفي الإجماع نظر: قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الماء الكثير من النيل والبحر، ونحو ذلك إذا وقعت فيه نجاسة، فلم يتغير له لوناً، ولا طعماً، ولا ريحاً (¬1)، أنه بحاله، ويتطهر منه (¬2). وقال ابن جزي من المالكية: الماء المطلق، وهو الباقي على أصله، فهو طاهر مطهر إجماعاً، سواء أكان عذباً أو مالحاً، أو من بحر أو سماء أو أرض (¬3). دليل من قال لا يتطهر بماء البحر. الدليل الأول: (27) رواه سعيد بن منصور في سننه، قال: نا إسماعيل بن زكريا، عن مطرف، عن بشر أبي عبد الله، عن بشير بن مسلم، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله؛ فإن تحت البحر ناراً، وتحت النار بحراً (¬4). ¬

(¬1) الذي يظهر أن النصب خطأ، فلون وطعم وريح، كلها كلمات وقعت مرفوعة، فلون فاعل الفعل (يتغير)، والبقية معطوفة عليها، لكنها هكذا في كتاب الإجماع. (¬2) الإجماع (ص: 33). (¬3) القوانين الفقهية (ص: 44). (¬4) السنن لسعيد بن منصور (2/ 186) رقم 2393.

[حديث ضعيف] (¬1). ¬

(¬1) ومن طريق سعيد بن منصور أخرجه أبو داود (2489)، والبيهقي (4/ 334)، وخرجه الديلمي في الفردوس (5/ 149). والحديث فيه ثلاث علل: الأولى: الاضطراب في إسناده: فقيل: عن بشير بن مسلم، عن ابن عمرو. وقيل: عن بشير بن مسلم، عن رجل، عن ابن عمرو. وقيل: عن بشير أنه بلغه عن ابن عمرو. وقيل: عن مطرف عن بشر، عن بشير. وقيل: عن مطرف، عن بشير، وإليك بيان هذا الاختلاف. واختلف في إسناده، فرواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن زكريا، عن مطرف، عن بشر أبى عبد الله، عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمرو. ورواه البيهقي (4/ 334)، (6/ 18) من طريق سعيد بن سليمان، عن إسماعيل بن زكريا وصالح بن عمر، عن مطرف بن طريف، عن بشير بن مسلم، عن عبد الله بن عمرو، فأسقط من إسناده بشراً أبا عبد الله. وأشار البخاري في التاريخ الكبير إلى أن بشير بن مسلم بينه وبين عبد الله بن عمرو رجل، قال البخاري: بشير بن مسلم الكندي، عن رجل، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يركب البحر الا حاج أو معتمر أو غاز. قاله لنا محمد بن صباح، سمع صالح بن عمر، سمع مطرفاً. وقال لي أبو الربيع: ثنا إسماعيل بن زكريا، عن مطرف، حدثني بشير أبو عبد الله الكندي، عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال البخاري: ولم يصح حديثه. وقال أبو حمزة: عن مطرف، عن بشير أبي عبد الله، عن عبد الله بن عمرو. اهـ وقال الحافظ في التهذيب عن بشير بن مسلم: شيخ لمطرف بن طريف. وقيل: عن مطرف، عن بشر أبي عبد الله الكندي، عن عبد الله. وقيل: عن مطرف، عن بشير بن مسلم، أنه بلغه عن عبد الله بن عمرو. وقيل: غير ذلك. تهذيب التهذيب (1/ 410). =

وجه الاستدلال: قالوا: إن البحر طبق جهنم، وما كان طبق سخط، لا يكون طريقاً للطهارة والرحمة، وقياساً على نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء بماء ثمود (¬1). وأجيب: أولاً: بأن الحديث ضعيف، وقد تبين ضعفه من خلال الكلام على إسناده. ثانياً: قال ابن قدامة: قولهم: هو نار، إن أريد به أنه نار في الحال، فهو خلاف الحس، وإن أريد أن يصير ناراً لم يمنع ذلك الوضوء به في حال كونه ¬

= العلة الثانية: ضعف بشير بن مسلم، فقد جاء في ترجمته: ذكره ابن حبان من أتباع التابعين، وعليه فلا يمكن أن يروي عن عبد الله بن عمرو، انظر الثقات (6/ 100)، وانظر التهذيب (1/ 410). وسكت عليه ابن أبي حاتم، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (2/ 378). وقال مسلمة بن قاسم: مجهول. التهذيب (1/ 410). وفي التقريب: بشير بن مسلم: مجهول. العلة الثالثة: ضعف بشر أبي عبد الله الكندي، لم يرو عنه إلا مطرف، ولم يوثقه أحد. قال الذهبي: لا يكاد يعرف. تهذيب التذيب (1/ 405). وقد ضعف الحديث جماعة من أهل العلم: قال البخاري: لم يصح حديثه، وسبق العزو إليه. وقال ابن عبد البر: وهو حديث ضعيف مظلم الإسناد، لا يصححه أهل العلم بالحديث؛ لأن رواته مجهولون، لا يعرفون، وحديث أم حرام هذا يرده. التمهيد (1/ 240). وممن ضعف الحديث الخطابي في معالم السنن (3/ 359)، والنووي كما في المجموع (1/ 137). والله أعلم. (¬1) القبس (1/ 141، 142)، البناية (1/ 299).

الدليل الثاني

ماء (¬1). الدليل الثاني: (28) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، عن هشام، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، قال: ماء البحر لا يجزيء من وضوء ولا جنابة، إن تحت البحر ناراً، ثم ماء، ثم نار (¬2). [إسناده صحيح، وعنعنة قتادة قد روى عنه شعبة، وهو لا يحمل عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث، لكن لا حجة بالموقوف إذا خالف المرفوع] (¬3). الدليل الثالث: (29) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن قتادة، ¬

(¬1) المغني (1/ 23). (¬2) المصنف (1/ 122) رقم 1394. (¬3) رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 334) من طريق أبي داود، عن شعبة وهمام، عن قتادة به، وزاد: حتى عد سبعة أبحر، وسبعة أنيار. ورواه الجوزجاني في الأباطيل (1/ 345) من طريق ابن المهاجر، عن هشام الدستوائي، عن قتادة به. قال الجوزجاني: هذا حديث باطل، تفرد به محمد بن المهاجر، ومحمد بن المهاجر كان يضع الحديث. اهـ وقد علمت أن ابن المهاجر لم يتفرد به. ورواه عبد الرزاق في المصنف (1/ 93) عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من الانصار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ماءان لا ينقيان من الجنابة: ماء البحر وماء الحمام. قال معمر: سألت يحيى عنه بعد حين، فقال: قد بلغني ما هو أوثق من ذلك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ماء البحر؟ فقال: ماء البحر طهور، وحل ميتته. وفي إسناده رجل مبهم.

الدليل الرابع

عن عقبة بن صهبان، قال: سمعت ابن عمر يقول: التيمم أحب إلي من الوضوء من ماء البحر (¬1). [إسناده صحيح، ولا حجة في موقوف خالف مرفوعاً] (¬2). الدليل الرابع: (30) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال: ماءان لا يجزيان من غسل الجنابة ماء البحر وماء الحمام (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) مصنف بن أبي شيبة (1/ 122) رقم 1393. (¬2) ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 249) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به. (¬3) المصنف (1/ 122) رقم 1395. (¬4) فيه رجل مبهم، ومع وجود هذا الرجل المبهم قد اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير، فرواه هشام الدستوائي، عن يحيى، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة كما في المصنف. ورواه عبد الرزاق في المصنف (318) عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، فجعله من مسند أبي هريرة. وقد رواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء بماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتتة. وهذا اللفظ هو المعروف من حديث أبي هريرة، والله أعلم.

المبحث الخامس إذا تغير الماء بشيء طاهر

المبحث الخامس إذا تغير الماء بشيء طاهر ويشتمل على فرعين: الفرع الأول: الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه. الفرع الثاني: خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ.

الفرع الأول الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه.

الفرع الأول الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه. سبق أن بحثنا ثلاث مسائل في تغير الماء الطهور بشيء طاهر. الأولى: إذا كان هذا الطاهر يشق الاحتراز منه. الثانية: إذا كان هذا الطاهر لا يمازج الماء. الثالثة: إذا كان هذا الطاهر أصله منعقد من الماء كالتغير بالملح المائي. ومسألتنا هذه إذا وقع في الماء الطهور شيء طاهر ممازج للماء يمكن التحرز منه، ولم يكن ملحاً. فاختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: يكون الماء طاهراً غير مطهر، يصلح للأكل والشرب، ولا يصلح أن يرفع به حدث، أو أن تزال به نجاسة، وهذا مذهب الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: إن الماء طهور يرفع الحدث، ويزيل النجاسة، وهو مذهب ¬

(¬1) المقدمات الممهدات (1/ 86)، بداية المجتهد (2/ 271)، الفواكه الدواني (1/ 124)، حاشية الدسوقي (1/ 37، 38) (¬2) مغني المحتاج (1/ 18)، والمجموع (1/ 150)، وكفاية الأخيار (1/ 23)، الحاوي الكبير (1/ 46). (¬3) قال أبو الخطاب في الانتصار (1/ 122): إذا تغير الماء بشيء من الطاهرات تغيراً أزال اسم الماء عنه لم يرتفع الحدث به. قال أحمد في رواية حرب: لا تتوضأ بكل شيء زال عنه اسم الماء، وأراد إطلاق الاسم. الخ كلامه. وقال أيضاً في رواية عبد الله (1/ 22): " كل شيء يتحول عن اسم الماء لا يعجنبي أن يتوضأ به ". اهـ وانظر منتهى الإرادات (1/ 17)، كشاف القناع (1/ 30)، والفروع (1/ 79) والمبدع (1/ 41) الإنصاف (1/ 32).

دليل الجمهور على أن الماء طاهر.

الحنفية (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2)، وابن تيمية (¬3). دليل الجمهور على أن الماء طاهر. استدلوا من القرآن بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬4). وجه الاستدلال: الماء ورد في الآية مطلقاً لم يقيد بشىء، والماء المطلق هو الماء الباقي على خلقته. أما الماء المتغير فلا يسمى ماء مطلقاً، إنما يضاف إلى تلك المادة التي يتغير بها كماء ورد أو زعفران أو ماء غريب، أو ماء مستعمل ونحو ذلك. إذاً دلت الآية على أن الطهارة بالماء المطلق، فإن لم يوجد انتقلنا إلى ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 71)، البناية في شرح الهداية (1/ 304)، واشترط الحنفية أن يكون باقياً على رقته أما إذا غلب عليه غيره وصار به ثخيناً فلا يجوز، والغلبة عندهم على الصحيح من حيث الأجزاء، لا من حيث اللون، وهو اختيار أبي يوسف خلافاً لمحمد. ولذلك قال قاضي خان: لا يتوضأ بماء الورد والزعفران، ولا بماء الصابون والحرض إذا ذهبت رقته، وصار ثخيناً، فإن بقيت رقته ولطافته جاز التوضوء به. انظر تبيين الحقائق (1/ 1/19). وقال في كتاب الهداية: " وتجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه كماء المد، والماء الذي اختلط به اللبن أو الزعفران أو الصابون أو الأشنان ". انظر كتاب الهداية مطبوع مع نصب الراية (1/ 155)، والعناية شرح الهداية (1/ 71). (¬2) قال ابن حزم في المحلى (مسألة: 147): " وكل ماء خالطه شيء طاهر مباح فظهر فيه لونه وريحه وطعمه إلا أنه لم يزل عنه اسم الماء، فالوضوء به جائز، والغسل به للجنابة جائز ". (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 24)، والفتاوى المصرية (ص: 50)، الاختيارات (ص: 3). (¬4) المائدة: 6.

دليل من قال الماء طهور

التيمم (¬1). الدليل الثاني: من النظر. قال ابن العربي: المخالط للماء على ثلاثة أضرب: ضرب يوافقه في صفتيه جميعاً: الطهارة والتطهير، فإذا خالطه فغيره، لم يسلبه وصفاً منهما، لموافقته له فيهما، وهو التراب. وضرب يوافق الماء في إحدى صفتيه، وهي الطهارة، ولا يوافقه في صفته الأخرى، وهي التطهير، فإذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه، وهو التطهير، دون ما وافقه، وهي الطهارة، كماء الورد، وسائر الطهارات. والضرب الثالث: مخالفته في الصفتين جميعاً، وهي الطهارة والتطهير، فإذا خالطه فغيره، سلبه الصفتين جميعاً، لمخالفته له فيهما، وهو النجس (¬2). دليل من قال الماء طهور الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬3). وجه الاستدلال: أن كلمة " ماء " نكرة فى سياق النفى فتعم كل ماء سواء كان مطلقاً أومقيداً، متغيراً أو غير متغير، مستعملاً أو غير مستعمل، خرج الماء النجس بالإجماع وبقى ما عداه على أنه طهور (¬4). ¬

(¬1) بتصرف - الفتاوى (21/ 24)، والحاوي الكبير (1/ 48)، والأوسط (1/ 257). (¬2) أحكام القرآن - ابن العربي (3/ 439). (¬3) المائدة: 6. (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 25)، الكافي (2/ 5)، الزركشي (1/ 119).

الدليل الثاني

وقال ابن المنذر: قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (¬1)، فالطهارة على ظاهر كتاب الله بكل ماء إلا ما منع منه كتاب أو سنة أو إجماع. والماء الذي منع الإجماع الطهارة منه هو الماء الذى غلبت عليه النجاسة بلون أوطعم أو ريح (¬2). الدليل الثاني: (31) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو وابن أبي بكير، قالا: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ قالت: اغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة من إناء واحد قصعة فيها أثر العجين (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). فهذا ماء وقع فيه عجين، ولا بد أن يتغير الماء خاصة إذا قل الماء وانحل العجين، ومع ذلك لم يمنع من التطهر به. الدليل الثالث (32) ما رواه البخاري، قال حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) الأوسط (1/ 268). (¬3) مسند أحمد (6/ 341، 342). (¬4) سبق تخريجه في الخلاف في أقسام المياه.

الدليل الرابع

وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً (¬1). الدليل الرابع: (33) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه يعني إزاره (¬2). وجه الاستدلال من الحديثين: أن السدر أضيف إلى الماء، لا بد أن يتغير به، ومع ذلك لم يمنع أن يتطهر به الميت، وما طهر الميت طهر الحي إذ لا فرق. الدليل الخامس: من الآثار (34) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن ابن عباس، قال: يجزئه أن لا يعيد على رأسه الغسل - يعني إذا غسل رأسه بالخطمي. [إسناده صحيح] (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1265) ومسلم (1206). (¬2) صحيح البخاري (1253) ومسلم (939). (¬3) المصنف (1/ 71) رقم 775.

الآثر الثاني: (35) روى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع، قال عبد الله: من غسل رأسه بالخطمي، وهو جنب، فقد أبلغ الغسل [إسناده حسن] (¬1). ¬

(¬1) المصنف (1/ 71) رقم 771. هذا الأثر موقوف على ابن مسعود، وقد رواه عنه جماعة منهم: الأول: الحارث بن الأزمع. أخرجه عبد الرزاق (1008) ومن طريقه الطبراني (9/ 254) عن الثوري. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 207) والطبراني (9/ 254) من طريق شعبة. وأخرجه عبد الرزاق (1009) والبيهقي (1/ 183) من طريق سفيان بن عيينة. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 71) عن أبي الأحوص وزكريا بن أبي زائدة فرقهما. والطبراني في الكبير (9/ 254) من طريق زهير بن معاوية وحجاج بن أرطاة كلهم رووه عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع به. والحارث بن الأزمع، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروى عن عمر، وابن مسعود، وعمرو بن العاص. الثقات (4/ 126). وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. الطبقات الكبرى (6/ 119). وقال العجلي: من أصحاب عبد الله، ثقة. معرفة الثقات (1/ 277). وذكره ابن أبي حاتم، وذكر أنه يروى عن عمر وابن مسعود وعمرو بن العاص، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/ 69). ومن كان مثله من كبار التابعين بحيث يروى عن عمر، وكان قليل الحديث كما قال ابن سعد، ووثقه ابن حبان والعجلي، لا يضره أن يسكت عليه. وعنعنة أبي إسحاق قد زالت برواية شعبة عنه، الثاني: سارية بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود به. رواه الأعمش، واختلف عليه: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فرواه ابن أبي شيبة (1/ 71) من طريق سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن مسعود. بدون ذكر سارية، وقد أشار ابن أبي شيبة أن الثوري لم يذكر سارية في إسناده، إلا أن البخاري في التاريخ الكبير (4/ 407) قال: قال ابن يوسف، عن سفيان، عن الأعمش، عن سالم، عن سارية عن ابن مسعود. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 71) عن حفص، عن الأعمش، عن سالم، عن سارية، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. فزاد حفص ذكر سارية. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 407) عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن سارية به. وذكره البخاري في التاريخ الكبير (4/ 207) وعلقه البيهقي (1/ 183) من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثابت بن قطبة، عن ابن مسعود. وأعله البيهقي (1/ 183) ورجح رواية سفيان الثوري عن الأعمش. أي بذكر سارية بدلاً من ثابت ابن قطبة. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 71) رقم 776 قال حدثنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: إذا غسل الجنب رأسه بالخطمي أجزأه ذلك. قال إبراهيم: مثل ذلك، أو قال: لا يعيد عليه. ورجاله ثقات إلا أن إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود. وأخرجه الطبراني في الكبير (9/ 254) من طريق زائدة بن قدامة عن الأعمش به. هذا هو الاختلاف على الأعمش، فأما أن نرجح أو نضعف طريق الأعمش، وعلى كلا الاحتمالين يبقى طريق الحارث حديث حسن، لم يختلف عليه فيه. فذكر ثابت بن قطبة انفرد به أبو عوانة من سائر الرواة عن الأعمش، فذكره شاذ. وأما طريق سارية وإبراهيم فمدراهما على الأعمش، وسفيان الثوري من أثبت أصحاب الأعمش قد نص على ذكر سارية في إسناده، وهو مقدم على غيره في الأعمش، وقد توبع، أما ذكر إبراهيم في إسناده فقد رواه حفص بن غياث، وحفص قد تكلم في حفظه لحديث الأعمش، تكلم فيه الإمام أحمد وغيره. انظر شرح علل الترمذي لابن رجب (ص: 297). وقد اختلف على حفص فتارة يرويه كما رواه سفيان الثوري، وتارة يرويه بذكر =

(36) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن مهدي، عن غياث. وحدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن صفية، عن سعيد بن جبير في الجنب يغسل رأسه بالسدر، قال: لا يغسل رأسه. [إسناده صحيح] (¬1). قال ابن حزم في المحلى: وهذا قول ثابت عن ابن مسعود، قال: إذا غسل رأسه بالخطمي أجزأه ذلك، وكذلك نصاً عن ابن عباس. وروي أيضاً هذا عن علي بن أبي طالب، وثبت عن سعيد بن المسيب، وابن جريج، وعن صواحب النبي - صلى الله عليه وسلم - من نساء الأنصار، والتابعات منهن أن المرأة الجنب والحائض إذا امتشطت بحنا رقيق أن ذلك يجزؤها من غسل رأسها للحيضة والجنابة، ولا تعيد غسله، وثبت عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن جبير أنهم قالوا في الجنب يغسل رأسه بالسدر والخطمي أنه يجزؤه ذلك من غسل رأسه للجنابة (¬2). اهـ وهذا القول هو الراجح، والله أعلم. ¬

= إبراهيم، وأما طريق زائدة فقد تابع فيه حفص بذكر إبراهيم إلا أنه انفرد به الطبراني في المعجم الكبير، وهو إذا تفرد بحديث كان من مظنة الحديث المنكر والغريب، نص عليه ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي (ص: 70). وعلى كل حال، فالاختلاف على الأعمش كما قلنا لا يؤثر على طريق الحارث لسلامته من الاختلاف، وقد رجح البخاري في تاريخه الكبير بعد أن ساق طرق الحديث، قال: (4/ 207): حديث الحارث أصح. وقد استفدت أكثر هذا التخريج مما كتبه لي أخونا الشيخ خالد الغصن وفقه الله. (¬1) المصنف (1/ 71). (¬2) المحلى (مسألة 147).

الفرع الثاني خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ

الفرع الثاني خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ اتفق العلماء على أن الحدث يرفع بالماء الطهور، واختلفوا في رفعه بالنبيذ فقيل: يتوضأ به إن لم يجد غيره، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1). وقيل: يتوضأ به ويتيمم، وهو مذهب محمد بن الحسن (¬2). وقيل: يتيمم، ولا يتوضأ به، وهو مذهب المالكية (¬3)،والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، واختاره أبو يوسف والطحاوي من الحنفية (¬6)، وهو رواية عن ¬

(¬1) المبسوط (2/ 90)، بدائع الصنائع (1/ 15)، العناية شرح الهداية (1/ 118)، أحكام القرآن (2/ 543). (¬2) البناية (1/ 464)، وفتح القدير (1/ 118، 119)، بدائع الصنائع (1/ 15) .. (¬3) قال مالك في المدونة (1/ 114): " ولا يتوضأ بشيء من الأنبذة، ولا العسل الممزوج بالماء، قال: والتيمم أحب إلي من ذلك " اهـ. (¬4) انظر الأم (1/ 7) قال النووي في المجموع (1/ 140): " أما النبيذ فلا يجوز الطهارة به عندنا على أي صفة كان من عسل أو تمر، أو زبيب، أو غيرها، مطبوخاً كان أو غيره، فإن نشَّ أو أسكر فهو نجس يحرم شربه، وعلى شاربه الحد، وإن لم ينش فطاهر لا يحرم شربه، ولكن لا تجوز الطهارة به، هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف والجمهور " اهـ. (¬5) مسائل أحمد رواية عبد الله (1/ 22)، ومسائل ابن هانئ (1/ 5)، ومسائل أحمد وإسحاق (1/ 127)، المغني (1/ 23)، الانتصار في المسائل الكبار (1/ 136)، الكافي لابن قدامة (1/ 6)، المبدع (1/ 42)، تنقيح التحقيق (1/ 225). (¬6) بدائع الصنائع (1/ 15) المبسوط (2/ 90)، تبيين الحقائق (1/ 35)، العناية شرح الهداية (1/ 118).

الدليل على أن الحدث يرفع بالماء الطهور.

أبي حنيفة (¬1)، وهو اختيار ابن حزم (¬2). الدليل على أن الحدث يرفع بالماء الطهور. الإجماع أن الماء الطهور يرفع الحدث (¬3). قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الحدث لا يرفع بسائل آخر غير الماء كالزيت والدهن والمرق (¬4). وقال الغزالي: الطهورية مختصة بالماء من بين سائر المائعات، أما في طهارة الحدث فبالإجماع (¬5). وتعقبه النووي في المجموع شرح المهذب، فقال: حكى أصحابنا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي بكر الأصم: أنه يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة بكل مائع طاهر، قال القاضي أبو الطيب إلا الدمع فإن الأصم يوافق على منع الوضوء به، ثم قال: والأول أرجح؛ قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (¬6)، فأحالنا إلىالتيمم عند عدم الماء ولم ينقلنا إلى سائل آخر (¬7). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 35). (¬2) المحلى (مسألة: 148). (¬3) نقل الإجماع ابن المنذر في الأوسط (1/ 246) ولم يستثن من الماء الطهور إلا ماء البحر فإنه قد وقع فيه خلاف، وانظر حاشية ابن قاسم (1/ 59) رقم ثلاثة من الحاشية. (¬4) الأوسط لابن المنذر (1/ 253). (¬5) الوسيط (1/ 107، 108). (¬6) المائدة: 6. (¬7) المجموع (1/ 139) وقال النووي: وأما قول الغزالي في الوسيط: طهارة الحدث مخصوصة بالماء بالإجماع، فمحمول على أنه لم يبلغه قول ابن أبي ليلى إن صح عنه. اهـ

دليل الحنفية على جواز الوضوء بالنبيذ.

دليل الحنفية على جواز الوضوء بالنبيذ. الدليل الأول: (37) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن زكريا، عن إسرائيل، عن أبي فزارة، عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث، عن ابن مسعود، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة لقي الجن، فقال: أمعك ماء؟ فقلت: لا. فقال: ما هذه الإداوة؟ قلت: نبيذ. قال: أرنيها تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ منها، ثم صلى بنا (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (1/ 402). (¬2) فيه أبو زيد، جاء في ترجمته: قال الترمذي: " أبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث. لايعرف له راوية غير هذا الحديث ". سنن الترمذي (1/ 147). وقال البخارى: " أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثمرة طيبة وماء طهور " رجل مجهول لايعرف بصحبة عبد الله، وروى علقمة عن عبد الله أنه قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". الكامل (7/ 291)، البيهقي (1/ 10). وقال الحاكم: " رجل مجهول لايوقف على صحة كنيته ولا اسمه ولايعرف له راوياً غير أبي فزارة ولا رواية من وجه ثابت إلا هذا الحديث الواحد. تهذيب الكمال (33/ 332). وقال ابن عدي: " وهذا الحديث مداره على أبي فزارة، عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث، عن ابن مسعود وأبو فزارة مشهور واسمه راشد بن كيسان، وأبو زيد مولى عمرو بن حريث مجهول، ولا يصح هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو خلاف القرآن. الخ ". الكامل (7/ 292). وقال ابن حبان: " يروى عن ابن مسعود ما لم يتابع عليه، ليس يدرى من هو، لا يعرف أبوه، ولا بلده، والإنسان إذا كان بهذا النعت، ثم لم يرو إلا خبراً واحداً خالف فيه الكتاب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والسنة والاجماع والقياس والنظر والرأي يستحق مجانبته فيها ولا يحتج بها ". المجروحين (3/ 158). وقال أبو بكر بن أبي داود: " كان أبو زيد هذا نباذاً فى الكوفة. تهذيب الكمال (33/ 332). وقال ابن عبد البر: اتفقوا على أن أبا زيد مجهول، وحديثه منكر. تهذيب التهذيب (12/ 113). [تخريج الحديث] هذا الإسناد مداره على أبي فزارة، عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث، عن ابن مسعود، ورواه جماعة عن أبي فزارة، منهم إسرائيل، وسفيان، وشريك، وأبو عميس، وقيس بن الربيع، والجراح بن مليح وغيرهم: فأما طريق إسرائيل، عن أبي فزارة، فأخرجه أحمد كما في حديث الباب، وعبد الرزاق في المصنف (1/ 179) والشاشي (828)، والطبراني في الكبير (9963)، وابن عدي في الكامل (7/ 292) وابن الجوزي في العلل المتناهية (587). وأما طريق سفيان، عن أبي فزارة، فأخرجه عبد الرزاق في المصنف (693) عنه، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (1/ 449) وابن ماجه (384) والطبراني في الكبير (9963)، والبيهقي (1/ 9). وأخرجه الشاشي في مسنده (827) من طريق أبي حذيفة، نا سفيان به. وأما طريق شريك، عن أبي فزارة، فأخرجه أبو داود (84) حدثنا هناد وسليمان بن داود العتكي، قالا: ثنا شريك به. وأخرجه الترمذي (88) حدثنا هناد، حدثنا شريك به. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (5046) حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا شريك بن عبد الله به. وأخرجه الطبراني في الكبير (10/ 65) رقم 9964 من طريق أبي الربيع الزهراني، ثنا شريك به. وأخرجه الطبراني أيضاً (10/ 65) 9965 من طريق عبد الوارث أبي عبد الله الشقري، عن شريك به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأما طريق الجراح والد وكيع، عن أبي فزارة. فأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو يعلى في مسنده (5301) عن وكيع، عن أبيه، عن أبي فزارة به، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (384). وأخرجه ابن ماجه (384) حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع به. ومن طريق وكيع أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 66) رقم 9967 وأما طريق أبي عميس عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، عن أبي فزارة. فأخرجه أحمد (1/ 458، 459) حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني أبو عميس عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، عن أبي فزارة به، وفيه زيادات لم ترد في سائر الطرق. وسنده إلى أبي فزارة إسناد حسن؛ وقد صرح بالتحديث ابن إسحاق إلا أن علته كما سبق أبو زيد. وأخرجه الطبراني في الكبير (9966) من طريق الإمام أحمد بهذا الإسناد. وأخرجه أيضاً من طريق عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي عميس. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 313) " رواه أبو داود وغيره باختصار، ورواه أحمد، وفيه أبو زيد مولى عمرو بن حريث، وهو مجهول. وأما طريق قيس بن الربيع، عن أبي فزارة، فأخرجه الطبراني في الكبير (9962)، والبيهقي في السنن (1/ 9)، هذا ما وقفت عليه من طريق أبي فزارة. الطريق الثاني: عن ابن عباس، عن ابن مسعود. أخرجه أحمد (398) قال: ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الله أمعك ماء؟ قال: معي نبيذ في إداوة، فقال: اصبب علي، فتوضأ. قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الله بن مسعود شراب طهور. وإسناده ضعيف فيه ابن لهيعة، وضعفه مشهور. وفيه قيس بن الحجاج. قال أبو حاتم الرازي: صالح. الجرح والتعديل (7/ 95). وقال ابن يونس: كان رجلاً صالحاً. تهذيب التهذيب (8/ 348). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 329). وفي التقريب: صدوق. وبقية رجال الإسناد ثقات. والحديث أخرجه أحمد كما قدمنا من طريق يحيى بن إسحاق، عن ابن لهيعة به من مسند ابن مسعود. وتابعه عليه يحيى بن بكير فقد أخرجه الدار قطنى (1/ 76) والطبراني (9961) والبزار (1437) من طريق يحيى بن بكير، عن ابن لهيعة به، من مسند ابن مسعود. وخالفهما أسد بن موسى، ومروان بن محمد، فروياه عن ابن لهيعة به من مسند ابن عباس. فقد أخرجه ابن ماجه (385) قال: حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي، ثنا مروان بن محمد، ثنا ابن لهيعة، ثنا قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود ليلة الجن: معك ماء؟ قال: لا إلا نبيذاً في سطيحة، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تمرة طيبة وماء طهور صب علي، قال: فصببت عليه، فتوضأ به. وأخرجه الطحاوي (1/ 94) من طريق أسد بن موسى، عن ابن لهيعة به. قال البزار كما في البحر الزخار (4/ 268): وهذا الحديث لا يثبت لابن لهيعة؛ لأن ابن لهيعة كانت قد احترقت كتبه، فكان يقرأ من كتب غيره، فصار في أحاديثه أحاديث مناكير، وهذا منها. اهـ فالحديث ضعيف. الطريق الثالث: عن أبي رافع، عن ابن مسعود. أخرجه أحمد (1/ 455) قال: ثنا أبو سعيد، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن خط حوله، فكان يجيء أحدهم مثل سواد النخل، وقال لي: لا تبرح مكانك، فأقرأهم كتاب الله عز وجل، فلما رأى الزط قال: كأنهم هؤلاء، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمعك ماء؟ قلت: لا. قال: أمعك نبيذ؟ قلت: نعم، فتوضأ به. وأخرجه الدار قطنى (1/ 77) وابن الجوزي في العلل المتناهية (588) من طريق أبي سعيد به. وأخرجه الدار قطنى (1/ 77) من طريق عبد العزيز بن أبي رزمة نا حماد بن سلمة به. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 95) من طريق أبي عمرو الحوضي قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثنا حماد بن سلمة به. قال الدارقطنى: علي بن زيد ضعيف، وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود، وليس هذا الحديث في مصنفات حماد بن سلمة. في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. وأما قول الدارقطني رحمه الله: إن أبا رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود، فقد نقل الزيلعي في نصب الراية (1/ 141) عن الشيخ ابن دقيق في "الإمام " قوله: " وهذا الطريق أقرب من طريق أبي فزارة، وإن كان طريق أبي فزارة أشهر، فإن علي بن زيد وإن ضعف فقد ذكر بالصدق. قال: وقول الدارقطني: وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود لا ينبغي أن يفهم منه أنه لا يمكن إدراكه وسماعه منه، فإن أبا رافع الصائغ جاهلي إسلامي. قال أبو عمر ابن عبد البر في الاستيعاب: " وهو مشهور من علماء التابعين ". وقال في الاستيعاب: " لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من كبار التابعين اسمه نفيع، وكان أصله من المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، روى عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود وروى عنه خلاس بن عمرو الهجري، والحسن البصري، وقتادة، وثابت البناني، وعلي بن زيد، ولم يرو عنه أهل المدينة. وقال عنه في الاستيعاب: عظم روايته عن عمر وأبي هريرة، ومن كان بهذه المثابة فلا يمتنع سماعه من جميع الصحابة، اللهم إلا أن يكون الدارقطني يشترط في الاتصال ثبوت السماع ولو مرة، وقد أطنب مسلم في الكلام على هذا المذهب. اهـ وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 9) تعليقاً على قول الدارقطني بأنه لم يثبت سماعه من ابن مسعود قال: " فهو على مذهب من يشترط في الاتصال ثبوت السماع، وقد أنكر مسلم ذلك في مقدمة كتابه إنكاراً شديداً، وزعم أنه قول مخترع، وأن المتفق عليه أنه يكفي للاتصال إمكان اللقاء أو السماع، ثم قال: على أن صاحب الكمال صرح بأنه سمع منه وكذا ذكر الصريفيني فيما قرأت بخطه .... الخ ". قلت: نفيع الصائغ: أبو رافع قال فيه الحافظ (7182): " ثقة ثبت". لكن مدار الحديث على علي بن زيد. قال فيه الامام أحمد: ليس بشىء. وقال مرة: ضعيف الحديث. وقال فيه يحيى بن معين: ضعيف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أخرى: ضعيف في كل شىء. وقال في موضع آخر: ليس بشىء. وقال أبو زرعة ويحيى وأبو حاتم: ليس بالقوي، وزاد أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن خزيمة: لا يحتج به لسوء حفظه. وقال الجوزجاني: واهي الحديث، ضعيف، فيه ميل عن القصد، لا يحتج بحديثه. وقال حماد بن زيد: حدثنا علي بن زيد، وكان يقلب الأحاديث، وفي رواية: كان علي بن زيد يحدثنا اليوم بالحديث، ثم يحدثنا غداً فكأنه ليس بذاك. وقال العجلي: يكتب حديثه، وليس بالقوي. وقال في موضع آخر: لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صالح الحديث، وإلى اللين ما هو. وقال فيه بن عدي: لم أر أحداً من البصريين وغيرهم امتنعوا عن الرواية عنه، وكان يغالي في التشيع في جملة أهل البصرة، ومع ضعفه يكتب حديثه ". وقال الحافظ في التقريب (4734): ضعيف. انظر ترجمته في تهذيب الكمال (20/ 434) وفي الكامل لابن عدي (5/ 195 - 201) وميزان الاعتدال (3/ 127). الطريق الرابع: عن أبي وائل، عن ابن مسعود. أخرجه الدارقطني (1/ 77) من طريق الحسين بن عبيد الله العجلي، نا معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: سمعت ابن مسعود يقول: " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، فأتاه، فقرأ عليهم القرآن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الليل: أمعك ماء يا ابن مسعود؟ قلت: لا والله يا رسول الله إلا إداوة فيها نبيذ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحديث: موضوع. قال الدارقطني (1/ 78): الحسين بن عبيد الله يضع الحديث على الثقات. الطريق الخامس: ما أخرجه الدارقطني، نا عمر بن أحمد الدقاق، نا محمد بن عيسى بن حيان ثنا الحسن بن قتيبة، نا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عن عبيدة وأبي أحوص، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن ابن مسعود قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: خذ معك إداوة من ماء، ثم انطلق وأنا معه - فذكر حديث ليلة الجن- فلما أفرغت عليه من الإداوة فإذا هو نبيذ، فقلت يارسول الله أخطأت بالنبيذ، فقال: تمرة حلوة، وماء عذب. ومن طريق الدارقطني أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (590) قال الدارقطني: تفرد به الحسن بن قتيبة، عن يونس عن أبي إسحاق، والحسن بن قتيبة، ومحمد بن عيسى ضعيفان. اهـ والصحيح أن الحسن بن قتيبة ليس كما قال الدارقطني: ضعيف، بل هو هالك. فقد نقل الحافظ الذهبي في الميزان (2/ 246) عن الدارقطني بأنه متروك الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي الحديث، ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (3/ 33). وقال العقيلي: كثير الوهم. الضعفاء الكبير (1/ 241). وقال ابن عدي: وللحسن بن قتيبة هذا أحاديث غرائب حسان، وأرجو انه لا بأس به. الكامل (2/ 327). فتعقبه الحافظ، فقال: بل هو هالك، قال الدارقطني في رواية البرقاني متروك الحديث، ثم نقل تضعيف أبي حاتم، وقول الأزدي: واهي الحديث، ثم نقل كلام العقيلي. اهـ كلام الحافظ ابن حجر. وأما محمد بن عيسى بن حيان فقد نقل الحافظ الذهبي في الميزان (5/ 333) عن الدارقطني أنه قال: ضعيف متروك. وقال الحاكم: متروك. وقال آخر: كان مغفلاً، وأما البرقاني فوثقه. اهـ الطريق السادس: عن ابن غيلان، عن ابن مسعود. أخرجه الدارقطني (1/ 78) قال حدثني محمد ابن أحمد بن الحسن، نا إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان، نا هاشم ابن خالد الأزرق، ثنا الوليد، نا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد عن جده أبي سلام، عن فلان ابن غيلان الثقفي أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: دعاني سول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ... فذكر نحو ما سبق. ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 54) رقم 36. قال الدارقطني: الرجل الثقفي الذي رواه عن ابن مسعود مجهول، قيل اسمه: عمرو، =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (38) ما رواه الدارقطني من طريق أبي القاسم يحيى بن عبد الباقي، نا المسيب ابن واضح، نا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء (¬1). [المعروف أنه من قول عكرمة، ورفعه منكر] (¬2). ¬

= وقيل: عبد الله بن عمرو بن غيلان. وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 44، 45): " سألت أبي وأبا زرعة عن حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ، فقالا: هذا حديث ليس بقوي؛ لأنه لم يروه غير أبي فزارة، عن أبي زيد. وحماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن ابن مسعود. وعلي بن زيد ليس بقوي، وأبو زيد شيخ مجهول لا يعرف، وعلقمة يقول: لم يكن عبد الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن فوددت أنه كان معه. قلت لهما: فإن معاوية بن سلام يحدث عن أخيه، عن جده، عن ابن غيلان، عن ابن مسعود قالا: وهذا أيضا ليس بشيء، ابن غيلان مجهول، ولا يصح في هذا الباب شيء. (¬1) سنن الدارقطني (1/ 75). (¬2) ومن طريق الدارقطني أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (591)، وفي التحقيق في أحاديث الخلاف (1/ 54) رقم 37. وأخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 170)، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 11). قال الدارقطني: وهم فيه المسيب بن واضح في موضعين، في ذكر ابن عباس، وفي ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد اختلف فيه على المسيب، فحدثنا به محمد بن المظفر، نا محمد بن محمد بن سليمان، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = نا المسيب بهذا الإسناد موقوفاً غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمحفوظ أنه من قول عكرمة غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا إلى ابن عباس، والمسيب ضعيف ثم ساق الدارقطني بإسناده عن هقل بن زياد، والوليد بن مسلم كلاهما عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة قال: " النبيذ وضوء لمن لم يجد غيره ". وتابع الأوزاعي شيبان النحوي وعلي بن المبارك، كلاهما عن يحيى، عن عكرمة موقوفاً عليه. قلت: تفرد برفعه المسيب بن واضح كما قال الدارقطني فهو حديث منكر. وللمسيب أحاديث منكرة ساقها ابن عدي في الكامل، ثم قال (6/ 389): والمسيب بن واضح له حديث كثير عن شيوخه، وعامة ما خالف فيه الناس هو ما ذكرته، لا يتعمده، بل كان يشبه عليه، وهو لا بأس به. وقال فيه أيضاً: كان النسائي حسن الرأي فيه، ويقول الناس يؤذوننا فيه: أي يتكلمون فيه. وجاء في الميزان (4/ 116): وقال أبو حاتم: صدوق، يخطيء كثيراً، فإذا قيل له لم يقبل. وسأل ابن عدي عبدان كما في الكامل (5/ 265): أيما أحب إليك، عبد الوهاب بن الضحاك، أو المسيب؟ قال: كلاهما سواء. قال الذهبي: عبد الوهاب هذا ضعيف جداً. قال أبو داود: كان يضع الحديث. وقال النباتي، والدارقطني، والعقيلي: متروك. وقال الجوزقاني: كان كثير الخطأ والوهم. اهـ من لسان الميزان (6/ 158). ولابن عباس طريق آخر أيضاً: فقد أخرجه الدارقطني (1/ 76) من طريق أبي عبيدة مجاعة، عن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لم يجد أحدكم ماء ووجد نبيذاً فليتوضأ به. قال الدارقطني: أبان هو ابن أبي عياش. متروك الحديث، ومجاعة: ضعيف، والمحفوظ أنه رأى عكرمة غير مرفوع. اهـ كلام الدارقطني.

فالخلاصة أن حديث ابن مسعود جاء من ثلاثة طرق ضعيفة، والسؤال: هل هذه الطرق الضعيفة يمكن أن يقوي بعضها بعضاً فتكون حسنة لغيرها، فيصلح الاحتجاج بها، على أن الضعيف إذا جاء من طريق آخر شد بعضه بعضاً كما قال بعضهم فى قوله سبحانه وتعالى في شهادة المرأة {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} الآية (¬1). الجواب: هذا ممكن أن يقال لولا أن الحديث فيه مخالفات: الأولى: المخالفة لظاهر الكتاب. قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2)، فنقلنا عند عدم وجود الماء إلى التيمم، ولو كان هناك سائل آخر يمكن التطهر منه لأحالنا عليه كالنبيذ، وعليه فإذا لم نجد إلا نبيذاً فإننا نتيمم، لأننا لم نجد الماء. ثانياً: مخالفته للسنة. (39) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬3).

_ (¬1) البقرة: 282. (¬2) المائدة: 6. (¬3) المصنف (913).

[حديث حسن] (¬1). ¬

(¬1) الإسناد فيه: عمرو بن بجدان. ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 171). وقال العجلي: بصري، تابعي، ثقة. ثقات العجلي (2/ 172). وصحح حديثه الحاكم، ومن قبله الترمذي. وذكره البخاري في التاريخ الكبير (6/ 317) ولم يورد جرحاً ولا تعديلاً. وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/ 222). وقال الذهبي: حسنه الترمذي، ولم يرقه إلى الصحة للجهالة بحالة عمرو، وقال: وقد وثق عمرو مع جهالته. الميزان (3/ 247) بينما صحح حديثه في المستدرك (1/ 176)، وقال في الكاشف: وثق. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي عمرو بن بجدان معروف؟ قال: لا. تهذيب التهذيب (8/ 7). وقال ابن القطان: لا يعرف. المرجع السابق. وقال ابن حجر في التقريب: لا يعرف حاله. قلت: من عادة الحافظ في الراوي إذا كان لم يرو عنه إلا واحد، وكان من التابعين ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وقد وثقه ابن حبان أن يقول في حقه: مقبول، أي حين يتابع، كيف وقد صحح حديثه الترمذي، والحاكم والبيهقي وابن حبان، فهذا توثيق ضمني، وقد أجاب ابن دقيق العيد على قول ابن القطان في عمرو بن بجدان: لايعرف له حال، فقال كما في نصب الراية (1/ 149): " ومن العجب كون ابن القطان لم يكتف بتصحيح الترمذي في معرفة حال عمرو ابن بجدان، مع تفرده بالحديث، وهو قد نقل كلامه: هذا حديث حسن صحيح، وأي فرق بين أن يقول: هو ثقة، أو يصحح له حديثاً انفرد به. وإن كان توقف في ذلك لكونه لم يرو عنه إلا أبو قلابة، فليس هذا بمقتضى مذهبه، فإنه لا يلتفت إلى كثرة الرواة في نفي جهالة الحال، فذلك لا يوجب جهالة الحال بانفراد راو واحد عنه بعد وجود ما يقتضي تعديله، وهو تصحيح الترمذي له. قلت: تصحيح الحاكم والبيهقي وابن حبان مع الترمذي يفيد الراوي قوة، مع كون حديثه هذا له شاهد من حديث أبي هريرة. وسيأتي ذكره. فالحديث إسناده لا ينزل عن مرتبة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحسن. والله أعلم. [تخريج الحديث]: مداره على أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر. ويرويه عن أبي قلابة خالد الحذاء، وأيوب السختياني. أما طريق خالد الحذاء فله طرق كثيرة إليه. الأول: يزيد بن زريع عن خالد الحذاء به. أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (6/ 317) من طريق هشام بن عبد الملك، عن يزيد ابن زريع به، وأخرجه البيهقي (1/ 220) من طريق إبراهيم بن موسى. وأخرجه (1/ 220) من طريق مسدد، كلاهما عن يزيد بن زريع به، وأخرجه ابن حبان (1312) من طريق الفضيل بن الحسين الجحدري، قال: حدثنا يزيد بن زريع به. الطريق الثاني: خالد بن عبد الله الواسطي عن خالد الحذاء به. أخرجه أبو داود (332) حدثنا عمرو بن عوف، ومسدد، قالا: أخبرنا خالد ـ يعني ابن عبد الله الواسطي ـ عن خالد الحذاء به. قال أبو داود: حديث عمرو أتم. وأخرجه البيهقي (1/ 220) والحاكم (1/ 176،177) من طريق مسدد به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، إذ لم نجد لعمرو بن بجدان راوياً غير أبي قلابة الجرمي، وهذا مما شرطت فيه، وثبت أنهما قد خرجا مثل هذا في مواضع من الكتابين. الطريق الثالث: الثوري عن خالد الحذاء به. منه إسناد الباب، أعني: عبد الرزاق (913) عن الثوري به، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (5/ 155)، وأخرجه أحمد أيضاً (5/ 180) ثنا أبو أحمد ـ يعني: الزبيري ـ ثنا سفيان، عن خالد الحذاء به. وأما رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة به: فأخرجه أحمد (5/ 155) ثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن أيوب السختياني وخالد الحذاء به، وأخرجه النسائي (322) أخبرنا عمرو بن هشام، قال: ثنا مخلد، عن سفيان، عن أيوب به، وأخرجه الدارقطني (1/ 186) من طريق مخلد بن يزيد، حدثنا سفيان، عن أيوب وخالد به. وأخرجه البيهقي (1/ 212) من طريق أحمد بن بكار، حدثنا مخلد بن يزيد به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه ابن حبان كما في الموارد (197) من طريق عبد الحميد بن محمد المستام، حدثنا مخلد ابن يزيد به. وجاء الحديث (عن أيوب عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبي ذر). أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 144): حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة به. وأخرجه أحمد (5/ 146) حدثنا إسماعيل ـ يعني: ابن علية ـ به. وأخرجه الدارقطني (1/ 187) من طريق يعقوب بن إبراهيم، نا ابن علية به. وأخرجه الطيالسي (484) حدثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، عن أيوب به. وأخرجه أبو داود (133) حدثنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد، عن أيوب به. (وقيل: عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني قشير عن أبي ذر) أخرجه عبد الرزاق (912) عن معمر، عن أيوب به. وأخرجه أحمد (5/ 146،147) ثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد، عن أيوب به. (وقيل: عن أيوب عن أبي قلابة عن عمه أبي المهلب عن أبي ذر) أخرجه الدارقطني (1/ 187) من طريق خلف بن موسى العمي، أخبرنا أبي، عن أيوب عن أبي قلابة، عن عمه أبي المهلب به. فتبين من هذا أن رواية خالد الحذاء لم يختلف عليه في إسناده، وأما رواية أيوب فقد اختلف عليه كما سبق، ففي بعض طرقها ما يوافق رواية خالد، والبعض الآخر يخالفه في الإسناد، فهل ما خالف فيه أيوب خالداً يطرح؟ أو أن الخلاف على أيوب لا يضر؟ قال أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي (1/ 215): " عن رجل من بني قشير، عن أبي ذر، وهذا الرجل هو الأول نفسه، لأن بني قشير من بني عامر كما في الاشتقاق لابن دريد (ص:181)، وهو عمرو بن بجدان نفسه ". اهـ. قلت: فعلى هذا قوله: " عن رجل من بني قشير، أو عن رجل من بني عامر " لا فرق بينهما وهو عمرو بن بجدان؛ لأنه قشيرى من بني عامر. فيبقى رواية أبي المهلب، فإن لم تكن كنية لعمرو ابن بجدان، فقد تفرد بها خلف بن موسى بن خلف العمي، حدثني أبي، وخلف وأبوه، كل واحد منهما صدوق له أوهام، فيكون هذا من أوهامه لمخالفته من هو أوثق منه. وضعفه ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (3/ 327) وقال: " لا يعرف لعمرو بن بجدان هذا حاله، وإنما روى عنه أبو قلابة واختلف عنه: فيقول: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = خالد الحذاء عنه، عن عمرو بن بجدان ولا يختلف ذلك على خالد. وأما أيوب فإنه رواه عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر. ومنهم من يقول: عن رجل فقط. ومنهم من يقول: عن رجاء بن عامر. ومنهم من يقول: عن عمرو بن بجدان كقول خالد. ومنهم من يقول: عن أبي المهلب. ومنهم من لا يجعل بينهما أحداً، فيجعله عن أبي قلابة، عن أبي ذر. ومنهم من يقول: عن أبي قلابة أن رجلاً من بني قشير، قال: يا نبي الله. هذا كله اختلاف على أيوب في روايته إياه عن أبي قلابة، وجميعه في علل الدارقطني وسننه، وهو حديث ضعيف لا شك فيه ". اهـ. وتعقبه ابن دقيق العيد في (الإمام) فقال: " أما الاختلاف الذي ذكره من كتاب الدارقطني، فينبغي على طريقته، وطريقة الفقه أن ينظر في ذلك، إذ لا تعارض بين قولنا: عن رجل، وبين قولنا عن رجل من بني عامر، وبين قولنا: عن رجل من بني بجدان. وأما من أسقط ذكر هذا الرجل فيؤخذ بالزيادة ويحكم بها. وأما من قال: عن أبي المهلب، فإن كان كنية لعمرو فلا اختلاف، وإلا فهي رواية واحدة مخالفة احتمالاً لا يقيناً. وأما من قال: عن رجل من بني قشير، قال: يا نبي الله، فهي مخالفة، فكان يجب أن ينظر في إسنادها على طريقته، فإن لم يكن ثابتاً لم يعلل بها ". اهـ قال أحمد شاكر معلقاً في تحقيقه للسنن (1/ 215، 217): وهذا الذي حققه ابن دقيق العيد بديع ممتع، وهو الصواب المطابق لأصول هذا الفن، وأنا أظن أن رواية من قال: إن رجلاً من بني قشير قال: يا نبي الله. فيها خطأ، وأن أصله ما ذكرته من رواية ابن أبي عروبة، عند أحمد في المسند، عن رجل من بني قشير، فذكر القصة في كونه أتى أباذر، وسأله، وأجابه وأن يكون سقط من بعض الرواة ذكر أبي ذر خطأ فقط. اهـ وأما شاهده من حديث أبي هريرة، فقد رواه البزار، كما في مختصر زوائد البزار (193) قال: حدثنا مقدم بن محمد بن علي بن مقدم المقدمي، حدثنا عمي القاسم بن يحيى ابن عطاء بن مقدم ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال =

ثالثاً: المخالفة لما ثبت في مسلم. (40) قال علقمة: سألت ابن مسعود فقلت: هل شاهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا. ولكن كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استطير أو اغتيل قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ... الحديث (¬1). فأحاديث النبيذ تروي: أن ابن مسعود شهد ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الحديث في مسلم صريح بأنه لم يكن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رابعاً: الحنفية رحمهم الله خالفوا هذه المرة مقتضى قواعدهم، فإن أحاديث الآحاد عندهم دلالتها ظنية، والقرآن دلالته قطعية، وهم يردون

_ = رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله ويمسه بشرته، فإن ذلك خير. قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه. ومقدم ثقة معروف النسب. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 261): رجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (478): حدثنا أحمد ـ يعني ابن محمد بن صدقه، ثنا مقدم به. وفي تلخيص الحبير (1/ 271) صححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل: إن إرساله أصح. (¬1) مسلم (150 - 450) فقد رواه من طريق عامر والشعبي وإبراهيم عن علقمة به.

أحاديث في الصحيحين مجمعاً على صحتها، لأن ظاهرها يخالف آية قرآنية أو قاعدة شرعية بحسب فهمهم، ومع ذلك عملوا بأحاديث الوضوء بالنبيذ مع أن أحاديثه تخالف ظاهر القرآن، ولا يسلم منها حديث واحد كما سبق. ولو تجاهلنا كل هذه المخالفات من مخالفة الكتاب والسنة وقلنا: إن حديث الوضوء بالنبيذ قابل لأن يكون حسناً لغيره، فإننا نحمله على أن تسميته نبيذاً فيه تجاوز، وأن النبيذ الذي كان مع ابن مسعود لم يخرج عن رقة الماء وطبيعته وسيولته، وغاية ما فيه أنه ماء تغير بشىء طاهر، لم يخرج فيه عن مسمى الماء، كما لو تغير الماء بشىء طاهر ولم يخرج عن اسمه، وسوف يأتي في قسم الماء الطاهر تحرير الخلاف في الماء إذا تغير بشىء طاهر إن شاء الله تعالى. والله أعلم. فخلصنا من هذا أن الحدث لا يرفع إلا بالماء الطهور، ويرفع أيضاً بالتيمم على خلاف هل التيمم رافع أم مبيح؟ وسوف يأتي بحثها في بحوث التيمم. وأما إزالة النجاسة فهل يتعين الماء الطهور؟ أو تزال بأي مزيل، يأتي بحثها في بحوث النجاسات إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني الماء المتغير بالنجاسة

الفصل الثاني الماء المتغير بالنجاسة ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: الماء المتغير بمجاورة النجاسة. المبحث الثاني: الماء المتغير بمخالطة النجاسة.

المبحث الأول الماء المتغير بمجاورة نجاسة

المبحث الأول الماء المتغير بمجاورة نجاسة اختلف العلماء في المقصود من التغير بالمجاورة. فقيل: المقصود إذا تغيرت رائحة الماء فقط، ولا يشمل تغير الطعم واللون؛ لأنه لو تغير لونه أو طعمه بمجاورة النجاسة لعلمنا علماً مؤكداً بأن النجاسة حلت فيه، وبالتالي يكون التغير عن ممازجة وليس عن مجاورة. وقيل: لا فرق بين تغيره بالرائحة، وبين تغير الطعم واللون، وهو قول في مذهب المالكية، قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير: بل لو فرض تغير الثلاثة - يقصد الطعم واللون والرائحة - لا يضر، وإنما اقتصر المؤلف على الريح لكونه الشأن (¬1). والراجح الأول. ¬

(¬1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 31،32)، وهذا الذي ذكره الصاوي ليس متفقاً عليه في المذهب المالكي، بل في المذهب المالكي قولان: أحدهما: ما ذكرناه عن الصاوي، وأن التغير بالمجاورة لا يضر، ولو تغيرت أوصافه الثلاثة. وقال في حاشية الدسوقي (1/ 35): والحاصل أن التغير بالمجاور الغير ملاصق، لا يضر مطلقاً: أي سواء تغير الريح أو الطعم أو اللون أو الثلاثة، وسواء كان التغير بيناً أو لا، كان الماء قليلاً أو كثيراً .... الخ. والقول الثاني: أن التغير لا يشمل إلا بالرائحة فقط، كما هو مذهب الجمهور، فقد جاء في منح الجليل (1/ 32): " وأما اللون والطعم فلا يتغيران بالمجاورة، وإن حصل دل على الممازجة، فليس مطلقاً - يعني الماء المتغير بهما - خلافاً لعج ومن تبعه ". وقال في شرح الخرشي (1/ 67): " أو تغير بمجاورة، فالمراد به تغير ريحه فقط بحسب الصورة برائحة كريهة كالجيفة، أو طيبة كنبت مجاور له، فلا يضر ذلك ... الخ كلامه. وقال محمد عليش تعليقاً على كلام الدسوقي في حاشيته (1/ 35): " تغير اللون والطعم =

أولا

مثاله: ماء طهور، تغيرت رائحته بجيفة قريبة منه، ولم تقع فيه. حكمه: إذا تغيرت رائحة الماء بمجاورة النجاسة، فهو طهور، قولاً واحداً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). الدليل على ذلك: أولاً: الإجماع. نقل الإجماع عدد من العلماء، منهم الحطاب من المالكية (¬5)، والنووي ¬

= بالمجاور لا يمكن، كما نص عليه ابن التلمساني وغيره، وإن حصل تغير فيهما أو في أحدهما فهو دليل على الممازجة فيحكم بسلب الطهورية كما في ضوء الشموع خلافاً للشيخ عبد الباقي الزرقاني والشارح. اهـ مطبوع أسفل حاشية الدسوقي. (¬1) أحكام القرآن (3/ 440). (¬2) مواهب الجليل (1/ 54)، الشرح الصغير (1/ 31،32)، وحاشية الدسوقي (1/ 35)، منح الجليل (1/ 32)، شرح الخرشي (1/ 67). (¬3) المجموع (1/ 155)، روضة الطالبين (1/ 131)، وحاشية الجمل (1/ 48)، حاشية البجيرمي على المنهج (1/ 27)، أسنى المطالب (1/ 15)، شرح البهجة (1/ 24، 25). ونقل ابن مفلح في الفروع (1/ 72) كراهية الشافعي له. حيث قال " ولا يكره متغير بنجس مجاور خلافاً للشافعي ". والموجود في كتب مذهب الشافعية خلاف ذلك كما في الروضة والمهذب، ونص النووي على أنه طهور بلا خلاف كما في المجموع ولم يذكر كراهة. وكتب المذهب مقدمة على غيرها. (¬4) المبدع (1/ 37)، الشرح الكبير (1/ 38). (¬5) قال الحطاب في مواهب الجليل (1/ 54): الماء إذا تغير بمجاورة شيء له، فإن تغيره لا يسلبه الطهورية، وسواء كان المجاور منفصلاً عن الماء أو ملاصقاً له، فالأول: كما لو كان إلى جانب الماء جيفة أو عذرة أو غيرهما، فنقلت الريح رائحة ذلك إلى الماء فتغير، ولا خلاف في هذا .... الخ كلامه رحمه الله.

ثانيا

من الشافعية (¬1)، وابن مفلح الصغير (¬2)، وصاحب الشرح الكبير من الحنابلة (¬3). ثانياً: قالوا: إن هذا التغير حصل بالمجاورة، ولم يحصل عن ممازجة، وما كان تغيره عن مجاورة لم يؤثر في الماء، فلا يلزم من انتقال الرائحة انتقال جزء من الميتة، فهذا الطيب تجد ريحه ينتشر في المكان، وعينه باقية لم تنتقل. ومع كونه طهوراً بالإجماع إلا أن التنزه عنه أفضل متى وجد غيره؛ لإن الماء قد لا يسلم من تلوثه ببعض الميكروبات التي قد تضر بعض الناس، والله أعلم. ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (1/ 155): " لو تغير الماء بجيفة بقربه، يعني: جيفة ملقاة خارج الماء قريبة منه، ففي هذه الصورة لا تضر الجيفة قطعاً، بل الماء طهور بلا خلاف". اهـ (¬2) المبدع شرح المقنع (1/ 37). (¬3) الشرح الكبير (1/ 38).

المبحث الثاني الماء المتغير بممازجة النجاسة

المبحث الثاني الماء المتغير بممازجة النجاسة إذا وقعت في الماء نجاسة، فغيرت طعمه أو لونه نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة أبي حنيفة (¬1)، ومالك (¬2)، والشافعي (¬3)، وأحمد (¬4). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 78)، وشرح معاني الآثار (1/ 12). (¬2) التاج والإكليل (1/ 73، 104)، المنتقى للباجي (1/ 59)، حاشية الدسوقي (1/ 38، 48)، الشرح الصغير (1/ 36). (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 17): " وإذا كان الماء الجاري قليلاً أو كثيراً، فخالطته نجاسة فغيرت ريحه أو طعمه أو لونه كان نجساً ". (¬4) جاء في مسائل أحمد رواية أبي داود (ص: 5): " سمعت أحمد بن محمد بن حنبل قال له الوركاني: بئر لنا وقعت فيها فأرة؟ فقال أحمد: إن لم تغير طعم الماء وريحه فلا نرى لها بأساً. فقال له الوركاني: نحن نزحنا الماء؟ قال أحمد: ما بقي من الماء ما تصنع به؟ ثم قال أحمد: يقع في بئرنا مثل هذا كثير، فنخرجه، فنرمي به، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء. قال أحمد: فإن تغير طعمه أو ريحه نزح حتى يطيب. الخ وانظر مسائل أحمد رواية عبد الله (1/ 6، 7). وقال في رواية صالح (1/ 301): " الذي سمعنا أن الماء إذا كان قدر قلتين أو ثلاث لم ينجس، والقلال: قلال هجر، ويقال: إن القلة تسع نحو القربتين، فإذا كان الماء خمس قرب، ست قرب - كلما كان أكثر فهو أحب إلينا - لم ينجسه إلا مان غير طعمه أو ريحه، فإذا تغير طعم أو لون أو ريح لم يقرب، إلا البول والعذرة الرطبة التي تقع في الماء فلا يقدر عليها، فإن ذلك ينجس إلا أن تكون هذه المصانع التي في طريق مكة، فإن ذلك لا ينجسه شيء. اهـ وانظر المغني (1/ 31)، والفروع (1/ 84).

الدليل الأول

وفي الريح خلاف شاذ عن عبد الملك بن الماجشون (¬1). الدليل الأول: الإجماع. حكى الإجماع على نجاسة الماء المتغير بالنجاسة الطحاوي من الحنفية، فقال: قد أجمعوا أن النجاسة إذا وقعت في البئر، فغلبت على طعم مائها، أو ريحه أو لونه، أن ماءها قد فسد (¬2). وقال ابن نجيم: " اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة لا تجوز الطهارة به، قليلاً كان الماء أو كثيراً، جارياً كان أو غير جار، هكذا نقل الإجماع في كتبنا (¬3). والباجي من المالكية، قال: ما تغير بنجاسة خالطته، فلا خلاف في نجاسته (¬4). وقال الشافعي رحمه الله: إذا تغير طعم الماء أو ريحه أو لونه كان نجساً، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يُثْبِت مثله أهل الحديث، وهو قول العامة لا ¬

(¬1) لم يعتبر عبد المك بن الماجشون التنجيس بالرائحة، وقال: لو تغيرت رائحة الماء فقط، فإنه لا ينجس، واستدل له القرافي كما في الذخير (1/ 163)، فقال: " ووجه قول عبد الملك أن الثياب لا تنجس بروائح النجاسات، فكذلك الماء؛ لأنه أقوى في الدفع عن نفسه، ولأن الرائحة لو كان تغيرها معتبراً لذكر في الحديث. اهـ وممكن أن يستدل له أن التغير بالرائحة بالمجاورة لا ينجس، بخلاف التغير بالطعم واللون، والله أعلم. (¬2) شرح معاني الآثار (1/ 12) .. (¬3) البحر الرائق (1/ 78). (¬4) المنتقى للباجي (1/ 59).

أعلم بينهم فيه اختلافاً (¬1)، وحكى الإجماع النووي أيضاً (¬2). وابن قدامة من الحنابلة، قال: وأما نجاسة ما تغير بالنجاسة فلا خلاف فيه (¬3)، وكذلك ابن تيمية (¬4). وقال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت النجاسة الماء طعماً أو لوناً أو ريحاً، أنه نجس ما دام كذلك، ولا يجزي الوضوء والاغتسال به (¬5). كما حكى الإجماع من المحدثين ابن حبان في صحيحه، والبيهقي (¬6)، وابن عبد البر في التمهيد (¬7)، والعراقي (¬8). قال ابن حبان: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الماء لا ينجسه شيء " وقوله: " إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء " يَخُص هذين الخبرين الإجماع على أن الماء قليلاً كان أو كثيراً، فغير طعمه أو لونه، أو ريحه نجاسة وقعت فيه أن ذلك الماء نجس بهذا الإجماع (¬9). ¬

(¬1) الأم (8/ 612). (¬2) المجموع (1/ 212) وانظر (1/ 160). (¬3) المغني (1/ 1/31). (¬4) قال في مجموع الفتاوى (21/ 504): " والماء لنجاسته سببان: أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه، فالمتفق عليه: المتغير بالنجاسة ". (¬5) الأوسط (1/ 260). (¬6) سنن البيهقي الكبرى (1/ 260). (¬7) التمهيد (1/ 332). (¬8) طرح التثريب (2/ 32). (¬9) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (4/ 59).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: من النظر أن الماء الطاهر إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فإننا إذا استعملناه أصبحنا مستعملين للنجاسة نفسها، فيجب الامتناع عنه. قال حرب بن إسماعيل: سئل أحمد عن الماء إذا تغير طعمه أو ريحه؟ قال: فلا يتوضأ به، ولا يشرب، وليس فيه حديث، ولكن الله تعالى حرم الميتة، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه، فذلك طعم الميتة وريحها، فلا يحل له، وذلك أمر ظاهر. قال الخلال: وإنما قال أحمد ليس فيه حديث؛ لأن هذا الحديث (الماء طهور إلا ما غلب ... الحديث) يرويه سليمان بن عمر، ورشدين بن سعد، وكلاهما ضعيف (¬1). قال ابن حزم: وإذا تغير لون الطاهر بما مازجه من نجس، أو تغير طعمه بذلك، أو تغير ريحه، فإننا حينئذ لا نقدر على استعمال الطاهر إلا باستعمال النجس، واستعمال النجس حرام في الصلاة، ولذلك وجب الامتناع عنه (¬2). وأما ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نجاسة الماء إذا غيرت طعمه أو لونه أو ريحه فلا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء. (41) فقد روى ابن ماجه، قال: حدثنا محمود بن خالد والعباس بن الوليد الدمشقيان، قالا: ثنا مروان بن محمد، ثنا رشدين، أنبأنا معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء لا ينجسه ¬

(¬1) المغني (1/ 20) وانظر مسائل أحمد رواية عبد الله (1/ 4). (¬2) المحلى (1/ 143) بتصرف يسير.

شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (521). (¬2) فيه رشدين بن سعد، جاء في ترجمته: ضعفه أحمد بن حنبل عن رشدين بن سعد، وقدم ابن لهيعة عليه. الجرح والتعديل (3/ 513). وقال يحيى بن معين، كما في رواية ابن أبي خيثمة عنه: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال على بن الحسين بن الجنيد: سمعت ابن نمير يقول: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: رشدين بن سعد منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث ما أقربه من داود بن المحبر، وابن لهيعة أستر، ورشدين أضعف. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال قتيبة: كان لا يبالي ما دفع إليه فيقرأه. التاريخ الكبير (3/ 337). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (203). وقال ابن رشدين: كان ضعيفاً. الطبقات الكبرى (7/ 517). وقال ابن عدي: ورشدين بن سعد له أحاديث كثيرة غير ما ذكرت، وعامة أحاديثه عن من يرويه عنه ما أقل فيها ممن يتابعه أحد عليه، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (3/ 149). وذكره العقيلي في الضعفاء. (2/ 66). وقال ابن حبان: كان ممن يجيب في كل ما يسأل، ويقرأ كل ما يدفع إليه، سواء كان ذلك حديثه أو من غير حديثه، ويقلب المناكير في أخباره على مستقيم حديثه. المجروحين (1/ 303). [تخريج الحديث] أخرجه البيهقي (1/ 259) من طريق أبي الأزهر، ثنا مروان بن محمد به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الطبراني في الكبير (8/ 104) من طريق العباس بن الوليد الخلال، ثنا مروان بن محمد به، إلا أنه قال: إلا ما غلب على ريحه أو طعمه، ولم يذكر اللون. واختلف على مروان بن محمد، فرواه عنه العباس بن الوليد الخلال، كما عند الطبراني، وأبو الأزهر، كما في سنن البيهقي، كلاهما، عن مروان بن محمد، عن رشدين بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة. وخالفهم عيسى بن خالد، فأخرجه الدارقطني (1/ 28) ومن طريقه أخرجه ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (1/ 40) عن عيسى بن خالد، نا مروان بن محمد، عن رشدين بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، فجعله من مسند ثوبان. وتابع محمد بن يوسف الغضيضي مروان بن محمد في جعله من مسند أبي أمامة، فأخرجه الدارقطني (1/ 28) وابن عدي في الكامل (3/ 156) والطبراني في الأوسط (1/ 226) من طريق محمد بن يوسف الغضيضي، ثنا رشدين بن سعد به. قال الدارقطني: لم يرفعه غير رشدين بن سعد، عن معاوية بن صالح، وليس بالقوي الصواب فيه قول راشد. كما تابع رشدين بن سعد ثور بن يزيد، فأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 259) قال: أخبرنا أبو عبد الله، أنا أبو الوليد، ثنا الشاماتي، ثنا عطية بن بقية بن الوليد، ثنا أبي، عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الماء طاهر، إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه. وإسناده ضعيف، فيه عطية بن بقية، ووالده بقية بن الوليد. وأخرجه البيهقي (1/ 260) قال: أخبرنا أبو حازم الحافظ، ثنا أبو أحمد الحافظ، ثنا أبو الحسن أحمد بن عمير بن يوسف الدمشقي بدمشق، ثنا أبو أمية يعني محمد بن إبراهيم، ثنا حفص بن عمر، ثنا ثور بن يزيد به. وهذا سند ضعيف جداً غير صالح في المتابعات، لأن فيه حفص بن عمر الرازي الإمام. وقيل: الواسطي، وقيل: هما اثنان. قال فيه أبو حاتم الرازي: كان يكذب. الجرح والتعديل (3/ 184). وقال البخاري: يتكلمون فيه. التاريخ الكبير (2/ 367). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وكذبه أبو رزعة. لسان الميزان (7/ 201). وقال أبو الوليد: لم يسمع من أبي سنان الشيباني إلا حديثاً واحداً، ثم قدم البصرة فحدثهم بأحاديث كثيرة عن أبي سنان، وذكره بذكر سيء، وقال: بيننا وبينه سبب فلا يظهر هذا عني. الجرح والتعديل (3/ 180). وقال يزيد بن هارون: لا بأس به. المرجع السابق. واختلف فيه على راشد بن سعد، فرواه عنه من سبق من مسند أبي أمامة. وأخرجه عبد الرزاق (1/ 80) رقم 264 عن إبراهيم بن محمد، عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد - في المطبوع عامر بن سعد، وهو خطأ - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ينجس الماء إلا ما غير ريحه أو طعمه، أو ما غلب على ريحه وطعمه. وهذا إسناد ضعيف جداً من أجل إبراهيم بن يحيى. وأخرجه أبو مسهر في نسخته (6) قال: حدثنا عيسى بن يونس، ثنا الأحوص، عن راشد بن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. ومن طريق عيسى بن يونس أخرجه الطحاوي (1/ 16)، والدارقطني (1/ 29) قال الدراقطني بعده: مرسل، ووقفه أبو أسامة على راشد. وأخرجه الدراقطني (1/ 28) قال: حدثنا ابن الصواف، نا حامد بن شعيب، نا سريج، نا أبو إسماعيل المؤدب وأبو معاوية، عن الأحوص، عن راشد بن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينجس الماء إلا ما غير طعمه أو ريحه. قال الدارقطني: لم يجاوز به راشد. ورواه أبو أسامة، عن الأحوص، عن أبي عون وراشد بن سعد من قولهما. أخرجه الدارقطني (1/ 29) قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل، نا أبو البختري، نا أبوأسامة، نا الأحوص بن حكيم، عن أبي عون وراشد بن سعد، قالا: الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غير ريحه أو طعمه. اهـ وهذا موقوف. قال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 44): " سألت أبي عن حديث رواه عيسى بن يونس، عن الاحوص بن حكيم، عن راشد بن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لاينجس الماء إلا ما غلب عليه طعمه ولونه، فقال أبي: يوصله رشدين بن سعد، يقول: عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورشدين ليس بقوى، والصحيح مرسل. فالحديث في إسناده اختلاف كثير، فتارة من مسند أبي أمامة، وتارة من مسند ثوبان. =

قال صديق حسن خان: " وقد اتفق أهل الحديث على ضعف الزيادة - يعني زيادة الاستثناء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه - لكنه قد وقع الإجماع على مضمونها، كما نقله ابن المنذر، وابن الملقن في البدر المنير، والمهدي في البحر، فمن كان يقول: بحجية الإجماع، كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع، ومن كان لا يقول بحجية الإجماع، كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك الرواية، لكونها صارت مما أجمع على معناها وتلقي بالقبول، فالاستدلال بها، لا بالإجماع (¬1). ولا أعرف أن الإجماع يعتبر به في تقوية الحديث الضعيف، فالإجماع وحده حجة، ولا يعتبر بالحديث الضعيف لا من القرآن، ولا من الإجماع، ولا من غيرهما إلا من السنة فقط بشروط ليس هذا مجال ذكرها، هذا الذي أعرفه من عمل أئمة الحديث، والله أعلم. ¬

= وتارة موصولاً، وتارة مرسلاً، وتارة موقوفاً. والحديث ضعفه الشافعي في الأم (8/ 612)، والدارقطني في العلل كما في تلخيص الحبير (1/ 15)، والبيهقي في السنن (1/ 260) وغيرهم. وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه. انظر المجموع (1/ 160). (¬1) الروضة الندية (1/ 5 - 6).

الباب الخامس في الماء المستعمل

الباب الخامس في الماء المستعمل ويشتمل على ستة فصول: الفصل الأول: حكم الماء المستعمل في رفع الحدث. الفصل الثاني: الماء المستعمل في طهارة مستحبة. الفصل الثالث: الماء المستعمل في طهارة غير مشروعة. الفصل الرابع: الماء المستعمل في التبرد والنظافة. الفصل الخامس: الماء المستعمل في غمس يد القائم من نوم الليل. الفصل السادس: الماء المستعمل في إزالة النجاسة.

الفصل الأول حكم الماء المستعمل في رفع الحدث

الفصل الأول حكم الماء المستعمل في رفع الحدث متى يكون الماء مستعملاً؟ وللجواب على ذلك نقول: الماء المتقاطر من أعضاء الوضوء في رفع الحدث مستعمل بالاتفاق (¬1). وأما إذا غمس يده في ماء بنية رفع الحدث، فهل يكون مستعملاً؟ قالوا: إذا كان الماء قليلاً كان مستعملاً. ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية البناية في شرح الهداية (1/ 352) قال: والماء المستعمل هو ماء أزيل به حدث، أو استعمل في البدن على وجه القربة. وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 200)، وقال في البحر الرائق (1/ 97): " الماء يصير مستعملاً بواحد من ثلاثة: إما بإزالة الحدث، سواء كان معه تقرب أو لا. يقصد كان معه نية ألا، لأن الحدث عندهم يرتفع، ولو لم ينو رفع الحدث. قال: أو إقامة القربة كان معه رفع الحدث أو لا - يقصد: أن الطهارة لم تكن عن حدث، وإنما نوى تجديداً مسنوناً. قال: أو إسقاط الفرض. يعني فرض الطهارة. اهـ وقال في منح الجليل من المالكية (1/ 38): وهو المتقاطر من العضو المغسول، والمغسول فيه العضو لا الجاري عليه، ولا الباقي في الإناء بعد الاغتراف منه. وقال في حاشية الدسوقي (1/ 42) والمستعمل ما تقاطر من الأعضاء، أو اتصل بها، أو انفصل عنها، وكان يسيراً كآنية وضوء، غَسَل عضوه فيه ". ثم قال في شرحه: والكراهة مقيدة بأمرين: أن يكون ذلك الماء المستعمل قليلاً كآنية الوضوء والغسل، وأن يوجد غيره، وإلا فلا كراهة ". وقال في شرح الخرشي (1/ 74): " ما تقاطر من العضو الذي تتم به الطهارة ماء مستعمل بلا نزاع ". وانظر في مذهب الشافعية المجموع (1/ 215)، الحاوي الكبير (1/ 300).

واختلفوا في حد القليل: فيرى الحنفية أن الجنب إذا انعمس في البئر بنية رفع الحدث فسد الماء، وإن انغمس لطلب الدلو فسد الماء على رأي أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه (¬1). ومعنى هذا أن البئر في حد القليل عندهم. وأما المالكية فيرون اليسير كآنية الوضوء والغسل، فإن غمس يده فيها صار مستعملاً، وإن كان أكثر من ذلك لم يكن مستعملاً (¬2). والشافعية والحنابلة يحدون القليل بما دون القلتين، فإن انغمس في ماء دون القلتين صار مستعملاً، وإلا فلا (¬3). ولا يكون الماء مستعملاً إذا أدخل يده في الإناء ليغترف منها. ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 95)، المبسوط (1/ 53). (¬2) انظر الشرح الصغير (1/ 37)، حاشية الدسوقي (41،42)، الخرشي (1/ 75،76) القوانين الفقهية (ص: 25)، الاستذكار (1/ 253)، التمهيد (4/ 43). وقال في شرح الخرشي (1/ 74): لو غمس يده في الإناء ولم يدلك يده إلا بعد ما أخرجها فالظاهر أنه غير مستعمل كما ظهر لي، ثم وجدت عج ذكره. وسبب هذا أن الدلك عندهم فرض، فإذا خرج يده ولم يدلكها لم يرتفع الحدث عن العضو في الماء، وإنما ارتفع خارج الماء فلم يتأثر الماء، والله أعلم. (¬3) المجموع (1/ 215)، الفتاوى الكبرى انظر في المذهب الحنبلي المبدع (1/ 45،46)، الكافي (1/ 6). وقال ابن قدامة في المغني (1/ 30): " وإذا انغمس الجنب أو المحدث فيما دون القلتين ينوي رفع الحدث صار مستعملاً، ولم يرتفع حدثه. وقال الشافعي: يصير مستعملاً، ويرتفع حدثه؛ لأنه إنما صار مستعملاً بارتفاع حدثه فيه ... الخ كلامه رحمه الله. وانظر الفتاوى الكبرى - ابن تيمية (1/ 421، 422).

وقيل: بشرط أن يدخلها بنية الاغتراف (¬1). هذا كلام أهل العلم في الماء متى يكون مستعملاً، وهو واضح في الماء المتقاطر من العضو، حيث استعمل في طهارة العضو، وأما الماء الذي وضع يده فيه فلم يتضح لي أن النية مؤثرة، فإن غمسها بنية الوضوء كان مستعملاً، وإن لم ينو لم يستعمل، بل يقال بقول المالكية إن كان الماء قليلاً كآنية الوضوء، وغمس يده فيه صار مستعملاً، وإلا فلا، ولا يؤخذ بحديث القلتين في تحديد الماء القليل حتى في وقوع الأعيان الطاهرة، لأننا لو سلمنا بمفهوم حديث ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية بدائع الصنائع (1/ 69)، البحر الرائق (1/ 19). وقال في درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 9): قال القاضي خان: المحدث والجنب إذا أدخل يده في الماء للاغتراف، وليس عليها نجاسة، لا يفسد الماء، وكذا إذا وقع الكوز في الجب، وأدخل يده إلى المرفق لإخراج الكوز لا يصير الماء مستعملا، وكذا الجنب إذا أدخل رجله في البئر ليطلب الدلو لا يصير مستعملا لمكان الضرورة. الخ وفي مذهب المالكية: قال في مواهب الجليل (1/ 68): " قال ابن الإمام: والأظهر أن إدخال المحدث يده في الإناء بعد غسل الوجه ونية رفع الحدث لا يصير الماء مستعملاً إذا انفصلت اليد من الماء على أصلنا، ولم أر فيه نصاً ". وفي مذهب الشافعية، قال النووي في المجموع (1/ 215): " إذا غمس المتوضئ يده في إناء فيه دون القلتين، فإن كان قبل غسل الوجه لم يصر الماء مستعملاً سواء نوى رفع الحدث أم لا، وإن كان بعد غسل الوجه فهذا وقت غسل اليد، ففيه تفصيل: إن قصد غسل اليد صار مستعملاً، وارتفع الحدث عن الجزء الأول من اليد وفي مذهب الحنابلة: قال ابن قدامة في المغني (1/ 86): " ومن كان يتوضأ من ماء يسير يغترف منه بيده، فغرف منه عند غسل يديه لم يؤثر ذلك في الماء .. ألخ كلامه رحمه الله. وقال أيضاً (1/ 135): " وأما الجنب فإن لم ينو بغمس يده في الماء رفع الحدث منها، فهو باق على طهوريته، ثم قال: " وإن نوى رفع حدثها فحكم الماء حكم ما لو اغتسل الجنب فيه للجنابة ". يقصد: أنه يكون مستعملاً. وانظر الإنصاف (1/ 44).

القلتين فإنه في معرض بيان وقوع النجاسات في الماء، وليس في بيان وقوع الأعيان الطاهرة فيه، والله أعلم. خلاف العلماء في الماء المستعمل في رفع الحدث. بعد أن عرفنا متى يصبح الماء مستعملاً، نذكر خلاف العلماء في طهوريته، فقيل: إنه نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬1)، واختارها أبو يوسف (¬2). وقيل: إنه طهور مكروه في رفع الحدث، غير مكروه في زوال الخبث، وهو مذهب المالكية (¬3). وقيل: إنه طاهر غير مطهر، وهو الرواية المشهورة عن الإمام أبي ¬

(¬1) البناية (1/ 350)، حاشية ابن عابدين (1/ 201) وذكر عن أبي حنيفة أنه لو نزل رجل محدث في بئر أن الماء والرجل نجسان ". وقال في البناية (1/ 351): " رواية الحسن عن أبي حنيفة أن الماء المستعمل نجس نجاسة مغلظة، فسرها في المبسوط (1/ 46): أي لا يعفى عن أكثر من قدر الدرهم. ثم قال العيني: ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه نجس نجاسة مخففة، فسرها بالمبسوط (1/ 46) أن التقدير فيه بالكثير الفاحش. والله أعلم. (¬2) المراجع السابقة. (¬3) الشرح الصغير (1/ 37)، حاشية الدسوقي (1/ 37)، بداية المجتهد مع الهداية في تخريج أحاديث البداية (1/ 274). والكراهة مقيدة بأمرين: الأول: أن يكون ذلك الماء قليلاً كآنية الوضوء والغسل. الثاني: أن يوجد غيره، وإلا فلا كراهة.

حنيفة رحمه الله، وعليه الفتوى (¬1)، وهو مذهب الشافعية (¬2)، ¬

(¬1) انظر شرح فتح القدير (1/ 87)، والمبسوط (1/ 46)، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/ 200، 201)، قال العيني في البناية (1/ 349): ورواه زفر رحمه الله أيضاً عن أبي حنيفة يعني، كونه طاهراً. ثم قال: حتى كان قاضي القضاة أبو حازم عبد الحميد العراقي يقول: ارجو أن لا تثبت رواية النجاسة فيه عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر، قال في المحيط: وهو الأشهر الأقيس. قال في المفيد: وهو الصحيح. قال الاسبيجابي: وعليه الفتوى (¬2) الأم (8/ 100)، الروضة (1/ 7)، وقال في المجموع (1/ 202): " قال الشيخ أبو حامد: نص الشافعي في جميع كتبه القديمة والجديدة أن المستعمل ليس بطهور ". وقال الماوردي: الماء المستعمل في رفع الحدث، وهو ما انفصل من أعضاء المحدث في وضوئه، أو من بدن الجنب في غسله، فمذهب الشافعي المنصوص عليه في كتبه القديمة والجديدة، وما نقله عنه جميع أصحابه سماعاً ورواية أنه طاهر مطهر. هكذا في الحاوي (1/ 296)، وهذه العبارة بنصها نقلها النووي إلا أنه قال: وما نقله جميع أصحابه سماعاً ورواية أنه غير طهور. المجموع (1/ 203). وعبارة النووي هي أصوب لما عرف من مذهب الشافعي رحمه الله. ولذلك قال الماوردي بعد العبارة السابقة مما يبين أنها خطأ: قال: فكان أبو إسحاق المروزي، وأبو حامد المروزي يخرجان الماء المستعمل على قولين: الأول: أنه طاهر غير مطهر، وهو ما صرح به في جميع كتبه، ونقله جمهور أصحابه. اهـ فهذا يدل على خطأ في النص السابق، ولم ينتبه له محقق الكتاب، إن لم يكن الخطأ من الناسخ. ثم قال: والثاني: أنه طاهر مطهر، وهو ما حكاه عيسى بن أبان، ودلت عليه رواية أبي ثور، وكان أبو العباس، وابن أبي هريرة يمنعان من تخريج القولين، ويعدلان عن رواية عيسى؛ لأنه وإن كان ثقة، فهو مخالف لما يحكيه أصحاب الخلاف، ولم يلق الشافعي فيحكيه سماعاً من لفظه، ولا هو منصوصه، فيأخذ من كتبه، ولعله تأول كلامه في نصرة طهارته رداً على أبي يوسف فحمله على جواز الطهارة به. الخ كلامه.

دليل من قال بنجاسة الماء المستعمل.

والحنابلة (¬1)، واختيار محمد بن الحسن من الحنفية (¬2). وقيل: طهور بلا كراهة، وهو رواية عن أحمد (¬3)، ورجحها ابن حزم (¬4)، وابن تيمية (¬5)، وابن عبد الهادي (¬6)، والشوكاني (¬7)، وغيرهم. دليل من قال بنجاسة الماء المستعمل. الدليل الأول: (42) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن محمد بن عجلان، قال: سمعت أبي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبل أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة (¬8). ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 35،36)، كشاف القناع (1/ 32)، شرح منتهى الإرادات (1/ 14). (¬2) شرح فتح القدير (1/ 87)، والمبسوط (1/ 46)، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/ 200، 201)، البناية (1/ 349). (¬3) الكافي (1/ 5)، المبدع (1/ 44)، وقال صاحب الانصاف (1/ 36): وهو أقوى في النظر. (¬4) المحلى (1/ 183). (¬5) الاختيارات للبعلي (ص: 3)، ومجموع الفتاوى (20/ 519). (¬6) التنقيح (1/ 211). (¬7) نيل الأوطار (1/ 44). (¬8) أحمد (2/ 433). والحديث رواه أبو داود (70)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 238) حدثنا مسدد، حدثنا يحيى به. =

[رجاله ثقات إلا محمد بن عجلان فإنه صدوق، والحديث بهذا اللفظ غير محفوظ] (¬1). ¬

= وأخرجه ابن حبان (1257) من طريق أبي خيثمة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان به. (¬1) الجمع بين النهي عن البول في الماء الدائم، والنهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، ولو لم يبل فيه، جمع بينهما ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة. وليس النقاش في ثبوت النهي عن الاغتسال في الماء الدائم للجنب، وإنما جمع الحديثين في حديث واحد انفرد به ابن عجلان في سائر من روى الحديث، وانفراده يوجب ريبة أن الحديث بهذا اللفظ لم يثبت، وقد اختلف على ابن عجلان أيضاً: فرواه عنه يحيى بن سعيد القطان كما تقدم، عن أبيه، عن أبي هريرة. وروه الليث، عن ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بنفس اللفظ، رواه البيهقي (1/ 238) قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث به. وهذا إسناد حسن إلى ابن عجلان، كلهم ثقات إلا عبيد بن عبد الواحد فإنه صدوق. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 5) من طريق أبي زرعة وهب الله بن راشد، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: سمعت ابن عجلان يحدث عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة فذكره بلفظ أبي داود. وهذا إسناد فيه لين: فيه أبو زرعة وهب الله بن راشد، جاء في ترجمته. قال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: أردت أن أكتب عن أبي زرعة وهب الله بن راشد، فنهاني عمي أن أكتب عنه. الضعفاء الكبير (4/ 323). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى عنه، فقال: بين ذلك، فقيل لأبي: وهب الله بن راشد أحب إليك أم وهب بن راشد الرقى؟ قال: وهب الله لا يقرن إلى ذلك، ووهب الله بن راشد محله الصدق. الجرح والتعديل (9/ 27). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. الثقات (9/ 228). وخالفهم أبو خالد الأحمر، ويحيى بن محمد بن قيس. فأخرجه ابن ماجه (344) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبولن أحدكم في الماء الراكد. ورواه يحيى بن محمد بن قيس، عن ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ الجماعة: نهى أن يبال في الماء الدائم، ثم يغتسل منه. أخرجه النسائي (398) أخبرنا محمد بن صالح البغدادي، قال: حدثنا يحيى بن محمد، قال: حدثني ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبال في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه من الجنابة. وأخرجه البيهقي (1/ 238) قال: أخبرناه أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقري، أنا الحسن بن محمد بن إسحاق، أنا يوسف بن يعقوب القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا يحيى ابن محمد بن قيس به بمثله لكن قال: ثم يغتسل فيه للجنابة. قال البيهقي: هذا اللفظ هو الذي أخرج في الصحيحين من هذا الحديث ثم يغتسل منه، إلا أنه لم يخرج فيه للجنابة. ويحيى بن محمد بن قيس فيه ضعف، وأخرج له مسلم في المتابعات، لكنه قد توبع في هذا اللفظ من طرق كثيرة، منها طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة في الصحيحين، وليس فيها ما ذكره ابن عجلان. فهذا الاختلاف على ابن عجلان يؤكد أنه لم يضبط الحديث. وقد روى الحديث جماعة عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما، لم يذكروا ما ذكره محمد بن عجلان: منهم: محمد بن سيرين، وهو من أثبت أصحاب أبي هريرة، وهمام، والأعرج من غير طريق ابن عجلان، وحميد بن عبد الرحمن، وخلاس بن عمرو، وغيرهم كما سأبينه بالتفصيل إن شاء الله تعالى. الطريق الأول: الأعرج، عن أبي هريرة. أخرجه البخاري (239) قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. قرنه بحديث: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه ابن خزيمة (66) من طريق سفيان، عن أبي الزناد به. بلفظ البخاري. وأخرجه الطحاوي (1/ 15) من طريق ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ البخاري. وهذه متابعة لحديث أبي الزناد موافقاً له على لفظ الصحيح. وهو سند صالح في المتابعات. وعليه يكون رواه اثنان عن أبي الزناد منهم شعيب في البخاري، وسفيان بن عيينة عند ابن خزيمة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، ولا يذكران ما يذكره ابن عجلان، عن أبي الزناد. ولو لم يكن فيه إلا مخالفة هؤلاء لكفى، فكيف وقد خالف أمة رووه عن أبي هريرة. الطريق الثاني: ابن سيرين، عن أبي هريرة. رواه عن ابن سيرين جماعة، منهم: أولاً: أيوب، عن ابن سيرين. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (300) أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (2/ 265) وابن الجارود في المنتقى (54)، وأبو عوانة (1/ 276). وأخرجه الحميدي (970) حدثنا سفيان بن عينية، ثنا أيوب به، بلفظ: " ثم يغتسل منه ". واختلف على سفيان، فرواه عنه الحميدي، وهو من أثبت أصحابه عن أيوب به مرفوعاً. ورواه قتيبة، عنه به موقوفاً. أخرجه النسائي (400) أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا سفيان به. بلفظ: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يحري ثم يغتسل فيه. موقوفاً على أبي هريرة. ورواه البيهقي (1/ 239) من طريق سعدان بن نصر، ثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب به موقوفاً. قلت: وكذلك رواه عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب موقوفاً، انظر العلل للدارقطني (8/ 121). وقال البيهقي: وكذلك رواه يزيد بن هارون، عن محمد بن سيرين موقوفاً. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: وكذلك رواه يونس، عن ابن سيرين موقوفاً، انظر العلل للدارقطني (8/ 121). وفي رواية النسائي: قال سفيان بن عيينة: قالوا لهشام يعني ابن حسان إن أيوب إنما ينتهي بهذا الحديث إلى أبي هريرة، فقال: إن أيوب لو استطاع أن لا يرفع حديثاً لم يرفعه. وهذا يدل على أنه مشهور عن أيوب وقف هذا الحديث. قال السندي معلقاً في حاشيته على النسائي في كون أيوب لم يرفعه، قال: تعظيماً للنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخوفاً من أن يقع منه فيه خطأ، فيقع في الكذب عليه، والله تعالى أعلم. هذا فيما يتعلق في رواية أيوب عن ابن سيرين. وتابعه هشام بن حسان، عن ابن سيرين. أخرجه أحمد (2/ 362) حدثنا عبد الله بن يزيد - يعني المقرئ - قال: حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه. وأخرجه مسلم (282) حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن هشام به، بلفظ: "ثم يغتسل منه ". وأخرجه أبو داود (69) قال: حدثنا أحمد بن يونس، ثنا زائدة في حديث هشام به. وأخرجه الدارمي (730) قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله ثنا زائدة عن هشام به. وأخرجه الطحاوي (1/ 14) وأبو يعلى (6076)، والبيهقي (1/ 256) من طريق عبد الله بن بكر السهمي، ثنا هشام به. وأخرجه البيهقي (1/ 238) من طريق الأنصاري وجرير، كلاهما عن هشام به. ولفظ هشام من هذا الطريق: ثم يغتسل منه. واختلف على هشام: فأخرجه من سبق، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعاً. وخالفهم ابن عليه، فرواه عن هشام به موقوفاً، أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 131) رقم 1501، قال: حدثنا ابن علية، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: لا يبول أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه. كما رواه هشيم عن هشام به موقوفاً كما في علل الدارقطني (8/ 121). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الدارقطني: ورواه يونس، عن ابن سيرين موقوفاً. المرجع السابق. ورواه سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين به موقوفاً على أبي هريرة، أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 131) رقم 1502 قال: حدثنا ابن علية، عن سلمة به. ورواه عوف، عن ابن سيرين. أخرجه أحمد (2/ 259) حدثنا عبد الواحد، حدثنا عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي في الكبرى (55) وفي الصغرى (57) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عيسى بن يونس، قال: حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به بلفظ: ثم يتوضأ منه. ومن طريق إسحاق بن إبراهيم أخرجه ابن حبان (1251). ورواه البيهقي (1/ 238) من طريق يحيى بن سعيد، عن عوف بن محمد به. إلا أنه قال: ثم يتطهر منه، وهي رواية بالمعنى صحيحة. ورواه يحيى بن عتيق، عن ابن سيرين. أخرجه النسائي في الكبرى (56) وفي السنن الصغرى (58) أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا إسماعيل، عن يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه. قال النسائي: كان يعقوب لا يحدث بهذا الحديث إلا بدينار. وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 216) من طريق علي بن عبدة، ثنا ابن علية، عن يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين به. بلفظ: ثم يتوضأ منه أو قال: يغتسل. قال ابن عدي: هذا الحديث لم يحدث به عن ابن علية من الثقات غير يعقوب الدورقي حدثنا جماعة من الثقات منهم أبو عبد الرحمن النسائي، عن يعقوب، وكان يعقوب يأخذ على هذا الحديث ديناراً، فسرقه منه علي بن عبدة. اهـ الطريق الثالث: همام بن منبه، عن أبي هريرة. رواه عبد الرزاق في مصنفه (299) عن معمر، عن همام بن منبه، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يتوضأ منه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (2/ 316) وقال بدلاً من يتوضأ منه، قال: يغتسل منه. وأخرجه مسلم (282) حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق به. بلفظ أحمد. وأخرجه الترمذي (68) ومن طريق الترمذي أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 43) قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق به، بلفظ عبد الرزاق. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (397) أخبرنا محمد بن حاتم، قال: حدثنا حبان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر به، بلفظ: ثم يغتسل منه أو يتوضأ وأخرجه ابن الجارود (54) حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق به. بلفظ عبد الرزاق، ثم يتوضأ منه. وأخرجه أبو عوانة في مسنده (1/ 276) حدثنا السلمي والدبري جميعاً، عن عبد الرزاق به. بلفظ: ثم يغتسل به، كما هو لفظ مسلم. الطريق الرابع: عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة. وفي لفظه: " ثم يتوضأ منه أو يشرب. وذكر الشرب انفرد بها الحارث بن أبي ذباب، عن عطاء بن ميناء، وهي شاذة، والحارث صدوق له أوهام. والحديث أخرجه ابن خزيمة (94)، ومن طريقه ابن حبان (1256) قال: نا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا أنس بن عياض، عن الحارث - وهو بن أبي ذباب - عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه أو يشرب. وأخرجه الطحاوي (1/ 14) حدثنا يونس بن عبد الأعلى به. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 239) من طريق ابن وهب، أخبرني أنس بن عياض به. الطريق الخامس: أبو عثمان مولى المغيرة بن شعبة، عن أبي هريرة. بلفظ: " ثم يغتسل منه ". أخرجه أحمد (2/ 394) قال: حدثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً، وفيه: ثم يغتسل منه. وأخرجه عبد الرزاق (302) عن الثوري، عن ابن ذكوان، عن موسى بن أبي عثمان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = به. بلفظ: ثم يغتسل فيه. وأخرجه أحمد (2/ 464) حدثنا عبد الله بن الوليد ومؤمل، قالا: حدثنا سفيان، قال: حدثني أبو الزناد به. وجاء من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد به. وأخرجه الحميدي (696) حدثنا سفيان، ثنا أبو الزناد به. وأخرجه النسائي (399) أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان به. ومن طريق سفيان بن عيينة أخرجه ابن خزيمة (66)، وابن حبان (1254)، والبيهقي (1/ 256، 238). وأخرجه الطحاوي (1/ 14) من طريق أبي نعيم ومحمد بن يوسف الفريابي، كلاهما، عن سفيان به. وأخرجه الطحاوي (1/ 14) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه به. الطريق السادس: عن خلاس، عن أبي هريرة، وخلاس لم يسمع أبا هريرة. أخرجه أحمد (2/ 259، 492) والنسائي (57). ومع انقطاعه، فإن خلاس قد تابعه جمع كثير. الطريق الثامن: عن أبي مريم، عن أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/ 288، 532) وابن أبي شيبة (1/ 131) رقم 1504. وسنده جيد. الطريق الثامن: أخرجه أحمد (2/ 346) حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " ثم يغتسل منه". فهؤلاء ثمانية رواة رووه عن أبي هريرة، ولم يقل واحد منهم ما قاله ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن أبي هريرة بجمعه حديثين في حديث واحد. وحديث النهي عن الإنغماس في الماء الدائم، والرجل جنب لا يعرف من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وإنما جاء من طريق أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة مرفوعاً أخرجه مسلم (283)، وابن ماجه (605) والنسائي (220) وابن الجارود (56) وابن خزيمة (93)، وأبو عوانة (1/ 276) والطحاوي (1/ 14)، وابن حبان (1252) والدارقطني (1/ 51،52) والبيهقي (1/ 237) من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا =

وجه الاستدلال: إن النهي عن الاغتسال فىالماء الراكد جاء مقروناً بالنهي عن البول فيه، فإذا كان البول ينجسة فكذلك الاغتسال (¬1). أجاب الجمهور بجوابين: أحدهما: أن الحديث ضعيف، وهذا رأي البيهقي فى السنن. قال النووى: رواه هكذا أبوداود فى سننه، من رواية محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، ورواه البخاري ومسلم فى صحيحهما عن أبي هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " لايبولن أحدكم فى الماء الدائم ثم يغتسل منه ". وفى رواية لمسلم: "لا يغتسل أحدكم فى الماء الدائم، وهو جنب، فقيل لأبي هريرة: كيف يفعل؟. قال: يتناوله تناولاً". فهاتان الروايتان خلاف رواية أبي داود. قال البيهقى: رواية الحفاظ من أصحاب أبي هريرة كما رواه البخاري ومسلم (¬2). ¬

= السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً. هذا ما وقفت عليه من طرق الحديث والله الموفق للصواب. (¬1) البناية (1/ 353، 354). (¬2) المجموع (1/ 204). قلت: وقد يقال: إن هذه الرواية وإن كانت من طريق ابن عجلان، وهو صدوق، وقد اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، كما أفاده الحافظ فى التقريب: إلا أن هذه الرواية ليست مخالفة لرواية الصحيحين لأن الحديث فى الصحيحين: " لا يبولن أحدكم فى الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه ". ولفظ مسلم: " ثم يغتسل منه ". هذا الحديث موافق للشق الأول من حديث ابن =

الجواب الثاني: أن يقال: لايلزم من الاشتراك فى النهي .. الاشتراك فى الحكم .. فكون النهي عن البول اقترن فى النهى عن الاغتسال، لا يلزم منه الاشتراك فى الحكم، فقد ورد قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1)، فقد اقترن الأمر بالأكل مع الأمر بإعطاء حق المال .. والأمر بالأكل مباح بخلاف الأمر بإعطاء حق المال فإنه قد يكون واجباً كما فى الزكاة، وإنقاذ الهلكة وقرى الضيف (¬2). ¬

= عجلان، لأن لفظه: "لا يبولن أحدكم فى الماء الدائم " وثبت عن مسلم: " لا يغتسل أحدكم فى الماء الدائم وهو جنب ". وهذا موافق للشق الثانى من حديث أبي داود وهو قوله " ولا يغتسل فيه من الجنابة ". فإذاً غاية ما في حديث ابن عجلان أنه ذكر الحديثين فى حديث واحد، وهذا لا يوجب قدحاً. وهذا الجواب فيه ضعف، لأن حديث مسلم في نهي الجنب عن الانغماس في الماء الدائم له مخرج مختلف عن حديث النهي عن البول في الماء الدائم، فكون ابن عجلان ينفرد بأمرين: الأول: أنه جمع الحديثين في حديث واحد. الثاني: أن لا يعرف حديث النهي عن انغماس الجنب من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وكوننا نذكر أنه خطأ في الاسناد، لا يعني إعلال المتن، وثبوته من طريق آخر، والله أعلم. (¬1) الأنعام: 141. (¬2) بتصرف يسير المجموع (1/ 204، 205).

الدليل الثاني

الدليل الثاني على نجاسة الماء المستعمل. (43) ما رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا - عن أبي أمامة، قال: قال عمرو بن عبسة السلمي ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه، فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول، في مقام واحد يعطي هذا الرجل، فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك (¬1). ¬

(¬1) صحيح مسلم (832).

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: أن هذه الخطايا نجاسات وقاذورات فيتنجس الماء المخالط لها (¬1). ويمكن الجواب أن يقال: إن الذنوب ليست لها أجرام محسوسة نراها تخالط الماء حتى تؤثر فيه. وثانياً: العبد إذا أذنب لا يقال له تنجس وثالثاً: إذا فرغ العبد من الوضوء ثم أذنب لا يؤثر ذلك فى وضوئه، ولو كانت هذه الذنوب تؤثر فى الماء لكان لها تأثير على بدن المتلبس بها من باب أولى الدليل الثالث: قالوا: إن استعمال الماء لرفع الحدث يسمى طهارة، قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬2). والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة؛ إذ تطهير الطاهر لا يعقل (¬3). ويجاب عنه: أولاً: إنما سمي طهارة لأنه يطهر العبد من الذنوب، لا أنه طهره من نجاسة حلت فيه. ولذلك لما اعتبر أبو هريرة حدثه نجاسة بين له - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " إن المؤمن لا ينجس ". متفق عليه. وقوله: " لا ينجس" أى بمثل ذلك، وإلا فالمؤمن قد تطرأ عليه النجاسة ¬

(¬1) البناية (1/ 353، 354). (¬2) المائدة: 6. (¬3) البناية بتصرف (1/ 350، 351).

كونه طاهرا، فله أدلة كثيرة منها

الحسية كغيره. وثانياً: تجديد الوضوء يسمى طهارة شرعية مع أنه متطهر. وثالثاً: لو كان المحدث نجساً لما صح حمله فى الصلاة، وقد جاء فى حديث أبي قتادة فى الصحيحين: " أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلى، وهو حامل أمامة بنت زينب " (¬1). ورابعاً: المتوضئ لابد أن يتساقط على ثوبه من الماء المستعمل، ومعنى هذا أنه سوف تتنجس ثيابه، وكذلك ما يتنشف به، لكن حاولوا ينفكون من هذا بأنه سقط الحكم هنا لرفع الحرج، وهذا الانفكاك لا يفك، لأنه لو سقط من ثياب المتوضئ الذي عليه لم يسقط الحكم من الثياب التي يتنشف بها، ولا في ثياب غير المتوضئ، كما لوسلم عليه أو وقعت على ثيابه. دليل من قال الماء طاهر وليس بطهور. أما كونه طاهراً، فله أدلة كثيرة منها: الدليل الأول: (44) ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر، قال: أخبرني الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما صاحبه، وفيه من حديث طويل: " وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه " (¬2). ¬

(¬1) البخاري (516)، ومسلم (41 - 543). (¬2) صحيح البخاري (2734).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (45) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابراً يقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب علي من وضوئه، فعقلت، فقلت: يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني كلالة، فنزلت آية الفرائض (¬1). وفي الباب في الصحيحين من حديث أبي جحيفة والسائب بن يزيد. فإن قال الذاهبون إلى نجاسة الماء المستعمل في رفع الحدث، إن قالوا: إن هذه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. قيل: الأصل أن حكمه - صلى الله عليه وسلم - وحكم أمته واحد، حتى يقوم دليل على الخصوصية. الدليل الثالث: (46) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، أخبرنا أفلح، عن القاسم، عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد تختلف أيدينا فيه (¬2). وجه الاستدلال: أن هذا الإناء لا يسلم من رشاش يقع فيه، ولو كان المستعمل نجساً ¬

(¬1) رواه البخاري (194) ومسلم (1616). (¬2) صحيح البخاري (261) ومسلم (45 - 321)

الدليل الرابع

لنجس الماء. وقول: إن هذا مما عفي عنه يصح هذا التقدير لو صح الأصل، وهو نجاسة المستعمل، ولكنه قول شاذ. الدليل الرابع: إن المسلم بدنه طاهر بالإجماع حال الحياة (¬1)، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لأبي هريرة: إن المؤمن لا ينجس، متفق عليه. فيكون المستعمل ماء طهوراً لاقى ماء طاهراً، فكيف ينجس. هذا فيما يتعلق بالأدلة على طهارة الماء المستعمل، وأما أدلتهم على كون المستعمل ماء طاهراً غير طهور، فهاك بيانها: الدليل الأول: (47) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي وأبو الطاهر وأحمد بن عيسى جميعا، عن ابن وهب - قال هارون: حدثنا ابن وهب - أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب. فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا (¬2). وجه الاستدلال: قالوا: لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاغتسال في الماء الدائم دل ذلك ¬

(¬1) نيل الأوطار (1/ 44). (¬2) صحيح مسلم (283).

على أن الاغتسال يؤثر في الماء، ولو كان لا يؤثر لما نهى عنه، فالمراد من نهيه حتى لا يصير الماء مستعملاً (¬1). ويجاب عنه: أولاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلل بأن الماء يكون مستعملاً، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قط بأن الماء يكون مستعملاً، فهذا الكلام زيادة على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثانياً: أن الحديث نص في الماء الدائم، وهو يشمل ما فوق القلتين، وما دون القلتين، وأنتم قلتم بأنه لا يكون مستعملاً إلا إذا كان دون القلتين. فهذه مخالفة ثانية للحديث. ثالثاً: أن الحديث نهي عن الاغتسال، وذلك يعني غسل البدن كله، وأنتم أدخلتم حتى الوضوء، بل أدخلتم ما دون ذلك، وذلك كما لو أدخل بعض أعضائه ناوياً رفع الحدث، فإن الماء يكون مستعملاً عندكم أي طاهراً غير مطهر، فالحديث نص في الحدث الأكبر، فخالفتم الحديث فأدخلتم الحدث الأصغر، بل حتى ولو غمس بعض أعضاء الحدث الأصغر. وهذه مخالفة ثالثة للحديث. رابعاً: الحديث نهى الجنب أن يغتسل في الماء ما دام جنباً سواء نوى رفع الحدث أو لم ينو. لأن معنى: " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " أي لا يغتسل حالة كونه جنباً، ولم يتطرق الحديث إلى اشتراط النية، وأنتم قلتم لو انغمس وهو جنب، ولم ينو رفع الحدث لايكون الماء مستعملاً بل يبقى طهوراً. وهذه مخالفة رابعة. فتبين أن هذا الدليل لا يصلح أن يكون دليلاً لهم ¬

(¬1) المجموع (1/ 206).

دليلهم الثاني

دليلهم الثاني: قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه احتاجوا في أسفارهم الكثيرة إلى الماء، ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى، ولو كان طهوراً لجمعوه، لأن التيمم لا يجوز مع وجود الماء (¬1). ويجاب عنه: بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقتصدون في الوضوء، وقد ثبت من حديث أنس المتفق عليه قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد ... الحديث" (¬2)، بل توضأ بأقل من ذلك، وكان بعض السلف إذا توضأ لا يكاد يبلل الأرض. وعلى هذه الحال لا يمكن جمعه، ولو أمكن جمعه لكان في ذلك مشقة عظيمة، والحرج مرفوع عن هذه الأمة بنص القرآن. كما أن كونه لم يجمع لا يدل على أنه لا يتطهر به، ولهذا لم يجمعوه للشرب مع طهارته، وحاجتهم للشرب آكد، ولم يجمعوه لغير الشرب كالعجن والطبخ والتبرد، فعدم جمعه ليس دليلاً على عدم طهوريته، ثم يقال أيضاً: لم يجمعوا أيضاً الماء المستعمل في طهارة مستحبة مع كونه طهوراً، ولا يبعد أن يكون هناك من يتوضأ مجدداً الوضوء، فلم ينهض هذا دليلاً على عدم الطهورية (¬3). ¬

(¬1) المجموع (1/ 206). (¬2) صحيح البخاري (201) ومسلم (325). (¬3) أجاب الشافعية عن هذا الاعتراض بقولهم: بأن الصحابة تركوا جمعه للشرب لاستقذاره، فإن النفوس تعافه. لكن يقال: إذا كانت تعافه للشرب، فإنها لا تعافه للتطهر. انظر المجموع (1/ 206

الدليل الثالث

الدليل الثالث: ما سبق أن ذكر من أن الماء المستعمل ليس ماء مطلقاً، بل هو مقيد بكونه ماء مستعملاً، والذي يرفع الحدث هو الماء المطلق كما في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فلم يقيده بشىء، فالماء المستعمل حكمه حكم ماء الورد والزعفران والشاي وغيرهم (¬2). وأجيب: بأن لفظ (ماء) في قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} (¬3) نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، سواء كان مستعملاً أو غيره، وسواء كان متغيراً أم لم يتغير، ما دام أنه يسمى ماء، نعم خرج الماء النجس للإجماع على أنه لا يجوز التطهر به، وبقي ما عداه. الدليل الرابع: قالوا إن هذا الماء قد استعمل في عبادة واجبة، فلا يمكن أن يستعمل في عبادة أخرى، كالعبد إذا أعتق لا يمكن أن يعتق مرة أخرى (¬4). وأجيب: بأن قياس الماء على العبد قياس مع الفارق. أولاً: لأن العبد إذا أعتق صار حراً، والحر لا يعتق، وأما الماء حين استعمل بقى ماء يمكن التطهر به، ما لم توجد قرينة تدل على نجاسته، وهي ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) ذكره دليلاً لهم ابن حزم في المحلى (1/ 189) ورده عليهم. (¬3) المائدة: 6. (¬4) انظر المقنع شرح مختصر الخرقي (1/ 189)، وكشاف القناع (1/ 32).

تغير أحد أوصافه بنجاسة. ثانياً: أن العبد لو رجع إلى الكفار وغنمه المسلمون رجع إلى الرق مرة أخرى، فلا يصح القياس، فالصحيح قياس الماء المستعمل على الثوب، فالثوب حين تؤدى به عبادة واجبة، وهى ستر للعورة، لا يمنع من استعماله مرة أخرى (¬1). دليل من قال بأن الماء المستعمل طهور. الأول: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ننتقل عن ذلك إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع ولا دليل. الثاني: ما سبق ذكره من أن الماء المستعمل ماء طهور لا قى بدناً طاهراً فلا يتأثر. الثالث: سبق أن أثبت في مسألة أقسام الماء أن الماء قسمان، طهور ونجس، ولا يوجد قسم يسمى بالماء الطاهر. الرابع: الماء المتردد على العضو طهور بالإجماع مع أنه يمر على أول اليد ثم يمر على آخرها ولم يمنع كونه استعمل في أول العضو أن يطهر بقية العضو، ثم إن المتوضئ يرد يده إلى الإناء فيأخذ ماءً آخر للعضو الآخر، فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لم يطهر العضو الثاني إلا بماء جديد قد مازجه ماء آخر مستعمل في تطهير عضو آخر، وهذا ما لا مخلص منه (¬2). ¬

(¬1) فرق الحنابلة بين استعمال الماء في عبادة، واستعمال الثوب. انظر المقنع شرح مختصر الخرقي (1/ 189)، قالوا: إن استعمال الماء على وجه الإتلاف فيؤثر بخلاف استعمال الثوب في ستر العورة فإنه ليس على وجه الإتلاف وهذا التعليل ضعيف. (¬2) المحلى (1/ 184). مع أن الذين قالوا بأنه مستعمل لا يحكمون له بالاستعمال إلا إذا =

الخامس: إذا كان هذا الماء إذااستعمل للتبرد أو لتنظيف الثوب الطاهر كان طهوراً بالإجماع (¬1)، فهذا مثله إذ الفرق بين هذا الغسل وذاك هو النية فقط، والنية لا أثر لها في الماء لأن محلها القلب. السادس: أن الله سبحانه وتعالى إنما أوجب التيمم على من لم يجد الماء، قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2) فكيف يقال بالتيمم مع وجود ماء باق على صفته التي خلقه الله عليها. السابع: استدلوا ببعض الأدلة التي فيها ضعف أو نزاع، وإن كان ما سبق من الأدلة كاف في بيان أنه القول الراجح، لكن إتماماً للفائدة أنقلها وأبين وجه النزاع فيها، فمنها: (48) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: حدثتني الربيع بنت معوذ ابن عفراء، قالت: كان رسول الله يأتينا فيكثر، فأتانا فوضعنا له الميضأة، فتوضأ فغسل كفيه ثلاثاً، ومضمض واستنشق مرة مرة، وغسل وجهه ثلاثاً، وذارعيه ثلاثاً، ومسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه مرتين، بدأ بمؤخره، ثم رد يده إلى ناصيته، وغسل رجليه ثلاثاً، ومسح إذنيه مقدمهما ومؤخرهما (¬3). ¬

= انفصل من العضو، وما دام لم ينفصل لا يعتبر مستعملاً عندهم. وهذا الشرط دليل على ضعف هذا القول، فكونه انفصل أو لم ينفصل هو في حقيقته ماء قد استعمل في رفع الحدث. (¬1) قال في المغني (1/ 34): ولا تختلف الرواية أن ما استعمل في التبرد والتنظيف أنه باقي على إطلاقه، ولا نعلم فيه خلافا. (¬2) المائدة: 6. (¬3) مسند أحمد (6/ 358).

[إسناده ضعيف] (¬1). ¬

(¬1) مدار الحديث على عبد الله بن عقيل، وقد تفرد به، والأكثر على ضعفه، وقد حررت الأقوال فيه في كتاب الحيض والنفاس، فليراجع، وقد اختلف عليه في لفظه: وقد رواه عن ابن عقيل، جماعة منهم.: الطريق الأول: الثوري، عن ابن عقيل. أخرجه أحمد كما في إسناد الباب، ومن طريق أحمد أخرجه ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (155). وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 28) رقم 211 حدثنا وكيع به، مختصراً: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ومسح رأسه بما بقي من وضوئه. وأخرجه الطبراني في الكبير (24/ 269) رقم قال: حدثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع به، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتينا، فيكثر، قالت: فأتانا فوضعنا له الميضأة، فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثا، ثم مضمض واستنشق مرة، وغسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا، ومسح بما بقي من وضوئه مرتين، يبدأ بمؤخره، ثم رد يديه على ناصيته، وغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً. ومن طريق عبيد بن غنام أخرجه البيهقي في الخلافيات (122). وأخرجه ابن ماجه في السنن (418) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: حدثنا وكيع به، بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً. وبهذا اللفظ أخرجه الطبراني في الكبير (24/ 269) رقم 680 من طريق محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا وكيع به. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 65) من طريق يحيى بن يحيى، أنا وكيع به، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأدخل أصبعيه في أذنيه. أخرجه أبو داود (130) قال: حدثنا مسدد، عن عبد الله بن داود، عن سفيان بن سعيد، عن ابن عقيل، عن الربيع، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه من فضل ماء كان في يده. ومن طريق أبي داود أخرجه البغوي في شرح السنة (1/ 438) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 237) وقال: هكذا رواه جماعة عن عبد الله بن داود وغيره، عن الثوري، وقال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بعضهم: ببلل يديه، وكأنه أراد أخذ ماء جديدا فصب بعضه، ومسح رأسه ببلل يديه، وعبد الله بن محمد بن عقيل لم يكن بالحافظ، وأهل العلم بالحديث مختلفون في جواز الاحتجاج برواياته. وأخرجه الطبراني في الكبير (24/ 268) رقم 679 قال: حدثنا معاذ بن المثنى وأبو مسلم الكشي، قالا: ثنا مسدد به. وأخرجه في الكبير أيضاً (24/ 270) رقم 686 مطولاً، وليس فيه موضع الشاهد. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 288) حدثنا يحيى بن محمد، ثنا مسدد به. الطريق الثاني: عن معمر، عن ابن عقيل. أخرجه عبد الرزق (11) قال: عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت عفراء، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح رأسه مرتين. وليس فيه موضع الشاهد من الوضوء بما بقي من يديه. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 400) بلفظ: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح بأذنيه ظاهرهما، وباطنهما. والطبراني في الكبير (24/ 266) رقم 673 مطولاً وليس فيه أنه مسح رأسه بما بقي في يديه. ورواه الطبراني أيضاً (24/ 266) رقم 674 من طريق حماد بن زيد، عن معمر به. الطريق الثالث: بشر بن مفضل، عن ابن عقيل: رواه أبو داود (126) حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل به. وليس فيه أنه مسح رأسه بما بقي في يديه. وأخرجه الترمذي (33) ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا بشر بن المفضل به. الطريق الرابع: الحسن بن صالح، عن ابن عقيل. أخرجه أحمد (6/ 359) قال: ثنا وكيع، عن حسن، عن ابن عقيل، عن الربيع بنت معوذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأدخل إصبعيه في حجر أذنيه. وأخرجه أبو داود (131) ومن طريقه البيهقي (1/ 65) قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا وكيع، ثنا الحسن بن صالح به. وأخرجه ابن ماجه (441) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: ثنا وكيع، عن الحسن بن صالح به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وتابع وكيعاً أبو غسان، فأخرجه الطبراني في الكبير (24/ 267) قال: حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا، أبو غسان مالك بن إسماعيل، ثنا الحسن بن صالح به، مطولاً بذكر صفة الوضوء، وليس فيه موضع الشاهد من مسح الرأس بالماء المستعمل. الطريق الخامس: روح بن القاسم، عن ابن عقيل. رواه الطبراني في الكبير (24/ 267) رقم 676 وفي الأوسط (3/ 35) رقم 2388 قال: حدثنا أبو مسلم الكشي، ثنا محمد بن المنهال، ثنا يزيد بن زريع، ثنا روح بن القاسم، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتينا، فنأتيه بميضأة لنا فيها ماء، يأخذ بمد المدينة مداً ونصفاً أو ثلثاً، فأصب عليه، فيغسل يديه ثلاثا، ويمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ثلاثاً، ويمسح برأسه مرة واحدة، ويمسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما، ويطهر قدميه. الطريق السادس: سفيان بن عيينة، عن ابن عقيل. رواه أحمد (6/ 358) قال: ثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، قال: أرسلني علي بن حسين إلى الربيع بنت معوذ بن عفراء فسألتها عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرجت له يعنى إناء يكون مداً أو نحو مد وربع، قال سفيان: كأنه يذهب إلى الهاشمي، قالت: كنت أخرج له الماء في هذا، فيصب على يديه ثلاثاً أوقال: مرة يغسل يديه قبل أن يدخلهما، ويغسل وجهه ثلاثاً، ويمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل يده اليمنى ثلاثاً، واليسرى ثلاثاً، ويمسح برأسه، وقال: مرة أو مرتين مقبلاً ومدبراً، ثم يغسل رجليه ثلاثاً، قد جاءني ابن عم لك، فسألني وهو ابن عباس، فأخبرته، فقال: لي ما أجد في كتاب الله الا مسحتين وغسلتين. ولم يذكر موضع الشاهد. وأخرجه الحميدي (342) ثنا سفيان به. وزاد: ووصف لنا سفيان المسح، فوضع يديه على قرنيه، ثم مسح بهما إلى جبهته، ثم رفعهما ووضعهما على قرنيه من وسط رأسه، ثم مسح إلى قفاه. قال سفيان: وكان ابن عجلان حدثناه أولاً عن ابن عقيل، عن الربيع، فزاد في المسح، قال: ثم مسح من قرنيه على عارضيه حتى بلغ طرف لحيته، فلما سألنا ابن عقيل عنه لم يصف لنا في المسح العارضين، وكان في حفظه شيء، فكرهت أن ألقنه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الطبراني في الكبير (24/ 267) رقم 677 من طريق الحميدي به، وقرنه برواية حجاج بن منهال، ومحمد بن أبي عمر كلاهما، عن سفيان به. وأخرجه أبو داود في السنن (127) ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا سفيان به، وأحال على حديث بشر بن المفضل عن ابن عقيل، وقال: يغير بعض معاني بشر. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 373) من طريق سعيد، ثنا سفيان به. وأخرجه الدارقطني (1/ 96) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 72) قال:، حدثنا إبراهيم بن حماد، ثنا العباس بن يزيد، نا سفيان بن عيينة به. الطريق السابع: شريك، عن ابن عقيل. أخرجه ابن ماجه (390) قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا الهيثم بن جميل، ثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل به، بلفظ: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بميضأة، فقال: اسكبي، فسكبت، فغسل وجهه وذراعيه، وأخذ ماء جديداً، فمسح به رأسه مقدمه ومؤخره، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً. وهنا فيه تصريح أنه أخذ ماء جديداً لرأسه، إلا أنه من طريق شريك، وشريك سيء الحفظ. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 236) من طريق سعيد بن عثمان التنوفي، قال: حدثنا الهيثم بن جميل به. وأخرجه ابن ماجه (440) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شريك به. بلفظ: " توضأ فمسح ظاهر أذنيه وباطنهما ". وأخرجه الطبراني في الكبير (24/ 269) رقم 683، قال: حدثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا شريك به. وأخرجه الطبراني أيضاً (24/ 269) رقم 682، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، ثنا شريك به. الطريق الثامن: فليح بن سليمان، عن ابن عقيل. أخرجه الطبراني في الكبير (24/ 271) رقم 685 من طريق سريج بن النعمان الجوهري، ثنا فليح بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل به. الطريق التاسع: عبيد الله بن عمرو، عن ابن عقيل. أخرجه الدارمي (690) أخبرنا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل به، مختصراً. الطريق العاشر: سعيد بن أبي عروبة، عن ابن عقيل. أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 511) رقم 943 من طريق صدقة بن عبد الله، عن سعيد بن أبي عروبة به. الطريق الحادري عشر: محمد بن عجلان، عن ابن عقيل. أخرجه أحمد (6/ 359) قال: ثنا يونس، ثنا ليث، عن محمد بن عجلان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبى طالب، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ عندها، فمسح الرأس كله من فوق الشعر كل ناحية لنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته. وأخرجه أحمد (6/ 360) ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ليث به. وأخرجه أبو داود في السنن (128) ثنا قتيبة بن سعيد، ويزيد بن خالد الهمداني، قالا: ثنا ليث به. وأخرجه الطبراني (24/ 271) رقم 688 من طريق قتيبة بن سعيد وعبد الله بن صالح، قالا: ثنا الليث به. وأخرجه البيهقي في الكبرى (1/ 60) من طريق يحيى بن بكير، ثنا الليث به. وتابع الليث جماعة، منهم: بكر بن مضر، كما عند الترمذي (34)، وأبو داود (129) البغوي (1/ 438)، والطبراني في الكبير (689). ومنهم: سعيد بن أبي أيوب، عن ابن عجلان، كما في سنن البيهقي (1/ 59). ومنهم قيس بن الربيع، كما عند الطبراني (693). ومنهم بقية، كما عند الطبراني (690). هذا ما وقفت عليه من طرق حديث ابن عقيل، وقد تكون لحظت معي أن حديث ابن عقيل فيه اختلاف كثير في لفظه، وتارة يورده مختصراً وتارة مفصلاً. وموضع الشاهد منه جاء من طريق سفيان، عن ابن عقيل بألفاظ مختلفة، ورواه أحد عشر نفساً عن ابن عقيل، ولم يذكروا ما ذكره سفيان، من مسح الرأس من بلل اليدين، ولفظه عن وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل: جاء عند أحمد: " ومسح رأسه بما بقي من وضوء في يديه مرتين، بدأ بمؤخره ثم رد يده إلى ناصيته ". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولفظ أبي داود من طريق عبد الله بن داود، عن سفيان، عن ابن عقيل: " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه من فضل ماء كان في يده ". ولفظ الدارقطني من طريق عبد الله بن داود، توضأ ومسح رأسه ببلل يديه. وفي رواية من نفس الطريق: " ومسح رأسه بما فضل في يديه من الماء. وهذا الخطأ من ابن عقيل؛ لأن في حفظه ليناً. ولحديث سفيان عن ابن عقيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه بفضل يديه. شاهد مرسل بسند لا بأس به. فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 21) قال: حدثنا وكيع عن معمر عن أبي جعفر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أنه كان يمسح رأسه بفضل وضوئه ". ومعمر هذا: هو معمر بن يحيى بن سام، وقد أخرج له البخاري حديثاً واحداً. في المتابعات. قال أبو زرعة: ثقة. الجرح والتعديل (8/ 258). وقال الآجري، عن أبي داود: بلغني أنه لا بأس به وكأنه لم يرضه. تهذيب التهذيب (10/ 223). وذكره ابن حبان في الثقات. (7/ 485). وفي التقريب مقبول، والحق أنه صدوق، فيكفي فيه توثيق أبي زرعة، وابن حبان، وأبو جعفر: هو محمد بن علي بن الحسين. وقد خالف حديث عبد الله بن عقيل، حديث عبد الله بن زيد عند الإمام مسلم (236) من طريق ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن حبان بن واسع حدثه، أنه سمع عبد الله بن زيد بن عاصم المازني يذكر " أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمضمض، ثم استنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويده اليمنى ثلاثاً، والأخرى ثلاثاً، ومسح برأسه بماء غير فضل يده، وغسل رجليه حتى أنقاهما". فهذا هو المعروف من الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ ماء جديداً لرأسه غير فضل يديه. ويحتمل أن يقال: إنه لا تعارض بينهما. لأن كونه - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه بماء غير فضل يديه لا يدل على الحصر، ولا نفي لما عداه، ولا يستلزم عدم وقوع غيره. فيحتمل أن يكون فعل هذا مرة، وهذا مرة. خاصة أن كل حديث له إسناد مستقل فيعتبر حديثاً برأسه، وهذا جيد =

وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه، ومسحه فرض بالماء المتبقي من غسل يديه، إذاً هو قد رفع الحدث بماء مستعمل. الدليل الثاني: (49) ما روه أحمد، قال: ثنا على بن عاصم، ثنا أبو على الرحبي، عن عكرمة، أنا ابن عباس، قال: اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنابة، فلما خرج رأى لمعة على منكبه الأيسر لم يصبها الماء، فأخذ من شعره فبلها، ثم مضى إلى الصلاة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: (50) وأخرجه ابن شيبة، قال: حدثنا هشيم وابن علية ومعتمر، عن ¬

= لولا ضعف عبد الله بن عقيل من جهة، وكثرة من روى عنه الحديث بدون هذه الزيادة، والله أعلم. (¬1) مسند أحمد (1/ 243). (¬2) فيه أبو علي الرحبي: اسمه حسين بن قيس. قال أحمد: متروك الحديث ضعيف الحديث. الضعفاء الكبير (1/ 247). قال البخاري: ترك أحمد حديثه. التاريخ الكبير (2/ 393). وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار، ويلزق رواية الضعفاء، كذبه أحمد بن حنبل، وتركه يحيى بن معين. المجروحين (1/ 242). والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 46) رقم 456 ومن طريقه ابن ماجه (663)، والبيهقي في الخلافيات (3/ 17) من طريق مسلم بن سعيد عن أبي علي الرحبي به، بنحوه. وأخرجه البيهقي في الخلافيات أيضاً (1/ 17) من طريق علي بن عاصم، عن أبي علي الرحبي به.

إسحاق بن سويد العدوي، قال: حدثنا العلاء بن زياد، قال: اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنابة، فخرج، فأبصر لمعة بمنكبه لم يصبها الماء، فأخذ بجمته فبلها به. [رجاله ثقات، إلا أنه مرسل] (¬1). الدليل الرابع: (51) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خلاس فيما يعلم حماد، عن علي قال: إذا توضأ الرجل، فنسي أن يمسح برأسه، فوجد فى لحيته بللاً، أخذ من لحيته، فمسح رأسه. [ضعيف فيه عنعنة قتادة، وخلاس لم يسمع من علي] (¬2). الدليل الخامس: (52) روى ابن ماجه، قال: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا أبو الأحوص، عن محمد بن عبيد الله، عن الحسن بن سعد، عن أبيه، ¬

(¬1) المصنف (1/ 45) رقم 444. ومن طريق إسحاق بن سويد أخرجه أبو داود في المراسيل (7). وتابع هشام بن حسان إسحاق بن سويد فيما رواه عنه عبد الرزاق في المصنف (1015). (¬2) المصنف (1/ 28) رقم 218. قال أحمد بن حنبل: كان يحي بن سعيد يتوقى أن يحدث عن خلاس، عن على خاصة. وقال أبو داود: " كانوا يخشون أن يكون خلاس يحدث عن صحيفة الحارث الأعور. انظر تهذيب الكمال (8/ 364،365). وأثر علي فيه إشكال آخر من الناحية الفقهية، وهى عدم مراعاة الترتيب، وهى مسألة خلافية وسوف تأتي إن شاء الله في باب الوضوء.

عن علي، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني اغتسلت من الجنابة، وصليت الفجر، ثم أصبحت، فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل السادس: (53) ما رواه البيهقي في الخلافيات، من طريق يحيى بن عنبسة، ثنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فبقيت لمعة في جسده، فقيل له: يا رسول الله هذه لمعة في جسدك لم يصبها الماء، قال: فأومأ إلى بلل شعره فبله، فأجزأه ذلك (¬3). [إسناده ضعيف جداً إن لم يكن موضوعاً] (¬4). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (466). (¬2) فيه محمد بن عبيد الله العرزمي، وهو متروك. ورواه البيهقي في الخلافيات (3/ 16) من طريق مسدد، حدثنا أبو الأحوص به. قال البوصيري: وهذا إسناد ضعيف لضعف محمد بن عبيد الله العرزمي. وضعفه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 237) وأحال على الخلافيات، وقال: ولا يصح شيء من ذلك لضعف أسانيده، وقد بينته في الخلافيات، وأصح شيء فيه ما رواه أبو داود في المراسيل، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن إسحاق بن سويد، عن العلاء بن زياد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اغتسل فرأى لمعه في منكبه لم يصبها الماء فأخذ خصلة من شعر رأسه فعصرها على منكبه ثم مسح يده على ذلك المكان، وهذا منقطع. (¬3) الخلافيات (1/ 18، 19). (¬4) فيه يحيى بن عنبسة، قال البيهقي: يحيى بن عنبسة هذا كان يتهم بالوضع ..

الدليل السابع: (54) ما رواه الدراقطني، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا، نا هارون بن إسحاق، نا ابن أبي غنية، عن عطاء بن عجلان، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنابة، فرأى لمعة بجلده لم يصبها الماء، فعصر خصلة من شعر رأسه، فأمسها ذلك الماء (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثامن: (55) ما روه الدارقطني، قال: حدثنا سعيد بن محمد بن أحمد الحناط، ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، نا المتوكل بن فضيل أبو أيوب الحداد بصرى، عن أبي ظلال، عن أنس بن مالك، قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، وقد أغتسل من جنابة، فكان نكتة مثل الدرهم يابس لم يصبه الماء، فقيل: ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 112). (¬2) فيه عطاء بن عجلان، قال البيهقي في الخلافيات: متروك الحديث. الخلافيات (1/ 20). وقال ابن الجوزي في الواهيات: فيه عطاء بن عجلان، قال: يحيى ليس بشيء كذاب. وقال مرة: كان يوضع له الحديث، فيحدث به، وقال الفلاس: كذاب. وقال الرازي والدارقطني: متروك. اهـ والحديث رواه البيهقي في الخلافيات (3/ 20)، وابن الجوزي في الواهيات (569) من طريق الدارقطني به.

يارسول الله إن هذا الموضع لم يصبه الماء، فسلت شعره من الماء، ومسحه به، ولم يعد الصلاة (¬1). قال الدارقطني: المتوكل بن فضيل ضعيف (¬2). الدليل التاسع: استدل ابن قدامة بما رواه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، ثنا أبوالأحوص، ثنا سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنباً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء لا يجنب (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). وجه الاستدلال: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الماء لا يجنب حتى ولو كان مستعملاً في رفع الحدث لا تنتقل إليه الجنابة. ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 112). (¬2) ومن طريق الدارقطني رواه البيهقي في الخلافيات (3/ 21،22)، وابن الجوزي في الواهيات (569). والمتوكل جاء في ترجمته: قال البخاري: عنده عجائب. التاريخ الكبير (8/ 43). وقال أبو حاتم الرازي: مجهول. الجرح والتعديل (8/ 372). وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه. الميزان (4/ 316). (¬3) سنن أبي داود (68). (¬4) سبق الكلام عليه، وأن العلة فيه رواية سماك عن عكرمة وفيها اضطراب.

دليل من قال الماء المستعمل طهور مكروه

وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر، من وجهين: الأول: المحفوظ في هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء لا ينجسه شيء، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في مسألة الوضوء بفضل المرأة. الثاني: ليس في الحديث ما يدل على التطهر بالماء المستعمل، نعم يدل الحديث على جواز الوضوء بفضل المرأة، وهناك فرق بين المسألتين. والله أعلم. دليل من قال الماء المستعمل طهور مكروه. قال الخرشي: وعللت الكراهة بعلل كلها لا تخلو من ضعف، والراجح في التعليل مراعاة الخلاف، كما قال ابن الحاجب لأن أصبغ قائل بعدم الطهورية " (¬1) اهـ. قلت: وقد سبق لك أن تعليل الكراهة بوجود الخلاف أنه قول ضعيف جداً، لأن الكراهة حكم شرعي لا يقوم إلا على دليل شرعي، ووجود الخلاف ليس من أدلة الشرع، والراجح أن الماء المستعمل في طهارة واجبة طهور غير مكروه. ¬

(¬1) الخرشي (2/ 75).

الفصل الثاني الماء المستعمل في طهارة مستحبة

الفصل الثاني الماء المستعمل في طهارة مستحبة عرفنا متى يكون الماء مستعملا، وعرفنا حكم الماء المستعمل في طهارة واجبة، فهل يختلف الحكم لو كان الماء المستعمل في طهارة مستحبة، اختلف الفقهاء: فقيل: إنه نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة، ولا فرق عنده بين أن يستعمل في طهارة واجبة أو مستحبة (¬1). وقيل: إنه طاهر، اختارها من الحنفية العراقيون، ومشايخ ما رواء النهر (¬2)، ¬

(¬1) في تعريف الماء المستعمل قال في البحر الرائق (1/ 97): " الماء يصير مستعملاً بواحد من ثلاثة: إما بإزالة الحدث، سواء كان معه تقرب أو لا. يقصد كان معه نية ألا، لأن الحدث عندهم يرتفع، ولو لم ينو رفع الحدث. قال: أو إقامة القربة سواء كان معه رفع الحدث أو لا - يقصد: أن الطهارة لم تكن عن حدث، وإنما نوى تجديداً مسنوناً. قال: أو إسقاط الفرض. يعني فرض الطهارة. اهـ، فهذا دليل على أن الماء يكون مستعملاً ولو كان في طهارة مستحبة؛ لأن الطهارة المستحبة طهارة قربة، أي يتقرب بها العبد إلى الله، انظر شرح فتح القدير (1/ 87)، والمبسوط (1/ 46)، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/ 200، 201)، (¬2) قال العيني في البناية (1/ 349): ورواه زفر رحمه الله أيضاً عن أبي حنيفة يعني، كونه طاهراً. ثم قال: حتى كان قاضي القضاة أبو حازم عبد الحميد العراقي يقول: ارجو أن لا تثبت رواية النجاسة فيه عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر، قال في المحيط: وهو الأشهر الأقيس. قال في المفيد: وهو الصحيح. قال الاسبيجابي: وعليه الفتوى

دليل القائلين بأنه نجس

وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1). وقيل: إنه طهور مكروه في رفع الحدث، غير مكروه في زوال الخبث، وهو مذهب المالكية، ولا فرق عندهم في الحكم بين ما استعمل في طهارة واجبة أو مستحبة (¬2)، واختار الكراهة بعض الحنابلة (¬3). وقيل: إنه طهور مطلقاً غير مكروه، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). دليل القائلين بأنه نجس انظر أدلتهم في الخلاف في الماء المستعمل في طهارة واجبة، لأنهم لايفرقون بين ما استعمل في طهارة واجبة، أو طهارة مستحبة ما دام أن ¬

(¬1) المجموع (1/ 210). (¬2) القوانين الفقهية (ص: 25) وحاشية الدسوقي (1/ 41 - 43). وعند المتأخرين: تردد هل يسوى بين الماء المستعمل في طهارة واجبة والمستعمل في طهارة مستحبة؟ وسبب هذا التردد أنه لا يوجد نص من المتقدمين في التفريق، ولذلك اعتمدت على لا أنه لا فرق عندهم في المسألتين. والله أعلم (¬3) قال صاحب زاد المستقنع (ص: 20): وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء، وغسل جمعة، وغسلة ثانية وثالثة كره. (¬4) قال النووي في المجموع (1/ 210): " واتفق الجماهير في جميع الطرق على أن الصحيح أنه ليس بمستعمل، وهو ظاهر نص الشافعي، وقطع به المحاملي في المقنع، والجرجاني في كتابيه ". الخ وانظر حاشية الجمل (1/ 39). وقال في حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 82): " وخرج بالمستعمل في فرض: المستعمل في نفل الطهارة، كالغسل المسنون والوضوء المجدد، فإنه طهور على الجديد ". (¬5) شرح منتهى الإرادات (1/ 15) المبدع (1/ 45)، وقال البهوتي: في كشاف القناع (1/ 23): وظاهر المنتهى: كالتنقيح، والمبدع، والإنصاف وغيرها عدم الكراهة.

دليل القائلين بأنه طاهر غير طهور

الطهارة مشروعة. دليل القائلين بأنه طاهر غير طهور. جمهورهم فرقوا بين ما استعمل في طهارة واجبة، وبين ما استعمل في طهارة مستحبة، فالأول قالوا: بأنه طاهر، والثاني طهور. وسبب التفريق عندهم قولهم: أن ما استعمل في طهارة مستحبة لم يرفع حدثاً، ولم يذهب خبثاً، وبالتالي لم يتأثر الماء، غاية ما فيه أنه لا قى بدناً طاهراً، وهذا لايؤثر، بخلاف ما استعمل في رفع الحدث، فقد أثر في طهارة المحل. وانظر أدلتهم في الخلاف في الماء المستعمل في طهارة واجبة. دليل القائلين بأنه طهور الدليل الأول: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ينتقل عنه إلا لدليل من كتاب أو سنة، ولا دليل. الدليل الثاني: الماء المستعمل في الطهارة يسمى ماء، وهو ماء مطلق لم يتغير، والله يقول سبحانه: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فكيف يتيمم مع وجود ماء باق على خلقته التي خلقه الله عليها. الدليل الثالث: قال ابن المنذر: وفي إجماع أهل العلم أن الندى الباقي على أعضاء المتوضي والمغتسل وما قطر منه على ثيابهما طاهر، دليل على طهارة الماء ¬

(¬1) المائدة: 6.

الدليل الرابع

المستعمل، وإذا كان طاهراً فلا معنى لمنع الوضوء به بغير حجة (¬1). الدليل الرابع: إذا كان الماء إذا غسل به الثوب طهور، فكذلك الماء إذا غسل به البدن طهور ولا فرق بين ماء غسل به ثوب طاهر، وبين ماء غسل به بدن طاهر، والحدث معنى وليس نجاسة حتى يقال: إن الماء يتأثر بالنجاسة أو يتأثر بالانتقال إلى كونه طاهراً. الراجح أن الماء المستعمل طهور، فلا فرق بين ما استعمل في طهارة واجبة، وبين ما استعمل في طهارة مستحبة، وسبب ترجيح هذا القول: أولاً: لقوة أدلته، ودلالتها على المراد، في مقابل ضعف أدلة المخالفين. ثانياً: أن في هذا رفعاً للمشقة والحرج عن الأمة، وهذا هو مقتضى الدين الإسلامي. ثالثاً: ورود المناقشة المؤثرة على أدلة الأقوال المخالفة، مع سلامة أدلة هذا القول. ¬

(¬1) الأوسط (1/ 288).

الفصل الثالث الماء المستعمل في طهارة غير مشروعة

الفصل الثالث الماء المستعمل في طهارة غير مشروعة تبين لنا حكم الماء المستعمل في طهارة واجبة أو مستحبة، فما حكم الماء فيما لو كانت الطهارة غير مشروعة كالغسلة الرابعة في الوضوء، والغسل الثانية والثالثة في الاغتسال ونحوها؟ اختلف الفقهاء في ذلك: فقيل: إن أراد بها ابتداء الوضوء، أي زاد بعد فراغه من الوضوء الأول، صار الماء مستعملاً، وإن أراد الزيادة على الوضوء الأول، ففيها قولان: فقيل: يصير الماء مستعملاً؛ لأن الزيادة في معنى الوضوء على الوضوء. وقيل: لا يصير مستعملاً؛ لأنه من باب التعدي، وهذا مذهب الحنفية (¬1). فقيل: ما استعمل في طهارة غير مشروعة كالغسلة الرابعة طهور غير مستعمل، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره بعض المالكية (¬4)، وقيل: طهور مكروه، وهو قول في مذهب المالكية (¬5). ¬

(¬1) انظر بدائع الصنائع (1/ 69)، حاشية ابن عابدين (1/ 199). (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 211): " واتفقوا على أن المستعمل في الغسلة الرابعة ليس بماء مستعمل؛ لأنها ليست بنفل ". (¬3) الإنصاف (1/ 37)، كشاف القناع (1/ 33)، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 34،35). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 42)، الخرشي (1/ 75)، مواهب الجليل (1/ 70). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 42).

دليل من قال يصبح الماء مستعملا

دليل من قال يصبح الماء مستعملاً. قالوا: إن الغسلة الرابعة في معنى الوضوء، فتكون مؤثرة في طهوريته. دليل من قال الماء طهور غير مستعمل. قالوا: إن الماء المستعمل في الغسلة الرابعة لم يرتفع بها حدث، ولم تقع على وجه القربة، بحيث تكون مؤثرة في طهارة المحل، فغاية ما هناك ماء طهور لا قى بدناً طاهراً، وهذا لا يخرجه عن طهوريته. دليل من قال طهور مكروه. تعليلهم بوجود الخلاف في طهوريته، فما دام أن هناك خلافاً في طهورية هذا الماء، فنكره التطهر به خروجاً من الخلاف. وقد سبق لك الجواب عن اعتبار الخلاف دليلا على الكراهة، وأنه قول ضعيف جداً، وليس الخلاف من أدلة الشرع المتفق عليها، ولا المختلف فيها، والخلاف إن كان له حظ من النظر بحيث تكون له أدلة معتبرة فحينئذ يكون له اعتبار من أجل الأدلة الثابتة، وإن لم يكن له أدلة معتبرة، فلا حظ له ولا اعتبار، ومع ذلك فليس التعليل بالخلاف حجة شرعية، وإنما العبرة بالدليل الشرعي.

الفصل الرابع الماء المستعمل في التبرد والنظافة

الفصل الرابع الماء المستعمل في التبرد والنظافة إذا استعمل الماء للتبرد، فهل يكون مستعملاً أم يبقى طهوراً، اختلف العلماء في ذلك، فقيل: إن كان محدثاً صار الماء مستعملاً في مذهب أبي حنيفة، لوجود إزالة الحدث؛ لأن الحدث عنده يرتفع، ولو لم ينو، وإن كان استعمله للتبرد، وهو متوضئ، فهو طهور (¬1). وقيل: الماء طهور بلا كراهة، وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية والحنابلة (¬3). وهذا هو الراجح؛ فإذا كنا رجحنا أن الماء المستعمل في رفع الحدث أنه طهور غير مكروه، فمن باب أولى أن يكون الماء المستعمل للتبرد طهوراً غير مكروه، وغاية ما فيه ماء طهور لا قى بدناً طاهراً فلم يخرجه عن حكمه، ومن ادعى خروجه عن حد الطهورية فليس معه دليل، والماء نوعان لا ثالث لهما: نجس، وهو ما تغير أحد أوصافه الثلاثة من لونه أو طعمه أوريحه بنجاسة وقعت فيه. وطهور، وهو خلاف الماء النجس، وهو الماء الباقي على خلقته حقيقة ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 24)، المبسوط (1/ 69)، شرح فتح القدير (1/ 88). (¬2) مواهب الجليل (70)،. (¬3) قال ابن قدامة في المغني (1/ 30): " ولا تختلف الرواية أن ما استعمل في التبرد والتنظف، أنه باق على إطلاقه، ولا نعلم فيه خلافاً ".

أو حكماً، ولا يوجد قسم ثالث لهما، وقد أبطلنا أدلة من قسم الماء إلى ثلاثة أقسام، مثبتاً القسم الطاهر، فإذا لم يثبت قسم الماء الطاهر، لم تثبت كل مسألة حكم فيها الفقاء بأن الماء طاهر غير طهور، ومنه مسألتنا هذه، والله أعلم.

الفصل الخامس الماء المستعمل في غمس يد القائم من النوم

الفصل الخامس الماء المستعمل في غمس يد القائم من النوم ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حكم غسل اليد قبل إدخالها الإناء. المبحث الثاني: هل الحكم خاص في من قام من نوم الليل.

*

الفصل الخامس الماء المستعمل في غمس يد القائم من النوم اختلف العلماء في الماء إذا غمس فيه يد قائم من نوم الليل، فقيل: الماء طهور، ولا يكون مستعملاً بذلك، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4)، ومذهب الظاهرية (¬5). ¬

(¬1) أحكام القرآن ـ الجصاص (2/ 496،497)، بدائع الصنائع (1/ 20)، العناية شرح الهداية (1/ 20)، شرح فتح القدير (1/ 20)، البحر الرائق (1/ 18)، حاشية ابن عابدي (1/ 110). (¬2) المنتقى (1/ 47)، الخرشي (1/ 132) وانظر بداية المجتهد (1/ 105)، وقال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 252) عن مذهب مالك: "من استيقظ من نومه، أو مس فرجه، أو كان جنباً، أو امراة حائضاً، فأدخل أحدهم يده في وضوئه فليس ذلك يضره إلا أن تكون في يده نجاسة كان ذلك الماء قليلاً أو كثيراً، ولا يدخل أحد منهم يده حتى يغسلها ". قال ابن عبد البر: " الفقهاء على هذا كلهم يستحبون ذلك، ويأمرون به، فإن أدخل أحد يده بعد قيامه من نومه في وضوئه قبل أن يغسلها، ويده نظيفة لا نجاسة فيها، فليس عليه شىء ولا يضر ذلك وضوءه " اهـ (¬3) الأم (1/ 39)، المجموع (1/ 214،389،390)، طرح التثريب (2/ 45)، شرح البهجة (1/ 105)، تحفة المحتاج (1/ 226)، نهاية المحتاج (1/ 185،186)، حاشية البجيرمي (1/ 160،161)، مطالب أولى النهى (1/ 92). (¬4) الفتاوى الكبرى - ابن تيمية (1/ 217،425)، الفروع (1/ 79)، الإنصاف. (¬5) المحلى (1/ 155،156،294)، وقال ابن عبد البر في التمهيد (1/ 253، 254): " وتحصيل مذهب داود وأكثر أصحابه أن فاعل ذلك عاص إذا كان بالنهي عالماً، والماء طاهر، والوضوء به جائز ما لم تظهر فيه نجاسة " اهـ ..

قال ابن تيمية: وهو قول أكثر الفقهاء (¬1)، ورجحه ابن القيم (¬2). وقيل: إن الماء ينجس إذا كان الماء قليلاً، وهو مذهب الحسن البصري، وإسحاق بن راهوية، ومحمد بن جرير الطبري (¬3)، وهو رواية عن أحمد (¬4). وقيل: إن الماء يكون طاهراً غير مطهر، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، وهو من المفرادت (¬6). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 44). (¬2) تهذيب السنن (1/ 69) وحكم على القول بأن الماء يكون مستعملاً بأنه قول ضعيف. (¬3) شرح النووي لصحيح مسلم (3/ 231) في الكلام على حديث رقم 278، والمجموع (1/ 390، 391). (¬4) الإنصاف (1/ 38)، وذكر أنها من المفردات، واختارها من أصحاب الإمام أحمد الخلال. (¬5) انظر مسائل أحمد رواية أبي داود (ص: 9)، والفتاوى الكبرى - ابن تيمية (1/ 217،425)، الفروع (1/ 79)، الإنصاف (1/ 38)، شرح منتهى الإرادات (1/ 19)، كشاف القناع (1/ 33، 34). (¬6) المذهب لا يكون طاهراً إلا بشروط، منها: الأول: أن يكون الماء قليلاً، وحد القليل عندهم: أن يكون دون القلتين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لايغمس يده في الإناء، وإناء الوضوء إناء صغير. الثاني: أن يغمس كامل يده، لحديث أبي هريرة في الصحيحين، وفيه: "فلا يغمس يده"، واليد عند الإطلاق تشمل جميع الكف، لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] وفي التيمم المسح خاص بالكف، لقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} [المائدة: 6] وأما إذا كان الأمر زائداً على الكف فلا بد من التقييد، كما في آية الوضوء، قال تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. وأما إذا غمس بعض يده فلا يؤثر في الماء، وهو المشهور من المذهب عند المتأخرين، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = انظر كشاف القناع (1/ 33)، المبدع (1/ 46). وقيل: يؤثر، ولو غمس بعض اليد، انظر الفروع (1/ 79)، والإنصاف (1/ 40)، ولا يؤثر غمس عضو آخر غير اليد؛ لأن الحديث نص على اليد. الثالث: أن يكون قائماً من نوم الليل. ولي فيها وقفة خاصة، نظراً لكثرة أدلتها. الرابع: أن يكون النوم ناقضاً للوضوء، وهو عندهم كل نوم إلا نوماً يسيراً من قاعد أو قائم. الخامس: لا بد أن تكون اليد يد مكلف بحيث لو كان الغامس صغيراً أو مجنوناً أو كافراً لم يؤثر ذلك في الماء. في مذهب الإمام أحمد وجهان في الصغير والمجنون والكافر إذا غمسوا أيديهم في الماء: أحدهما: أنهم كالمسلم البالغ العاقل لا يدرون أين باتت أيديهم. والثانى: أنه لا تأثير لغمس الصبى والمجنون والكافر. قال صاحب الإنصاف: (1/ 41) وهو الصحيح، وإليه مال المصنف فى المغني، واختاره المجد فى شرح الهداية، وصححة ابن تميم، قال فى مجمع البحرين: لا يؤثر غمسهم فى أصح الوجهين. واستدلوا: أولاً: أن المنع من الغمس إنما ثبت من الخطاب: يعنى: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استيقظ أحدكم ... الحديث، ولا خطاب فى حق هؤلاء. وثانياً: إن وجوب الغسل أمر تعبدي، ولا تعبد فى حق هؤلاء وثالثاً: الغسل المزيل لحكم المنع من شرطه النية، والمجنون والصبي والكافر ليسوا من أهلها. ولكن هذا القول من أصحاب الامام أحمد رحمه الله عجيب! كيف إذا غمس الصبي الذي لا يحسن الطهارة، والكافر الذي لا يستنزه من البول، والمجنون الذي لا يعقل إذا غمسوا أيديهم في الماء لا يتأثر الماء، وتصح الطهارة منه، وإذا غمس المسلم العاقل البالغ الذي يحسن الطهارة أصبح الماء غير صالح للطهارة منه. فالصحيح أن العلة في المسلم النائم، هى العلة في الكافر النائم، وهى العلة نفسها في الصبي والمجنون، وليس تأثير الغمس من الأحكام التكليفية، بل هو من الأحكام الوضعية، كما =

دليل الحنابلة على أن الماء طاهر

دليل الحنابلة على أن الماء طاهر. (56) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: لم نقل بنجاسة الماء إذا غمست فيه اليد قبل غسلها؛ لأن اليد معلوم طهارتها، وليست نجسة، فهي يد طاهرة قابلت ماء طهوراً، ولم نقل إن الماء طهور، لكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن غمسها حتى تغسل ثلاثاً، فلولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه، فدل على أن الماء يكون طاهراً غير مطهر. دليل الجمهور على أن الماء طهور. حمل الجمهور حديث أبي هريرة على الاستحباب، وعللوا ذلك بأن طهارة اليد متيقنة، ونجاسة اليد مشكوك فيها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه لا يدري أين باتت يده " والشك لا يقضي على اليقين. وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرشد إلى غسل اليد ثلاث مرات قبل غمسها فى الإناء قرينة على أن الغسل ليس بواجب إذ لو كان واجباً لكفى فيها غسلة واحدة قياساً على دم الحيض، وإذا كان الغسل ليس واجباً لم يكن غمسها ¬

= أن الكافر على الصحيح مخاطب بفروع الشريعة، وإن كان يفقد شرط الصحة، وهو الإيمان. انظر في المذهب الحنبلي كشاف القناع (1/ 33)، المبدع (1/ 47)، الإنصاف (40،41)، الروض المربع (1/ 23). (¬1) صحيح مسلم (278).

دليل من قال إن الماء ينجس

مؤثراً في الماء، فيبقى الماء على طهوريته حتى يأتي دليل صحيح صريح ينقله عن الطهورية. وسوف نناقش علة النهي عن غمس اليد في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. دليل من قال إن الماء ينجس. لا أعلم لهم دليلاً على نجاسة الماء، ولذلك قال النووي عن القول بالنجاسة: وهو ضعيف جداً؛ فإن الأصل في اليد والماء الطهارة، فلا ينجس بالشك، وقواعد الشريعة متظاهرة على هذا. وقال ابن القيم: " القول بنجاسته من أشذ الشاذ " (¬1). دليل الحنابلة على كون الماء طاهراً وليس بطهور. (57) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (¬2). وجه الاستدلال: قالوا: إن الحديث نهى عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها، ولولا أن ¬

(¬1) تهذيب السنن (1/ 69). (¬2) صحيح مسلم (278)، وانظر صحيح البخاري (162).

غمسها يؤثر في الماء لم ينه عنه، فإذا نهى عنه دل ذلك على تحول الماء إلى طاهر غير مطهر، وإنما قلنا: طاهر؛ لأن اليد ليست نجسة، وقلنا: ليس بطهور؛ للنهي عن غمس اليد في الماء، والله أعلم. وأجيب: أن الحديث لم يتعرض لحكم الماء، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الماء يتحول إلى طاهر لا يصح التطهر منه، إنما نهى عن غمس اليد فيه بعد القيام من النوم. وقد سبق لنا في بحث أقسام المياه أن الماء: طهور ونجس ولا دليل على وجود قسم ثالث.

المبحث الأول حكم غسل اليد قبل إدخالها الإناء

المبحث الأول حكم غسل اليد قبل إدخالها الإناء اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة: فقيل: غسل اليد سنة، وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: يجب غسل اليد ثلاثاً، وإليه ذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه (¬5)، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن حزم (¬6)، والحسن البصري (¬7). دليل الجمهور على كون الغسل سنة. الدليل الأول: قوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 20)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 497)، العناية شرح الهداية (1/ 20، 21)، الجوهرة النيرة (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 17)، شرح فتح القدير (1/ 21)، حاشية ابن عابدين (1/ 111، 112). (¬2) المنتقى (1/ 48)، الخرشي (1/ 132)، الفواكه الدواني (1/ 134)،. (¬3) الأم (1/ 39)، المجموع (1/ 214)، إحكام الأحكام (1/ 68،69)، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 160). (¬4) الفتاوى الكبرى (1/ 217). (¬5) المغني (1/ 70،71)، الفروع (1/ 144)، الإنصاف (1/ 40)، مطالب أولي النهى (1/ 92). (¬6) المحلى (1/ 155). (¬7) المغني (1/ 70)،.

وجوهكم} (¬1). (58) وروى مسلم، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي ح وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قالا جميعاً: حدثنا شعبة، عن جامع بن شداد قال: سمعت حمران بن أبان يحدث أبا بردة في هذا المسجد في إمارة بشر، أن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أتم الوضوء كما أمره الله تعالى، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن. هذا حديث ابن معاذ، وليس في حديث غندر في إمارة بشر، ولا ذكر المكتوبات (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من توضأ كما أمره الله " فلم يقدم في الآ ية والخبر على الوجه فرضاً، فلو كان غسل اليد فرضاً لقدم ذكره، والله أعلم. والجواب: أن يقال: لا خلاف في أن غسل اليدين للوضوء من سنن الوضوء، ولكن غسلها لمن قام من الليل لا يتعلق بالوضوء فقط وإنما هو لمن أراد غمسها فى الإناء سواء كان لوضوء أم لغيره. الدليل الثانى: استدل القائلون بالسنية، أن طهارة اليد متيقنة، ونجاسة اليد مشكوك فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه لا يدرى أين باتت يده "، والشك لا يقضي على اليقين، فدل على أن النهي عن غمسها ليس للتحريم، وأن غسل اليد مستحب وليس بواجب. ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) صحيح مسلم (232).

قال ابن دقيق العيد: الأمر - وإن كان ظاهره الوجوب - إلا أنه يصرف عن الظاهر لقرينة ودليل، وقد دل الدليل، وقامت القرينة ههنا؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - علل بأمر يقتضي الشك، وهو قوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده "، والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوباً في الحكم , إذا كان الأصل المستصحب على خلافه موجوداً. والأصل: الطهارة في اليد، فلتستصحب. ويجاب: أن هذا توجيه يصح لو كانت العلة فى النهي عن غمس اليد هى نجاسة اليد، أما من يرى أن العلة تعبدية، أو أن العلة كما ذكر ابن تيمية وابن القيم: هى مبيت الشيطان على يده أو مبيتها عليه فلا يصح هذا الاستدلال. ولو كانت العلة فى الغسل النجاسة، لأرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غسلها مرة واحدة، ألا ترى إلى دم الحيض يصيب الثوب، أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غسله مرة واحدة غسلة تذهب بعين النجاسة مع أن نجاسته متيقنة، فكيف بالنجاسة المتوهمة. الدليل الثالث: لما أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غسل اليد ثلاث مرات قبل غمسها فى الإناء علم أنه ليس بواجب إذ لو كان واجباً لكفى فيها غسلة واحدة. قياساً على دم الحيض وأجيب: بأن هذا القول مبنى على أن النهي لاحتمال أن تكون اليد نجسة. والذين قالوا بالوجوب لم يعللو بذلك على أن العدد ورد حتى فى إزالة النجاسة كالاستجمار والتسبيع فى ولوغ الكلب.

الدليل الرابع: (59) ما رواه مسلم، قال: حدثني بشر بن الحكم العبدي، حدثنا عبد العزيز- يعني: الدراوردي- عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليستنثر ثلاث مرات؛ فإن الشيطان يبيت على خياشيمه، ورواه البخاري (¬1). وجه الاستدلال: قالوا إذا كان الاستنثار سنة بالإجماع بعد القيام من النوم، فكذلك غسل اليدين بعد القيام من النوم، وقبل غمسهما في الإناء ليس بواجب. والجواب: أن يقال: هذا قياس فى العبادات، والقياس فيها ضعيف. فالراجح: أن القول باستحباب غسل اليدين ثلاثاً إذا انتبه من نوم الليل قول قوي، والقول بالوجوب أقوى، ولو غمس يديه لم يمنع ذلك من التطهر بالماء، فالماء باق على طهوريته، والله أعلم. دليل الحنابلة على الوجوب. (60) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، ¬

(¬1) صحيح البخاري (3295)، ومسلم (238).

عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (¬1). وجه الاستدلال: أن الحديث نهى عن غمس اليد بعد الاستيقاظ إلا بعد غسلها ثلاثاً، والأصل في النهي التحريم إلا لصارف، ولا صارف هنا. وهل يختلف الحكم إذا تيقن المسلم طهارة يده؟ اختلفوا في ذلك: فقيل: لا يسن غسلها، بل يغمسها بدون غسل، اختاره بعض الحنفية (¬2). وقيل: هو بالخيار، إن شاء غسل يده قبل غمسها، وإن شاء غمس يده، ولو لم يغسلها. وهذا مذهب الشافعية (¬3). وقيل: يجب غسلها حتى ولو كانت يده في جراب، أو كانت مكتوفة، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وسبب اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم في علة الأمر بغسل اليد: فقيل: إن العلة هي الشك في نجاسة اليد، حتى قيد بعض الحنفية حديث النهي عن غمس اليد في الإناء حتى يغسلها بما إذا نام مستنجياً بالأحجار، أو ¬

(¬1) صحيح مسلم (278)، وانظر صحيح البخاري (162). (¬2) شرح فتح القدير (1/ 21). (¬3) المجموع (1/ 389)، شرح النووي لصحيح مسلم (1/ 232). (¬4) الإنصاف (1/ 41).

متنجس البدن، لا إذا نام متيقناً طهارتها، أو مستنجياً بالماء (¬1). وذكر الشافعية أن أهل الحجاز كانوا يستعملون الأحجار في الاستجمار، وكانت البلاد حارة، فيعرقون، وربما طافت أيديهم في موضع النجاسة فتنجست (¬2). والصحيح: أن الحديث مطلق، وهو عام لمن استنجى بالماء أو بالأحجار، عليه سراويل أم لا، ولا يقيد النص إلا نص مثله. وقيل: إن العلة تعبدية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، فيجب الامتثال دون النظر إلى سبب الوجوب. وقيل: إن العلة مبيت الشيطان على يده، وهذا اختيار الشيخين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله. قالا: هذه العلة نظير تعليل الشارع الاستنشاق بمبيت الشيطان على الخيشوم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق بمنخريه من الماء، فإن الشيطان يبيت على خيشومه " متفق عليه، وسبق تخريجه. فأمر بالغسل معللا بمبيت الشيطان على خيشومه، فعلم أن ذلك سبب الغسل، والحديث معروف. وقوله فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده يمكن أن يراد به ذلك، فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التى شهد لها النص بالإعتبار، وأما ملابسته ليده خاصة؛ فلأنها أعم الجوارح كسباً وتصرفاً ومباشرة لما يأمر به الشيطان من المعصية، فصاحبها كثير التصرف والعمل بها، ولهذا سميت جارحة لأنه يجترح بها: أى يكسب. والله أعلم (¬3). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 21). (¬2) الحاوي (1/ 102). (¬3) تهذيب السنن (1/ 69، 70)، ومجموع الفتاوى (21/ 44).

المبحث الثاني هل يختص الحكم في القيام من نوم الليل أو يشمل كل نوم؟

المبحث الثاني هل يختص الحكم في القيام من نوم الليل أو يشمل كل نوم؟ اختلف العلماء في ذلك: فقيل: لا فرق بين نوم الليل، ونوم النهار، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: إن الحكم ليس مخصوصاً بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل أو النهار، أو شك في نجاستها من غير نوم، وأما إذا تيقن طهارتها فوجهان: الأصح منهما، وهو والذي ذهب إليه الجماهير من أصحاب الشافعية أنه لا كراهة في غمس اليد، بل هو مخير إن شاء غمس، وإن شاء غسل قبل الغمس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر النوم، ونبه على العلة، وهى الشك، فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة، وهذا مذهب الشافعية (¬3). وقيل: الحكم يتعلق بنوم الليل خاصة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وهو الراجح. ¬

(¬1) الهداية شرح البداية (1/ 12)، حاشية ابن عابدين (1/ 108، 109). (¬2) التمهيد (18/ 256)، المنتقى للباجي (1/ 48). (¬3) شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 232)، المجموع (1/ 389). (¬4) الإنصاف (1/ 41)، المغني (1/ 71)، كشاف القناع (1/ 33).

دليل الجمهور على عدم التفريق بين نوم الليل والنهار.

دليل الجمهور على عدم التفريق بين نوم الليل والنهار. الدليل الأول: (61) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " إذا استيقظ أحدكم من نومه " فكلمة (نومه) نكرة مضافة، فتعم، كقوله سبحانه: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (¬2) فيشمل نوم الليل ونوم النهار. الدليل الثاني: على فرض أن يكون الحديث في نوم الليل فيدخل فيه نوم النهار من باب القياس الجلي؛ إذ لا فرق، فإذا كان النائم يجب عليه أن يغسل يده قبل أن يدخلها الإناء لما ورد من ذلك في الحديث، فنوم النهار مثل نوم الليل في القياس. الدليل الثالث: قوله في الحديث: " فإنه لا يدري " وهذه العلة موجودة في نوم النهار، ¬

(¬1) صحيح البخاري (162)، ومسلم (278). (¬2) النحل: 18.

فالنائم إذا نام لا يدري سواء كان نومه في الليل أم في النهار؛ لأن النوم يحجب العقل. قال ابن حجر: لكن التعليل يقتضي الحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة. قال الرافعي في شرح المسند: يمكن أن يقال الكراهة في الغمس لمن نام ليلا أشد منها لمن نام نهارا؛ لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة (¬1). بل ذهب الباجي في المنتقى إلى دخول المغمى عليه والمجنون في الحكم، فقال: تعليق هذا الحكم بنوم الليل لا يدل على اختصاصه به؛ لأن النائم إن كان لا يدري أين باتت يده فكذلك المجنون والمغمى عليه، وكذلك من قام إلى وضوء من بائل أو متغوط أو محدث فإنه يستحب له غسل يده قبل أن يدخلها في إنائه خلافاً للشافعي؛ لأن المستيقظ لا يمكنه التحرز من مس رفغه ونتف إبطه وفتل ما يخرج من أنفه وقتل برغوث وعصر بثر وحك موضع عرق، وإذا كان هذا المعنى الذي شرع له غسل اليد موجودا في المستيقظ لزمه ذلك الحكم، ولا يسقط عنه أن يكون علق في الشرع على النائم، ألا ترى أن الشرع علقه على نوم المبيت ولم يمنع ذلك من أن يتعدى إلى نوم النهار لما تساويا في علة الحكم (¬2). وأجيب: بأن الحكم خص في المبيت، فلم يقل في الحديث: " فإنه لا يدري " ¬

(¬1) فتح الباري (1/ 263)، قلت: قول الباجي لا يعتبر قولاً مستقلاً؛ لأن الكراهة عنده ثابتة في نوم الليل ونوم النهار، إلا أن نوم الليل أشد على اعتبار أن ما نص عليه آكد مما ألحق به قياساً، على تقدير أن المبيت نص في نوم الليل. والله أعلم. (¬2) المنتقى (1/ 48).

دليل الحنابلة على اختصاصه بنوم الليل.

وسكت، بل قال: لا يدري أين باتت يده، ولو كانت العلة احتمال نجاسة اليد لكان له وجه في إلحاق المغمى عليه، وسبق لي أن ذكرت الاختلاف في العلة، ولم يظهر لي أن العلة احتمال النجاسة، وإلا لكانت غسلة واحدة كافية إن شاء الله في حصول المقصود، بل إن الغسل ثلاثاً مشروع حتى للمستيقظ عند إرادة الوضوء، فذكر التثليث يلحقه بالتعبد المحض، وإذا كانت العلة تعبدية لم يكن للقياس معنى، لعدم تعدي العلة، والله أعلم. دليل الحنابلة على اختصاصه بنوم الليل. الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه لا يدري أين باتت يده " والبيتوتة لا تكون إلا بالليل، كقوله تعالى {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو من أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} (¬1)، فخص البيات بالليل ثم ذكر النهار. وأجيب: بقول ابن حزم: ادعى قوم أن هذا في نوم الليل خاصة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أين باتت يده "، وادعوا أن المبيت لا يكون إلا بالليل. قال أبو محمد: وهذا خطأ، بل يقال: بات القوم يدبرون أمر كذا وإن كان نهاراً (¬2). ورد هذا ابن عبد البر، فقال: أما المبيت فيشبه أن يكون ما قاله أحمد بن حنبل صحيحاً فيه؛ لأن الخليل قال في كتاب العين: البيتوتة دخولك في ¬

(¬1) الأعراف: 97، 98. (¬2) المحلى (1/ 201، 202).

الدليل الثاني

الليل، وكونك فيه بنوم وبغير نوم، قال ومن قال: بت بمعنى نمت، وفسره على النوم فقد أخطأ، قال: ألا ترى أنك تقول بت أراعي النجم، معناه: بت أنظر إلى النجم. قال: فلو كان نوماً كيف كان ينام وينظر، إنما هو ظللت أراعي النجم. قال: وتقول: أباتهم الله إباتة حسنة، وباتوا بيتوتة صالحة، وأباتهم الأمر بياتاً، كل ذلك دخول الليل، وليس من النوم في شيء (¬1). الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استيقظ أحدكم من نومه " فإن النوم عند الإطلاق لا يراد به إلا نوم الليل (¬2). الدليل الثالث: (62) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي رزين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قام أحدكم من الليل، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري أين باتت يده (¬3). [الحديث صحيح، وذكر القيام من الليل أخشى أن يكون غير محفوظ، فكل من ذكر الليل قد اختلف عليه فيه، فأكثر الطرق وأصحها ليس فيها ذكر الليل] (¬4). ¬

(¬1) التمهيد (18/ 255). (¬2) بدائع الفوائد (4/ 89). (¬3) المصنف (1/ 94) رقم 1047. (¬4) هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه من طرق كثيرة عنه، ووقع في بعضها =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = اختلاف، كما اختلف في متنه على وجهين: الوجه الأول: بذكر الليل، رواه جماعة عن أبي هريرة إلا أنه لا يوجد راو نص على القيام من نوم الليل إلا وقد اختلف عليه، وإليك بيان هذا الوجه. الطريق الأول: الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة، تارة يجمع الأعمش شيوخه أبا صالح وأبا رزين، وتارة يفرقهما .. فقد أخرجه أحمد في المسند (2/ 253) حدثنا أبو معاوية عن الأعمش به، إلا أنه رواه عن أبي صالح، عن أبي هريرة بدلاً من أبي رزين، وهو محفوظ عنهما جميعاً. وأخرجه أبو داود (103) ومن طريقه البيهقي (1/ 45) وابن عبد البر في التمهيد (18/ 232) من طريق مسدد، وأبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم (1/ 331) من طريق أبي كريب، وأخرجه البيهقي (1/ 45) من طريق أحمد بن عبد الجبار العطاردي، كلهم عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة. بذكر الليل. وأخرجه أبو عوانة في مسنده (1/ 221) من طريق علي بن حرب، ثنا أبو معاوية به إلا أنه ذكر أبا صالح وحده. وأخرجه أحمد (2/ 253)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 22) من طريق زائدة بن قدامة، عن الأعمش به بذكر أبي صالح وحده، إلا أنهما لم يذكرا متنه، وأحالا على رواية سابقة، وفيها ذكر الليل. وهذه متابعة لأبي معاوية. وقد اختلف على الأعمش، فرواه أبو معاوية وزائدة بن قدامة عنه بذكر الليل. ورواه وكيع، كما في مسند أحمد (2/ 471)، ومسلم (278)، وأبي عوانة (1/ 264)، وسنن البيهقي (1/ 45)، إلا أن مسلماً وأبا عوانة لم يسوقا متنه، وأحالا على متن سابق. وشعبة كما في مسند أبي داود الطيالسي (1/ 317). وشجاع بن الوليد كما في سنن البيهقي الكبرى (1/ 47). وأبو الأشهب جعفر بن الحارث النخعي كما في الأوسط للطبراني (4/ 94) رقم 3694 أربعتهم عن الأعمش به. ولم يذكروا لفظة الليل. وأبو معاوية من أثبت أصحاب الأعمش، إلا أن وكيعاً وشعبة قد وافقت روايتهم رواية الأكثر بعدم ذكر الليل فقد رواه جمع كثير عن أبي هريرة، ولم يذكروا لفظة: " إذا قام من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الليل". الطريق الثاني: أبو سلمة، عن أبي هريرة. رواه معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، واختلف على معمر: فرواه أحمد (2/ 259) قال: ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري به بذكر الليل. ورواه النسائي في الكبرى (153) وفي الصغرى (161) من طريق يزيد بن زريع، عن معمر به، بدون ذكر الليل كما هي رواية الجماعة. وتابع الأوزاعي معمراً في ذكر الليل كما في سنن الترمذي (24)، والنسائي (441)، وابن ماجه (393)، وسنن البيهقي (1/ 244). وقد رواه سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بدون ذكر الليل، كما في مسند الشافعي (ص: 10) ومسند الحميدي (951)، وأحمد (2/ 241)، والمنتقى لابن الجارود (9)، والدارمي (766)، ومسلم (278) والنسائي في الكبرى (1)، وفي الصغرى (1)، والمستخرج على صحيح مسلم لأبي نعيم (639)، مسند أبي عوانة (1/ 220،221،263)، وابن خزيمة (99)، وابن حبان (1062)، والبيهقي (1/ 45)، ورواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بدون ذكر الليل، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 94)، ومسند أحمد (2/ 382)، ومسند أبي يعلى (5973)، والطحاوي (1/ 22). وهذه توافق رواية ابن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة. الطريق الثالث: سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. رواه الزهري، عن سعيد بن المسيب، واختلف على الزهري. فرواه عنه معمر، عن الزهري بدون ذكر الليل. أخرجه أحمد (2/ 265،284) ومسلم (278)، وأبو عوانة (1/ 264) والبيهقي (2/ 244) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة بدون ذكر الليل. ورواه الأوزاعي، عن ابن شهاب واختلف على الأوزاعي: فرواه الطحاوي (1/ 22) من طريق الفريابي وبشر بن بكر كلاهما عن الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وحده، عن أبي هريرة بدون ذكر الليل، وذكر الغسل مرتين أو ثلاثاً. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه النسائي في الصغرى (441) من طريق إسماعيل بن عبد الله عن الأوزاعي به بذكر الليل. وأخشى أن يكون الأوزاعي اختلط عليه لفظ ابن شهاب، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، بلفظ ابن شهاب عن سعيد، عن أبي هريرة، فقد كان ابن شهاب تارة يجمع شيوخه، فيروي الحديث عن سعيد وأبي سلمة مقرونين، وتارة يفرقهما، فيذكر سعيداً وحده وأبا سلمة وحده. ولفظ سعيد وحده أو لفظه مقروناً من غير طريق الأوزاعي لا يذكر فيه القيام من الليل، فالراجح عندي أن طريق سعيد من الطرق التي لم تذكر القيام من الليل. وأما طريق سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة مقرونين. فأخرجه الترمذي (24) وابن ماجه (393) من طريق الوليد بن مسلم، حدثني الأوزاعي، حدثني ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة به. بذكر القيام من الليل. وأخرجه الطحاوي (1/ 22) من طريق أبي صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، حدثني ابن شهاب به. ولم يذكر متناً. فالحديث محفوظ عن الزهري من الطريقين، طريق سعيد بن المسيب وأبي سلمة. قال الدارقطني في العلل (8/ 78) المحفوظ عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة. اهـ وقال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 234): قد حدث به معمر عن الزهري، مرة عن سعيد، عن أبي هريرة، ومرة عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فدل على أن الحديث صحيح لهما عن أبي هريرة. اهـ الطريق الرابع: العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة. رواه العلاء واختلف عليه فيه: فرواه مسلم في صحيحه (278) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 118) من طريق محمد بن جعفر بن أبي كثير، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: إذا قام أحدكم من النوم إلى الوضوء فليفرغ على يديه من الماء فإنه لا يدري أين باتت يده. هذا لفظ البيهقي، وأما مسلم فلم يذكر متناً، وأحال على رواية سابقة، إلا أنه صرح أن الرواية ليس فيها التثليث. وأخرجه أبو عوانة في مسنده (1/ 222) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن العلاء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = به بذكر التثليث، وبالشك، إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح، أو قال: من نومه، أو كلمة نحوها، فليفرغ على يديه ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده، والطريق الأول أرجح مع سلامته من الشك الوارد في متنه. هذه الطرق التي نص فيها على أن القيام إنما هو من نوم الليل، وأنت ترى أنه لا يخلو طريق من الاختلاف عليه فيه. الوجه الثاني: بدون ذكر الليل، رواه الأعرج، وابن سيرين، وهمام، وجابر، وعبد الله ابن شقيق، وموسى بن يسار ولم يختلف عليهم في عدم ذكر الليل، ومع اتفاقهم على عدم النص على الليل إلا أنهم اختلفوا في الغسل فبعضهم يذكر الغسل بدون عدد، وبعضهم ينص على أن الغسل ثلاث، والتثليث في الحديث محفوظ. وإليك تخريج مروياتهم. أولاً: الطرق التي تذكر الغسل ولا تذكر عدداً. الطريق الأول: الأعرج، عن أبي هريرة. رواه أبو الزناد، واختلف عليه: فرواه مالك في الموطأ (1/ 21) ومن طريقه الشافعي (1/ 14)، وأحمد (2/ 465)، والبخاري (162)، وابن حبان (1063) والبيهقي (1/ 45،118) وفي المعرفة (1/ 267) والبغوي في شرح السنة (207). ورواه المغيرة بن عبد الرحمن كما في مسلم (278) والبيهقي (1/ 118) كلاهما عن أبي الزناد به، وليس فيه التثليث. وخالفهما سفيان بن عيينة كما في مسند الشافعي (1/ 14) والحميدي (952)، وفيه ذكر التثليث في الغسل. قال ابن عبد البر كما في التمهيد (18/ 233): " وهو عندي وهم في حديث أبي الزناد، وأظنه حمله على حديث الزهري، والله أعلم. اهـ وسبق أن خرجت حديث سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة بذكر التثليث. الطريق الثاني: ابن سيرين، عن أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/ 295،507)، وابن أبي شيبة (1/ 94)، ومسلم (278) والطبراني في الأوسط (1/ 290) رقم 945. =

دليل من قال: الحكم يتعلق بالشك

دليل من قال: الحكم يتعلق بالشك. استدل الشافعية بأن الحكم يتعلق بالشك، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " فإنه ¬

= الطريق الثالث: همام بن منبه، عن أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/ 316) ومسلم (278)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 264)، والبيهقي في السنن الصغرى (19)، وفي الكبرى (1/ 234). الطريق الرابع: ثابت مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن أبي هريرة، كما في صحيح مسلم (278) ومسند أبي عوانة (1/ 222)، وسنن البيهقي (1/ 256). الطريق الخامس: عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 497) من طريق محمد بن إسحاق عن موسى بن يسار به. فهذه خمسة طرق لا تذكر عدداً، ومنهم من هو من أخص أصحاب أبي هريرة كالأعرج، ومحمد بن سيرين. ورواه جماعة عن أبي هريرة بذكر التثليث في الغسل، وهاك بيانها: الطريق الأول: عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة. كما في مسند أحمد (2/ 455) ومسلم (278)، وابن خزيمة (100،145)، وابن حبان (1064،1065)، وأبو عوانة (1/ 263)، والدارقطني (1/ 49)، سنن البيهقي (1/ 46)، الطريق الثاني: أبو الزبير، عن جابر، عن أبي هريرة كما في مسند أحمد (2/ 403)، وصحيح مسلم (278)، وأبي يعلى (5863)، وأبي عوانة (1/ 263)، وسنن البيهقي الكبرى (1/ 47). الطريق الثالث: أبو مريم، عن أبي هريرة كما في سنن أبي داود (105)، والدارقطني (1/ 50)، وسنن البيهقي (1/ 46) من طريق معاوية بن صالح عنه. الطريق الرابع والخامس: عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة وقد سبق تخريجه عند الكلام على طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عنهما به. الطريق السادس: عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة بذكر التثليث، وسبق تخريجه، فهؤلاء ستة من الحفاظ رووه عن أبي هريرة بذكر التثليث مما يؤكد أن التثليث محفوظ، ولعل البخاري تجنب تخريج ذكر التثليث للاختلاف في ذكره، والله أعلم.

لا يدري أين باتت يده " أما من تيقن طهارة يده فلا شيء عليه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر النوم ونبه على العلة، وهي الشك، فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة (¬1). الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض الخلاف الذي تميل له نفسي أن الليل قيد مؤثر والله أعلم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " أين باتت يده " ولأن دخول نوم الليل متيقن، ودخول غيره مشكوك فيه، والأصل براءة الذمة وعدم التكليف؛ ولأن نوم الليل أطول من نوم النهار عادة، وعلقت به أحكام كثيرة منها الأذكار الخاصة بالنوم على الصحيح، ومنها ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذ هو نام ثلاث عقد يضرب على مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان (¬2). فقوله: " وإلا أصبح " دليل على أن هذا في نوم الليل، والله أعلم.

_ (¬1) انظر شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 232)، المجموع (1/ 389). (¬2) رواه البخاري (1142)، ومسلم (776) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وتابع سعيد بن المسيب الأعرج عند البخاري (3269).

الفصل السادس الماء المستعمل في إزالة النجاسة

الفصل السادس الماء المستعمل في إزالة النجاسة الماء المستعمل في إزالة النجاسة إذا انفصل عن المحل لا يخلو إما أن يتغير بالنجاسة أو لا. فإن تغير الماء بالنجاسة، فهو نجس بالإجماع، وقد تكلمنا عن الماء المتغير بالنجاسة في فصل الماء المتغير، فارجع إليه إن شئت. وإن كان الماء المنفصل لم يتغير، فقد اختلف العلماء في حكمه بناء على اختلافهم في وجوب تكرار الغسل، فبعضهم يرى وجوب تكرار غسل النجاسة ثلاث مرات، وبعضهم يرى تكرارها سبع مرات، وبعضهم يرى أنه يكفي في غسل النجاسة غسلة واحدة ما لم تكن نجاسة كلب، وسوف يأتي بسط الأقوال كلها، ومناقشتها في باب إزالة النجاسة، ولكن البحث الآن في الماء المنفصل عند تطهير هذا المحل المتنجس، وهو ما يسمى بغسالة النجاسة، أو الماء المستعمل في إزالة النجاسة، إذا انفصل عن المحل، وهو لم يتغير هل يكون نجساً أم طاهراً أم طهوراً، اختلف العلماء في هذا: فقيل: الماء المنفصل من غسل النجاسة الحقيقية من الغسلة الأولى حتى الغسلة الثالثة نجس، وهذا مذهب الحنفية (¬1). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 66)، البحر الرائق (1/ 245)، بريقة محمودية (4/ 240)، حاشية ابن عابدين (1/ 325)، وهذا مبني على وجوب غسل النجاسات الحقيقية ثلاث مرات، وضد الحقيقة الحكمية، وهي طهارة الحدث، فلا يجب فيها العدد، وهذا بناء على قولهم بأن الحدث نوع من النجاسة، وانظر بدائع الصنائع (1/ 87).

وقيل: الماء المنفصل طهور ما لم يتغير بالنجاسة، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: يكون طاهراً غير مطهر، وهو الأصح عند الشافعية (¬2). وقيل: المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس، حتى ولو زالت عين النجاسة في الغسلة الأولى، والمنفصل من الغسلة السابعة طاهر، غير مطهر، والمنفصل من الغسلة الثامنة طهور. وهذا المشهور من مذهب ¬

(¬1) تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك (1/ 43)، منح الجليل (1/ 72)، القوانين الفقهية (ص: 35 - 36)، الخرشي (1/ 80)، حاشية الدسوقي (1/ 80)، الاستذكار (3/ 259). (¬2) قال النووي في روضة الطالبين (1/ 34): في غسالة النجاسة إن تغير بعض أوصافها بالنجاسة فنجسة، وإلا فإن كان قلتين فطاهرة بلا خلاف ومطهرة على المذهب، والله أعلم. وإن كانت دونهما فثلاثة أقوال، وقيل أوجه: أظهرها: وهو الجديد أن حكمها حكم المحل بعد الغسل إن كان نجساً بعد فنجسة، وإلا فطاهرة غير مطهرة. والثاني: وهو القديم، حكمها حكمها قبل الغسل فتكون مطهرة. والثالث: وهو مخرج من رفع الحدث، حكمها حكم المحل قبل الغسل فتكون نجسة. اهـ وقال في المجموع (2/ 544): " والأصح طهارة غسالة النجاسة إذا انفصلت غير متغيرة، وقد طهر المحل " وانظر شرح زبد بن رسلان (1/ 34). واشترط الشافعية للحكم بطهارة الغسالة شروطاً. قال العراقي في طرح التثريب (2/ 134): " الصحيح عند أصحابنا طهارة غسالة النجاسة بشرط عدم تغيرها، وبشرط طهارة المحل، فإن تغيرت كانت نجسة إجماعاً، وإن لم يطهر المحل بأن كان في المحل نجاسة عينية كالدم ونحوه فلم يزلها الماء وانفصل عنها، وهي باقية، فإنه نجس أيضا، وزاد الرافعي شرطاً آخر، وهو ألا يزداد وزن الغسالة بعد انفصاله على قدره قبل غسل النجاسة به. اهـ

دليل الحنفية على نجاسة الغسلات الثلاث.

الحنابلة (¬1). دليل الحنفية على نجاسة الغسلات الثلاث. قولهم مبني على وجوب غسل النجاسات ثلاث مرات، وسوف يأتي بسط الأدلة على هذه المسألة في مبحث مستقل، وعليه قالوا: إن الماء المنفصل في الغسلة الأولى والثانية انفصل والمحل نجس فتنجس، وأما الغسلة الثالثة فنجسة، وإن كان المحل قد طهر بناء على أن الماء قد استعمل في إزالة نجاسة، فالماء عندهم ينجس إذا استعمل في الطهارة سواء في طهارة الحدث أم في طهارة الخبث، وسبق لنا تحرير مذهبهم في الماء المستعمل في طهارة الحدث، وأجبنا عليه. الدليل الثاني على نجاسة الغسالة: (63) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير- يعني: ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك- يعني: ابن عمير- يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القصة - يعني: قصة بول الأعرابي في المسجد- قال فيه: وقال: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) قال أبو الخطاب في الانتصار (1/ 485): يجب العدد في سائر النجاسات سبعاً نص عليه في رواية صالح وحنبل وأبي طالب والميموني. اهـ وفي مسائل عبد الله لأبيه (1/ 34): " سألت أبي عن الثوب يصيبه البول يجزيه أن يغمسه في الماء، أو لا بد من الدلك؟ فقال: يغسله سبعاً، ويعصره "وانظر مسائل ابن هانئ (1/ 27) رقم137. اهـ وانظركشاف القناع (1/ 36)، شرح منتهى الإرادت (1/ 102)، الفروع (1/ 238،239)، الإنصاف (1/ 313)

خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء (¬1). قال أبو داود: وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. [ضعيف، وزيادة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه زيادة منكرة والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬2). وجه الاستدلال: لولا أن الغسالة نجسة لما احتاج إلى نقلها قبل غسلها. الدليل الثاني: (64) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية، نا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد، نا أبو بكر بن عياش، حدثنا سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: جاء أعرابي فبال في المسجد، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكانه، فاحتفر، فصب عليه دلواً من ماء، فقال الأعرابي: يا رسول الله المرء يحب القوم ولما يعمل عملهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المرء مع من أحب (¬3). ¬

(¬1) سنن أبي داود (381). (¬2) والحديث رواه أبو داود أيضاً في المراسيل (ص: 76) رقم 11 بالإسناد نفسه، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 428)، والدارقطني (1/ 132)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 77). قال الدارقطني: عبد الله بن معقل تابعي، وهو مرسل. وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر. تنقيح التحقيق (1/ 265). كما أن فيه علة أخرى، عبد الملك بن عمير مدلس، وقد عنعن، وهو مدلس مكثر. (¬3) سنن الدراقطني (1/ 131)، ومن طريق الدارقطني أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 78).

قال الدارقطني: سمعان مجهول (¬1). الدليل الثالث: (65) ما رواه ابن الجوزي في التحقيق (¬2)، وفي العلل المتناهية (¬3)، من طريق محمد بن صاعد، عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، أن أعرابياً بال في المسجد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوباً من ماء. [حديث معلول، والمعروف أنه مرسل] (¬4). ¬

(¬1) وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 14) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا أبو بكر بن عياش به. وفي إسناده سمعان بن مالك: قال أبو زرعة: هذا حديث منكر، وسمعان ليس بالقوي. الجرح والتعديل (4/ 316). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: لا أصل لهذا الحديث. العلل (1/ 24). وفي إسناده أيضاً: أبو هشام الرفاعي: قال أبو حاتم الرازي: ضعيف، يتكلمون فيه، هو مثل مسروق بن المرزبان. الجرح والتعديل (8/ 129). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (551). وقال العجلي: كوفي لا بأس به، صاحب قرآن. معرفة الثقات (2/ 434). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطىء ويخالف. الثقات (9/ 109). (¬2) التحقيق (1/ 78). (¬3) العلل المتناهية (1/ 333) رقم 545. وذكر الزيلعي في نصب الراية (1/ 211) وابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 37) أن الدارقطني أخرج الحديث، ولم أقف عليه في سننه. (¬4) قال ابن الجوزي: قال الدارقطني: وهم عبد الجبار على ابن عيينة؛ لأن أصحاب ابن =

دليل الحنابلة في غسالة النجاسة.

دليل الحنابلة في غسالة النجاسة. يرى الحنابلة أن الماء المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس؛ لأن الماء قد انفصل والمحل نجس، حتى ولو ذهبت عين النجاسة، فالمحل نجس حكماً، والتعليل عندهم: أنه ماء قليل لاقى نجاسة، فينجس ولو لم يتغير (¬1). وأما الماء المنفصل من الغسلة السابعة فإنه طاهر، ولماذا لا يكون طهوراً؟ ¬

= عيينة الحفاظ رووه عن يحيى بن سعيد فلم يذكر أحد منهم الحفر، وإنما روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: احفروا مكانه. مرسلاً، فاختلط على عبد الجبار المتنان. اهـ قلت: مرسل طاووس أخرجه عبد الرازق في مصنفه (1/ 424) عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاووس. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 14) من طريق ابن عيينة به. قال الحافظ في الفتح (1/ 325): " واحتجوا فيه - يعني الأحناف - " بحديث جاء من ثلاث طرق أحدها موصول عن ابن مسعود أخرجه الطحاوي لكن إسناده ضعيف. قاله أحمد وغيره، والآخران مرسلان، أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن معقل، والآخر من طريق سعيد بن منصور ومن طريق طاووس، ورواتهما ثقات، وهو يلزم من يحتج بالمرسل مطلقاً، وكذا من يحتج به إذا اعتضد، والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين، وكان من أرسل إذا سمى لا يسمى إلا ثقة، وذلك مفقود في المرسلين المذكورين على ما هو ظاهر من سنديهما، والله أعلم. اهـ والراجح: أنهما لا يحتج بهما في كل حال حتى على فرض أن يقوي بعضها بعضاً، فإننا نحكم بشذوذها؛ لأن الحديث في الصحيحين وفي غيرهما من رواية الثقات لم يذكروا إلا مجرد صب الماء على البول، ولم يذكروا الحفر، ولو كان الحفر ثابتاً لنقل لأهميته. (¬1) وسوف نبحث إن شاء الله تعالى حكم الماء القليل إذا لاقى نجاسة، ولم يتغير في مسألة مستقلة.

دليل الشافعية على كون الماء طاهرا.

قالوا: لأنه أثر في المحل، فحصل به إزالة حكم النجاسة. ولماذا لا يكون نجساً؟ قالوا: لأنه انفصل عن محل طاهر؛ لأن المحل يطهر عندهم في الغسلة السابعة، إذا ذهبت عين النجاسة. أما المنفصل من الغسلة الثامنة فهو طهور؛ لأن المحل قد طهر من الغسلة السابعة، فلم يتأثر الماء. والقول بوجوب غسل النجاسات ثلاثاً عند الحنفية أو سبعاً عند الحنابلة قول ضعيف، إلا في ولوغ الكلب حيث ثبت العدد في غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وسوف يأتي بسط هذه المسألة في باب النجاسات إن شاء الله تعالى (¬1). دليل الشافعية على كون الماء طاهراً. أدلتهم في هذه المسألة هي أدلتهم نفسها في المستعمل في رفع الحدث، فإذا كان المستعمل في رفع الحدث، وهو ليس نجاسة يكون طاهراً عندهم، فكيف بالمستعمل في إزالة النجاسة، ومن أدلتهم: (66) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي وأبو الطاهر وأحمد بن عيسى جميعا، عن ابن وهب - قال هارون: حدثنا ابن وهب - أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب. ¬

(¬1) بل انظرها قبل هذه المسألة في كتاب آداب الخلاء في صفة الإنقاء بالماء فقد بسطت أدلة كل فريق، وبيان الراجح منها، والله الموفق.

دليل المالكية على أن غسالة النجاسة طاهرة مطهرة.

فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا (¬1). وانظر الجواب عليه في مسألة المستعمل في رفع الحدث. ومن أدلتهم قولهم: إن الماء المستعمل ليس ماء مطلقاً، بل هو مقيد بكونه ماء مستعملاً، والذي يرفع الحدث هو الماء المطلق كما في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2)، فلم يقيده بشىء، فالماء المستعمل حكمه حكم ماء الورد والزعفران والشاي ونحو ذلك (¬3). وسبق الجواب عليه. والصحيح أن إثبات قسم من الماء يكون طاهراً غير مطهر قول ضعيف، وقد بينت في مبحث أقسام المياه أن الماء قسمان: طهور، ونجس. ولا يوجد قسم الطاهر، والله أعلم. دليل المالكية على أن غسالة النجاسة طاهرة مطهرة. استدل المالكية على أن غسالة النجاسة من الماء الطهور إذا لم تتغير بعدة أدلته، منها: الدليل الأول: (67) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن أعرابياً بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء، فصب عليه، ورواه ¬

(¬1) صحيح مسلم (283). (¬2) المائدة: 6. (¬3) ذكره دليلاً لهم ابن حزم في المحلى (1/ 189) ورده عليهم.

مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الماء الذي غسل به بول الأعرابي لو كان نجساً لم يقض النبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة ذلك المحل، ولأمر أن يصب عليه الماء ثانية وثالثة، فصح أن المغسول به النجاسة طاهر مطهر (¬2). الدليل الثاني: (68) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه. ورواه مسلم (¬3). وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال من الحديث الذي قبله، فإن قيل في الحديث الأول: إن النجاسة كانت على الأرض، فالحديث الثاني النجاسة على ثوب، وهذا دليل على أنه لافرق بينهما. الدليل الثالث: قالوا من جهة المعنى: الماء المنفصل عن المحل المغسول هو من جملة الماء الباقي في المحل المغسول، فالمنفصل بعض المتصل، والماء الباقي في المحل المغسول ¬

(¬1) صحيح البخاري (6025) ومسلم (284). (¬2) انظر كتاب تهذيب المسالك (1/ 44) والحنابلة يفرقون بين النجاسة تكون على الأرض، وبين أن تكون على غيرها، ولا دليل على التفريق بينهما، بل الحكم واحد. (¬3) صحيح البخاري (222) ومسلم (286).

طهور بإجماع، فوجب أن يكون المنفصل عنه مثله (¬1). الدليل الرابع: إذا غلب الماء على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد طهرها، ولا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً، فقد جعل الله الماء طهوراً، وأنزله علينا ليطهرنا به، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " الماء لا ينجسه شيء " يعني: إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره، ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها، فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها، فالحكم له، وإن غلبته النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها (¬2). وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر، إذا صارت خلاً من غير صانع، لاستهلاك ما كان يخامر العقل منها بطريان التحليل عليه، فلأن تطهر النجاسة، ويزول حكمها باستهلاك الماء لها أولى وأحرى (¬3). وهذا القول هو الراجح، لدليل النقل والعقل، والله أعلم. ¬

(¬1) كتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك (1/ 44). (¬2) الاستذكار (3/ 259). (¬3) تهذيب المسالك (1/ 45).

الباب السادس في الكلام على فضل الوضوء

الباب السادس في الكلام على فضل الوضوء

الفصل الأول حكم وضوء الرجال والنساء جميعا إذا كانوا من المحارم

الفصل الأول حكم وضوء الرجال والنساء جميعاً إذا كانوا من المحارم لا خلاف بين العلماء على جواز وضوء الرجال جميعاً من إناء واحد، ووضوء النساء جميعاً من إناء واحد، ووضوء الرجال والنساء جميعاً إن كان الرجال من المحارم، وقد نقل الإجماع على ذلك جماعة من أهل العلم، منهم: قال الطحاوي من الحنفية: الأصل المتفق عليه أن الرجل والمرأة إذا أخذا بأيديهما الماء معاً من إناء واحد، أن ذلك لا ينجس الماء (¬1). وقال القرطبي من المالكية: اتفق العلماء على جواز اغتسال الرجل وحليلته ووضوئهما معاً من إناء واحد، إلا شيئاً روي في كراهية ذلك عن أبي هريرة، وحديث ابن عمر وعائشة وغيرهما يرده، وإنما الاختلاف في وضوئه أو غسله من فضلها (¬2). وقال ابن حزم رحمه الله: واتفقوا على جواز توضيء الرجلين والمرأتين معاً (¬3). اهـ وقال الترمذي: وهو قول عامة الفقهاء، أن لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد. وقال ابن تيمية: أحدها: وهو اشتراك الرجال والنساء في الاغتسال من إناء واحد، وإن كان كل واحد منهما يغتسل بسؤر الآخر، وهذا مما اتفق عليه أئمة المسلمين بلا نزاع بينهم، أن الرجل والمرأة أو الرجال والنساء إذا ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 26). (¬2) المفهم (1/ 583). (¬3) مراتب الإجماع (1/ 18).

توضئوا واغتسلوا من ماء واحد جاز، فأما اغتسال الرجال والنساء جميعاً من إناء واحد فلم يتنازع العلماء في جوازه، وإذا جاز اغتسال الرجال والنساء جميعاً، فاغتسال الرجال دون النساء جميعاً، أو النساء دون الرجال جميعاً أولى بالجواز، وهذا مما لا نزاع فيه، فمن كره أن يغتسل معه غيره، أو رأى أن طهره لا يتم حتى يغتسل وحده، فقد خرج عن إجماع المسلمين، وفارق جماعة المؤمنين (¬1). اهـ مستند هذا الإجماع: الدليل الأول: (69) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن عاصم الأحول، عن معاذة، عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء بيني وبينه واحد، فيبادرني، حتى أقول دع لي دع لي. قالت: وهما جنبان، وهو في البخاري (¬2). الدليل الثاني: (70) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد (¬3). ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (1/ 221)، مجموع الفتاوى (21/ 51). (¬2) رواه مسلم (321). (¬3) رواه البخاري (253).

الدليل الثالث: (71) ما رواه البخاري، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بن جبر، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد (¬1). ففي هذه الأحاديث دليل على أن الرجل وزوجه يغتسلان معاً من غسل الجنابلة، وإذا اغتسلا معاً كان كل واحد منهما يغتسل بفضل صاحبه (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (264). (¬2) انظر المبسوط (1/ 61)، شرح معاني الآثار (1/ 24)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 63)، الأم للشافعي (7/ 262)، المجموع (2/ 221)، طرح التثريب (2/ 39)، تحفة المحتاج (1/ 77)، والمغني (1/ 137)،.

الفصل الثاني في فضل وضوء المرأة

الفصل الثاني في فضل وضوء المرأة إذا خلت المرأة بالماء، فهل يجوز الوضوء بفضلها، فيه خلاف: واختلفوا في معنى الخلوة على قولين: الأول: انفرادها بالاستعمال، سواء شوهدت أم لا، وهذا مذهب الجمهور (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). الثاني: أن تخلو به فلا يشاهدها مميز، سواء كان ذكراً أم أنثى، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬3). ¬

(¬1) سيأتي العزو عنهم قريباً عند ذكر الأقوال في حكم التطهر بفضل المرأة. (¬2) قال أبو داود كما في مسائل أحمد (15): " سمعت أحمد سئل عن الوضوء بفضل وضوء المرأة؟ قال: إن خلت به فلا. قيل: فإن لم تخل؟ قال: فلا بأس، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمرأة من نسائه يغتسلان جميعاً من إناء واحد ". وقال في مسائل صالح (437): " وسألت أبي عن فضل الجنب والحائض؟ فقال: إذا خلت به، فلا يعجبني، ولكن إذا كانا جميعاً فلا بأس به ". اهـ فظاهر كلام الإمام أحمد المتقدم أن الخلوة عنده هي عدم المشاركة وإن رآها أحد، ولذلك قال ابن قدامة في المغني (1/ 137): " وذهب بعض الأصحاب إلى أن الخلوة استعمالها للماء من غير مشاركة الرجل في استعماله؛ لأن أحمد قال: إذا خلت به فلا يعجبني أن يغتسل هو به، وإذا شرعاً فيه جميعاً فلا بأس به ". ففهم بعض الأصحاب من كلام أحمد أن الخلوة: هي عدم المشاركة. (¬3) قال أحمد كما في مسائل عبد الله (1/ 22،23): " سمعت أبي يقول: لا بأس أن يتوضأ - يعني بفضل وضوء المرأة - وهو يراها، ما لم تخل به ". اهـ فشرط هنا أن يراها، فيكون معنى الخلوة: هي عدم المشاهدة، ولذلك قال المراداوي في الإنصاف (1/ 49): إن في معنى الخلوة روايتين: =

وقد اختلف الفقهاء في الوضوء بفضل المرأة على أقوال: فقيل: يجوز الوضوء بفضل المرأة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن عقيل من الحنابلة (¬4)، ورجحه ابن المنذر (¬5)، وهو رأي ابن عباس رضي الله عنهما (¬6). ¬

= أحدهما: وهي المذهب أنها عدم المشاهدة عند استعمالها من حيث الجملة. والثانية: انفرادها بالاستعمال، سواء شوهدت أم لا، وتزول الخلوة بمشاركته لها في الاستعمال بلا نزاع. (¬1) تبيين الحقائق (1/ 31)، شرح معاني الآثار (1/ 26)، المبسوط (1/ 61،62)، حاشية ابن عابدين (1/ 133)،. (¬2) الخرشي (1/ 66)، مختصر خليل (ص: 5)، بداية المجتهد (1/ 294)، التاج والإكليل (1/ 72)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 63)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 442)، الاستذكار (1/ 372)، حاشية الدسوقي (1/ 35). قال ابن عبد البر في التمهيد (14/ 165): " والذي ذهب إليه جمهور العلماء، وجماعة فقهاء الأمصار، أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، وتتوضأ المرأة بفضله، انفردت بالإناء أو لم تنفرد، وفي مثل هذا آثار كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحاح، والذي يُذْهَب إليه أن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما ظهر فيه من النجاسات، أو غلب عليه منها، فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال، والله المستعان ". اهـ (¬3) الأم (1/ 21)، المجموع (2/ 221)، طرح التثريب (2/ 39،40)، تحفة المحتاج (1/ 77). (¬4) المغني (1/ 136). (¬5) قال في الأوسط (1/ 295): " والذي نقول به الرخصة في أن يغتسل كل واحد منهما ويتوضأ بفضل طهور صاحبه، وإن كانا جنبين أو أحدهما، أو كانت المرأة حائضاً، وسواء ذلك خلت به، أو لم تخل به، لثبوت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدالة على صحة ذلك. اهـ (¬6) روى ابن أبي شيبة في المصنف (348) حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي يزيد =

وقيل: لا يستعمل في رفع حدث الرجل خاصة، ويستعمل في إزالة النجاسة، وفي رفع حدث المرأة والصبي، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد (¬1)، ¬

= المدني، قال: سئل ابن عباس عن سؤر المرأة، فقال: هي ألطف بناناً، وأطيب ريحاً. ورجاله ثقات. وأبو يزيد، سئل أبو زرعة عن اسمه، فقال: لا أعلم له اسماً. وقال فيه ابن معين كما في رواية إسحاق بن منصور عنه: ثقة. الجرح والتعديل (9/ 458). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: وروى عن ابن عباس وأحيانا يدخل بينه وبين بن عباس عكرمة. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن أيضاً: سألت أبي عن أبي يزيد المدني؟ فقال: شيخ، سئل مالك عنه، فقال: لا أعرفه. وقال أبي عنه: يكتب حديثه. فقلت: ما اسمه؟ فقال: لايسمى. المرجع السابق. وقال الآجري عن أبي داود: سألت أحمد عنه؟ فقال: تسأل عن رجل روى عنه أيوب. تهذيب التهذيب (12/ 306). وفي التقريب: مقبول. يعني: إن توبع، وإلا فلين، هذا رأي الحافظ، وأرى والله أعلم أنه أكبر من ذلك، كيف وقد وثقه ابن معين، وأشار أحمد إلى توثيقه؛ لأن أيوب روى عنه. وأخرج له البخاري حديثه عن عكرمة عن ابن عباس: "إن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم. الحديث ". ورواه عبد الرزاق (382،379) من طريقين عن عكرمة، عن ابن عباس. (¬1) مذهب الإمام أحمد كما في المشهور من مذهبه عند المتأخرين أن الماء لا يرفع حدث الرجل بشروط، وهي: الأول: أن تخلو به المرأة عن مشاهدة رجل أو امرأة أو مميز، وقد قدمنا أن في المذهب روايتين، هذه أحدهما. الثاني: أن تكون خلوتها بماء، فلا تضر خلوتها بتراب. الثالث: أن يكون الماء يسيراً دون القلتين. الرابع: أن تكون خلوتها بالماء لطهارة كاملة. =

ومذهب ابن حزم قريب منه (¬1). وقيل: يكره الوضوء بفضل المرأة، وهو مذهب سعيد بن المسيب والحسن (¬2)، ¬

= الخامس: أن تكون طهارتها عن حدث، وليس عن إزالة نجاسة. قال ابن قدامة في المغني (1/ 137): " فإن خلت به في بعض أعضائها، أو في تجديد طهارة، أو استنجاء، أو غسل نجاسة، ففيه وجهان: أحدهما: المنع؛ لأنه طهارة شرعية. والثاني: لا يمنع؛ لأن الطهارة المطلقة تنصرف إلى طهارة الحدث الكاملة، وهذا ما عليه المتأخرون من أصحاب أحمد. وانظر في مذهب أحمد الكافي (1/ 62)، الإنصاف (1/ 48)، الفروع (1/ 83)، تنقيح التحقيق (1/ 214)، كشاف القناع (1/ 37). (¬1) قال ابن حزم في المحلى (1/ 204): " وكل ماء توضأت منه امرأة - حائض أو غير حائض - أو اغتسلت منه فأفضلت منه فضلاً، لم يحل لرجل الوضوء من ذلك الفضل ولا الغسل منه، سواء وجدوا ماء آخر، أو لم يجدوا غيره، وفرضهم التيمم حينئذ، وحلال شربه للرجال والنساء، وجائز الوضوء به والغسل للنساء على كل حال، ولا يكون فضلاً إلا أن يكون أقل مما استعملته منه، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلاً، والوضوء والغسل به جائز للرجال والنساء ". والفرق بين اختيار ابن حزم، ومذهب الحنابلة أن ابن حزم لا يشترط أن تخلو به المرأة عن المشاهدة، بل يكفي أن تنفرد به عن الرجل، ولا يحد ابن حزم الماء اليسير في القلتين، بل يحده بأن يكون الماء المتبقي أقل مما استعملته منه، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلاً، والله أعلم. (¬2) روى عبد الرزاق في المصنف (375) عن معمر، عن قتادة، قال: سألت الحسن وابن المسيب عن الوضوء بفضل المرأة، فكلاهما نهاني عنه. ورواية معمر عن قتادة فيها كلام؛ لكن تابعه شعبة، وهو من أثبت الناس في رواية قتادة، فقد روى ابن أبي شيبة (357) حدثنا عبدة بن سليمان، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن أنهما كانا يكرهان فضل طهورها. وهذا إسناد صحيح، وشعبة لا يحمل عن قتادة إلا ما صرح به في التحديث. =

دليل الجمهور على أن فضل المرأة طهور.

واختاره بعض الشافعية (¬1). وقيل: لا بأس أن يغتسل بفضل طهور المرأة ما لم تكن جنباً أو حائضاً، وهو رأي ابن عمر رضي الله عنهما (¬2). دليل الجمهور على أن فضل المرأة طهور. الدليل الأول: (72) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن حاتم - قال إسحاق أخبرنا - وقال ابن حاتم حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، قال: أكبر علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس أخبره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة (¬3). [الحديث معلول، والمحفوظ ما أخرجه الشيخان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد] (¬4). الدليل الثاني: (73) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرزاق، أنا الثوري، عن سماك بن ¬

= وانظر الأوسط (1/ 292) والمجموع (2/ 221)، المحلى (1/ 205)، فقه سعيد بن المسيب (1/ 8)، فقه الفقاء السبعة (1/ 24). (¬1) تحفة المحتاج (1/ 77). (¬2) روى مالك في الموطأ (1/ 52) عن نافع، ان عبد الله بن عمر كان يقول: لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن حائضاً أو جنباً. وسنده في الصحة من أعلى الأسانيد. (¬3) صحيح مسلم (323). (¬4) سيأتي الكلام على علته حين الجمع بين حديث النهي عن الوضوء بفضل المرأة، وما يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة.

حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن امرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - استحمت من جنابة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من فضلها، فقالت: إني اغتسلت منه، فقال: إن الماء لا ينجسه شيء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 248). (¬2) مدار هذا الإسناد على سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس. ورواية سماك عن عكرمة مضطربة، وقد تكلمت عن إسناده في الشاهد الثالث عند تخريج الحديث رقم (10)، وسوف أتكلم إن شاء الله تعالى في هذا الباب عن متنه فقط، فقد جاء في بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء ليتوضأ، وفي بعضها جاء ليغتسل .. وهذا الاختلاف لا يؤثر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتقدم غسله الوضوء. وهناك اختلاف آخر في متن الحديث، فرواه شعبة، وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة، وإسرائيل، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إن الماء لا ينجسه شيء. وراه يزيد بن عطاء عن سماك بلفظ: إن الماء ليس عليه جنابة. ويزيد بن عطاء ضعفه يحيى بن معين والنسائي، وفي التقريب: فيه لين. ورواه أيضاً أبو الأحوص عن سماك: وذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " إن الماء لا يجنب " كما عند أبي داود (68) والترمذي (60) وابن ماجه (370) وابن حبان (1261). وأبو الأحوص ثقة متقن كما في التقريب، ولكن جاء الحديث من طريق أبي الأحوص أيضاً بما يوافق رواية الجماعة، كما في صحيح ابن حبان (1241) والطبراني (11716) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " إن الماء لا ينجسه شيء " وفي لفظ الطبراني " إن الماء لا ينجس ". ورواه شريك، عن سماك بالشك، إن الماء ليس عليه جنابة، أو قال: إن الماء لا ينجس. وشريك سيء الحفظ، وخالف في إسناده كما سبق بيانه عند الكلام على إسناد الحديث انظر (10). فيكون المحفوظ من الحديث قوله: إن الماء لا ينجس؛ خاصة إذا علمنا أيضاً أن =

دليل من قال: لا يغتسل بفضل المرأة

دليل من قال: لا يغتسل بفضل المرأة. الدليل الأول: (74) روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله، وأن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن ¬

_ = للحديث شاهداً من حديث أبي سعيد والله أعلم. وهل هناك فرق بين اللفظتين بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء لا يجنب، وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الماء لا ينجسه شيء "؟ الجواب: نعم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " إن الماء لا ينجسه شيء " أعم من قوله: " إن الماء لا يجنب "؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يجنب " أي لا تنتقل إليه الجنابة، والجنابة ليست نجاسة، بخلاف " إن الماء لا ينجسه شيء " هذا فرق، وحتى ولو لم يكن هناك فرق فإن ضبط اللفظ النبوي عبادة، والله أعلم. فالخلاصة أن الحديث باغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - من فضل وضوء المرأة لا يثبت من حديث ابن عباس؛ لأنه جاء من طريق سماك بن حرب، عن عكرمة، وروايته مضطربة، كما أن فيه اختلافاً في وقفه ورفعه، وسماك قد نص العلماء أنه يرفع أحاديث عكرمة عن ابن عباس، فيجعلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو داود في مسائله لأحمد (ص: 440) رقم 2016: سمعت أحمد قال: قال شريك: كانوا يلقنون سماكاً أحاديثه عن عكرمة، يلقنونه عن ابن عباس، فيقول: عن ابن عباس. اهـ ولفظ: إن الماء لا ينجس قد ثبت من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.

يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (4/ 111). (¬2) الحديث أخرجه أبو داود (81) حدثنا مسدد، ومن طريق مسدد أخرجه الطحاوي (1/ 24) وأخرجه النسائي (238) أخبرنا قتيبة كلاهما عن أبي عوانة به. وأخرجه أحمد (4/ 110،111)، وأبو داود (28،81) والحاكم (1/ 168)، والبيهقي (1/ 98،190) من طريق زهير، عن داود بن عبد الله الأودي به. إلا أن الحاكم قال: أظنه عن أبي هريرة، وهذا وهم، فإن الحديث صريح بأن الصحابي صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صحبه أبو هريرة. قال البيهقي: وهذا الحديث رواته ثقات، إلا أن حميداً لم يسم الصحابي الذي حدثه، فهو بمعنى المرسل، إلا أنه مرسل جيد، لولا مخالفته الأحاديث الثابتة الموصولة قبله. اهـ فتعقبه الحافظ في الفتح (1/ 300) قائلاً: " ولم أقف لمن أعله حجة قوية، ودعوى البيهقي أنه في معنى المرسل مردودة؛ لأن إيهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي بأنه لقيه. اهـ وقال مثله ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 217) والنووي في المجموع (2/ 222)، وقال: صحيح الإسناد. وضعفه ابن حزم، وظن داود بن عبد الله الأودي هو داود بن يزيد الأودي عم عبد الله بن إدريس. قال ابن عبد الهادي: وقد تكلم ابن حزم على هذا الحديث بكلام أخطأ فيه، ورد عليه ابن حزم مفوز وابن القطان وغيرهما، وقد كتب الحميدي إلى ابن حزم من العراق يخبره بصحة هذا الحديث. اهـ وقال الحافظ في الفتح (1/ 300): ودعوى ابن حزم أن داود - راويه عن حميد بن عبد الرحمن - هو ابن يزيد الأودي دعوى ضعيفة مردودة، فإنه ابن عبد الله الأودي، وهو ثقة. اهـ وممن ضعف هذا الحديث وغيره من أحاديث الباب الإمام أحمد كما في فتح الباري =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (75) ما رواه أحمد، قال: ثنا سليمان بن داود، ثنا شعبة، عن عاصم الأحول، قال: سمعت أبا حاجب يحدث عن الحكم بن عمرو الغفاري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل من فضل وضوء المرأة (¬1). [رجاله ثقات، وقد أعل بالوقف] (¬2). ¬

= (1/ 300) فإنه قال: إن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل وضوء المرأة، وفي جواز ذلك مضطربة، لكن صح عن عدة من الصحابة المنع فيما إذا خلت به ". وهذا ظاهره إعلال كل ما ورد في الباب من منع أو جواز، وهذا ما جعلني أقول رجاله ثقات بدلاً من قولي: إسناده صحيح، والله أعلم. (¬1) مسند أحمد (5/ 66)، ومن طريق أحمد أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 46) رقم21. (¬2) الحديث أخرجه أبو داود السجستاني (82) والترمذي (64) وابن ماجه (373)، والبيهقي (1/ 191) عن محمد بن بشار. والنسائي (343) أخبرنا عمرو بن علي، ومن طريق عمرو بن علي أخرجه ابن حبان كما في موارد الظمآن (224). والدارقطني (1/ 53) من طريق زيد بن أخزم، جميعهم عن أبي داود الطيالسي به. وأخرجه الترمذي (64) قال: حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو داود به. إلا أنه شك فيه، هل قال نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة أو قال بسؤرها؟ ورواه يونس بن حبيب كما في مسند أبي داود الطيالسي (1252) والبيهقي (1/ 191) عن أبي داود الطيالسي به، إلا أنه أبهم صحابيه، فقال: سمعت أبا حاجب يحدث عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ من فضل وضوء المرأة. وتابع أبا دواد الطيالسي جماعة: منهم الربيع بن يحيى الأشناني عن الطبراني في الكبير (3156) بلفظ أبي داود الطيالسي. وعبد الصمد عند أحمد (4/ 213) والبيهقي (1/ 191) بلفظ: نهى أن يتوضأ بفضلها، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لا يدرى بفضل وضوئها أو فضل سؤرها. ووهب بن جرير عند أحمد (4/ 213)، والبيهقي (1/ 191). بلفظ: نهى أن يتوضأ الرجل من سؤر المرأة. زاد البيقهي: وكان لا يدري عاصم فضل وضوئها، أو فضل شرابها. هذا الشك من عاصم، وتارة يكون الشك من أبي حاجب. فقد أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 24) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن شعبة به، بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، أو بسؤر المرأة لا يدري أبو حاجب أيهما قال. وتوبع شعبة في هذا الحديث، تابعه كل من: سليمان التيمي وقيس بن الربيع. فقد أخرجه أحمد (5/ 66) قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا سليمان التيمي، عن أبي حاجب، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من بنى غفار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل من فضل طهور المرأة. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات. وأخرجه الترمذي (63) والطبراني في الكبير (3157) من طريق وكيع. والبيهقي (1/ 191) من طريق يزيد بن زريع كلاهما عن سليمان التيمي به. وأما متابعة قيس بن الربيع، فقد أخرجها الطبراني في الكبير (3155) من طريق قيس، عن عاصم به، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سؤر المرأة. كلام أهل العلم في الحديث: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. قال الترمذي في العلل (1/ 134): سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: ليس بصحيح. وقال الإمام أحمد كما في فتح الباري (1/ 300): إن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل وضوء المرأة، وفي جواز ذلك مضطربة، لكن صح عن عدة من الصحابة المنع فيما إذا خلت به ". وقال الإمام أحمد أيضاً كما في التنقيح (1/ 215) قال الأثرم: قال أبو عبد الله يضطربون فيه عن شعبة، وليس هو في كتاب غُنْدَر، وبعضهم يقول: عن فضل سؤر المرأة، وبعضهم يقول: فضل وضوء المرأة فلا يتفقون عليه. اهـ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الدارقطني في سننه (1/ 53): أبو حاجب اسمه سوادة بن عاصم، واختلف عنه، فرواه عمران بن حدير وغزوان بن حجير السدوسي عنه موقوفاً من قول الحكم، غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: رواية عمران بن حدير في مصنف ابن أبي شيبة (355) قال: حدثنا وكيع، عن عمران بن حدير، عن سوادة بن عاصم، قال: انتهيت إلى الحكم الغفاري، وهو بالمربد، وهو ينهاهم عن فضل طهور المرأة، فقلت: ألا حبذا صفرة ذراعيها، ألا حبذا كذا!! فأخذ شيئاً فرماه به، وقال: لك ولأصحابك. وهذا إسناد صحيح. فالحديث علته والله أعلم الاختلاف في رفعه ووقفه، وأما كون الحديث ورد مرة بسؤر المرأة، ومرة بفضل المرأة، ومرة بالشك، هل يريد فضل شرابها أم فضل سؤرها، فممكن الجمع بين هذه الروايات. فرواية أبي داود الطيالسي عن شعبة، رواه عن أبي داود ثلاثة: 1 - محمد بن بشار، ويونس بن حبيب. وهذان متفقان على لفظ: فضل طهور المرأة. ورواه محمود بن غيلان عن أبي داود بالشك: بفضل طهور المرأة، أو قال سؤرها. والشك هنا من محمود، فيطرح الشك؛ لأنه قد رواه ثقتان عن أبي داود بدون شك. وروى الحديث عبد الصمد، عن شعبة كما في مسند الإمام أحمد (4/ 213) ولفظه: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ بفضلها، لا يدري بفضل وضوئها أو فضل سؤرها ". وهنا الشك ليس في اللفظ النبوي، لأن اللفظ النبوي " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ بفضلها ". هذا اللفظ النبوي ليس فيه شك. وإنما الشك في تفسير الراوي لفضل المرأة ما هو؟ والتفسير من قبل الراوي قد يصيب وقد يخطيء وإذا كان عبد الصمد في تفسيره لم يجزم فالروايات الأخرى تقضي على الشك. وأما رواية وهب بن جرير عن شعبة عند أحمد: نهى أن يتوضأ الرجل من سؤر المرأة. ولنا في هذه الرواية إما الجمع أو الترجيح، والجمع أولى بأن يقال: المراد بالسؤر هنا: هو فضل الطهور، لا فضل الشراب؛ لأن السؤر أصله: البقية من كل شيء، وهنا المراد البقية من طهورها كما في سائر الروايات الأخرى. وإن قلنا بالترجيح، فلا شك أن لفظ (فضل المرأة) أكثر طرقاً من لفظ (سؤر المرأة) والله أعلم.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (76) حدثنا محمد بن يحيى، ثنا المعلى بن أسد، ثنا عبد العزيز بن المختار، ثنا عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعاً. [المحفوظ وقفه على عبد الله بن سرجس] (¬1). ¬

(¬1) الحديث أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 24) من طريق محمد بن خزيمة. والدارقطني (1/ 116) من طريق أبي حاتم الرازي. وابن حزم في المحلى (1/ 212) من طريق على بن عبد العزيز، ثلاثتهم عن معلى بن أسد به. وأخرجه أبو يعلى (1564)، والبيهقي (1/ 192) من طريق إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد العزيز بن المختار به. وخالف شعبة عبد العزيز بن المختار، فرواه عن عاصم، عن عبد الله بن سرجس، موقوفاً عليه. أخرجه الدراقطني (1/ 117) من طريق وهب بن جرير، عن شعبة، عن عاصم، عن عبد الله بن سرجس موقوفاً عليه، بلفظ: تتوضأ المرأة وتغتسل من فضل غسل الرجل وطهوره ولا يتوضأ الرجل بفضل غسل المرأة ولا طهورها. قال الدارقطني: هذا موقوف صحيح، وهو أولى بالصواب. وتبعه البيهقي في سننه (1/ 192). وقال البخاري عن حديث عبد الله بن سرجس: الصحيح أنه موقوف، ومن رفعه فهو خطأ. سنن البيهقي (1/ 192). وقال ابن ماجه: الصحيح الأول - يعني: حديث شعبة، عن عاصم، عن أبي حاجب، عن الحكم بن عمرو - والثاني وهم. يعني حديث عاصم، عن عبد الله بن سرجس. وقد لحظ ابن ماجه رحمه الله أن مخرج الحديثين واحد، وهو عاصم الأحول، فشعبة يجعله من مسند الحكم، وعبد العزيز بن المختار يجعله من مسند عبد الله بن سرجس، وشعبة أرجح من عبد العزيز بن المختار، لكن يعكر على هذا أن شعبة رواه عن عاصم، عن عبد الله =

الجمع بين حديث النهي عن الوضوء بفضل المرأة، وحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بفضل ميمونة. أجاب المانعون بأحد جوابين: الأول: قالوا: إن حديث ابن عباس غير محفوظ: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بفضل ميمونة، وأن المحفوظ ما جاء في الصحيحن من كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغتسل هو وميمونة من إناء واحد (¬1). ¬

= ابن سرجس موقوفاً عليه، فيبعد الوهم المطلق، وإنما الوهم في الرفع فقط، كما رجح ذلك البخاري والدارقطني والبيهقي، والله أعلم. (¬1) الحديث مداره على عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس. واختلف على عمرو بن دينار، فرواه ابن جريج كما في مصنف عبد الرزاق (1037) وأحمد (1/ 366) ومسلم (323)، وابن خزيمة (108)، والدارقطني (1/ 53)، والبيهقي (1/ 188)، عن عمرو بن دينار، قال علمي والذي يخطر على بالي، أن أبا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة. وخالفه سفيان بن عيينة، فرواه عبد الرزاق في المصنف (1032) وابن أبي شيبة (368)، والحميدي (1/ 148)، والشافعي في مسنده (ص: 9) وأحمد (6/ 329)، والبخاري (250)، ومسلم (322)، والترمذي (62)، والنسائي في الصغرى (236)، وفي الكبرى (238)، وابن ماجه (377)، وأبو يعلى (7080)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 25)، والبيهقي (1/ 188) من طرق، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، عن ميمونة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد. وجعله البخاري من مسند ابن عباس. فيكون على هذا قد اختلف على ابن عيينة فرواه عنه الحميدي، وأحمد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وقتيبة بن سعيد والشافعي، وابن أبي عمر، ويحيى بن موسى، ومحمد بن إسماعيل الأحمسي، كلهم رووه عن سفيان عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، فجعلوه من مسند ميمونة، كما سبق. وخالفهم أبو نعيم، عند البخاري. قال البخاري (253) حدثنا أبو نعيم، قال حدثنا =

الجواب الثاني: قالوا: حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بفضل ميمونة يحتمل أن يكون مع المشاهدة. ولذلك يشترطون أن تخلو به المرأة لطهارة كاملة. ومعنى تخلو به عندهم ليس معناه أن تنفرد به ولكن معناه ألا يشاهدها مميز أثناء الطهارة (¬1). ¬

= ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد - وهو أبو الشعثاء - عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد. قال البخاري: كان ابن عيينة يقول أخيراً، عن ابن عباس عن ميمونة، والصحيح ما روى أبو نعيم. وقد يقال: إن الصحيح رواية الجماعة، خاصة أن فيهم من هو من أخص أصحاب سفيان كالحميدي، وفيه أئمة حفاظ كالإمام أحمد وابن أبي شيبة وقتيبة بن سعيد وغيرهم. قال الحافظ في الفتح: إنما رحج البخاري رواية أبي نعيم جرياً على قاعدة المحدثين، لأن من جملة المرجحات عندهم قدم السماع، لأنه مظنة قوة حفظ الشيخ، ولرواية الأخرين من جهة أخرى من وجوه الترجيح وهي كونهم أكثر عدداً وملازمة لسفيان، ورجحها الإسماعيلي من جهة أخرى من حيث المعنى: وهي كون ابن عباس لايطلع على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة اغتساله مع ميمونة فيدل على أنه أخذه عنها، والله أعلم. وقد أشار الحافظ إلى تعليل الحديث، وحكم عليه بالشذوذ، قال في الفتح (1/ 359): " أعله قوم لتردد وقع في رواية عمرو بن دينار، حيث قال: علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني ... فذكر الحديث. وقد ورد من طريق أخرى بلا تردد لكن راويها غير ضابط وقد خولف. والمحفوظ ما أخرجه الشيخان بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد. اهـ وقد جاء عند أحمد زيادة في المتن قال ابن جريج بعد أن ساق الحديث بالغسل من فضل ميمونة، قال: وذلك أني سألته عن إخلاء الجنبين جميعاً. وفي أطراف مسند الإمام أحمد لابن حجر (3/ 46) عن اختلاء بدلاً من إخلاء. وفي مصنف عبد الرزاق: وذلك أني سألته عن الجنبين يغتسلان جميعاً. وهذا قد يرجح قول ابن حجر بأن المحفوظ أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يغتسل هو وميمونة من إناء واحد؛ لأنه بهذا اللفظ يكون الحديث أكثر مطابقة للسؤال من أنه كان يغتسل بفضلها. (¬1) تنقيح التحقيق (1/ 220)، المنتقى (1/ 12) ح 16.

وهذا الكلام عليه مأخذان. الأول: أنه يبعد أن تشاهد المرأة وهي تغتسل من الجنابة. الثاني: أن اشتراط ألا يشاهدها أحد ليس ظاهراً من الحديث، ولكن يكون الماء فضلها إذا انفردت باستعماله .. ولذا جاء في الحديث "وليغترفا جميعا " ولو كان مجرد المشاهدة يؤثر ما أرشد إلى الاغتراف جميعاً، وكان ممكن أن يقول نهى أن يتوضأ الرجل بما خلت به المرأة، وكان ممكن أن يقول: ولتغترف عند أحد. القول الثاني في الجمع بين الحديثين: أن النهي محمول على الكراهة، والفعل دال على الجواز (¬1)، وهذا هو الراجح على القاعدة الأصولية التي تقول: إن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض قوله. فإذا أمر بشيء وتركه دل ذلك على أن الأمر للاستحباب، وإذا نهى عن شيء وفعله دل على أن النهي للكراهة. إلا إذا جاءنا دليل خاص يدل على أن مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - خصوصية له فيبقى الأمر على أصله للوجوب، والنهي عن أصله للتحريم، وليس عندنا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اغتسل بفضل ميمونة أن هذا الحكم خاص به، بل عندنا دليل على أنه عام بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علل الحكم بقوله " إن الماء لا ينجسه شيء " أو على اللفظ المرجوح " إن الماء لا يجنب " ولم يقل إني لست كهيئتكم كما قال ذلك عند الوصال في الصيام. ¬

(¬1) شرح الزركشي (1/ 301)، وذكر أنه اختيار أبي الخطاب وابن عقيل، وإليها ميل المجد في المنتقى.

القول الثالث في الجمع: حملوا النهي عن فضل وضوء المرأة من الجنب والحائض وأما إذا كانت طاهراً فلا بأس به (¬1). (77) فقد روى مالك في الموطأ (¬2)، وعنه عبد الرزاق (¬3)، من طريق نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن جنباً أو حائضاً أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أيوب عن نافع به (¬4). وهذا القول ضعيف: لأن اشتراط أن تكون المرأة حائضاً أو جنباً لم يرد في شيء من الأحاديث. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة وهي حائض: " إن حيضتك ليست في يدك " رواه مسلم (¬5). فإذا كانت حيضتها ليست في يدها فهي كذلك ليست في وجهها ولا في رأسها ولا في قدمها ولا في شيء من أعضائها سوى مكان الأذى. فلا دليل على اشتراط الحيض أو الجنابة، وبدن الجنب، وبدن الحائض سوى مكان الأذى لا فرق بينه وبين غيره إلا أن هذا محدث وهذا غير محدث. ¬

(¬1) معالم السنن (1/ 80). (¬2) الموطأ (2/ 52). (¬3) المصنف (1/ 701). (¬4) المصنف (1/ 38) رقم 347. (¬5) رواه مسلم (298) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة.

القول الرابع في الجمع: قيل: إن النهي عن استعمال ما تقاطر من أعضائه عند التطهر، والجواز وارد على ما بقى في الماء من الإناء. وهذا القول قدمه الخطابي ورجحه على غيره في معالم السنن (¬1)، وهذا القول أيضاً ضعيف. فما كان من شأن الصحابة أن يجمعوا ما تقاطر من أعضائهم لاستعماله مرة أخرى حتى يفرق بين ما استعملته المرأة وبين ما استعمله الرجل. فالراجح أن النهي لا يثبت، والقول بعدم الكراهة أقوى، وإذا كان الإمام أحمد يقول: إن المسألة ليس فيها حديث ثابت، وإنما العمل بقول بعض الصحابة، فالجواب أن الصحابة مختلفون، وابن عباس يرى جواز الوضوء من فضل المرأة، وابن عمر لا يرى به بأساً إلا من الحائض والنفساء، وإذا كان الصحابة مختلفين كان السبيل طلب الترجيح من جهة الدليل. ولا دليل يسلم في المسألة. وإذا كان سؤر بهيمة الأنعام لا يمنع من الوضوء منه، بل ولا الهرة مع أن طهارتها لعلة التطواف، وإلا فالأصل نجاستها، فسؤر المرأة أولى بالجواز، وانظر إلى فقه ابن عباس حين قال: هي ألطف بناناً وأطيب ريحاً، ولو كان في المسألة نص سالم من النزاع لم أعارضه بالفهم القاصر، ولكن ما دامت النصوص لم تثبت، والصحابة مختلفون فينظر في أقربها للحق. ¬

(¬1) معالم السنن (1/ 80).

الفصل الثالث في الوضوء بفضل الرجل

الفصل الثالث في الوضوء بفضل الرجل ذكرنا في ما سبق الخلاف في الوضوء بفضل المرأة، وعلمنا أن قول الجمهور جواز الوضوء بفضل المرأة، والذي منع من الوضوء بفضل المرأة هم الحنابلة (¬1)، وابن حزم (¬2)، كما سبق، ولا شك أن الذي أجاز الوضوء بفضل المرأة أجاز الوضوء بفضل الرجل من باب أولى، ولم يمنع الحنابلة وابن حزم (¬3)، الوضوء بفضل الرجل، مع منعهم الوضوء بفضل المرأة، وقد حكي فيه الإجماع، نقله جماعة من أهل العلم. قال ابن عبد البر: لا بأس بفضل وضوء الرجل المسلم يتوضأ منه، وهذا كله في فضل طهور الرجل إجماع من العلماء والحمد لله (¬4). وقال النووي رحمه الله: واتفقوا على جواز وضوء الرجل والمرأة بفضل الرجل. وقال أيضاً: لا نعلم أحداً من أهل العلم منعها- أي المرأة - فضل ¬

(¬1) انظر العزو إلى كتبهم في المسألة السابقة. (¬2) المحلى (1/ 204). (¬3) قال المرداوي في الإنصاف (1/ 51): مفهوم قوله " امرأة " أن الرجل إذا خلا به لا تؤثر خلوته منعاً، وهو صحيح، وهو المذهب. وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم. ونقله الجماعة عن أحمد. وحكاه القاضي وغيره إجماعاً. وذكر ابن الزاغوني عن الأصحاب وجهاً بمنع النساء من ذلك. قال في الرعاية: وهو بعيد. وأطلقهما ناظم المفردات. اهـ وقال ابن حزم في المحلى (1/ 204): أما فضل الرجال فالوضوء به والغسل جائز للرجل والمرأة، إلا أن يصح خبر في نهي المرأة عنه فنقف عنده، ولم نجده صحيحاً. اهـ (¬4) التمهيد (1/ 218).

الرجل (¬1). وقال أيضاً: وأما تطهير المرأة بفضل الرجل فجائز بالإجماع أيضاً (¬2). ومع نقل الإجماع إلا أن الحديث الوارد قد جمع النهي عن الوضوء بفضل الرجل كما نهى عن الوضوء بفضل المرأة، فإن صح الإجماع فذاك، (78) وإلا فلينظر في الحديث، فقد روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله، وأن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً (¬3). وهذا حديث رجاله ثقات، وما حكي من الإجماع فينظر في صحة دعواه، فإن صح كان دليلاً لقول الإمام أحمد في تضعيف النهي عن الوضوء بفضل المرأة، لأنه لا يمكن أن ينهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن يغتسل الرجل بفضل المرأة، ويسوي الحديث بينهما في النهي، ثم ينقل الإجماع على عدم النهي عن وضوء المرأة بفضل الرجل إلا إذا كان النهي الوارد لا يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع (2/ 221،222). (¬2) شرح صحيح مسلم (4/ 2). (¬3) مسند أحمد (4/ 111)، وسبق تخريجه.

الباب السابع في الشك والاشتباه

الباب السابع في الشك والاشتباه ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: في الشك في الماء ونحوه. الفصل الثاني: إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس. الفصل الثالث: إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر. الفصل الرابع: إذا اشتبه ثياب طاهرة بمحرمة أو نجسة. الفصل الخامس: في الإخبار بنجاسة الماء.

الفصل الأول في حكم الماء ونحوه إذا كان مشكوكا فيه

الفصل الأول في حكم الماء ونحوه إذا كان مشكوكاً فيه ينبغى أن يعلم أنه ليس في الشريعة شىء مشكوك فيه البتة، وإنما يعرض الشك للمكلف بتعارض أمارتين فصاعدا، فتصير المسألة مشكوكاً فيها بالنسبة إليه، فهى شكية عنده، وربما تكون ظنية عند غيره، وقطعية عند آخرين، فكون المسألة شكية أو ظنية أو قطعية ليس وصفاً ثابتاً لها، وإنما هو أمر يعرض لها عند إضافتها إلى حكم المكلف (¬1). وينبغي أن يعلم أن مراد كثير من الفقهاء بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والصوم والطلاق والعتق وغيرها هو التردد بين وجود الشىء وعدمه، سواء كان الطرفان في التردد سواء، أو أحدهما راجحاً، فهذا معناه في استعمال الفقهاء في كتب الفقه، وأما أصحاب الأصول ففرقوا بينهما. فقالوا: التردد بين الطرفين إن كان على السواء فهو الشك، وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم (¬2). وقد يجتمع في هذه المسائل أصل وظاهر، وذلك نحو آنية الكفار المتدينين باستعمال النجاسة، وثياب القصابين، والصبيان الذين لا يتقون النجاسة فقيل: إنه محكوم بنجاستها عملاً بالظاهر. وقيل: إنه محكوم بطهارتها عملاً بالأصل. وقد يترجح الظاهر في بعض المسائل على الأصل فيؤخذ به، وقد يقدم ¬

(¬1) بدائع الفوائد (3/ 271). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 124)، والمجموع (1/ 220).

الأصل، وقد يستوى الظاهر والأصل، وهذا هو السبب في عدم طرد فروع هذه المسائل عند بعض المذاهب (¬1). إذا عرفنا هذا فقد اختلف العلماء في حكم الشيء إذا تيقن طهارته أو نجاسته، وشك في نقيض ذلك. فقيل: يبني على اليقين، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬

(¬1) المجموع بتصرف (1/ 285،259)، روضة الطالبين (1/ 146، 147). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 186)، المبسوط (1/ 146، 147) و (30/ 28)، بريقة محمودية (4/ 212). وهناك مسائل قد يعمل الأحناف بالظاهر ويقدمونه على الأصل لقرينة، فقد جاء فى المبسوط (1/ 86): المتوضئ إذا تذكر أنه دخل الخلاء لقضاء حاجة وشك أنه خرج قبل أن يقضيها أو بعد ما قضاها فعليه أن يتوضأ؛ لأن الظاهر من حاله أنه ماخرج إلابعد قضائها، وكذلك المحدث إذا علم أنه جلس للوضوء ومعه الماء، وشك فى أنه قام قبل أن يتوضأ، أوبعد ما توضأ فلا وضوء عليه؛ لأن الظاهر أنه لايقوم حتى يتوضأ، والبناء على الظاهر واجب مالم يعلم خلافه " فهنا قدموا العمل بالظاهر على العمل بالأصل والمتيقن لأن الظاهر قد يقوى فيترجح على الأصل وقد يتعارضان بلا ترجيح وقد يضعف الظاهر فيقدم الأصل، والله أعلم. (¬3) المجموع (1/ 219)، كفاية الأخيار (1/ 72)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 42)، شرح البهجة (1/ 145)، أسنى المطالب (1/ 58)، روضة الطالبين (1/ 77). (¬4) يقول ابن رجب في القواعد (ص: 339، 340): " إذا تيقن الطهارة أو النجاسة في ماء أو ثوب أو أرض أو بدن وشك في زوالها فإنه يبني على الأصل إلى أن يتيقن زواله، ولا يكتفي في ذلك بغلبة الظن ولا غيره، وكذلك لو تيقن حدثاً أو نجاسة، وغلب على ظنه زوالها فإنه يبني على الأصل، وكذلك في النكاح والطلاق وغيرهما. وانظر الإنصاف (1/ 221)، شرح منتهى الإرادت (1/ 75)، كشاف القناع (1/ 132)، المغني (1/ 126). إلا أن الحنابلة لم يطرد هذا الأصل عندهم، فهناك مسائل قالوا يعمل باليقين، ولا يلتفت إلى غلبة =

وقيل: يختلف الشك في الماء، عن الشك في نجاسة الثوب، عن الشك في الحدث، والشك في الحدث يختلف في داخل الصلاة، عنه في خارجها، وهذا مذهب المالكية وإليك بيان مذهبهم في هذه المسائل. إذا شك في نجاسة الثوب ونحوه وجب نضحه (¬1). وإذا شك في نجاسة البدن وجب غسله (¬2). وإذا شك في حصول الحدث، ففيه قولان: فقيل: ينقض مطلقاً، وهو رواية ابن القاسم عن مالك. وقيل: الشك ينقض الوضوء خارج الصلاة، ولا ينقض داخلها، وهو ¬

= الظن لو وجد. وهناك مسائل قالوا: يكتفى فيها بغلبة الظن. ومن المسائل التى قالوا: لابد فيها من اليقين، منها هذه المسائل التى مرت معنا. وهى إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث أو العكس. ومنها اشتباه الماء الطهور بالنجس أو بلفظ أعم: اشتباه المحرم بالحلال، ومنها لوشك فى طلوع الفجر فإنه يأكل حتى يستيقن، ومنها لوشك فى عدد الطلاق أو الرضعات، أوشك فى عدد الطواف أو السعى أو الرمي كل ذلك يعمل باليقين ويطرح الشك ولاينظر إلى غلبة الظن. وهناك مسائل قالوا: يكفى فيها غلبة الظن، كالاجتهاد في تحري القبلة، وكالمستجمر إذا أتى بالعدد المعتبر، ومنها الغسل من الجنابة يكفى فيه الظن بالإسباغ، ومنها إذا شك فى صلاته فإنه يأخذ بالمتيقن مع إمكان غلبة الظن ومنها مسائل كثيره ذكرها ابن اللاحام فى القواعد والفوائد الأصوليه فلتراجع (ص: 5 - 15)، وأما ابن تيمية فقد طرد القاعدة، فيرى أنه إذا تعذر اليقين رجع إلى غلبة الظن في عامة أمور الشرع. انظر القواعد والفوائد الأصولية (ص: 4). (¬1) قال الدسوقي في حاشيته (1/ 81): " يجب غسل النجاسة في حالتين: إذا تحققت النجاسة، أو ظنها ظناً قوياً، ويجب النضح في حالتين: إذا شك في إصابة النجاسة أو ظنها ظناً ضعيفاً. اهـ وانظر مختصر خليل (ص: 9)، الخرشي (1/ 116)، البيان والتحصيل (1/ 85). (¬2) البيان والتحصيل (1/ 81).

المشهور من مذهب المالكية (¬1)، ونسب هذا القول للحسن رحمه الله (¬2). وروى ابن نافع عن مالك أنه لا وضوء عليه مطلقاً كالجمهور (¬3). وأما مذهب المالكية في الشك في الماء، فيعمل بالأصل، وهو الطهارة كمذهب الجمهور (¬4). ¬

(¬1) جاء في تهذيب المدونة (ص: 181): " ولو أيقن بالوضوء، ثم شك في الحدث، فلم يدر أأحدث بعد الوضوء أم لا، فليعد وضوءه". اهـ وقال الخرشي في شرحه (1/ 157): من شك في طريان الحدث له بعد علمه بطهر سابق، فإن وضوءه ينتقض إلا أن يكون مستنكحاً بأن يشم في كل وضوء أو صلاة أو يطرأ له في اليوم مرة أو أكثر فلا أثر لشكه الطارئ بعد علم الطهر، ولا يبني على أول خاطر به على ما اختاره ابن عبد السلام؛ لأن من هذه صفته لا ينضبط له الخاطر الأول من غيره، والوجود يشهد لذلك، وإن كان ابن عرفة اقتصر على بنائه على ذلك، وكلام المؤلف فيمن حصل له الشك في طرو الحدث قبل الدخول في الصلاة بخلاف من شك في طرو الحدث في الصلاة أو بعدها فلا يخرج منها ولا يعيدها إلا بيقين؛ لأنه شك طرأ بعد تيقن سلامة العبادة. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/ 301)، الثمر الداني (1/ 200)، القوانين الفقهية (ص: 21)، حاشية العدوي (1/ 431). (¬2) المغني (1/ 126). (¬3) فتح الباري (1/ 238). (¬4) قال الباجي في المنتقى (1/ 59): " إن وجد مريد الطهارة الماء متغيراً، ولم يدر من أي شيء تغير، أَمِنْ معنى يمنع التطهر به، أم مِنْ معنى لا يمنع ذلك؟ فإنه ينظر إلى ظاهر أمره، فيقضي عليه به، فإن لم يكن له ظاهر، ولم يدر من أي شيء هو حمل على الطهارة، روى ذلك ابن القاسم في المجموعة. اهـ وقال في الفواكه الدواني (1/ 125): لو تحققنا تغير الماء، وشككنا في المغير له، هل هو من جنس ما يضر أم لا؟ فهو طهور حيث استوى طرفا الشك، وإلا عمل على الظن، بخلاف ما لو تحققنا التغير وعلمنا أن المغير مما يضر التغير به وشككنا في طهارته ونجاسته فلا يكون طهوراً بل هو طاهر فقط. اهـ

دليل الجمهور.

دليل الجمهور. الأصل العظيم، أن اليقين لا يزول بالشك، فمن تيقن الطهارة وشك بالحدث، أو تيقن النجاسة وشك في الطهارة، بنى على اليقين، وهذا الأصل له أدلة شرعية صحيحة. دليل المالكية على وجوب النضح إذا شك في طهارة الثوب. (79) ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريباً من بعض المياه، فاحتلم عمر، وقد كاد أن يصبح فلم يجد مع الركب ماء، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال عمر بن الخطاب: واعجباً لك يا عمرو بن العاصي، لئن كنت تجد ثياباً أفكل الناس يجد ثياباً، والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر (¬1). [إسناده منقطع] (¬2). وجه الاستدلال: لا شك أن النضح هنا هو الرش، بدليل قوله: " اغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر. فجعل النضح غير الغسل. ¬

(¬1) الموطأ (1/ 50). (¬2) انظر تخريجه في باب السؤال عن الماء.

الدليل الثاني على وجوب النضح.

قال ابن عبد البر في الاستذكار: ولا خلاف بين العلماء أن النضح فى حديث عمر هذا معناه الرش، وهو عند أهل العلم طهارة ماشك فيه، كأنهم جعلوه دفعاً للوسوسة. ثم قال بعد: فمن استيقن حلول المني في ثوبه غسل موضعه منه إذا اعتقد نجاسته، كغسله سائر النجاسات على ما قد بينا، وإن لم يعرف موضعه غسله كله، فإن شك هل أصاب ثوبه شيء منه أم لا؟ نضحه بالماء على ما وصفنا، وعلى هذا مذهب الفقهاء كما ذكرنا. قلت: هذا الاستدلال فيه نظر بين، لأنه مبني أولاً على نجاسة المني والدليل خلافه، ومبني أيضاً على أن فعل عمر يدل على الوجوب، وإذا كان فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجرد لا يدل على الوجوب فكيف بفعل غيره (¬1). الدليل الثاني على وجوب النضح. (80) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، أن جدته مليكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته له، فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصل لكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففت واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم انصرف (¬2). والجواب أن النضح هنا ليس عن نجاسة؛ إذ لو كان عن نجاسة لانتشرت ¬

(¬1) الاستذكار (1/ 115). (¬2) البخاري (380)، ومسلم (658).

دليل المالكية على وجوب الغسل إذا شك في نجاسة البدن.

النجاسة بالنضح، ولكن النضح ليلين الحصير لاستعماله، وقد نقل ابن عبد البر مثل ذلك عن إسماعيل بن إسحاق من المالكية (¬1)، وهو الراجح؛ لأن ثوب المسلم ونحوه محمول على طهارته، ولا يؤثر الشك فيه حتى تستيقن النجاسة. دليل المالكية على وجوب الغسل إذا شك في نجاسة البدن. (81) استدلوا بما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل اليد للشك في نجاستها، فهذا يقتضي وجوب غسل البدن إذا شك في نجاسته. قالوا: وإنما لم نقل بالنضح؛ لإن النضح خلاف القياس، فيقتصر فيه على ما ورد، وهو الحصير والثوب والخف، وجعل ابن رشد هذا القول هو المذهب (¬3). وقد ناقشت الحديث فيما سبق، وبينت العلة من الأمر، وأنها ليست ¬

(¬1) الاستذكار (1/ 153). (¬2) صحيح مسلم (278)، وانظر صحيح البخاري (162). (¬3) البيان والتحصيل (1/ 81).

دليل المالكية على أن الشك في الحدث ينقض الطهارة

للنجاسة، ولو كان الغسل من النجاسة لكفى في ذلك غسلة واحدة، كما في نجاسة دم الحيض يصيب الثوب. وأما دليل المالكية على أن الشك في الحدث ينقض الطهارة. قالوا: إنما أوجب الوضوء بالشك؛ لأن الطهارة شرط، والشك في الشرط مؤثر، بخلاف الشك في طلاق زوجته، أو عتق أمته، أو شك في الطهارة أو الرضاع لا يؤثر؛ لأنه شك في المانع، وهو لا يؤثر، وإنما أثر في الشرط دون المانع، لأن العبادة محققة في الذمة فلا تبرأ منها إلا بطهارة محققة، والمانع يطرأ على أمر محقق وهو الإباحة أو الملك من الرقيق، فلا تنقطع بأمر مشكوك فيه (¬1). وأما وجه الفرق بين الحدث داخل الصلاة وخارج الصلاة. (82) فقد أخذوا ذلك من ظاهر الحديث، فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (¬2). فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا شك في الصلاة أن يستمر فيها، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، قالوا: وأما إذا شك خارج الصلاة، فالحكم مختلف، فيلزمه أن ¬

(¬1) الفواكه الدواني (1/ 237). (¬2) صحيح البخاري (137)، ومسلم (361).

يأتي بالطهارة بيقين. قال الدسوقي في حاشيته: من شك، وهو في الصلاة طرأ عليه الشك فيها بعد دخوله، فوجب أن لا ينصرف عنها إلا بيقين، ومن شك خارجها طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب أن لا يدخلها إلا بطهارة متيقنة (¬1). قال ابن حجر تعليقاً على ذلك: إن كان ناقضاً خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك في الصلاة كبقية النواقض (¬2). هذا محصل مذهب مالك في الشك سواء كان في الماء أم في الثوب، أم في البدن، أم في الحدث، وله تفصيل في كل مسألة، ومذهبه لا يطرد، وما كان قولاً له موافقاً للجمهور تركت ذكر دليله اكتفاء بذكر دليل الجمهور، وما خالف فيه ذكرت وجه الدليل عنده. والله أعلم. الراجح من هذه الأقوال قول الجمهور، وهو العمل باليقين، إلا أني أرى إن أمكن العمل بالظن عمل به، فإنه إذا كان هناك ظن راجح أخذ به، لأننا تعبدنا بالظن إذا تعذر اليقين، إلا في مسألة الماء إذا شك في طهارته أو نجاسته، فإن هذه المسألة نادرة الوقوع خاصة إذا رجحنا أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فإن تغير الماء حكمنا عليه بالنجاسة وهو أمر محسوس مشاهد، وإن لم يتغير فهو طهور، والله أعلم. ¬

(¬1) حاشية الدسوقي (1/ 124). (¬2) فتح الباري (1/ 238).

الفصل الثاني إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس

الفصل الثاني إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس، كما لو كان هناك أواني فيها ماء طهور، بأواني فيها ماء نجس، واشتبها عليه، فقد اختلف العلماء فيها على أقوال. القول الأول: مذهب الحنفية: قيل يتحرى بشرط أن تكون الغلبة للأواني الطاهرة، فإن كانت الغلبة للأواني النجسة، أو كانا سواء، فليس له أن يتحرى، أي يجب تركهما (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: في مذهب المالكية أقوال كالتالي: قيل: إنه يتيمم ويتركها، وهو اختيار سحنون. وقيل: يتوضأ بعدد الأواني النجسة، ويصلي بكل وضوء صلاة، ثم يزيد وضوءاً واحداً، ويصلي وحيئذ تبرأ ذمته بيقين (¬2). وقيل: يتحرى أحدهما ويتوضأ به ويصلي، وهو اختيار محمد بن المواز. ¬

(¬1) البحر الرائق (2/ 267)، حاشية ابن عابدين (6/ 347)، وقال ابن عابدين (6/ 736): إذا غلب النجس يتحرى للشرب إجماعاً، ولا يتحرى للوضوء، بل يتيمم، والأولى أن يريق الماء قبله، أو يخلطه بالنجس. اهـ وانظر المبسوط للسرخسي (10/ 201)، الدر المختار (6/ 347)، شرح فتح القدير (2/ 276)، الفتاوى الهندية (5/ 384). (¬2) جاء في حاشية الدسوقي (1/ 83): " سواء قلت الأواني أو كثرت، وهو كذلك على المعتمد، ومقابله ما عزاه في التوضيح وابن عرفة لابن القصار من التفصيل: بين أن تقل الأواني، فيتوضأ بعدد النجس وزيادة إناء، وبين أن تكثر الأواني كالثلاثين، فيتحرى واحداً منها يتوضأ به إن اتسع الوقت للتحري وإلا تيمم. الخ كلامه رحمه الله.

القول الثالث: مذهب الشافعية

وقيل: يهرق الإناء الواحد، ثم يحصل الثاني ماء مشكوكاً فيه، فلا يؤثر فيه الشك، لأن الأصل في الماء الطهارة، ورجحه ابن عبد البر في الكافي. وقيل: يتوضأ بأيهما شاء؛ لأن الماء ما دام لم يتغير بنجاسة فهو طهور، ذكره ابن الجلاب في التفريع، وهو الراجح (¬1)، واختاره ابن حزم (¬2). القول الثالث: مذهب الشافعية. الصحيح المنصوص عليه عندهم، الذي قطع به جمهورهم، وتظاهرت عليه نصوص الشافعي رحمه الله: أنه لا تجوز الطهارة بواحد منهما إلا إذا اجتهد وغلب على ظنه طهارته بعلامة تظهر، فإن ظنه بغير علامة تظهر لم تجز الطهارة به (¬3). ¬

(¬1) المنتقى للباجي (1/ 59،60)، التفريع (1/ 217)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 17)، حاشية الدسوقي (1/ 182)، مواهب الجليل (1/ 170، 172)، القوانين الفقهية (ص: 26)، التاج والإكليل (1/ 170)، مختصر خليل (1/ 12). (¬2) قال في المحلى (1/ 428): فإن كان بين يديه إناءان فصاعداً، في أحدهما ماء طاهر بيقين، وسائرها مما ولغ فيه الكلب، أو فيها واحد ولغ فيه كلب، وسائرها طاهر، ولا يميز من ذلك شيئاً، فله أن يتوضأ بأيها شاء، ما لم يكن على يقين من أنه قد تجاوز عدد الطاهرات، وتوضأ بما لا يحل الوضوء به. اهـ (¬3) انظر الأم (1/ 24، 25)، وروضة الطالبين (1/ 35)، وقال النووي في المجموع (1/ 239): " وسواء كان عدد الطاهر أكثر أو أقل، حتى لو اشتبه إناء طاهر بمائة إناء نجسة تحرى، وكذلك الأطعمة والثياب، هذا مذهبنا. اهـ وجاء في مغني المحتاج (1/ 88): أنه يجوز له الاجتهاد، حتى ولو أمكنه أن يتطهر بغيرهما، كما لو كان على شط نهر، أو بلغ الماءآن المشتبهان قلتين بخلطهما بلا تغير؛ إذ العدول إلى المظنون مع وجود المتيقن جائز؛ لأن بعض الصحابة كان يسمع من بعض، مع قدرته على المتيقن، وهو سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. =

القول الرابع: مذهب الحنابلة

القول الرابع: مذهب الحنابلة: المشهور من مذهب الحنابلة أنه يحرم استعمالهما، ولا يجوز التحري، ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما (¬1). ¬

= وفي مذهب الشافعية وجهان آخران: الأول: يجوز له الطهارة به إذا ظن طهارته، وإن لم تظهر علامة، بل وقع في نفسه طهارته، فإن لم يظن لم تجز الطهارة، حكاه الخرسانيون، وصاحب البيان. الثاني: يجوز استعمال أحدهما بلا اجتهاد، ولا ظن؛ لأن الأصل طهارته، حكاه الخرسانيون أيضاً. قال إمام الحرمين وغيره: الوجهان ضعيفان. المجموع (1/ 233، 234)، مغني المحتاج (1/ 26)، المهذب (1/ 9)، حلية العلماء (1/ 103، 104). (¬1) ومحل الخلاف إذا لم يمكن تطهير أحدهما بالآخر، فإن أمكن تطهير أحدهما بالآخر امتنع من التيمم؛ لأنهم إنما أجازوا التيمم هنا بشرط عدم القدرة على استعمال الطهور، وفي هذه الحالة هو قادر على استعماله. وفي مذهب الحنابلة قولان آخران: فقيل: يشترط أن يريقهما حتى يسوغ له التيمم، لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهنا الماء الطهور موجود لا بعينه، وحتى يباح له التيمم ينبغي أن يكون عادماً للماء الطهور حساً، فوجب أن يريقه. وقيل: له أن يتحرى إذا كثر عدد الطهور. قال ابن رجب في القواعد صححه ابن عقيل، وهل يكفي مطلق الزيادة ولو بواحد، أو لابد أن تكون الزيادة عرفاً، أو لابد أن تكون تسعة طاهرة وواحد نجساً، أو لا بد أن تكون عشرة طاهرة وواحد نجساً، فيه أربعة أقوال، قدم في الفروع: أنه يكفي مطلق الزيادة. قال في الإنصاف: وهو الصحيح. انظر في مذهب الحنابلة: الفروع (1/ 64)، المحرر (1/ 7)، عمدة الفقه (1/ 4)، كشاف القناع (1/ 47)، شرح الزركشي (1/ 149، 150)، الإنصاف (1/ 71 - 74)، المغني (1/ 49، 50). واختلف النقل عن ابن تيمية في هذه المسألة، فقد نقل ابن قاسم في حاشيته (1/ 94) عن ابن تيمية بأن اجتنابهما جميعاً واجب؛ لأنه يتضمن لفعل المحرم وتحليل أحدهما تحكم، حتى =

دليل من قال يتيمم

هذا ملخص الأقوال في المسألة، وبعضها أقوى من بعض، وسوف نعرض أدلة أقوى الأقوال في المسألة. دليل من قال يتيمم. قالوا: إذا اجتمع مبيح وحاضر، على وجه لا يتميز أحدهما عن الآخر، وجب اجتنابهما جميعاً؛ لأن اجتناب النجس واجب، ولا يمكن اجتنابه إلا بتركهما جميعاً. (83) ويشهد لهذا ما رواه مسلم، قال: حدثني الوليد بن شجاع، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره، وقد قتل، فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله. الحديث، والحديث رواه البخاري (¬1). هذا الدليل الأثري، وأما الدليل النظري، فإن هذا الرجل إن توضأ بأحدها لم يؤد الصلاة بيقين، لاحتمال أن يكون الماء نجساً، وإذا توضأ بكل واحد منها وصلى لزمته صلاتان للظهر مثلاً، وهو خلاف الأصول، فوجب العدول إلى التيمم. ¬

= نقل رحمه الله الإجماع على ذلك حيث قال: لا أعلم أحدا جوزه. اهـ ونقل ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان (1/ 77) عنه أنه يتوضأ بأيهما شاء، بناء على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير. ولا شك أن نقل تلميذه مع كونه موافقا للقواعد، هو أقرب عهداً به من غيره، وأعلم من غيره بمذهبه، خاصة إذا كان التلميذ مثل ابن القيم، وانظر الفتاوى الكبرى (1/ 239، 240). (¬1) مسلم (1929)، صحيح البخاري (175).

دليل من قال يتحرى

دليل من قال يتحرى. الدليل الأول: (84) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال عبد الله: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص، فلما سلم، قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء، قال: وما ذاك؟ فأخبر، وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين (¬1). وجه الاستدلال: إذا كان المسلم يتحرى في الصلاة إذا شك فيها، مع أنها المقصود الأعظم من الطهارة، فكونه يتحرى في شرطها من باب أولى. الدليل الثاني: القياس على مشروعية التحري في إصابة القبلة، فكما أنه يجوز التحري إجماعاً إذا اشتبهت القبلة، فكذلك هنا. الدليل الثالث: ولأنه تعذر اليقين هنا، وكلما تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن. وأما من قيد التحري بأن تكون الغلبة للأواني الطاهرة، فإنه نظر إلى أن الحكم للأغلب، فإن كان الأغلب الطهور، كانت إصابته في التحري راجحة، وإن كان الأغلب للنجس، كانت إصابته في تحريه أبعد، لهذا اشترط أن يكون ¬

(¬1) صحيح البخاري (401)، ومسلم (572).

دليل من قال يهرق أحدهما ثم يتوضأ بالآخر

عدد الماء الطهور أغلب، وأما من اشترط في الترجيح أن تكون هناك علامة وأمارة، فهذا ظاهر، لأن الترجيح لابد أن يكون له مستند، فإذا لم يكن هناك علامة أوجبت الترجيح لم يكن ترجيحاً، وإنما كان تخييراً، والله أعلم. دليل من قال يهرق أحدهما ثم يتوضأ بالآخر. وجهه: إذا أهرق أحدهما، أصبح الماء الباقي مشكوكاً فيه، والشك في طهارة الماء لا تمنع من التطهر به، لأن الأصل في الماء الطهارة، حتى يتيقن النجاسة. دليل من قال يتوضأ بأحدهما ويصلي ثم يتوضأ بالأخر ويصلي. وجهه: أنه لا بد أن يؤدي الصلاة بيقين، ولا يوجد يقين إلا بهذا الطريق، أن يتوضأ ويصلي بكل واحد منهما .. وهذا القول يلزم منه أن يصلي الإنسان الفرض الواحد مرتين، ثم لا يدري هذا أيهما فرضه، هل الصلاة الأولى، أم الصلاة الثانية، وليس له مثيل في الشرع في إيجاب عبادة واحدة مرتين، لا يدري أيهما فرضه. دليل من قال: يتوضأ بأيهما شاء. بنى هذا القول على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وبالتالي لا يمكن أن تتصور هذه المسألة، لأن التغير أمر محسوس، فإذا لم يظهر التغير على الماء حكم بطهوريته، وهذا هو الراجح، فإذا غلبت عليه النجاسة طعماً أو لوناً أو ريحاً أصبح نجساً. وسوف نسوق أدلة هذا القول إن شاء الله تعالى في بحث الماء النجس إذا وقعت فيه نجاسة، وهو قليل، فلم تغيره. فالراجح من أقوال أهل العلم أن الماء لا يمكن أن يشتبه الطهور بالماء

النجس، لأننا لا نحكم على الماء بأنه نجس حتى يتغير، فإذا تغير أصبح محسوساً، يمكن معرفته، اللهم إلا أن يكون الماء الذي في الإناء قد ولغ فيه كلب، فإنه يحكم بنجاسته، ولو لم يتغير، فممكن في هذه الصورة النادرة أن تقع، وأما في غيرها فلا يتصور وقوعها، ولا يقال: قد يفقد الإنسان الشم أو النظر أو التذوق فلا يشعر بتغير الرائحة أو اللون أو الطعم؛ لأننا نقول: هذه الصورة ليست من قبل الماء، وإنما هي من قبل الإنسان نفسه، ونحن نتكلم عن اشتباه حقيقة الماء الطهور بالنجس، والله أعلم.

الفصل الثالث إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر

الفصل الثالث إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر اختلف العلماء في ما إذا اشتبه طهور بطاهر، فقيل: يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء ويصلي صلاة واحدة، وما شك في كونه من الطاهر أو هو من الطهور فهو من جملة الطاهر، وهذا مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهبي الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يتحرى، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: يتوضأ منهما وضوءاً واحداً، من هذا غرفة، ومن هذا غرفة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). والفرق بينه وبين المذهب المالكي أن المذهب المالكي جعله يتوضأ مرتين من هذا مرة ومن هذا مرة، ولكن الحنابلة جعلوا الوضوء وضوءاً واحداً لكن في كل عضو يجب غسله مرتين من الطهور مرة ومن الطاهر مرة. وقيل: يتخير بناء على أنه لا يوجد قسم الطاهر أصلاً، فالماء إما طهور، ¬

(¬1) الشرح الكبير (1/ 83)، منح الجليل (1/ 75)، مواهب الجليل (1/ 172)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 83)، الخرشي (1/ 118). (¬2) المجموع (1/ 426،427)، المهذب (1/ 9)، حلية العلماء (1/ 88). (¬3) الإنصاف (1/ 75، 76)، الفروع (1/ 95). (¬4) المجموع (1/ 426، 427)، المهذب (1/ 9)، حلية العلماء (1/ 88). (¬5) مطالب أولي النهى (1/ 54)، كشاف القناع (1/ 48)، الإنصاف (1/ 75، 76)، الفروع (1/ 95)،.

دليل من قال: يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء.

وإما نجس (¬1)، وهو الراجح. دليل من قال: يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء. عللوا ذلك بأنه لا يمكن أن يجزم الإنسان بأنه أصاب الماء الطهور بيقين إلا إذا توضأ بعدد الطاهر وزاد عليه وضوءاً. دليل من قال يتوضأ مرة واحدة من هذا غرفة ومن هذا غرفة. منع الحنابلة الوضوء كاملاً، من هذا مرة ومن هذا مرة قالوا: لأنه لو توضأ وضوء كاملا من هذا، ثم انتقل وتوضأ وضوءاً كاملاً من الماء الآخر يكون قد أدى وضوءه، وهو شاك لا يدري أيهما رفع الحدث، بخلاف ما لو توضأ من هذا غرفة ومن هذا غرفة، فإن الإنسان يجزم بأنه رفع الحدث بيقين، فعندما غسل يده تيقن أنه رفع الحدث عنها، وكذلك يقال في الوجه وفي القدمين وفي غيرهما. وتعليل آخر: قالوا: ولأننا بهذا لانوجب على العبد وضوءين مع إمكان رفع الحدث بوضوء واحد، فالأصل أنه لايجب عليه إلا وضوء واحد. وقد نقل الإجماع على وجوب الوضوء مرتين ابن قدامة، فقال: لا أعلم فيه خلافاً (¬2). وكذا قال صاحب الشرح الكبير (¬3). قلت: نقل الإجماع فيه نظر، لأن إثبات ماء طاهر لا يطهر، الدليل على خلافه. ¬

(¬1) انظر عزو هذا القول، عند بحث مسألة أقسام المياه، فقد ذكرنا قول من يرى أن الماء قسمان، لا ثالث لهما، طهور، ونجس، ولا يوجد قسم طاهر غير مطهر. (¬2) المغني (1/ 51). (¬3) الشرح الكبير (1/ 82).

دليل من قال: يتحرى

دليل من قال: يتحرى. أنظر أدلة من قال بالتحري في المسألة السابقة، فإن الباب واحد، والأدلة واحدة. دليل من قال: يتخير. أدلة هذا القول، هي نفس الأدلة الدالة على عدم وجود قسم ثالث، يسمى الماء الطاهر، طاهر في نفسه غير مطهر لغيره، فما دام أنه ماء، فهو إما طهور، وإما نجس، وقد سقتها في خلاف العلماء في أقسام المياه، وإذا ثبت أنه لا يوجد قسم الماء الطاهر، كان تصور هذه المسألة غير ممكن، والله أعلم.

الفصل الرابع إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة أو محرمة

الفصل الرابع إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة أو محرمة إذا اشتبهت ثياب طاهرة، بثياب متنجسة، أو محرمة كالحرير، فقد اختلف العلماء في ذلك: فقيل: يتحرى، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، واختاره الباجي من المالكية (¬3)، وهو رواية في مذهب أحمد (¬4)، واختاره ابن تيمية (¬5). ¬

(¬1) المبسوط (10/ 200)، العناية شرح الهداية (2/ 275)، البحر الرائق (2/ 267). والحنفية هنا قالوا: يتحرى مطلقاً، حتى ولو كانت الثياب النجسة أكثر من الثياب الطاهرة، أما في مسألة الماء إذا اشتبه طهور بنجس، اشترطوا للتحري أن تكون الغلبة للأواني الطاهرة. ويجيب السرخسي عن الفرق بين المسألتين، فيقول في المبسوط (10/ 201): والفرق بين مسألة الثياب وبين مسألة الأواني لنا: أن الضرورة لا تتحقق في الأواني؛ لأن التراب طهور له عند العجز عن الماء الطاهر، فلا يضطر إلى استعمال التحري للوضوء عند غلبة النجاسة، لما أمكنه إقامة الفرض بالبدل، وفي مسألة الثياب الضرورة مَسَّت؛ لأنه ليس للستر بدل يتوصل به إلى إقامة الفرض، حتى إنه في مسألة الأواني لما كان تتحقق الضرورة في الشرب عند العطش وعدم الماء الطاهر، يجوز له أن يتحرى للشرب؛ لأنه لما جاز له شرب الماء النجس عند الضرورى فلأن يجوز التحري وإصابة الطاهر مأمول بتحريه أولى. يوضحه أن في مسألة الأواني لو كانت كلها نجسة لا يؤمر بالتوضىء بها، ولو فعل لا تجوز صلاته، فإذا كانت الغلبة له فكذلك أيضاً. وفي مسألة الثياب وإن كان الكل نجسة يؤمر بالصلاة في بعضها، ويجزيه ذلك، فكذلك إذا كانت الغلبة للنجاسة .. (¬2) قال الشافعي في الأم (8/ 111): إن كان معه ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس ولا يعرفه فإنه يتحرى أحد الثوبين فيصلي فيه ويجزئه. اهـ وانظر المجموع (1/ 151)، مختصر المزني (2/ 18)، المجموع (1/ 234). (¬3) المنتقى (1/ 60). (¬4) الإنصاف (1/ 77)، الفروع (1/ 66). (¬5) إغاثة اللهفان (1/ 176)، بدائع الفوائد (3/ 776).

دليل من قال بالتحري.

وقيل: يصلي بعدد الثياب النجسة أو المحرمة، ويزيد صلاة، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: يصلي عرياناً، وهو قول أبي ثور (¬3). وقيل: إن كثر عدد الثياب تحرى دفعاً للمشقة، وإن قل عددها عمل باليقين، وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة (¬4). دليل من قال بالتحري. انظر أدلة القائلين بالتحري في مسألة ما إذا اشتبه الماء الطهور بالنجس. واستدل ابن تيمية على ذلك بقوله: لأن اجتناب النجاسة من باب الترك، ولهذا لا تشترط له النية، ولو صلى في ثوب لا يعلم نجاسته، ثم علمها بعد الصلاة لم يعد، فإن اجتهد فقد صلى في ثوب يغلب على ظنه طهارته، وهذا هو الواجب عليه لا غير. قال ابن القيم: وهذا كما لو اشترى ثوباً لا يعلم حاله جاز له أن يصلي فيه اعتماداً على غلبة ظنه، وإن كان نجساً في نفس الأمر، فكذلك إذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الثوبين وغلب على ظنه جاز أن يصلي فيه، وإن كان نجساً في نفس الأمر (¬5). دليل من قال يصلي بعدد النجس ويزيد صلاة. قالوا: إذا صلى بعدد النجس، وزاد صلاة فقد أدى فرضه بيقين، وصلى ¬

(¬1) الفروع (1/ 66)، الإنصاف (1/ 77)، عمدة الفقه (ص: 4)، المغني (1/ 51). (¬2) التفريع (1/ 241). (¬3) الأوسط (2/ 166)، إغاثة اللهفان (1/ 176). (¬4) إغاثة اللهفان (1/ 176). (¬5) بدائع الفوائد (3/ 776).

دليل من قال يصلي عريانا.

بثوب متيقن طهارته، وإذا أمكن الوصول إلى اليقين تعين، بخلاف من صلى بالتحري فإنه ليس متيقن الطهارة، بل غاية ما فيه غلبة ظن، والعمل بالظن مع إمكان اليقين لا يجوز. دليل من قال يصلي عرياناً. قال: إن الثوب النجس في الشرع كالمعدوم، والصلاة فيه حرام، وقد عجز عن ستر العورة بثوب طاهر، فسقط فرض السترة. قال ابن القيم: وقول أبي ثور في غاية الفساد، فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيراً وأحب إلى الله من صلاته متجرداً بادي السوأة للناظرين (¬1). الراجح من هذه الأقوال هو القول بالتحري، وذلك لقوة أدلته ووجهاتها، ولما في ذلك من رفع المشقة ودفع الحرج عن الأمة، ولأن هذا مقتضى قول الله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬2) فهذا المتحري قد اتقى الله ما استطاع، وعمل بما أداه إليه اجتهاده، ولم يفرط، وهذا هو وسعه الذي لا يكلفه الله غيره، والله أعلم. ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1/ 177). (¬2) التغابن: 16.

الفصل الخامس في الإخبار بنجاسة الماء

الفصل الخامس في الإخبار بنجاسة الماء

المبحث الأول إذا أخبره رجل أو امرأة بنجاسة الماء

المبحث الأول إذا أخبره رجل أو امرأة بنجاسة الماء إذا أخبر الرجل عن الماء، فإما أن يخبر عن طهارة الماء، أو يخبر عن نجاسته، فإن أخبر عن طهارة الماء، فقد قال النفراوي من المالكية: لو أخبرك شخص بطهارة ماء شككت في نجاسته لوجب عليك الرجوع إلى خبره، ولو كافراً أو صبياً؛ لأنه أقر بما يحمل عليه الماء، اللهم إلا أن يظهر في الماء ما يقتضي نجاسته أو يسلب طهوريته (¬1). والحقيقة أن العمل في هذه الحال ليس بسبب خبر الكافر، وإنما العمل بالأصل، وهو أن الأصل في الماء الطهارة، ومجرد الشك لا ينقل الماء عن الطهورية، ولذلك قال بقبول خبر الكافر، مع أن الكافر ليس ممن يقبل خبره، لانتفاء العدالة في حقه ظاهراً وباطناً. وأما إذا أخبر عن نجاسة الماء، فإما أن يبين سبب النجاسة أو لا. فإن بين سبب النجاسة، فقد حكي الإجماع على وجوب قبول خبره. فقد قال النووي: اتفق الفقهاء على أنه إذا أخبر الثقة بنجاسة ماء، أو ثوب، أو طعام، أو غيره، وبين سبب النجاسة، وكان ذلك السبب يقتضي النجاسة حكم بنجاسته؛ لأن خبر الواحد العدل في مثل هذه الأشياء مقبول، وليس هذا من باب الشهادة، وإنما هو من باب الخبر، وكذا لو أخبر عن دخول وقت الصلاة، وعن حرمة الطعام أو حله، ولا فرق في هذا بين الرجل ¬

(¬1) الفواكه الدواني (1/ 125).

والمرأة، ولا بين الأعمى والبصير بخلاف الكافر والفاسق فلا يقبل خبرهما في النجاسة والطهارة، وكذا المجنون والصبي الذي لا يميز فلا يقبل خبرهما في مثل هذه الأشياء بلا خلاف (¬1). وهل يجوز الاجتهاد في مثل هذه الحالة، وقد أخبره عدل، وبين سبب النجاسة؟ قال النووي: قال أصحابنا: إذا أخبره مقبول الخبر بالنجاسة، وجب قبوله، ولا يجوز الاجتهاد بلا خلاف، كما لا يجتهد المفتي إذا وجد النص، وكما لا يجتهد إذا أخبره ثقة عن علم بالقبلة ووقت الصلاة، وغير ذلك (¬2). وأما إذا لم يبين سبب النجاسة ففيه ثلاثة أقوال: قيل: يجب قبول خبره مطلقاً، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يجب مطلقاً، وهو قول الجمهور (¬4). وقيل: يجب إن اتفقا مذهباً، وكان عالماً بما ينجس الماء، فإن اختلفا مذهباً لم يجب، لكن الأحسن ترك الماء؛ لتعارض الأصل، وهو الطهورية، ¬

(¬1) المجموع (1/ 228)، وقال في المهذب (1/ 9): وإن ورد على ماء، فأخبره رجل بنجاسته لم يقبل حتى يبين بأي شيء نجس؛ لجواز أن يكون قد رأى سبعاً ولغ فيه، فاعتقد أنه نجس بذلك، فإن بين النجاسة قبل منه كما يقبل ممن يخبره بالقبلة، ويقبل في ذلك قول الرجل والمرأة والحر والعبد؛ لأن أخبارهم مقبولة، ويقبل خبر الأعمى فيه؛ لأن له طريقاً إلى العلم به بالحس والخبر، ولا يقبل فيه قول صبي ولا فاسق ولا كافر؛ لأن أخبارهم لا تقبل. اهـ (¬2) المجموع (1/ 229). (¬3) قال في الإنصاف (1/ 71): لو أخبره عدل بنجاسة الماء قبل قوله،, إن عين السبب على الصحيح من المذهب وإلا فلا. وقيل: يقبل مطلقاً. اهـ (¬4) سيأتي العزو إلى كتبهم من خلال نقول النصوص عنهم قريباً إن شاء الله تعالى.

وإخبار المخبر بتنجيسه، وهذا عند وجود غيره، وإلا تعين استعمال الماء، وهذا مذهب المالكية (¬1). قال النووي: إذا لم يبين- يعني: سبب النجاسة- لم يقبل، هكذا نص عليه الشافعي والأصحاب، قال الشيخ أبو حامد: نص عليه الشافعي رواه عنه المزني في الجامع الكبير (¬2). ثم قال النووي: وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه، والمحاملي وغيرهما: قال الشافعي: فإن كان يعلم من حال المخبر أنه يعلم أن سؤر السباع طاهر، وأن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس، قبل قوله عند الإطلاق- أي وإن لم يبين سبب النجاسة- هكذا نقل هؤلاء نص الشافعي، وكذا قطع بهذا التفصيل الذي نص عليه جماعات من أصحابنا المصنفين، منهم: الشيخ أبو محمد الجويني في الفروق، والبغوي والروياني وغيرهم، ونقله صاحب العدة عن أصحابنا العراقيين، ونقل صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد أنه نقله عن نص الشافعي، ولم أر لأحد من أصحابنا تصريحاً بمخالفته، فهو إذن متفق عليه (¬3). وقال ابن قدامة: إذا لم يعين سببها، فقال القاضي: لا يلزم قبول خبره؛ لاحتمال اعتقاده نجاسة الماء بسبب لا يعتقده المخبر، كالحنفي يرى نجاسة الماء الكثير، والشافعي يرى نجاسة الماء اليسير بما لا نفس له سائلة، والموسوس الذي يعتقد نجاسته بما لا ينجسه. ¬

(¬1) الفواكه الدواني (1/ 125)، منح الجليل (1/ 44)، حاشية الدسوقي (1/ 47)، التاج والإكليل (1/ 86). (¬2) المجموع (1/ 229). (¬3) المجموع (1/ 229).

ويحتمل أن يلزم قبول خبره، إذا انتفت هذه الاحتمالات في حقه (¬1). قلت: هذا الكلام إنما يتمشى على رأي من يرى نجاسة الماء، ولو لم يتغير، أما من يرى أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فلا يحتاج إلى هذا التفصيل؛ لأن الماء إذا لم يتغير فهو طهور، نعم لو أخبره بولوغ الكلب في إناء، قبل هذا التفصيل؛ لأنه والحالة هذه قد ينجس الماء ولو لم يتغير، لكنه خاص في هذه الصورة فقط. قال في حاشية الدسوقي: فإن كان الماء غير متغير، وأخبر بالنجاسة، فلا يقبل خبره؛ لأن الأصل الطهارة (¬2). ¬

(¬1) المغني (1/ 52). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 47).

المبحث الثاني إذا أخبره صبي عن طهارة أو نجاسة الماء

المبحث الثاني إذا أخبره صبي عن طهارة أو نجاسة الماء إذا أخره صبي مميز عن نجاسة الماء، وبين سبب النجاسة، فهل يجب عليه قبول خبره أم لا؟ ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب قبول خبره؛ لأن قبول الخبر مبني على ثبوت العدالة، وهو لا يمكن أن يوصف بالعدالة لصغره؛ لأن العدالة يشترط فيها أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً، فما دام أنه ليس من أهل الرواية ولا الشهادة لم يلزم قبول خبره (¬1). وقيل: بل يجب قبول خبره، اختاره بعض الحنفية (¬2)، وهووجه عند الشافعية (¬3)، وهو الصحيح. لأن الصبي إذا كانت تصح إمامته في الصلاة، ويؤتمن على شروطها وواجباتها، فكيف لا يقبل خبره عن نجاسة الماء. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة تقديم الصبي للإمامة، ¬

(¬1) الفتاوى الهندية (5/ 309)، حاشية ابن عابدي (6/ 346)، المبسوط (10/ 164)، وقال النووي في المجموع (1/ 228): " وفي الصبي المميز وجهان: الصحيح لا يقبل، وبه قطع الجمهور. اهـ وقال في المغني (1/ 51): إن ورد ماء فأخبره بنجاسته صبي أو كافر أو فاسق لم يلزمه قبول خبره؛ لأنه ليس من أهل الشهادة ولا الرواية، فلا يلزمه قبول خبره، كالطفل والمجنون. اهـ (¬2) المبسوط (10/ 164). (¬3) المجموع (1/ 228).

(85) فقد روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة قال: قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فتسأله. قال فلقيته فسألته فقال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم، ما للناس ما للناس ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه، أو أوحى الله بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم، فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حقاً، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا بن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة، كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت: امرأة من الحي ألا تغطون عنا است قارئكم، فاشتروا فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص (¬1). كما أن الصحيح أن الصبي من أهل الرواية تحملاً وأداءً إذا علم منه الصلاح، ولم يجرب عليه الكذب (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (4302). (¬2) المجموع (4/ 216)، شرح النووي على مسلم (15/ 189)، طبقات الحنابلة (1/ 183).

المبحث الثالث إذا أخبره فاسق عن نجاسة الماء

المبحث الثالث إذا أخبره فاسق عن نجاسة الماء اختلف العلماء في خبر الفاسق إذا أخبره عن نجاسة الماء، فقيل: إذا غلب على ظنه صدقه تيمم، ولم يتوضأ به، وإن أراقه ثم تيمم كان أحوط، وإن غلب على ظنه كذبه توضأ به، وإن تيمم بعد الوضوء كان أحوط، ولا يجب، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يقبل قول الفاسق، وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال: إن غلب على ظنه صدقه قبله. الدليل قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (¬5)، فالله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق، بل بالتثبت والتبين، فإن ظهرت دلالة على صدقه قبل خبره، وإن ظهرت دلالة على كذبه رد خبره، وإن لم يتبين واحد من الأمرين وقف خبره. دليل من قال: لا يقبل خبر الفاسق. قالوا: لأن من شروط قبول الخبر العدالة، فلا يقبل خبر الفاسق؛ لأنه ¬

(¬1) الفتاوى الهندية (5/ 309)، المبسوط (10/ 163). (¬2) مواهب الجليل (1/ 86)، منح الجليل (1/ 43، 44). (¬3) المجموع (1/ 229). (¬4) الكافي في فقه أحمد (1/ 12)، المغني (1/ 51). (¬5) الحجرات: 6.

ليس من أهل الرواية ولا من أهل الشهادة، والعدالة المشروطة هنا هي العدالة الظاهرة، إلا أن الشافعية صرحوا بأنه: لو أخبر جماعة من الفساق لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن نجاسة الماء أو طهارته قبل خبرهم، وكذا لو أخبر الفاسق عن فعل نفسه في الماء.

المبحث الرابع في السؤال عن الماء

المبحث الرابع في السؤال عن الماء إذا شك الإنسان في طهورية الماء، فهل يجب عليه أن يسأل عن حال الماء أو هل يستحب له ذلك؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا يجب على الإنسان أن يسأل هل الماء طهور أم نجس، وهذا هو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يكره السؤال، نقله صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه. وقيل: يجب عليه السؤال. وقيل: الأولى السؤال. وهما قولان في مذهب الحنابلة (¬2). ولو سأل هل يلزم الجواب على أقوال: فقيل: لا يلزمه الجواب. وقيل: يلزمه، كالسؤال عن القبلة. وهذان قولان في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يلزمه إن علم نجاسته، اختاره الأزجي من الحنابلة وصوبه في ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 82)، بريقة محمودية (1/ 312)، المدونة (1/ 6)، شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/ 83)، المجموع (1/ 226)، شرح منتهى الإرادات (1/ 26،27)، كشاف القناع (1/ 47). (¬2) الفروع (1/ 92). (¬3) الفروع (1/ 92، 93)، شرح منتهى الإرادات (1/ 26، 27)، كشاف القناع (1/ 47).

الإنصاف (¬1). دليل من قال لا يسأل. الدليل الأول: عدم الدليل المقتضي للوجوب، فلو كان السؤال واجباً لجاء الأمر به. الدليل الثاني: العمل بالأصل، فالأصل في الماء الطهارة، وتغير الماء إن كان موجوداً قد يكون تغيره بطاهر، أو تغيره بمكثه أو بما لا يمازج الماء. الدليل الثالث: (86) ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص: لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا (¬2). [رجاله ثقات إلا أن إسناده منقطع] (¬3). ¬

(¬1) مطالب أولي النهى (1/ 52)، شرح منتهى الإرادات (1/ 26، 27). (¬2) الموطأ (1/ 23)، والحديث رواه من طريق مالك عبد الرزاق في المصنف (250)،. (¬3) قال النووي في المجموع (1/ 226): هذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن، لكنه مرسل منقطع؛ فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب، قال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل، وكذا قاله غير ابن معين. الخ كلامه رحمه الله.

هذا القول هو الراجح إلا أنه إن كان الماء نجساً وجب على من يعلم أن يخبره نصحاً له، وحتى لا يصلي وهو غير طاهر. دليل من قال: يلزمه السؤال. قالوا: إن هذا السؤال يتعلق بشرط الصلاة، وهو طهورية الماء، فيلزمه السؤال كما يلزمه السؤال عن القبلة. دليل من قال يلزمه الجواب إن علم نجاسة الماء. قالوا: إن إخباره عن نجاسة الماء من النصيحة له، ومن الأمر بالمعروف الواجب عليه. (87) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا سفيان قال: قلت لسهيل: إن عمراً حدثنا عن القعقاع، عن أبيك، قال: ورجوت أن يسقط عني رجلاً قال: فقال سمعته من الذي سمعه منه أبي، كان صديقا له بالشام، ثم حدثنا سفيان، عن سهيل، عن عطاء بن يزيد، عن تميم الداري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (¬1). ¬

وقال ابن أبي حاتم وابن حبان مثل قول ابن معين بأنه ولد في خلافة عثمان. الجرح والتعديل (9/ 165)، الثقات (5/ 523)، وانظر جامع التحصيل (ص: 298). (¬1) صحيح مسلم (55).

الباب الثامن في الماء النجس

الباب الثامن في الماء النجس ويشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول: في الماء القليل إذا لاقته نجاسة ولم يتغير الفصل الثاني: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة الفصل الثالث: في المائع غير المائي تخالطه النجاسة. الفصل الرابع: في الماء المسخن.

الفصل الأول في الماء الراكد إذا لاقته نجاسة فلم تغيره

الفصل الأول في الماء الراكد إذا لاقته نجاسة فلم تغيره اختلف العلماء في الماء إذا لا قته نجاسة فلم تغيره، فقيل: إذا كان الماء قليلاً فإنه ينجس، ولو لم يتغير، وإذا كان كثيراً فإنه لاينجس إلا بالتغير، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3)، على خلاف بينهم في حد القليل والكثير (¬4). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 70)، تبيين الحقائق (1/ 21). (¬2) حاشية البجيرمي (1/ 27)، الأم (1/ 18)، أسنى المطالب (1/ 14)، المجموع (1/ 162)، المهذب (1/ 6). (¬3) الكافي (1/ 8) كشاف القناع (1/ 38)، المغني (1/ 31). (¬4) اختلف الحنفية والشافعية في مقدار الماء القليل والماء الكثير، مع اتفاقهم أن الماء القليل ينجس ولو لم يتغير بخلاف الماء الكثير: فمذهب الحنفية في حد الماء القليل هو أن ينظر، فإن كانت النجاسة تخلص إلى الطرف الأخر لم يتوضأ منه، وإن كانت لا تخلص إلى طرفه الآخر توضأ من الطرف الآخر، وكيف نعرف أن النجاسة تخلص إلى الجانب الآخر، على أقوال عندهم، منها: الأول: أن الرد إلى رأي المبتلى به، فإن غلب على ظنه وصول النجاسة إلى الجانب الآخر لم يتوضأ به، وإلا توضأ به، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقد رجحه ابن نجيم في البحر الرائق (1/ 78،79)، قال: وممن نص على أنه ظاهر المذهب شمس الأئمة السرخسي في المبسوط. وجاء في البناية في التحديد قال:" إن غلب على الظن وصول النجاسة إلى الجانب الآخر فهو نجس، وإن غلب عدم وصولها فهو طاهر "، وقال عنه:" هذا هو الأصح وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة ". القول الثاني: قالوا: يعتبر الخلوص بالحركة، فإن كان إذا حرك أحد طرفيه، تحرك الطرف الآخر، تنجس ولو لم يتغير، وإن كان لا يتحرك الطرف الآخر فلا ينجس إلا بالتغير، =

وقيل: إن الماء لا ينجس إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة، وهذا مذهب مالك في رواية المدنيين عنه (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2)، وإليه ذهب ابن المسيب، والحسن البصري (¬3)، وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد القطان، ¬

= واختلفوا في نوع الحركة: فقيل: المعتبر حركة المغتسل، وهذا اختيار أبي يوسف، ومحمد في رواية؛ لأن الغالب في الحياض الاغتسال منها، وأما الوضوء فإنما يكون في البيوت. وقيل: بحركة المتوضئ، وهو مروي عن أبي حنيفة. وقيل: المعتبر حركة اليد من غير وضوء ولا اغتسال. القول الثالث: قدره بالمساحة، على اختلاف بينهم اختلافاً كثيراً، أشهرها عشرة أذرع في عشرة أذرع. القول الرابع: قالوا: يوضع في الماء صبغ، فحيثما وصل الصبغ اعتبر وصول النجاسة. ومنهم من اعتبر التكدر. وأما مذهب الشافعية في حد القليل من الكثير، فجعوا التقدير بالقلتين، فإذا بلغ الماء قلتين فهو كثير، لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان دون القلتين نجس ولو لم يتغير، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وأما المالكية فيقدرون القليل بآنية الوضوء ونحوها. انظر في مذهب الحنفية بدائع الصنائع (1/ 71)، شرح فتح القدير (1/ 79)، البناية (1/ 330 - 334)، المبسوط (1/ 87)، المبسوط للشيباني (1/ 50)، البحر الرائق (1/ 78). وانظر في مذهب الشافعية الأم (1/ 18)، أسنى المطالب (1/ 14)، المهذب (1/ 6). (¬1) المدونة (1/ 132)، ورجحه ابن عبد البر في التمهيد (1/ 327)، والاستذكار (2/ 103)، الخرشي (1/ 76،81)، وقال ابن رشد في بداية المجتهد (1/ 249): " ويتحصل عن مالك في الماء اليسير تقع فيه النجاسة ثلاثة أقوال، قول: إن النجاسة تفسده، وقول: إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه، وقول: إنه مكروه ". (¬2) المغني (1/ 31)، المحرر (1/ 2). (¬3) الأوسط (1/ 266)، المجموع (1/ 163).

دليل الحنفية على اعتبار الخلوص.

وعبد الرحمن بن مهدي (¬1)، واختاره ابن المنذر (¬2)، وابن تيمية (¬3)، وغيرهم. وقيل: إن كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة فإنه ينجس ولو كان كثيراً إلا أن يشق نزحه. وإن كانت النجاسة غيرها فإنه ينجس إذا كان دون القلتين، فإن كان قلتين فأكثر لم ينجس إلا بالتغير، وهذا قول في مذهب الحنابلة (¬4). دليل الحنفية على اعتبار الخلوص. قالوا: إن الله سبحانه وتعالى حرم علينا الخبائث، ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء، فإذا غلب على ظننا أن النجاسة تخلص إلى الطرف الآخر، فإن من استعمل الماء يكون قد استعمل النجاسة، واستعمال النجاسة لا يجوز، والأخذ بغلبة الظن طريق شرعي، فإن كثيراً من الأحكام الشرعية مبنية على الظن، وليس على اليقين. وأما الدليل على تقدير الخلوص بالحركة أو بالمساحة أو بغيرهما فلا دليل خاص عليها، وإنما رأى بعض الحنفية أن غلبة الظن قد لا تنضبط، ¬

(¬1) انظر المرجعين السابقين. (¬2) الأوسط (1/ 267 - 272). (¬3) مجموع فتاوى (21/ 30). (¬4) التفريق بين بول الآدمي وعذرته، وبين سائر النجاسات، فالأول إذا وقع في الماء فإنه ينجس الماء الكثير ولو لم يتغير إلا أن يشق نزحه، والثاني: إذا وقع في الماء تنجس ما كان دون القلتين فقط، هذا مذهب المتقدمين من الحنابلة، أما مذهب المتأخرين فلا فرق عندهم بين البول والعذرة، وبين سائر النجاسات، فإذا وقعت في ماء قليل دون القلتين نجس، ولو لم يتغير، وإذا وقعت في ماء كثير لم ينجس الماء إلا بالتغير. انظر الإنصاف (1/ 60)، الفروع (1/ 85)، كشاف القناع (1/ 38)، المبدع (1/ 57)، الكافي (1/ 8)، المحرر (1/ 2)، المغني (1/ 31).

الدليل على إن الماء القليل ينجس ولو لم يتغير

فاجتهدوا في تحديد مقدار الماء الذي تخلص النجاسة إلى طرفه الآخر، لكن الأصل هو غلبة الظن. وأما الدليل على إن الماء القليل ينجس ولو لم يتغير. هناك مجموعة أدلة منها: الدليل الأول: (88) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1). [إسناده صحيح إن شاء الله] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 133) رقم 1526. (¬2) الحديث قد ضعف بأمور منها: أولاً: الاضطراب فى السند. ثانياً: الاضطراب فى المتن. ثالثاً: الشذوذ. رابعاً: كونه موقوفاً. خامساً: الجهل بمقدار القلة. أما الجواب عن اضطراب السند: فالحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 133) وأبو داود (63)، والنسائي في الكبرى (50)، وفي الصغرى (52)، وابن الجارود في المنتقى (45)، وعبد بن حميد في المسند كما في المنتخب (817)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 15)، والدارقطني (1/ 14، 15)، =

. . . . . . . . . . . ¬

_ وابن حبان (1249) , والحاكم في المستدرك (1/ 132)، والبيهقي في السنن (1/ 260، 261) وفي المعرفة (2/ 85)، وفي الخلافيات (3/ 146)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 34)، من طرق كثيرة، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله - المكبر - ابن عبد الله بن عمر عن أبيه. وإسناده صحيح. وأخرجه النسائي (328)، والدارمي (732)، وابن خزيمة (1/ 49)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 15) وفي مشكل الآثار (3/ 266)، وابن حبان في الصحيح من طريق أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله -المصغر- ابن عبد الله بن عمر عن أبيه. وهذا إسناد صحيح أيضاً. وتابع عباد بن صهيب أبا أسامة، فرواه الدارقطني (1/ 18 - 19) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (3/ 165 - 166) فرواه عن الوليد بن كثير به، بذكر عبيد الله -المصغر- إلا أن عباد بن صهيب مجروح، جاء في ترجمته: قال على بن المديني: عباد بن صهيب ذهب حديثه. الجرح والتعديل (6/ 81). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: تركنا حديث عباد بن صهيب قبل أن يموت بعشرين سنة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، منكر الحديث، ترك حديثه. المرجع السابق. وبناءً على ما سبق يتضح لنا من الإسنادين، أنه قد اختلف على محمد بن جعفر بن الزبير فيه: فتارة يرويه أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله - المكبر ـ عن أبيه. وتارة يرويه أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله ـ المصغر ـ عن أبيه وقد توبع الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر عن عبيد الله ـ المصغر ـ عن أبيه. تابعه محمد بن أسحاق قال حدثنى محمد بن جعفر به. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 133)، وأحمد (2/ 12،27)، أبو داود (64)، والترمذى (67)، وابن ماجه (517)، والدارمي (731)، وأبو يعلى في المسند (5590)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 15،16)، والدار قطنى (1/ 19،21) والحاكم في المستدرك =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (1/ 133، 134)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 26، 261)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 33)، وقد صرح محمد بن إسحاق بالتحديث عند جماعة من المذكورين فانتفت شبهة التدليس. وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن إسحاق، فإنه صدوق يدلس. وأخرج الحديث أبوداود (63)، وابن الجارود فى المنتقى (44)، وابن حبان (1253)، والدارقطنى (1/ 15،16،17)، والحاكم (1/ 133)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 260)، من طريق أبي أسامة، عن الوليد، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله ـ المكبر ـ بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. وبناء عليه فيكون الحديث قد اختلف فيه على الوليد بن كثير، فصار تارة يرويه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وتارة يرويه عن محمد بن عباد بن جعفر، ومحمد بن عباد لا يرويه إلا عن عبد الله المكبر، عن أبيه، بينما محمد بن جعفر بن الزبير تارة يرويه عن عبد الله وتارة يرويه عن عبيد الله. ووقف العلماء من هذا ثلاثة مواقف: الموقف الأول: بعضهم حكم عليه بالاضطراب فى سنده، وبالتالى ضعف الحديث منهم الإمام عبد الله بن المبارك كما في الأوسط (1/ 271). وابن عبد البر كما في التمهيد (1/ 335)، والاستذكار (1/ 204). وابن العربي كما في القبس (1/ 130)، والعارضة (1/ 84)، وأحكام القرآن (3/). وابن القيم كما في تهذيب السنن (1/ 62). الموقف الثانى: الترجيح بين هذه الطرق وممن سلك مسلك الترجيح أبوداود في سننه وأبو حاتم وابن منده. فرجح أبو داود طريق محمد بن عباد فقال رحمه الله (63): حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي وغيرهم قالوا: حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه وساق الحديث. قال أبو داود: هذا لفظ ابن العلاء، وقال عثمان والحسن بن علي عن محمد بن عباد بن جعفر، وهو الصواب. اهـ ورجح أبو حاتم وابن منده رواية محمد بن جعفر بن الزبير. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = جاء في العلل (1 رقم 96) قال ابن أبي حاتم: " قال أبي: محمد بن عباد بن جعفر ثقة، ومحمد بن جعفر بن الزبير ثقة، ولمحمد بن جعفر بن الزبير أشبه ". وقال ابن مندة فيما نقله عنه الزيلعي في نصب الراية (1/ 106) "واختلف على أبي أسامة، فروي عنه، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عباد بن جعفر. وقال مرة: عن محمد بن جعفر بن الزبير وهو الصواب، لأن عيسى بن يونس رواه عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل فذكره". اهـ. الموقف الثالث: من رجح الجمع بين هذه الطرق، وهو الصواب، فقد أخرج الدارقطني (1/ 18)، والحاكم (1/ 133)، والبيهقي (1/ 260،261) من طريق علي بن عبد الله بن مبشر الواسطي. وأخرجه الدارقطني (1/ 18) ومن طريقه البيقهي في السنن (1/ 260) والخلافيات (3/ 157) من طريق ابن سعدان، كلاهما عن شعيب بن أيوب، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر ومحمد بن عباد، عن عبد الله -المكبر- ابن عبد الله بن عمر عن أبيه. قال الدارقطني (1/ 17):" فلما اختلف علي أبي أسامة في إسناده أحببنا أن نعلم من أتى بالصواب، فنظرنا في ذلك فوجدنا شعيب بن أيوب قد رواه عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير على الوجهين جميعاً، عن محمد بن جعفر بن الزبير، ثم اتبعه عن محمد بن عباد بن جعفر، فصح القولان جميعاً عن أبي أسامة، وصح أن الوليد بن كثير رواه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وعن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. فكان أبو أسامة مرة يحدث به عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، ومرة يحدث به عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عباد بن جعفر. والله أعلم. اهـ وقال الحاكم (1/ 133) " قد صح وثبت بهذه الرواية صحة الحديث، وظهر أن أبا أسامة ساق الحديث عن الوليد بن كثير عنهما جميعاً، فإن شعيب بن أيوب ثقة مأمون، وكذلك الطريق إليه، وقد تابع الوليد بن كثير على روايته عن محمد بن جعفر بن الزبير تابعه محمد بن إسحاق بن يسار القرشي. اهـ وصححه العلائي في جزئه (ص: 35)، وقال: نعلم بهذا أن الراوي الواحد إذا كان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ضابطاً متقناً، وروى الحديث على الوجهين المختلفين أن كلا منهما صحيح. اهـ كما صححه على الوجهين عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى (1/ 154 - 155). وقال الحافظ فى تلخيص الحبير (1/ 17) " والجواب أن هذا ليس اضطراباَ قادحاً فيه، فإنه على تقدير أن يكون الجميع محفوظاً. انتقال من ثقة إلى ثقة، وعند التحقيق فالصواب أنه: عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عبد الله ابن عمر ـ المكبر. وعن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المصغر ومن رواه على غير هذا الوجه فقد وهم. قلت: لم أدر لما لم يعتمد الحافظ رواية محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله المكبر، واعتبرها وهماً؟ فقد أخرج الحديث كما سبق: ابن أبي شيبة (1/ 133)، وأبو داود (63) وابن الجارود فى المنتقى (45)، والدارقطنى (1/ 14،15)، وابن حبان (1249)، والبيهقى (1/ 260/261) من طرق عن أبي أسامة عن الوليد بن كثير، عن محمد ابن جعفر، عن عبد الله ـ المكبر ـ عن أبيه. ولهذا قال أحمد شاكر فى تحقيقه لسنن الترمذي (1/ 99) متعقباً كلام الحافظ: "وما قاله الحافظ من التحقيق غير جيد، والذى يظهر من تتبع الروايات أن الوليد بن كثير رواه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وعن محمد بن عباد بن جعفر، وأنهما كلاهما روياه عن عبد الله وعبيد الله ابني عبد الله عن عمر عن أبيهما ". وهذا الكلام من العلامه أحمد شاكر جيد إلا أن محمد بن جعفر بن الزبير هو الذى روى الحديث عن ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما، وأما محمد بن عباد فلم يروه إلا عن عبد الله المكبر فقط. والله أعلم. وبهذا يندفع الاضطراب فى السند. الجواب عن اضطراب المتن: أعله قوم باضطراب المتن انظر تهذيب السنن (1/ 62)، فقال بعضهم: روي إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثاً على الشك، وروي إذا بلغ الماء قلتين بلا شك، وروى إذا بلغ الماء أربعين قلة. والجواب على ذلك أن يقال: إن رواية الشك مدارها على حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الماء قلتين أو ثلاثاً لم ينجسه شىء ". وقد اختلف علىحماد فيه، فرواه عنه جماعة بالشك منهم: 1 - وكيع عند ابن ماجه (518) وأحمد (2/ 23). 2 - عفان بن مسلم عند الامام أحمد (2/ 107)، وروي عنه بدون شك كما سيأتي. 3 - زيد بن الحباب عند أبى عبيد بن القاسم بن سلام فى كتاب الطهور (ص:226). 4 - يزيد بن هارون عند الدارقطنى (1/ 22). 5 - إبراهيم بن الحجاج عند الدارقطنى (1/ 22) والبيهقى (1/ 262) 6 - هدبة بن خالد عند الدارقطنى (1/ 22) والبيهقى (1/ 262). 7 - كامل بن طلحة عند الداررقطنى (1/ 22). 8 - أبو الوليد الطيالسي، كما في المنتخب من مسند عبد بن حميد (818). وخالفهم جماعة من أصحاب حماد فرووه عنه بدون شك منهم: 1 - موسى بن إسماعيل عند أبي داود (65)، والدار قطنى (1/ 23)، والبيهقي (1/ 262). 2 - عفان بن مسلم عند ابن الجارود فى المنتقى (46)، والدارقطني (1/ 23)، وروي عنه بالشك كما سبق. 3 - يعقوب بن إسحاق الحضرمي عند الدار قطنى (1/ 23). 4 - العلاء بن عبد الجبار المكي، عند الدارقطني (1/ 23). 5 - عبيد الله بن محمد العيشي عند الدارقطنى (1/ 23)، والبيهقي (1/ 261). 6 - الطيالسي كما في مسنده (1954). 7 - يزيد بن هارون عند الدارقطني في السنن (1/ 22). 8 - يحيى بن حسان عند الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 16). وهذا الشك والاختلاف لعله من قبل حماد بن سلمة. قال عنه الحافظ (1499): ثقه عابد أثبت الناس فى ثابت، وتغير حفظه بآخرة. والرواية التى بدون شك أرجح لموافقتها رواية الجماعة. قال البيهقى رحمه الله (1/ 162):" ورواية الجماعة الذين لم يشكوا أولى". وأما رواية أربعين قلة، فجاءت من حديث جابر مرفوعاً، أخرجها ابن عدي في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الكامل (6/ 34) ومن طريقه الدارقطني (1/ 26)، والبيهقي (1/ 262)، من طريق القاسم بن عبد الله العمري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا بلغ الماء أربعين قلة لايحمل الخبث ". والقاسم بن عبد الله العمري، قال فيه أحمد: ليس بشىء كان يكذب ويضع الحديث. وقال يحيى: ليس بشىء. وقال مرة: كذاب. وقال أبو حاتم والنسائي: متروك. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال البخاري: سكتوا عنه. وقال أبو زرعة: لا يساوي شيئاً، متروك الحديث، منكر الحديث. وقال ابن المديني: ليس بشىء. وقال الدارقطني (1/ 26، 27): " كذا رواه القاسم العمري، عن ابن المنكدر، عن جابر، ووهم في إسناده، وكان ضعيفاً كثير الخطأ، وخالفه دوح بن القاسم، وسفيان الثوري، ومعمر بن راشد، رووه عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله بن عمرو موقوفاً. ورواه أيوب السختياني، عن ابن المنكدر من قوله، لم يجاوزه. وجاء عن أبي هريرة موقوفاً عليه عند الدارقطني (1/ 27)، وأبي عبيد القاسم بن سلام في كتاب الطهور (ص231)، من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سليمان بن سنان، عن عبد الرحمن بن أبي هريرة، عن أبيه: إذا بلغ الماء أربعين قلة لم يحمل خبثاً. وهذا مع كونه موقوفاً على أبي هريرة، ففي إسناده ابن لهيعة وقد خالفه غير واحد. قال الدارقطني: وخالفه غير واحد، رووه عن أبي هريرة فقالوا: أربعين غرباً، ومنهم من قال: أربعين دلواً. وعلى هذا فلا يمكن أن يقال باضطراب متنه؛ لأنه روي أربعين قلة حيث تبين أن المرفوع في إسناده القاسم العمري متهم بالكذب، وأما الموقوف على الصحابة، فإنه مع ضعفه، لا يعارض المرفوع من حديث ابن عمر وقد جاء بسند رجاله رجال الصحيح، وهذا ما يمكن أن يقال جواباً على من ادعى اضطراب المتن والله أعلم. وأما الجواب عن قولهم: بأنه شاذ. قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 62): " لا يلزم من مجرد صحة السند صحة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحديث، ما لم ينتف عنه الشذوذ والعلة، ولم ينتفيا عن هذا الحديث. أما الشذوذ: فإن هذا الحديث فاصل بين الحلال والحرام، والطاهر والنجس، وهو في المياه كالأوسق في الزكاة والنصب في الزكاة، فكيف لا يكون مشهوراً شائعاً بين الصحابة، ينقله خلف عن سلف؟ لشدة حاجة الأمة إليه؛ فإن حاجتهم إليه أعظم من حاجتهم إلى نصب الزكاة؛ لأن أكثر الناس لا تجب عليهم الزكاة، والوضوء بالماء الطاهر فرض على كل مسلم، فيكون الواجب نقل هذا الحديث كنقل نجاسة البول، ووجوب غسله، ونقل عدد الركعات ونظائر ذلك. ومن المعلوم أن هذا لم يروه غير ابن عمر، ولا عن ابن عمر غير عبيد الله وعبد الله، فأين نافع، وسالم، وأيوب، وسعيد بن جبير؟ وأين أهل المدينة وعلماؤهم عن هذه السنة التي مخرجها من عندهم، وهم إليها أحوج الخلق؛ لعزة الماء عندهم؟ ومن البعيد جداً أن تكون هذه السنة عند ابن عمر، وتخفى على علماء أصحابه وأهل بلدته، ولا يذهب إليها أحد منهم، ولا يروونها ويديرونها بينهم. ومن أنصف لم يخف عليه امتناع هذا، فلو كانت هذه السنة العظيمة المقدار عند ابن عمر، لكان أصحابه، وأهل المدينة أقول الناس بها، وأرواهم لها، فأي شذوذ أبلغ من هذا، وحيث لم يقل بهذا التحديد أحد من أصحاب ابن عمر علم أنه لم يكن فيه سنة من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا وجه شذوذه. اهـ والجواب عن ذلك: أولاً: فهم ابن القيم رحمه الله أنه يلزم من تصحيح الحديث، القول بنجاسة الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة، ولو لم تغيره، عملاً بمفهوم هذا الحديث، فأطنب رحمه الله في بيان أن هذا لو كان صحيحاً لكانت الأمة في حاجته أكثر من حاجتها لبيان أنصباء الزكاة ... الخ كلامه المتقدم. ولا يلزم من تصحيح الحديث القول بمفهومه على ما سيأتي بيانه، ومنطوق حديث القلتين موافق لمنطوق حديث أبي سعيد الخدري: " الماء طهور لا ينجسه شىء". ثانياً: أن قوله رحمه الله: إن هذا الحديث لم يروه إلا ابن عمر، ولا عن ابن عمر غير عبيد الله وعبد الله، فأين نافع وسالم وأيوب وسعيد ابن جبير؟ فالجواب عليه أن يقال: إن حديث: " إنما الأعمال بالنيات " قد قال فيه علماء الإسلام كما في الفتح (1/ 17): إنه ثلث الإسلام، منهم عبد الرحمن بن مهدي، والشافعي، فيما نقله البويطي عنه، وأحمد ابن حنبل، وعلي بن المديني، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، وحمزة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الكناني، ومع ذلك فقد تفرد به عمر بن الخطاب، ولم يروه عنه إلا علقمة بن وقاص، ولم يروه عن علقة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن محمد إلا يحيى بن سعيد الأنصاري. وقد قاله: عمر بن الخطاب على المنبر، وبحضور جمع كبير، ومع دواعي نقله، والحاجة إليه لم ينقله أحد إلا علقمة، ولم يضر تفرده بذلك. فهذا ما يمكن أن يجاب عن دعوى الشذوذ والله أعلم، على أن أصحاب ابن عمر قد أخذوا بالحديث كسعيد بن جبير كما في الأوسط (1/ 261)، ومجموع الفتاوى (21/ 35)، المجموع (1/ 162)، والمغني. وأفتى به مجاهد كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 133)، وكتاب الطهور لأبي عبيد (ص: 230)، ولعل ابن القيم لم يطلع على هذا. وأما الجواب عن إعلاله بالوقف: فقد ضعف جماعة رفع الحديث؛ لأن مجاهداً، قد رواه موقوفاً على ابن عمر. قال ابن القيم: رجح شيخا الإسلام: أبو الحجاج المزي، وأبوالعباس بن تيمية وقفه، ورجح البيهقي وقفه من طريق مجاهد وجعله هو الصواب انظر تهذيب السنن (1/ 62)، ومجموع الفتاوى (21/ 35). فقد أخرج الدارقطني (1/ 23)، والبيهقي (1/ 262) من طريق معاوية بن عمرو، قال: نا زائدة بن قدامة، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفاً: إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثاً. وقد روي مرفوعاً أخرجه الدارقطني (1/ 23) ومن طريقه البيقهي في السنن (1/ 262) من طريق عبد الله بن الحسين بن جابر، ثنا محمد بن كثير المصيصي، عن زائدة به مرفوعاً، ورجح الدارقطني رواية معاوية بن عمرو الموقوفة. وفي كلا الطريقين ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. قال فيه الحافظ في التقريب (5685): " صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك، فكيف يعارض به حديث عبد الله وعبيد الله ابني عمر، فإن السند إليهما رجالهما رجال الشيخين، وهما أولى بأبيهما من مجاهد، كيف وقد اختلف على مجاهد، فروى ابن أبي شيبة الحديث موقوفاً عليه (1/ 133)، قال: حدثنا يزيد، عن أبي إسحاق - يعني السبيعي - عن مجاهد قال: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شىء. واستدلوا أيضاً بأن الحديث روى موقوفاً على ابن عمر من طريق ابن علية، فقد روى =

. . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن أبي شيبة (1/ 144) قال: حدثنا ابن علية، عن عاصم بن المنذر، عن رجل، عن ابن عمر قال: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجساً، أو كلمة نحوها. ومن طريق ابن علية أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار (2/ 223)، والدارقطني في السنن (1/ 22)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 329). كما رواه حماد بن زيد، عن عاصم بن المنذر، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه موقوفاً أشار إليها أبو داود (65) عقب رواية حماد بن سلمة عن عاصم، إلا أنه خالف في شيخ عاصم بن المنذر. والجواب: قد خالف حماد بن سلمة ابن علية، فقد أخرج أبو داود (65)، وابن الجارود (46)، والدارقطني (1/ 22) من طريق حماد بن سلمة، ثنا عاصم بن المنذر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه مرفوعاً. جاء في تلخيص الحبير (1/ 18) ومعالم السنن للخطابي (1/ 58، 59) سئل ابن معين عن هذا الطريق فقال: إسنادها جيد. قيل: فإن ابن علية لم يرفعه، قال: وإن لم يحفظه ابن علية فالحديث جيد الإسناد". اهـ وقال العلائي في جزء تصحيح حديث القلتين (ص: 48 - 49): " هذا الحديث قد روي مرسلاً وموقوفاً، وكلا منهما علة في صحته، فقد رواه حماد بن زيد، عن عاصم بن المنذر، عن أبي بكر بن عبيد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وروي أيضاً عنه موقوفاً على ابن عمر، رواه إسماعيل بن علية، عن عاصم بن المنذر، عن رجل لم يسمه، عن ابن عمر موقوفاً عليه ". ثم قال: إن هذا بعد التسليم كونه علة، وكون حماد بن زيد وابن علية أحفظ من حماد بن سلمة وأتقن، حتى يقدم قولهما على روايته لا تؤثر إلا في حديث عاصم بن المنذر فقط، وأما رواية أبي أسامة، ورواية محمد بن إسحاق، فهما صحيحتان، لا يقدم هذا فيهما لتباين الطرق ". الخ كلامه رحمه الله. وبهذا يتبين أن الحديث لا يعل بالوقف، لأن رواية الرفع أرجح وأكثر. قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 41):" وأما حديث القلتين، فأكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به، وقد أجابوا عن كلام من طعن فيه، وصنف أبو عبيد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءاً رد فيه ما ذكره ابن عبد البر وغيره. =

. . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الجواب عن الجهل بمقدار القلة: ضعف الحديث جماعة للجهل بمقدار القلة كابن عبد البر في التمهيد (1/ 335) قال: قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع". وكذلك قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 16) قال:"إن هاتين القلتين لم يبين لنا في هذه الآثار ما مقدارهما " اهـ. ووافقهما ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 63). والجواب أن يقال: أما الخلاف في مقدار القلة فلا يكفي في رد الحديث الصحيح، وقد اختلف العلماء في أبلغ من هذا. فقد اختلفوا هل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجهر بالبسملة أم لا؟ مع أنها مسألة تتكرر في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اليوم خمس مرات ولم يكن هذا الاختلاف ما نعاً من الترجيح بينها، وكذلك الحال في القلال، فقد اختار الشافعي كما في المجموع (1/ 165) وأبو عبيد، وابن تيمية وغيرهم أن المراد بالقلة قلال هجر، قال أبو عبيد في كتاب الطهور (ص 238): " وقد تكلم الناس في، القلال فقال بعض أهل العلم: هى الجرار، وقال آخرون هى: الحباب، وهذا القول هو الذي اختاره وأذهب إليه، أنها الحباب، وهى قلال هجر، معروفة عندهم، وعند العرب مستفيضة، وقد سمعنا ذكرها في أشعارهم". وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 42): " وأما لفظ القلة فإنه معروف عندهم أنه الجرة الكبيرة، كالحب وكان - صلى الله عليه وسلم - يمثل بها كما في الصحيحين أنه قال في سدرة المنتهى: "وإذا أوراقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر"، وهى قلال معروفة الصفة والمقدار، فإن التمثيل لا يكون بمختلف متفاوت ". هذا وقد صحح الحديث جماعة من أهل العلم منهم: النووي فقد قال في المجموع (1/ 162): هذا الحديث حديث حسن ثابت، وابن حزم في المحلى (1/ 151) وابن تيمية في الفتاوى (21/ 41، 42). وجاء في الفتاوى عنه أيضاً ترجيح كونه موقوفاً وصححه الحاكم كما في المستدرك (1/ 132) وقال: على شرط الشيخين. وأقره الذهبي. =

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: من الحديث من وجهين: الوجه الأول: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، مفهومه أنه إذا كان دون القتين فإنه يحمل الخبث. الوجه الثاني: لو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس، ولو كان مائة قلة. الدليل الثاني: (89) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. ولمسلم: ثم يغتسل منه. وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن البول في الماء الدائم، وقد يتغير، وقد لا ¬

_ = وقال ابن منده كما في تلخيص الحبير (1/ 17): صحيح على شرط مسلم. وصححه ابن حبان (1249، 1253)، وابن خزيمة (92)، وأبو عبيد في كتاب الطهور (ص: 235)، وابن حجر في الفتح (1/ 408)، وقال: رواته ثقات، وصححه جماعة من الأئمة، وانظر تلخيص الحبير (1/ 17). وقال الخطابي في معالم السنن (1/ 58): " يكفي شاهد على صحة هذا الحديث أن نجوم أهل الحديث صححوه، وقالوا به، وهم القدوة، وعليهم المعول في هذا الباب. وصححه الشوكاني في نيل الأوطار (1/ 30، 31)، وأحمد شاكر كما في تحقيقه لسنن الترمذي (1/ 98). والله أعلم.

الدليل الثالث

يتغير، ونهيه عن الاغتسال فيه دليل على أنه يؤثر فيه البول، ولم يشترط الرسول - صلى الله عليه وسلم - التغير. الدليل الثالث: (90) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب. (91) ورواه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، وجعله طهارة لهذا الإناء، كما أمر بإراقة سؤره، ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير، وهذا دليل على أن النجاسة تؤثر في الماء ولو لم يتغير الماء. الدليل الرابع: (92) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد بن عبد الله بن شقيق، ¬

(¬1) صحيح مسلم (279).

دليل من قال: لا ينجس الماء إلا بالتغير.

عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وأخرجه البخاري دون قوله: ثلاثاً (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي رحمه الله: نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غمس يده، وعلله بخشية النجاسة، ويعلم بالضرورة أن النجاسة التي قد تكون على يده وتخفى عليه لا تغير الماء، فلولا تنجسه بحلول نجاسة لم تغيره لم ينهه. دليل من قال: لا ينجس الماء إلا بالتغير. الدليل الأول: قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (¬2)، وهذا الماء الذى وقعت فيه نجاسة ولم تغيره باق على صفته التى خلقها الله عليها، لا فى لونه، ولا فى طعمه، ولا في رائحته فكيف يحرم الوضوء منه، ونعدل الى التيمم مع وجوده. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (¬3)، فقد سمى الله الماء طهوراً، وهو إنما يكون طهوراً بصفته، فلا ينزع عنه اسم الطهورية حتى تنتفي عنه هذه الصفة بالتغير، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الماء طاهر في نفسه ¬

(¬1) البخاري (162)، ومسلم (278). (¬2) المائدة: 6. (¬3) الفرقان: 48.

الدليل الثالث

مطهر لغيره، فوجب ثبوت هذا الوصف له على كل حال، حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، فإذا أطلق الله ذلك ولم يقيده بحال دون حال، فكل شيء خالطه من شيء نجس أو طاهر، ولم يغير ذلك المخالط له أحد أوصافه، بقي على أصله من الطهارة والتطهير، كان الماء قليلاً أو كثيراً، إلا أنا نكره استعمال القليل منه الذي لا مادة له، ولا أصل، مع كونه في الحكم طاهراً. الدليل الثالث: (93) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب (¬1)، عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله توضأ منها وهى يلقى فيها ما يلقى من النتن؟ فقال: إن الماء لا ينجسه شيء (¬2). [صحيح بشواهده وسبق تخريجه]. وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكم أن الماء طهور لا ينجسه شىء، وهذا يشمل القليل والكثير، بقى ما تغير بالنجاسة فإنه نجس بالإجماع، وما عداه فهو طهور. ¬

(¬1) سقط اسم (سليط بن أيوب) من المطبوع، واستدركته من أطراف المسند (6/ 269). (¬2) المسند (3/ 15، 16).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول صاحب لا مخالف له، والفرق بين الماء النجس والماء الطهور هو أنه يوجد في الماء النجس صفات يحكم من خلالها بنجاسته، فإذا لم يظهر في الماء أثر النجاسة لافي لونه، ولافي طعمه، ولافي رائحته، فكيف نحكم عليه بأنه نجس (¬1). الدليل الخامس: معلوم أنه إذا استحال الشيء بالشيء حتى لا يرى له ظهور يحكم له بالعدم، وعلى هذا فلو وقعت قطرة من لبن امرأة في ماء، فاستهلكت، وشربه الرضيع خمس رضعات فأكثر لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة لم يجلد بشربه، فكذلك لو كانت قطرة بول لم تغير الماء يبقى الماء على أصله (¬2). الدليل السادس: (94) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (¬3). ¬

(¬1) انظر بتصرف مجموع الفتاوى (21/ 35). (¬2) بدائع الفوائد (3/ 258)، مجموع الفتاوى (21/ 33). (¬3) صحيح البخاري (220).

وجه الاستدلال: قالوا: نعلم قطعاً أن بول الأعرابي باق في موضعه، وإن صب عليه ذلك الماء، وإنما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة ذلك الموضع لغلبة الماء له، واستغراقه عليه، واستهلاك أجزائه لأجزاء البول لغلبته عليه. وقال الباجي: وهو حجة على أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، في قولهم: إن قليل الماء ينجسه قليل النجاسة، وإن لم تغيره، وهذا مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أرفع المواضع التي يجب تطهيرها، وقد حكم النبي فيه - صلى الله عليه وسلم - بصب دلو من ماء على مانجس بالبول، ولا معنى له إلا تطهيره للمصلين فيه (¬1). قلت: ولا ينفكون منه بالتفريق بين ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة؛ لأن هذا التفريق لم يقم عليه دليل، وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى. الجواب عن الأدلة السابقة: أما الجواب عن حديث القلتين فمن وجهين: الوجه الأول: أن يقال عندنا منطوق ومفهوم، والمنطوق مقدم على المفهوم. فحديث: "الماء طهور لا ينجسه شىء" منطوقه يشمل القليل والكثير. وحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" منطوقه موافق لحديث:"إن الماء طهور لا ينجسه شىء" لأن منطوقه أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجسه شيء. ومفهومه: أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه ينجس، وهذا المفهوم ¬

(¬1) المنتقى (1/ 129).

معارض لمنطوق حديث أبي سعيد، فيقدم المنطوق على المفهوم، فنأخذ من حديث القلتين منطوقه فقط، ولا نأخذ مفهومه؛ لأنه يعارض منطوق حديث أبي سعيد. قال ابن المنذر في الأوسط للتدليل على هذه القاعدة: ونظير ذلك قوله تعالى {حافظوا على الصلوات} الآية (¬1)، فأمر بالمحافظة على الصلوات، والصلوات داخلة في جملة قوله: {حافظوا على الصلوات} (¬2)، ثم خص الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، فقال: {والصلاة الوسطى} (¬3)، فلم تكن خصوصية الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مخرجاً سائر الصلوات من الأمر العام الذي أمر بالمحافظة على الصلوات " اهـ (¬4). فكأن ابن المنذر يقول مفهوم {والصلاة الوسطى} (¬5) الآية، لم يؤخذ ويعارض به منطوق حافظوا على الصلوات. أو نقول بتعبير آخر: إذا ذكر عموم، ثم ذكر فرد من أفراد العموم يوافق العموم في الحكم، فإن هذا الفرد لا يعتبر مخصصاً ولا مقيداً للعموم. مثال ذلك: إذا قلنا: أكرم طلبة العلم، فهذا لفظ يفيد عموم الطلبة، ثم قلنا: أكرم زيداً، وكان زيد من طلبة العلم، فإنه لا يفهم منه تخصيص الإكرام لزيد وحده. ¬

(¬1) البقرة: 238. (¬2) البقرة: 238. (¬3) نفس السورة، ونفس الآية. (¬4) الأوسط (1/ 270). (¬5) البقرة: 238.

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الماء طهور لا ينجسه شىء" هذا عام يشمل القليل والكثير، ثم أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحديث القلتين، أن الماء الكثير لا ينجس، فهو فرد من أفراد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور لا ينجسه شىء" فلا يقتضي تخصيصه ولا تقييده. الوجه الثاني: أن يقال إن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعطي حكماً أغلبياً وليس حكماً مطرداً. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ابن عمر: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " هل معنى ذلك أنه لا ينجس أبداً؟ الجواب: لا. إذ لو تغير بالنجاسة لنجس إجماعاً، ولكن معنى لم يحمل الخبث: أي غالباً لا يتغير بالنجاسة. ومفهومه: إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث أي في الغالب أيضاً، وليس مطلقاً، وكيف نعرف أنه حمل الخبث أو لم يحمل؟ الجواب: نعرف ذلك بالتغير، فالغالب أن الماء إذا كان دون القلتين أنه يتغير بالنجاسة فإن لم يتغير عرفنا أنه لم يحمل الخبث. فإذا كان منطوق الحديث يحمل على الغالب بالإجماع، فكذلك مفهوم الحديث ينبغي أن يحمل على الغالب من باب أولى، لأن المفهوم أضعف من المنطوق (¬1). أما الجواب عن حديث لا يبولن أحدكم في الماء الدائم واستدلالهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نهى عن الاغتسال في الماء الدائم بعد البول فيه إلا لأنه يتنجس بذلك. ¬

(¬1) راجع للاستزادة إغاثة اللهفان (1/ 156) وفتح الباري (1/ 408، 414)، والأوسط (1/ 260) وتهذيب السنن (1/ 56 - 74).

فالجواب عن ذلك: أولاً: أن النهي عن الاغتسال فيه لا يدل على أنه تنجس، ألا ترى أن الجنب قد نهي عن الاغتسال في الماء الدائم مع أن بدنه طاهر كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن المؤمن لا ينجس " متفق عليه، ومع ذلك لو انغمس في الماء الدائم فإنكم لا تقولون بنجاسته كما هو مذهب الحنابلة والشافعية، ورواية في مذهب الحنفية. ثانياً: لم يتعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحكم الماء، ولم يقل إنه أصبح نجساً بمجرد البول فيه، فالحديث ليس فيه إلا النهي عن البول في الماء الدائم وعن الاغتسال فيه. ثالثاً: أن الماء الدائم يشمل ما فوق القلتين، وما دون القلتين وما يشق نزحه وما لا يشق، وما يتحرك آخره بتحرك طرف منه وما لا يتحرك. قال ابن القيم: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البول في الماء الدائم، ثم يغتسل البائل فيه، هكذا لفظ الصحيحين: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " وأنتم تجوزون أن يغتسل في ماء دائم قدر القلتين بعد ما بال فيه، وهذا خلاف صريح للحديث. فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله في الماء فيما فوق القلتين؟ إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص، وإن منعته فقد نقضت دليلك. وكذلك يقال لمن حده بمشقة النزح أو التحريك. أما تفريق الظاهرية رحمهم الله فإنه غريب جداً، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البول في الماء الدائم، مع أنه قد يحتاج إليه، فلأن ينهى عن البول في إناء ثم يصبه فيه بطريق الأولى. ولا يستريب في هذا من علم حكمة الشريعة

وما اشتملت عليه من مصالح العباد ونصائحهم، والظاهرية البحتة تقسي القلوب، وتحجبها عن رؤية محاسن الشريعة وبهجتها، وما أودعته من الحكم والنصائح والعدل والرحمة (¬1). وعلق النووي على هذا المذهب، فقال: "وهذا مذهب عجيب وفي غاية الفساد، فهو أشنع ما نقل عنه إن صح عنه رحمه الله، وفساده مغن عن الاحتجاج عليه، ولهذا أعرض جماعة من أصحابنا المعتنين بذكر الخلاف عن الرد عليه بعد حكايتهم مذهبه، وقالوا: فساده مغن عن إفساده، وقد خرق الإجماع في قوله "في الغائط" إذ لم يفرق أحد بينه وبين البول، ثم تفريقه بين البول في نفس الماء، والبول في إناء ثم يصب في الماء من أعجب الأشياء". حتى قال رحمه الله: وفي الصحيح: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله " فلو أمر غيره فغسله، إن قال داود: لا يطهر لكونه ما غسله هو: خرق الاجماع، وإن قال: يطهر فقد نظر إلى المعنى وناقض، والله أعلم (¬2). فإن قيل ما الحكمة إذاً من النهي عن البول في الماء الدائم؟ فالجواب: أولاً: سداً للذريعة، لأنه قد يفضي الأذن بالبول فيه إلى تنجسه، وليس مجرد البول فيه ينجسه، ولكن إذا تكاثر البول في الماء الدائم قد يتنجس، فمنع سداً للذريعة. ثانياً: لأن الطباع مجبولة على كراهية استعمال الماء الدائم الذي يبال فيه، ولذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجنب عن الاغتسال فيه، وإن كان بدن ¬

(¬1) تهذيب السنن (1/ 66)، ومجموع الفتاوى (21/ 34). (¬2) المجموع (1/ 169).

الجنب طاهراً، فيكون النهي من أجل استقذار النفس له. ثالثاً: أن البول في الماء الدائم، ثم استعماله بعد ذلك قد يصيب الانسان بنوع من الوساوس، هل استعمل البول باستعمال الماء أم لا؟ فأحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع وساوس الشيطان، فنهى عن البول في الماء الدائم، لا أن مجرد البول القليل يكفي لتنجيسه، والله أعلم (¬1). أما الجواب عن حديث الولوغ: فيمكن أن يجاب بأحد جوابين. أولاً: زيادة " فليرقه " زيادة شاذة (¬2). ¬

(¬1) المراجع السابقة. (¬2) قال النسائي في السنن (1/ 53): لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله: فليرقه. وقال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 273): وأما هذا اللفظ من حديث الأعمش "فليهرقه " فلم يذكره أصحاب الأعمش الثقات الحفاظ مثل شعبة وغيره وقال ابن مندة كما في فتح الباري (1/ 331)، وتلخيص الحبير (1/ 23): لا تعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه إلا من روايته. وقال حمزة الكناني كما في فتح الباري (1/ 330): إنها غير محفوظة. ومعلوم أن علي بن مسهر رواه عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة، والذين رووه عن الأعمش ولم يذكروا هذه الزيادة جماعة، منهم: الأول: اسماعيل بن زكريا عند مسلم (279). الثاني: أبو معاوية عند أحمد (2/ 253). الثالث: عبد الرحمن بن زياد عند الدارقطني (1/ 63) وإن كان ضعيفاً. الرابع: شعبة عند أحمد (2/ 480) والطيالسي (2417) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 21) والتمهيد لابن عبد البر (18/ 267). الخامس: أبو أسامة عند ابن أبي شيبة (14/ 204) وهو حماد بن أسامة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = السادس: حفص بن غياث، كما في شرح معاني الآثار (1/ 21). السابع: جرير كما في مسند إسحاق بن راهوية (1/ 283). الثامن: عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي كما في المعجم الصغير للطبراني (1/ 164). التاسع: أبان بن تغلب، كما في المعجم الصغير (2/ 149)، إلا أن هؤلاء منهم من رواه عن الأعمش عن أبي صالح وأبي رزين به كإسماعيل بن زكريا، وأبي معاوية، وعبد الرحمن بن زياد، وعبد الرحمن بن حميد، ومنهم من رواه عن الأعمش عن أبي رزين وذلك كأبي معاوية، وأبي أسامة، وجرير، وأبان بن تغلب، ومنهم من رواه عن الأعمش عن أبي صالح كشعبة فصار الأعمش تارة يجمع شيوخه وتارة يفرقهما، فهؤلاء تسعة رووه عن الأعمش، ولم يذكروا ما ذكره علي بن مسهر عن الأعمش. ولا يقارن علي بن مسهر بشعبة فكيف بمن معه، وقد وافق شعبة عن الأعمش أبو معاوية، وقد سئل يحيى بن معين: من أثبت أصحاب الأعمش؟ قال: بعد سفيان وشعبة أبو معاوية. وقال أحمد بن حنبل: كان أبو معاوية إذا سئل عن أحاديث الأعمش يقول: قد صار حديث الأعمش في فمي علقماً، أو هو أمر من العلقم لكثرة ما تردد عليه حديث الأعمش، وقال له شعبة: يا أبا معاوية، سمعت حديث كذا وكذا من الأعمش؟ قال: نعم. قال شعبة: هذا صاحب الأعمش، فاعرفوه، قال أبو معاوية عن نفسه: البصراء كانوا عليَّ عيالاً عند الأعمش، قال هذا لأنه ضرير. كما رواه جماعة عن أبي هريرة، من غير طريق الأعمش، وليس فيه ذكر هذه الزيادة، وهاك بعض من وقفت عليه. الأول: الأعرج، كما في مسند الشافعي (ص: 7)، ومسند أحمد (2/ 245)، ومسند الحميدي (967)، وصحيح مسلم (279)، وسنن النسائي (63)، وابن ماجه (364)، والمنتقى لابن الجارود (50،52)، ومسند أبي عوانة (1/ 176)، وصحيح ابن خزيمة (96)، وصحيح ابن حبان (1294)، والسنن الكبرى للبيهقي (1/ 240، 256). الثاني: محمد بن سيرين، كما في مسند الشافعي (ص: 8)، ومصنف عبد الرزاق (330، 331)، ومصنف بن أبي شيبة (1/ 159)، ومسند أحمد (2/ 427، 508)، ومسلم (279)، وسنن أبي داود (71، 72، 73)، والنسائي في الكبرى (68)، وفي الصغرى (339)، =

ومع الحكم بشذوذ " فليرقه "، إلا أن المعنى يقتضي تنجس الماء ولو لم يتغير، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء، وجعل ذلك طهارة للإناء. (95) فقد روى مسلم من طريق ابن سيرين وهمام بن منبه، كلاهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن ¬

_ = ومسند أبي عوانة (1/ 177)، وشرح معاني الآثار (1/ 21)، والمعجم الأوسط للطبراني (946، 1326)، وصحيح ابن خزيمة (95، 97)، صحيح ابن حبان (1297)، سنن الدراقطني (1/ 64)، والحاكم (569، 570، 572)، السنن الصغرى للبيهقي (1/ 132)، والكبرى (1/ 240، 241، 247). الثالث: همام بن منبه، كما في مصنف عبد الرزاق (329)، ومسند أحمد (2/ 314)، وصحيح مسلم (279)، صحيح ابن حبان (1295)، المسند المستخرج على صحيح مسلم لأبي نعيم (1/ 335)، السنن الكبرى للبيهقي (1/ 240). الرابع: أبو رافع، كما في مسند إسحاق بن راهوية (1/ 121)، والسنن الكبرى للنسائي (69)، والصغرى (338)، والدارقطني (1/ 65)، والبيهقي الكبرى (1/ 241). الخامس: الحسن، كما في سنن الدارقطني (1/ 64). السادس: ثابت مولى عبد الرحمن بن زيد، كما في مصنف عبد الرزاق (335)، ومسند أحمد (2/ 271)، والسنن الكبرى للنسائي (66)، والصغرى (64)، السابع: أبو سلمة، عن أبي هريرة، كما في مصنف عبد الرزاق (335)، ومسند أحمد (2/ 271)، والسنن الكبرى للنسائي (67)، والصغرى (65)،. الثامن: عطاء بن يسار، كما في المعجم الأوسط للطبراني (3719). التاسع: عبد الرحمن بن أبي عمرة، كما في مسند أحمد (2/ 360، 482). العاشر: عن عبيد بن حنين مولى بن زريق، كما في مسند أحمد (2/ 398). ولا شك أن تفرد علي بن مسهر دون هؤلاء يوجب شذوذ هذه اللفظة؛ لأن علي بن مسهر قال فيه الحافظ في التقريب (4800) ثقة له غرائب بعد أن أضر " اهـ.

يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (¬1). ومعلوم أن نجاسة الإناء إنما جاءت من نجاسة الماء؛ لأن الولوغ إنما وقع على الماء، فتنجس الإناء لنجاسة الماء؛ ولأن النجاسة لو كانت للإناء وحده لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يغسل من الإناء جهة الولوغ فقط، فلما أمر بغسل الإناء كله، علم أن النجاسة إنما سرت عن طريق الماء المتنجس. فإن قال قائل: إذاً كيف حكمتم على الأمر بالإراقة بالشذوذ؟ فالجواب: لا يلزم من الحكم بنجاسة الماء الحكم بوجوب إراقته؛ لأن الماء إذا تنجس لا يكون نجس العين، إذ يمكن تطهيره، وإذا أمكن تطهيره أمكن الانتفاع به بخلاف ما إذا أوجبنا إراقته. ولا يعني ذلك إذا حكمنا بنجاسة الماء أن نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها التسبيع، ومنها التتريب، فلا يقاس الأخف على الأغلظ. على أنه قد يقال: لا نسلم عدم التغير؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء فتظهر على شىء منه، فيكون هذا نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة، فينجس والله أعلم. وسوف تأتي أقوال العلماء في نجاسة الكلب وكيفية التطهر منه إن شاء الله تعالى. أما الجواب عن حديث النهي عن غمس اليد في الماء: فقد استدل به من الحنابلة ابن قدامة (¬2)، واستدل به من الشافعية ¬

(¬1) صحيح مسلم (279). (¬2) المغني (1/ 40).

النووي على نجاسة الماء اليسير إذا لا قى النجاسة ولو لم يتغير، قال النووي: " فنهاه - صلى الله عليه وسلم - عن غمس يده، وعلله بخشية النجاسة، ويعلم بالضرورة أن النجاسة التي تكون على يده، وتخفى عليه لا تغير الماء، فلولا تنجسه بحلول نجاسة لم تغيره لم ينهه (¬1). اهـ وكيف يستدل به الحنابلة رحمهم الله، وهم يرون أن العلة في النهي تعبدية، وأن الماء يكون طاهراً عندهم غير مطهر: لا طهور ولا نجس، وكيف يستدل به الشافعية، وهم يرون أن غمس القائم من نوم الليل يده في الماء غاية ما فيه أنه مكروه، ويصح التطهر منه، فكيف صح دليلاً لهم في هذه المسألة، وهم لا يرون أبداً نجاسة الماء إذا غمس النائم فيه يده، فهذا نوع من التاقض والله أعلم، وكما بينت سابقاً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض لحكم الماء، إنما نهى النائم عن غمس يده، ولو غمسها كان آثماً إذا كان عالماً بالنهي، والماء طهور، والله أعلم. فالراجح من الخلاف: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وهذه المسألة أطلت فيها البسط؛ لأنها من المسائل الشائكة، قال ابن القيم عن هذه المسألة: هنا معترك النزال وتلاطم الأمواج، وهي مسألة الماء والمائع إذا خالطته النجاسة فاستهلكت، ولم يظهر لها فيه أثر البتة (¬2). وقال الشوكاني: وهذا المقام من المضايق التي لا يهتدي إلى ما هو صواب فيها إلا الأفراد (¬3). اهـ ¬

(¬1) المجموع (1/ 168). (¬2) بدائع الفوائد (3/ 257، 258). (¬3) نيل الأوطار (1/ 301).

فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

الفصل الثاني في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة

الفصل الثاني في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة

المبحث الأول في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فلم تغيره

المبحث الأول في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فلم تغيره قد علمنا في المسألة السابقة خلاف العلماء في تحديد القليل والكثير، فإذا كان الماء كثيراً، فوقعت فيه نجاسة، فلم تغيره، فما حكمه؟ والجواب إن كان هذا الكثير مما يشق نزحه، وإذا حرك طرفه لم يتحرك الطرف الأخر فإنه طهور إجماعاً، ساق الإجماع على ذلك طوائف من أهل العلم، من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وغيرهم من المجتهدين. قال ابن الهمام من الحنفية: للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا به. يعني: بالتغير (¬1). وقال أبو الوليد بن رشد، من المالكية: لا خلاف أن الماء الكثير لاينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يغير أحد أوصافه (¬2). وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الماء الكثير من النيل والبحر، ونحو ذلك إذا وقعت فيه نجاسة، فلم تغير له لوناً ولا طعماً ولا ريحاً أنه بحاله يتطهر منه (¬3). وقال عبد الرحمن بن قدامة من الحنابلة: لا نعلم خلافاً أن الماء الذي لا ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 77،78)، وانظر البناية (1/ 319)، البحر الرائق (1/ 94). (¬2) مواهب الجليل (1/ 53)، ونقل الإجماع كذلك ابن عبد البر كما في التمهيد (9/ 108)، وقال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد (1/ 245): " واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه، وأنه طاهر ". وقال الحطاب في مواهب الجليل (1/ 53): الماء الكثير إذا خالطه شيء نجس، ولم يغيره، فإنه باق على طهوريته. اهـ وانظر الخرشي (1/ 77). (¬3) الإجماع (ص: 33)، وانظر الأوسط (1/ 261).

يمكن نزحه إلا بمشقة عظيمة، مثل المصانع التي جعلت مورداً للحجاج بطريق مكة يصدرون عنها، ولا ينفذ ما فيها أنها لا تنجس إلا بالتغير (¬1). وقد نقل الإجماع طوائف من العلماء، منهم: الطبري (¬2)، وابن حزم (¬3)، وابن تيمية (¬4)، وابن قدامة (¬5)، وابن دقيق العيد (¬6)، والزركشي (¬7)، وابن رجب (¬8)، والعراقي في طرح التثريب (¬9)، وابن عبد الهادي (¬10)، والشوكاني (¬11)، وغيرهم. ¬

(¬1) الشرح الكبير (1/ 13). (¬2) تهذيب الآثار (2/ 219، 233). (¬3) مراتب الإجماع (ص: 17). (¬4) نقد مراتب الإجماع (ص: 17). (¬5) المغني (1/ 39). (¬6) إحكام الأحكام (1/ 22، 23). (¬7) شرح الزركشي (1/ 134، 134). [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع] (¬8) القواعد (29). (¬9) طرح التثريب (1/ 36). (¬10) مغني ذوي الأفهام (ص: 42). (¬11) نيل الأوطار (1/ 45).

المبحث الثاني في الماء الكثير إذا غيرته النجاسة

المبحث الثاني في الماء الكثير إذا غيرته النجاسة إذا وقعت في الماء نجاسة فغيرته، فإنه نجس لا فرق بين قليله وكثيره، وقد نقل الإجماع على ذلك طوائف من أهل العلم. قال الطحاوي من الحنفية: أجمعوا أن النجاسة إذا وقعت في البير، فغلبت على طعم مائها، أو ريحه، أو لونه، أن ماءها قد فسد (¬1). وقال ابن نجيم أيضاً: اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة لا تجوز الطهارة منه قليلاً أو كثيراً، جارياً كان أو غير جار، هكذا نقل الإجماع في كتبنا (¬2). وقال القاضي أبو الوليد ابن رشد من المالكية: لا خلاف أن الماء الكثير لا ينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يغير أحد أوصافه (¬3). وقال الشافعي رحمه الله: وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه، أو لونه، كان نجساً، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يثبت مثله أهل الحديث، وهو قول العامة لا أعلم بينهم فيه اختلافاً (¬4). وقال النووي: واعلم أن حديث بئر بضاعة عام مخصوص، خص منه ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 12)، ونقل الإجماع العيني كما في البناية (1/ 130)، وابن الهمام كما في شرح فتح القدير (1/ 77)، وغيرهما. (¬2) البحر الرائق (1/ 74). (¬3) مواهب الجليل (1/ 53،60)، وانظر مقدمات ابن رشد (1/ 57)، والمنتقى للباجي (1/ 56،59)، وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي (1/ 223): فإن تغير الماء لم يطهر إجماعاً. وانظر البيان والتحصيل (1/ 42،60،134)، القوانين الفقهية (32). (¬4) الأم (1/ 13).

المتغير بنجاسة، فإنه نجس للإجماع (¬1). وقال الزركشي من الحنابلة: إن الماء ينجس بتغير وصف من أوصافه، وإن كثر ولا نزاع في ذلك، وحكاه ابن المنذر إجماعاً (¬2). وقال ابن تيمية: إذا وقع في الماء نجاسة، فغيرته، تنجس اتفاقاً (¬3). وقد نقل الإجماع طوائف من العلماء منهم: ابن عبد البر (¬4)، وأبو العباس بن سريج (¬5)، وابن جرير الطبري (¬6)، وابن المنذر (¬7)، وابن حبان (¬8)، والقاضي عياض (¬9)، وابن القطان الفاسي (¬10)، ¬

(¬1) المجموع (1/ 131)، وقد نقل الإجماع مجموعة من الشافعية، منهم الماوردي في الحاوي (1/ 325)، والعراقي في طرح التثريب (2/ 32،35)، 33)، شرح المنهج (1/ 41)، الغرر البهية (1/ 34). (¬2) شرح الزركشي (1/ 127). (¬3) مختصر الفتاوى المصرية (ص: 18). (¬4) التميهد (18/ 235، 236)، (19/ 16)، والاستذكار (1/ 211). (¬5) الودائع لنصوص الشرائع (1/ 93). (¬6) تهذيب الآثار (2/ 213، 216). (¬7) الأوسط (1/ 260)، والإجماع (ص: 33). (¬8) قال ابن حبان في صحيحه (4/ 59): قوله - صلى الله عليه وسلم -: الماء لا ينجسه شيء، لفظة أطلقت على العموم، تستعمل في بعض الأحوال، وهو المياه الكثيرة التي لا تحتمل النجاسة فتظهر فيها، وتخص هذه اللفظة التي أطلقت على العموم ورود سنة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، ويخص هذين الخبرين الإجماع على أن الماء قليلاً كان أو كثيراً فغير طعمه أو لونه أو ريحه نجاسة وقعت فيها، أن ذلك الماء نجس بهذا الإجماع الذي يخص عموم تلك اللفظة المطلقة التي ذكرناها. اهـ (¬9) مواهب الجليل (1/ 60). (¬10) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني (1/ 49).

وابن دقيق العيد (¬1)، وابن الفاكهاني (¬2)، وابن الملقن (¬3)، وابن مفلح (¬4)، وغيرهم (¬5). ومن النظر: أن الله سبحانه وتعالى حرم استعمال النجاسة، والماء المتغير بالنجاسة إذا استعمل فقد استعملت النجاسة، لظهور أثرها في الماء من لون أو طعم أو رائحة، والله أعلم. ¬

(¬1) إحكام الأحكام (1/ 22، 23). (¬2) مواهب الجليل (1/ 85). (¬3) نيل الأوطار (1/ 40). (¬4) المبدع (1/ 52). (¬5) انظر إجماعات ابن عبد البر في العبادات (1/ 124).

الفصل الثالث في المائع غير الماء تخالطه نجاسة

الفصل الثالث في المائع غير الماء تخالطه نجاسة عرفنا في الفصل السابق حكم الماء تخالطه النجاسة، قليلاً كان أم كثيراً، تغير أم لم يتغير، وفي هذا الفصل نناقش المائع من غير الماء تخالطه النجاسة، وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة. فقيل: إذا خالطت النجاسة مائعاً غير الماء فإنه يتنجس بملاقاة النجاسة، من غير فرق بين القليل والكثير، وبين المتغير، وغير المتغير، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ¬

(¬1) الفتاوى الهندية (1/ 45)، وأحكام القرآن للجصاص (1/ 166،167)، المبسوط (10/ 198). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 59)، وقال ابن عبد البر في الكافي (ص: 189): ولا تطهر الأدهان النجسة بغسلها، وهذا تحصيل مذهب مالك وطائفة من المدنيين. اهـ وانظر التمهيد (9/ 46)، مواهب الجليل (1/ 110 - 114)، التاج والإكليل (1/ 113)، الفواكه الدواني (1/ 388). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 620): إذا نجس الزيت والسمن والشيرج وسائر الأدهان، فهل يمكن تطهيره؟ فيه وجهان مشهوران، وقد ذكرهما المصنف في باب ما يجوز بيعه أصحهما عند الأكثرين: لا يطهر بالغسل ولا بغيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الفأرة تقع في السمن: إن كان مائعاً فلا تقربوه. ولم يقل اغسلوه، ولو جاز الغسل لبينه لهم، وقياساً على الدبس والخل وغيرهما من المائعات إذا تنجست، فإنه لا طريق إلى تطهيرها بلا خلاف. والثاني: يطهر بالغسل، بأن يجعل في إناء ويصب عليه الماء ويكاثر به ويحرك بخشبة ونحوها تحريكاً يغلب على الظن أنه وصل إلى أجزائه، ثم يترك حتى يعلو الدهن، ثم يفتح أسفل الإناء، فيخرج الماء، ويطهر الدهن، وهذا الوجه قول ابن سريج، ورجحه صاحب =

دليل من قال بنجاسة المائع مطلقا إذا وقعت فيه نجاسة.

والحنابلة (¬1). وقيل: حكمه حكم الماء، لا تنجس منه القلتان فما فوق إلا بالتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة. وقيل: التفرقة بين المائع المائي كالخل ونحوه، وغيره، فالمائع الذي يشبه الماء حكمه حكم الماء، وغير الماء كالزيوت والأدهان فتنجس بملاقاة النجاسة، قل أو كثر، تغير أم لم يتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: المائعات إذا وقعت فيها نجاسة لا تنجس إلا إذا تغير طعمها أو لونها أو ريحها بسبب النجاسة، إلا السمن الذائب تقع فيه الفأرة، فإنه يتنجس مطلقاً، سواء ماتت فيه، أو خرجت وهي حية، وهذا اختيار ابن حزم (¬3). دليل من قال بنجاسة المائع مطلقاً إذا وقعت فيه نجاسة. الدليل الأول: (96) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا معمر، أنا ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن، فماتت قال: إن كان جامداً فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي، ¬

= العدة، وقال البغوي وغيره: ليس هو بصحيح، وقال صاحب العدة: لا يطهر السمن بالغسل قطعاً، وفي غيره الوجهان، والمشهور أنه لا فرق. اهـ وانظر المجموع أيضاً (9/ 40)، وحاشية البجيرمي (1/ 26)، روضة الطالبين (3/ 349)، منهاج الطالبين (1/ 6). (¬1) الإنصاف (1/ 321)، كشاف القناع (1/ 188)، المبدع (1/ 243). (¬2) المغني (1/ 33)، الإنصاف (1/ 67)، المبدع (1/ 56)،. (¬3) المحلى (1/ 142).

وإن كان مائعاً فلا تأكلوه (¬1). [أخطأ فيه معمر سنداً ومتناً] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 232). (¬2) والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 128) رقم 24393 حدثنا عبد الأعلى. وأخرجه أحمد (2/ 265) وأبو داود (3842)، وابن الجارود في المنتقى (871)، وابن حبان (1393، 1394)، والبيقهي (9/ 353)، والبغوي (2812)، والخطيب البغدادي (1/ 213)، وابن عبد البر في التمهيد (9/ 37،38) من طريق عبد الرزاق، وهو في المصنف (278). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 380)، والطبراني في الأوسط (2452)، والدارقطني في العلل (7/ 287) من طريق يزيد بن زريع. وأخرجه أبو يعلى الموصلي (5841)، والبيهقي في السنن (9/ 353) وفي المعرفة (14/ 126)، وابن عبد البر في التمهيد (9/ 38) من طريق عبد الواحد بن زياد. وأخرجه أحمد (2/ 232) عن محمد بن جعفر كما في حديث الباب، خمستهم عن معمر، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة. واختلف على الزهري فيه: فرواه معمر بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فخالف في إسناده ومتنه، أما المتن فقد انفرد بقوله: " وإن كان مائعاً فلا تأكلوه " وأما المخالفة في الإسناد فجعل الحديث من مسند أبي هريرة، وهو من مسند ميمونة، فقد رواه عن الزهري سفيان بن عيينة ومالك بن أنس، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن إسحاق، بل ومعمر بن راشد أيضاً رووه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة مرفوعاً، وهاك بيان هذه الطرق. الطريق الأول: سفيان بن عيينة، عن الزهري. أخرجه البخاري في صحيحه (5538)، وابن المنذر في الأوسط (869)، والطبراني في المعجم الكبير (1043)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 353)، وابن عبد البر في التمهيد (9/ 36) من طريق الحميدي عن سفيان به. وهو في مسنده (312) بلفظ: أن فأرة وقعت في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سمن، فماتت، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: ألقوها وما حولها، وكلوه". قال الحميدي: فقيل لسفيان: فإن معمراً يحدثه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة؟ قال سفيان: ما سمعت الزهري يحدثه إلا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سمعته منه مراراً. كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 128) رقم 24392. ومن طريقه أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3099) والطبراني في المعجم الكبير (24/ 15) رقم 25. وأخرجه أحمد في المسند (6/ 329)، وأبو داود (3841) عن مسدد، والترمذي (1798) عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وأبي عمار، والنسائي (4258) عن قتيبة، والدارمي (738) عن محمد بن يوسف و (2083) عن علي بن عبد الله، وأبو يعلى في مسنده (7078) عن أبي خيثمة، وابن الجارود في المنتقى (872) عن ابن المقرئ وسعيد بن بحر القراطيسي جميعهم رووه عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة مرفوعاً لم يذكروا التفصيل: إن كان مائعاً. وخالفهم إسحاق بن راهوية، فرواه ابن حبان في صحيحه (1389) من طريقه عن سفيان به، وزاد في متنه: وإن كان ذائباً فلا تقربوه. ولا شك أن مخالفة إسحاق للحميدي وأحمد وابن أبي شيبة وقتيبة ومسدد وأبي خيثمة ومحمد بن يوسف وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي وأبي عمار وغيرهم تجعل روايته من قبيل الوهم، إذ يبعد أن تكون اللفظة محفوظة من حديث سفيان ثم يتركها أصحابه. وقد ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/ 378) في ترجمة إسحاق، وقال: " نعم ما علمنا استغربوا من حديث ابن راهوية على سعة علمه سوى حديث واحد، وذكر الحديث، ثم قال: فزاد إسحاق في المتن من دون سائر أصحاب سفيان هذه الكلمة: وإن كان ذائباً فلا تقربوه، قال الذهبي: ولعل الخطأ فيه من بعض المتأخرين، أو من راويه عن إسحاق. الطريق الثاني: الأوزاعي، عن الزهري. أخرجه أحمد في مسنده (6/ 330) ثنا محمد بن مصعب قال ثنا الأوزاعي به. الطريق الثالث: عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري به. أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3101) والطبراني في المعجم الكبير =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (24/ 15) رقم 27 كلاهما من طريق خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري به. وأحال ابن أبي عاصم على رواية ابن عيينة. الطريق الرابع: مالك بن أنس، عن الزهري. اختلف على مالك على خمسة أوجه على النحو التالي: الوجه الأول: مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. أخرجه مالك في الموطأ برواية يحيى بن يحيى (2/ 971). وأخرجه البخاري (235)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 379)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 352) من طريق إسماعيل بن أبي أويس. وأخرجه البخاري (236) من طريق معن بن عيسى. وأخرجه البخاري أيضاً (5540) عن عبد العزيز بن عبد الله. وأخرجه أحمد (6/ 335)، والنسائي في الكبرى (3/ 87) وفي الصغرى (7/ 157) من طريق عبد الرحمن بن مهدي. وأخرجه الدارمي (2086) عن زيد بن يحيى. والطبراني في المعجم الكبير (23/ 429) رقم 1042 من طريق سعيد بن داود. وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (9/ 37) من طريقي أشهب بن عبد العزيز وسعيد بن أبي مريم، جميعهم رووه عن مالك، عن ابن شهاب به. الوجه الثاني: مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس مرفوعاً بدون ذكر ميمونة. رواه القعنبي كما في الأوسط لابن المنذر (2/ 284)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 379). وخالد بن مخلد كما في سنن الدارمي (2084). ومحمد بن الحسن الشيباني كما في موطأ مالك من روايته (ص: 341) رقم 984. كما ذكر ابن عبد البر في التمهيد (9/ 33) أن التنيسي وعثمان بن عمر ومعن بن عيسى، وإسحاق بن سليمان الرازي، وأبو قرة موسى بن طارق، وإسحاق بن محمد الفروي، كل هؤلاء رووه عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا ميمونة. ولم أقف على هذه الروايات. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه الدارقطني في العلل (5/ق 180ب) من طريق يحيى القطان، ثنا مالك به، فكل هؤلاء رووه من مسند ابن عباس. وذكر الدارقطني وابن عبد البر في التمهيد (9/ 35) والعقيلي في الضعفاء (3/ 87) أن الأوزاعي رواه عن الزهري من مسند ابن عباس، فتابع فيه مالكاً من هذا الوجه. ولعل ابن عباس تارة يسنده عن ميمونة، وتارة يرسله، ومرسل الصحابي حجة. الوجه الثالث: مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ميمونة، بدون ذكر ابن عباس. رواه ابن وهب، عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ميمونة، بدون ذكر ابن عباس، ذكرها ابن عبد البر في التمهيد (9/ 33) تعليقاً مجزوماً به، كما أخرجه تعليقاً أبو نعيم في الحلية (3/ 379)، وأشار إليها الدارقطني في العلل. ولم أعلم أحداً تابع ابن وهب على هذه الرواية، فهي رواية شاذة. الوجه الرابع: مالك، عن الزهري، عن عبيد الله عن ابن مسعود مرفوعاً رواه أبو نعيم في الحلية (3/ 379) من طريق عبد الملك بن الماجشون، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن مسعود مرفوعاً. وقد انفرد ابن الماجشون بجعل رواية مالك من مسند ابن مسعود، ولا أعلم أحداً تابعه على ذلك، وهي تخالف رواية الثقات من أصحاب مالك. الوجه الخامس: مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. رواه مالك في الموطأ برواية أبي مصعب عنه (2179). كل هؤلاء رووه مخالفين لمعمر بن راشد، فلم يذكروا فيه ما ذكره من جعله من مسند أبي هريرة، كما لم يذكروا: وإن كان مائعاً فلا تقربوه، بل إن معمراً له رواية توافق رواية الجماعة في سنده، وهي أولى أن تكون محفوظة، فقد أخرجه أبو داود (3843) ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 353) عن أحمد بن صالح. وأخرجه النسائي في الكبرى (4586) وفي الصغرى (7/ 157) عن خشيش بن أصرم. وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3100) والطبراني في الكبير (1045)، وفي (24/ 15) رقم 26 عن سلمة بن شبيب. وابن حبان في صحيحه (1391) عن إسحاق بن إبراهيم، أربعتهم عن عبد الرزاق، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال: أخبرني عبد الرحمن بن بوذويه، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. كلام العلماء في زيادة معمر إن كان مائعاً فلا تقربوه القرائن الدالة على خطأ معمر: أولاً: المخالفة في الإسناد، فأصحاب الزهري مالك وابن عيينة والأزاعي وغيرهم روواه من مسند ميمونة. قال سفيان بن عيينة كما في صحيح البخاري: قيل لسفيان: فإن معمراً يحدثه عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقول إلا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد سمعته منه مراراً. ثانياً: أن ابن عباس لا يفرق بين السمن الجامد والمائع، فقد قال الحافظ في الفتح (9/ 669)، قد أخرج أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس، سئل عن فأرة ماتت في سمن؟ قال: تؤخذ الفأرة وما حولها، فقلت: إن أثرها كان في السمن كله، قال: إنما كانت وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت. ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه أحمد من وجه آخر، وقال فيه: عن جَرِّ فيه زيت، وقع فيه جرذ، وفيه: أليس جال في الجَرِّ كله؟ قال: وإنما جال وفيه الروح، ثم استقر حيث مات. اهـ ولم أقف عليه في مسند أحمد، لكن عزاهما ابن تيمية إلى مسائل أحمد رواية ابنه صالح كما في مجموع الفتاوى (21/ 497)، ولم أقف عليه في مسائل صالح المطبوع، والله أعلم. ثالثاً: أن البخاري قد روى في صحيحه (5539) قال: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها، قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل، عن حديث عبيد الله بن عبد الله. فهذا الزهري الذي مدار الحديث عليه، قد أفتى في المائع والجامد بأن تلقى الفأرة، وما قرب منها، ويؤكل، فلو كان عنده هذا التفصيل الذي رواه معمر، لكان أفتى به. ولا يقال: ربما نسي ما روى، لأن الزهري كان من أحفظ الناس في عصره، فاحتمال نسيانه بعيد. وقال الترمذي: روى معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو حديث غير محفوظ. قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر فيه أنه سئل عنه، فقال: =

الدليل الثاني

وجه الاستدلال عندهم: أن الحديث أمر بإراقة المائع الذي وقعت فيه الفأرة، وماتت فيه، ولم يفرق بين القليل والكثير، ولم يستفصل هل تغير أم لم يتغير، فدل على أنه لا فرق. الدليل الثاني: من النظر، قالوا: إن المائعات سوى الماء لا تدفع النجاسة عن غيرها، فلا تدفعها عن نفسها، بخلاف الماء الذي يدفع النجاسة عن غيره، فيدفعها أيضاً عن نفسه. الدليل الثالث: أن النجاسة إذا وقعت في الجامد، فإنها تجاور موضعاً واحداً، وهو الجزء الذي وقعت في النجاسة، بخلاف المائع فإنها تجاوره كله، إذا تنتقل من مكان إلى آخر، فيتنجس بها. ¬

_ = إذا كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه. هذا خطأ، أخطأ فيه معمر، قال: والصحيح حديث الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. سنن الترمذي (1798). وقال البخاري أيضاً: حديث معمر عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، وهم فيه معمر، ليس له أصل. ترتيب العلل الكبير للترمذي (2/ 758). وقال أبو حاتم في العلل لابنه عن رواية معمر، بأنها وهم. انظر العلل (2/ 12) رقم 1507. كما ضعف رواية معمر ابن تيمية في مجموع الفتاوى في أكثر من موضع، انظر مجموع الفتاوى (21/ 490، 492، 497) وأطال ابن القيم في تعليل رواية معمر في تهذيب السنن (5/ 336 - 337)، والله أعلم.

دليل من قال: المائع كالماء لا ينجس إلا بالتغير.

دليل من قال: المائع كالماء لا ينجس إلا بالتغير. الدليل الأول: (97) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابهم جواباً عاماً مطلقاً، بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم هل كان مائعاً، أو جامداً، وترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، مع أن الغالب في سمن الحجاز أن يكون ذائباً لشدة الحرارة، والغالب على السمن أنه لا يبلغ قلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أم كثيراً. الدليل الثاني: الفرق بين المائع النجس والمائع الطاهر صفات جعلت هذا نجساً، وهذا طاهراً، فإذا لم يظهر في المائع أثر النجاسة لافي اللون، ولافي الطعم، ولافي الرائحة، فكيف نحكم عليه بأنه نجس، وما الفرق إذاً بينه وبين المائع الطاهر. الدليل الثالث: أن في تنجيس المائعات حرجاً ومشقة، فهنالك القناطير المقنطرة من الدهون التي تكون في معاصر الزيتون وغيرها، ففي تنجيسها بوقوع قليل ¬

(¬1) صحيح البخاري (235).

النجاسة فيها حرج شديد. وهذا القول هو الراجح، فلا يوجد دليل على نجاسة المائع بملاقاة النجاسة، لا دليل أثري، ولا دليل نظري، فالقول بنجاسة المائع مطلقاً فيه حرج ومشقة وإفساد للمال دون أن يكون هناك دليل يقضي بالنجاسة، والله أعلم.

الفرع الأول في الكلام على بئر المقبرة

الفرع الأول في الكلام على بئر المقبرة كره الحنابلة الطهارة من بئر في المقبرة (¬1). تعليل الكراهة. لعل تعليل الكراهة عندهم لكونه مظنة وصول شيء من النجاسة إلى ماء المقبرة. والصحيح عدم الكراهة، والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل، وحتى لو كان هذا الاحتمال قائماً فإن الشك في نجاسة الماء لا تجعل الطهارة منه مكروهة؛ لأن الأصل الطهارة، ولا ننتقل عنها إلا إذا تيقنا تغيره بالنجاسة، والحنابلة يقولون: إذا شك في نجاسة ماء أو غيره أو في طهارته بنى على اليقين، وهنا كرهوا الطهارة من هذا الماء، إلا أن يكون سبب الكراهة عندهم وجود الخلاف في طهوريته، إن كان ذلك كذلك فهو قول ضعيف أيضاً، وقد قدمت أن الخلاف ليس من الأدلة الشرعية حتى يعلل به الكراهة، والله أعلم. ¬

(¬1) المبدع (1/ 39)، كشاف القناع (1/ 28)، الإنصاف (1/ 29)، مطالب أولي النهى (1/ 33).

الفرع الثاني في الوضوء من بئر ثمود.

الفرع الثاني في الوضوء من بئر ثمود. قيل: لا يجوز الوضوء من بئر ثمود إلا بئر الناقة، وهو مذهب الجمهور (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2). وقيل: يكره، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3). وسبب المنع أو الكراهة حديث ابن عمر، (98) فقد روى البخاري، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أنس ابن عياض، عن عبيد الله، عن نافع، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرض ثمود الحجر، فاستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة (¬4). واختلفوا هل ماؤها طهور أو نجس على قولين: ¬

(¬1) حاشية الدسوقي (1/ 34)، مواهب الجليل (1/ 49)، الخرشي (1/ 64)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 29)، المجموع (1/ 137)، مغني المحتاج (1/ 20)، ودقائق أولى النهى (1/ 17)، كشاف القناع (1/ 29،30)، مطالب أولي النهى (1/ 32)، وأما الحنفية فقد صرح ابن عابدين في حاشيته (1/ 133) بأنه لم يره لأحد من أئمتهم، قال: ينبغي كراهة التطهير أيضا أخذاً مما ذكرنا، وإن لم أره لأحد من أئمتنا بماء أو تراب من كل أرض غضب عليها، إلا بئر الناقة بأرض ثمود. اهـ (¬2) المحلى (مسألة: 154). (¬3) المجموع (1/ 137). (¬4) صحيح البخاري (3379)، صحيح مسلم (2981).

أحدها أنه نجس. قال في مواهب الجليل: قال القرطبي في شرح مسلم أمره - صلى الله عليه وسلم - بإراقة ما سقوا وعلف العجين للدواب حكم على ذلك الماء بالنجاسة إذ ذلك حكم ما خالطته النجاسة، أو كان نجساً ولولا نجاسة الماء لما أتلف الطعام المحترم شرعا. وأكثرهم على أنه ماء طهور، ولا يحكم بنجاسة الماء؛ لأن الحديث ليس فيه تعرض للنجاسة، وإنما هو ماء سخط وغضب، فلم يرووا عن النبي - عليه الصلاة والسلام- أنه أمرهم بغسل أوعيتهم وأيديهم منه وما أصاب ثيابهم، ولو وقع ذلك لنقل، على أنه لو نقل لما دل على النجاسة؛ لاحتمال أن يكون ذلك مبالغة في اجتناب ذلك الماء (¬1). وبناء على هذه العلة قاسوا عليه كل ماء في أرض مغضوب على أهلها، قال في مواهب الجليل: ويلحق بها كل ماء مغضوب عليه، كماء ديار قوم لوط، وماء ديار بابل لحديث أبي داود " أنها أرض ملعونة "، وماء بئر ذروان التي وضع فيها السحر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وماء بئر برهوت، وهي بئر باليمن لحديث ابن حبان شر بئر في الأرض برهوت. وبابل: هي المذكورة في سورة البقرة، وهي بالعراق، وبئر ذروان بفتح الذال المعجمة وسكون الراء هي بالمدينة، وبئر برهوت بفتح الموحدة وسكون الراء وهي بئر عميقة بحضرموت، لا يستطاع النزول إلى قعرها، والله أعلم (¬2). ولو تطهر، فقيل: يصح وضوؤه مع الأثم وقيل: لا يصح، والعلة إما تعبدية، أو كالماء المغصوب عند من يمنع ¬

(¬1) من مواهب الجليل (1/ 49) بتصرف. (¬2) المصدر السابق.

الوضوء بالماء الطهور إذا كان كسبه محرماً (¬1). وقال ابن فرحون في الألغاز: فإن قلت: ماء كثير باق على أصل خلقته لا يجوز الوضوء ولا الانتفاع به؟ قلت: هو ماء الآبار التي في أرض ثمود (¬2). والراجح أن ماء بئر ثمود طهور، وليس بنجس، ولكن لا يتوضأ منه الإنسان لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يهريقوا ما استقوا من بئرها لأنه ماء سخط وغضب، والله أعلم، ولو تطهر الإنسان منها ارتفع حدثه، والله أعلم. ¬

(¬1) حاشية الدسوقي (1/ 34)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 29)، شرح منتهى الإرادات (1/ 17). (¬2) مواهب الجليل (1/ 49).

الفصل الرابع في الماء المسخن

الفصل الرابع في الماء المسخن ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: الماء المسخن بنجس. المبحث الثاني: الماء المسخن بالشمس.

المبحث الأول المسخن بنجاسة

المبحث الأول المسخن بنجاسة اختلف العلماء في الماء المسخن بالنجاسة، فقيل: طهور بلا كراهة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: يكره، وهو مذهب المالكية (¬3). وأما الحنابلة فجعلوا الماء المسخن بالنجس له ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يتحقق وصول شيء من الدخان أو الرماد إلى الماء. فالمشهور من مذهب الحنابلة: أنه نجس سواء تغير أو لم يتغير. (¬4) التعليل: لأنه ماء يسير لاقى نجاسة، والماء اليسير إذا لاقى نجاسة فإنه ينجس ولو لم يتغير. وحد اليسير هو أن يكون الماء دون القلتين أي أقل من خمس قرب تقريباً. والصحيح هنا أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فلم تغيره فإنه طهور سواء كان يسيراً أو كثيراً، وسوف يأتي بسط الأقوال في هذه المسألة قريباً إن شاء الله. مع أن هذا الماء في الحقيقة لم تقع فيه نجاسة وإنما وقع فيه دخان ¬

(¬1) جاء في حاشية ابن عابدين (1/ 80) قوله: " وكره أحمد المسخن بالنجاسة " اهـ فلو كان عند الحنفية مكروهاً لذكره، ولما نسبه إلى أحمد. (¬2) روضة الطالبين (1/ 119)، المجموع (1/ 137)، أسنى المطالب (1/ 9)، تحفة المحتاج (9/ 387)، حاشية البجيرمي (1/ 80). (¬3) مواهب الجليل (1/ 80). (¬4) شرح منتهى الإرادات (1/ 16)، والمغني (1/ 29).

النجاسة، والروث النجس إذا تحول إلى دخان أصبح له حكم الدخان، والدخان كله طاهر كما أنكم ترون نجاسة الخمرة وإذا تحولت بنفسها إلى خل طهرت، حتى لو قيل: إنه لا يسلم من صعود أجزاء لطيفة مع الدخان تقع في الماء. فالجواب: أن هذه الأجزاء اللطيفة قد تحولت إلى رماد، فيكون لها حكم الرماد. الحالة الثانية: أن يكون الحائل حصيناً بحيث يعلم أن الدخان لم ينفذ إلى الماء. فالمشهور من المذهب أنه طهور مكروه. طهور: لأنه لم يقع فيه شيء لا طاهر ولا نجس. ومكروه: وللكراهة مأخذان عندهم: أحدهما: استعمال النجاسة، فحرارة الماء كانت عن طريق استعمال النجاسة، واستعمال النجاسة مكروه عندهم، وما ترتب على المكروه يكون مكروهاً. والثاني: احتمال وصول النجاسة. الحالة الثالثة: أن يكون الحائل غير حصين، ولكنه لم يعلم وصول النجاسة إليه، فحكمه على المذهب: طهور مكروه. طهور: لأن طهارة الماء متيقنة والنجاسة مشكوك فيها، ومكروه للتعليل السابق وهي أن حرارة الماء جاءت عن طريق استعمال النجاسة، واستعمال النجاسة مكروه فيكون ما ترتب على المكروه يكون مكروهاً (¬1).

_ (¬1) شرح منتهى الإرادات (1/ 16)، الإنصاف (1/ 30)، المحرر (1/ 2)، كشاف =

والصواب: مذهب الحنفية والشافعية أن الماء طهور بلا كراهة. قال ابن تيمية: وأما المسخن بالنجاسة فليس بنجس بإتفاق الأئمة إذا لم يحصل له ما ينجسه وأما كراهته ففيها نزاع (¬1). اهـ وأين الدليل على كراهة استعمال النجاسة في أمر لا تتعدى فيه النجاسة إلى غيرها، والمشهور من مذهب الحنابلة والمالكية أن جلد الميتة عندهم لا يطهر بالدباغ، ومع ذلك يقولون بجواز الانتفاع به في يابس. بل جاء الدليل على جواز الانتفاع بالنجاسة على وجه لا يتعدى كما في حديث جابر رضي الله عنه. (99) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح، وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه، ورواه مسلم (¬2). ¬

= القناع (1/ 27)، مجموع الفتاوى (21/ 69)، المغني (1/ 27)، المبدع (1/ 39، 40). (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 69). (¬2) البخاري (2236)، ومسلم (1581).

المبحث الثاني الماء المسخن بالشمس

المبحث الثاني الماء المسخن بالشمس لا أعلم أحداً قال إن الماء المسخن بالشمس ليس بطهور، ولكنهم اختلفوا هل يكره أم لا؟ فقيل: الماء المسخن بالشمس طهور غير مكروه،، وهو مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2)، ورجحه النووي من الشافعية، وهو مذهب الظاهرية. وقيل: يكره، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، والمالكية (¬5)،إلا أنهم اشترطوا شروطاً للكراهة (¬6). ¬

(¬1) دليل الطالب (1/ 3)، شرح العمدة (1/ 81)، الإنصاف (1/ 24)، منار السبيل (1/ 17)، كشاف القناع (1/ 26)، الكافي (1/ 3)، المبدع (1/ 37). (¬2) مواهب الجليل (1/ 78). (¬3) البحر الرائق (1/ 30)، شرح فتح القدير (1/ 36). (¬4) قال الشافعي في الأم (1/ 16): ولا أكره الماء المشمس إلا من جهة الطب. اهـ وانظر المجموع (1/ 133)، أسنى المطالب (1/ 8)، شرح البهجة (1/ 27)، كفاية الأخيار (1/ 18). (¬5) منح الجليل (1/ 40)، الخرشي (1/ 78)، التاج والإكليل (1/ 78). (¬6) اشترط المالكية والشافعية شروطاً للكراهة، منها: الأول: أن يكون الماء في الأواني المنطبعة كالنحاس والحديد والرصاص، وفي كتب المالكية كل الأواني التي تمتد تحت المطرقة غير النقدين؛ لأن الشمس إذا أثرت فيها خرجت منها زهومة تعلو على وجه الماء يتولد منها البرص، فلا يكره المشمس في الحياض والبرك. الثاني: أن يكون في البلاد الحارة كالحجاز. الثالث: اشترط بعض الشافعية قصد التشميس، فإن لم يقصد تشميسه فلا يؤثر، وليس هذا بشرط عند المالكية لأن العلة خوف البرص وهذا لا علاقة له بالنية.

دليل من قال: يكره. الدليل الأول: (100) ما رواه الدارقطني، قال: نا الحسين بن إسماعيل وآخرون قالوا: حدثنا سعدان بن نصر، نا خالد بن إسماعيل المخزومي، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سخنت ماء في الشمس، فقال: لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص. قال الدارقطني: غريب جداً، خالد بن إسماعيل متروك (¬1). ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 38). وهذا الحديث مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، ويرويه عن هشام أربعة هالكين: الأول: خالد بن إسماعيل، كما في إسناد الباب. أخرجه الدراقطني في سننه (1/ 38)، من طريق سعدان بن نصر. وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 41، 42) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 6)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 59)، من طريق العلاء بن مسلمة، ثنا خالد بن إسماعيل به. الثاني: وهب بن وهب، كما في المجروحين لابن حبان (3/ 75)، وهو كذاب، قال ابن حبان: كان ممن يضع الحديث على الثقات، كان إذا جنه الليل سهر عامة ليله يتذكر الحديث، ويضعه، ثم يكتبه، ويحدث به. وقال ابن معين: كذاب. المرجع السابق. الثالث: الهيثم بن عدي، كما في الموضوعات لابن الجوزي (2/ 79)، التحقيق (1/ 59). =

الدليل الثاني: (101) ما رواه الإمام الشافعي في الأم، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: أخبرني صدقة بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، أن عمر كان يكره الاغتسال بالماء المشمس، وقال: إنه يورث البرص (¬1). ¬

= الرابع: محمد بن مروان السدي، كما في مجمع البحرين في زوائد المعجمين (1/ 311)، وهو متروك. كل هؤلاء الهالكين رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وجاء الحديث من غير طريق هشام، فقد رواه الدارقطني (1/ 38) من طريق عمرو بن محمد الأعشم، نا فليح، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ بالماء المشمس، أو يغتسل به، وقال: إنه يورث البرص. قال الدارقطني: عمرو بن محمد الأعشم منكر الحديث، ولم يروه عن فليح غيره، ولا يصح عن الزهري. قال الذهبي عن حديث الحميراء: حديث موضوع. السير (2/ 168). وقال ابن القيم في المنار المنيف: ومنها أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم مثل بحديث عائشة في النهي عن الوضوء بالماء المشمس، وقال: كل حديث فيه يا حميراء، أو ذكر الحميراء، فهو كذب مختلق. المنار المنيف (ص: 60، 61). وقول ابن القيم متعقب بما استثناه المزي رحمه الله حيث قال: كل حديث فيه ذكر الحميراء باطل إلا حديثاً واحداً في الصوم في سنن النسائي. واستثنى ابن كثير حديثاً آخر عند النسائي أيضاً عن أبي سلمة، قال: قالت عائشة: دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال: يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم. انظر التحديث بما قيل لا يصح فيه حديث، للشيخ بكر أبو زيد. (¬1) الأم (1/ 3).

[والحديث ضعيف جداً] (¬1). فالصحيح أن المسخن بالشمس طهور غير مكروه؛ لأن الكراهة حكم شرعي يقوم على دليل شرعي، أو نظر صحيح، ولا يوجد شئ من ذلك في هذه المسألة، ولو كان يورث البرص لكان التطهر منه محرماً وليس مكروهاً، لأن البرص علة ومرض، والإنسان الأبرص ليس سوي البدن، ويعتبر عيباً في المرأة والرجل يجب بيانه. ¬

(¬1) في إسناده: إبراهيم بن محمد بن يحيى، قال فيه أحمد: كان قدرياً معتزلياً، جهمياً، كل بلاء فيه. وقال بشر بن المفضل: سألت فقهاء المدينة عنه كلهم يقولون: كذاب، أو نحو هذا. وقال يحيى بن معين: كان فيه ثلاث خصال: كان كذاباً، وكان قدرياً، وكان رافضياً. تهذيب الكمال (2/ 184). ولا عبرة بتوثيق الشافعي رحمه الله؛ لأن الجرح إذا كان مفسراً كان مقدماً على التعديل، ولو كان من إمام واحد إذا لم يعرف أنه متشدد في الجرح، فكيف إذا اتفق الأئمة المعتبرون على تركه كالإمام أحمد والبخاري ويحيى بن معين ويحيى بن سعيد القطان والإمام مالك، مع أن في السند صدقه بن عبد الله، وهو ضعيف.

الباب التاسع في تطهير الماء المتنجس

الباب التاسع في تطهير الماء المتنجس تمهيد: قبل أن نتكلم عن تطهير الماء المتنجس، ينبغي أن نعلم هل نجاسة الماء نجاسة عينية أم نجاسة حكمية. الصحيح أن نجاسة الماء حكمية، فهو كالثوب النجس؛ لأنه يطهر غيره فنفسه من باب أولى. وهذا اختيار ابن تيميه (¬1)، وصوبه فى الانصاف (¬2). وقيل: إن نجاسته نجاسة عينية. قال ابن مفلح فى الفروع: وهو ظاهر كلام الأصحاب وتعقبه المرداوي في تصحيح الفروع (¬3). وفي قوله إنها عينيه نظر، لأن الحنابلة قالوا: النجاسة العينية لايمكن تطهيرها، وهذا يمكن تطهيره (¬4). وقيل: نجاستة نجاسة مجاورة سريعة الإزالة، ولهذا يجوز بيعه (¬5). ¬

(¬1) الفروع (1/ 87). (¬2) الإنصاف (1/ 62، 63). (¬3) الفروع (1/ 87). (¬4) تصحيح الفروع (1/ 87). (¬5) الإنصاف (1/ 63).

القول الأول: مذهب الحنفية.

خلاف العلماء في كيفية تطهير الماء المتنجس اختلف العلماء في كيفية تطهير الماء المتنجس على أقوال، مع اتفاقهم على أن الماء الكثير لا ينجس إلا بالتغير، واختلفوا في القليل هل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، أو يشترط أن يتغير بها، وقد سبق تحرير الخلاف. القول الأول: مذهب الحنفية. فرق الحنفية بين ماء البئر وغيره من المياه، فمسائل البئر عندهم على خلاف القياس، بينما الجمهور لم يفرقوا بين ماء البئر وغيره من المياه. فإذا وقعت في الأواني أو في الحوض الصغير نجاسة، فلهم في تطهير الماء بشرط زوال تغيره إن وجد ثلاثة أقوال: قيل: إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه طهر، وإن قل إذا كان الخروج حال دخول الماء فيه؛ لأنه بمنزلة الجاري. وقيل: لا يطهر إلا بخروج ما فيه. وقيل: لا يطهر إلا بخروج ثلاثة أمثال ما كان فيه من الماء، وسائر المائعات كالماء في القلة والكثرة (¬1). تعليل الحنفية: أن الماء النجس إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه، وكان خروج الماء حال دخول الماء الجديد فيه؛ أصبح بمنزلة الماء الجاري، والماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير. القول الثاني: مذهب المالكية. ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 23)، بدائع الصنائع (1/ 87)، شرح فتح القدير (1/ 81).

قالوا: الماء المتغير بالنجاسة إما أن يزول تغيره بنفسه، أو بصب ماء مطلق عليه (¬1)، أو بإضافة تراب ونحوه. فإن تغير الماء بنفسه، فإما أن يكون الماء قليلاً أو كثيراً، ولم يجدوا فى ذلك حداً بين القليل والكثير، فالقليل أواني الوضوء ونحوها، والكثير ما عداها. فإن كان قليلاً فهو نجس اتفاقاً عندهم. وإن كان الماء الذى تغير بنفسه كثيراً فلأصحاب مالك فيه قولان: الأول: أنه طهور؛ لأن الحكم بالنجاسة إنما هو لأجل التغير وقد زال والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، كالخمر يتخلل، وقد رجح هذا ابن رشد. وقيل: إنه نجس؛ لأن النجاسة عندهم لا تزال إلا بالماء المطلق، وليس حاصلاً هنا فيستمر بقاء النجاسة. ومع أنهم حكموا بنجاسته، إلا أنهم قيدوا الحكم بالنجاسة مع وجود غيره، أما إذا لم يوجد إلا هو فيستعمله بلا كراهة مراعاة للخلاف. قلت: وهذا يدل على ضعف القول بنجاسته عندهم؛ لأنهم لو جزموا بالنجاسة لما صح استعماله مطلقاً، سواء وجد غيره أم لم يوجد؛ لأنه إذا لم يوجد إلا ماء نجس صار الى التيمم، كما هو الحال إذا وجد ماء متغير بالنجاسة، فهذا الاستثناء دليل على ضعف القول بالنجاسة عندهم، والله أعلم. وإن زال تغير الماء بالنجاسة بإضافة ماء مطلق، فهو طهور اتفاقاً عندهم، ¬

(¬1) وهذا القيد أخرج الماء النجس والماء الطاهر؛ لأنه ليس ماء مطلقاً عندهم.

القول الثالث: مذهب الشافعية.

حتى ولو كان المضاف قليلاً، ولا يشترط أن يبلغ الماء قلتين عندهم فلا يشترطون إلا شرطين: أحدهما: أن يكون الماء المضاف ماء مطلقاً أى ليس ماء نجساً ولا طاهراً. الثاني: أن يزول تغيره بالإضافة. وإن زال تغيره بإلقاء طين فينظر: فإن لم يتغير الماء بالطين فقد طهر، وإن تغير الماء بما ألقي فيه فالأظهر النجاسة عملاً بالاستصحاب (¬1). القول الثالث: مذهب الشافعية. الشافعيه يفرقون بين الماء القليل والماء الكثير إذا لاقى نجاسة ولم يتغير، فينجس الأول عندهم دون الثانى، وعلى هذا يقسم الشافعية الماء إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكون الماء أكثر من قلتين، فلا ينجس إلا بالتغير، وفى تطهيره ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يزول تغيره بنفسه؛ لأن الماء يطهر غيره، فكونه يطهر نفسه من باب أولى. الحالة الثانية: أن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه، سواء كان المضاف طاهراً أم نجساً، قليلاً أم كثيراً، صب عليه الماء أو نبع فيه، فإذا زال تغيره ¬

(¬1) انظر الخرشي (1/ 80، 81) ومنح الجليل (1/ 42، 43) وشرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 20، 21) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 46،47)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 41، 42).

طهر. الحالة الثالثة: أن يزول تغيره بنزح بعضه فإنه يطهر، بشرط أن يكون الباقي بعد النزح قلتين فأكثر غير متغير، فإن بقي دونهما لم يطهر بلا خلاف عند الشافعية. القسم الثاني: من الماء النجس: أن يكون الماء قلتين، وهذا لا ينجس إلا بالتغير. وفى التطهير له حالتان: الأولى: أن يزول تغيره بنفسه. الثانية: أن يزول تغيره بإضافه ماء آخر عليه. ولو كان المضاف نجساً أو قليلاً. القسم الثالث: أن يكون الماء المتنجس دون القلتين، وهذا الماء ينجس عندهم بمجرد ملاقاة النجاسة، ولو لم يتغير. ففي تطهيره طريقة واحدة، وهي أن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه حتى يبلغ قلتين، حتى ولو كان هذا الماء المضاف نجساً، ما دام أنه إذا بلغ قلتين فقد زال تغيره فإنه يطهر. أما إذا أضيف إليه ماء دون القلتين ففيه وجهان عندهم: الأول: قيل: يكون طاهراً غير مطهر. لماذا كان طاهراً، وقد لاقى النجاسة، وهو قليل؟ قالوا: لأن الماء القليل إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، أما إذا ورد الماء على النجاسة كما هو الحال هنا فلا ينجس. ولماذا إذا لا يكون طهوراً؟ قالوا: لأنه ماء استعمل فى إزالة النجاسة.

القول الرابع: مذهب الحنابلة.

الوجه الثاني: قالوا لا يطهر، لأنه ماء استعمل في إزالة النجاسة، هذه الطرق في تطهير الماء النجس بالماء عند الشافعية. أما تطهيره بالتراب فقد وافقوا المالكيه. قالوا: إذا طرح فيه تراب وزال تغيره. فإما أن يكون الماء كدراً أو صافياً، فإن كان صافياً فقد طهر جزماً. وإن كان الماء كدراً بما ألقي فيه. فقيل: يطهر؛ لأن التغير قد زال فصار كما لو زال بنفسه أو بماء آخر. وصحح الأكثرون أنه لا يطهر (¬1). القول الرابع: مذهب الحنابلة. طريقة الحنابلة فى تطهير الماء المتنجس بالماء قريبة من تقسيم الشافعية إلا أنهم خالفوهم فى مواضع يسيرة. فقسم الحنابلة الماء المتنجس أولاً إلى قسمين: الأول: قسم تنجس ببول آدمي أو عذرته المائعه. الثاني: وقسم تنجس بسائر النجاسات. أما الماء الذي تنجس بغير بول آدمي وعذرته المائعة فإنه يمكن أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكون الماء دون القلتين. وفي هذه الحال إما أن تكون نجاسته بالتغير، أو بالملاقاة ولو لم يتغير. ¬

(¬1) المجموع (1/ 183 - 191)، ومغني المحتاج (1/ 22،23)، والحاوي (1/ 339)، روضة الطالبين (1/ 20، 21)، منهاج الطالبين (1/ 3)، شرح زبد ابن رسلان (1/ 28، 29)، المهذب (1/ 7).

فيشترط لتطهير الماء المتنجس بالملاقاة شرط واحد، هو أن تضيف إليه قلتين من الماء الطهور، وبالتالي يصبح طهوراً فإن أضفت إليه دون القلتين لم يطهر. التعليل: لأن الماء القليل لا يدفع النجاسة عن نفسه فكيف يدفعها عن غيره لقوله - صلى الله عليه وسلم - فى حديث ابن عمر: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1). لوقال قائل: لنفرض أن الماء المتنجس بالملاقاة قلة واحدة فأضفت إليها قلة أخرى حتى أصبح الماء قلتين فهل يطهر؟ أكثر الأصحاب على أنه لا يطهر، وهو المشهور من المذهب، وحكى بعضهم وجهاً بالتطهير، وصوبه صاحب الإنصاف. وإن كانت نجاسة الماء القليل بالتغير ففي هذه الحالة تضيف إليه قلتين من الماء الطهور ثم تنظر هل زال التغير أم بقي؟ فإن زال فقد طهر، وإن لم يزل فإنك تضيف إليه حتى يذهب تغيره. أما إذا أضفت إليه دون القلتين فإن الماء يكون نجساً حتى ولو زال تغيره وهذا هو المذهب. وقيل: إنه يكون طهوراً حتى على قواعد المذهب. أو القائلين بالنجاسة ولو لم يتغير. قالوا: لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا كانت واردة عليه وهنا قد ورد الماء على النجاسة. ولو قلنا بنجاسة الماء هنا لقلنا بنجاسة الماء إذا صب على ثوب نجس إلا أن يكون قلتين، ولما كان الدلو مطهراً لبول الأعرابي، لأنه بالتأكيد ليس قلتين ولا حتى قلة. هذه الطريقة في تطهير الماء عند الأصحاب رحمهم الله إذا ¬

(¬1) سبق الكلام عليه، وأنه حديث صحيح.

كان الماء أقل من قلتين. الحالة الثانية: إذا كان الماء قلتين، فله طريقان: الأول: أن تضيف إليه قلتين فأكثر حتى يذهب تغيره بالنجاسة، وقد علمت مما سبق لماذا يشترطون إضافة القلتين، ولم لا يعتبرون ما دون القلتين؟ فلا داعي لإعادته. وهذاالشرط خالفوا فيه الشافعية. الأمر الثاني: هل يزول تغيره بنفسه، فالمشهور من المذهب أنه إذا زال تغيره بنفسه، وهو قلتان طهر، وفيه وجه آخر في المذهب أنه لا يطهر بناء على أن النجاسة في المذهب لا تطهر بالاستحالة، وهذا على رأي من يرى أن النجاسة نجاسة عينية وليست حكمية. وقيل: إنه طاهر، لأنه لا يكون طهوراً وقد أزيلت به النجاسة، ولا يكون نجساً وهو ماء كثير غير متغير، قاسوه على الماء القليل إذا كان آخر غسلة زالت بها النجاسة. الحالة الثالثة: إذا كان الماء أكثر من قلتين فلهم ثلاثة طرق: الأولى: أن تضيف إليه قلتين بشرط أن يزول التغير وقد سبق لكم التعليل من اشتراط القلتين. الثانية: أن يزول تغيره بنفسه، وهذا هو المشهور من المذهب وسبق لكم في المذهب ثلاثة أوجه. الثالثة: أن ينزح منه فيبقى بعد النزح قلتين فأكثر غير متغير. مثاله: عندنا ماء ثلاث قلال أو أربع ... سقطت فيه ميته فغيرت رائحة الماء. فقام رجل فنزح منها ماء حتى ذهبت رائحة النجاسة. فهل يطهر الماء؟ الجواب: إن كان الماء الباقي قلتين فأكثر فقد طهر.

وهذه هى الطريقة في تطهير الماء على المشهور من مذهب الامام أحمد رحمه الله. وأما التراب ففيه وجهان: الأول: أنه لا يطهر. قال في الانصاف: على الصحيح من المذهب لأن النجاسة عندهم لا تزال إلا بالماء المطلق. قال ابن عقيل: التراب لا يطهر لأنه يستر النجاسة بخلاف الماء. الثاني: يطهر بذلك، لأن علة نجاسته التغير، وقد زال فيزول الحكم بنجاسته كما لو زال بمكثه (¬1). القسم الثاني: من الماء النجس: أن يكون متنجساً ببول آدمي أو عذرته المائعة، فإن كانت النجاسة لم تغيره وكان لا يشق نزحه فتطهيره بإضافة ما يشق نزحه إليه وإن كان الماء يشق نزحه، وقد تغير بالنجاسة فله ثلاث حالات: الأولى: أن يضاف إليه ما يشق نزحه. الثانية: أن يزول تغيره بنفسه. الثالثة: أن ينزح منه فيبقى بعده قلتان غير متغيرتين (¬2). خلاصة ما سبق: التطهير تارة يكون بالإضافة، وتارة يكون بنفسه، وتارة يكون بالنزح. فإن كان التطهير بالإضافة، فيشترط له شروط: ¬

(¬1) المغني (1/ 52)، المبدع (1/ 58)، الإنصاف (1/ 66)، المحرر (1/ 2،3)، الكافي (1/ 10)، كشاف القناع (1/ 38). (¬2) المبدع (1/ 56)، وانظر المراجع السابقة.

الأول: أن يكون الماء طهوراً، وهذا شرط عند المالكية، والحنابلة، وليس بشرط عند الشافعية، إذ لا مانع أن تضيف عندهم ماء نجساً إذا كان بإضافته سوف يزول تغير الماء بالنجاسة. الثاني: أن يكون المضاف كثيراً _ قلتان فأكثر - وهذا شرط للحنابلة، وليس بشرط عند المالكية، والشافعية. الثالث: أن يبلغ الماء قلتين بعد الإضافة. وليس بشرط عند المالكية، وأما الحنابلة فلا يكفي هذا عندهم لأنهم يشترطون أن يكون المضاف نفسه قلتين. تطهير الماء بزوال تغيره بنفسه. المالكية، والشافعية، والحنابلة يشترطون أن يكون الماء كثيراً، والمالكية لم أقف على حد لهم في القليل والكثير، بينما الحنابلة والشافعية يحدونه بالقلتين. أما التغير بالنزح، فالشافعية والحنابلة يشترطون أن يبقى بعد النزح ماء كثير غير متغير. والصحيح: أنه متى زال تغير الماء على أي وجه، قليلاً كان أو كثيراً، حتى ولو كان عن طريق المعالجة كالتقطير مثلاً ... فإنه يطهر؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ولا علة للتنجس إلا لكونه متغيراً بالنجاسة وقد زال، والله أعلم.

الآنية

باب الآنية تمهيد: تعريف الآنية: الآنِيَةُ جَمْعُ إنَاءٍ وَجَمْعُ الآنِيَةِ الأَوَانِي، فَالإِنَاءُ مُفْرَدٌ، وَجَمْعُهُ: آنِيَةٌ، وَالأَوَانِي: جَمْعُ الْجَمْعِ فَلا يُسْتَعْمَلُ فِي أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ إلا مَجَازًا (¬1). وقال في المغرب: الإناء: وعاء المال، والجمع القليل: آنية، والكثير: الأواني، ونظيره: سوار وأسورة وأساور (¬2). قال النووي: وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْغَزَالِيِّ رحمه الله وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ الآنِيَةَ فِي الْمُفْرَدِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي اللُّغَةِ , قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَمْعُ الإِنَاءِ آنِيَةٌ، وَجَمْعُ الآنِيَةِ الأَوَانِي، كَسِقَاءٍ وَأَسْقِيَةٍ وَأَسَاقٍ (¬3). وَأَصْلُ أَوَانِي أَأنِي بِهَمْزَتَيْن، أُبْدِلَتْ ثَانِيَتُهُمَا وَاوًا كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِهِمَا، كَأَوَادِمَ فِي آدَمَ (¬4). قال في اللسان: والألف في آنية: مبدلة من الهمزة، وليست بمخففة عنها، لانقلابها في التكسير واواً (¬5). مناسبة ذكر باب الآنية في كتاب الطهارة. بعض الفقهاء يذكر باب الآنية في كتاب الأطعمة والأشربة، فهو به أليق ¬

(¬1) مختار الصحاح (ص: 12)، المجموع (1/ 267). (¬2) المغرب (ص: 47). (¬3) المجموع (1/ 267). (¬4) مطالب أولي النهى (1/ 55). (¬5) لسان العرب (14/ 48).

من باب الطهارة، والشافعية والحنابلة يذكرونه في باب الطهارة، ويرجع هذا والله أعلم إلى أن هناك بعض الأواني عندهم محرمة الاستعمال كأواني الذهب والفضة، وبعض الأواني نجسة، كالأواني من جلود الميتة فالدباغ عند الحنابلة لا يطهرها، ومثلها آنية بعض الكفار ممن يستعملون النجاسات، فلما كانت بعض الآنية محرمة، وبعضها نجسة، وربما تطهر منها المسلم، فهل يصح تطهره أم لا؟ لهذا السبب، والله أعلم، ناسب أن يتكلموا على باب الآنية في باب الطهارة. وأما قول بعضهم: إن الماء سائل، يحتاج إلى ظرف، فلما تكلموا عن الماء، تكلموا عن ظرفه، فهذا قول ضعيف؛ لأن الطهارة بالماء ليس من شرطها كونه في ظرف، فقد يتوضأ الأنسان من الآبار والعيون، لكن التوجيه الأول أقوى، والله أعلم.

الفصل الأول في الأواني الثمينة من غير الذهب والفضة

الفصل الأول في الأواني الثمينة من غير الذهب والفضة اختلف العلماء في حكم الأكل والشرب في الأواني الثمينة من غير الذهب والفضة كالياقوت والبلور والعقيق والزبرجد: فقيل: يجوز الأكل والشرب والاستعمال والاتخاذ، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والقول المشهور عند المالكية (¬2)، والأصح عند الشافعية (¬3)، والمشهور عند الحنابلة (¬4). وقيل: يكره استعمالها، وهو قول في مذهب المالكية (¬5). وقيل: يحرم الأكل والشرب والاستعمال في الأواني التي يكثر ثمنها، ¬

(¬1) البناية (1/ 82)،. (¬2) انظر الشرح الكبير للدسوقي (1/ 64)، منح الجليل (1/ 59)، الخرشي (1/ 100،101). وقال ابن عبد البر في الكافي (ص: 19): " كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة لنهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذها ". قلت: لم يأت نهي صريح من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الاتخاذ إنما نهى عن الأكل والشرب سواء قلنا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نص على الأكل، أو لأن الأكل بمعنى الشرب، وما عداه مسكوت عنه، فهل يدخل قياساً أم لا؟ على خلاف سوف يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. (¬3) قال النووي في المجموع (1/ 308): وهل يجوز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة كالياقوت والفيروز والعقيق والزمرد، وذكر أشياء، ثم قال: فيها قولان: أصحها باتفاق الأصحاب الجواز، وهو نصه في الأم، ومختصر المزني، وانظر الحاوي الكبير (1/ 78)، ونهاية المحتاج (1/ 102). (¬4) الإنصاف (1/ 79)، الفروع (1/ 69)، الكافي في فقه أحمد (1/ 17)، المبدع (1/ 65)، المحرر (1/ 7). (¬5) مواهب الجليل (1/ 129).

دليل من قال بجواز استعمال الأواني الثمينة.

لنفاسة جوهرها. اختاره بعض المالكية (¬1)، وحكي قولاً في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: إن كان كثر ثمنها لحسن صناعتها، فاستعمالها حلال، وإن كان لنفاسة جوهرها، ففيها قولان: التحريم والإباحة. ذكر ذلك الماوردي من الشافعية (¬3). دليل من قال بجواز استعمال الأواني الثمينة. الدليل الأول: الأصل في الأشياء الإباحة، قال سبحانه وتعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} (¬4). وقال سبحانه وتعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 129)، حاشية الدسوقي (1/ 64). (¬2) المجموع (1/ 308). (¬3) قال الماوردي: أن يكون فاخراً ثميناً -يعني الأواني- فذلك ضربان: أحدهما: أن تكون كثرة ثمنه لحسن صناعته، ولنفاسة جوهره كأواني الزجاج المحكم، والبلور المخروط، فاستعمالها حلال، لأن ما فيه من الصنعة ليس بمحرم، وهو قبل الصنعة ليس بمحرم. والضرب الثاني: أن تكون كثرة ثمنه لنافسة جوهره، كالعقيق، والفيروزج، والياقوت، والزبرجد. ففيها قولان: أحدهما: أن استعمالها حرام، لأن المباهاة بها أعظم والمفاخرة في استعمالها أكثر. والقول الثاني: أن استعمالها حلال، لاختصاص خواص الناس بمعرفتها، وجهل أكثر العوام بها. (¬4) البقرة: 29.

الدليل الثاني

والطيبات من الرزق} (¬1). وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (¬2). الدليل الثاني: تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - المنع بالذهب والفضة يقتضي إباحة ما عداهما، (102) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (¬3). قال ابن حزم: فصح أن كل مسكوت عن ذكره بتحريم أو أمر فهو مباح (¬4). الدليل الثالث: حكي الإجماع على جواز استعمال الأواني من غير الذهب والفضة، قال ابن جحر في الفتح: وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الإجماع على الجواز، وتبعه الرافعي ومن بعده (¬5). ¬

(¬1) الأعراف: 32. (¬2) الأنعام: 119. (¬3) صحيح البخاري (6744)، مسلم (1337). (¬4) المحلى (2/ 224). (¬5) الفتح (10/ 100).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: أن العلة في الذهب والفضة هي الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، وهي غير موجودة هنا، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس (¬1). الدليل الخامس: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من آنية مختلفة، فقد توضأ من آنية من حجارة، ومن تور من صفر، ومن الجلود، ومن قدح رحراح أي الواسع المنبسط، ومن قصعة ومن جفنة، قال صاحب كشاف القناع: فثبت الحكم فيها، لفعله - صلى الله عليه وسلم - وفي معناها قياساً؛ لأنه مثلها (¬2). وإليك الأحاديث الدالة على ما ذكرنا، منها: (103) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن منير، سمع عبد الله بن بكر، قال: حدثنا حميد، عن أنس قال: حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار إلى أهله، وبقي قوم، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمخضب من حجارة فيه ماء، فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فتوضأ القوم كلهم. قلنا: كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة. وأخرجه مسلم واللفظ للبخاري (¬3). (104) ومنها: ما أخرجه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، قال: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تور من صفر، فتوضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرتين مرتين، ومسح برأسه فأقبل به وأدبر، ¬

(¬1) شرح الزركشي (1/ 85). (¬2) كشاف القناع (1/ 50، 51). (¬3) صحيح البخاري (195)، ومسلم (2279).

الدليل السادس

وغسل رجليه، وأخرجه مسلم (¬1). (105) ومنها ما أخرجه البخاري، قال: حدثنا مسدد، قال حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بإناء من ماء فأتي بقدح رحراح، فيه شيء من ماء، فوضع أصابعه فيه، قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه، قال أنس: فحزرت من توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين، ورواه مسلم (¬2). (106) وجاء في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من شن معلق، وثبت أنه توضأ من قصعة وجفنة، وهذه الأحاديث سبق تخريجها في كتاب المياه بتفصيل مطول. الدليل السادس: قالوا: كون بعض الأواني من الجوهر أغلى ثمناً من الذهب والفضة لا يكفي في تحريمها، فإنه يحرم الحرير وإن قل ثمنه بخلاف غيره وإن بلغ ثمنه أضعاف ثمن الحرير، وكذلك يباح فص الخاتم جوهرة ولو بلغ ثمنها ما بلغ، ويحرم ذهباً ولو كان يسيراً. دليل من قال يحرم استعمال الأواني الثمينة. قالوا: إن علة المنع في استعمال أواني الذهب والفضة هي السرف والخيلاء، فيمنع في الأواني الثمينة للعلة ذاتها. والجواب على ذلك بأن علة المنع في الذهب والفضة مختلف فيها كما سيأتي، والإسراف يختلف من بلد إلى بلد، ومن وقت لآخر، والتحريم ليس ¬

(¬1) صحيح البخاري (197)، ومسلم (235). (¬2) صحيح البخاري (200)، ومسلم (2279).

دليل من قال يكره استعمالها.

لذات الأواني، بخلاف الذهب والفضة. كما أن التحريم للإسراف عام في كل شيء من المباحات، فمتى خرج المباح إلى الإسراف أصبح محرماً. قال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (¬1). جاء في سير أعلام النبلاء: " قال شهر بن حوشب: من ركب مشهوراً من الدواب، ولبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه، وإن كان كريماً. قال الذهبي: من فعله ليعز الدين، ويرغم المنافقين، ويتواضع مع ذلك للمؤمنين، ويحمد رب العالمين فحسن. ومن فعله بذخاً وتيهاً وفخراً أذله الله، وأعرض عنه، فإن عوتب ووعظ فكابر، وادعى أنه ليس بمختال ولا تياه، فأعرض عنه؛ فإنه أحمق مغرور بنفسه (¬2). وكلام شهر وإن كان مليحاً لكن كلام الذهبي أملح، إلا إن كان يقصد شهر رحمه الله بالشهرة ما كان منهياً عنه لشهرته، فهذا باب آخر، والله أعلم. دليل من قال يكره استعمالها. قالوا: ما دام أن العلة في النهي هي السرف فلا يقتضي ذلك التحريم، وإنما ذلك فقط حقه أن يكون مكروهاً (¬3). قلت: العلة مختلف فيها كما سيأتي، ولو ثبت أن العلة هي السرف لم ¬

(¬1) الأعراف: 31. (¬2) السير (4/ 375، 376). (¬3) مواهب الجليل بتصرف يسير (1/ 129).

يمنع من التحريم، لأن الإسراف محرم. قال تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} (¬1). وقال سبحانه: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (¬2). فالراجح: جواز استعمال الأواني الثمينة إذا لم يصل إلى حد السرف. ¬

(¬1) الأعراف: 31. (¬2) الإسراء: 27.

الفصل الثاني في الأواني من الذهب والفضة

الفصل الثاني في الأواني من الذهب والفضة ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة. المبحث الثاني: في حكم استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب. المبحث الثالث: في حكم الطهارة من آنية الذهب والفضة. المبحث الرابع: في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة.

المبحث الأول في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة

المبحث الأول في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة اختلف العلماء في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة: فقيل: لا يجوز الأكل والشرب فيهما، وحكي إجماعاً، ولا يثبت الإجماع، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4). وقيل: النهي عن الأكل والشرب للكراهة، وليس للتحريم، وهو قول الشافعي في القديم وقد رجع عنه (¬5)، كما أنه رواية عن الإمام أحمد (¬6). وقيل: يحرم الشرب خاصة دون الأكل، وهو مذهب داود الظاهري، ولعله لم يبلغه أحاديث النهي عن الأكل (¬7). ¬

(¬1) فتح القدير (10/ 6)، البحر الرائق (1/ 210)، بريقة محمودية (4/ 102)، حاشية ابن عابدين (6/ 341)، الفتاوى الهندية (5ـ308). (¬2) التمهيد (16ـ104)، الكافي (1ـ19)، الفواكه الدواني (1/ 319)، المنتقى (7ـ234،235)، أحكام القرآن لابن العربي (4ـ96). (¬3) الأم (1ـ10)، الأوسط (1ـ318)،. (¬4) الإنصاف (1/ 79)، الفروع (1/ 69)، الكافي في فقه أحمد (1/ 17)، المبدع (1/ 65)، المحرر (1/ 7). (¬5) المجموع (1ـ302، 306)، شرح النووي لصحيح مسلم (14ـ41)، الفتح (10ـ97). (¬6) الإنصاف (1/ 80). (¬7) الفتح (10ـ97)، نيل الأوطار (1ـ67).

دليل من قال بالتحريم.

دليل من قال بالتحريم. الدليل الأول: (107) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت مجاهداً يقول: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين، كأنه يقول: لم أفعل هذا، ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة. ورواه مسلم (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (5426)، مسلم (2067). وانفرد مجاهد بذكر الأكل، وقد اختلف عليه في ذكره، وقد رواه الحكم بن عتيبة ويزيد بن زياد عن ابن أبي ليلى ولم يذكرا الأكل، ورواية الحكم في صحيح البخاري (5632)، ومسلم كما سيأتي. كما أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عكيم، عن حذيفة به، ولم يذكر الأكل، وقد قبل البخاري زيادة مجاهد، واعتبرها زيادة من ثقة، وإليك تخريج رواياتهم: أما رواية مجاهد فقد أخرجها الحميدي (440) والبخاري (5837) ومسلم (2067)، والنسائي في الكبرى (9615)، وفي الصغرى (5301)، والمنتقى لابن الجارود (865)، وأبو عوانة (5/ 223)، والدارقطني (4/ 293)، والبيهقي (1/ 27،28) و (2/ 422)، من طريق ابن أبي نجيح. وأخرجها أحمد (5/ 397،404) والدارمي (2130)، والبخاري (5633) ومسلم (2067)، والنسائي في الكبرى (6870) وأبو عوانة في مسنده (5/ 214) من طريق عبد الله بن عون. وأخرجه البخاري (5426) ومسلم (2067) والنسائي في الكبرى (6631) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأبو عوانة في مسنده (5/ 214)، والبيهقي (1/ 27) من طريق سيف بن سليمان. وأخرجه أحمد (5/ 404)، ومسلم (2067)، والنسائي في الكبرى (6871) من طريق منصور. وأخرجه ابن ماجه (3414) من طريق أبي بشر كلهم عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن حذيفة مرفوعاً واختلف على مجاهد فرواه عبد الله بن عون وأبو بشر بدون ذكر الأكل بالاقتصار على ذكر الشرب. ورواه ابن أبي نجيح ومنصور وسيف عن مجاهد بذكر الأكل مع الشرب. كما رواه البزار (7/ 287)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 58)، والخطيب في تاريخه (11/ 421) والمحاملي في أمالية (317) من طريق محمد بن طلحة بن مصرف، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة بالاقتصار على الشرب فقط. وهو في صحيح ابن حبان (5343) من طريق شعبة عن الأعمش مختصراً. ورواه البرزا أيضاً (2/ 287) من طريق علي بن عابس، عن الأعمش بذكر الشرب فقط، وعلي بن عابس ضعيف. قال البزار: وحديث شعبة عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة لا نعلم رواه عن شعبة إلا أبو قتيبة، والحديث يعرف من حديث محمد بن طلحة، وقد تابع محمد بن طلحة علي بن عابس. وقد صوب الدارقطني رواية الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة في علله (2/ 161). ورواه قتادة عن حذيفة ولم يسمع منه مقتصراً على ذكر الشرب فقط ذكره معمر بن راشد في الجامع الملحق بمصنف عبد الرزاق (11/ 67) كما أن رواية معمر عن قتادة فيها كلام؛ لأنه سمع منه في الصغر. الطريق الثاني: عن الحكم عن ابن أبي ليلى به بدون ذكر الأكل. أخرجه الطيالسي في مسنده (429)، أحمد (5/ 385،400،396،398)، والبخاري (5632)، ومسلم (2067)، وأبو داود (3723)، وابن ماجه (3590)، والترمذي (1878)، وأبو عوانة في مسنده (5/ 222)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 245)، والبيهقي في الشعب (6378) من طريق شعبة. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (108) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك بن أنس، عن نافع، عن زيد بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم. ورواه مسلم (¬1). حديث أم سلمة المتفق عليه ليس فيه ذكر الأكل، وجاء عند مسلم من طريق آخر إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وصرح البيهقي بأن ذكر الأكل والذهب ليس محفوظاً من حديث أم سلمة (¬2). ¬

= وأخرجه أحمد (5/ 390) من طريق عبد الملك بن أبي غنية. وأخرجه أبو عوانة في مسنده (5/ 222) من طريق زيد بن أبي أنيسة ثلاثتهم، عن الحكم به. الطريق الثالث: يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى به. أخرجه أحمد في المسند (5/ 408)، ومسلم (2067) وابن أبي شيبة في المصنف (5/ 103) رقم 24137، والنسائي في سننه (5301). وأما طريق عبد الله بن عكيم، فقد أخرجه الحميدي (400)، ومسلم (2067)، والنسائي (5301)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 27) عنه عن حذيفة، وليس فيه ذكر الأكل. (¬1) صحيح البخاري (5426)، ومسلم (2065). (¬2) مدار هذا الإسناد على نافع، عن زيد بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أم سلمة، وقد رواه جماعة عن نافع بدون ذكر الأكل والذهب، مقتصرين على الشرب في آنية الفضة، وإليك بعض من وقفت عليهم: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الأول: مالك، كما في الموطأ (2/ 924)، والبخاري (5634)، ومسلم (2065)، والبغوي في شرح السنة (11/ 368)، وابن حبان (5342)، والبيهقي في السنن (1/ 27)، وفي المعرفة (1/ 250، 251). الثاني: الليث بن سعد كما في مسند إسحاق بن راهوية (124)، عند مسلم (2065)، وابن ماجه (3413)، والدارمي (2129)، ومسند أبي عوانة (5/ 216). الثالث: جرير بن حازم كما عند أحمد (6/ 304)، ومسند أبي عوانة (5/ 216). الرابع: أيوب السختياني كما في مسند أحمد (6/ 300)، صحيح مسلم (2065)، وسنن النسائي الكبرى (6873)، ومسند أبي عوانة (5/ 215)، والأوسط للطبراني (3753). الخامس: عبد الرحمن بن السراج كما في مسند أحمد (6/ 302)، وصحيح مسلم (2065)، والطبراني في الكبير (23/ 288)، وفي الأوسط (3753). السادس: يحيى بن سعيد القطان كما في صحيح مسلم (2065)، ومسند إسحاق بن راهوية (39). السابع: محمد بن بشر، كما في صحيح مسلم (2065). الثامن: موسى بن عقبة، كما في صحيح مسلم (2065). التاسع: صخر بن جويرية كما في مسند أبي داود الطيالسي (1601)، ومسند أبي عوانة (5/ 217)، ومسند أبي يعلى (6882). العاشر: إسماعيل بن أمية، كما في السنن الكبرى (6874). فهؤلاء عشرة رواة اتفقوا على الاقتصار على الشرب، وآنية الفضة، ليس في حديثهم ذكر للذهب، ولا للأكل لا يختلف عليهم في ذلك. ورواه عبيد الله بن عمر، واختلف عليه فيه: فرواه عنه علي بن مسهر كما في صحيح مسلم (2065)، وابن أبي شيبة (5/ 103) رقم 24135. وأبو أسامة كما في مصنف بن أبي شيبة (5/ 103) روياه بلفظ: إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جنهم. وإن كانت رواية أبي أسامة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ليست صريحة، إنما أحال على رواية علي بن مسهر، وقال: بمثله. فقد لا تكون المثلية المطابقة في كل حرف. وأشار مسلم إلى تفرد ابن مسهر بهذا اللفظ، فقال: وليس في حديث أحد منهم ذكر الأكل والذهب إلا في حديث ابن مسهر. اهـ وخالفهما يحيى بن سعيد فرواه عن عبيد الله بن عمر، عن نافع به مثل رواية الجماعة دون ذكر الأكل والذهب أخرجها أحمد (6/ 306)، والنسائي في السنن الكبرى (6872)، وأبو عوانة في مسنده (5/ 216)، وابن حبان في صحيحه (5341) وابن عبد البر في التمهيد (16/ 102). وحكم البيهقي بشذوذ هذه الزيادة، فقال في السنن (1/ 27): وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة والوليد بن شجاع، عن علي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، زاد: إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة، قال البيهقي: وذكر الأكل والذهب غير محفوظ في غير رواية علي بن مسهر، وقد رواه غير مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة والوليد بن شجاع دون ذكرهما، والله أعلم. اهـ فهنا البيهقي يشير إلى أن الاختلاف من مسلم، وقد أخرج البيهقي في سننه من طريق شيوخ مسلم ولم يذكر ما ذكره مسلم، وهذا الذي حمل البيهقي على أن يجعل الاختلاف من مسلم، فقد رواه البيهقي في سننه (4/ 145) من طريق محمد بن أيوب عن ابن أبي شيبة. ومن طريق محمد بن إسحاق الثقفي عن الوليد بن شجاع، كلاهما (ابن أبي شيبة والوليد) روياه عن علي بن مسهر، به بدون ذكر الزيادة التي ذكرها مسلم من ذكر الذهب والأكل. قال البيهقي عقبه: رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة والوليد بن شجاع. اهـ قلت: قد نص مسلم على أن علي بن مسهر تفرد بالزيادة، فلا يلزم أن تكون الزيادة من الإمام مسلم رحمه الله، لكن علي بن مسهر كان قد كف بصره، فحصل منه بعض الغرائب، والله أعلم، فلا يمنع أن يحدث به على الوجه الصحيح، ثم يحدث به ويزيد فيه، ولا يكون الحمل على من رواه عنه. كما اختلف على عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الراوي عن أم سلمة: =

الدليل الثالث

ومع أن كلام البيهقي هو ما تقتضيه قواعد هذا الفن، وهو الحق؛ إلا أنه لما نص على الشرب دخل في ذلك الأكل، ألا ترى أن النهي عن البول في الماء الراكد كان الغائط أحرى أن ينهى عنه في ذلك، كيف وقد ورد النهي عن الأكل في حديث حذيفة من طريق مجاهد. قال النووي في المجموع: وإذا حرم الشرب فالأكل أولى؛ لأنه أطول مدة وأبلغ في السرف (¬1). الدليل الثالث: (109) ما أخرجه البخاري، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن الأشعث بن سليم عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإجابة الداعي وإفشاء السلام ونصر المظلوم وإبرار المقسم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب في الفضة أو قال آنية الفضة وعن المياثر والقسي وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق. ¬

= فرواه زيد بن عبد الله بن عمر عنه عن أم سلمة كما في الصحيحين بدون ذكر الأكل والذهب. ورواه أبو عاصم عن عثمان بن مرة به كما في صحيح مسلم (2065) واختلف على أبي عاصم: فرواه مسلم عن زيد بن يزيد: أبي معن الرقاشي، حدثنا أبو عاصم، عن عثمان بن مرة، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، عن أم سلمة بلفظ: من شرب في إناء من ذهب أو فضة فزاد ذكر الذهب، ولم يذكر الأكل. ورواه أبو يعلى (6939) عن سليمان بن عبد الجبار، عن أبي عاصم به كرواية الجماعة، وهي أولى أن تكون محفوظة، والله أعلم. (¬1) المجموع (1/ 306).

دليل من قال إن النهي عن الأكل والشرب للكراهة.

ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). دليل من قال إن النهي عن الأكل والشرب للكراهة. الأول: قالوا: إن علة الكراهة للتزهيد فيها، بدليل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة. وأجيب: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وهو وعيد شديد، ولا يكون إلا على محرم. ثانياً: إنه إنما نهى عنه للسرف والخيلاء، والتشبه بالأعاجم، وهذا لا يوجب التحريم، كما قالوا: إنما عنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالحديث المشركين والكفار من ملوك فارس والروم وغيرهم من الذين يشربون في آنية الفضة، فأخبر عنهم، وحذرنا أن نفعل مثل فعلهم ونتشبه بهم (¬2). وأجيب: بأن الإسراف حرام، ويكفي قوله تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} (¬3). وقوله: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (¬4). ومثله الخيلاء، والتشبه بالكفار جاء في أحاديث الصحيحين ما يقتضي أنه من الكبائر، وليس هذا موضع ذكرها. والحديث لم يكن يخبر عن حال الكفار، بل قصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهي أمته عن الشرب في آنية الفضة، فمن شرب فيها بعد علمه بالنهي فقد استحق ¬

(¬1) البخاري (5635)، صحيح مسلم (2066). (¬2) الاستذكار (26/ 268)، المجموع (1/ 302). (¬3) الأعراف: 31. (¬4) الإسراء: 27.

دليل من قال: يحرم الشرب خاصة.

الوعيد المذكور في الآية، والله أعلم. دليل من قال: يحرم الشرب خاصة. هذا مذهب داود الظاهري، والأحاديث التي وردت في النهي عن الأكل والشرب جاءت من حديث حذيفة، على خلاف هل الأكل محفوظ في الحديث أم لا؟ وقد اعتبر البخاري زيادة مجاهد زيادة من ثقة، وقد سبق البحث عنها. وأما حديث أم سلمة فالنهي فيه عن الشرب، ولا يثبت فيه زيادة النهي عن الأكل، ولا شك أن من منع الشرب فقط أن قوله: ظاهرية بحتة، لم ينظر إلى علة النهي، والماء مطعوم، وكونه سائلاً لا يخرجه عن ذلك، ولا فرق في الحكم بينه وبين الأكل، بل إن الأكل أولى بالنهي من الشرب، وقد تقدم مثل هذا الكلام، والله أعلم. وبناء على ذلك فالراجح ثبوت النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، والأكل مقيس عليه.

المبحث الثاني في استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب

المبحث الثاني في استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب اختلف العلماء في حكم استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، كالادهان، والاكتحال، والتطيب، والوضوء، واتخاذ الأقلام، وأدوات المكتب، ونحوها من الذهب والفضة. فقيل: يحرم، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يكره، ولا يحرم، وهو اختيار أبي الحسن التميمي من الحنابلة (¬5). وقيل: لا يحرم إلا الأكل والشرب خاصة، أشار إليه القرطبي (¬6)، وهو ¬

(¬1) البناية (11/ 79، 82)، تبيين الحقائق (6/ 10)، شرح فتح القدير (10/ 5)، العناية شرح الهداية (10/ 5) مطبوع بهامش فتح القدير، البحر الرائق (8/ 210). (¬2) المنتقى شرح الموطأ (4/ 258)، و (7/ 236)، أحكام القرآن لابن العربي (4/ 96)، التاج والإكليل (1/ 184)، الخرشي (1/ 100)، حاشية الدسوقي (1/ 64). (¬3) قال في النووي في المجموع (1/ 305): استعمال الإناء من ذهب أو فضة حرام على المذهب الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور. وانظر متن الغاية والتقريب (ص: 28)، أسنى المطالب (1/ 27)، تحفة المحتاج (1/ 118). (¬4) الإنصاف (1/ 80)، المبدع (1/ 66)، الفروع (1/ 97)، كشاف القناع (1/ 51). (¬5) قال في الفروع (1/ 97): حكى ابن عقيل في الفصول أن أبا الحسن التميمي قال: إذا اتخذ مسعطا، أو قنديلا، أو نعلين، أو مجمرة، أو مدخنة، ذهبا أو فضة كره ولم يحرم. اهـ (¬6) نقله ابن حجر عن القرطبي في الفتح (10/ 100).

دليل من قال: لا يجوز.

اختيار اليمانيين: الصنعاني (¬1)، والشوكاني (¬2). دليل من قال: لا يجوز. الدليل الأول: قالوا: إن الله سبحانه وتعالى إنما حرم الأكل والشرب لأنه نوع من الاستعمال والانتفاع بها، وذكر الأكل والشرب لا يدل على التخصيص؛ لأنه خرج مخرج الغالب. قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} (¬3). وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون} (¬4). مع أن المحرم أعم من مجرد الأكل، فكذلك الحال بالنسبة للذهب والفضة (¬5). الدليل الثاني: قالوا: إن العلة في تحريم الشرب منها موجود في الاستعمال، لما يتضمنه من الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء (¬6). ¬

(¬1) سبل السلام (1/ 63). (¬2) نيل الأوطار (1/ 67). (¬3) النساء: 10. (¬4) آل عمران: 130. (¬5) الأوسط (1/ 318)، المجموع (1/ 306). (¬6) المغني (1/ 102). قلت: اختلف في علة النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والفضة إلى أقوال: فقيل: العلة كونها ذهباً وفضة، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - هي لهم، وإنها لهم ... الخ وقيل: لكونهما أثمان الأشياء، وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالهما لأفضى ذلك إلى قلتهما بأيدي الناس، فتفوت الحكمة التي وضعت لأجلها من قيام مصالح بني آدم، وذكر الغزالي مثالاً له بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذلك في اتخاذ الأواني من النقدين حبس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس. وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية. ويرد على هذا القول جواز اتخاذ الحلي للنساء من النقدين، وجعلهما سبائك ونحوها مما ليس بآنية ولا نقد. وقيل: علة التحريم هي السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء. ويجاب عنه: بجواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة، وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ، وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الإجماع على الجواز (وإن كان الخلاف محفوظاً وقد أشرت إلى الخلاف فيما سبق) كما أن كسر قلوب الفقراء لا ضابط له، فإن قلوبهم تنكسر بالدور الواسعة، والحدائق الجميلة، والمراكب الفارهة، والملابس الفاخرة، والأطعمة اللذيذة، وغير ذلك من المباحات. وقيل: العلة التشبه بالكفار. قال الحافظ: وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. اهـ وفي نظر الحافظ نظر، فإن التشبه بالكفار كبيرة من كبائر الذنوب، والحديث قد نص على هذه العلة، فقال: فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة. وقيل: إن العلة ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة، ولهذا علل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها للكفار في الدنيا؛ إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة، فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا، وإنما يستعملها من خرج من عبوديته ورضي بالدينا وعاجلها، وهذه العلة والتي قبلها قريبتان. وقيل: العلة التشبه بأهل الجنة، قال تعالى: {يطاف عليهم بآنية من فضة} انظر فتح الباري (10/ 100)، وزاد المعاد (3/ 178)، نيل الأوطار (1/ 67).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: الإجماع على تحريمها استعماله، وقد نقل الإجماع طائفة من العلماء: منهم ابن عبد البر، قال في التمهيد: والعلماء كلهم لا يجيزون استعمال الأواني من الذهب، كما لا يجيزون ذلك من الفضة (¬1). اهـ وقال في الاستذكار: واختلف العلماء في جواز اتخاذ أواني الفضة بعد إجماعهم على أنه لا يجوز استعمالها لشرب ولا غيره (¬2). اهـ وكذلك نقل الإجماع النووي، قال في المجموع: قال أصحابنا: أجمعت الأمة على تحريم الأكل والشرب وغيرهما من الاستعمال في إناء ذهب أو فضة، إلا ما حكي عن داود، وإلا قول الشافعي في القديم (¬3). وقال ابن قدامة في المغني: ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لا أعلم فيه خلافاً (¬4). وممن نقل الإجماع ابن مفلح الصغير (¬5)، والخطيب في مغني المحتاج (¬6)، فهؤلاء جماعة من العلماء منهم المالكي والشافعي والحنبلي نقلوا الإجماع على تحريم الاستعمال. قلت: دعوى الإجماع فيه تساهل، والصحيح أن الخلاف محفوظ. ¬

(¬1) التمهيد (16/ 105). (¬2) الاستذكار (26/ 270). (¬3) المجموع (1/ 306). (¬4) المغني (1/ 101). (¬5) المبدع (1/ 66). (¬6) مغني المحتاج (1/ 29).

دليل من قال: لا يحرم إلا الأكل والشرب خاصة.

قال ابن حجر فيما نقله عن القرطبي: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب، والتكحل، وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة فأباحت ذلك مطلقاً، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب ... الخ كلامه رحمه الله (¬1). ونصر ابن مفلح الكبير في الفروع أن التحريم هو قول الجمهور، مما يدل على أنه لا إجماع في الباب (¬2). وقال الشوكاني: وأما حكاية النووي للإجماع على تحريم الاستعمال، فلا تتم مع مخالفة داود الظاهري والشافعي وبعض أصحابه، وقد اقتصر الإمام المهدي في البحر على نسبة ذلك إلى أكثر الأمة، على أنه لا يخفى على المنصف ما حجية الإجماع من النزاع، والاشكالات التي لا مخلص منها (¬3). اهـ وبهذا يتبين أن دعوى الإجماع غير دقيقة. دليل من قال: لا يحرم إلا الأكل والشرب خاصة. الدليل الأول: الأحاديث نص في تحريم الأكل والشرب، والأصل فيما عداهما الحل، فلا يحرم شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح بتحريم الاستعمال، فتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - للأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز، ولو كان الاستعمال حراماً لكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبلغ الناس، ولما خص الأكل والشرب، ¬

(¬1) الفتح (1/ 100). (¬2) الفروع (1/ 97). (¬3) النيل (1/ 67).

الدليل الثاني

فلما خصهما بالذكر قصرنا التحريم عليهما. الدليل الثاني: قياس الاستعمال على الأكل والشرب قياس مع الفارق، فإن علة النهي عن الأكل والشرب هي التشبه بأهل الجنة، قال تعالى: {ويطاف عليهم بآنية من فضة} (¬1)، وذلك مناط معتبر بالشرع (¬2). (110) وقد روى أحمد، قال: حدثنا يحيى بن واضح وهو أبو تميلة، عن عبد الله بن مسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يد رجل خاتماً من ذهب، فقال: ما لك ولحلي أهل الجنة؟ قال: فجاء، وقد لبس خاتماً من صفر، فقال: أجد منك ريح أهل الأصنام؟ قال: فمم أتخذه يا رسول الله؟ قال: من فضة (¬3). [في إسناده لين] (¬4). ¬

(¬1) الإنسان: 15. (¬2) النيل (1/ 67). (¬3) مسند أحمد (5/ 359). (¬4) هذا الحديث مداره على عبد الله بن مسلم، واختلف عليه فيه: فرواه عنه يحيى بن واضح كما في مسند أحمد (5/ 259)، والترمذي (1785) بزيادة: ثم جاءه وعليه خاتم من ذهب، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة. ورواه زيد بن الحباب عن عبد الله بن مسلم، واختلف على زيد: فرواه الحسن بن علي كما في سنن أبي داود (4223) ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، كما في سنن أبي داود (4223)، وشعب الإيمان للبيهقي (6350). ومحمد بن العلاء الهمذاني كما في صحيح ابن حبان (5488). وأحمد بن سليمان، كما في سنن النسائي (5195) كلهم رووه عن زيد بن الحباب، =

(111) وقد يستدل لهم بما أخرجه النسائي، قال: أخبرنا وهب ¬

_ = عن عبد الله بن مسلم به بدون ذكر زيادة: ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة ". وخالفهم محمد بن حميد، كما في سنن الترمذي (1785) فروى الحديث عن زيد بإثبات تلك الزيادة. وعلى هذا فيحيى بن واضح لم يختلف عليه في إثبات تلك الزيادة، كما في مسند أحمد والترمذي. ويحيى بن واضح روى له الجماعة، وفي التقريب: ثقة. بينما قال الحافظ عن زيد بن الحباب: صدوق يخطئ في حديث الثوري، روى له مسلم وأصحاب السنن، ولكن مدار هذا الإسناد على عبد الله بن مسلم: قال فيه أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به. الجرح والتعديل (5/ 165). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويخالف. الثقات (7/ 49). وقال الذهبي في الميزان: صالح الحديث. وفي التقريب: صدوق يهم. والحديث ذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 234)، وسكت عليه وقال: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم، ولم أجده في مسند أبي يعلى المطبوع. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو. وفي الفتح قال الحافظ عند شرحه لحديث (5871): في سنده أبو طيبة: عبد الله بن مسلم المروزي، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ ويخالف. فإن كان محفوظاً حمل المنع على ما كان حديداً صرفاً. وقال التيفاشي في كتاب الأحجار: خاتم الفولاذ، مطردة للشيطان، إذا لوي عليه فضة، فهذا يؤيد المغايرة في الحكم، ثم ذكر حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة، وقوله: التمس ولو خاتماً من حديد، فاستدل به على جواز لبس الخاتم الحديد، ولا حجة فيه؛ لأنه لا يلزم من الاتخاذ جواز اللبس. انظر العلل المتناهية (2/ 206). وحديث عبد الله بن عمرو الذي أشار إليه الترمذي قد أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1021)، من طريق سليمان بن بلال. والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 261) من طريق أبي غسان كلاهما عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. ولكن ليس فيه موضع الشاهد، وهو قوله: " مالي أرى عليك حلية أهل الجنة ".

بن بيان، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أنبأنا عمرو بن الحارث، أن أبا عشانة، وهو المعافري، حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمنع أهله الحلية والحرير، يقول: إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها، فلا تلبسوها (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). لكن لا دليل فيه، ولعل المنع هنا من باب الزهد، لا من باب التحريم؛ لأن الحرير وكذا الذهب لا يحرمان على النساء، بل يباحان. وقد أشير إلى الاختلاف في علة النهي عن آنية الذهب والفضة، فارجع إليه، والجزم بأن العلة هي النهي عن التشبه بأهل الجنة فيه شيء، والتشبه بأهل الجنة ليست نقيصة، وقد أذن للمرأة بلباس الحرير والذهب، كما أن الذهب والفضة الموجودان في الجنة غير الموجودين في الدنيا، وليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء. ¬

(¬1) سنن النسائي (5136). (¬2) والحديث قد أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 302) والحاكم (4/ 191)، وابن حبان (5486) وابن حزم في المحلى (10/ 84) من طرق عن ابن وهب به. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والحق أن أبا عشانة لم يخرج له في الصحيحين، وإنما روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال في التقريب: ثقة، واسمه: حي بن يؤمن. قال ابن حزم رحمه الله: أبو عشانة غير مشهور في النقل، ثم لو صح لكان عاماً للرجال والنساء، يخصه الخبر الذي فيه: إن الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها. اهـ وكلامه حق إلا ما قاله في حق أبي عشانة فإنه ثقة.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (112) استدل الشوكاني بما رواه أحمد، قال: ثنا أبو عامر، ثنا زهير، عن أسيد بن أبي أسيد، عن نافع ابن عياش مولى عبلة بنت طلق الغفاري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أحب أن يطوق حبيبه طوقاً من نار فليطوقه طوقا من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سواراً من نار فليسوره بسوار من ذهب، ومن أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب، ولكن عليكم بالفضة العبوا بها لعباً (¬1). [في إسناده ضعف] (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (2/ 334). (¬2) في إسناده: أسيد بن أبي أسيد البراد. ذكره البخاري، ولم يذكر فيه شيئاً. التاريخ الكبير (2/ 13). وذكره ابن حبان في الثقات. (6/ 71). قال الدارقطني: يعتبر به. تهذيب التهذيب (1/ 300). وروى الترمذي (3575) حديث أسيد بن أبي أسيد، عن معاذ بن عبد الله، عن أبيه، في قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثاً حين يصبح وحين يمسي، وقال: حديث حسين صحيح غريب من هذا الوجه. وقال الذهبي في الكاشف (428) والحافظ في التقريب: صدوق. ولعلهما اعتمدا على تصحيح الترمذي حديثه، لكن تصحيح الترمذي معارض بكلام الدارقطني، فإنه قال عنه: يعتبر به، وهذا عبارة تليين، وليست عبارة تمتين، كما أن أسيد بن أبي أسيد لا يحتمل تفرده بمثل هذا، فالحديث إذا كان أصلاً في الباب احتجنا إلى راو يكون ضابطاً، ولا يكفي في مثل هذا أن يقال في الراوي: يعتبر به، والله أعلم. والحديث قد اختلف في إسناده على أسيد بن أبي أسيد: فرواه زهير بن محمد كما في مسند أحمد (2/ 334)، والدراوردي، كما في المسند =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (2/ 378) وسنن أبي داود (4236)، والبيهقي (4/ 140) كلاهما عن أسيد بن أبي أسيد، عن نافع بن عياش، عن أبي هريرة. ورواه عبد الله بن دينار، وهو ضعيف، كما في المسند (4/ 414) عن أسيد بن أبي أسيد، عن ابن أبي موسى، عن أبيه، أو عن ابن أبي قتادة، عن أبيه. وأخرجه أحمد (2/ 440) والنسائي (5142) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (4813) من طريق مطرف بن طريف، عن أبي الجهم، عن أبي زيد، عن أبي هريرة مرفوعاً. وأبو زيد صاحب أبي هريرة، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/ 372). وقال الذهبي: لا يدرى من هو، تفرد عنه أبو الجهم، شيخ مطرف بن طريف بحديث تحريم حلية الذهب على المرأة. ميزان الاعتدال (10219). وقال الحافظ: خرج أحمد من طريق شعبة عن أبي زيد مولى الحسن بن علي عن أبي هريرة حديثا غير هذا فكأنه هو ورواية شعبة عنه مما يقوي أمره. تهذيب التهذيب (12/ 114). وليس في مسند أحمد ما قاله الحافظ، وإنما الذي في المسند (2/ 301) من طريق شعبة، عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي، قال سمعت أبا هريرة. ولذا قال الحافظ في التقريب: مجهول. ولا يعتبر بهذا الطريق ليقوي الطريق الآخر؛ لأن الاعتبار بالمتابعات والشواهد ليس مطلقاً، وإنما بشرط ألا يخالف، فكيف إذا خالف الإجماع، فإباحة الذهب للنساء مطلقاً قد حكى فيه الإجماع الجصاص في أحكام القرآن (4/ 477)، والقرطبي في التفسير (16/ 71 - 72)، والنووي في المجموع (4/ 442)، وابن حجر في الفتح (10/ 317)، وغيرهم. وجاء الحديث من مسند سهل بن سعد، إلا أنه ضعيف جداً، فلا يفرح به، فقد روى الطبراني في الكبير (5811) عن إسحاق بن داود الصواف التستري، عن محمد بن سنان القزاز، عن إسحاق بن إدريس، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد مرفوعاً، بلفظ: من أحب أن يسور ولده بسوارين من نار، فليسوره بسوار من ذهب، ولكن الورق والفضة العبوا بها كيف شئتم. ففي إسناده محمد بن سنان القزاز، جاء في ترجمته: =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (113) ما أخرجه البخاري من طرق عن ابن موهب، قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، وقبض إسرائيل ثلاث أصابع من قصة فيها شعر من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة، فاطلعت في الجلجل، فرأيت شعرات حمراً (¬1). ¬

= قال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبى بالبصرة، وكان مستوراً في ذلك الوقت، واتيته أنا ببغداد، وسألت عنه عبد الرحمن بن خراش، فقال: هو كذاب. الجرح والتعديل (7/ 279). وذكره ابن حبان في الثقات (9/ 133). وقال الذهبي: رماه بالكذب أبو داود وابن خراش. المغني في الضعفاء (2/ 589). وذكر مثل هذا في الميزان، وزاد: وأما الدارقطني فمشاه، وقال: لا بأس به. (6757). وقال عبد الرحمن بن يوسف: ليس عندي بثقة. تهذيب التهذيب (9/ 183). وقال الآجري: سمعته -يعني أبا داود- يتكلم في محمد بن سنان، يطلق فيه الكذب. المرجع السابق. وفي التقريب: ضعيف. وفي إسناده أيضاً: إسحاق بن إدريس البصري، قال البخاري: تركه الناس. التاريخ الكبير (1/ 382). وقال أيضاً: سكتوا عنه. التاريخ الأوسط (2/ 318). وقال ابن معين: ليس بشيء، يضع الأحاديث. الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/ 99). وقال النسائي: متروك الحديث. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: واهي الحديث، ضعيف الحديث، روى عن سويد بن إبراهيم وأبى معاوية أحاديث منكرة. الجرح والتعديل (2/ 213). وقال الدارقطني: متروك الحديث. لسان الميزان (1/ 352). وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ضعيف. (¬1) البخاري (5896).

الدليل الرابع

قال ابن حجر في الفتح: وذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين بلفظ: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر ... الخ الحديث (¬1). فإن قيل: هذا موقوف على أم سلمة، فلا حجة في فعل الصحابي رضي الله عنه. فالجواب: ممكن أن يقال: كون الصحابة يرسلون إليها إذا أصاب الإنسان عين أو شيء دليل على اطلاعهم على هذا، وإقرارهم له، والله أعلم. الدليل الرابع: لو كانت الآنية حراماً مطلقاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتكسير الأواني كما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ألا يدع صورة إلا طمسها حين كانت الصورة محرمة مطلقاً. (114) أخرجه مسلم من طريق سفيان بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وذكر الحديث. (115) وقد جاء في حديث حذيفة في الصحيحين أنه استسقى، فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين - كأنه يقول: لم أفعل هذا ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، ¬

(¬1) الفتح (10/ 365).

فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة (¬1). ففي هذا الحديث دليل على اقتناء حذيفة للإناء، ولو كان منكراً لكسره رضي الله عنه، والذي أميل إليه أن الاستعمال في غير الأكل والشرب غير محرم، وإن كان الاحتياط تركه، والله أعلم. ¬

(¬1) سبق تخريجه.

المبحث الثالث في الطهارة في آنية الذهب والفضة

المبحث الثالث في الطهارة في آنية الذهب والفضة الخلاف في هذه المسألة إنما يجري على قول من يقول بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، أما من يقصر التحريم على الأكل والشرب، فإنه يصحح الطهارة منها بلا إثم، وهذا واضح. وقد اختلف القائلون بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة هل تصح الطهارة منها وفيها مع الإثم أم لا على أقوال: فقيل: تصح الطهارة منها وبها، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). ¬

(¬1) بريقة محمودية (4/ 102)، بل ذهب الحنفية إلى أبعد من هذا، فقالوا كما في البحر الرائق (8/ 211): إن الأواني الكبيرة المصوغة من الذهب والفضة لأجل أكل الطعام إنما يحرم استعمالها إذا أكل منها باليد أو الملعقة، وأما إذا أخذ منها، ووضع على موضع مباح، فأكل منه لم يحرم؛ لانتفاء ابتداء الاستعمال منها، وكذا الأواني الصغيرة المصنوعة لأجل الإدهان ونحوه إنما يحرم استعمالها إذا أخذت وصب منها الدهن على الرأس؛ لأنها صنعت لأجل الإدهان منها بذلك الوجه، وأما إذا أدخل يده، وأخذ الدهن، وصبه على الرأس من اليد، فلا يكره؛ لانتفاء ابتداء الاستعمال منها. كما نسب هذا القول مذهباً لأبي حنيفة كل من النووي في المجموع (1/ 307)، وابن قدامة في المغني (1/ 103)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 318). (¬2) مواهب الجليل (1/ 506)، مختصر خليل (1/ 100)، وقال ابن عبد البر في الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 19): ومن توضأ فيهما أجزأه وضوؤه، وكان عاصياً باستعمالها، وقد قيل: لا يجزؤه الوضوء فيهما، وفي في أحدهما، والأول أشهر. (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 23): لا أكره إناء توضئ فيه من حجارة ولا حديد ولا نحاس ولا شيء غير ذوات الأرواح إلا آنية الذهب والفضة فإني أكره الوضوء فيهما. اهـ وقال النووي في المجموع (1/ 307): لو توضأ أو اغتسل من إناء الذهب صح وضوءه وغسله بلا خلاف، نص عليه الشافعي -رحمه الله- في الأم، واتفق الأصحاب عليه. اهـ (¬4) المغني (1/ 58)، الفروع (1/ 98)، كشاف القناع (1/ 52)، الإنصاف (1/ 81)، =

دليل من قال: تصح الطهارة من آنية الذهب والفضة.

وقيل: لا تصح الطهارة، وهو قول ضعيف في مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب أحمد (¬2)، ورجحه داود الظاهري (¬3)، ونُسِبَ هذا القول لابن تيمية (¬4)، وصححه ابن عقيل من الحنابلة (¬5). وقيل: يعيد الوضوء في الوقت، ولا يعيد إذا خرج الوقت، وهو قول في مذهب المالكية (¬6). دليل من قال: تصح الطهارة من آنية الذهب والفضة. الدليل الأول: الأحاديث نص في تحريم الأكل والشرب، والأصل فيما عداهما الحل، فلا يحرم شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح بتحريم الطهارة من آنية الذهب والفضة، فتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - للأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز، ولو كان مطلق الاستعمال حراماً لكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبلغ الناس، ولما خص الأكل والشرب، فما خصهما بالذكر قصرنا التحريم عليهما. وقد سقت الأدلة الكثيرة على جواز استعمال آنية الذهب والفضة في ¬

= شرح الزركشي (1/ 161)، المبدع (1/ 67). (¬1) الفواكه الدواني (2/ 319)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 19). (¬2) المغني (1/ 58)، الإنصاف (1/ 81)، شرح الزركشي (1/ 161)، المبدع (1/ 67). (¬3) المحلى (1/ 208، 426)، ونسب هذا القول مذهباً لداود الظاهري كل من النووي في المجموع (1/ 307)، والحطاب في مواهب الجليل (1/ 506). (¬4) الذي رجحه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/ 438) صحة الطهارة من آنية الذهب والفضة، وقال عن هذا القول بأنه أفقه. (¬5) الإنصاف (1/ 81)، الفروع (1/ 98). (¬6) الفواكه الدواني (2/ 319).

الدليل الثاني

غير الأكل والشرب في مسألة مستقلة، فكل دليل سقته هناك يصلح أن يكون دليلاً هنا، والله أعلم. الدليل الثاني: أن حقيقة الوضوء: هو جريان الماء على الأعضاء، وليس في ذلك معصية، وإنما المعصية في استعمال الإناء. قال ابن تيمية: التحريم إذا كان في ركن العبادة وشرطها أثر فيها، كما كان في الصلاة في اللباس أو البقعة، وأما إذا كان في أجنبي عنها لم يؤثر، والإناء في الطهارة أجنبي عنها، فلهذا لم يؤثر فيها، والله أعلم (¬1). الدليل الثالث: قالوا: إنه لو أكل أو شرب في إناء الذهب والفضة، لم يكن المأكول والمشروب حراماً، فكذلك الطهارة؛ لأن المنع إنما هو لأجل الظرف، دون ما فيه. قال الشافعي: لا أزعم أن الماء الذي شرب ولا الطعام الذي أكل فيها محرم عليه، وكان الفعل من الشرب فيها معصية. فإن قيل: فكيف ينهى عنها ولا يحرم الماء فيها؟ قيل له - إن شاء الله - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن الفعل فيها، لا عن تبرها، وقد فرضت فيها الزكاة، وتمولها المسلمون، ولو كانت نجساً لم يتمولها أحد، ولم يحل بيعها ولا شراؤها (¬2). وقد يتعقب هذا الاستدلال: بأن يقال: إن التحريم هنا لنفس الأكل والشرب، ولكن لعارض: وهو ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (1/ 438). (¬2) الأم (1/ 23).

الدليل الرابع

كونهما في إناء محرم، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم. ولا يكون هذا إلا لمحرم، وإنما يجرجر في بطنه الأكل والشرب دون الإناء، ومثله: مالك المعصوم إذا غصبه آخر، فإنه يحرم عليه لهذا العارض، كما في قوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} وإن كان المأكول ليس محرماً لذاته، وإنما هو لعارض. الدليل الرابع: أن الوضوء من آنية الذهب والفضة إنما يقع ذلك بعد رفع الماء من الإناء، وفصله عنه، فأشبه ما لو غرف بآنية الفضة في إناء آخر، ثم توضأ منه. وتعقب هذا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وهو حين انصباب الماء في بطنه يكون قد انفصل عن الإناء. دليل من قال لا تصح الطهارة من آنية الذهب والفضة. الدليل الأول: لما حرم استعمال الإناء، وكان في الشرب والتطهر منه معصية الله تعالى -التي هي استعمال الإناء المحرم- صار فاعل ذلك مجرجراً في بطنه نار جهنم بالنص، وكان في حال وضوئه وغسله عاصياً لله تعالى بذلك التطهر نفسه، ومن الباطل أن تنوب المعصية عن الطاعة، وأن يجزئ تطهير محرم عن تطهير مفترض. وأجيب: بأن هذا الكلام إنما يلتزمه من يرى تحريم استعمال آنية الذهب والفضة

الدليل الثاني

في غير الأكل والشرب، وقد بينت أن الراجح جواز استعمالهما في غير الأكل والشرب، وعلى التنزل بأن الاستعمال محرم، فإن هناك فرقاً بين التحريم والصحة، فقد يحرم الشيء ويكون صحيحاً، فلا تلازم بين التحريم والصحة، وقد قدمت بأن الفعل المحرم إذا كان في ركن العبادة أو شرطها أثر فيها، وأما إذا كان في أجنبي عنها، لم يؤثر فيها، والله أعلم. الدليل الثاني: قالوا: القياس على الصلاة في الدار المغصوبة، والحج من مال حرام، فكما أنه لا تصح الصلاة في الدار المغصوبة، ولا يصح الحج من مال حرام، فكذلك الطهارة في آنية الذهب والفضة. وتعقب من وجهين: الأول: لا نسلم عدم صحة الصلاة في الدار المغصوبة، وكذلك الحج من مال حرام، والقول بصحة الصلاة في الدار المغصوبة هو قول الجمهور، بل إن أصحاب القول الأول عكسوا هذا الدليل، فاستدلوا على صحة الصلاة بالأرض المغصوبة على صحة الطهارة من آنية الذهب والفضة (¬1). ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (1/ 307): نقلوا الإجماع على صحة الصلاة في الدار المغصوبة قبل مخالفة أحمد رحمه الله. وانتقد ابن تيمية رحمه الله نقل الإجماع، وذكر في أكثر من موضع أن أول من نقل الإجماع في ذلك أبو بكر الباقلاني. وقال عنه في الفتاوى الكبرى (6/ 581): بأنه في أكثر من موضع يدعي إجماعات لا حقيقة لها، كدعواه إجماع السلف على صحة الصلاة في الدار المغصوبة، بكونهم لم يأمروا الأمراء الظلمة بالإعادة، ولعله لا يقدر أن ينقل عن أربعة من السلف أنهم استفتوا في إعادة الظلمة ما صلوه في مكان مغصوب، فأفتوهم بإجزاء الصلاة. اهـ

الوجه الثاني

الوجه الثاني: أن هناك فرقاً بين الصلاة في الأرض المغصوبة، والوضوء من آنية الذهب والفضة، فالقيام والركوع والسجود في الدار المغصوبة محرم، وهي أمثال الصلاة، وأمثال الوضوء من الغسل والمسح ليست محرمة، كما أن المكان شرط في الصلاة لا يمكن وجودها إلا به، والإناء ليس بشرط، أشبه ما لو صلى، وفي يده خاتم ذهب (¬1). دليل من قال يعيد الطهارة ما دام في الوقت. ظاهر أن قول المالكية في هذه المسألة وفي ما شابهها ممن يطلبون الإعادة في الوقت، فإذا خرج الوقت لم يطلب منه الإعادة أنهم لا يرون وجوب الإعادة؛ لأن الذمة لو كانت مشغولة في وجوب الإعادة لم يكن هناك فرق بين الوقت وبين خارج الوقت. وقد قال بعضهم عن أصحاب مالك: إن كل موضع يقول فيه مالك: إنه يعيد في الوقت هو استحباب ليس بإيجاب (¬2). إلا أن يستدل في قصة المسيء صلاته، فإنه قال له: ارجع فصل فإنك لم تصل، فطلب منه الإعادة في الوقت، ولم يطلب منه إعادة كل ما صلى. فإن كانت الإعادة مستحبة، كان أدلة القول لا تخرج عن أدلة من يرى وجوب الإعادة، إلا أنه حمل الأمر على الاستحباب وغيره حملها على الوجوب. ¬

(¬1) الشرح الكبير (1/ 88)، المبدع (1/ 67). (¬2) أحكام القرآن للجصاص (5/ 205).

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة كل فريق الذي يظهر لي أن القول بصحة الطهارة أرجح لقوة أدلته، وأن الصحة والتحريم على القول بتحريم الطهارة من آنية الذهب والفضة غير متلازمين، فقد يحرم الشيء ويصح، وقد يكون محرماً باطلاً، والنهي لم يكن عائداً للوضوء، وإنما هو لأمر خارج، والله أعلم.

المبحث الرابع في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة

المبحث الرابع في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة فرق بين هذه المسألة والتي قبلها؛ لأن الاستعمال يعني التلبس بالانتفاع، بينما الاتخاذ يعني أن يقتنيه دون أن ينتفع به، كأن يتخذه إما للزينة أو لغيرها. وقد اختلف العلماء في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة: فقيل: يحرم اتخاذ أواني الذهب والفضة، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يحرم، وهو مذهب الحنفية (¬4)، وقول في مذهب المالكية (¬5)، الشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). ¬

(¬1) أحكام القرآن (4/ 97)، مواهب الجليل (1/ 28)، الخرشي (1/ 100)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 61)، التاج والإكليل (1/ 183،184)، حاشية الدسوقي (1/ 64)، المنتقى للباجي (7/ 236)، الاستذكار (26/ 270). (¬2) أسنى المطالب (1/ 27)، كفاية الأخيار (1/ 33)، المجموع (1/ 308)، حواشي الشرواني (4/ 239). (¬3) مطالب أولي النهى (1/ 55)، كشاف القناع (1/ 51)، الإنصاف (1/ 79)، الكافي (1/ 17)، الفروع (1/ 97). (¬4) حاشية ابن عابدين (6/ 342)، البناية (11/ 79)، تكملة فتح القدير (10/ 5)، تبيين الحقائق (6/ 12). (¬5) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 61)، التاج والإكليل (1/ 183، 184). (¬6) انظر المجموع (1/ 308)، وذكر أن بعض أصحاب الشافعي حكاه قولين، ومنهم من حكاه وجهين. (¬7) الإنصاف (1/ 80)، الفروع (1/ 97).

دليل من قال بتحريم الاتخاذ

وقيل: يكره، اختاره بعض الحنابلة (¬1). دليل من قال بتحريم الاتخاذ. الدليل الأول: قالوا: إن كل ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه (¬2). الدليل الثاني: قالوا: إن الاتخاذ ذريعة إلى الاستعمال، وسد الذريعة واجب (¬3). قال ابن عبد البر: " معلوم أن من اتخذها لا يسلم من بيعها أو استعمالها، لأنها ليست مأكولة ولا مشروب، فلا فائدة فيها غير استعمالها ... الخ (¬4). ¬

(¬1) حكى ابن عقيل في الفصول عن أبي الحسن التميمي أنه قال: إذا اتخذ مسعطاً، أو قنديلاً، أو نعلين، أو مجمرة، أو مدخنة ذهباً أو فضة كره، ولم يحرم ... الخ، انظر الفروع (1/ 97)، الإنصاف (1/ 80). (¬2) ذكر هذه القاعدة ابن قدامة في الكافي (1/ 17)، والنووي في المجموع (1/ 308)، وانظر كفاية الأخيار (1/ 33). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 64)، بل ذهبت الشافعية والمالكية إلى أنه لا ضمان على من كسرها. قال الخرشي في حاشيته (1/ 100): ولا ضمان على من كسره وأتلفه، إذا لم يتلف من العين شيئاً على الأصح، ويجوز على ما في المدونة بيعها، لأن عينها تملك إجماعاً ". وقال في كفاية الأخيار وهو من الشافعية: (1/ 34) " لو كسر شخص هذه الأواني فلا أرش عليه ". (¬4) الاستذكار (26/ 270).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: قالوا: إن العلة في تحريم الاستعمال هو أتسرف والخيلاء، وهي موجودة في الاتخاذ (¬1). الدليل الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة، مفهومه أنها ليست لكم في الدنيا، وهو دليل على تحريم الاتخاذ والاستعمال (¬2). دليل من قال بجواز الاتخاذ, الدليل الأول: أن الخبر إنما ورد بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب فلا يتعداه إلى غيره. الدليل الثاني كل دليل استدلوا به على جواز الاستعمال، فقد استدلوا به على جواز الاتخاذ، لأنه لا يمكن أن يستعملها إلا وقد اتخذها. الدليل الثالث: جاء في الصحيحين أن الصحابي حذيفة رضي الله عنه اقتنى الآنية مع كونه يرى تحريم الشرب فيها، (116) فقد روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت مجاهداً يقول: ¬

(¬1) المجموع (1/ 308). (¬2) المنتقى للباجي (7/ 236).

الدليل الرابع

حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين، كأنه يقول: لم أفعل هذا، ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة. ورواه مسلم (¬1). الدليل الرابع: قالوا: يجوز اتخاذ أواني الذهب والفضة قياساً على جواز اتخاذ ثياب الحرير، فإنها مع كونها يحرم استعمالها للرجال، فإنه يجوز للرجل أن يتخذها، ويتاجر فيها (¬2). وأجاب المانعون: بأن ثياب الحرير لا تحرم مطلقاً فإنها تباح للنساء، بينما آنية الذهب والفضة تحرم على الرجال والنساء، وإنما أبيح التحلي في حق المرأة لحاجتها إلى التزين للزوج والتجمل له، وهذا مقصور على الحلى، فتختص الإباحة به. وقد نقل النووي الإجماع على تحريم آنية الذهب والفضة على الجنسين: الرجل والمرأة (¬3). دليل من قال بالكراهة. حملوا أدلة من قال بالمنع أن المنع لكراهة التنزيه، وأن العلة عندهم ما ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) المغني (1/ 59). (¬3) المجموع (1/ 306)، مجموع الفتاوى (21/ 84).

دامت من أجل السرف والخيلاء فلا تصل للتحريم. وقد رددت هذا القول عند ذكر الخلاف باستعمال أواني الذهب والفضة. الراجح من هذا الخلاف: أن من قصر التحريم على الأكل والشرب فهو أسعد بالنص، والدليل على جواز الاتخاذ أقوى من دليل جواز الاستعمال، ذلك أن الأكل والشرب قد يقال: إنه نوع من الاستعمال، وإن كان النص على الأكل والشرب أخص من تحريم الاستعمال، وقد رأيت في نهاية هذا البحث أن أختمه بكلام نفيس لابن تيمية رحمه الله، حيث قال: " إذا كان تحريم الذهب والحرير على الرجال يقتضي شمول التحريم لأبعاض ذلك: بقي اتخاذ اليسير لحاجة أو مطلقاً، فاتخاذ اليسير فيه تفصيل، ولهذا تنازع العلماء في جواز اتخاذ الآنية بدون استعمالها، فرخص فيه أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في قول، وإن كان المشهور عنهما تحريمه، إذ الأصل أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه كآلات الملاهي. وأما إذا كانت الفضة التابعة كثيرة ففيها أيضاً قولان في مذهب الشافعي وأحمد، وفي تحديد الفرق بين الكثير واليسير، والترخيص في لبس خاتم الفضة أو تحلية السلاح من الفضة، وهذا فيه إباحة يسير الفضة مفرداً، لكن في اللباس والتحلي، وذلك يباح منه مالا يباح في باب الآنية، كما تقدم التنبيه على ذلك، ولهذا غلط بعض الفقهاء من أصحاب أحمد، حيث حكى قولاً بإباحة يسير الذهب تبعاً في الآنية عن أبي بكر عبد العزيز، وأبو بكر إنما قال ذلك في باب اللباس والتحلي كعلم الذهب ونحوه. وفي يسير الذهب في (باب اللباس) عن أحمد أقوال:

أحدها: الرخصة مطلقاً، لحديث معاوية: نهى عن الذهب إلا مقطعاً (¬1). ¬

(¬1) هذا الحديث رواه عن معاوية جماعة، منهم: أبو قلابة، ولم يسمع من معاوية، فهو منقطع. ورواه قتادة ومطر بن طهمان عن أبي الشيخ الهنائي عن معاوية. وتابعهما بيهس بن فهدان على اختلاف عليه كما سيأتي. ورواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي الشيخ الهنائي، عن أخيه حمان وقيل: أبو حمان، عن معاوية، فأدخل بين أبي الشيخ ومعاوية أخاه حمان، وهو مجهول. قال النسائي: قتادة أحسن من يحيى بن أبي كثير، وحديثه أولى بالصواب، انظر السنن الكبرى للنسائي (4960). وكذا رجح الدارقطني رواية قتادة، فقد ذكر ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 152) قوله: قال الدارقطني: القول قول من لم يدخل بين أبي الشيخ ومعاوية فيه أحداً- يعني: قتادة ومطرفاً وبيهس بن فهدان. اهـ كلام ابن القيم. وجاء في العلل لابن أبي حاتم (1/ 484): سألت أبي عن حديث رواه معمر، عن قتاده، عن أبي شيخ الهنائي، عن معاوية، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الذهب إلا مقطعاً، وعن ركوب النمور؟ قال: رواه يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو شيخ، عن أخيه حمان، عن معاوية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أدخل اخاه، وهو مجهول، فأفسد الحديث. فإن رجحنا رواية قتادة كما قال النسائي والدارقطني، فقتادة مدلس، وقد عنعن، لكن متابعة مطر بن طهمان وبيهس بن فهدان تقوي طريق قتادة، فيكون الحديث حسناً لغيره. وإن رجحنا طريق يحيى بن أبي كثير، ففيه بين أبي الشيخ ومعاوية رجل ضعيف، وهو أخو أبي الشيخ، مع العلم أن رواية يحيى بن أبي كثير فيها اضطراب كثير، فلعل الراجح هو رواية قتادة، عن أبي الشيخ. وأبو شيخ الهنائي قد ذكره البخاري في التاريخ الكبير (3/ 130)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/ 401) وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه شيئاً. وقال ابن سعد: أبو شيخ الهنائي من الأزد، وكان ثقة، وله أحاديث. الطبقات الكبرى (7/ 155). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (4/ 192) وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/ 407). وقال الذهبي: تابعي كبير صدوق. المغني في الضعفاء (1/ 126)، بينما قال في الكاشف (6682): ثقة. وقال الحافظ في التقريب: ثقة. وإليك تخريج الحديث: أما رواية قتادة، عن أبي شيخ الهنائي، عن معاوية فقد رواه عن قتادة معمر، وهشام، وهمام، وسعيد بن أبي عروبة ومحمد بن عبيد الله العرزمي على النحو التالي. فرواية معمر أخرجها عبد الرزاق (19927) قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي أن معاوية قال لنفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جلود النمور أن تركب عليها؟. قالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً. قالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة؟ -يعني: متعة الحج - قالوا: اللهم لا. قال: بلى إنه في هذا الحديث. قالوا: لا. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (4/ 95) وليس عنده قوله: " قال: بلى إنه في هذا الحديث. قالوا: لا. ورواه الطبراني أيضاً في الكبير (19/) رقم 824 من طريق عبد الرزاق. ورواية معمر عن قتادة متكلم فيها، لكن ذلك قد زال بكثرة المتابعات من أصحاب قتادة. وأما رواية همام، فأخرجها أحمد أيضاً (4/ 92) قال: ثنا عفان، ثنا همام، ثنا قتادة به، وأخرجه عبد بن حميد في المنتخب (419) حدثني أبو الوليد، حدثني همام به. وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3250). والطبراني في المعجم الكبير (19/ 353) رقم 825 من طريق حجاج بن المنهال، ثنا همام به. وأما رواية سعيد بن أبي عروبة فأخرجها أحمد (4/ 99) عن محمد بن جعفر، ثنا سعيد عن قتادة به، وأخرجه النسائي في الكبرى (9453)، وفي الصغرى (5151) من طريق ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الطبراني في الكبير (19/ 353) رقم 826 من طريق يزيد بن زريع، ثنا سعيد بن أبي عروبة به. ويزيد بن زريع قد سمع من سعيد قبل اختلاطه. وأما رواية هشام عن قتادة فأخرجها الطبراني في الكبير (19/ 353) رقم 827، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 19). وأما رواية محمد بن عبيد الله العرزمي عن قتادة، فأخرجها الطبراني في الكبير (19/ 354) رقم 828. والعرزمي ضعيف جداً. وقد تابع قتادة متابعة تامة مطر بن طهمان، وبيهس بن فهدان عند النسائي. فقد أخرج النسائي في السنن الكبرى (9454)، وفي الصغرى (5152) قال: أخبرنا أحمد بن حرب. قال: أنبأنا أسباط، عن مغيرة، عن مطر، عن أبي شيخ الهنائي به ... ومطر بن طهمان ضعيف. وأحمد بن حرب صدوق، وكذلك المغيرة بن مسلم _قاله الحافظ في ترجمتهما في التقريب. وأما متابعة بيهس بن فهدان فقد أخرجها أحمد (4/ 98)، قال: ثنا وكيع، حدثني بيهس بن فهدان، عن أبي شيخ الهنائي، عن معاوية. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (9461)، وفي الصغرى (5159) قال: أخبرنا إسحاق بن ابراهيم قال: أنبأنا النضر بن شميل. قال حدثنا بيهس بن فهدان قال: حدثنا أبو شيخ الهنائي به. وأخرجه الطبراني في الكبير (19/ 354) رقم 829 من طريق عثمان بن عمر، ثنا بيهس بن فهدان به. وبيهس بن فهدان، قال فيه يحيى بن معين: ثقة. انظر الجرح والتعديل (2/ 430)، وباقي رجال الإسناد ثقات. واختلف على بيهس فيه، فرواه وكيع والنضر بن شميل، وعثمان بن عمر كما سبق. وخالفهم علي بن غراب، فأخرجه النسائي (1/ 5160). قال: أخبرني زياد بن أيوب، قال حدثنا علي بن غراب، قال حدثنا بيهس بن فهدان قال: أنبأنا أبو شيخ قال: سمعت ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب إلا مقطعاً. قال النسائي: حديث النضر _يعني عن بيهس_ أشبه بالصواب. أهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: علي بن غراب قال فيه الحافظ في التقريب (4783): " صدوق، وكان يدلس، ويتشيع، وأفرط ابن حبان في تضعيفه، وجاء في الجرح والتعديل (6/ 200): عن عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن علي بن غراب المحاربي فقال: سمعت منه مجلساً واحداً وكان يدلس، وما أراه إلا كان صدوقاً. وقال فيه ابن نمير: علي بن غراب يعرفونه بالسماع، وله أحاديث منكرة ". وقال فيه يحيى بن معين: صدوق. وجعله الحافظ في المرتبة الثالثة من المدلسين، وهو هنا قد صرح بالسماع، لكن النضر بن شميل لا يقارن أبداً بعلي بن غراب لو انفرد كيف وقد توبع النضر بن شميل كما سبق. فإسناد علي بن غراب إسناد شاذ. والحديث قد اختلف فيه على أبي الشيخ فيه. فتارة يرويه عن معاوية مباشرة كما سبق، وتارة يرويه عن أبي حمان عن معاوية كما في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي الشيخ. ورواية يحيى بن أبي كثير قد اختلف عليه فيها: فرواه النسائي في السنن الكبرى (9455) وفي الصغرى (5153) من طريق علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي شيخ الهنائي، عن أبي حمان، عن معاوية. وقيل: عن حمان بدون كلمة أبي. ورواه النسائي في الكبرى (9456) وفي الصغرى (5154) والطبراني في الكبير (19/ 355) رقم 831 من طريق حرب بن شداد، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو شيخ عن أخيه حمان، عن معاوية به. ورواه الأوزاعي، واختلف عليه أيضاً: فرواه النسائي في السنن الكبرى (9460) من طريق يحيى بن حمزة، قال: حدثني عبد الله الأوزاعي، قال: حدثني يحيى، قال: حدثني حمان. ورواه النسائي في الكبرى (9457) وفي الصغرى (5155) والطبراني في الكبير (19/ 354) رقم: 830 من طريق شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو شيخ الهنائي، قال حدثني حمان. ورواه النسائي في الكبرى (9458) وفي الصغرى (5156) من طريق عمارة بن بشر، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو إسحاق، قال: حدثني حمان به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه النسائي أيضاً في الكبرى (9459) وفي الصغرى (5157) من طريق عقبة، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى، قال: حدثني أبو إسحاق، قال: حدثني ابن حمان .. وذكر الحديث. ورجح النسائي في الاختلاف على الأوزاعي طريق عمارة فقال: (8/ 163) قال أبو عبد الرحمن: عمارة أحفظ من يحيى، وحديثه أولى بالصواب. يعني: يحيى بن حمزة. ولفظ حديث حمان عن معاوية يختلف عن لفظ أبي شيخ الهنائي عن معاوية السابق. فلفظ حديث حمان ليس فيه الاستثناء إلا مقطعاً ". وهاك روايات الحديث عند النسائي، جاء عنده (5153): أن معاوية عام حج، جمع نفراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة، فقال لهم: أنشدكم الله أَنَهَىَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب. قالوا: نعم. قال: وأنا أشهد. وفي رواية (5154): مثله إلا أنه قال: عن لبوس الذهب. قالوا: نعم. قال: وأنا أشهد. وفي رواية (5155): ألم تسمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الذهب. قالوا: نعم. قال: وأنا أشهد. وحمان هذا يقال له: حمان، ويقال له: أبو حمان، ويقال حمران: أخو أبي شيخ الهنائي. روى عنه اثنان: أبو إسحاق السبيعي، وأخوه أبو شيخ الهنائي، ولم يوثقه إلا ابن حبان. قال عنه الحافظ في التقريب (1511): مستور. وسبق لنا كلام أبي حاتم في العلل أنه مجهول. وأما رواية أبي قلابة عن معاوية. فأخرجها أحمد (4/ 93) ثنا إسماعيل، ثنا خالد الحذاء، عن ميمون القناد، عن أبي قلابة، عن معاوية بن أبي سفيان به. وأخرجه أبو داود (4239) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 277) من طريق حميد بن مسعدة، ثنا إسماعيل به. وأخرجه النسائي في الكبرى (9452) وفي الصغرى (5150) من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد، قال: حدثنا خالد به. واختلف على خالد الحذاء، فرواه إسماعيل بن علية وعبد الوهاب بن عبد المجيد، عن خالد، عن ميمون، عن أبي قلابة. =

والثاني: الرخصة في السلاح فقط. والثالث: في السيف خاصة. وفيه وجه بتحريمه مطلقاً، لحديث أسماء: لا يباح من الذهب ولا خريصة (¬1). ¬

= وخالفهما سفيان بن حبيب فرواه عن خالد، عن أبي قلابة بدون ذكر ميمون كما في سنن النسائي (5149). قال أبو داود: أبو قلابة لم يلق معاوية، ومثله قال أبو حاتم الرازي. وميمون القناد: هذا مجهول الحال ليس له في أبي داود والنسائي إلا هذا الحديث، روى عنه جماعة، ولم يوثقه إلا ابن حبان. قال عنه أحمد بن حنبل: ميمون القناد قد روى هذا الحديث، وليس بمعروف. وقال عنه في التقريب: مقبول. أي حيث توبع، وقال الحافظ المنذري في مختصر سنن أبي داود (6/ 128): " وقال البخاري: ميمون القناد عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة مراسيل " _انظر ترجمته في تهذيب الكمال (8/ 177) _، فهذان انقطاعان في الحديث. فالخلاصة: حديث قتادة عن أبي الشيخ الهنائي عن معاوية ليس فيه إلا عنعنة قتادة، وتزول بالمتابعة فقد تابعه في الرواية عن أبي الشيخ الهنائي كل من مطر بن طهمان، وبيهس بن فهدان. ومتابعة أبي قلابة وإن كان فيها انقطاع إلا أنها صالحة في المتابعات. أما الحديث من طريق حمان أو أبي حمان فإن إسناده مضطرب اضطراباً لا يصلح الاحتجاج به. والله أعلم. والمقصود بالنهي عن الذهب هو في حق الرجال خاصة، ولذلك ذكر معه الحرير، وهو مباح في حق النساء، وقد نقل الإجماع غير واحد على جواز لبس الذهب للنساء، منهم ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/ 64). (¬1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 453) حدثنا محمد بن عبيد، ثنا داود يعني: ابن يزيد الأودي، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يصلح شئ من الذهب ولا بصيصة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = دراسة الاسناد: محمد بن عبيد قال صالح بن احمد بن محمد بن حنبل: سألت أبى عن يعلى ومحمد ابني عبيد، فقال: كان محمد يخطىء ولايرجع عن خطئه، وكان يظهر السنة. الجرح والتعديل (8/ 10). وقال أحمد بن حنبل: محمد بن عبيد الطنافسي كان رجلاً صدوقاً، وكان يعلى أثبت منه. المرجع السابق. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى بن معين: محمد بن عبيد الطنافسي؟ فقال: ثقة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: صدوق ليس به بأس. المرجع السابق. وقد وثقه أحمد كما في بحر الدم (916). وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان صاحب سنة وجماعة. الطبقات الكبرى (6/ 397). وقال الدارقطني ثقة. سير أعلام النبلاء (9/ 436). وفي التقريب: ثقة يحفظ. الثاني: داود بن يزيد الأودي. قال صالح بن أحمد بن حنبل: قال أبي: داود بن يزيد يحدث عن الشعبي ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (3/ 427). وقال أحمد أيضاً: داود الأودي واه. ضعفاء العقيلي (2/ 40). قال ابن أبي حاتم: قرئ على العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: داود بن يزيد الاودي: ليس حديثه بشيء. الجرح والتعديل (3/ 427). قال أبو حاتم الرازي: داود الاودي ليس بقوي يتكلمون فيه، وهو أحب إلي من عيسى الحناط. المرجع السابق. وقال ابن عدي: ولداود الأودي أحاديث غير ما ذكرت صالحة، ولم أر في أحاديثه منكراً يجاوز الحد إذا روى عنه ثقة، وداود وإن كان ليس بالقوي في الحديث فإنه يكتب حديثه ويقبل إذا روى عنه ثقة. الكامل (3/ 79). الثالث: شهر بن حوشب. مختلف فيه، والأكثر على ضعفه. وفي التقريب: صدوق كثير =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الإرسال والأوهام. وقد سبق أن حررت كلام العلماء فيه في دراستي كتاب شرح معاني الآثار للطحاوي. فالسند ضعيف. واختلف على شهر بن حوشب، فرواه داود بن يزيد الأودي، عن شهر، عن أسماء بنت يزيد. ورواه عبد الجليل القيسي عن شهر به بلفظ: من تحلى وزن عين جرادة من ذهب أو خز بصيصة كوي بها يوم القيامة إلا أنه ذكر فيه قصة، وجعلها متعلقة بخالة أسماء، وليست بأسماء. فقد رواه أحمد (6/ 459، 460) حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، أنا عبد الجليل القيسي، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد كانت تخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: بينما أنا عنده إذ جاءته خالتي، قالت: فجعلت تساءله، وعليها سواران من ذهب، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيسرك أن عليك سواران من نار، قالت: ياخالتي إنما يعني سواريك هذين، قالت: فألقتهما. قالت: يانبي الله إنهن إذا لم يتحلين صلفن عند أزواجهن، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: أما تستطيع إحداكن أن تجعل طوقاً من فضة، وجمانة من فضة، ثم تخلقه بزعفران فيكون كأنه من ذهب، فإنه من تحلى وزن عين جرادة من ذهب أو خز بصيصة كوي بها يوم القيامة. ورواه عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر، فخالفه في المتن، فلم يحرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه الذهب، وإنما طلب منها أداء زكاته. فقد روى الإمام أحمد (6/ 461) حدثنا علي بن عاصم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها سواران من ذهب، فقال لنا: أتعطيان زكاته؟ فقلنا: لا. فقال: أما تخافان أن يسوركما الله بسوارين من نار. وهذا إسناد ضعيف فيه علي بن عاصم متكلم فيه. ورواه قتادة، عن شهر، واختلف عليه، فرواه هشام، عن قتادة، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري مرسلاً. أخرجه أحمد (4/ 227) قال: ثنا عبد الصمد، ثنا هشام، عن قتادة، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من تحلى أو حلى بخز بصيصه من ذهب كوي بها يوم القيامة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وهذا مرسل، ورجاله ثقات. ورواه همام، عن قتادة، عن شهر، عن أسماء. أخرجه أحمد (6/ 460) قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أسماء قالت: انطلقت مع خالتي إلى النبي ص وفي يدها سواران من ذهب، أو قالت: قلبان من ذهب، فقال لي: أيسرك أن يجعل في يدك سواران من نار، فقلت لها: يا خالتي أما تسمعين ما يقول؟. قالت: وما يقول؟. قلت: يقول: أيسرك أن يجعل في يدك سواران من نار، أو قال: قلبان من نار. قالت: فانتزعتهما فرمت بهما فلم أدر أي الناس أخذهما. وهشام أثبت من همام في قتادة. بل قال شعبة: هشام أثبت مني في قتادة، لكن همام قد توبع في جعله من مسند أسماء. ورواه ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب به. عند ابن حزم في المحلى (10/ 83) وليث بن أبي سليم: ضعيف. وتابع شهراً محمود بن عمرو الأنصاري عن أسماء، ولكن لم يذكر فيه قصة السوارين، فقد أخرج الحديث أحمد في المسند (6/ 455،457) من ثلاثة طرق عن هشام، وأخرجه النسائي (5139) من طريق معاذ بن هشام، عن هشام. وأخرجه الطبراني في الكبير (24/ 186) رقم 469 من طريق أبي عاصم، عن هشام به. وأخرجه أحمد (6/ 460)، وأبو داود (4238) من طريقين عن أبان بن يزيد العطار، كلاهما (هشام وأبان) عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني محمود بن عمرو، عن أسماء بلفظ: أيما امرأة تحلت قلادة من ذهب جعل في عنقها مثلها من النار يوم القيامة، أيما امرأة جعلت في أذنها خرصة من ذهب جعل في أذنها مثلها من النار يوم القيامة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 141) من طريق همام، عن يحيى به. قال المنذري في الترغيب (1/ 313) رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد. والحديث في إسناده: محمود بن عمرو ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/ 290). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 434). وقال ابن حزم: ضعيف. المحلى (10/ 83). =

والخريصة: عين الجرادة، لكن هذا يحمل على الذهب المفرد دون التابع، ولا ريب أن هذا محرم عند الأئمة الأربعة، لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن خاتم الذهب، وإن كان قد لبسه من الصحابة من لم يبلغهم النهي. ولهذا فرق أحمد وغيره بين يسير الحرير مفرداً كالتكة فنهى عنه، وبين يسير غيره تبعاً كالعلم، إذ الاستثناء وقع في هذا النوع فقط. فكما يفرق في الرخصة بين اليسير والكثير، فيفرق بين التابع والمفرد، ويحمل حديث معاوية إلا مقطعاً " على التابع لغيره، وإذا كانت الفضة قد رخص منها في باب اللباس والتحلي من اليسير، وإن كان مفرداً، فالذين رخصوا في اليسير أوالكثير التابع في الآنية ألحقوها بالحرير الذي أبيح يسيره تبعاً للرجال في الفضة التي أبيح يسيرها مفرداً أولاً. ولهذا أبيح -في أحد قولي العلماء-، وهو إحدى الروايتين عن أحمد -حلية المنطقة من الفضة وما يشبه ذلك من لباس الحرب كالخوذة، والجوشن، والران، وحمائل السيف. وأما تحلية السيف بالفضة فليس فيه خلاف. والذين منعوا قالوا: الرخصة وقعت في باب اللباس دون باب الآنية، وباب اللباس أوسع كما تقدم. ¬

_ = وقال أبو الحسن بن القطان: مجهول الحال. تهذيب التهذيب (10/ 58). وقال الذهبي: فيه جهالة. ميزان الاعتدال (8375). هذا فيما يتعلق بتخريج الحديث. وقد قال ابن القيم في تهذيب السنن (6/ 128): " وقد روي في حديث آخر احتج به أحمد: " من تحلى بخريصة كوي بها يوم القيامة " فقال الأثرم: فقلت: أي شيء خريصة؟ قال: شيء صغير مثل الشعيرة. وقال غيره: من عين الجرادة. وسمعت شيخ الإسلام يقول: حديث معاوية في إباحة الذهب مقطعاً هو من التابع غير المفرد كالزر والعلم ونحوه، وحديث الخريصة هو في المفرد كالخاتم وغيره.

وقد يقال: إن هذا أقوى، إذ لا أثر في هذه الرخصة والقياس كما ترى. وأما المضبب بالذهب، فهذا داخل في النهي، سواء كان قليلاً أو كثيراً. والخلاف المذكور في الفضة منتف هنا، لكن في يسير الذهب في الآنية وجه للرخصة فيه (¬1). فمن خلال هذا الكلام لابن تيمية يتبين لنا ما يلي: التفريق في الذهب والفضة بين المفرد والتابع. فيحرم مفرد الذهب ولو يسيراً، ويباح التابع في اللباس. والتفريق بينهما في باب الآنية، وباب اللباس. فباب اللباس أوسع من باب الآنية. كما أنه يدل على إباحة الخاتم من الفضة، وكذلك تحلية السيف، والذي يظهر لي أن الفضة الأصل فيها الحل إلا ما دل عليه الدليل كالنهي عن الأكل والشرب فيها، ولذلك اتخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ورق، فالفرق بين الذهب والفضة ظاهر من حيث الأدلة، والله أعلم. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 86 - 88).

الفصل الثالث في الأواني المضببة بالذهب والفضة

الفصل الثالث في الأواني المضببة بالذهب والفضة ويشتمل على بحثين: المبحث الأول: في تضبيب الأواني بالذهب. المبحث الثاني: خلاف العلماء في التضبيب بالفضة.

المبحث الأول في تضبيب الأواني بالذهب

المبحث الأول في تضبيب الأواني بالذهب تعريف الضبة: جاء في المطلع على أبواب المقنع: المضبب: هو الذي عمل فيه ضبة. قال الجوهري: هي حديدة عريضة يضبب بها الباب - يريد والله أعلم- أنها في الأصل كذلك، ثم تستعمل من غير الحديد، وفي غير الباب. اهـ (¬1). وجاء في المغني في الإنباء: المضبب من الأقداح: هو الذي أصابه صدع: أي شق، فسويت له كتيفة عريضة من الفضة أو غيرها، وأحكم الصدع بها، فالكتفية يقال لها: ضبة، وجمعها: ضبات اهـ (¬2). وفي تحرير ألفاظ التنبية: الضبة: قطعة تسمر بها في الإناء ونحوه (¬3). وإذا عرفنا التضبيب بقي علينا أن نعرف حكم التضبيب بالذهب والفضة. فأما المضبب بالذهب فقد اختلف العلماء في حكم الأكل والشرب في الإناء المضبب بالذهب، فقيل: يجوز الأكل والشرب بالإناء المضبب بالذهب، وهو قول أبي ¬

(¬1) المطلع على أبواب المقنع (ص:9). (¬2) المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء (1/ 23). (¬3) تحرير الفاظ التنبيه (ص: 33).

حنيفة، ومحمد (¬1)، والقاضي أبي بكر من المالكية (¬2)، والخرسانيين من الشافعية، ونقله الرافعي عن معظم أصحاب الشافعي (¬3)، واختاره أبو بكر من الحنابلة (¬4)، وهو مذهب ابن حزم (¬5). وقيل: يكره، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬6)، واختاره بعض المالكية (¬7). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (5/ 132)، البحر الرائق (8/ 211)، شرح فتح القدير (4/ 79)، الفتاوى الهندية (5/ 334)، حاشية ابن عابدين (6/ 355)، الاختيار لتعليل المختار (4/ 160). (¬2) مواهب الجليل (1/ 129). (¬3) اختار الخرسانيون من الشافعية أن التضبيب بالذهب كالتضبيب بالفضة يباح بشروط معينة، بأن تكون الضبة يسيرة، وأن تكون لحاجة، وسوف نأتي على تفصيل هذه الشروط في بحث التضبيب بالفضة، انظر المجموع (1/ 312). (¬4) المغني (1/ 59)، وخَطَّأ ابن تيمية نسبة هذا القول لأبي بكر، فقال في مجموع الفتاوى (21/ 82): " غلط بعض الفقهاء من أصحاب أحمد؛ حيث حكى قولاً بإباحة يسير الذهب تبعاً في الآنية عن أبي بكر بن عبد العزيز، وأبو بكر إنما قال ذلك في باب اللباس والتحلي، كعلم الذهب ونحوه ". (¬5) المحلى إلا أن ابن حزم أباح استعماله للنساء خاصة دون الرجال، لأن استعمال الذهب للرجل لا يجوز، وأما إن كان مضبباً بالفضة جاز استعماله للرجال والنساء؛ لأن استعمال الفضة للرجال جائز، انظر المحلى (6/ 99)، و (1/ 427). (¬6) بدائع الصنائع (5/ 132)، الفتاوى الهندية (5/ 334). (¬7) قال صاحب مواهب الجليل (1/ 129): " قال مالك في العتبية: لا يعجبني أن يشرب في إناء مضبب، ولا ينظر في مرآة فيها حلقة، وهو يحتمل التحريم والكراهة، قال ابن عبد السلام: وظاهره الكراهة، وهو الذي عزاه المازري للمذهب، وكذا بعض من تكلم على =

وقيل: يحرم التضبيب بالذهب مطلقا، سواء كثرت الضبة أو قلت، لحاجة أو لزينة، في موضع الاستعمال أو في غيره. وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يباح الإناء المضبب بالذهب للنساء دون الرجال، وهو اختيار ابن حزم رحمه الله (¬4). وقيل: يباح التضبيب بالذهب بشرط أن يكون يسيراً، حكاه صاحب الإنصاف عن ابن تيمية، والمعروف عنه المنع (¬5). ¬

= الخلاف. قال في الإكمال عن المازري: والمذهب عندنا كراهة الشرب في الإناء المضبب، كما كره النظر في مرآة فيها حلقة فضة. قال القاضي عبد الوهاب: ويجوز عندنا استعمال المضبب إذا كان يسيراً. قال بعض شيوخنا: وعلة مجرد السرف لا تقتضي التحريم كأواني البلور التي لها الثمن الكثير والياقوت؛ فإن استعمالها عندنا جائز غير حرام، لكنه مكروه للسرف انتهى. وانظر الخرشي (1/ 101)، الشرح الصغير (1/ 62). (¬1) المنتقى للباجي (7/ 236)، أحكام القرآن لابن العربي (4/ 97)، التاج والإكليل (1/ 185 - 186)، الخرشي (1/ 100،101)، مواهب الجليل (1/ 129)، حاشية الدسوقي (1/ 64)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 62)، منح الجليل (1/ 59). (¬2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 118)، المجموع (1/ 311،312)، روضة الطالبين (1/ 46)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 32)، أسنى المطالب (1/ 27)، نهاية المحتاج (1/ 105). (¬3) كشاف القناع (1/ 51)، مطالب أولي النهى (1/ 57)، المغني (1/ 59)، المبدع (1/ 66)، الفروع (1/ 69)، الإنصاف (1/ 79). (¬4) المحلى (1/ 427). (¬5) الإنصاف (1/ 83)، والمعروف عن ابن تيمية المنع؛ فإنه قال في مجموع الفتاوى (21/ 82): وأما المضبب بالذهب فهذا داخل في النهي، سواء كان قليلاً أو كثيراً، والخلاف المذكور في الفضة منتف هاهنا، لكن في يسير الذهب في الآنية وجه للرخصة فيه. اهـ

دليل من قال: يباح المضبب بالذهب.

دليل من قال: يباح المضبب بالذهب. الدليل الأول: قالوا: إن المحرم هو آنية الذهب والفضة، والمضبب بالذهب ليس إناء من ذهب، فلم يقع عليه النهي، والأصل الحل حتى يقوم دليل على المنع، والقدر الموجود من الذهب في الإناء هو تابع، وليس بمتبوع، ولذلك لا يجوز لبس الحرير للرجل، وأبيح له لبسه إذا كان تابعاً كما لو كان يسيراً أو كان معلماً بقدر أربعة أصابع فما دون. الدليل الثاني: لما استوت الفضة بالذهب في التحريم في باب الآنية، فيحرم إناء الفضة كما يحرم إناء الذهب، فكذلك ينبغي أن يستويا في الضبة، فإذا كانت الضبة من الفضة جائزة، فكذلك الضبة من الذهب. وأجيب: بأنه لا يصح القياس على الفضة؛ لأن باب الفضة أوسع، ولذلك أبيح منه الخاتم وقبيعة السيف. دليل من قال: يحرم التضبيب بالذهب. قالوا: الأصل أن الضبة محرمة مطلقاً سواء كانت من ذهب أو فضة، جاء الدليل في جواز التضبيب بالفضة، فبقي الذهب على أصله في التحريم. الدليل الثاني: قالوا: إذا استعمل جزءاً من الإناء فقد استعمله كله، فيكون مستعملاً

دليل من قال: يكره التضبيب.

للذهب المحرم (¬1). دليل من قال: يكره التضبيب. قالوا: إن العلة في تحريم الإناء هي الإسراف والخيلاء، وهذه العلة لا تقتضي التحريم، وإنما تقتضي الكراهة. وقد أجيب على هذا التعليل في المسألة السابقة. دليل من قال: يحرم على الرجال خاصة. قال: إن تحريم المضبب من الذهب على الرجال دون النساء، ليس لأنه إناء من ذهب، وإلا لحرم على الرجال والنساء، فالمضبب بالذهب غير إناء الذهب، ولكن لأن الذهب يحرم استعماله مطلقاً على الرجال دون النساء، وإذا كان الذهب حراماً على الرجال، حرم المضبب بالذهب. والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع بتصرف (1/ 312).

المبحث الثاني خلاف العلماء في التضبيب بالفضة

المبحث الثاني خلاف العلماء في التضبيب بالفضة ذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3) إلى جواز التضبيب بالفضة على خلاف بينهم في شروط جواز ذلك (¬4). ¬

(¬1) البحر الرائق (8/ 212)، حاشية ابن عابدين (6/ 344)، شرح فتح القدير (4/ 79)، الفتاوى الهندية (5/ 334)، تحفة الفقهاء (3/ 355)، (¬2) روضة الطالبين (1/ 45)، إعانة الطالبين (2/ 155)، المهذب (1/ 12)، الإقناع للشربيني (1/ 33)، حواشي الشرواني (1/ 122)، شرح زبد بن رسلان - الأنصاري (ص:35). (¬3) المبدع (1/ 67)، الإنصاف (1/ 83)، كشاف القناع (1/ 52). (¬4) فالحنفية لم يشترطوا إلا أن يتقي موضع الضبة. وأما الشافعية والحنابلة فاشترطوا للإباحة شروطاً: فتباح عندهم بلا كراهة إن كانت ضبة يسيرة لحاجة. وإن كانت كثيرة لحاجة فلا تباح على المشهور من مذهب الحنابلة، وتكره عند الشافعية. وإن كانت يسيرة لزينة فعند الشافعية مكروهة، وعند الحنابلة أوجه: التحريم والكراهة والإباحة. واختار الإباحة جماعة منهم: القاضي، وابن عقيل، وابن قدامة، وابن تيمية. وإن كانت الضبة كثيرة لغير حاجة فتحرم عند الشافعية والحنابلة. ومعنى الحاجة: قال ابن قدامة في المغني (1/ 59): أن تدعو الحاجة إلى ما فعله به، وإن كان غيره يقوم مقامه. اهـ وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 81): ليس المراد أن يحتاج إلى كونها من فضة، بل هذا يسمونه في مثل هذا ضرورة، والضرورة تبيح الذهب والفضة مفرداً وتبعاً، حتى =

دليل من قال بالجواز.

وقيل: لا يجوز التضبيب بالفضة مطلقاً، سواء كانت الضبة يسيرة أم لا، وسواء ألجأت إلى ذلك حاجة أم لا، وسواء كانت الضبة في مضوع الاستعمال أم لا، وهذا القول هو الأصح من قولي مالك (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2) .. قال الخطابي: منعه مطلقاً جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول الليث (¬3)، وهو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما، وعائشة وغيرهما (¬4). وقيل: يكره، وهو قول في مذهب المالكية (¬5). دليل من قال بالجواز. (117) قال البخاري: حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلةً من فضة. قال عاصم: رأيت القدح وشربت فيه (¬6). ¬

= لو احتاج إلى شد أسنانه بالذهب، أو اتخذ أنفاً من ذهب ونحو ذلك جاز، كما جاءت به السنة، مع أنه ذهب، ومع أنه مفرد. اهـ (¬1) التمهيد (16/ 108، 111)، الفواكه الدواني (2/ 309، 319)، مواهب الجليل (1/ 129). (¬2) الإنصاف (1/ 83). (¬3) الفتح (10/ 104). (¬4) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 104)، وسيأتي ذكره وتخريجه عند الكلام على الأدلة. (¬5) الفواكه الدواني (2/ 309). (¬6) صحيح البخاري (3109).

الدليل الثاني: من النظر، قالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن آنية الفضة، والمضبب بالفضة ليس إناء فضة فلا يدخل في النهي، والأصل الحل حتى يرد دليل صحيح صريح على تحريم المضبب، ولا دليل. الدليل الثالث: (118) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا بابويه بن خالد الأيلي، ثنا عمر بن يحيى الأيلي، ثنا معاوية بن عبد الكريم الضال، ثنا محمد بن سيرين، عن أخته، عن أم عطية قالت: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب وتفضيض الأقداح، فكلمه النساء في لبس الذهب فأبى علينا، ورخص لنا في تفضيض الأقداح (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المعجم الكبير (25/ 68) رقم 167. (¬2) في إسناده عمر بن يحيى الأيلي، جاء في لسان الميزان (4/ 338)، ذكره ابن عدي، فأخرج في ترجمة جارية بن هرم، قال: حدثنا ابن ناجية، ومحمد بن موسى الأيلي قالا: حدثناعمر بن يحيى الأيلي، حدثنا جارية بن هرم، عن عبد الله بن بسر، عن أبي كبشة، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه رفعه: من كذب عليَّ ... الحديث، وأشار إلى أن عمر بن يحيى سرقه من يحيى بن بسطام، وانظر كلام ابن عدي في الكامل (2/ 175). وقال الهيثمي في المجمع (5/ 149) فيه عمر بن يحيى لم أعرفه. والحديث قد أخرجه الطبراني في الأوسط (3/ 330) رقم 3311.

دليل من قال بالتحريم.

دليل من قال بالتحريم. الدليل الأول: (119) ما رواه الدارقطني، قال: نا عبد الله بن محمد بن إسحاق الفاكهي، نا أبو يحيى بن أبي ميسرة، نا يحيى بن محمد الجاري، نا زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من شرب من إناء ذهب أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم (¬1). [إسناده ضعيف، وزيادة أو إناء فيه شيء من ذلك زيادة منكرة] (¬2). ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 40). (¬2) وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 45) من طريق الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي وعبد الله بن محمد بن إسحاق الفاكهي بمكة قالا: ثنا أبو يحيى بن أبي مسرة به. والحديث في إسناده يحيى بن محمد الجاري وزكريا بن إبراهيم بن مطيع ووالده. أما يحيى بن محمد الجاري فذكره ابن حبان في الثقات، وقال يغرب. الثقات (9/ 259، 260). وقال البخاري: يتكلمون فيه. الكامل لابن عدي (7/ 226)، المغني في الضعفاء (2/ 743)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/ 202). وقال ابن عدي: وللجاري غير ما ذكرت وليس بحديثه باس. الكامل (7/ 226). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 428). وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ. وأما زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، فجاء في ترجمته: قال ابن القطان: حديث ابن عمر لا يصح، وزكريا هو وأبوه لا يعرف لهما حال. تنقيح التحقيق (1/ 321). =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (120) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يشرب من قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث: (121) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، أنبأ عبد الوهاب بن عطاء، أنا سعيد، عن ابن سيرين، عن عمرة، أنها قالت: كنا مع عائشة رضي الله عنها فما زلنا بها حتى رخصت لنا في الحلي، ولم ترخص لنا في الإناء المفضض. ¬

= وقال ابن عبد الهادي: زكريا بن مطيع غير معروف. التنقيح (1/ 320). وقال الذهبي: هذا حديث منكر، أخرجه الدارقطني، وزكريا ليس بالمشهور. الميزان (9625). قال الحافظ عن الحديث: معلول بجهالة حال إبراهيم بن عبد الله بن مطيع وولده، وقال البيهقي: الصواب ما رواه عبيد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً أنه كان لا يشرب في قدح فيه ضبة فضة. فتح الباري (10/ 101). وضعف ابن تيمية هذا الحديث كما في مجموع الفتاوى (21/ 85). (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 104). (¬2) رجاله كلهم ثقات، وأخرجه البيهقي (1/ 29) من طريق الحسين بن علي بن عفان، ثنا عبد الله بن نمير به. وصححه البيهقي انظر ما نقله الحافظ عنه قبل سطور، وصحح النووي إسناده في المجموع (1/ 313) كما صححه الحافظ في التلخيص (1/ 54).

قال عبد الوهاب: قال سعيد هو ابن أبي عروبة: حملناه على الحلقة ونحوها (¬1). [في إسناده يحيى بن أبي طالب مختلف فيه، وقد توبع] (¬2). ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 29). (¬2) في إسناده يحيى بن أبي طالب، مختلف فيه، جاء في ترجمته: قال الدارقطني: لا بأس به عندي، لم يطعن فيه أحد بحجة. تاريخ بغداد (14/ 220). وقال الحافظ: وثقه الدارقطني، وهو من أخبر الناس به. لسان الميزان (6/ 262). وقال أبو حاتم: محله الصدق. الجرح والتعديل (9/ 134). وقال موسى بن هارون: أشهد أنه يكذب. تاريخ بغداد (14/ 220)، قال ابن حجر: عنى في كلامه، ولم يعن في الحديث. قلت: هو جرح، ومن كذب في كلامه فقد اتهم. وقال أبو عبيد الآجري: خط أبو داود على حديث يحيى بن أبي طالب. تاريخ بغداد (14/ 220). وقال أبو أحمد محمد بن إسحاق الحافظ: ليس بالمتين. المرجع السابق. وقال مسلمة بن قاسم: ليس به باس، تكلم الناس به. انظر اللسان (9229). وعبد الوهاب بن عطاء صدوق، وهو من أصحاب سعيد القدماء، وقد روى عنه قبل الاختلاط على الصحيح. وروى ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 105)، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن محمد، عن أم عمرو بنت عمر قالت: كانت عائشة تنهانا أن نتحلى الذهب، أو نضبب الآنية، أو نحلقها بالفضة، فما برحنا حتى رخصت لنا وأذنت لنا أن نتحلى الذهب، وما أذنت لنا، ولا رخصت لنا أن نحلق الآنية أو نضببها بالفضة. ولم أقف على أم عمرو بنت عمر، إلا أن تكون أبو عمرو مولى عائشة، كما ذكره ابن عبد البر في التمهيد (16/ 109، 110) قال: روى ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي عمرو مولى عائشة، قال: أبت عائشة أن ترخص لنا في تفضيض الآنية. فإن كان أبو عمرو فهو ثقة، ويكون إسناد ابن أبي شيبة صحيحاً، وإن كانت غيره، فينظر في أم عمرو هذه، وبقية رجال الإسناد ثقات، والله أعلم.

جواب المانعين من التضبيب عن أدلة القول الأول. أما الجواب عن حديث أنس رضي الله عنه في البخاري، أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلةً من فضة، فالفاعل هو أنس رضي الله عنه، وفعله هذا معارض برأي غيره من الصحابة كابن عمر وغيره ممن قدمنا كما في الرواية الأخرى عند البخاري، (122) قال البخاري، حدثنا الحسن بن مدرك، قال: حدثني يحيى بن حماد، أخبرنا أبو عوانة، عن عاصم الأحول، قال: رأيت قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة، قال: وهو قدح جيد عريض من نضار، قال: قال أنس: لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. قال: وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: لا تغيرن شيئاً صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتركه (¬1). ورواه البيهقي من طريق أبي حمزة السكري، عن عاصم بن سليمان، عن ابن سيرين، عن أنس، وفيه: ثم إن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انصدع فجعلت مكان الشعب سلسلة من فضة (¬2). ورجاله ثقات. قال الباجي: يحتمل أن يكون أنس سلسله بفضة بعد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعد وفاة أبي طلحة الذي منعه من ذلك. وجزم بذلك ابن الصلاح، قال رحمه الله: فاتخذ يوهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ¬

(¬1) صحيح البخاري. (¬2) سنن البيهقي (1/ 29، 30).

المتخذ: وليس كذلك بل أنس هو المتخذ. ففي رواية قال أنس. فجعلت مكان الشعب سلسلة (¬1). تعقب ذلك ابن حجر في تلخيص الحبير، فقال: فيه نظر؛ لأن في الخبر عند البخاري عن عاصم قال: وقال ابن سيرين إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال أبوطلحة: لا تغيرن شيئاً صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهذا يدل على أنه لم يغير فيه شيئاً. اهـ (¬2). قلت: يحتمل أن يكون الشعب في الحلقة، فأراد أنس أن يغيرها بأن يجعلها من ذهب أو فضة، فنهاه أبو طلحة، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، وأبقى على حلقة الحديد، ويحتمل أن يكون الشعب في الإناء في غير مكان الحلقة، ويكون الخلاف مع أبي طلحة في الحلقة، ولم يغيرها أنس، أما التضبيب فلم يكن بينهم خلاف، وفرق بين تضبيب الحلقة أو الإناء، وبين أن تكون الحلقة كلها من الذهب أو الفضة الخالص، وعلى كلا الاحتمالين يترجح أن يكون الفاعل هو أنس رضي الله عنه، وإذا كانت الرواية الأولى في البخاري والتي بلفظ " أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، تحتمل أن يكون الفاعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتحتمل أن يكون الفاعل أنساً، فإن الرواية الأخرى صريحة بأن الفاعل هو أنس، وينبغي أن يحمل المتشابه على المحكم. والله أعلم. ومع أنه لا دلالة في حديث أنس كما بينت، إلا أن الراجح أن التضبيب بالفضة جائز، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن الشرب في آنية الفضة، ولا يقال للإناء إذا ضبب بالفضة: إنه إناء من فضة، فلا يدخل في النهي، والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع (1/ 313) .. (¬2) تلخيص الحبير (1/ 52).

الفصل الرابع في آنية الكفار

الفصل الرابع في آنية الكفار اختلف الفقهاء في حكم آنية الكفار ومثلها ثيابهم، هل يحكم بطهارتها بناء على أن أصلها الطهارة، أو يحكم بنجاستها بناء على أن الظاهر منهم عدم توقيهم النجاسة، اختلف الفقهاء في ذلك: فقيل: يكره استعمال أواني المشركين وثيابهم قبل غسلها، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب غسل ما استعملوه من الآنية والثياب، ولا يجب غسل ما صنعوه ولم يستعملوه، وهو مذهب مالك (¬2). ¬

(¬1) البحر الرائق (8/ 232)، والمبسوط (1/ 97)، وتارة يعبر الحنفية بقولهم: ولا بأس بالأكل في أنية المجوس، وغسلها أفضل، انظر المبسوط (24/ 27)، وعمدة القارئ (21/ 96). (¬2) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 187)، التاج والإكليل (1/ 121)، مختصر خليل (ص: 11)، مواهب الجليل (1/ 121). وجاء في البيان والتحصيل (1/ 50،51): وسئل- يعني: مالكاً- عن الرجل يشتري من النصراني الخفين أيلبسهما؟ قال: لا حتى يغسله. قيل له: فما ينسجون، فإنه يبلون الخمر، ويحركونه بأيديهم، ويسقون به الثياب قبل أن تنسج، وهم أهل نجاسة؟ قال: لا بأس بذلك، ولم يزل الناس يلبسونها قديماً. وانظر الخرشي (1/ 97)، والشرح الكبير (1/ 61). وفي حاشية الدسوقي: يجب الغسل عند مالك في الحالات التالية: الأولى: إذا جزم بعدم الطهارة. الثانية: إذا ظن عدم الطهارة. الثالثة: ذا شك في الطهارة. ففي هذه الحالات الثلاث يجب غسلها عند مالك، ولا يجب غسلها في حالاتين: الأولى: إذا تحققت طهارة الثياب والأواني. =

دليل من قال بالكراهة.

وقيل: إن تيقن طهارتها لم يكره له استعمالها، وإن لم يتيقن طهارتها كره له استعمالها مطلقاً حتى يغسلها، سواء كان الكافر كتابياً أو غيره، وسواء كان يتدين باستعمال النجاسة أم لا، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يباح استعمالها حتى يعلم نجاستها، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجب غسل أواني من لا تحل ذبيحته من المشركين كالمجوس والوثنيين، ونحوهم، بخلاف أهل الكتاب وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل من قال بالكراهة. (123) استدل بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، قال: أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ¬

= الثانية: إذا ظن طهارتها. انظر حاشية الدسوقي (1/ 61) بتصرف يسير. (¬1) المهذب (1/ 12)، المجموع (1/ 319،320)، تحفة المحتاج (1/ 127)، مغني المحتاج (1/ 31)، قال النووي في المجموع (1/ 320): " وإذا تطهر من إناء كافر، ولم يعلم طهارته ولا نجاسته، فإن كان من قوم لا يتدينون باستعمال النجاسة صحت طهارته بلا خلاف، وإن كان من قوم يتقربون باستعمال النجاسة فوجهان: الصحيح منهما باتفاق الأصحاب في الطريقتين أنه تصح طهارته، وهو نصه في الأم. ثم قال: والوجه الثاني: لا تصح طهارته، وهو قول أبي إسحاق، وصححه المتولي. اهـ (¬2) المغني (1/ 62)، الإنصاف (1/ 85)، المحرر (1/ 7)، المبدع (1/ 69)، الكافي (1/ 18)، كشاف القناع (1/ 53). (¬3) المغني (1/ 62)، الإنصاف (1/ 85)، المحرر (1/ 7).

دليل المالكية على التفريق بين ما استعملوه وبين ما نسجوه.

ليس بمعلم، وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت من أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل (¬1). وجه الاستدلال من الحديث: قالوا: نهى عن استعمالها مع وجود غيرها، وهذا مطلق سواء تيقنا طهارتها، أم لا، والأصل في النهي أنه للمنع، لكن لما قال سبحانه وتعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (¬2)، ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم ومياههم، وفي أوانيهم، فدل ذلك على طهارة ذلك كله، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - طعام أهل الكتاب، في أحاديث صحيحة، فدل على أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، والله أعلم. دليل المالكية على التفريق بين ما استعملوه وبين ما نسجوه. استدلو بحديث أبي ثعلبة المتقدم على وجوب غسل ما استعملوه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسلها، والأصل في الأمر الوجوب. ولأن الغالب على آنية الكفار وثيابهم النجاسة، لأنهم يطبخون فيها لحوم الخنزير ويأكلون فيها الميتة، وإذا تعارض الأصل (وهي كونها طاهرة) مع الغالب وهو استعمال النجاسة فيها، قدم الغالب على الأصل، فكل ما ¬

(¬1) صحيح البخاري (5478)، ومسلم (1930). (¬2) المائدة: 5.

دليل من قال: يباح استعمال آنية المشركين.

غلب على ظننا نجاسته حكمنا بنجاسته. ووجه التفريق عند المالكية بين ما استعلموه وبين ما نسجوه، أن ما نسجوا يتقون فيه بعض التوقي، لئلا يفسد عليهم، بخلاف ما لبسوه. وأجاب ابن العربي على ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يصيبون من آنية المشركين وأسقيتهم، فلا يعيب ذلك عليهم، قال: إن صح فمحمول على أنهم كانوا يستعملون ذلك بشرطه، وهو الغسل، أو يكون محمولاً على استعمال الأواني التي لا يطبخ فيها. اهـ (¬1). دليل من قال: يباح استعمال آنية المشركين. الدليل الأول: (124) ما رواه مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا سليمان- يعني: ابن المغيرة- حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل قال: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر قال: فالتزمته. فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال: فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسماً. ورواه البخاري وهذا اللفظ لمسلم (¬2). فالجراب آنية من آنياتهم، ولو كان غسل الإناء واجباً لنجاسته لتنجس الظرف وما فيه. الدليل الثاني: (125) ما أخرجه البخاري بسنده من حديث أبي هريرة، في قصة ¬

(¬1) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي (7/ 298). (¬2) صحيح مسلم (1772)، البخاري (5508).

الدليل الثالث

وضع اليهود السم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم؟ قالوا: نعم. قال: هل وضعتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل من طعامهم في آنيتهم. الدليل الثالث: (126) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن برد، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم، فنستمتع بها، فلا يعاب علينا (¬2). [إسناده حسن والحديث صحيح لغيره] (¬3). ¬

(¬1) البخاري (3169). (¬2) مسند أحمد (3/ 379). (¬3) رجاله ثقات إلا برد بن سنان فإنه صدوق، جاء في ترجمته: قال إسحاق بن منصور الكوسج عن يحيى بن معين أنه قال: برد أبو العلاء ثقة. الجرح والتعديل (2/ 422). وقال ابن معين أيضاً في رواية الدوري: ليس بحديثه بأس. تهذيب التهذيب (1/ 375). وقال أبو حاتم الرازي: كان صدوقاً، وكان قدرياً. الجرح والتعديل (2/ 422). وقال أبو زرعة: لا بأس به بصرى. المرجع السابق. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبى عن برد بن سنان فقال: صالح الحديث. المرجع السابق. وقال دحيم وابن خراش والنسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (1/ 375). =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (127) ما أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وقد ¬

_ = وقال النسائي مرة: ليس به بأس. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان ردئ الحفظ. مشاهير علماء الأمصار (1228). وقال الدارمي عن علي بن المديني: برد بن سنان ضعيف. تهذيب التهذيب (1/ 375). وفي التقريب: صدوق رمي بالقدر. وقد توبع برد بن سنان تابعه سليمان بن موسى كما سيأتي بيانه في التخريج إن شاء الله تعالى. تخريج الحديث: الحديث رواه أبو داود (3838) ومن طريقه أخرجه البيهقي (10/ 11) قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا عبد الأعلى به. وأخرجه البيهقي (1/ 32) من طريق علي بن المديني، نا عبد الأعلى به. وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 127) رقم 24386، وأبو داود (3838) والطبراني في مسند الشاميين (374) من طريق إسماعيل بن عياش به. وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل بلده مقبولة، وبرد بن سنان شامي من بلد إسماعيل. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين أيضاً (375) من طريق العلاء بن برد بن سنان، عن أبيه به. وقد تابع سليمان بن موسى برد بن سنان، فأخرجه أحمد (3/ 327) حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا نصيب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مغانمنا من المشركين الأسقية والأوعية، فنقسمها، وكلها ميتة. ورواه أحمد (3/ 343) عن حسن بن محمد، وأخرجه (3/ 389) عن سريج. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الأثار (1/ 473) من طريق إسماعيل بن مالك أبي غسان، ثلاثتهم عن محمد بن راشد به. وسليمان بن موسى فيه كلام لا ينزله عن رتبة الصدق، وقد حررت الكلام فيه في كتاب الحيض والنفاس، فالحديث صحيح لغيره إن شاء الله تعالى.

الدليل الرابع

جاء فيه أن النبي وأصحابه شربوا من مزادة امرأة مشركة، وأن أحد الصحابة كان مجنباً فاغتسل من ذلك الماء. والحديث في صحيح مسلم دون قصة اغتسال الجنب (¬1). الدليل الرابع: (128) ما رواه الشافعي في الأم، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب توضأ من ماء نصرانية في جرة نصرانية (¬2). [رجاله ثقات إلا أن ابن عيينة لم يسمعه من زيد بن أسلم] (¬3). ¬

(¬1) البخاري (3571)، صحيح مسلم (682). (¬2) الأم (1/ 8)، ومن طريق الشافعي رواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 314)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 32). ورواه عبد الرزاق في المصنف (254) عن ابن عيينة به مطولاً. (¬3) فقد رواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 32) والصغرى (1/ 166) من طريق سعدان بن نصر، ثنا سفيان، قال: حدثونا عن زيد بن أسلم ولم أسمعه، عن أبيه، عن عمر، فذكره في حديث. وقد ذكره البخاري معلقاً في كتاب الوضوء بصيغة الجزم، قال: توضأ عمر بالحميم ومن بيت نصرانية. قال الحافظ في الفتح (1/ 299): وهذا الأثر وصله الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه به. ولفظ الشافعي توضأ من ماء في جرة نصرانية، ولم يسمعه ابن عيينة من زيد بن أسلم، فقد رواه البيهقي من طريق سعدان بن نصر عنه، قال: حدثونا عن زيد بن أسلم فذكره مطولاً، ورواه الإسماعيلي من وجه آخر عنه بإثبات الواسطه، فقال: عن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه به، وأولاد زيد هم: عبد الله وأسامة وعبد الرحمن، وأوثقهم وأكبرهم عبد الله، وأظنه هو الذي سمع ابن عيينة منه ذلك، ولهذا جزم به البخاري، والله أعلم.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: قالوا: الأصل في أواني المشركين الطهارة والحل حتى يقوم دليل على المنع أو على النجاسة، ولم يقم دليل على ذلك، ولا يحكم بنجاستها بمجرد الشك، والشك لا يقضي على اليقين. لكن يشكل على هذا القول حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه حيث نهاهم عنها مع وجود غيرها، فإن لم يوجد إلا هي أذن لهم باستعمالها بعد غسلها. وأجابوا عن ذلك بوجهين: الأول: أن الغسل هو من باب الاحتياط والاستحباب. الثاني: أن حديث أبي ثعلبة الخشني في قوم كانوا يأكلون في آنيتهم الميتة والخنزير، ويشربون فيها الخمر، ولذا أمر بغسلها إن لم يوجد غيرها، أما من يعلم أنهم لا يأكلون فيها الميتة ولا يشربون فيها الخمر فآنيتهم كآنية المسلمين، (129) ويدل على هذا ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إنى بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبنه قال: واشربوا (¬1). [أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، واختلف في ذكر زيادة لحم ¬

(¬1) سنن أبي داود الطيالسي (1014).

الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬1). ¬

(¬1) زيادة: وهم يأكلون الخنزير، ويشربون الخمر اختلف في ذكرها على النحو التالي: فجاء ذكرها من طريق معمر كما في مصنف عبد الرزاق (8503) وأحمد (4/ 193). ومن طريق حماد بن زيد كما في مسند أبي دواد الطيالسي (1014)، والمستدرك للحاكم (502)، كلاهما عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة. وهذا سند منقطع، أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة. ورواه شعبة، عن أيوب، واختلف على شعبة: فرواه محمد بن جعفر كما في مسند أحمد (4/ 193). والنضر بن شميل كما في مسند ابن الجعد (1193). وأبو داود الطيالسي كما في مسند ابن الجعد أيضاً (1194). وعمر بن مرزوق كما في مستدرك الحاكم (1/ 143) أربعتهم رووه عن شعبة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة بدون ذكر الخنزير والخمر. وخالفهم سلم بن قتيبة كما في سنن الترمذي (1560، 1796) فرواه عن شعبة، عن أيوب به. بذكر لحم الخنزير وشرب الخمر. وسلم بن قتيبة صدوق، إلا أن له أوهاماً، قال أبو حاتم الرازي: ليس به بأس كثير الوهم، يكتب حديثه. وقال يحيى بن سعيد القطان: ليس أبو قتيبة من الجمال التي تحمل المحامل. ولو خالف سلم بن قتيبة محمد بن جعفر لرد عليه، لأن محمد بن جعفر من أثبت الناس في شعبة، فكيف وقد خالف مع محمد بن جعفر جماعة من الرواة رووه عن شعبة بدون ذكر لحم الخنزير وشرب الخمر، كما أن رواية محمد بن جعفر وأصحابه عن شعبة موافقة لرواية الصحيحين من طريق أبي إدريس عن أبي ثعلبة. ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب به. أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 230) رقم 604، قال: حدثنا عبيد بن غنام ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن بشر ثنا سعيد بن أبي عروبة عن أيوب به. وفيه زيادة أن أبا ثعلبة طلب من الرسول أن يكتب له أرضاً بالشام، لم يظهر عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ، وليس في هذه الرواية ذكر لحم الخنزير والخمر، فهي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = موافقة لرواية محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أيوب. ورواه حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن أبي ثعلبة، كما في مسند أحمد (4/ 195)، وسنن الترمذي (1797)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2631)، والمستدرك (505)، والطبراني في المعجم الكبير (22/ 217) رقم 580، فوصله حماد بن سلمة، فزاد في الإسناد أبا أسماء الرحبي، وليس فيها الزيادة المذكورة، إلا أن رواية حماد بن زيد، ومعمر، وشعبة، عن أيوب بدون ذكر أبي أسماء الرحبي، فالرواية المنقطعة أرجح منها، خاصة وأن رواية حماد بن سلمة عن أيوب فيها كلام، وحماد بن زيد وحده مقدم على حماد بن سلمة، فكيف وقد اتفق حماد بن زيد وشعبة، ومعمر على عدم ذكر أبي أسماء الرحبي. ورواه خالد الحذاء، عن أبي قلابة، واختلف على خالد: فرواه الطبراني (22/ 218) رقم 581 من طريق محمد بن عيسى الطباع وسريج بن يونس. والحاكم (506) ومن طريقه البيهقي (1/ 33) من طريق يحيى بن يحيى ثلاثتهم عن هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن أبي ثعلبة. وقد صرح هشيم بالتحديث في طريق الطبراني، فزاد في الإسناد أبا أسماء كرواية حماد بن سلمة. وخالف سفيان هشيماً فرواه الطبراني (22/ 230) رقم 630 من طريق محمد بن يوسف الفريابي والحاكم (504) من طريق أبي أحمد كلاهما عن سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة الخشني، بدون ذكر أبي أسماء. ومع الاختلاف على خالد في إسناده فإنه لم يذكر في كلا الطريقين زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، فلفظه موافق لرواية الصحيحين. ورواه النضر بن معبد أبو قحذم، عن أبي قلابة، فخالف فيه جميع من سبق، فقد أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 227) رقم 599 قال: حدثنا أحمد بن زهير التستري، ثنا عبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي بكير، ثنا يحيى بن السكن، ثنا أبو قحذم، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، أن أبا ثعلبة الخشني أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنا بأرض أهلها أهل كتاب، يأكلون لحوم الخنازير ويشربون الخمر، فكيف تأمرنا في آنيتهم وقدورهم؟ قال: إن وجدتم غيرها فخذوها وإلا فارحضوها بالماء، ثم كلوا فيها. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فجعل أبو قحذم الواسطة بين أبي قلابة وبين أبي ثعلبة جعل أبا الأشعث الصنعاني، وأبو قحذم ضعيف، قال فيه النسائي: ليس بثقة. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، انظر لسان الميزان (6/ 165). هذا فيما يتعلق بطريق أبي قلابة، عن أبي ثعلبة. فإن رجحنا الرواية المتصلة، والتي فيها رواية أبي أسماء الرحبي، فليس فيها زيادة أكل الخنزير، وشرب الخمر. وإن رجحنا الرواية المنقطعة، وهي رواية شعبة ومعمر، وحماد بن زيد، والتي لم تذكر أبا أسماء الرحبي، فهي مع كونها منقطعة، فقد اختلف في الحديث على أيوب في ذكرها، وأولاها بالتقديم رواية شعبة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة، أولاً: لإمامة شعبة. وثانياً: لموفقتها رواية الصحيحين في عدم ذكر لحم الخنزير وشرب الخمر. وقد روي الحديث من غير طريق أبي قلابة، فمن ذلك طريق مسلم بن مشكم، عن أبي ثعلبة رواه أبو داود (3839)، ومن طريقه البيهقي (1/ 33) حدثنا نصر بن عاصم، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (783) من طريق محمود بن خالد، كلاهما عن محمد بن شعيب، عن عبد الله بن العلاء بن زبر، عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم، عن أبي ثعلبة. بذكر الخنزير والخمر. وأخرجه الطبراني في الكبير (22/ 219) رقم 584، قال: حدثنا إبراهيم بن دحيم الدمشقي، حدثني أبي، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن العلاء بن زبر به. بذكر الخنزير والخمر. ونصر بن عاصم فيه ضعف، لكنه قد توبع، كما أن الوليد بن مسلم قد عنعن إلا أن روايته عن الأوزاعي هو المتهم فيها بتدليس التسوية، وهذا الطريق عن غير الأوزاعي. وأما طريق عمير بن هانئ، فأخرجه الطبراني في الكبير (22/ 223) رقم 592 من طريق إبراهيم بن دحيم. وأخرجه البيهقي (1/ 33)، و (10/ 10) من طريق أبي بكر محمد بن إسماعيل، كلاهما عن دحيم الدمشقي، عن محمد بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر، عن عمير بن هانئ، عن أبي ثعلبة الخشني. وإبراهيم بن دحيم لم أقف له على ترجمة، وقد توبع كما في سند البيهقي، وباقي رجاله ثقات، وقد جاء في هذا الطريق النص على لحم الخنزير وشرب الخمر. =

دليل من فرق بين أهل الكتاب وغيرهم.

دليل من فرق بين أهل الكتاب وغيرهم. قالوا: إن غير أهل الكتاب ذبيحتهم ميتة، فهم يطبخونها في آنيتهم، فتتنجس، بخلاف أهل الكتاب فإن ذبيحتهم طاهرة إذا كانت مما يحل أكله. وهذا القول ضعيف أيضاً، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه شربوا من آنية مزادة امرأة مشركة كما سبق تخريجه من حديث عمران بن حصين، وكانوا يساكنون المشركين الوثنيين في مكة كثيراً، وربما كان المسلم يعيش بين أبوين كافرين، وكان يدعو بعضهم بعضاً إلى الطعام، ولم ينقل أنهم كانوا يدعون ذلك، ويتحاشونه، ولو وجد لنقل، والله أعلم. الراجح من الخلاف: الذي ظهر لي من الأدلة أن حديث أبي ثعلبة الخشني فيه النهي عن استعمالها، والأمر بغسلها إذا لم يوجد غيرها، وكان من الممكن حمل النهي ¬

_ = كما روي من طريق عروة بن رويم، أخرجه ابن ماجه (2831) والطبراني في الكبير (22/ 226) رقم 597 من طريق أبي فروة يزيد بن سنان، حدثني عروة بن رويم اللخمي، عن أبي ثعلبة الخشني به. وليس فيه زيادة الخنزير والخمر. وهذا سند ضعيف، فيه أبو فروة يزيد بن سنان، كما أن عروة لم يلق أبا ثعلبة، انظر الجرح والتعديل (3/ 396). ورواه أبو رجاء العطاردي، عن أبي ثعلبة، رواه الطبراني في الكبير (22/ 228) رقم 600 من طريق محمد بن الفرح، مولى بني هاشم، ثنا علي بن غراب، ثنا علي بن منصور، حدثني أبو رجاء العطاردي، عن أبي ثعلبة الخشني. وفيه النص على لحم الخنزير، وشرب الخمر، ولم أقف على ترجمة محمد بن الفرح، وعلي بن منصور. هذا ما وقفت عليه من طرق حديث أبي ثعلبة الخشني في زيادة أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، وقد تبين لي أنها وردت في أكثر من طريق إلا أن هذه الطرق لا تسلم من اختلاف في إيرادها من عدمه، والله أعلم.

على ظاهره، وأنه للتحريم لولا الأحاديث الكثيرة من فعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل أصحابه من أكلهم في آنية أهل الكتاب، وتطهرهم منها، مما يجعل النهي ليس على ظاهره، وإنما يحمل على الكراهة، وأن الأمر بغسلها لم يكن للوجوب، وهذا يجري على القاعدة الفقهية النافعة: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بشي، ثم تركه، ولم يأت دليل يدل على الخصوصية، دل ذلك على أن الأمر لم يكن للوجوب، وإنما هو للندب، وإذا نهى عن شيء ثم فعله، ولم يكن فيه دليل يدل على الخصوصية، دل ذلك على أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، والله أعلم.

الفصل الخامس في الأواني المتخذة من الميتة

الفصل الخامس في الأواني المتخذة من الميتة ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في الأواني المتخذة من جلود الميتة. المبحث الثاني: في الآنية المتخذة من عظام الميتة وقرنها وحافرها. المبحث الثالث: في الآنية المتخذة من شعر الميتة، وصوفها ووبرها.

المبحث الأول في الأواني المتخذة من جلود الميتة

المبحث الأول في الأواني المتخذة من جلود الميتة الأواني من الجلود كانت معروفةً عند الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا خاصة في بعض المجتمعات الإسلامية، والكلام في جواز الانتفاع من أواني الجلود مبني على خلاف في الدباغ، هل يطهر أم لا؟ وإذا كان لا يطهر، فهل يباح استعماله مع نجاسته، أم لا؟ فكان علينا -حتى نتصور حكم المسألة- أن نبين هل الدباغ يطهر جلود الميتة أم لا؟، وهل يباح الانتفاع به قبل أو بعد الدبغ أم لا؟ فأقول: اختلف العلماء في حكم هذه المسألة: فقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود، إلا جلد الإنسان والخنزير، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يطهر جلد الميتة بالدباغ، وقبل الدبغ لا ينتفع بالجلد مطلقاً، وهو مذهب مالك (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وأما بعد الدبغ فيباح استعماله في يابس عندهما، وفي الماء عند ¬

(¬1) الهداية شرح البداية (1/ 21)، البحر الرائق (1/ 105)، بدائع الصنائع (1/ 85)، تبيين الحقائق (1/ 24)، حاشية ابن عابدين (1/ 203)، المبسوط (1/ 202)، حاشية الطحطاوي (1/ 111)، بد. (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 54،55)، التاج والإكليل (1/ 101)، مواهب الجيل (1/ 101)، البيان والتحصيل (1/ 100)، التمهيد (4/ 156،157) و (1/ 162)، الكافي (ص: 189). (¬3) المبدع (1/ 70)، شرح العمدة (1/ 122)، كشاف القناع (1/ 54)، الإنصاف (1/ 86)، الإقناع (1/ 13)، الفروع (1/ 72)، الكافي (1/ 19)، المغني (1/ 53).

المالكية (¬1). وقيل: الدباغ يطهر جميع جلود الميتة بما في ذلك جلود ما لا يؤكل لحمه، إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما، وهو مذهب الشافعية (¬2). وقيل: الدباغ لا يطهر إلا ما تحله الذكاة، وهو رواية عن مالك (¬3)، واختاره أبو ثور (¬4)، ورجحه بعض الحنابلة كالمجد وابن رزين وابن عبد القوي (¬5)، وابن تيمية (¬6). وقيل: الدباغ يطهر كل حيوان طاهر في الحياة، وهو رواية عن أحمد، واختارها بعض أصحابه، وهو رواية ثانية عن ابن تيمية (¬7). وقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود حتى جلد الكلب والخنزير، وهو ¬

(¬1) والفرق بين الماء وبين غيره من السوائل كالعسل واللبن والسمن، قالوا: إن الماء له قوة الدفع عن نفسه لطهوريته، فلا يضره إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة، بخلاف غيره. (¬2) الأم (1/ 9)، حلية العلماء (1/ 93)، الإقناع للشربيني (1/ 28)، الوسيط (1/ 129)، روضة الطالبين (1/ 41)، المجموع (1/ 275). (¬3) جاء في البيان والتحصيل (1/ 101): وسئل مالك: أترى ما دبغ من جلود الدواب طاهراً؟ فقال: ألا يقال هذا في جلود الأنعام، فأما جلود ما لا يؤكل لحمه فكيف يكون طاهراً إذا دبغ، وهو مما لا ذكاة فيه، ولا يؤكل لحمه. اهـ ونقل ابن عبد البر هذا الكلام في الاستذكار (15/ 326). وقال في التمهيد (4/ 182): وقالت طائفة من أهل العلم لا يجوز الانتفاع بجلود السباع لا قبل الدباغ ولا بعده، مذبوحة كانت أو ميتة، وممن قال هذا القول: الأوزاعي وابن المبارك وإسحاق، وأبو ثور، ويزيد بن هارون. اهـ (¬4) الاستذكار (15/ 326). (¬5) الإنصاف (1/ 87). (¬6) مجموع الفتاوى (21/ 95). (¬7) الإنصاف (1/ 86).

دليل من قال الدباغ لا يطهر وينتفع به بعد الدبغ في يابس أو ماء.

مذهب الظاهرية (¬1). فتلخص لنا من هذا الخلاف أمران: أحدهما: يتعلق بطهارة الجلد. وثانيهما: يتعلق بالانتفاع به. فقيل: الدباغ لا يطهر مطلقاً. وقيل: يطهر مطلقاً. وقيل: يطهر جميع الجلود إلا الكلب والخنزير والإنسان. وقيل: يطهر ما تحله الذكاة. وقيل: يطهر ما كان طاهراً في الحياة، وإن كان محرماً أكله. وأما يتعلق بالانتفاع به، فقيل: يباح الانتفاع بالجلود مطلقا، سواء دبغت أم لا (¬2). وقيل: يباح الانتفاع بها بشرط الدبغ. وقيل: يباح الانتفاع بها في يابس وقيل: في يابس وماء. وهاك دليل كل قول من هذه الأقوال: دليل من قال الدباغ لا يطهر وينتفع به بعد الدبغ في يابس أو ماء. قولهم مركب من ثلاث مسائل، لكل مسألة لهم فيها دليل، منها نجاسة ¬

(¬1) المحلى (1/ 118)، وذكره مذهباً لداود الظاهري ابن رشد في البيان والتحصيل (3/ 357)، وعون المعبود (11/ 179). (¬2) هذا القول يراه الإمام الزهري رحمه الله، كما في مصنف عبد الرزاق (1/ 62)، ومسند أحمد (1/ 365)، وأبو داود (4122)، مجموع الفتاوى (21/ 101)، وحكاه ابن تيمية عن بعض السلف.

جلد الميتة ولو دبغ، وأن الدباغ لا يطهر، وأنه يباح الانتفاع به في يابس أو ماء. فأما دليلهم على نجاسة جلد الميتة ولو دبغ، فقالوا: إن الجلد جزء من الميتة، وقد قال سبحانه وتعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬1)، فلم يطهر بالدباغ كاللحم. ولأن الجلد حرم بالموت فكان نجساً، كما كان قبل الدبغ. والجواب أن يقال: أولاً: أنتم لا تقولون بنجاسة شعر الميتة إذا جز، وهو جزء من الميتة، وسبب النجاسة في الميتة هو احتقان الدم فيها واحتباسه، ولذلك مالا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، والجلد إذا دبغ فالدباغ ينشف رطوبته ويجففه، فالميتة ثلاثة أقسام: منها ما هو طاهر مطلقاً كالشعر إذا جز، سواء جز في حال الحياة، أو بعد الموت. ومنها ما لا يطهر بحال كاللحم، والدم المسفوح. ومنه ما يحكم بنجاسته ما دام متصلاً برطوبة النجاسة ودمها، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهراً. ونجاسة الجلد قبل الدباغ كنجاسة الثوب، فإذا دبغ قطعت عنه النجاسة (¬2). (130) وأما دليلهم على تحريم الانتفاع به قبل الدبغ، فهو ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ¬

(¬1) المائدة: 3. (¬2) مجموع الفتاوى بتصرف (21/ 90 - 102).

ليلى، عن عبد الله بن عكيم، قال: أتانا كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا غلام، أن لا تنتفعوا بإهاب ميتة، ولا عصب (¬1). [رجاله ثقات إلا أن عبد الله بن عكيم لم يثبت له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مرسل، وقد اختلف في إسناده اختلافاً كثيراً] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (5/ 206). (¬2) الحديث في إسناده اختلاف كثير، فرواه الحكم بن عتيبة، واختلف عليه: فقيل: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم مرسلا. وقيل: عن الحكم عن عبد الله بن عكيم. وقيل: عن الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم. وتارة يحدث به عبد الله بن عكيم مباشرة، وتارة يرويه عبد الله بن عكيم، عن مشايخ من جهينة. ورواه القاسم بن مخيمرة، واختلف عليه أيضاً: فقيل: عن القاسم، عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة. وقيل: عن القاسم، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم. وكما اختلفوا في إسناده، اختلفوا في متنه: فقيل: قبل وفاته بشهر. وقيل: قبل وفاته بشهر أو شهرين على الشك. وقيل: قبل وفاته بأربعين يوماً. وقيل: قبل وفاته بثلاثة أيام. وهاك تفصيل ما أجمل من هذه الاختلافات: أما حديث الباب: الحكم بن عتيبة، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم فقد أخرجه أحمد (4/ 310،311) والمصنف (5/ 206) رقم 25278 وابن ماجه (3613) عن غندر. وأخرجه أحمد (4/ 311) من طريق وكيع. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الطحاوي (1/ 468) من طريق أبي عامر، ووهب بن جرير. وأخرجه ابن حبان (1278) من طريق النضر بن شميل، كلهم، عن شعبة به. وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 206) رقم 25276، والنسائي في الكبرى (4576)، والصغرى (4250) وابن ماجه (3613) من طريق منصور. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 206) رقم 25277، وعنه ابن ماجه (3613) وأخرجه الترمذي (1729)، والمحاملي في أماليه (78) من طريق الشيباني. وأخرجه ابن حبان (1277) والطبراني في الأوسط (7/ 330) رقم 7642 من طريق أبان بن تغلب. وأخرجه الترمذي (1729) من طريق الأعمش. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه (1/ 439) من طريق أبي إسحاق السبيعي. وأخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب (488) والطبراني في الأوسط (1/ 251) رقم 822 من طريق أشعث بن سوار الأجلح. وأخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 320) رقم 210 من طريق خالد بن كثير الهمداني، و (3/ 40) رقم 2407 من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان. وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير (2/ 214) رقم 1050 من طريق حمزة الزيات، ثمانيتهم عن الحكم به. هذا فيما يتعلق بطريق الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم. وأما طريق الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم، فقد أخرجه أبو داود (4128) ومن طريقه البيهقي (1/ 15) قال: حدثنا محمد بن إسماعيل مولى بني هاشم، قال: حدثنا الثقفي، عن خالد، عن الحكم بن عتيبة، أنه انطلق هو وناس معه إلى عبد الله بن عكيم، رجل من جهينة، قال الحكم: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي، فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى جهينة قبل موته بشهر، أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب. واختلف على الثقفي، فرواه أبو داود كما سبق، عن الثقفي، عن خالد، عن الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه أحمد (4/ 310) عن الثقفي، عن خالد، عن الحكم، عن عبد الله بن عكيم، دون واسطة بين الحكم وعبد الله بن عكيم. فصار الحكم تارة يحدث به عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم كما هي رواية الأكثر. وتارة يحدث به الحكم عن رجال مجهولين عن عبد الله بن عكيم. وتارة يحدث به عن عبد الله بن عكيم مباشرة دون واسطة. وأرجحها عندي رواية شعبة والأعمش ومنصور والشيباني وأبي إسحاق ومن وافقهم عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. كما أن هناك اختلافاً آخر، فروي الحديث عن عبد الله بن عكيم كما سبق، وروي عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة، فقد روى الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 468) من طريق محمد بن المبارك، قال: ثنا صدقة بن خالد، عن يزيد بن أبي مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبد الله بن عكيم، قال: حدثني أشياخ من جهينة، قالوا: أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قرئ علينا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء. واختلف على صدقة بن خالد، فرواه محمد بن المبارك، عن صدقة، عن يزيد بن أبي مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة. ورواه هشام بن عمار كما في صحيح ابن حبان (1279) عن صدقة، عن يزيد، عن القاسم، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، فيكون بين القاسم وبين ابن عكيم رجلان، بينما رواية الطحاوي يرويه القاسم عن عبد الله بن عكيم مباشرة، وهذا اختلاف ثالث في السند يضاف إلى ما سبق. ورواية هشام بن عمار أرجح لموافقتها رواية الحفاظ مثل شعبة والأعمش والشيباني وغيرهم، وفيها إرسال كما بينته سابقاً. وأخرجه أحمد (4/ 310)، والنسائي في الكبرى (4577)، وفي الصغرى (4251) من طريق شريك، عن هلال الوزان، عن عبد الله بن عكيم، وفيه كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جهينة ... الحديث. وهذا الإسناد قد تفرد به شريك، عن هلال، وشريك سيء الحفظ. وقد ضعف الحديث بعض العلماء. قال الترمذي (4/ 194): سمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل موته بشهرين، وكان يقول: كان هذا آخر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده، حيث روى بعضهم، فقال: عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة. وجاء في التمهيد (4/ 164): قال داود بن علي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث فضعفه، وقال: ليس بشيء، إنما يقول: حدثني الأشياخ. وبعد أن ساق ابن عبد البر الاختلاف في إسناده، قال: وهذا اضطراب كما ترى يوجب التوقف عن العمل بمثل هذا الخبر. المرجع السابق. وقال النووي: حديث ابن عكيم أعل بأمور ثلاثة: أحدها: الاضطراب في إسناده. الثاني: الاضطراب في متنه، فروي قبل موته بثلاثة أيام، وروي بشهرين، وروي بأربعين يوماً. الثالث: الاختلاف في صحبته، قال البيهقي وغيره: لا صحبة له، فهو مرسل. انظر نصب الراية (1/ 121). وصحح الحديث بعض العلماء، قال ابن حبان رحمه الله (4/ 96): هذه اللفظة: " حدثنا مشيخة لنا من جهينة " أوهمت عالماً من الناس أن الخبر ليس بمتصل، وهذا مما نقول في كتابنا: إن الصحابي قد يشهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويسمع منه شيئاً، ثم يسمع ذلك الشيء عن من هو أعظم خطراً منه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمرة يخبر عما شاهد، وأخرى يروي عمن سمع، ألا ترى أن ابن عمر شهد سؤال جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، وسمعه من عمر بن الخطاب؟ فمرة أخبر بما شاهد، ومرة روى عن أبيه ما سمع، فكذلك عبد الله بن عكيم، شهد كتاب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حيث قرئ عليهم في جهينة، وسمع مشايخ جهينة يقولون ذلك، فأدى مرة ما شهد، وأخرى ما سمع، من غير أن يكون في الخبر انقطاع. اهـ قلت: لا يقال مثل ذلك إلا بقرينة، كما لو حدث راو الحديث عن شيخين، فإنه يحكم باضطراب روايته إلا إن جاءت قرينة تدل على أنه سمع منهما، كما لو جمعهما جميعاً في إسناد واحد، والله أعلم. وقال ابن حجر: أعله بعضم بالإنقطاع، وهو مردود، وبعضهم بكونه كتاباً، وليس بعلة قادحة، وبعضهم بأن ابن أبي ليلى راويه عن ابن عكيم لم يسمعه منه لما وقع عند أبي داود عنه أنه انطلق، وناس معه إلى عبد الله بن عكيم، قال: فدخلوا وقعدت على الباب، =

وأجيب: أولاً: ضعف حديث عبد الله بن عكيم. ثانيا: لو صح الحديث، فلا حجة فيه؛ لأن الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ. قال أبو داود: قال النضر بن شميل، وإنما يسمى إهاباً ما لم يدبغ (¬1). وقال البيهقي: وهو محمول عندنا على ما قبل الدبغ ... الخ (¬2). ¬

= فخرجوا إلي فأخبروني، فهذا يقتضي أن في السند من لم يسم، ولكن صح تصريح عبد الرحمن بن أبي ليلى بسماعه من ابن عكيم، فلا أثر لهذه العلة أيضاً. اهـ قلت: وهم الحافظ هنا رحمه الله، حيث تصور أن ابن ليلى هو الذي سمعه من رجال مجهولين، والصحيح أن هذا وقع مع الحكم بن عتيبة، وليس في سند أبي داود الذي أشار إليه الحافظ ذكر لعبد الرحمن بن أبي ليلى حيث ساق أبو داود (4128) إسناده إلى الحكم بن عتيبة قال: أنه انطلق هو وناس معه إلى عبد الله بن عكيم رجل من جهينة، قال الحكم: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم. وسبب وهم الحافظ، والله أعلم أنه تابع ابن دقيق العيد، فقد قال ابن دقيق الكلام نفسه كما في نصب الراية، فتبعه الحافظ دون أن ينظر في إسناد أبي داود عليهم رحمة الله جميعاً. وقد يجيب غير الحافظ بأن الحكم صرح بسماعه من عبد الرحمن فلا أثر لهذه العلة، والجواب أن الحكم قد اختلف عليه في إسناده اختلافاً كثيراً كما بينت سابقاً، فتارة يحدث به عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، وتارة يحدث به عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم، وتارية يحدث به عن عبد الله بن عكيم مباشرة.، فهذا اختلاف بين، كما أنه ليس الاختلاف الوحيد في السند، فارجع إلى طرق الحديث السابقة يتبين لك ما ذكرت، والله أعلم. (¬1) سنن أبي داود (4218). (¬2) سنن البيهقي (1/ 15).

وقال ابن حبان: ومعنى خبر عبد الله بن عكيم: " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " يريد به قبل الدباغ، والدليل على صحته قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيما إهاب دبغ فقد طهر (¬1). وقال ابن حجر: وأقوى ما تمسك به من لم يأخذ بظاهره معارضة الأحاديث الصحيحة له، وأنها عن سماع، وهذا عن كتابة، وأنها أصح مخارج. وأقوى من ذلك: الجمع بين الحديثين بحمل الإهاب على الجلد قبل الدباغ، وأنه بعد الدباغ لا يسمى إهاباً، وإنما يسمى قربة وغير ذلك، وقد نقل ذلك عن أئمة اللغة كالنضر بن شميل، وهذه طريقة ابن شاهين، وابن عبد البر، والبيهقي، وأبعد من جمع بينهما بحمل النهي على جلد الكلب والخنزير لكونهما لا يدبغان، وكذا من حمل النهي على باطن الجلد، والإذن على ظاهره " اهـ. وقول الحنابلة: إن حديث عبد الله بن عكيم ناسخ لما قبله، فهذا أيضاً قول فيه ضعف: أولاً: مبني على الحكم بتأخره، وهذا غير مقطوع به، وكونه جاء في حديث عبد الله بن عكيم قبل وفاته بشهر أو بشهرين ليس جزماً بالتأخير؛ لأنه قد يكون قوله " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " قبل موته بيوم أو يومين (¬2). ثانياً: لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع، وهذا الجمع غير متعذر، ¬

(¬1) صحيح ابن حبان (4/ 96). (¬2) قال ابن عبد البر في التمهيد (4/ 165): وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشهر، كما جاء في الخبر، فممكن أن تكون قصة ميمونة (وسماع ابن عباس منه قوله: إيما إهاب دبغ فقد طهر) قبل موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم.

دليلهم على جواز الانتفاع بعد الدبغ في يابس وماء

كما سبق في حمل الإهاب على الجلد قبل الدبغ. ثالثاً: أن القول بالنسخ إبطال لإحد الدليلين، وعمل بدليل واحد، قد يكون الصواب خلافه، بينما الجمع يقتضي العمل بالدليلين معاً دون مناقضة بينهما. وذهب ابن تيمية إلى أنه ناسخ لإباحة الانتفاع قبل الدبغ، وليس ناسخاً للانتفاع مطلقاً، قال ابن تيمية رحمه الله: " ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنما حرم من الميتة أكلها، ثم إنه حرم لبسها قبل الدباغ، وهذا وجه قوله في حديث عبد الله بن عكيم: كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، فإن الرخصة متقدمة كانت في الانتفاع بالجلود بلا دباغ كما ذهب إليه طائفة من السلف، فرفع النهي عما أرخص فأما الانتفاع بها بعد الدباغ فلم ينه عنه قط، ولهذا كان آخر الروايتين عن أحمد أن الدباغ مطهر لجلود الميتة (¬1). وأما دليلهم على جواز الانتفاع بعد الدبغ في يابس وماء. الدليل الأول: (131) ما رواه مالك، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أمه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت (¬2). ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (1/ 42). (¬2) الموطأ (2/ 498).

الدليل الثاني

[إسناده ضعيف] (¬1). ولو صح الحديث لكان فيه دليل على إطلاق الانتفاع، وليس مقصوراً على اليابس والماء. الدليل الثاني: (132) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وابن أبي عمر جميعا، عن ابن عيينة، قال يحيى: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به. فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها. قال أبو بكر وابن أبي عمر في حديثهما عن ميمونة رضي الله عنها (¬2). ¬

(¬1) في إسناه أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، لم يرو عنها إلا ابنها محمد، ولم يوثقها إلا ابن حبان، فهي مجهولة، وقال عنها الحافظ في التقريب: مقبولة، أي: إن توبعت، وإلا ففيها لين، وجاء في العلل ومعرفة الرجال لأحمد (3/ 192): قلت لأبي ما تقول في هذا الحديث؟ قال فيه أمه، من أمه؟ كأنه أنكره من أجل أمه. ونقله الزيلعي في نصب الراية (1/ 117). والحديث مداره على مالك، ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في مسنده (1/ 10)، وفي الأم (1/ 9) وعبد الرزاق (191)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/ 162) رقم 24777، وأحمد (6/ 73،104،148،153)، وأبو داود (4124)، والنسائي في السنن الكبرى (4578)، والصغرى (4252)، وابن ماجه (3612)، والدارمي (1987)، وابن حبان (1286)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 17). وذكره ابن عبد البر في التمهيد (4/ 176). (¬2) صحيح مسلم (363).

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: قوله: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به. فجعل الانتفاع مرتباً على الدباغ، فدل على أن الانتفاع قبل الدبغ، لا يجوز. وأجيب: بأن لفظ فدبغتموه غير محفوظ، وسوف يأتي بيان ذلك في أدلة من قال بإباحة الانتفاع مطلقاً بالجلد، سواء دبغ أم لا. الدليل الثالث: (133) ما رواه أحمد، قال: ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقالت: ثَمَّ يا رسول الله ماتت فلانة- يعني الشاة- فقال: فلولا أخذتم مسكها، فقالت: ينفذ مسك شاة قد ماتت، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما قال الله عز وجل {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} (¬1) فإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه، فتنتفعوا به، فأرسلت إليها، فسلخت مسكها، فدبغته، فأخذت منه قربة حتى تخرقت عندها (¬2). [إسناده ضعيف رواية سماك عن عكرمة مضطربة] (¬3). ¬

(¬1) الأنعام: 145. (¬2) مسند أحمد (1/ 327). (¬3) سبق لنا كلام أهل العلم في رواية سماك عن عكرمة في باب المياه، وقد خالف سماك غيره في هذا الحديث في سنده ومتنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. =

دليل من قال الدباغ يطهر جميع الجلود.

دليل من قال الدباغ يطهر جميع الجلود. الدليل الأول: (134) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، أن عبد الرحمن بن وعلة أخبره، ¬

_ = [تخريج الحديث] الحديث أخرجه أبو يعلى (2334،2364)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 471)، وفي المشكل (4/ 261)، وابن حبان (1281)، والطبراني (11765)، والبيهقي (1/ 18) من طريق أبي عوانة به. وأخرجه الطحاوي (1/ 471)، وابن حبان (1280) والطبراني (11766) من طريق أبي الأحوص، عن سماك به. وقد ذكره الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (5532)، وسكت عليه. وعلى التسليم بضعفه، فإن شاهد صالح في ذكر الدباغ. وقد رواه أبو بشر جعفر بن إياس، عن عكرمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 162)، قال: حدثنا هشيم، قال: أنبأنا أبو بشر، عن عكرمة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة لسودة بنت زمعة، فقال: ألا تنتفعوا بإهابها، فإن دباغها طهورها. والمحفوظ في هذا الحديث ما رواه البخاري في صحيحه (6686) والنسائي (4240) من طريق الشعبي، وفي مسند أحمد (6/ 429) والمصنف لابن أبي شيبة (5/ 162) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، كلاهما عن عكرمة، عن ابن عباس، عن سودة، فجعل الشعبي وإسماعيل الحديث من مسند سودة، وجعل سماك الحديث من مسند ابن عباس. وأما المتن، فلفظهما، قالت سودة: ماتت لنا شاة، فدبغنا مسكها، ثم ما زلنا ننبذ فيه حتى صار شناً. اهـ وهذا اللفظ ليس فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بدبغه كشرط للانتفاع به، وإنما أمر فعلته سودة من قبل نفسها، بخلاف لفظ سماك، عن عكرمة، والله أعلم.

عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا دبغ الإهاب فقد طهر. [صححه مسلم، وضعفه الإمام أحمد] (¬1). ¬

(¬1) مسلم (366)، وهذا الإسناد مداره على زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس رضي الله عنهما جميعاً، رواه سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم بلفظ: إذا دبغ الإهاب فقد طهر. ورواه سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم بلفظ: أيما إهاب دبغ فقد طهر. ورواه مالك، وعبد العزيز بن محمد، وسفيان الثوري باللفظين معاً، وإليك تخريج رواياتهم. أما رواية سليمان بن بلال، فأخرجه مسلم في صحيحه كما في حديث الباب، والبيهقي (1/ 20). وأما رواية سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم بلفظ: أيما إهاب دبغ، فقد أخرجها الشافعي في مسنده (1/ 10)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/ 162) رقم 24771، أحمد (1/ 219)، والحميدي في مسنده (486)، والترمذي (1728)، وابن ماجه (3609)، والنسائي في الكبرى (4567) والصغرى (4241)، وأبو يعلى في مسنده (2385)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 469)، والمنتقى (61،874)، وابن حبان (1287،1288)، والبيهقي (1/ 16). وأما رواية مالك، عن زيد بلفظ: إذا دبغ الإهاب فقد طهر، فأخرجها مالك في الموطأ (2/ 498)، والشافعي في مسنده (1/ 10)، والدراقطني (1/ 46). وأما رواية مالك باللفظ الثاني: أيما إهاب دبغ، فأخرجها ابن حبان في صحيحه (1287). ورواية سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم، بلفظ: أيما إهاب دبغ، أخرجها عبد الرزاق في المصنف (190)، وأحمد (1/ 270،343)، والدرامي (1985)، وأبو عوانة (1/ 212)، والطبراني في الأوسط (7289)، وفي الصغير (1/ 399)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 218)، والخطيب في تاريخه (10/ 338). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأما رواية سفيان الثوري بلفظ: إذا دبغ الإهاب، فهي في سنن أبي داود (4123). ورواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن زيد بن أسلم، بلفظ: إذا دبغ الإهاب فقد طهر، أخرجها الدراقطني في سننه 1/ 46)، ورواه الترمذي (1728) من طريق عبد العزيز أيضاً بلفظ: أيما إهاب دبغ، مقروناً برواية ابن عيينة. ورواه غير زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، فقد رواه مسلم (366) من طريق أبي الخير مرثد بن عبد الله، قال: رأيت على بن وعلة السبئي فرواً، فمسسته، فقال: مالك تمسه؟ قد سألت عبد الله بن عباس قلت: إنا نكون بالمغرب، ومعنا البربر والمجوس، نؤتى بالكبش قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحهم، ويأتونا بالسقاء يجعلون فيه الودك، فقال ابن عباس: قد سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: دباغه طهوره. ومن طريق أبي الخير رواه النسائي (4242)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 212)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 470)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 17). والحديث مداره على عبد الرحمن بن وعلة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الدباغ لم يصح فيه شيء، وكان الإمام أحمد ومالك يريان أن الدباغ لا يطهر، وذكر ابن تيمية حجتهم في مجمع الفتاوى (21/ 91) وانتقد حديث سفيان بن عينية، عن الزهري بذكر الدباغ، وسيأتي تفصيل ذلك، ثم قال: وتكلم في ابن وعلة. اهـ وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة عبد الرحمن بن وعلة قوله: ذكره أحمد، فضعفه في حديث الدباغ. (6/ 263). وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18/ 17): " ومما قد يسمى صحيحاً ما يصححه بعض علماء الحديث، وآخرون يخالفونهم في تصحيحه، فيقولون: هو ضعيف ليس بصحيح، مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه، ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم، إما مثله أو دونه أو فوقه، فهذا لا يجزم بصدقه إلا بدليل، مثل حديث ابن وعلة، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيما إهاب دبغ فقد طهر، فإن هذا مما انفرد به مسلم، عن البخاري، وقد ضعفه الإمام أحمد وغيره، وقد رواه مسلم. اهـ وابن وعلة قد وثقه يحيى بن معين والنسائي، وقال أبو حاتم الرازي: شيخ، وقال الحافظ في التقريب: صدوق.

الدليل الثاني

فجعل الدباغ شرطاً لطهارة عينه، فإذا دبغ كان طاهراً، وإذا كان طاهراً كان الانتفاع به مباحاً، وقوله: إذا دبغ الإهاب أو إيما إهاب دبغ دليل على العموم، فلا يستثنى منه شيء حتى إهاب الكلب والخنزير. قال ابن عبد البر: المقصود بهذا الحديث مالم يكن طاهراً من الأهب، كجلود الميتات، وما لا تعمل فيه الذكاة من السباع عند من حرمها؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير، ومستحيل أن يقال في الجلد الطاهر: إنه إذا دبغ فقد طهر، وهذا يكاد علمه يكون ضرورة، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيما إهاب دبغ فقد طهر: نص ودليل: فالنص طهارة الإهاب بالدباغ، والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ فليس بطاهر، وإذا لم يكن طاهراً، فهو نجس، والنجس رجس محرم، فبهذا علمنا أن المقصود بذلك القول جلود الميتة. وإذا كان ذلك كذلك، كان هذا الحديث معارضاً لرواية من روى في هذه الشاة الميتة: إنما حرم أكلها، ومبيناً لمراد الله تعالى في قوله عز وجل: {حرمت عليكم الميتة} (¬1). وبطل بنص هذا الحديث قول من قال: إن الجلد من الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ، وبطل بالدليل منه قول من قال: إن جلد الميتة وإن لم يدبغ، يستمتع به، وينتفع (¬2). الدليل الثاني: (135) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا مسعر، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أخيه، ¬

(¬1) البقرة:. (¬2) التمهيد (4/ 153).

الدليل الثالث

عن ابن عباس قال: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ من سقاء، فقيل له: إنه ميتة، فقال: دباغه يذهب خبثه أو رجسه أو نجسه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (136) ما رواه الدارقطني، قال: نا محمد بن مخلد وآخرون، قالوا: ¬

(¬1) المسند (1/ 314). (¬2) في إسناده أخو سالم بن أبي الجعد، وقد ذكر المزي في تهذيب الكمال ثلاثة إخوة لسالم، وهم عبد الله وعبيد، وزياد، وزاد ابن سعد في طبقاته (6/ 291) اثنين آخرين، وهم عمران بن أبي الجعد، ومسلم بن أبي الجعد، وكلهم لم أقف على سماعهم عن ابن عباس، قال ابن سعد: كان منهم اثنان يتشيعان، واثنان مرجئان، واثنان يريان رأي الخوارج، فكان أبو هم يقول: أي بني لقد خالف الله بينكم. اهـ ولولا أن سالم بن أبي الجعد قال: عن أخيه، لما أشكل الأمر؛ لأن سالماً قد سمع من ابن عباس، فلا أدري أي الستة هو؟ لكن جاء في سنن البيهقي 1/ 15) قال رحمه الله: وسألت أحمد بن علي الأصبهاني، عن أخي سالم هذا، فقال: اسمه: عبد الله بن أبي الجعد. اهـ ولم أجد في ترجمة عبد الله بن أبي الجعد أنه يروي عن ابن عباس، ولم أجد في تلاميذ ابن عباس عبد الله بن أبي الجعد، وقد ذكر المزي والحافظ في التهذيب وغيرهما أن عبد الله بن أبي الجعد يروي عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان عبد الله كما ذكر البيهقي، فإن فيه ليناً، فلم يوثقه إلا ابن حبان كما في الثقات. وقال ابن القطان: مجهول الحال. وقال الذهبي: فيه جهالة. وصحح حديثه ابن خزيمة والحاكم والبيهقي، وذكره الزيلعي في نصب الراية (1/ 117)، ونقل تصحيح الحاكم والبيهقي، ولم يتعقبهما. والحديث رواه ابن خزيمة (114) والحاكم (1/ 161) من طريق يحيى بن آدم. ورواه البيهقي (1/ 17) من طريق يزيد بن هارون، كلاهما عن مسعر به.

حدثنا إبراهيم بن الهيثم، نا علي بن عياش، نا محمد بن مطرف، نا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طهور كل أديم دباغه. قال الدارقطني: إسناد حسن كلهم ثقات (¬1). ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 49)، والحديث أخرجه البيهقي (1/ 21) وابن عساكر في تاريخ دمشق (55/ 415) من طريق أبي بكر محمد بن عبد الله الشافعي، عن إبراهيم بن الهيثم به، وقال: رواته كلهم ثقات. وقال الذهبي: هذا حديث نظيف الإسناد، غريب، لم أجده في الكتب الستة. سير أعلام النبلاء (10/ 340). وفي إسناده إبراهيم بن الهيثم، جاء في ترجمته: قال ابن عدي: حدث ببغداد بحديث الغار، عن الهيثم بن جميل، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكذبه فيه الناس وواجهوه به، وبلغني أن أول من انكر عليه في المجلس أحمد بن هارون البرديجي. وقال حاجب بن مالك بن أركين: سمعت محمد بن عوف يقول: ما سمع من الهيثم بن جميل حديث الغار إلا أنا والحسن بن منصور البالسي. قال ابن عدي: إبراهيم بن الهيثم أحاديثه مستقيمة سوى هذا الحديث الواحد الذي أنكروه عليه، وقد فتشت عن حديثه الكثير فلم أر له منكراً يكون من جهته، إلا أن يكون من جهة من روى عنه. الكامل (1/ 274). ونقل الخطيب البغدادي كلام ابن عدي، وتعقبه بقوله: قد روى حديث الغار عن الهيثم جماعة، وإبراهيم بن الهيثم عندنا ثقة ثبت، لا يختلف شيوخنا فيه، وما حكاه ابن عدي من الإنكار عليه لم أر أحداً من علمائنا يعرفه، ولو ثبت لم يؤثر قدحاً فيه؛ لأن جماعة من المتقدمين أنكر عليهم بعض رواياتهم، ولم يمنع ذلك من الاحتجاج بهم، ثم ذكر بعض الأمثلة. تاريخ بغداد (6/ 206). قال الذهبي: قد تابعه على حديث الغار ثقتان. ميزان الاعتدال (1/ 73). وقال الدارقطني: ثقة. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 88).

الدليل الرابع

فقوله: " كل أديم " نص على العموم. الدليل الرابع: (137) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن غيلان، قال: حدثنا رشدين بن سعد، قال: حدثني عمرو بن الحارث، أن كثير بن فرقد حدثه، أن عبد الله بن مالك بن حذافة حدثه، عن أمه العالية بنت سميع أو سبيع- الشك من عبد الله- أن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أخذتم إهابها. قالوا: إنها ميتة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطهرها الماء والقرظ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

وقد أعل ابن عبد الهادي هذا الحديث بإبراهيم بن الهيثم كما في التنقيح (1/ 288)، ولإبراهيم متابع أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار مسند ابن عباس ح 1199. (¬1) المسند (6/ 333). (¬2) في إسناده عبد الله بن مالك بن حذافة، لم يرو عنه سوى كثير بن فرقد، وذكره البخاري وابن أبي حاتم، وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه جرحاً. التاريخ الكبير (5/ 203)، الجرح والتعديل (5/ 171). ولم يوثقه إلا ابن حبان، حيث ذكره في الثقات (7/ 17). وقال الذهبي: فيه جهالة. الميزان (2/ 499). وفي التقريب: مقبول. وهذه عبارة تليين خاصة إذا تفرد. وفي إسناده أيضاً: العالية بنت سبيع، لم يرو عنها سوى ابنها عبد الله بن مالك، وهو مجهول العين، ولم يوثقها أحد سوى العجلي، قال: مدنية تابعية ثقة. ثقات العجلي (2/ 455). وفي إسناده أيضاً رشيد بن سعد وقد سبقت ترجمته. =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (138) ما رواه الدارقطني، قال: ثنا أبو بكر النيسابوري، نا محمد بن عقيل بن خويلد نا، حفص بن عبد الله، نا إبراهيم بن طهمان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: أيما اهاب دبغ فقد طهر. ¬

_ = وقد ذكره الحافظ في التلخيص، وسكت عليه (1/ 80) ح 43، ونقل عن ابن السكن والحاكم تصحيحه، ولم يتعقبه. والحديث رواه أبو داود (4126) والنسائي في السنن الكبرى (4574)، وفي الصغرى (4248) وابن حبان (1291)، والدارقطني (1/ 45)، وابن عبد البر في التمهيد (4/ 158،159) من طريق عمرو بن الحارث. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (7086)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 470) والطبراني في المعجم الأوسط (8696)، والكبير (24/ 14) رقم 24، والأوسط لابن المنذر (2/ 261)، والدراقطني (1/ 45)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 19)، والمزي في تهذيب الكمال (15/ 506) من طريق الليث بن سعد، كلاهما عن كثير بن فرقد به. وجاء ذكر القرض في حديث عند الدراقطني (1/ 41) من طريق يحيى بن أيوب، عن يونس وعقيل جيمعاً، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة ميتة، فقال: هلا انتفعتم بإهابها، قالوا: يا رسول الله إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها، أو ليس في الماء والقرض ما يطهرها. وذكر القرض في هذا الطريق شاذ؛ فإن كل من رواه عن الزهري لم يذكروا فيه ذكر القرض، مثل مالك ومعمر وسفيان ويونس بن يزيد، وصالح بن كيسان وغيرهم، وقد سبق تخريج طرقهم، والخطأ فيه من يحيى بن أيوب، الراوي عن يونس، لأن الشيخين البخاري ومسلماً قد رويا الحديث من طريق يونس، وليس فيه ذكر القرض، ويحيى بن أيوب قال عنه أحمد: سيء الحفظ، وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم الرازي: محله الصدق، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال يحيى بن معين: صالح، وقال مرة: ثقة. وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ، والله أعلم.

قال الدراقطني: إسناد حسن (¬1). ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 48)، قال الحافظ في التلخيص (1/ 46): رواه الدراقطني بإسناد على شرط الصحة، وقال - يعني الدارقطني: إنه حسن. اهـ وأخشى أن يكون الحديث غير محفوظ، فإن هذا الإسناد وإن كان إسناداً حسناً، إلا أن علته التفرد، قال الذهبي في ميزان الاعتدال (3/ 649) في ترجمة شيخ الدارقطني محمد بن عقيل، قال: شيخ نيسابور، معروف لا بأس به، إلا أنه تفرد بهذا، وذكر هذا الحديث: أبما إهاب دبغ. وقد قال ابن حبان في الثقات عنه: ربما أخطأ حدث بالعراق بمقدار عشرة أحاديث مقلوبة. وإعلال الذهبي الحديث بتفرد محمد بن عقيل فيه، وإن كان صدوقاً يجري على قاعدة المتقدمين رحمهم الله، فقد قال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي (2/ 582): " وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه أنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، إلا أن يكون ممن كثر حفظه، واشتهرت عدالته، وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون تفرد الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه. اهـ ثم أوقفني الشيخ خالد الغصن وفقه الله على إعلال أبي حاتم لهذا الحديث، فإنه قال في العلل لابنه (2/ 19)،هذا حديث باطل اهـ. وأما تحسين الدارقطني له على إمامته، فإن نفس الدارقطني في سننه ليس من الدقة كما هو الشأن في علله رحمه الله، وكم من حديث حسنه في سننه وأعله في علله، والله أعلم. ولا يفرح بمتابعة القاسم بن عبد الله فقد رواه الدارقطني في سننه (1/ 48) من طريقه، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على شاة، فقال: ما هذه؟ قالوا: ميتة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ادبغوا إهابها؛ فإن دباغه طهور. قال الدراقطني: القاسم ضعيف. قلت: بل هو أشد من ذلك، قال أحمد: كذاب كان يضع الحديث ترك الناس حديثه. الجرح والتعديل (7/ 111). وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث. المرجع السابق. =

الدليل السادس

الدليل السادس: (139) ما رواه الدراقطني، من طريق فرج بن فضالة، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن أم سلمة، أنها كانت لها شاة تحتلبها، ففقدها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما فعلت الشاة؟ قالوا: ماتت. قال: أفلا انتفعتم بإهابها؟ قلنا: إنها ميتة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن دباغها يحل كما يحل خل الخمر. قال الدراقطني: تفرد به فرج بن فضالة وهو ضعيف (¬1). الدليل السابع: (140) وروى الدارقطني، من طريق الواقدي، نا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء الخرساني، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: دباغ جلود الميتة طهورها (¬2). ¬

= وقال أبو زرعة: ضعيف لا يساوى شيئاً، متروك الحديث، منكر الحديث. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين: ضعيف ليس بشيء. المرجع السابق. (¬1) سنن الدراقطني (1/ 49). وقد قال البخاري عن فرج بن فضالة: منكر الحديث. ضعفاء العقيلي (3/ 462). وقال عمرو بن علي: كان عبد الرحمن بن مهدى لا يحدث عن فرج بن فضالة، ويقول: حدث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة. الجرح والتعديل (7/ 85). قلت: هذا الحديث من حديثه عن يحيى بن سعيد. وقال ابن عدي: حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، لا يرويه عن يحيى غير فرج، وله عن يحيى وغيره مناكير، وقد ذكرت رواية شعبة عن فرج بن فضالة حديث عوف بن مالك، وله غير ما أمليت أحاديث صالحة، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (6/ 28). (¬2) سنن الدراقطني (1/ 48)، وفيه الوقدي، وهو متروك، كما أن في إسناده عطاء الخرساني، مختلف فيه.

الدليل الثامن

[ضعيف جداً]. الدليل الثامن: من النظر، قال الطحاوي: رأينا الأصل المجتمع عليه، أن العصير لا بأس بشربه، والانتفاع به، ما لم يحدث فيه صفات الخمر، فإذا حدثت فيه صفات الخمر حرم بذلك، ثم لا يزال حراماً كذلك حتى تحدث فيه صفات الخل، فإذا حدثت فيه صفات الخل حل، فكان يحل بحدوث الصفة ويحرم لحدوث صفة غيرها، وإن كان بدناً واحداً، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك جلد الميتة، يحرم بحدوث صفة الموت فيه، ويحل بحدوث صفة الأمتعة فيه من الثياب وغيرها فيه، وإذا دبغ فصار كالجلود والأمتعة فقد حدثت فيه صفة الحلال، فالنظر على ما ذكرنا أن يحل أيضا بحدوث تلك الصفة فيه. وحجة أخرى أن قد رأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أسلموا لم يأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطرح نعالهم وخفافهم وأنطاعهم التي كانوا اتخذوها في حال جاهليتهم، وإنما كان ذلك من ميتة، أو من ذبيحة، فذبيحتهم حينئذ إنما كانت ذبيحة أهل الأوثان، فهي في حرمتها على أهل الإسلام كحرمة الميتة، فلما لم يأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطرح ذلك، وترك الانتفاع به، ثبت أن ذلك كان قد خرج من حكم الميتة ونجاستها بالدباغ إلى حكم سائر الأمتعة وطهارتها، وكذلك كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتحوا بلدان المشركين لا يأمرهم بأن يتحاموا خفافهم ونعالهم وأنطاعهم وسائر جلودهم، فلا يأخذوا من ذلك شيئاً، بل كان لا يمنعهم شيئاً من ذلك، فذلك دليل أيضا على طهارة الجلود بالدباغ (¬1). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 472).

دليل من استثنى جلد الكلب والخنزير.

دليل من استثنى جلد الكلب والخنزير. أخذ الحنفية والشافعية بعموم حديث: أيما إهاب دبغ فقد طهر (¬1)،وعموم حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت (¬2)، قال الشافعي: وجلود ما لا يؤكل لحمه من السباع قياساً عليها إلا جلد الكلب والخنزير فإنه لا يطهر بالدباغ؛ لأن النجاسة فيهما وهما حيان قائمة، وإنما يطهر بالدباغ ما لم يكن نجسا حياً (¬3). وقالوا: إن العموم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيما إهاب دبغ، أراد بهذا العموم الجلود المعهود الانتفاع بها، وأما جلد الخنزير فلم يدخل في هذا المعنى؛ لأنه لم يدخل في السؤال؛ لأنه غير معهود الانتفاع بجلده (¬4). إلا أن الحنفية يرون طهارة جلد الكلب بالدباغ، لأنهم لم يستثنوا إلا الخنزير، فجلد الخنزير عندهم ليست نجاسته لما فيه من الدم والرطوبة، بل هو نجس العين، وبالتالي لا يمكن تطهيره بخلاف الكلب. واستثنى الحنفية جلد الإنسان، وعللوا ذلك بكونه لا يجوز الانتفاع به لاحترامه. دليل من قال بجواز الانتفاع بجلود الميتة ولو لم تدبغ. الدليل الأول: قالوا: لم يصح في الدباغ شيء (¬5). ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) الأم (1/ 22). (¬4) التمهيد (4/ 178). (¬5) مجموع الفتاوى (21/ 91).

الدليل الثاني

وأجيب: بأن هذا لو سُلِّم في بعضها، لم يُسَلَّم في المجموع. الدليل الثاني: (141) ما رواه البخاري، قال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجد النبي صلى الله عليه وسلم شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلا انتفعتم بجلدها قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما حرم أكلها، فجعل تحريم الميتة في الأكل خاصة، هذا من وجه، ومن وجه آخر، أنه حضهم على الانتفاع بجلدها، ولم يشترط الدباغ، فلو كان الدباغ شرطاً لذكره. فهذا الحديث يدل على أن التحريم لم يتناول الجلد، وإنما ذكر الدباغ لإبقاء الجلد وحفظه، لا لكونه شرطاً في الحل (¬2). (142) وأما ما رواه مسلم من طريق ابن عيينة، عن ابن شهاب به، بلفظ: هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به، فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1492)، صحيح مسلم (363). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 94)، ثم ذهب إلى أن هذا كان رخصة، ثم نسخ بحديث عبد الله بن عكيم، وكنت قد ذهبت إلى ضعف حديث عبد الله بن عكيم في ما سبق. (¬3) مسلم (363).

فالجواب: أن يقال: انفرد ابن عيينة بذكر الدباغ في هذا الحديث، وهو غير محفوظ (¬1). ¬

(¬1) الحديث مداره على الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، واختلف على الزهري فيه: فرواه ابن عيينة، عن الزهري بذكر الدباغ. ورواه جماعة من أصحاب الزهري، عنه، بدون ذكر الدباغ، وهاك بعض من وقفت عليهم: الأول: الإمام مالك رحمه الله، وهو من أجل من روى عن الزهري، وروايته في الموطأ (2/ 498)، ومن طريقه رواه أحمد (1/ 327)، والنسائي في الكبرى (4561)، وفي المجتبى (4235). الثاني: يونس بن يزيد، كما في صحيح البخاري (1421)، ومسلم (363)، وصحيح ابن حبان (1284)، والبيهقي في السنن (1/ 20، 23). الثالث: صالح بن كيسان، كما في مسند أحمد (1/ 262)، وصحيح البخاري (2221)، ومسلم (363) وأبي عوانة (1/ 210)،. الرابع: معمر، كما في مصنف عبد الرزاق (184،185)، وأحمد (1/ 365)، وأبي عوانة (1/ 210)، وابن المنذر في الأوسط (832)، وأبي داود (4121)، والطبراني في المعجم الكبير (23/ 428) رقم 1038. الخامس: الأوزاعي، كما في مسند أحمد (1/ 329)، ومسند أبي يعلى (2419)، وابن حبان (1282) والطبراني في الكبير (23/ 428) رقم 1039. السادس: حفص بن الوليد، كما في سنن النسائي الكبرى (4562)، والصغرى (4236) وحفص روى عنه جماعة، ولم يوثقه إلا ابن حبان، وفي التقريب صدوق. السابع: عقيل، فقد قال أبو داود في إثر حديث (4122) لم يذكر الأوزاعي ويونس وعقيل في حديث الزهري ذكر الدباغ، وقد وقفت على ورواية عقيل وفيها ذكر الدباغ، فلعل عقيلاً روى الحديث عن الزهري بالوجهين، والله أعلم، فقد أخرجها الدارقطني (1/ 41) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 20) وزاد: أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها؟، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي رواية: أو ليس في الماء والدباغ ما يطهرها، والزيادة غير محفوظة كما سيأتي الثامن: إسحاق بن راشد، كما في معجم الطبراني (23/ 428) رقم 1040. فهؤلاء ثمانية رواة لم يذكروا لفظ الدباغ، وفيهم من يعد من أجل من روى عن الزهري، كمالك ومعمر ويونس، والأوزاعي، فهذا أولاً. وثانياً: مما يؤيد أن الدباغ ليس محفوظاً في الحديث، أن الزهري الذي مدار الحديث عليه ينكر الدباغ، ويفتي بجواز الانتفاع به، ولو لم يدبغ، والحديث حديثه، ومداره عليه، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف (1/ 62) عن معمر، كان الزهري ينكر الدباغ، ويقول: يستمتع به على كل حال. وأخرجه أحمد (1/ 365)، وأبو داود (4122) من طريق عبد الرزاق به. ثالثاً: طعن الإمام أحمد في زيادة ابن عيينة بذكر الدباغ، فقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 101): ليس في صحيح البخاري ذكر الدباغ، ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه، لكن ذكره ابن عيينة، ورواه مسلم في صحيحه، وقد طعن الإمام أحمد في ذلك، وأشار إلى غلط ابن عيينة فيه، وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث. رابعاً: أنه قد اختلف فيه على سفيان بن عينية، فرواه قتيبة بن سعيد كما في سنن النسائي الكبرى (4560)، والصغرى (4234)، ويحيى بن حسان عند الدارمي (1988) كلاهما عن سفيان، عن الزهري به، وليس فيه ذكر الدباغ كرواية الجماعة. وكان ابن عيينة ربما روجع في زيادة الدباغ، فيصرح بأنه حفظها، فقد أخرج الحميدي في مسنده (315): قيل لسفيان فإن معمراً لا يقول فيه: فدبغوه، ويقول: كان الزهري ينكر الدباغ؟ فقال سفيان: لكني قد حفظته. كما أن هناك اختلافاً آخر على ابن عيينة، لم يذكره أصحاب الزهري ممن رووا الحديث، فكان ابن عيينة تارة يجعله من مسند ابن عباس، وتارة يجعله من مسند ميمونة. فرواه جماعة عن سفيان، من مسند ميمونة، وهم: الأول: أبو بكر بن أبي شيبة كما في مسلم (363) وابن ماجه (3610). الثاني: ابن أبي عمر، كما في مسلم (363)، وابن حبان (1285). الثالث: أبو خيثمة، كما في مسند أبي يعلى (7179)، وابن حبان (1289). الرابع: أحمد بن حنبل، كما في المسند (6/ 329). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الخامس والسادس: مسدد ووهب بن كيسان، كما في سنن أبي داود (4120). السابع: قتيبة بن سعيد، كما عند النسائي (4234). الثامن: سعيد بن نصر، كما في سنن البيهقي (1/ 15، 16). التاسع: الحميدي، كما في مسنده (315)، فكل هؤلاء رووه عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. وخالفهم جماعة رووه عن سفيان به، وجعلوه من مسند ابن عباس، كرواية الجماعة عن الزهري، وهم: الأول: يحيى بن يحيى كما في مسلم (363). الثاني: عمرو الناقد، كما في مسلم (363). الثالث: عثمان بن أبي شيبة، كما في سنن أبي داود (4120). الرابع: ابن أبي خلف، كما في سنن أبي داود (4210). الخامس: الحسن بن محمد الزعفراني، عند البيهقي (1/ 15). والظاهر أن الخطأ من سفيان بن عيينة في الوجهين: أعني ذكر الدباغ، وجعله من مسند ميمونة قد اختلط عليه حديثه عن الزهري، بحديثه عن عمرو بن دينار، فقد أخرج مسلم في صحيحه (363) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة مطروحة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخذوا إهابها، فدبغوه، فانتفعوا به. واختلف على عمرو بن دينار، فرواه عنه سفيان ابن عيينة كما سبق عند مسلم، ورواه ابن جريج، عن عمرو بن دينار به إلا أنه جعله من مسند ميمونة، ولم يذكر الدباغ، رواه مسلم (364) من طريق ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أخبرني عطاء منذ حين، قال: أخبرني ابن عباس، أن ميمونة أخبرته، أن داجنة كانت لبعض نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فماتت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخذتم إهابها، فاستمتعتم به. والله أعلم. ورواه مسلم (365) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة لميمونة، فقال: ألا انتفعتم بإهابها. اهـ ولم يذكر الدباغ، وجعله من مسند ابن عباس.

دليل من قال: الدباغ لا يطهر إلا ما تطهره الذكاة.

دليل من قال: الدباغ لا يطهر إلا ما تطهره الذكاة. الدليل الأول: (143) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن جون بن قتادة، عن سلمة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى على بيت قدامه قربة معلقة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشراب، فقالوا: إنها ميتة، فقال: دباغها ذكاتها (¬1). [إسناده ضعيف والحديث روي بلفظين: أحدهما هذا وبلفظ: دباغها طهورها، وعلى اللفظ الثاني ليس فيه دليل لهذا القول] (¬2). ¬

(¬1) المسند (5/ 6). (¬2) في إسناده جون بن قتادة، جاء في ترجته: قال أحمد بن حنبل: لا أعرفه. الجرح والتعديل (2/ 542). وقال أيضاً: لا يعرف. قيل له: يروى غير هذا الحديث، فقال: لا، يعني: حديث الدباغ، تهذيب الكمال (5/ 165). وقال الترمذي: لا أعرف لجون بن قتادة غير هذا الحديث، ولا أدري من هو؟ علل الترمذي الكبير (520). وقال علي بن المديني: جون معروف، وجون لم يرو عنه غير الحسن، إلا أنه معروف، وقال في موضع آخر: الذي روى عنهم الحسن من المجهولين، فذكرهم، وذكر فيهم جون بن قتادة. وذكره ابن حبان في الثقات. (4/ 119). وذهب ابن حزم إلى أن جون بن قتادة صحابي، وقد تعقبه الحافظ في التهذيب (2/ 105). وقال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح. اهـ والصحيح أن إسناده ضعيف لما علمت من حال جون بن قتادة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = [تخريج الحديث] الحديث يرويه جماعة عن قتادة، منهم هشام وشعبة وهمام وغيرهم. الطريق الأول: هشام الدستوائي، عن قتادة. أخرجه أبو داود الطيالسي (1243) حدثنا هشام به، بلفظ: دباغ الأديم ذكاته. ورواه أحمد (3/ 476)، (5/ 7) عن عبد الصمد، ثنا هشام به. ورواه النسائي في السنن الكبرى (4569)، والصغرى (4243)، وسنن الدارقطني (1/ 45)، والحاكم (7217) من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه هشام به. بلفظ: ذكاتها دباغها. وهما بمعنى واحد. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 163) عن أبي خالد، وليس بالأحمر، عن هشام به. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 471) من طريق أبي عمر الحوضي حفص بن عمر، ثنا هشام به. بلفظ: ذكاتها دباغها. وذكره البخاري في التاريخ الكبير (4/ 71) قال: قال حفص بن عمر، حدثنا هشام به. وأخرجه أحمد (5/ 7) ثنا عمرو بن الهيثم وأبو داود وعبد الصمد المعنى، قالوا: أخبرنا هشام به، بلفظ: دباغها ذكاتها. وأخرجه أحمد (3/ 476) عن عمرو بن الهيثم، ثنا هشام به، بالشك: دباغها طهورها أو ذكاتها. انفرد بالشك هنا عمرو بن الهيثم، وليس بمحفوظ. وأخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (166) من طريق داود بن أمية، ثنا معاذ بن هشام به، بلفظ: دباغها ذكاتها وطهورها. والجمع بين ذكاتها وطهورها غير محفوظ، حيث لم يتابع عليه داود بن أمية، وقد رواه جمع عن معاذ بن هشام، ولم يذكروا ما ذكره داود. الطريق الثاني: همام، عن قتادة: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 163) وابن حبان كما في الموارد (124) من طريق عبيد الله بن موسى، حدثنا همام به. بلفظ: ذكاة الأديم دباغه. وأخرجه أحمد (3/ 476) ثنا عبد الصمد ثنا همام به. وأخرجه أحمد (5/ 6) ثنا عفان، ثنا همام به، ومن طريق عفان أخرجه الدارقطني =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (1/ 46)، والبيهقي (1/ 21). وأخرجه أحمد (5/ 6) حدثنا بهز، ثنا همام به. ورواه أبو داود (4125) ومن طريقه البيهقي (1/ 17) حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل، ثنا همام به، بلفظ: دباغها طهورها. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 46) رقم 6340 من طريق أبي الوليد الطيالسي، وحفص بن عمر الحوضي قالا: حدثنا همام به، بلفظ: ذكاة الأديم دباغه. فيكون على هذا روي عن همام بلفظين: الأول: ذكاة الأديم دباغه، وهذا موافق للفظ هشام الدستوائي، وقد رواه عن همام بهذا اللفظ كل من عبيد الله بن موسى، وعفان وبهز وعبد الصمد وأبي الوليد الطيالسي. والثاني: دباغه طهوره. وقد رواه عن همام بهذا اللفظ حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل، على أن حفصاً روي عنه باللفظ الأول كما في معجم الطبراني (7/ 46). وممكن أن يكون الراجح من لفظي همام، ذكاة الأديم دباغه، لكثرة من رواه عنه بهذا اللفظ، ولموافقته لفظ رواية هشام عن قتادة، لكن جاء أيضاً لفظ: دباغه طهوره من طريق شعبة عن قتادة، وجاء من طريق عمران القطان ومنصور بن زاذان عن الحسن، فيكون الحديث روي باللفظين: دباغها ذكاتها. ودباغها طهورها. وهل بين اللفظين اختلاف؟ الجواب نعم، أما على لفظ ذكاة الأديم دباغه. فإن الدباغ ينزل منزلة الذكاة، فما تحله الذكاة يطهره الدباغ، وما لا تحله الذكاة كالحمار والسباع لا يطهره الدباغ. وأما على لفظ: دباغه طهوره، فهو يوافق حديث: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" فإن الدباغ يطهر كل إهاب، سواء كانت تحله الذكاة أم لا، والله أعلم. الطريق الثالث: شعبة، عن قتادة. أخرجه الدراقطني (1/ 46) وابن عدي في الكامل (2/ 178) من طريق بكر بن بكار، ثنا شعبة، عن قتادة به، بلفظ: دباغها طهورها. وبكر بن بكار ضعيف، قال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن معين: ليس بشيء. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: ثقة ربما يخطئ. وقال أبو عاصم النبيل: ثقة. انظر الجرح والتعديل (2/ 382)، وسير أعلام النبلاء (9/ 583)، وميزان الاعتدال (1/ 343) ومع ضعفه فإنه قد توبع، تابعه أسود بن عامر، وهو ثقة، فقد أخرجه أحمد (5/ 6) ثنا أسود بن عامر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن رجل قد سماه، عن سلمة به، بلفظ: " الأديم طهوره دباغه". ولفظ شعبة ليس فيه ذكر للذكاة، فهي توافق رواية من رواه عن همام بلفظ: دباغه طهوره. والرجل المبهم في طريق شعبة هو جون بن قتادة كما في الروايات الأخرى. وتابع عمران القطان قتادة، كما في المعجم الكبير (7/ 46) رقم 6341 بلفظ: دباغ الأديم طهوره. وعمران القطان: قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (478). وقال يحيى بن معين: ضعيف. ضعفاء العقيلي (3/ 300). وقال أيضاً: ليس بالقوي. الجرح والتعديل (6/ 297). وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. المرجع السابق. وقال ابن عدي: عمران القطان له أحاديث غير ما ذكرت عن قتادة وعن غيره، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (5/ 87). وقال العجلي: بصري ثقة. معرفة الثقات (2/ 189). وفي التقريب: صدوق يهم. واختلف على الحسن، فرواه قتادة وعمران القطان، عن الحسن، عن جون، عن سلمة بن المحبق. ورواه منصور بن زاذان عن الحسن، عن جون، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخرجه الترمذي في العلل الكبير (519) حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا هشيم، أخبرنا منصور، وهو ابن زاذان، عن الحسن، قال: حدثنا جون بن قتادة التميمي، قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فقال: إن دباغ الميتة طهورها. وأخرجه ابن حزم في المحلى (1/ 120) من طريق محمد بن حاتم، حدثنا هشيم به. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (144) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا عمي، قال: حدثنا شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جلود الميتة، فقال: دباغها ذكاتها (¬1). ¬

= وقال المزي في تهذيب الكمال (5/ 163): هكذا رواه أحمد بن منيع وشجاع بن مخلد ويحيى بن أيوب المقابري، عن هشيم من دون ذكر سلمة بن المحبق فيه، وذلك معدود في أوهام هشيم. قال الحافظ أبو عبد الله بن مندة: ورواه الحسن بن عرفة وعمرو بن زرارة وغيرهما، عن هشيم، عن منصور ويونس بن عبيد وغيرهما، عن الحسن، عن سلمة بن المحبق من غير ذكر جون فيه، ورواه قتادة عن الحسن، عن جون بن قتادة، عن سلمة بن المحبق، وهو الصحيح. انتهى ما حكاه بن مندة. اهـ وقال ابن حجر في الإصابة (1/ 556): وقال أبو نعيم: قد رواه زكريا بن يحيى بن زحمويه، عن هشيم، فذكر سلمة بن المحبق في الإسناد، ثم ساقه من طريقه كذلك، وقال: جوده زحمويه، والراوي عنه أسلم بن سهيل الواسطي من كبار الحفاظ العلماء من أهل واسط، فتبين أن الواهم هشيم بالإجماع. ثم نقل تصويب المزي لكلام بن منده، وأن الوهم فيه من هشيم، وأن رواية زحمويه شاذة. قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون هشيم حدث به على الوهم مراراً، وعلى الصواب مرة. اهـ ورواية الحسن عن سلمة بن المحبق قد أخرجها أحمد في مسنده (5/ 6) حدثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سلمة بن المحبق، بلفظ: ذكاة الأديم دباغه. ولم يسمع الحسن من سلمة بن المحبق رضي الله عنه، انظر التاريخ الكبير (4/ 71)، وتحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل (ص: 75). (¬1) سنن النسائي (4245).

[إسناده ضعيف، واختلف في لفظه ووقفه ورفعه] (¬1). ¬

(¬1) جاء الحديث من طريق الأعمش، واختلف عليه فيه: فرواه النسائي (4245) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة مرفوعاً. بلفظ: دباغها ذكاتها. ورواه حجاج بن محمد، واختلف عليه: فأخرجه النسائي (4246) عن أيوب بن محمد الوزان. والدارقطني (1/ 44) من طريق عبد الرحمن بن يونس السراج، كلاهما عن حجاج بن محمد، عن شريك به. بلفظ: ذكاة الميتة دباغها. ورواه أحمد (6/ 154) عن حجاج بن محمد، عن شريك، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الأسود، عن عائشة، مرفوعاً، بلفظ: دباغها طهوره. ورواه أحمد (6/ 154) والنسائي (4244) من طريق الحسين بن محمد، عن شريك، عن الأعمش، عن عمارة به. ففي هذا الطريق مخالفتان: الأولى في الإسناد: وهي ذكر عمارة بن عمير. الثانية في المتن: ففي رواية عمارة بن عمير دباغها طهورها، وفي رواية إبراهيم، عن الأسود: دباغها ذكاتها. وهذا الاختلاف من قبل شريك، فإنه سيء الحفظ، والراجح والله أعلم أن الحديث حديث إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، لأن شريكاً توبع في هذا الطريق، ولم يتابع في ذكر عمارة بن عمير، فقد أخرجه النسائي (4247) من طريق مالك بن إسماعيل. وأخرجه الطحاوي (1/ 470) من طريق أبي غسان، كلاهما، عن إسرائيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة مرفوعاً. هذا بالنسبة للطريق المرفوع. ورواه الطحاوي (1/ 470) وابن المنذر في الأوسط (2/ 267) من طريق منصور، عن إبراهيم، عن الأسود به، موقوفاً عليها. بلفظ: لعل دباغها يكون طهورها، وهذا اللفظ ليس فيه دليل لهذا القول، لأنه لم يجعل الدباغ بمنزلة الذكاة. ورواه الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عائشة، موقوفاً عليها، ذكره الدارقطني =

وجه الاستدلال من الحديثين: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبر بالذكاة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: دباغها ذكاتها، ومعلوم أن الذكاة لا تطهر إلا ما يباح أكله، أما ما لا يباح أكله فلا تطهره الذكاة، ولو ذكي فهي ميتة، فجلد ما يحرم أكله ولو كان طاهراً في الحياة لا يطهر بالدباغ؛ لأن ما كان طاهراً في الحياة إنما كان طاهراً لمشقة التحرز منه، وهذه ¬

_ = في العلل (5/ الورقة: 61) وإبراهيم لم يسمع من عائشة، بل سمعه من الأسود، وهو كثير الإرسال. ورواه الطحاوي (4/ 470) من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش، قال: حدثنا أصحابنا عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً، وهذا معضل. وأخرجه الدارقطني (1/ 49) والبيهقي (1/ 21) من طريق عطاء بن يسار، عن عائشة، بلفظ: طهور كل أديم دباغه، وحسن الدارقطني إسناده. وقال البيهقي (1/ 21) رواته كلهم ثقات، وصححه ابن حزم كما في المحلى (1/ 122). وجاء من طريق القاسم، عن عائشة مرفوعاً، بلفظ: دباغ الأديم طهوره، أخرجه الطبراني في الصغير (1/ 189،190) من طريق الهيثم بن جميل، حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم به. قال الطبراني لم يروه عن عبد الرحمن إلا محمد، تفرد به الهيثم. فتبين لي من هذا العرض الاختلاف في متنه، فجاء الحديث بلفظ: ذكاة الميتة دباغها. وجاء بلفظ: دباغها طهورها، وقد بينا الفرق بين اللفظين في الحديث الذي قبل هذا. هذا من جهة الاختلاف في المتن. واختلف في رفعه ووقفه، فأيهما أرجح الموقوف أم المرفوع؟ اختلف العلماء في ذلك: فرجح البخاري رواية الوقف، جاء في العلل الكبير للترمذي (521) قال الترمذي: سألت محمداً عن حديث إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دباغ الميتة طهورها. فقال: الصحيح عن عائشة موقوف. اهـ ورجح الدارقطني في العلل الرفع، فقال (5/الورقة: 61) بعد أن ساق الاختلاف فيه على الأعمش، وأشبهها بالصواب قول إسرائيل ومن تابعه، عن الأعمش. اهـ

الدليل الثالث

العلة تنتفي بالموت. قال أبو ثور: لا أعلم خلافاً أنه لا يتوضأ في جلد الخنزير وإن دبغ، فلما كان الخنزير حراماً لا يحل أكله، وإن ذكي، وكانت السباع لا يحل أكلها وإن ذكيت، كان حراماً أن ينتفع بجلودها وإن دبغت قياساً على ما أجمعوا عليه من الخنزير إذا كانت العلة واحدة. اهـ (¬1). الدليل الثالث: (145) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل، أخبرنا سعيد وابن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جلود السباع (¬2). [حديث صحيح إن شاء الله تعالى] (¬3). ¬

(¬1) الاستذكار (15/ 326). (¬2) المسند (5/ 74). (¬3) الحديث يرويه قتادة عن أبي المليح، عن أبيه مرفوعاً، رواه سعيد بن أبي عروبة، وهو من أثبت الناس في قتادة، وتابعه شعبة، عن قتادة، ولم يختلف فيه على قتادة، ويرويه يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، رواه عن يزيد شعبة ومعمر، وقتادة أحفظ من يزيد الرشك. وقد قيل: عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن أبيه موصولاً، والمحفوظ إرساله من طريق يزيد الرشك، وهاك بيان ذلك: أما طريق قتادة، فقد رواه سعيد بن أبي عروبة وشعبة وهشام الدستوائي، وهاك بيانها: الطريق الأول: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. رواه أحمد (5/ 75) وأبو داود (4132)، والنسائي في السنن الكبرى (4579) وفي الصغرى (4253) وابن الجارود في المنتقى (875) والدرامي (1984) والطبراني في المعجم الكبير (1/ 191) رقم 508 والمقدسي في الأحاديث المختارة (1395) من طريق يحيى بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سعيد القطان. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 314) رقم 36417، والترمذي (1770) والدارمي (1983)، والطبراني في الكبير (1/ 191) رقم 508 من طريق ابن المبارك. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 314) رقم 36417، والطبراني في الكبير (1/ 191) رقم 508، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 18) من طريق يزيد بن هارون. وأخرجه أحمد (5/ 74)، وأبو داود (4132) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن علية. وأخرجه أحمد (5/ 74) ثنا محمد بن جعفر. وأخرجه الترمذي (1770) من طريق محمد بن بشر وعبد الله بن إسماعيل بن أبي خالد. ورواه الحاكم في المستدرك وصححه (507) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، كلهم عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه مرفوعاً. الطريق الثاني: هشام، عن قتادة. رواه معاذ بن هشام، عن أبيه، واختلف على معاذ: فرواه البزار في مسنده (2333) أخبرنا محمد بن المثنى، قال: أخبرنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. بمثل رواية سعيد بن أبي عروبة. ورواه الترمذي (1771) حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي المليح، أنه كره جلود السباع. هكذا رواه محمد بن بشار مقطوعاً على أبي المليح. الطريق الثالث: شعبة، عن قتادة. أخرجه البزار (2332) حدثنا محمد بن المثنى، قال: أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه، بمثل رواية سعيد بن أبي عروبة. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/ 192) رقم 509 من طريق ابن المبارك، عن شعبة به. ورواه محمد بن جعفر، عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وهذا الاختلاف من شعبة ليس اضطراباً، بل هو دليل على حفظه، فالحديث يرويه قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه مرفوعاً. رواه عنه سعيد بن أبي عروبة، وتابعه شعبة وهشام. ويرويه يزيد الرشك، عن أبي المليح مرسلاً. وقتادة مقدم على يزيد الرشك. قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (7/ 135): قتادة أحب إلي من يزيد الرشك. اهـ وقال أحمد: صالح الحديث، يروي عنه شعبة. الجرح والتعديل (9/ 297). وقال يحيى بن معين في رواية الدوري عنه: صالح. المرجع السابق. وقال في رواية بن أبي خيثمة: ليس به بأس. المرجع السابق. ووثقه أبو حاتم الرازي وأبو زرعة. المرجع السابق، فمثله لا يقارب قتادة. وقد رجح الترمذي رواية يزيد الرشك، قال الترمذي: ولا نعلم أحداً قال: عن أبي المليح، عن أبيه، غير سعيد بن أبي عروبة. ثم أخرج الترمذي طريق يزيد الرشك المرسل، وقال: وهذا أصح. اهـ فإذا علمنا أن هشام الدستوائي وشعبة قد تابعا سعيد بن أبي عروبة في روايته عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه، تكون رواية قتادة الموصولة أرجح من رواية يزيد الرشك المرسلة، والله أعلم. وهاك تخريج طريق يزيد الرشك. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 314) رقم 36421 حدثنا ابن علية، عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جلود السباع أن تفترش. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (215) عن معمر، عن يزيد الرشك به. وقد أخرجه الطبراني (1/ 192) رقم510 من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، أراه عن أبيه. وأخرجه الترمذي (1771) من طريق محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن يزيد الرشك به، مرسلاً. واختلف على شعبة: فرواه البيهقي (1/ 21) من طريق يزيد بن هارون، عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن أبيه، موصولاً. قال البيهقي: ووراه غيره، عن شعبة، عن يزيد، أبي المليح، مرسلاً، دون ذكر أبيه. اهـ =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (146) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي أن معاوية قال لنفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جلود النمور أن تركب عليها؟. قالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً. قالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة؟ -يعني: متعة الحج - قالوا: اللهم لا. قال: بلى إنه في هذا الحديث. قالوا: لا (¬1). [حسن لغيره إن شاء الله تعالى] (¬2). الدليل الخامس: (147) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حيوة بن شريح وأحمد بن عبد الملك، ¬

= ومحمد بن جعفر من أثبت أصحاب شعبة، وقد رواه عن شعبة مرسلاً. قلت: ورواه البزار (2331) عن أحمد بن السخت، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن أبيه. ولم أقف على ترجمة أحمد بن السخت، والمعروف من رواية إسماعيل بن علية، عن يزيد الرشك أنها مرسلة كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، والبزار (2330) عن مؤمل بن هشام، أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، والله أعلم. فالذي يتبين لي أن الراجح من رواية يزيد الرشك كونها مرسلة، وهي لا تعل رواية قتادة، لكون قتادة أحفظ من يزيد الرشك، ولم يختلف عليه كما اختلف على الرشك، والله أعلم. (¬1) المصنف (19927). (¬2) سبق الكلام عليه عند الكلام على حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة، والله أعلم.

الدليل السادس

قالا: حدثنا بقية، حدثنا بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحرير والذهب، وعن مياثر النمور (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السادس: (148) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن زرارة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر (¬3). ¬

(¬1) المسند (4/ 131، 132). (¬2) فيه بقية بن الوليد، وقد عنعن، وإن صرح بالتحديث من شيخه، فإن هذا لا يكفي؛ لأنه متهم بتدليس التسوية، وباقي رجاله ثقات. [تخريج الحديث] والحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 267) رقم 630 من طريق أبي زرعة الدمشقي، عن حيوة به. مختصراً، بلفظ: نهى عن ركوب على جلود السباع. وأخرجه أبو داود (4131)، والنسائي في الكبرى (4580،4581) وفي الصغرى (4245)، والبيهقي (1/ 21) (3/ 274) عن عمرو بن عثمان، حدثنا بقية به. وذكر فيه أبو داود والبيهقي (4131) قصة في ذكر وفاة الحسن بن علي رضي الله عنهما. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1127) من طريق يحيى بن يحيى، ثنا بقية به. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 269) رقم 636 من طريق محمد بن مصفى، ثنا بقية به. (¬3) سنن أبي داود (4130)، وفي إسناده عمران بن دوار، ضعفه النسائي ويحبى =

الدليل السابع

الدليل السابع: استدلوا بقول النضر بن شميل: إن الإهاب: جلد ما يؤكل لحمه من الإنعام، وأما ما لا يؤكل لحمه فإنما هو جلد ومسك وقد أنكرت طائفة من أهل العلم قول النضر بن شميل هذا، وزعمت أن العرب تسمي كل جلد إهاباً، واحتجت بقول عنترة: فشككت بالرمح الطويل إهابه ليس الكريم على القنا بمحرم (¬1). الدليل الثامن: قالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما أباح الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ إذا كان مما يؤكل لحمه؛ لأن الخطاب الوارد في ذلك إنما خرج على شاة ماتت لبعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل في ذلك كل ما يؤكل لحمه، وما لم يؤكل لحمه فداخل في عموم تحريم الميتة، واستدلوا بقول أكثر العلماء في المنع من جلد الميتة بعد الدباغ، بأن الذكاة غير عاملة فيه، قالوا: فكذلك السباع لا تعمل فيها الذكاة لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكلها، ولا يعمل فيها الدباغ؛ لأنها ميتة، لم يصح خصوص شيء منها (¬2). الراجح: الذي يظهر لي والله أعلم أن الدباغ يطهر كل إهاب، لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - إذا دبغ الإهاب فقد طهر يعم كل إهاب، فكل إهاب داخل تحت هذا الخطاب ¬

= بن معين، ومشاه أحمد، وسبقت ترجمته، وفي صحيح مسلم (2113) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً: لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس. (¬1) التمهيد (4/ 170). (¬2) التمهيد (4/ 182).

إلا أن يصح إجماع في شيء من ذلك، فيخرج من الجملة، ولم يثبت عندي حديث: "دباغها ذكاتها"، وأما النهي عن جلود السباع فليست العلة فيه كون الدباغ لا يطهره، وإنما كونه من جلود السباع، ولذلك لو كان من جلد حيوان نجس من غير السباع لم يكن داخلاً في النهي عن جلود السباع، فالنهي عن جلود السباع أخص من النهي عن جلود غيرها من الحيوانات النجسة، ولا يستدل بالأخص على الأعم، والله أعلم.

المبحث الثاني في الآنية المتخذة من عظام الميتة وقرنها وحافرها

المبحث الثاني في الآنية المتخذة من عظام الميتة وقرنها وحافرها الآنية المتخذة من عظم حيوان مأكول اللحم مذكى يحل استعمالها إجماعاً، كما أن الآنية المتخذة من عظم الآدمي لا تجوز، ولو من كافر لكرامة المؤمن، وتحريم المثلة في الكافر (¬1). وأما الآنية المتخذة من عظام حيوان غير مذكى، سواء كان مأكول اللحم أم غير مأكول اللحم فإن الخلاف فيها مبني على الخلاف في طهارة عظام الميتة، فمن كان يرى طهارة عظام الميتة مطلقاً لا يرى بأساً من اتخاذ الأواني منها، ومن يرى نجاستها يمنع من ذلك، والخلاف فيها على النحو التالي: فقيل: يجوز اتخاذ الآنية من عظام الميتة، وبيعها، وهو مذهب الحنفية (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3). وقيل: لا يجوز، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، ¬

(¬1) انظر غمز عيون البصائر (4/ 214)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 52)، تحفة المحتاج (1/ 117)، كشاف القناع (1/ 51)، المحلى (1/ 426). (¬2) البحر الرائق (1/ 112)، تبيين الحقائق (1/ 26)، بدائع الصنائع (1/ 63)، الهداية شرح البداية (3/ 46)، الجامع الصغير (ص: 329)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 170) و (3/ 33). (¬3) الفتاوى الكبرى (1/ 267). (¬4) المنتقى (3/ 136)، حاشية الدسوقي (1/ 53،54)، الخرشي (1/ 89)، مختصر خليل (ص:7)، حاشية العدوي (1/ 585)، الفواكه الدواني (2/ 287)، التمهيد (9/ 52)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 50). (¬5) قال الشافعي في الأم (1/ 23): " ولا يتوضأ ولا يشرب في عظم ميتة، ولا عظم =

والحنابلة (¬1). وقيل: لا يجوز بيعها، ويجوز الانتفاع بها، وهو اختيار ابن حزم (¬2). ¬

= ذكي لا يؤكل لحمه، مثل عظم الفيل والأسد وما أشبهه؛ لأن الدباغ والغسل لا يطهران العظم. اهـ وانظر المجموع (1/ 291)، وقد نص النووي رحمه الله أن استعمال عظام الميتة في شيء يابس يكره، ولا يحرم؛ لأن النجاسة هنا لا تتعدى، قال رحمه الله (1/ 198): العاج المتخذ من عظم الفيل نجس عندنا كنجاسة غيره من العظام، لا يجوز استعماله في شيء رطب، فإن استعمل فيه نجسه، قال أصحابنا: ويكره استعماله في الأشياء اليابسة لمباشرة النجاسة، ولا يحرم؛ لأنه لا يتنجس به، ولو اتخذ مشطاً من عظم الفيل فاستعمله في رأسه أو لحيته، فإن كانت رطوبة من أحد الجانبين تنجس شعره، وإلا فلا، ولكنه يكره ولا يحرم، هذا هو المشهور للأصحاب. ورأيت في نسخة من تعليق الشيخ أبي حامد أنه قال: ينبغي أن يحرم، وهذا غريب ضعيف. قلت (القائل النووي): وينبغي أن يكون الحكم هكذا في استعمال ما يصنع ببعض بلاد حوران من أحشاء للغنم على هيئة الأقداح والقصاع ونحوها، لا يجوز استعماله في رطب، ويجوز في يابس مع الكراهة، قال الروياني: ولو جعل الدهن في عظم الفيل للاستصباح أو غيره من الاستعمال في غير البدن فالصحيح جوازه، وهذا هو الخلاف في جواز الاستصباح بزيت نجس؛ لأنه ينجس بوضعه في العظم .. هذا تفصيل مذهبنا في عظم الفيل، وإنما أفردته عن العظام كما أفرده الشافعي ثم الأصحاب، قالوا: وإنما أفرده لكثرة استعمال الناس له، ولاختلاف العلماء فيه، فإن أبا حنيفة قال بطهارته بناء على أصله في كل العظام، وقال مالك في رواية: إن ذكي فطاهر وإلا فنجس، بناء على رواية له أن الفيل مأكول، قال إبراهيم النخعي: إنه نجس لكن يطهر بخرطه، وقد قدمنا دليل نجاسة جميع العظام وهذا منها، ومذهب النخعي ضعيف بين الضعف. والله أعلم. وانظر في مذهب الشافعية: حاشية البجيرمي (1/ 35)، وحاشية الشرواني (1/ 117)، روضة الطالبين (1/ 43، 44). (¬1) مختصر الخرقي (ص: 16)، المغني (1/ 56)، دليل الطالب (ص: 5)، المبدع (1/ 74،76)، كشاف القناع (1/ 56)، الإنصاف (1/ 92)، الكافي (1/ 20). (¬2) قال في المحلى (1/ 132): وأما العظم والريش والقرن فكل ذلك من الحي بعض الحي، والحي مباح ملكه وبيعه إلا ما منع من ذلك نص، وكل ذلك من الميتة ميتة، وقد صح =

دليل الحنفية على طهارة عظم الميتة.

وقال بعضهم: إن العظام نجسة، تطهر بالدباغ، ودباغها غليها، اختاره بعض المالكية (¬1). دليل الحنفية على طهارة عظم الميتة. الدليل الأول: قالوا: إن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، فما لا نفس له سائلة، ليس فيه دم سائل، فإذا مات لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فلا ينجس، فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجس من هذا، فإن العظم ليس فيه دم سائل، ولا كان متحركاً بالإرادة إلا على وجه التبع، فإذا كان الحيوان الكامل الإحساس، المتحرك بالإرادة، لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل. والذي يوضح هذا أكثر أن الله سبحانه وتعالى حرم علينا الدم المسفوح، قال سبحانه وتعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} الآية (¬2). وعفا عن غير الدم المسفوح، مع أنه من جنس الدم، والله سبحانه وتعالى حرم ما مات حتف أنفه، أو بسبب غير جارح محدد، فحرم المنخنقة ¬

= تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع الميتة، وبعض الميتة ميتة، فلا يحل بيع شيء من ذلك، والانتفاع بكل ذلك جائز، لقوله عليه السلام: {إنما حرم أكلها} فأباح ما عدا ذلك إلا ما حرم باسمه من بيعها والادهان بشحومها، ومن عصبها ولحمها. اهـ (¬1) المنتقى شرح الموطا (3/ 136، 137). (¬2) الأنعام: 145.

الدليل الثاني

والموقوذة والمتردية والنطيحة، والفرق بينهما إنما هو في سفح الدم، فدل على أن سبب التنجس هو احتقان الدم واحتباسه، وإذا كان كذلك فالعظم والقرن والظلف والظفر وغير ذلك ليس فيه دم مسفوح، ولا يعارض هذا بتحريم تذكية المرتد والمجوسي، ولو سفح الدم؛ لأن التحريم تارة يكون لاحتقان الدم، كما هو الحال في المتردية والنطيحة، وما صيد بعرض المعراض، وتارة تكون لفساد التذكية، كذكاة المجوسي والمشرك (¬1). الدليل الثاني: قالوا: إن هذه الأشياء ليست بميتة، فليست داخلة في عموم تحريم الميتة؛ لأن الميتة من الحيوان في عرف الشارع اسم لما زالت حياته، ولا حياة في هذه الأشياء. فإن قيل: إنها داخلة في الميتة؛ لأنها تحس وتتألم. قيل لهم: أنتم لم تأخذوا في عموم اللفظ، فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب لا ينجس عند جماهير العلماء، مع أنه ميتة (¬2). الدليل الثالث: أن طهارة العظم أولى من طهارة الجلد بالدباغ، فهذا الجلد، جزء من الميتة، فيه الدم كسائر أجزائها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الدباغ طهارة له؛ لأن الدباغ ينشف رطوبته، فدل على أن سبب التنجس هو الرطوبات، والعظم ليس فيه رطوبة سائلة، وما كان فيه منها يجف وييبس، كما أن العظم يبقى ويحفظ ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوى (21/ 99 - 100) بتصرف يسير. (¬2) المرجع السابق.

الدليل الرابع

أكثر من الجلد، فهو أولى بالطهارة من الجلد (¬1). الدليل الرابع: أن طهارة العظم هو المعروف عن سلف هذه الأمة، فقد ذكر البخاري، عن الزهري معلقاً بصيغة الجزم. قال البخاري: قال الزهري في عظام الموتى- نحو الفيل وغيره- أدركت ناساً من سلف العلماء يمتشطون بها، ويدهنون فيها، لا يرون به بأساً (¬2). الدليل الخامس: (149) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا محمد بن جحادة، حدثني حميد الشامي، عن سليمان المنبهي، عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر آخر عهده بإنسان فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، قال: فقدم من غزاة له، فأتاها فإذا هو يمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة، فرجع ولم يدخل عليها، فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر، ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما، فبكى الصبيان فقسمته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهما يبكيان، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهما، فقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة، واشتر لفاطمة قلادة من عصب، وسوارين من عاج؛ فإن هؤلاء أهل بيتي، ولا أحب أن يأكلوا ¬

(¬1) المرجع السابق. (¬2) فتح الباري (1/ 408).

دليل من قال بنجاسة العظم.

طيباتهم في حياتهم الدنيا (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). دليل من قال بنجاسة العظم. الدليل الأول: قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬3)، والعظم جزء من الميتة. ¬

(¬1) المسند (5/ 275) (¬2) الحديث أخرجه أبو داود (4213) ومن طريقه البيهقي (1/ 26) وأخرجه الروياني في مسنده (655)، والطبراني في المعجم الكبير (2/ 103)، وابن عدي في الكامل (2/ 270)، والمزي في تهذيب الكمال (7/ 413)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1336) كلهم من طريق عبد الوارث به. وفي إسناده حميد الشامي، جاء في ترجمته: قال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: فحميد الشامي، كيف حديثه الذي يروي حديث ثوبان، عن سليمان المنبهي؟ قال: ما اعرفهما. الكامل لابن عدي (2/ 270). قال أبو طالب: سألت احمد بن حنبل، عن حديث عبد الوارث، عن محمد بن جحادة، عن حميد الشامي، فقال: نعم. قلت: من هو حميد؟ قال: لا اعرفه. المرجع السابق. وقال ابن عدي: وحميد الشامي هذا إنما انكر عليه هذا الحديث، وهو حديثه، ولم اعلم له غيره. المرجع السابق. وفي التقريب: مجهول. وسليمان المنبهي، قال ابن معين: لا أعرفه، كما نقلت عنه في ترجمة حميد الشامي. وذكره البخاري وسكت عليه. التاريخ الكبير (4/ 36). وذكره ابن حبان في الثقات. وفي التقريب: مجهول، فالحديث رواية مجهول عن مثله. (¬3) المائدة: 3.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (150) قال الشافعي: روى عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر يكره أن يدهن في مدهن من عظام الفيل؛ لأنه ميتة (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: قالوا: إن العظام تحلها الحياة، فتنجس بالموت، قال تعالى: {قال من يحيى العظام وهي رميم} (¬3)، ولأن دليل الحياة: الإحساس والألم، والألم في العظام أشد من الألم في اللحم، فالضرس يألم، ويحس ببرد الماء وحرارته، وما يحله الموت ينجس به كاللحم (¬4). دليل ابن حزم على تحريم البيع وجواز الانتفاع. أما الدليل على تحريم البيع، (151) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها ¬

(¬1) الأم (1/ 23). (¬2) علقه الشافعي هنا، وأسقط شيخه، وقد رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن عبد الله بن دينار به، كما في سنن البيهقي (1/ 26) وإبراهيم متروك. (¬3) يس: 78. (¬4) المغني (1/ 57) الانتصار في المسائل الكبار (1/ 210).

الراجح

السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه (¬1). فحرم البيع وأباح الانتفاع، ولم يكن الانتفاع بكون الميتة يطلى بها السفن ويستصبح بها الناس مسوغاً لإباحة البيع. والدليل على جواز الانتفاع من عظم الميتة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الميتة: إنما حرم أكلها، (152) فقد روى البخاري، قال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجد النبي صلى الله عليه وسلم شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلا انتفعتم بجلدها قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها، ورواه مسلم (¬2). فلا يمنع هذا من الانتفاع بعظم الميتة. الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها الذي يظهر لي أن مذهب الحنفية أرجح في هذه المسألة، وأن العظام كلها طاهرة، لأن الأصل في الأعيان الطهاة، ولعدم وجود ما يقتضي نجاستها، وأما من اشترط غلي العظام فالظاهر أن الغلي ليس مقصوداً لذاته، بل المراد أي عمل يزيل رطوبة النجاسة ولحمها من العظام، فهو لا يخرج عن مذهب الحنفية، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (2236) ومسلم (1581). (¬2) صحيح البخاري (1492)، صحيح مسلم (363).

المبحث الثالث في الأنية المتخذة من شعر الميتة ووبرها وصوفها

المبحث الثالث في الأنية المتخذة من شعر الميتة ووبرها وصوفها يعمل بعض الأواني من الشعر والوبروالصوف، كما قال تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} (¬1). فإذا كان هذا الشعر والوبر قد جز من حيوان طاهر، وهو حي، فإنه طاهر بالإجماع (¬2)، أما إذا كان الشعر والوبر والصوف من حيوان ميت، فقد اختلف العلماء في ذلك: فقيل: إذا جز الشعر من الحيوان فهو طاهر، سواء كان من حيوان طاهر أم نجس، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5)، إلا أن ¬

(¬1) النحل: 80. (¬2) نقل الإجماع على ذلك النووي في المجموع (1/ 296)، وابن رشد في بداية المجتهد (2/ 183)، وابن تيمية في الفتاوى (21/ 98). (¬3) أحكام القرآن للجصاص (1/ 170،171)، تبيين الحقائق (1/ 26)، العناية شريح الهداية (1/ 96)، الجوهرة النيرة (1/ 16)، شرح فتح القدير (1/ 96)، الفتاوى الهندية (1/ 24)، مجمع الأنهر في ملتقى الأبحر (1/ 32،33)، حاشية ابن عابدين (1/ 206). (¬4) المنتقى (1/ 180)، تفسير القرطبي (2/ 219)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 150)، مواهب الجليل (1/ 89)، حاشية العدوي (1/ 584)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 50،51)، هذا قولهم في الشعر والوبر والصوف، وأما الريش من الميتة، فقد ذكر ابن عبد البر في الكافي في فقه أهل المدينة مذهب المالكية، فقال: (ص: 189): لا يجوز الانتفاع بريش الميتة"، وكذلك ذكر ابن الجلاب في التفريع (1/ 408)، واستثنى الباجي في المنتقى (3/ 137) الريش الذي لا سنخ له، مثل الزغب ونحوه. (¬5) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 263)، مجموع الفتاوى (21/ 617).

الحنفية استثنوا شعر الخنزير فقط. وقيل: إن كان الحيوان طاهراً في الحياة، ولو كان غير مأكول، فشعره طاهر، وإذا كان الحيوان نجساً، فالشعر تبع له، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: إن الشعر والوبر والصوف من الميتة نجس إلا شعر الآدمي، وهو المشهور مذهب الشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: صوف الميتة وشعرها ووبرها نجس قبل الدباغ حلال بعده، وهو اختيار ابن حزم (¬4). واشترط من قال بطهارته أن يجز. قال ابن نجيم: شعر الميتة إنما يكون طاهراً إذا كان محلوقاً، أو مجزوزاً، وإن كان منتوفاً فهو نجس (¬5). وقال الدردير: والمقصود بالجز: ما يقابل النتف، فيشمل الحلق والإزالة بالنورة، فلو جزت بعد النتف، فالأصل الذي فيه أجزاء الجلد نجس، والباقي طاهر (¬6). ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 92)، المبدع (1/ 76)، الفروع (1/ 78)، الكافي (1/ 20)، كشاف القناع (1/ 57)، مجموع الفتاوى (21/ 617)، المغني (1/ 60). (¬2) المجموع (1/ 291)، المهذب (1/ 11)، حلية العلماء (1/ 96)، روضة الطالبين (1/ 15، 43). (¬3) الإنصاف (1/ 92)، الفروع (1/ 77، 78). (¬4) المحلى (1/ 128). (¬5) البحر الرائق (1/ 113). (¬6) الشرح الكبير (1/ 49).

دليل من قال بطهارة شعر الميتة

دليل من قال بطهارة شعر الميتة. الدليل الأول: قال تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} (¬1). والدفء: ما يتدفأ به من شعرها ووبرها وصوفها، وذلك يقتضي إباحة الجميع من الميتة والحي (¬2). الدليل الثاني: قال تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} (¬3). وجه الاستدلال: أن الآية حكمت على جميع الصوف والوبر والشعر بالإباحة من غير فرق بين المذكى منه وبين الميتة، ومن استثنى صوف الميتة ووبرها وشعرها فعليه الدليل. الدليل الثالث: أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، فمن منع أو حكم بالنجاسة، فعليه الدليل. الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس، وفيه قال رسول الله عن ¬

(¬1) النحل: 5. (¬2) أحكام القرآن للجصاص (1/ 171). (¬3) النحل: 80.

الدليل الخامس

الميتة: إنما حرم أكلها. (¬1)، وقد سبق الحديث بتمامه. الدليل الخامس: دل الإجماع على طهارة الشعر المأخوذ من الحيوان قبل موته، فلا ننتقل إلى نجاسته إلا بدليل. أو يقال: القياس على الشعر المأخوذ من الحيوان حال الحياة، فإذا كان الشعر المأخوذ من الحيوان حال الحياة طاهراً، كان الشعر بعد الموت طاهراً. قال ابن تيمية: اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جز من الحيوان كان طاهراً، فلو كان الشعر جزءاً من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة (¬2). (153) فقد روى أحمد، قال: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الرحمن -يعني: ابن عبد الله بن دينار- عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، والناس يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أليات الغنم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قطع من البهيمة وهي حية، فهي ميتة (¬3). [الراجح أنه مرسل] (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1492)، صحيح مسلم (363). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 98). (¬3) المسند (5/ 218). (¬4) الحديث فيه اختلاف كثير، والحديث مداره على زيد بن أسلم، فروي عنه تارة من مسند أبي واقد، ومرة من مسند ابن عمر، ومرة من مسند أبي سعيد، وجاء موصولاً ومرسلاً، والراجح فيه رواية ابن مهدي، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتابعه معمر، عن زيد بن أسلم، وهاك بيان هذا الاختلاف: الحديث رواه أحمد (5/ 18)، وأبو داود (2858)، والترمذي (1480)،، وابن الجعد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في مسنده (2952)، والدارمي (2018)، وأبو يعلى في مسنده (1450)، وابن الجارود في المنتقى (876)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 248) رقم: 3304، والدارقطني (4/ 292)، والحاكم في المستدرك (7597)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 273)، والبيهقي (9/ 245) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي مرفوعاً. وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، فيه ضعف. جاء في ترجمته: قال الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار في حديثه ضعف وقد حدث عنه يحيى القطان. الجرح والتعديل (5/ 254). وقال عمرو بن على الصيرفي: لم اسمع عبد الرحمن بن مهدى يحدث عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار بشيء. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: فيه لين يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق. واختلف على زيد بن أسلم، فرواه عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي كما سبق. وتابعه عبد الله بن جعفر المديني كما في المستدرك (4/ 123،124)، وعبد الله ضعيف. ورواه ابن ماجه (3216)، والدارقطني (4/ 292)، والحاكم (4/ 124) من طريق معن بن عيسى، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، مرفوعاً. وهشام بن سعد، وإن كان قد ضعف، إلا أن أبا داود قال فيه: من أثبت الناس في زيد بن أسلم. انظر تهذيب الكمال (3/ 207). وفي التقريب: صدوق له أوهام. وتابعه عاصم بن عمر، فقد أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (1857)، وابن عدي في الكامل (5/ 230) من طريق عاصم بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعاً. قال الهيثمي: وسند هذا صحيح. والحق أن عاصم بن عمر ضعيف، وقد ضعفه به الحافظ في التلخيص (1/ 29). ورواه سليمان بن بلال، واختلف عليه فيه: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فرواه الحاكم في المستدرك (4/ 267) من طريق عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. وتابعه مسور بن الصلت، عند الحاكم أيضاً (4/ 138). وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثقة، أخرج له البخاري. ورواه عبد الرحمن بن مهدي كما في المستدرك أيضاً (4/ 138) عن زيد بن أسلم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وتابعه معمر، كما في المصنف (4/ 494) رقم 8611، فرواه عن زيد بن أسلم به. وقد رجح الدراقطني الرواية المرسلة، قال الحافظ كما في تلخيص الحبير (1/ 28،29): ذكر الدارقطني علته، ثم قال: والمرسل أصح. ولا شك أن رواية عبد الرحمن بن مهدي مقدمة على غيرها، وقد توبع فيه، ولولا هذه الرواية لقلت: إن الحديث مضطرب لكثرة الاختلاف في إسناده، فأنت ترى أنه جاء مرة من مسند أبي واقد، ومرة من مسند ابن عمر، ومرة من مسند أبي سعيد، ومرة موصولاً ومرة مرسلاً، والمخرج واحد. ورجح الإمام البخاري رحمه الله كونه محفوظاً من حديث أبي واقد الليثي، جاء في كتاب العلل الكبير للترمذي (437) قال الترمذي: سألت محمداً عن هذا الحديث، فقلت له: أترى هذا الحديث محفوظاً؟ قال: نعم. قلت له: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ فقال: ينبغي أن يكون أدركه، عطاء بن يسار قديم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث زيد بن أسلم. وجاء الحديث من مسند تميم الدراي، أخرجه ابن ماجه (3217)، قال: 3217 حدثنا هشام بن عمار ثنا إسماعيل بن عياش ثنا أبو بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن تميم الداري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون في آخر الزمان قوم يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أذناب الغنم، ألا فما قطع من حي فهو ميت. وأخرجه الطبراني في الكبير (2/ 57) رقم 1276، وابن عدي في الكامل (3/ 325) من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي بكر الهذلي به. وفيه شهر بن حوشب، الأكثر على ضعفه، كما أن شهراً لم يسمع من تميم الداري، انظر جامع التحصيل (ص: 197)، وضعفه الحافظ في التلخيص (1/ 29)، وأبو بكر الهذلي =

الدليل السادس

فلو كان الشعر جزءاً من الحيوان، لما جاز أخذه من الحيوان الحي، وكان نجساً حكمه حكم ميتته، فلما جاز أخذه علم أنه ليس جزءاً من الحيوان، وأنه طاهر مطلقاً في حياة الحيوان وبعد موته، والله أعلم. الدليل السادس: هناك بعض الأحاديث الضعيفة التي يستدلون بها أذكرها للتنبيه عليها، تحذيراً منها، وإلا فالأدلة السابقة كافية، منها: (154) ما رواه الدراقطني، من طريق عبد الجبار بن مسلم، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: إنما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الميتة لحمها، وأما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به (¬1). ¬

= متروك. وبالتالي لا يصلح الحديث بأن يكون شاهداً. كما جاء الحديث عن مجاهد، فقد أخرج عبد الرزاق (8612) عن ابن مجاهد، عن أبيه، قال: كان أهل الجاهلية يقطعون أليات الغنم، وذكره بمثله. وهذا سند ضعيف أيضاً، فيه ابن مجاهد عبد الوهاب، جاء في ترجمته: قال مهران بن أبى عمر العطار الرازي: كنت مع سفيان الثوري في مسجد الحرام، فمر عبد الوهاب بن مجاهد، فقال سفيان: هذا كذاب. الجرح والتعديل (6/ 69). وقال أحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن مجاهد لم يسمع من أبيه، ليس بشيء، ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال العباس بن محمدالدوري: سئل يحيى بن معين عن عبد الوهاب بن مجاهد، فقال: ضعيف. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث. المرجع السابق. (¬1) سنن الدراقطني (1/ 47، 48).

[إسناده ضعيف، ومتنه منكر] (¬1). (155) ومنها ما رواه الدراقطني، من طريق أبي بكر الهذلي، أن الزهري حدثهم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما علي طاعم يطعمه} ألا كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها، فأما الجلد والقرن والشعر والصوف والسن والعظم فكل هذا حلال؛ لأنه لا يذكى. قال الدراقطني: أبو بكر الهذلي متروك (¬2). (156) ومنها ما رواه الدراقطني، من طريق يوسف بن السفر، نا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: سمعت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا بأس بمسك ¬

(¬1) في إسناده عبد الجبار بن مسلم، ذكره ابن حبان في الثقات (7/ 136). وقال الدراقطني: ضعيف. سنن الدراقطني (1/ 48). وقال الذهبي: لا أعرفه. ميزان الاعتدال (2/ 534). وجاء في لسان الميزان (3/ 389): قال تمام: لم يسند عبد الجبار بن مسلم إلا هذا الحديث. فقال الحافظ: ولم يرو عنه غير الوليد. وقال يعقوب بن سفيان في تاريخه: سألت هشام بن عمار عنه، فقال: كان يركب الخيل ويتنزه ويتصيد. قال الحافظ: وهذا الوصف من رواية أخيه عنه يرفع جهالة عينه. اهـ فالحديث منكر؛ لأن عبد الجبار مع كونه ضعيفاً، خالف كل من روى هذا الحديث عن الزهري، كالإمام مالك ويونس وابن عقيل وصالح بن كيسان وغيرهم، حيث رووا هذا الحديث، ولم يذكروا الجلد والشعر وما ذكره معهما. (¬2) سنن الدراقطني (1/ 48).

دليل من قال بنجاسة الشعر ونحوه.

الميتة إذا دبغ، ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء. قال الدراقطني: يوسف بن السفر متروك، ولم يأت به غيره (¬1). دليل من قال بنجاسة الشعر ونحوه. استدلوا بقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬2)، وهو عام للشعر وغيره، فإن الميتة اسم لما فارقته الروح بجميع أجزائه. وأجيب بجوابين: الأول: أن قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬3)، لا يدخل فيها الشعور وما أشبهها؛ وذلك لأن الميت ضد الحي، والحياة نوعان: حياة الحيوان: وحياة النبات. فحياة الحيوان: خاصتها الحس والحركة الإرادية. وحياة النبات: خاصتها النمو والاغتذاء. وقوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} الأية (¬4)، إنما هو بما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية، فإن الشجر والزرع إذا يبس لم ينجس باتفاق المسلمين. وقد قال تعالى {والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} الأية (¬5). وقال: {اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها} الآية (¬6). ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 47). (¬2) المائدة: 3. (¬3) انظر الإحالة السابقة. (¬4) المائدة: 3. (¬5) النحل: 65. (¬6) الحديد: 17.

الثاني

وإنما الميتة المحرمة: ما فارقها الحس والحركة الإرادية. وإذا كان كذلك فالشعر حياته من جنس حياة النبات، لا من جنس حياة الحيوان، فإنه ينمو ويتغذى ويطول كالزرع. وليس فيه حس، ولا يتحرك بإرادته، فلا تحله الحياة الحيوانية حتى يموت بمفارقتها. فلا وجه لتنجيسه. وأيضاً لو كان الشعر جزءاً من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة ... الخ (¬1). الجواب الثاني: قالوا: إن قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} (¬2) عام، وقوله تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} (¬3) خاص في بعضها، وهو الشعر والصوف، والوبر. والخاص مقدم على العام (¬4). دليل ابن حزم على طهارة الشعر بالدبغ. استدل ابن حزم على ذلك بقوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أن على جلود ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 97، 98). (¬2) المائدة: 3. (¬3) النحل: 80. (¬4) ودفعه النووي بقوله في المجموع (1/ 292): أن كل واحدة من الآيتين، فيها عموم وخصوص، فإن تلك الآية أيضاً عامة في الحيوان الحي والميت، وهذه خاصة بتحريم الميتة، فكل آية عامة من وجه، خاصة من وجه، فتساويتا من حيث العموم والخصوص، وكان التمسك بقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} أولى؛ لأنها وردت لبيان المحرم، وأن الميتة محرمة علينا، ووردت الأخرى للامتنان بما أحل لنا. وأجاب بعضهم عن قوله تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} بأنها محمولة على شعر المأكول إذا ذكي، أو أخذ في حياته كما هو المعهود، وأجاب الماوردي بجواب آخر مفاده: أن من للتبعيض، والمراد بالبعض الطاهر وهو ما ذكرناه.

الراجح من هذه الأقوال

الميتة الشعر والريش والصوف، فلم يأمر بإزالة ذلك، ولا أباح استعمال شيء من ذلك قبل الدبغ، وكل ذلك قبل الدبغ بعض الميتة، فهو حرام، وكل ذلك بعد الدبغ طاهر ليس ميتة، فهو حلال، حاشا أكله، إلا ان ابن حزم استثنى شعر الخنزير، فلا يطهر عنده بالدبغ، وإن طهر جلده بذلك (¬1). الراجح من هذه الأقوال: بعد استعراضنا لأدلة كل قول، يترجح لي أن رأي الحنفية والمالكية أقوى من حيث الدليل، وأن الشعر لا تدخله الحياة الحيوانية، والحياة النباتية لا تكفي لتنجيسه إذا فارقها، وأنه لافرق بين شعر الحيوان الطاهر بالحياة والحيوان النجس، ومن اشتثنى شعر الكلب أو الخنزير إن كان في ذلك إجماع فالدليل الإجماع، وإن لم يصح في المسألة إجماع فلا فرق بين شعره وشعر غيره، وبهذا يتبن لنا أن الميتة ثلاثة أقسام: نجس مطلقاً لا يطهر بحال، وهو اللحم والدم. وطاهر مطلقاً، وهو الشعر والوبر والصوف إذا جز جزاً. وطاهر بشرط الدباغ، وهو الجلد. وبهذا التقسيم يتبين لنا أن الأواني المصنوعة من الشعر أواني طاهرة، والله أعلم. ¬

(¬1) المحلى (1/ 123، 124).

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله على إتمام هذا البحث، له الحمد كله وله الشكر وحده، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} وقد خرجت من هذا البحث بجملة من الفوائد سوف أسوقها على طريق الإختصار، ومن شاء أن ينظر إليها مبسوطة فليطلبها في مظانها من البحث، ومن هذه الفوائد: الأولى: أن ديننا ولله الحمد دين الطهارة والنظافة، طهارة في الباطن في الخلوص من الشرك والرياء، وطهارة في الظاهر وذلك بتطهير البدن تارة بالوضوء وتارة بالغسل، وتارة من الحدث وتارة من الخبث، ويكفي في عناية الإسلام بالطهارة أن جعل الطهور شطر الايمان. الثانية: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل. الثالثة: أن الراجح في الماء أنه قسمان، لا ثالث لهما. الرابعة: الماء المحرم كسبه لو تطهر الإنسان به من حدث أو خبث حكم بطهارة المحل مع الإثم، فالتحريم والصحة ليس بينهما تلازم. الخامسة: لا يوجد دليل يمنع من رفع الحدث وإزالة الخبث من ماء زمزم، لكن إن وجد غيره في إزالة الخبث فتركه أولى، وإن لم يوجد غيره فلا مانع من إزالة الخبث به. السادسة: الماء المتغير بطاهر سواء كان هذا الطاهر مما يشق التحرز منه أم لا فإن الماء طهور ما دام أنه يسمى ماء، فإذا زال عنه اسم الماء إلى حقيقة أخرى كأن يقال: مرق أو نحوه فلا يتطهر عنه، ولا يكفي مجرد التغير بالطاهر حتى يقال: إنه طاهر غير طهور.

السابعة: طهورية الماء المتغير بمكثه. الثامنة: إذا وقع في الماء نجاسة فلم تغيره فإنه طهور مطلقاً، سواء كان كثيراً أم يسيراً إلا أن تكون النجاسة من ولوغ الكلب في الإناء فإن الماء ينجس ولو لم يتغير. التاسعة: إذا تغير الماء بنجاسة فإنه نجس مطلقاً سواء كان يسيراً أم كثيراً، ومذهب المالكية في حد اليسير أرجح عندي من مذهب الجمهور، والله أعلم. العاشرة: الماء المستعمل في رفع الحدث، أو في طهارة مستحبة، أو في طهارة غير مشروعة أو في التبرد أو في النظافة فإنه طهور تغير أم لم يتغير. الحادية عشرة: الماء المستعمل في إزالة النجاسة إن تغير بالنجاسة فهو نجس، وإلا فهو طهور. الثانية عشرة: الماء المستعمل في غمس يد القائم من النوم طهور غير مكروه، وأما غسل اليد قبل غمسها فهو واجب، ويختص الحكم بنوم الليل خاصة. الثالث عشرة: جواز وضوء الرجال والنساء جميعاً إذا كانوا من المحارم، فلو كشفت المرأة أعضاء الوضوء أمام أبيها أو أخيها أو ابنها فلا حرج إن شاء الله تعالى. الرابع عشرة: جواز الوضوء بفضل المرأة والعكس. الخامس عشرة: اليقين لا يزول بالشك، فمن تيقن الطهارة وشك بالحدث، أو تيقن النجاسة وشك في الطهارة بنى على اليقين، وهذا أصل عظيم في الطهارة.

السادس عشرة: إذا اشتبه الماء الطهور بالنجس وتصور وقوع هذه المسألة كما لو كان الرجل أعمى لا يشاهد لون الماء، أو كان لا يشم رائحة النجاسة، أو كان لا يستطيع التعرف على طعم الماء، فإنه يتحرى، وإلا فالراجح أن الماء الطهور لا يمكن أن يشتبه بالماء النجس؛ لأننا لا نحكم على الماء بأنه نجس حتى يتغير، فإذا تغير أصبح محسوساً. السابع عشرة: لا يمكن أن يشتبه الطهور بالطاهر، لأن الماء إما طهور وإما نجس، ولا ثالث لهما. الثامن عشرة: إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة تحرى. التاسع عشرة: بأي شيء أمكن تطهير الماء المتنجس بنزح أو إضافة أو معالجة كما لو تم تقطيره فإنه يرجع للطهورية. العشرون: حكم المائع من غير الماء تخالطه النجاسة حكم الماء إذا وقعت فيه نجاسة، فإن تغير بالنجاسة نجس، وإلا فهو طاهر، وإذا أمكن تطهيره طهر. الحادية والعشرون: لا يكره الماء المسخن بالشمس ولا بشيء طاهر، بل لا يكره الماء المسخن بالنجاسة. الفائدة الثانية والعشرون: تحريم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، وجواز الإتخاذ بل والإستعمال في غير الأكل والشرب. الثالث والعشرون: جواز الطهارة في آنية الذهب والفضة. الرابع والعشرون: يجوز الأكل والشرب في الإناء المضبب لا فرق بين التضبيب بالذهب والفضة. الخامس والعشرون: يكره استعمال أواني المشركين مع وجود غيرها. السادس والعشرون: الدباغ يطهر جميع الجلود، وينهى عن استعمال

جلود السباع. السابع والعشرون: طهارة عظم الميتة وشعرها وقرنها وحافرها. هذه هي الفوائد الفقهية، وقد سردتها لتكون كالإختيارات لمن أراد أن يطلع على رأي الباحث.

[آداب الخلاء]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن من كمال هذه الشريعة ربطها الأمور الجبلية بأنواع من العبادات. فالناظر في الآداب الإسلامية، ومنها آداب الخلاء يلحظ كمال هذه الشريعة وشمولها، بحيث جعلت المسلم في كل أحواله مرتبطاً بعبادة الله سبحانه وتعالى، فالبول والغائط من الأمور الجبلية، ولكن الشارع فتح لعباده في هذا الأمر الجبلي أبواباً من العبادات، ولولا ذلك لكان التقرب بها بدعة، وهكذا سائر الأمور الجبلية، فالأكل والشرب مجبول عليهما الإنسان، ولكن ما يميز المسلم أن جعل من هذا الأمر الذي لا بد منه صفات تجعله مرتبطاً بالله، فالتسمية في أوله، والأكل في اليمين، ومما يلي الإنسان، والحمد في آخره، ونحو ذلك من العبادات التي هي مصداق لقوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له} (¬1). وقوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (¬2). وهكذا البول والغائط ترتبط فيه مجموعة من العبادات تبدأ قبل الدخول في الأماكن المخصصة، وحال قضاء الحاجة، وتنتهي بعد الفراغ من حاجته، ومن هذه الآداب ما هو واجب يأثم الإنسان بتركه، ومنها ما هو مندوب، ومنها ما هو مكروه. وقد قال بعض الكفار ساخراً من تعاليم الإسلام، بأنه يعلم حتى آداب ¬

(¬1) الأنعام: 162. (¬2) الأنعام: 38.

الخلاء، فأجابه الصحابي سلمان جواب العزيز بدينه، (157 - 1) فقد روى مسلم من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء، حتى الخراءة؟! قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬1). قال الطيبي جواب سلمان من باب أسلوب الحكيم؛ لأن المشرك لما استهزأ كان من حقه أن يهدد أو يسكت عن جوابه، لكن ما التفت سلمان إلى استهزائه، وأخرج الجواب مخرج المرشد الذي يرشد السائل المجد يعني ليس هذا مكان الاستهزاء، بل هو جد وحق، فالواجب عليك ترك العناد والرجوع اليه (¬2). فالحمد لله الذي هدانا لهذا الدين العظيم، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. خطة البحث في هذا الكتاب: خطة البحث مكونة من أبواب وفصول ومباحث وفروع على غرار البحوث السابقة على النحو التالي. التمهيد: في التعريف اللغوي. الباب الأول: في حكم الاستنجاء الفصل الأول: خلاف العلماء في حكم الاستنجاء. ¬

(¬1) صحيح مسلم (262). (¬2) حاشية السندي على سنن النسائي (1/ 39).

الفصل الثاني: هل الاستنجاء على الفور أم على التراخي. الفصل الثالث: في العاجز عن الاستنجاء. الباب الثاني: في آداب الخلاء. الفصل الأول: في آداب تتعلق بالدخول والخروج وقضاء الحاجة. المبحث الأول: حكم التسمية عند الدخول. المبحث الثاني: في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث الفرع الأول: هذه الآداب خاصة في المكان المعد أم في كل مكان الفرع الثاني: متى يقال الذكر الوراد في دخول الخلاء الفرع الثالث: إذا دخل الخلاء بطفل فهل يعيذ الطفل بالذكر الوارد؟ المبحث الثالث: استحباب لبس الحذاء عند الدخول للخلاء. المبحث الرابع: في استحباب تقديم الرجل اليسرى عند الدخول والعكس عند الخروج. المبحث الخامس: في الاعتماء على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة. المبحث السادس: في الكلام أثناء قضاء الحاجة. الفرع الأول: في ذكر الله تعالى داخل الخلاء. الفرع الثاني: في الكلام في الخلاء. المبحث السابع: في اللبث على الحاجة فوق الحاجة. المبحث الثامن: في استحباب تغطية الرأس. المبحث التاسع: في مسح الذكر عند الفراغ من البول. المبحث العاشر: في نتر الذكر. المبحث الحادي عشر: في استحباب قول غفرانك

فرع: مناسبة طلب المغفرة بعد قضاء الحاجة. المبحث الثاني عشر: استحباب الحمد بعد الخروج من الخلاء. المبحث الثالث عشر: في استحباب تنظيف اليد بعد غسل دبره. المبحث الرابع عشر: في البول واقفاً. الفصل الثاني: في آداب قضاء الحاجة المتعلقة بالمكان المبحث الأول: في طلب المكان الرخو. المبحث الثاني: في استحباب الاستتار الفرع الأول: استحباب الابتعاد عن أعين الناس إن كان في الفضاء. الفرع الثاني: في وجوب ستر العورة عن الناس عند قضاء الحاجة. الفرع الثالث: في رفع الثوب قبل الدنو من الأرض. الفرع الرابع: إذا لم يتمكن الإنسان من قضاء الحاجة إلا بالنظر إلى عورته. المبحث الثالث: في حكم استقبال الريح حال البول. المبحث الرابع: في حكم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط. المبحث الخامس: في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء. المبحث السادس: في استقبال النيرين (الشمس والقمر). المبحث السابع: في البول في الطريق والظل النافع وتحت شجرة مثمرة. المبحث الثامن: في البول في المسجد. المبحث التاسع: في البول في الشق ونحوه.

المبحث العاشر: في البول على القبر. المبحث الحادي عشر: في البول في الإناء المبحث الثاني عشر: في التحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء. الباب الثالث: في صفة الاستنجاء والاستجمار. الفصل الأول: في التسمية عند الاستنجاء والاستجمار. الفصل الثاني: حكم النية للاستنجاء. الفصل الثالث: يبدأ الرجل بالقبل قبل الدبر. الفصل الرابع: هل يكفي في الاستنجاء غلبة الظن أم لا بد من اليقين الفصل الخامس: في صفة الإنقاء. المبحث الأول: في صفة الإنقاء بالحجر. المبحث الثاني: في صفة الإنقاء بالماء. الفصل السادس: قول العلماء في الأثر المتبقي بعد الاستجمار. فرع: ما تطاير من الماء وقت الاستنجاء. الفصل السابع: القول في قطع الاستنجاء على وتر الفصل الثامن: في صفة المسح بالأحجار. الفصل التاسع: لايباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس الذكر بها حال البول. المبحث الأول: هل يكره مس الذكر مطلقاً، أو حال البول فقط؟ المبحث الثاني: إذا استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟. المبحث الثالث: اشكال وجوابه.

المبحث الرابع: حكم مس الدبر. المبحث الخامس: حكم مس فرج المرأة. الفصل العاشر: الشك بعد الفراغ من الاستنجاء. الفصل الحادي عشر: نضح الماء على الفرج والسروايل. الباب الرابع: في الاستجمار. الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز الاستجمار. الفصل الثاني: في شروط الاستتجمار. الشرط الأول: في اشتراط ثلاثة أحجار. مبحث: في الاكتفاء بحجر واحد له ثلاث شعب. الشرط الثاني: أن تكون الأحجار ونحوها طاهرة. الشرط الثالث: أن يكون المستنجى به غير عظم وروث. مبحث: النهي عن العظام والروث للكراهة أو للتحريم. الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون المستجمر به من الأحجار. الشرط الخامس: أن يكون الحجر ونحوه منقياً. خلاف العلماء في الاستنجاء بالزجاج. مبحث: إذا استنجى بزجاج فهل يجزئه الاستجمار أو يتعين الماء؟ الشرط السادس: هل يشترط أن يكون جامداً. الشرط السابع: ألا يكون المستجمر به حممة. الشرط الثامن: أن يكون المستجمر به غير محترم. المبحث الأول: الاستنجاء بالكتب الشرعية. المبحث الثاني: الاستنجاء بما هو طعام للأدمي وغيره.

المبحث الثالث: ألا يكون المستنجى به حيواناً. الفرع الأول: الاستنجاء بشيء من الحيوان متصلاً به. الفرع الثاني: الاستنجاء بجلد الحيوان المنفصل. فرع: ما منع الاستنجاء به لحرمته لا يجوز البول عليه. الباب الخامس: في ما يستنجى منه. الفصل الأول: في الاستنجاء من البول والغائط. الفصل الثاني: في الاستنجاء من المذي الفصل الثالث: في الاستنجاء من الودي الفصل الرابع: في الاستنجاء من المني الفصل الخامس: في الاستنجاء من الحدث الدائم المبحث الأول: هل يعتبر الخروج الدائم للنجاسة حدثاً أم يعفى عنه. المبحث الثاني: في وجوب غسل فرج من به حدث دائم عند الوضوء. المبحث الثالث: شد عصابة الفرج عند الوضوء. الفصل السادس: في الاستنجاء من البعر الناشف والحصاة الفصل السابع: في الاستنجاء من الريح الباب السادس: في الاستنجاء بالماء الفصل الأول: خلاف العلماء في الاستنجاء بالماء الفصل الثاني: أيهما أفضل الاستنجاء أم الاستجمار الفصل الثالث: في الجمع بين الحجارة والماء وأيهما يقدم

الفصل الرابع: متى يتعين الاستنجاء بالماء المبحث الأول: إذا تجاوز الخارج موضع العادة المبحث الثاني: إذا استجمر بمنهي عنه ثم استجمر بعده بمباح فهل يتعين الماء؟ المبحث الثالث: يتعين الماء في الاستنجاء من المذي. المبحث الثالث: يتعين الماء في الاستنجاء من الدم والقيح. المبحث الرابع: هل يتعين الماء في بول المرأة. المبحث الخامس: هل يتعين الماء إذا عرق فسال أثر الاستجمار. المبحث السادس: هل يتعين الماء إذا خرج البول والغائط من غير السبيلين. الباب السابع: حكم الترتيب بين الاستنجاء والوضوء. هذا ما وفقت لجمعه ودراسته، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، مقرباً إليه، سبباً في مغفرته ورضوانه، مبعداً لي عن سخطه وغضبه، وأن يرزق هذا البحث وغيره القبول والانتفاع من إخواني طلبة العلم، وأن يغفر لي تقصيري وجهلي وتفريطي وإسرافي في أمري، إنه ولي ذلك والقادر عليه. كتبه أبو عمر دبيان بن محمد بن دبيان الدبيان السعودية منطقة القصيم مدينة بريدة في 14/ 2/ 1421 هـ

تمهيد في التعريف اللغوي

تمهيد في التعريف اللغوي الاستنجاء ومثله الاستجمار والاستبراء والاستنقاء كلها ألفاظ لها علاقة في كتابنا، ولذا يحسن بي قبل أن ندخل في تفاصيل أحكام هذه العبادة أن نقدم تعريفها اللغوي، وقد قيل: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. تعريف الاستنجاء. الاستنجاء: من نجا ينجو نجواً. يقال: نجا الشجرة ينجوها نجواً: إذا قطعها من أصولها. قال شمر: وأرى الاستنجاء في الوضوء من هذا لقطعه العذرة بالماء. ونجا فلان ينجو نجواً: إذا أحدث من ريح أو غائط، يقال: ما نجا منذ أيام: أي ما أتى الغائط. النجو: ما يخرج من البطن من ريح أو غائط. وفي الصحاح: استنجى مسح موضع النجو أو غسله. قال: وقدم المسح على الغسل؛ لأنه هو المعروفكان في بدء الإسلام، وإنما التطهر بالماء زيادة على أصل الحاجة. واستنجى: تحرى إزالة النجو أو طلب نجوة: أي قطعة مدر لإزالة الأذى، كقولهم: استجمر: إذا طلب جماراً أو حجراً. وقال ابن الأثير: الاستنجاء استخراج النجو من البطن، أو إزالته عن بدنه بالغسل والمسح. أو من نجوت الشجرة وأنجيتها: إذا قطعتها، كأنه قطع الأذى عن نفسه، أو من النجوة للمرتفع من الأرض، كأنه يطلبها ليجلس

تعريف الاستجمار.

عليها (¬1). تعريف الاستجمار. الاستجمار: مأخوذ من الجمار: هي الصغار من الأحجار، جمع جمرة، ومنها سموا المواضع التي ترمى جماراً وجمرات لما بينهما من الملابسة. واستجمر: أي استنجى بالجمار: وهي الأحجار الصغار (¬2). وفي اللسان: قيل: الاستجمار هو الاستنجاء، واستجمر واستنجى واحد (¬3). قلت: جاء هذا في حديث سلمان رضي الله عنه في مسلم: لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار (¬4). تعريف الاستطابة. الاستطابة: تطلق كناية على الاستنجاء. وسمي بها من الطيب؛ لأنه يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء: أي يطهره، ويقال منه: استطاب الرجل فهو مستطيب، وأطاب نفسه فهو مطيب، والمطيب، والمستطيب: المستنجي، مشتق من الطيب، وروي عن النبي أنه نهى أن يستطيب الرجل بيمينه. الاستطابة والإطابة كناية عن الاستنجاء (¬5). ¬

(¬1) لسان الميزان (15/ 306). (¬2) تاج العروس (6/ 213)، المغرب (ص: 88، 89). (¬3) اللسان (4/ 147). (¬4) مسلم (262). (¬5) اللسان (1/ 567).

تعريف الاستبراء.

(158 - 2) وقد روى أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (¬1). تعريف الاستبراء. الاستبراء في اللغة: طلب البراءة. والاستبراء في الطهارة: طلب البراءة من البول: وهو أن يستفرغ بقية البول، وينقي موضعه ومجراه حتى يبرئهما منه، أي يبينه عنهما كما يبرأ من الدين والمرض. والاستبراء: استنقاء الذكر عن البول. واستبرأ الذكر: طلب براءته من بقية بول فيه بتحريكه ونتره وما أشبه ذلك (¬2). تعريف الاستنقاء. الاستنقاء: طلب النقاوة، وهي النظافة، ونقاه: أي نظفه. وقال في المغرب: الاستنقاء: المبالغة في تنقية البدن (¬3). قلت: ومنه تنقيته من البول والغائط، وقد جاء في حديث حمنة بنت جحش مرفوعاً: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت ¬

(¬1) المسند (6/ 133)، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى. (¬2) اللسان (1/ 33)، التوقيف على مهمات التعريف (ص: 54)، النهاية في غريب الحديث (1/ 112). (¬3) المغرب (ص: 474).

فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلةً. الحديث (¬1). وأما المعنى الاصطلاحي لهذه الألفاظ، فلا يخرج عن المعنى اللغوي، ولذلك تعمدت ألا أذكر تعريفها الاصطلاحي. ¬

(¬1) سنن أبي داود (287)، والحديث فيه ضعف، وقد خرجته في مسألة شد العصابة على الفرج عند الوضوء.

الباب الأول في حكم الاستنجاء

الباب الأول في حكم الاستنجاء ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء في حكم الاستنجاء. الفصل الثاني: هل الاستنجاء على الفور أم على التراخي. الفصل الثالث: في العاجز عن الاستنجاء.

الفصل الأول خلاف العلماء في حكم الاستنجاء

الفصل الأول خلاف العلماء في حكم الاستنجاء اختلف العلماء في حكم الاستنجاء، هل هو واجب أم سنة؟ فقيل: إنه سنة (¬1)، وهو مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3). وقيل: إن الاستنجاء واجب، وهو قول في مذهب المالكية (¬4)، ومذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬

(¬1) فلو ترك الاستنجاء لجازت صلاته ولكن مع الكراهة عند الحنفية، ومالك يستحب له الإعادة ما دام في الوقت (¬2) انظر في مذهب الحنفية بدائع الصنائع (1/ 18)، البناية على الهداية (1/ 757،758)، شرح فتح القدير (1/ 187)، تبيين الحقائق (1/ 76،77)، حاشية ابن عابدين (1/ 335) .. (¬3) انظر في مذهب المالكية: التمهيد كما في فتح البر (3/ 91)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 69)، مواهب الجليل (1/ 132)، الفواكه الدواني (1/ 131)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 585). (¬4) الخلاف في المسألة عند المالكية يرجع إلى الخلاف في حكم إزالة النجاسة عن البدن والثوب هل يجب إزالتها أم يسن، على قولين في مذهبهم، أحدهما أنه سنة من سنن الصلاة، سواء كان قادراً على إزالتها أو غير قادر، وسواء كان ذاكراً لها، أو غير ذاكر. وقيل: إنه واجب مع ذكر النجاسة، والقدرة على إزالتها. انظر كفاية الطالب (1/ 131)، التاج والإكليل (1/ 131)، مواهب الجليل (1/ 47). (¬5) المجموع (2/ 111)، روضة الطالبين (1/ 65)، المهذب (1/ 27)، حلية العلماء (1/ 161)، الإقناع للشربيني (1/ 53)، متن أبي شجاع (ص:17). (¬6) المغني (1/ 100)، شرح العمدة (1/ 160)، المحرر (1/ 10)، الإنصاف (1/ 113)، الكافي (1/ 51).

دليل من قال: الاستنجاء سنة.

دليل من قال: الاستنجاء سنة. الدليل الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (¬1) الآية. قال الجصاص في بيان وجه الدلالة: حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا: أحدهما: إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء، وإباحة الصلاة به، وموجب الاستنجاء فرضاً مانع ما أباحته الآية، وذلك يوجب النسخ، وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر، وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء. ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة، وأنها ثابتة الحكم، وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول موجبي الاستنجاء فرضا. والوجه الآخر من دلالة الآية: قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬2)، إلى آخرها؛ فأوجب التيمم على من جاء من الغائط، وذلك كناية عن قضاء الحاجة، فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء، فدل ذلك على أنه غير فرض. وأجيب: بأن الذي يقوم إلى الصلاة لا يجب عليه الاستنجاء، فالاستنجاء واجب في حال خروج النجاسة من المخرج، لا في حال الوضوء، فلو قلنا بوجوب ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) نفس السورة، ونفس الآية.

الدليل الثاني

الاستنجاء عند كل وضوء لصح لكم الاستدلال، فالآية دليل على أن الاستنجاء ليس من أعمال الوضوء، وهذا لا نخالف فيه. ومثله يقال في قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬1). الدليل الثاني: (159 - 3) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬2). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬3). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) المسند (2/ 371). (¬3) في الإسناد حصين الحبراني: ذكره البخاري، وسكت عليه. التاريخ الكبير (3/ 6). وقال أبو زرعة: شيخ. الجرح والتعديل (3/ 199). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (6/ 211). وقال الذهبي: لا يعرف في زمن التابعين. ميزان الإعتدال (1/ 555)، لسان الميزان (7/ 200). =

وجه الاستدلال: ¬

_ = وقال الحافظ في التقريب: مجهول. وفي الإسناد أيضاً: أبو سعيد الحبراني: ذكره ابن حبان في الثقات (3/ 271)، وقال: له صحبة. قال أبو زرعة: لا أعرفه. الجرح والتعديل (9/ 378). وقال العجلي: تابعي، ثقة. ثقات العجلي (2/ 404). وقل الحافظ: مجهول. لسان الميزان (7/ 466). وخطأ الحافظ في التهذيب من ادعى أنه صحابي، وقال: هما اثنان: الأنماري، والحبراني، فأبو سعيد الحبراني تابعي قطعاً. ومع أن الحافظ ضعف الحديث في التلخيص (1/ 180) وقال: " حصين الحبراني: مجهول ". إلا أنه سها في الفتح (1/ 348)، فقال: إسناده حسن ". وقال النووي في المجموع (2/ 92): " وأما حديث أبي هريرة فحسن، رواه أحمد، والدارمي، وأبو داود، وابن ماجه بأسانيد حسنة!! ". [تخريج الحديث]: الحديث مداره على ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعيد، وقيل سعد الخير، عن أبي هريرة. أخرجه أبو داود (35) والطحاوي (1/ 121)، والبيهقي (1/ 94) من طريق عيسى بن يونس عن ثور به. إلا أن البيهقي اقتصر على آخره: " من أتى الغائط فليستتر ... الخ الحديث. أخرجه الدارمي (662)، والطحاوي (1/ 122) وابن حبان (1410) من طريق عاصم، عن ثور به. ولم يذكر ابن حبان قوله في الحديث: "ومن تخلل .. ومن لاك ". وأخرجه ابن ماجه (337،338) عن محمد بن بشار، وعبد الرحمن بن عمر (رستة)، كلاهما، عن عبد الملك بن الصباح، عن ثور به. وأعاده في الطب (3498) عن رستة وحده. وفي رواية أحمد، والبيهقي، والطحاوي، قالوا: أبو سعد الخير. وفي رواية أبي داود، وإحدى روايتي الطحاوي، وإحدى روايتي ابن ماجه، قالوا: أبو سعيد.

الدليل الثالث

قال في نصب الراية: الاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنه نفى الحرج في تركه، ولو كان فرضاً لكان في تركه حرج. الثاني: أنه قال: من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومثال هذا لا يقال في المفروض، وإنما يقال هذا في المندوب إليه والمستحب. والجواب على هذا الدليل من وجهين: الأول: أن نفي الحرج لا يرجع إلى الاستنجاء، وإنما إلى الايتار، لأنه أقرب مذكور، وهو صفة في الاستنجاء، وسوف يأتي حكم الإيتار فيه. الثاني: أن الحديث ضعيف، يرويه مجهول عن مثله، وسبق بيانه في التخريج. الدليل الثالث: قالوا: إن الفقهاء متفقون على العفو عن النجاسة اليسيرة، وهذا منها. والجواب على هذا: أننا وإن سلمنا أن يسير النجاسات معفو عنها في الجملة، فإننا لا نسلم أن أثر الاستنجاء من البول والغائط من اليسير المعفو عنه، وإنما يعفى عن يسير النجاسة في حالتين: الأولى: أن يلحق في الاحتراز منها مشقة عظيمة، ولذلك حكم الهرة بأنه طاهرة لمشقة الاحتراز منها. الثاني: أن لا يمكن إزالتها، كالأثر المتبقي في الاستجمار، فإنه لا يمكن إزالته إلا بالماء، وطهارة من به سلس بول، والمستحاضة ونحو ذلك. وطهارة الاستنجاء لا تلحق مشقة بالاحتراز منها، ويمكن إزالتها بيسر

الدليل الرابع

وسهولة، وكان البول والغائط من الأمور الجبلية التي كانت تتكرر في عهد الصحابة، ولم ينقل في السنة أن الصحابة كانوا يتركون الاستنجاء للعفو عنها، والله أعلم. الدليل الرابع: قالوا: إن الاستنجاء لا يجب بالماء مع وجوده، والقدرة عليه، ومن غير ضرورة توجب تركه، فإذا لم يجب الاستنجاء بالماء، وهو آلة التطهير، فكيف يجب بالحجارة أو غيرها من المخففات، وهي ليست مطهرة (¬1). وأجيب: كون الاستنجاء بالماء ليس واجباً بعينه، لا يعني سقوط الاستنجاء، كما هو الحال في التخيير بين خصال كفارة الأيمان، {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} (¬2) فلا يقال: كون الإطعام ليس واجباً يدل على أن كفارة الأيمان ليست واجبة، فالواجب في الاستنجاء أحد أمرين إما الماء أو الحجارة أو ما يقوم مقامهما. دليل من قال بوجوب الاستنجاء الدليل الأول: (160 - 4) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 77)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 359). (¬2) المائدة: 89.

يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: قوله: " وكان يأمرنا بثلاثة أحجار" والأصل في الأمر الوجوب. ¬

(¬1) المسند (2/ 250). (¬2) رجاله كلهم ثقات إلا ابن عجلان فإنه صدوق. والحديث مداره على ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. والحديث قد أخرجه الشافعي (1/ 28)، والحميدي (988)، وأحمد (2/ 247)، وابن ماجه (313)، وأبو عوانة (1/ 200)، والطحاوي (1/ 123)، والبيهقي (1/ 102)، من طريق سفيان بن عيينة. وأخرجه أحمد كما في حديث الباب، والنسائي (41)، وابن خزيمة (80)، وابن حبان (1440)، والبيهقي (1/ 91،122) من طريق يحيى بن سعيد القطان. وأخرجه أبو داود (8)، والدرامي (674) من طريق ابن المبارك. وأخرجه أبو عوانة مختصراً (1/ 200) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 121) من طريق صفوان بن عيسى. وأخرجه ابن حبان (1431) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 121) من طريق وهيب. والبيهقي (1/ 91) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، كلهم عن القعقاع بن حكيم به. وأخرجه البيهقي (1/ 102) من طريق أمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن محمد بن عجلان به. وأخرجه مسلم مختصراً (256) وأبو عوانة (1/ 200) من طريق عمر بن عبد الوهاب الرياحي، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن سهيل بن أبي صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (161 - 5) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (¬1). [إسناده أرجو أن يكون حسناً] (¬2). ¬

(¬1) المسند (6/ 133). (¬2) رجاله كلهم ثقات إلا مسلم بن قرط، ذكره البخاري في التاريخ الكبير وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه شيئاً. التاريخ الكبير (7/ 271)، الجرح والتعديل (8/ 192). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 447). وقال الذهبي: لا يعرف. الميزان (8509). وفي التقريب: مقبول. قلت: لعله أكبر من هذا، فليس له إلا هذا الحديث عند أحمد وأبي داود والنسائي والدارمي، وقد حسن إسناده الدراقطني في السنن (1/ 54،55)، وتصحيح الإسناد أدل على التوثيق من تصحيح الحديث؛ لأنه لا يلزم من تصحيح الحديث أن يكون الإسناد صحيحاً، وقد أشار شارح سنن الدراقطني أن الدارقطني صححه في العلل، والله أعلم. [تخريج الحديث]. رواه أحمد كما في حديث الباب، والنسائي في السنن الكبرى (42)، وفي المجتبى (44) وأبو يعلى في مسنده (4376)، والدارقطني (1/ 54) وابن عبد البر في التمهيد (22/ 311) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم. وأخرجه أحمد (6/ 108) وأبو داود (40) والدارمي (670) والبيهقي (1/ 103)، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 310) من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، كلاهما عن أبي حازم به. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (162 - 6) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬1). وجه الدلالة: أننا إذا كنا نهينا أن نستنجي بحجر واحد أو حجرين، فما بالك بمن ترك الاستنجاء بالكلية، فهذا أولى بالنهي، والأصل في النهي التحريم. الدليل الرابع: معلوم أن البول والغائط نجسان بالإجماع، وقد كلف الإنسان بإزالة النجاسة عند فعل عبادة تشترط لها الطهارة، منها حديث أسماء في غسل دم الحيض، وهو في الصحيحين، ومنها حديث أنس في بول الأعرابي، وهو متفق عليه، والأحاديث في ذلك كثيرة، فنحتاج إلى دليل على جواز الصلاة، ¬

= وأخرجه الطحاوي (1/ 121) من طريق عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني هشام بن سعد، عن أبي حازم به. ويشهد له حديث أبي هريرة المتقدم وحديث سلمان الآتي وغيرهما. (¬1) مسلم (262).

الدليل الخامس

والإنسان لم يقم بالاستنجاء من البول والغائط، ولا دليل. الدليل الخامس: (163 - 7) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: أن الحديث وإن لم يكن صريحاً في وجوب الاستنجاء، لكنه صريح في وجوب إزالة النجاسة من البول، فيبقى الحديث شاملاً لكل بول، سواء كان الأثر المتبقي بعد البول، أو البول نفسه، فمن لم يوجب قطع نجاسة البول بعد الفراغ منه فعليه الدليل. وأخرت هذا الدليل لأن دلالته ليست صريحة. الراجح من الخلاف: لا شك أن قول الشافعية والحنابلة في وجوب الاستنجاء أقوى من حيث الأدلة، وهو الذي يليق بدين الإسلام دين الطهارة والنظافة، وقد جعل الطهور شطر الإيمان، في الحديث الصحيح. ¬

(¬1) صحيح البخاري (216)، ومسلم (292).

الفصل الثاني هل الاستنجاء على الفور أم على التراخي؟

الفصل الثاني هل الاستنجاء على الفور أم على التراخي؟ لما كان الاستنجاء هو من باب إزالة النجاسة، وإزالة النجاسة واجبة للصلاة صرح الشافعية بأن الاستجمار لا يجب على الفور، بل يجوز تأخيره حتى يريد الطهارة أو الصلاة (¬1)، ويستحب تعجيله. الدليل بأن الاستنجاء على التراخي: قياس إزالة النجاسة على بقية شروط الصلاة، فإذا دخل وقت الصلاة وجب الاستنجاء وجوباً موسعاً بسعة الوقت، ومضيقاً بضيقه كبقية الشروط (¬2). والدليل على أن النجاسة لا تجب إزالتها على الفور (164 - 8) ما رواه البخاري في صحيحه: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬3). واستدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان ¬

(¬1) المجموع (1/ 146)، إعانة الطالبين (1/ 107)، الإقناع للشربيني (1/ 53)، حواشي الشرواني (1/ 174)، شرح زبد بن رسلان (ص: 52)، مغني المحتاج (1/ 43)، أسنى المطالب (1/ 50). (¬2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 181). (¬3) صحيح البخاري (174).

الدليل على استحباب تعجيل إزالة النجاسة

نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك والدليل على استحباب تعجيل إزالة النجاسة. حديث أنس في تطهير بول الأعرابي، فقد بادر النبي - صلى الله عليه وسلم - في إهراق الماء على بوله، (165 - 9) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (219)، وصحيح مسلم (284).

الفصل الثالث في العاجز عن الاستنجاء

الفصل الثالث في العاجز عن الاستنجاء إذا عجز الإنسان عن الاستنجاء، فمن يرى أن الاستنجاء سنة فهذا واضح أنه لا يجب عليه شيء، لأنه لو تركه مع القدرة لم يأثم، فكيف إذا تركه مع عدم القدرة عليه، وأما من يرى وجوب الاستنجاء مطلقاً أو يراه واجباً إذا تجاوز المخرج المعتاد فهل ينجيه غيره أم لا؟ فقيل: يسقط عنه الاستنجاء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختيار الشوكاني (¬2). وقيل: إن أمكنه الاستنجاء بمن يجوز له النظر من زوجة أو أمة لزمه، وإلا سقط عنه، وهذا مذهب الحنابلة (¬3)، ومثله مذهب المالكية في الرجل إلا أنهم قالوا في المرأة: لا يجوز أن توكل غيرها بغسله من جارية أو غيرها لكن إن تطوع زوجها بغسله عنها فبها ونعمت، ولا يجب عليه ذلك، وإن أبى فلها أن تصلي بالنجاسة، ولا تكشف عورتها لإحد (¬4). ¬

(¬1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 31)، وفي الفتاوى النهدية (1/ 50): المرأة المريضة إذا لم يكن لها زوج، وعجزت عن الوضوء، ولها ابنة أو أخت توضئها، ويسقط عنها الاستنجاء. كذا في فتاوى قاضي خان .. (¬2) السيل الجرار (1/ 332). (¬3) كشاف القناع (1/ 61). (¬4) مواهب الجليل (1/ 313)، الفواكه الدواني (1/ 132).

دليل من قال بسقوط الاستنجاء عند العجز.

دليل من قال بسقوط الاستنجاء عند العجز. (166 - 10) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم (¬1). دليل من قال: يلزمه إن كان عنده أمة أو زوجة متطوعة. لما كان كشف العورة للأمة والزوجة مباحاً، كان مباشرة الزوجة والأمة للاستنجاء مباحاً أيضاً. والحقيقة أن الخلاف يرجع إلى حكم كشف العورة للحاجة، والذي أراه أن كشف العورة للحاجة جائز للأجنبي. أولاً: لأن كشف العورة محرم لغيره، وما كان محرماً لغيره أباحته الحاجة وذلك كإباحة العرايا، وإباحة كشف العورة للتداوي. فجاز بيع العرايا مع أنه وقوع في ربا الفضل، لمجرد الحاجة إلى أكل الرطب تفكهاً، وقلنا: إنه من باب التفكه لأن الإنسان يملك تمراً، لكن ليس عنده رطب، فإذا كان الشرع نظر إلى حاجة هذا الشخص في التفكه، فكونه يباح له أن يتخلص من النجاسات بواسطة شخص آخر أولى، خاصة أن بقاء النجاسة على البدن يؤذي الرجل كما يؤذي من ¬

(¬1) صحيح البخاري (7288)، ومسلم (1337).

يجالسه للرائحة الكريهة التي تنبعث منه. ومثله التداوي فإنه لا يعتبر ضرورة بل يعتبر حاجة بدليل أنه يجوز تركه، ولم يرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمة السوداء إليه (167 - 11) فقد روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن عمران أبي بكر، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها. ورواه مسلم (¬1). فأرشدها إلى الصبر، ولو كان التداوي لازماً لأرشدها إليه. (168 - 12) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا حصين بن نمير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ¬

(¬1) صحيح البخاري (5652)، صحيح مسلم (2576).

ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فتفرق الناس ولم يبين لهم، فتذاكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون ... ورواه مسلم بنحوه الحديث (¬1). فقوله: لا يسترقون: أي لا يطلبون الرقية. ومع ذلك أجاز الفقهاء كشف العورة للتداوي، مع أنه حاجة وليس ثمت ضرورة، مع أننا في الاستنجاء لا نحتاج إلى كشف العورة، وإنما يحتاج من ينجي غيره إلى مباشرة العورة بحائل فقط دون النظر إليها. وإذا كان الميت في غسله ينجى فالحي أولى بالاستنجاء من الميت لما يلي: أولاً: أن بقاء النجاسة على الحي يؤذيه أذى شديداً، وإيذاء الحي أشد من إيذاء الميت، ويجب إزالة كل أذى عنه متى ما كان مستطيعاً. ثانياً: أن بقاء النجاسة على غيره يؤذي غيره ممن يخالطه، ولا بد للإنسان من المخالطة. ثالثاً: أن هذا المريض مكلف بأداء الصلاة، ويجب لها الطهارة متى كان مقتدراً بنفسه أو بغيره، وبقاؤه على حالته تلك يوجب له من الحرج والألم النفسي ما لم يعلم قدره إلا الله، فمن أجل هذا وغيره يجب تطهيره من النجاسة وتنقيته منها متى كان ذلك بالإمكان، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (5752)، وصحيح مسلم (220).

الباب الثاني في آداب الخلاء

الباب الثاني في آداب الخلاء ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: في آداب تتعلق بالدخول والخروج وقضاء الحاجة. الفصل الثاني: في آداب قضاء الحاجة المتعلقة بالمكان.

الفصل الأول في آداب تتعلق بالدخول والخروج وقضاء الحاجة.

الفصل الأول في آداب تتعلق بالدخول والخروج وقضاء الحاجة. ويشتمل على أربعة عشر مبحثاً: المبحث الأول: حكم التسمية عند الدخول. المبحث الثاني: في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث. المبحث الثالث: استحباب لبس الحذاء عند الدخول للخلاء. المبحث الرابع: في استحباب تقديم الرجل. اليسرى عند الدخول والعكس عند الخروج. المبحث الخامس: في الاعتماء على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة. المبحث السادس: في الكلام أثناء قضاء الحاجة. المبحث السابع: في اللبث على الحاجة فوق الحاجة. المبحث الثامن: في استحباب تغطية الرأس. المبحث التاسع: في مسح الذكر عند الفراغ من البول. المبحث العاشر: في نتر الذكر. المبحث الحادي عشر: في استحباب قول غفرانك. المبحث الثاني عشر: استحباب الحمد بعد الخروج من الخلاء. المبحث الثالث عشر: في استحباب تنظيف اليد بعد غسل دبره. المبحث الرابع عشر: في البول واقفاً.

المبحث الأول حكم التسمية عند الدخول.

المبحث الأول حكم التسمية عند الدخول. ذهب الفقهاء إلى مشروعية التسمية عند دخول الخلاء (¬1). وقيل: لا تشرع التسمية مطلقاً، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: لا تشرع عند الدخول، وتشرع عند الخروج، وهو قول في مذهب المالكية (¬3). دليل من قال بمشروعية التسمية. الدليل الأول: الإجماع. وممن حكى الإجماع على مشروعية التسمية عند دخول الخلاء النووي، قال: وهذا الأدب -يعني: قول بسم الله- متفق على استحبابه، ويستوي فيه الصحراء والبنيان (¬4). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: الجوهرة النيرة (1/ 5)، شرح فتح القدير (1/ 24)، درر الحكام (1/ 50)، البحر الرائق (1/ 256)، الفتاوى النهدية (1/ 6)، حاشية ابن عابدين (1/ 344). وانظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/ 106)، حاشية الصاوي (1/ 89)، منح الجليل (1/ 99)، الشرح الكبير (1/ 106)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 23). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/ 88)، المنثور في القواعد الفقهية (1/ 298)، أسنى المطالب (1/ 45،48)، نهاية المحتاج (1/ 142)، حاشية الجمل (1/ 91). وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/ 110)، الفروع (1/ 113)، الإنصاف (1/ 96)، كشاف القناع (1/ 58)، مطالب أولي النهى (1/ 64). (¬2) الخرشي (1/ 143). (¬3) الخرشي (1/ 143). (¬4) المجموع (1/ 88).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (169 - 13) قال الحافظ ابن حجر: روى العمري، من طريق عبد العزيز بن المختار، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دخلتم الخلاء، فقولوا: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث. [ذكر التسمية في الحديث شاذ] (¬1). ¬

(¬1) قال الحافظ: إسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية. قلت: هذه الزيادة شاذة، فقد رواه جماعة عن عبد العزيز بن صهيب، دون ذكر التسمية، منهم: الأول: شعبة، كما في مسند أحمد (3/ 282)، والبخاري (142)، والترمذي (5)، وابن الجارود في المنتقى (28)، ومسند أبي يعلى (3914)، ومسند أبي عوانة (1/ 216)، وشرح السنة للبغوي (186). الثاني: حماد بن زيد، كما في سنن أبي داود (4)، والترمذي (6)، والدرامي (699)، ومسند ابن الجعد (1427)، والبيهقي (1/ 95). الثالث: هشيم بن بشير، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 11)، وأحمد (3/ 99)، ومسند ابن الجعد (1426)، ومسلم (375)، وأبي يعلى (3902)، ومستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم (824)، وابن حبان (1407). الرابع: إسماعيل بن علية، كما في المسند (3/ 101)، ومسلم (375)، والنسائي في السنن الكبرى (19)، والمجتبى (19)، وابن ماجه (298)، ومستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم (825). الخامس: حماد بن سلمة، كما في مسند أبي يعلى (3914)، ومستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم (824)، وصحيح ابن حبان (1407). السادس: عبد الوارث، كما في سنن النسائي الكبرى (7664،9902)، وعمل اليوم والليلة (74)، وسنن البيهقي (1/ 95). =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (170 - 14) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن أبي معشر، هو نجيح، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الكنيف، قال: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث (¬1). [سنده ضعيف] (¬2). ¬

= السابع: زكريا بن يحيى بن عمارة، كما في مسند ابن الجعد (1427)، وأبي يعلى (3931). الثامن: حماد بن واقد، كما في مسند ابن الجعد (1427). التاسع: سعيد بن زيد، كما في الأدب المفرد (692). فهذا شعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وهشيم وإسماعيل بن علية وعبد الوارث بن سعيد وزكريا بن يحيى وحماد بن واقد وسعيد بن زيد تسعة رواة، رووه عن ابن صهيب، فلم يذكروا البسملة، وخالفهم عبد العزيز بن المختار، فزادها، ولا شك أنهم أكثر عدداً، ومنهم من هو مقدم على عبد العزيز بن المختار في الحفظ لو أنفرد كشعبة، فما بالك بهذا العدد. (¬1) المصنف (1/ 11). (¬2) في إسناده أبو معشر، ضعيف سيء الحفظ، وقد تغير حفظه، وفي إسناده اختلاف، فقد ذكره ابن أبي حاتم في العلل (1/ 64) حدثنا أبو زرعة، عن محمد بن المنكدر، عن أبي معشر به، وقال: قال أبي في كتابه: عن أبي معشر، عن حفص، عن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال صاحب منتقى الأخبار أبو البركات (1/ 97): ولسعيد بن منصور في سننه كان يقول: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. فينظر في طريق سعيد بن منصور، هل هو طريق متابع، أو أنه لا يخرج عما ذكر، فلعله يكون طريقاً مستقلاً صحيحاً فيكون دليلاً على مشروعية هذا الذكر عند دخول الخلاء، والله أعلم.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (171 - 15) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان، حدثنا خلاد الصفار، عن الحكم بن عبد الله النصري، عن أبي إسحق، عن أبي جحيفة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بذاك القوي (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن الترمذي (606). (¬2) ورواه ابن ماجه (297) حدثنا محمد بن حميد به. وفي إسناده شيخ الترمذي وابن ماجه: محمد بن حميد الرازي، جاء في ترجمته: قال البخاري: فيه نظر. التاريخ الكبير (1/ 69). وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سئل يحيى بن معين، عن محمد بن حميد الرازي، فقال: ثقة، ليس به بأس، رازي كيس. الجرح والتعديل (7/ 232). وقال ابن الجنيد: سمعت يحيى بن معين يقول: ابن حميد ثقة، وهذه الأحاديث التي يحدث بها ليس هو من قبله، إنما هو من قبل الشيوخ الذي يحدث به عنهم. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: سألني يحيى بن معين، عن ابن حميد من قبل أن يظهر منه ما ظهر، فقال أي شيء تنقمون عليه؟ فقلت: يكون في كتابه الشيء، فنقول ليس هذا هكذا، إنما هو كذا وكذا، فيأخذ القلم فيغيره على ما نقول. قال: بئس هذه الخصلة، قدم علينا بغداد، فأخذنا منه كتاب يعقوب القمى، ففرقنا الأوراق بيننا، ومعنا أحمد بن حنبل، فسمعناه ولم نر الا خيراً. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن عدي: وتكثر أحاديث ابن حميد التي أنكرت عليه إن ذكرناها، على أن أحمد ابن حنبل قد أثنى عليه خيراً لصلابته في السنة. الكامل (6/ 274). وقال أبو القاسم ابن أخي أبي زرعة -يعنى الرازي- سألت أبا زرعة، عن محمد بن حميد، فأومأ بأصبعه إلى فمه. فقلت له: كان يكذب، فقال برأسه: نعم. قلت له: كان قد شاخ لعله، كان يعمل عليه، ويدلس عليه. فقال: لا يا بني كان يتعمد. تاريخ بغداد (2/ 259). وكان أحمد بن حنبل قد أحسن الثناء عليه، لكن لما قال له أبو زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة: قد صح عنه أنه يكذب، صار إذا ذكر عنده ابن حميد، نفض يده. المجروحين (2/ 304). واتهمه بالكذب النسائي، وقال مرة: ليس بشيء. تهذيب التهذيب (9/ 114). وقال صالح بن محمد: كنا نتهم ابن حميد. سير أعلام النبلاء (11/ 504). وقال أبو علي النيسابوري: قلت لابن خزيمة: لو حدث الأستاذ عن محمد بن حميد، فإن أحمد بن حنبل قد أحسن الثناء عليه؟ قال: إنه لو عرفه كما عرفناه لما أثنى عليه أصلاً. المرجع السابق. وقال أبو أحمد العسال: سمعت فضلك يقول: دخلت على ابن حميد، وهو يركب الأسانيد على المتون. المرجع السابق. قال الذهبي: آفته هذا الفعل، وإلا فما أعتقد فيه أنه يضع متنا، وهذا معنى قولهم: فلان سرق الحديث. قال يعقوب بن إسحاق الفقيه: سمعت صالح بن محمد الأسدي يقول: ما رأيت أحذق بالكذب من سليمان الشاذكوني، ومحمد بن حميد. المرجع السابق. كما أن الحديث فيه علتان أخريان: الأولى: عنعنة أبي إسحاق السبيعي، وهو مدلس مكثر، وقد تغير بآخرة. الثانية: الحكم بن عبد الله النصري. ذكره البخاري وابن أبي حاتم، فلم يذكرا فيه شيئاً. التاريخ الكبير (2/ 337)، الجرح والتعديل (3/ 120). ولم يوثقه إلا ابن حبان، الثقات (6/ 186). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي التقريب: مقبول، وهذه عبارة تليين من الحافظ، وليست عبارة تمتين. فهذا إسناد ضعيف جداً؛ لأن ابن حميد، وإن كان ابن معين حسن الرأي فيه، فقد جرح جرحاً مفسراً، فقد اتهمه بالكذب أبو زرعة والنسائي وابن وارة ويعقوب بن إسحاق وغيرهم، وهؤلاء لا يتهمونه بالكذب إلا وقد ثبت عندهم ذلك، فالحديث من مسند علي لا يعتبر به، والله أعلم. والحديث له شواهد لا تخلو من ضعف، منها: الشاهد الأول: حديث أنس. أخرج تمام في الفوائد (ق270/ 1) من طريق بشر بن معاذ العقدي، ثنا محمد بن خلف الكرماني، ثنا عاصم الأحول، عن أنس به. ومحمد بن خلف لم أقف عليه، وقد خولف، فقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 93) رقم 29735 حدثنا ابن فضيل، حدثنا عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: كان يقال: إن من ستر ما بين عورات بني آدم، وبين أعين الجن والشياطين إذا دخل الكنيف، أن يقول أحدكم إذا وضع ثيابه: بسم الله. وهذا إسناد حسن إلا أن بكر بن عبد الله المزني تابعي، ولم ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه زيد العمي، عن أنس، فقد أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 198)، وابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق سعيد بن مسلمة، ثنا الأعمش، عن زيد العمي، عن أنس. وهذا الإسناد له أكثر من علة: الأولى: ضعف زيد العمي. الثانية: رواية زيد العمي، عن أنس مرسلة. الثالثة: سعيد بن مسلمة، مجروح، قال فيه البخاري: منكر الحديث، في حديثه نظر. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي، ضعيف الحديث، منكر الحديث. العلة الرابعة: الاختلاف على زيد العمي، فرواه محمد بن الفضل، عن زيد العمي، عن أبي سعيد الخدري، فجعله من مسند أبي سعيد، وهذا شديد الضعف؛ لأن محمد بن الفضل، قال فيه أحمد: حديثه ليس بشيء، وقال مرة: كذاب. وقال عمرو بن علي: متروك الحديث كذاب. انظر الإرواء (1/ 89 - 90). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = هذا في ما يتعلق بحديث أنس، فحديث فيه أربع علل، كيف أعتبر به؟ وحديث أنس في الصحيحين وليست فيه هذه الزيادة. الشاهد الثاني: حديث ابن مسعود. رواه أبو بكر بن النقور، في الفوائد (1/ 155 - 156) من طريق محمد بن حفص بن عمر الضرير، ثنا محمد بن معاذ، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود. ومحمد بن حفص الضرير صدوق يهم كما في التقريب، وقد ينسب إلى جده أحياناً، فيقال: محمد بن عباد. الشاهد الثالث: معاوية بن حيدة. رواه أبو بكر بن النقور معلقاً، عن مكي بن إبراهيم، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده. وهذا حديث ضعيف، لم أقف على من وصله، ومن طوي من الإسناد قد يكون ضعيفاً، وقد يكون ضعيفاً جداً، وما دام الأمر كذلك لا أستطيع أن أجزم، فأعتبر به، وبالتالي لا أرى في التسمية حديثاً صحيحاً، ولا ما يعتبر به بالمجموع خاصة أن حديث الصحيحين ليس فيه ذكر البسملة، والله أعلم.

المبحث الثاني في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث

المبحث الثاني في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث ويشتمل على ثلاثة فروع: الفرع الأول: هذه الآداب خاصة في المكان المعد أم في كل مكان. الفرع الثاني: متى يقال الذكر الوراد في دخول الخلاء. الفرع الثالث: إذا دخل الخلاء بطفل فهل يعيذ الطفل بالذكر الوارد؟

المبحث الثاني في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث يستحب أن يقول قبل الدخول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث (¬1). الدليل على المشروعية. (172 - 16) ما رواه البخاري، رحمه الله: قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنسا يقول كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. ورواه مسلم أيضاً (¬1). الدليل الثاني: الإجماع على مشروعية هذا الذكر، نقل الإجماع جماعة منهم النووي في المجموع (¬2)، وابن قاسم في حاشيته على الروض (¬3)، وغيرهم. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وهذا الأدب مجمع على ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 24)، درر الحكام (1/ 50)، البحر الرائق (1/ 256)، الفتاوى النهدية (1/ 6)، حاشية ابن عابدين (1/ 344)، حاشية الدسوقي (1/ 106)، حاشية الصاوي (1/ 89)، منح الجليل (1/ 99)، الشرح الكبير (1/ 106)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 23)، المجموع (2/ 88)، (1/ 298)، أسنى المطالب (1/ 45،48)، نهاية المحتاج (1/ 142)، حاشية الجمل (1/ 91)، المغني (1/ 110)، الفروع (1/ 113)، الإنصاف (1/ 96)، كشاف القناع (1/ 58)، مطالب أولي النهى (1/ 64). (¬1) صحيح البخاري (142)، مسلم (375)، وقد سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه. (¬2) المجموع (2/ 88). (¬3) حاشية ابن قاسم (1/ 118).

استحبابه، ولا فرق فيه بين البنيان والصحراء (¬1). قال أحمد: ما دخلت قط المتوضأ، ولم أقلها إلا أصابني ما أكره (¬2). قال الخطابي: الخبُث بضم الباء: جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة يريد ذكران الشياطين وإناثهم. اهـ وقيل: الخبث: الشر والمكروه، والخبائث: الشياطين، فكأنه استعاذ من الشر وأهله. وقال ابن العربي: أصل الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام، فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار. اهـ وقال الخطابي: عامة أصحاب الحديث يقولون الخبْث ساكنة الباء وهو غلط والصواب الخبُث مضمومة الباء (¬3). وجاء في عون المعبود: قال ابن سيد الناس: وهذا الذي أنكره الخطابي هو الذي حكاه أبو عبيد القاسم بن سلام، وحسبك به جلالة، وقال القاضي عياض: أكثر روايات الشيوخ بالإسكان. وقال القرطبي: رويناه بالضم والإسكان (¬4). وقال ابن دقيق العيد: ذكر الخطابي في أغاليط المحدثين روايتهم له بإسكان الباء. ولا ينبغي أن يعد هذا غلطا؛ لأن فُعُل - بضم الفاء والعين- يخفف عينه قياسا. فلا يتعين أن يكون المراد بالخبث -بسكون الباء- ما لا ¬

(¬1) شرح النووي (4/ 71). (¬2) المغني (1/ 110). (¬3) معالم السنن (1/ 16) مع تهذيب السنن لابن القيم. (¬4) عون المعبود (1/ 12).

يناسب المعنى، بل يجوز أن يكون - وهو ساكن الباء - بمعناه، وهو مضموم الباء. نعم من حمله - وهو ساكن الباء - على ما لا يناسب، فهو غالط في الحمل على هذا المعنى، لا في اللفظ (¬1). وقال الحافظ: يجوز إسكان الموحدة كما في نظائره مما جاء على هذا الوجه، ككتب، ورسل (¬2). اهـ وقال ابن تيمية: قال أبو عبيد وابن الأنباري وغيرهما، قالوا: هو الشر والخبائث الشياطين، فكأنه استعاذ من الشر، ومن أهل الشر. وقال الخطابي: إنما هو الخبُث: جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة استعاذ من ذكرانهم وإناثهم. قال ابن تيمية: والأول أقوى لأن: فعيل: اذا كان صفة جمع على فعلاء، مثله: ظريف: ظرفاء، وكريم: وكرماء، وإنما يجمع على فُعُل إذا كان اسماً مثل، رغيف: ورغُف ونذير ونُذُر، ولأنه أكثر (¬3). ¬

(¬1) إحكام الأحكام (1/ 94). (¬2) فتح الباري عند شرح حديث (142). (¬3) شرح العمدة (1/ 138، 139).

الفرع الأول هل هذه الآداب خاصة في الأماكن المعدة أم في كل مكان

الفرع الأول هل هذه الآداب خاصة في الأماكن المعدة أم في كل مكان هل الاستعاذة من الخبث والخبائث لا تشرع إلا في الأماكن المعدة لقضاء الحاجة، أو تشرع في كل مكان؟ اختلف في ذلك: فقيل: يشرع في البنيان وفي الصحراء،، لكن إن كان المكان معداً لقضاء الحاجة قال الذكر قبل دخوله المكان، وإن كان في الصحراء قال الذكر قبل أن يشمر ثوبه. قال الحافظ: وهذا مذهب الجمهور (¬1). وقيل: إن هذا الذكر خاص في الأماكن المعدة لقضاء الحاجة (¬2). ¬

(¬1) انظر فتح الباري عند شرح حديث (142)، وانظر مواهب الجليل (1/ 271)، الخرشي (1/ 143)، المجموع (1/ 88)، وحاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 47)، حاشية البجيرمي (1/ 58). (¬2) ذكره الحافظ في الفتح، وصحح خلافه، انظر فتح الباري عند الكلام على حديث (142). وقال ابن دقيق العيد في شرحه لحديث أنس: إذا دخل: يحتمل أن يراد به: إذا أراد الدخول. كما في قوله سبحانه {فإذا قرأت القرآن}. ويحتمل أن يراد به: ابتداء الدخول، وذكر الله تعالى مستحب في ابتداء قضاء الحاجة. فإن كان المحل الذي تقضى فيه الحاجة غير معد لذلك - كالصحراء مثلا - جاز ذكر الله تعالى في ذلك المكان، وإن كان معدا لذلك -كالكنف- ففي جواز الذكر فيه خلاف بين الفقهاء. فمن كرهه، هو محتاج إلى أن يؤول قوله:"إذا دخل" بمعنى: إذا أراد؛ لأن لفظة: "دخل" أقوى في الدلالة على الكنف المبنية منها على المكان البراح؛ أو لأنه قد تبين في حديث آخر المراد؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: ... الحديث ". وأما من أجاز ذكر الله تعالى في هذا المكان: فلا يحتاج إلى هذا التأويل. ويحمل: " دخل " على حقيقتها. اهـ نقلاً من إحكام الأحكام (1/ 94).

دليل من قال: الذكر خاص بالحشوش

دليل من قال: الذكر خاص بالحشوش (173 - 17) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أسباط، حدثنا سعيد وعبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن القاسم الشيباني، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أراد أحدكم أن يدخل، فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث (¬1). [رجاله ثقات، واختلف في إسناده] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 373). (¬2) اختلف فيه على قتادة: فرواه الطيالسي (679)، وأبو داود (6)، وابن ماجه (296)، وابن خزيمة (69)، والحاكم في المستدرك (1/ 187) من طريق شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن زيد بن أرقم. ورجاله ثقات، وقد صرح قتادة بالتحديث. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 11) حدثنا عبدة بن سليمان. وأحمد (4/ 373) ثنا أسباط وعبد الوهاب بن عطاء. وابن ماجه (296) من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى وأخرجه الحاكم (1/ 187) من طريق يزيد بن زريع وعبد الوهاب بن عطاء، كلهم عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن قاسم الشيباني، عن زيد بن أرقم. وقاسم الشيباني، صدوق يغرب، كذا في التقريب. وعبدة بن سليمان ويزيد بن زريع وعبد الوهاب بن عطاء كلهم ممن سمع من ابن أبي عروبة قبل اختلاطه، انظر الكواكب النيرات (ص: 190). والظاهر أنه لهذا الاختلاف تجنبه الشيخان، فلم يخرجاه، وإنما أخرجا حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، وسبق تخريجه انظر ح 172. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: حديث زيد بن أرقم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في =

دليل من قال الذكر ليس خاصا في البنيان

وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاستعاذة، ثم علل الأمر بأن هذه الحشوش محتضرة، فظاهره أن غيرها ليس مثلها مما لم يكن معداً لقضاء الحاجة، فوجود الشياطين في هذه الحشوش أكثر من وجودهم في غيرها. دليل من قال الذكر ليس خاصاً في البنيان (174 - 18) ما رواه البخاري، رحمه الله: قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنسا يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. ورواه مسلم أيضاً (¬1). فالخلاء: هو الموضع الذي يخلو الإنسان بنفسه لقضاء الحاجة، ولا يشترط أن يكون معداً لقضاء الحاجة، كما أطلق الغائط على المكان المنخفض من الأرض، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتيتم الغائط. قال ابن حجر: هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك، لكونها يحضرها الشياطين، كما ورد في حديث زيد بن أرقم في السنن، أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلا جانب البيت؟ الأصح الثاني (¬2). ¬

= دخول الخلاء قد اختلفوا فيه، فأما سعيد بن أبي عروبة، فإنه يقول: عن قتادة، عن القاسم بن عوف، عن زيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس أشبه عندي. اهـ وقال الحاكم: وكلا الإسنادين على شرط الصحيح، ولم يخرجاه بهذا اللفظ. (¬1) صحيح البخاري (142)، مسلم (375)، وقد سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه. (¬2) فتح الباري عند الكلام على حديث (142).

والذي تميل إليه نفسي أن هذا الذكر لا يختص في الأماكن المعدة لقضاء الحاجة، خاصة أن حديث زيد بن أرقم قد تكلم فيه، وحديث أنس أصح منه، وهو مطلق في أماكن الخلاء.

الفرع الثاني متى يقال الذكر الوراد في دخول الخلاء

الفرع الثاني متى يقال الذكر الوراد في دخول الخلاء الخلاف في هذه المسألة ترجع إلى الخلاف في مسألة أخرى، وهي ذكر الله في الخلاء، فمن منعه طلب أن يقول هذا الذكر قبل دخول الخلاء، ومن أجاز ذكر الله في الخلاء لم يمنع، وسوف نأتي على تفصيل هذه المسألة في مبحث مستقل إن شاء الله، والخلاف في هذه المسألة على خمسة أقوال: قيل: يقول هذا الذكر قبل دخول الخلاء إن كان المكان معداً لذلك، وإلا قاله في أول الشروع كتشمير ثيابه، وهذا مذهب الجهمور من الحنفية والشافعية والحنابلة. وقيل: يقوله قبل الدخول إن كان المكان معداً لذلك، وإن كان في مكان لم يعد لذلك فإنه يقول هذا الذكر ما لم يجلس لقضاء الحاجة. وهو قول في مذهب المالكية. وقيل: يقوله: ما لم يكشف عورته. وهو قول في مذهب المالكية. وقيل: يقوله ما لم يخرج منه الحدث، وهو قول في مذهب المالكية. وقيل: يقوله مطلقاً، ولو خرج منه الحدث، هو قول في مذهب المالكية أيضاً. وسوف نأتي على ذكر أدلة المسألة، وعزو الأقوالا إلى كتب المذاهب في مسألة ذكر الله في الخلاء إن شاء الله تعالى.

الفرع الثالث إذا دخل الخلاء بطفل فهل يعيذ الطفل بالذكر الوارد؟

الفرع الثالث إذا دخل الخلاء بطفل فهل يعيذ الطفل بالذكر الوارد؟ قال الرملي: إذا دخل الخلاء بطفل لقضاء حاجة الطفل فهل يسن له أن يقول على وجه النيابة عن الطفل: بسم الله اللهم إني أعوذ بك، أو يقول: اللهم إنه يعوذ بك، أو لا يسن قول شيء من ذلك؟ قال الرملي: فيه نظر، ولا يبعد أن يقول ذلك ويقول إنه يعوذ بك (¬1). والذي يظهر لي أن الجواب مبني على مسألة هل التعوذ من أجل دخول هذه الأماكن المحتضرة من الشياطين، أو من أجل قضاء الحاجة وكشف العورة، أو منهما جميعاً؟ فإن كان من أجل قضاء الحاجة وكشف العورة تعوذ للطفل فقط، وإن كان من أجل أن هذه الحشوش محتضرة، تكثر فيها الشياطين، فيتعوذ له وللطفل، فيقول: اللهم إنا نعوذ بك، أو يتعوذ عن نفسه، ويتعوذ للطفل بقوله: اللهم أني أعيذه بك من الخبث والخبائث، ونحو ذلك، وتعويذ الطفل بالأذكار المشروعة وارد في الشرع. (175 - 19) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين، ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ ¬

(¬1) نهاية المحتاج (1/ 142)، ونقله الجمل في حاشيته (1/ 91)، وانظر حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 189).

بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة (¬1). والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (3371).

المبحث الثالث استحباب لبس الحذاء عند الدخول للخلاء

المبحث الثالث استحباب لبس الحذاء عند الدخول للخلاء استحب بعض فقهاء الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، لبس الحذاء عند دخول الخلاء. دليل الاستحباب: (176 - 20) ما رواه البيهقي من طريق إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبد الله، عن حبيب بن صالح، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء لبس حذاءه، وغطى رأسه (¬3). [إسناده ضعيف مع إرساله] (¬4). قال النووي: وقد اتفق العلماء على أن الحديث المرسل والضعيف والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال ويعمل بمقتضاه وهذا منها (¬5). قلت: لنا غنية في العمل بالحديث الصحيح عن الضعيف، ثم العمل بالمرسل عند الشافعية يعمل فيه بشروط لم تتوفر في هذا المرسل، منها أن يكون رجاله ثقات، وأن يعتضد، وهذا إسناده ضعيف، ولم يعتضد. ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (2/ 109): ويستحب أن لا يدخل الخلاء حافياً، ذكره جماعة منهم أبو العباس بن سريج في كتاب الأقسام. وانظر أسنى المطالب (1/ 45)، تحفة المحتاج (1/ 173). (¬2) انظر المغني (1/ 109)، الفروع (1/ 114)، كشاف القناع (1/ 59). (¬3) سنن البيهقي (1/ 96). (¬4) سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه. (¬5) المجموع (2/ 110).

الدليل الثاني: من النظر، قالوا: إن لبس الحذاء يقي الرجل من النجاسة، فإذا دخل حافياً قد تتنجس رجلاه، وقد يكون المحل غير طاهر، فقد يدخله الصغير الذي لا يتوقى عن نشر النجاسة في الأرض، فلبس الحذاء فيه حماية للقدم من التلوث بالنجاسة، وقد يصيب الإنسان شيء من الوسواس، هل تنجست قدماه أم لا؟ وقطع وسواس الشيطان مطلوب. قلت: هذا التعليل ظاهر، لكن ما دام أن المسألة لم يثبت فيها نص، فلو عبر بكلمة: ينبغي أو الأولى أو أي عبارة أخرى لا تكون مشتملة على ألفاظ شرعية من الاستحباب أو الكراهة ونحوها لكن أفضل، والله أعلم.

المبحث الرابع في استحباب تقديم الرجل اليسرى عند الدخول والعكس عند الخروج

المبحث الرابع في استحباب تقديم الرجل اليسرى عند الدخول والعكس عند الخروج استحب الفقهاء تقديم الرجل اليسرى عند دخول الخلاء، وتقديم الرجل اليمنى عند الخروج (¬1). دليل المشروعية: أولاً: الإجماع. قال النووي: وهذا الأدب متفق على استحبابه (¬2). ونقل الإجماع أيضاً ابن قاسم في حاشتيه (¬3). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية درر الحكام (1/ 50)، البحر الرائق (1/ 256)، الفتاوى الهندية (1/ 50)، حاشية ابن عابدين (1/ 345). وانظر في مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/ 271)، التاج والإكليل (1/ 278)، حاشية الدسوقي (1/ 108)، مختصر خليل (ص:15)، التمهيد (18/ 181)، الخرشي (1/ 145). وانظر في مذهب الشافعية: المهذب (1/ 26)، التنبيه (ص: 17)، روضة الطالبين (1/ 66)، المجموع (2/ 91)، أسنى المطالب (1/ 45)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 43)، تحفة المحتاج (1/ 157، 158). وانظر في مذهب الحنابلة المغني (1/ 110)، أخصر المختصرات (ص:90)، الكافي في فقه أحمد (1/ 49)، المبدع (1/ 80)، كشاف القناع (1/ 59)، الفروع (1/ 83)، المحرر (1/ 8)، عمدة الفقه (ص:6). (¬2) المجموع (2/ 91). (¬3) الروض (1/ 122).

الدليل الثاني: جاءت نصوص كثيرة أن ما كان من باب التكريم قدم فيه اليمين، وما كان ضده قدم فيه اليسار، ومن هذه النصوص. (177 - 21) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى. قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه [الراجح في الحديث أن إسناده منقطع] (¬1). ¬

(¬1) دراسة الإسناد: عبد الوهاب بن عطاء، وإن كان في التقريب: صدوق ربما وهم، إلا أنه من أصحاب سعيد المكثرين عنه، وممن سمع من سعيد قبل اختلاطه. قال الأثرم عن أحمد: كان عالماً بعطاء. وأخرج مسلم حديث سعيد من طريق عبد الوهاب بن عطاء. فهذا دليل على أنه ثقة فيه. وقال ابن عدي: أرواهم عنه ـ أي عن سعيد عبد الأعلى السامي، والبعض منها عن شعيب، وعبدة بن سليمان، وعبد الوهاب الخفاف. وقال الذهبي: روى الخفاف كل مصنفات سعيد بن أبي عروبة. الميزان (2/ 153). وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات. تخريج الحديث: الحديث رواه أيضاً أبو داود (34) حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء به. ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 113) من طريق عبد الله بن محمد بن الحسن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بن الشرقي، ثنا محمد بن بزيع به. ورواه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 77) رقم 5840، من طريق يحيى بن جعفر، أنا عبد الوهاب به. بيان الاختلاف على سعيد بن أبي عروبة. رواه عبد الوهاب،، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة على الاتصال كما سبق. وخالف محمد بن جعفر وعيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان، ثلاثتهم خالفوا عبد الوهاب، فرووه عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن عائشة. وإبراهيم النخعي لم يسمع من عائشة. وإليك تخريج رواياتهم فقد رواه أحمد (6/ 265) ثنا محمد بن جعفر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن عائشة، قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليسرى لخلائه، وما كان من أذى، وكانت اليمنى لوضوئه ولمطعمه. ورواه إسحاق بن راهوية (1639) أخبرنا عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن عائشة به. وأخرجه أبو داود (33) حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثني عيسى بن يونس عن ابن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة به. ومن طريق أبي داود أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 113). وتابعهم مغيرة بن مقسم، فقد رواه أحمد (6/ 170) حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفرغ يمينه لمطعمه ولحاجته، ويفرغ شماله للاستنجاء ولما هناك. وهذا إسناد حسن، وعنعنة مغيرة زالت بالمتابعة، فقد تابعه ثلاثة حفاظ كما سبق. وعيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان كلاهما رويا عن سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط. بل قال يحيى بن معين: أثبت الناس سماعاً منه ـ يعني من سعيد بن أبي عروبة ـ عبدة بن سليمان. علوم الحديث (ص: 353). واختلف في سماع محمد بن جعفر هل سمع من سعيد قبل اختلاطه أم بعد؟ فذهب عبد الرحمن بن مهدي كما في شرح علل الترمذي أن محمد بن جعفر سمع من =

(178 - 22) ومنها: ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عاصم، عن المسيب، عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ مضجعه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وكانت يمينه لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه، وكانت شماله لما سوى ذلك، وكان يصوم الاثنين والخميس (¬1). [إسناده مضطرب] (¬2). ¬

= سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط. وخالفه عمرو بن الفلاس، فقال: سمعت غندراً يقول: ما أتيت شعبة حتى فرغت من سعيد، يعني أنه سمع منه قديماً، وأياً كان فقد تابعه عيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان، ومغيرة بن مقسم. ورواه ابن أبي عدي، وخالف فيه جميع من سبق. فروه أحمد (6/ 265) قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن رجل، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن عائشة. فزاد ابن أبي عدي رجلاً بين سعيد بن أبي عروبة، وبين أبي معشر. وقد قال أحمد: ابن أبي عدي جاء إلى ابن أبي عروبة بآخرة. يعني: وهو مختلط. نقله محقق كتاب الكواكب النيرات (ص: 211) من شرح علل الترمذي (ل 327) (ل 328). فالراجح أن الحديث من رواية إبراهيم، عن عائشة، ولم يسمع منها، وذكر الأسود شاذ في الحديث. والله أعلم. (¬1) المسند (6/ 287). (¬2) ورواه عبد بن حميد، كما في المنتخب (1545) حدثني ابن أبي شيبة، ثنا حسين بن علي، عن زائدة به. وهذا إسناد منقطع، لأن المسيب بن رافع لم يسمع من حفصة. وقد اختلف على عاصم بن بهدلة، فرواه حسين بن علي، عن عاصم بن بهدلة، عن المسيب، عن حفصة كما تقدم على الانقطاع. =

(179 - 23) ومنها: ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، عن همام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه، وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء. رواه مسلم، ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (¬1). ¬

= ورواه حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدله، عن سواء الخزاعي، عن حفصة كما في مسند أحمد (6/ 287) قال: ثنا أبو كامل، قال: ثنا حماد يعنى بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن سواء الخزاعي، عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، يوم الإثنين ويوم الخميس، ويوم الإثنين من الجمعة الأخرى. ورواه أبو أيوب الإفريقي، عن عاصم، عن المسيب بن رافع ومعبد، عن حارثة بن وهب الخزاعي، عن حفصة، فجعل بين المسيب، وحفصة الحارثة بن وهب الخزاعي. رواه أبو داود (32)، قال: حدثنا محمد بن آدم بن سليمان المصيصي، حدثنا ابن أبي زائدة، قال حدثني أبو أيوب يعني الإفريقي، عن عاصم، عن المسيب بن رافع ومعبد، عن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: حدثتني حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك. وأخرجه أبو يعلى (7042) وابن حبان (5227) من طريق عبد الله بن عامر بن زرارة الكوفي، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبي أيوب به. وأخرجه أبو يعلى أيضاً (7060) من طريق معلى بن منصور، حدثنا ابن أبي زائدة به. وأخرجه الطبراني في الكبير (23/ 203) رقم 346 من طريق سهل بن عثمان، ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة به. والحديث ضعيف، لاضطراب إسناده. والله أعلم. (¬1) مسلم (267)، ولفظ البخاري (154): " إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه، وسوف يأتي مزيد بحث في مسألة الاستنجاء باليمين إن شاء الله تعالى.

فالحديث ظاهر في إكرام اليمين، واختصاص اليسرى بالأذى. (180 - 24) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، ليكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع (¬1). وهذا الحديث أيضاً ظاهر في إكرام اليمين. ومنها حديث تقديم الرجل اليمنى في دخول المسجد، واليسرى في خروجه، (181 - 25) أخرجه الحاكم، قال: حدثنا أبو حفص عمر بن جعفر المفيد المصري، ثنا أبو خليفة القاضي، ثنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا شداد أبو طلحة، قال: سمعت معاوية بن قرة يحدث عن أنس بن مالك، أنه كان يقول: من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى. [إسناده صحيح] (¬2). قال النووي: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب تقديم اليمنى في كل ما هو من باب التكريم كالوضوء، والغسل ولبس الثوب، والنعل ¬

(¬1) صحيح البخاري (5856)، ومسلم (2097) إلا قوله: لتكن اليمنى أولهما تنزع .. الخ. (¬2) رجاله ثقات، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بشداد بن سعيد أبي طلحة الراسبي ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وصححه النووي في المجموع (2/ 419).

والخف، والسروايل، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس والسلام من الصلاة، والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، والأخذ والعطاء، وغير ذلك مما هو في معناه. ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كالامتخاط والاستنجاء، ودخول الخلاء، والخروج من المسجد، وخلع الخف والسروايل والثوب والنعل، وفعل المستقذارت، وأشباه ذلك. وقال ابن تيمية: قد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة كالوضوء والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك، ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال والترجل، ودخول المسجد والمنزل، والخروج من الخلاء، ونحو ذلك. وتقدم اليسرى في ضد ذلك، كدخول الخلاء، وخلع النعل، والخروج من المسجد، والذي يختص بإحداهما إن كان بالكرامة كان باليمين، كالأكل والشرب والمصافحة، ومناولة الكتب، وتناولها، ونحو ذلك. وإن كان ضد ذلك كان باليسرى، كالاستجمار، ومس الذكر، والاستنثار، والامتخاط، ونحو ذلك. اهـ ولو قيل: إن الأمور ثلاثة: ما كان ظاهراً أنه من باب التكريم، فتقدم فيه اليمنى. وما كان ظاهراً أنه من باب الأذى، فتقدم فيه اليسرى. وما لا يمكن إلحاقه في أحد منهما، فالأصل فيه اليمين، (182 - 26) لما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال:

حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. ورواه مسلم بنحوه (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (168)، ومسلم (268). والحديث مداره على الأشعث بن سليم، سمعت أبي يحدث عن مسروق، عن عائشة مرفوعاً. وقد رواه جماعة عن الأشعث بن سليم على اختلاف في ألفاظهم، من تقديم وتأخير، وزيادة ونقص. فأحدها لفظ البخاري الذي قدمناه في الباب: " كان النبي يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله ". اللفظ الثاني: ما رواه أحمد (6/ 94) من طريق بهز. والبخاري (426) من طريق سليمان بن حرب، كلاهما عن شعبة به، بلفظ: " كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره، وترجله، وتنعله ". وهو عند مسلم (67 - 268) دون قوله: " ما استطاع " مع تقديم وتأخير. اللفظ الثالث: بزيادة: الواو في قوله: " وفي شأنه كله " بلفظ: " كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله ". قال الحافظ في الفتح (168): " للأثر من الرواة بغير واو، وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو، وهي التي اعتمدها صاحب العمدة " اهـ. وهل بين هذه الألفاظ من اختلاف؟ فالجواب: أما على إثبات الواو، فإن الحديث ظاهره، أن التيامن سنة في جميع الأشياء، لا يختص بشيء دون شيء، ولفظ: " كل " صريح في العموم، خاصة وأنه جاء توكيداً بكلمة: " شأنه " المفردة المضافة الدالة على العموم بذاته، فكيف بعد توكيده بكلمة: "كل " إلا أن هذا العموم قد خص منه ما جاء في حديث عائشة أيضاً: " كان يد رسول - صلى الله عليه وسلم - اليمنى =

لكان هذا القول أقرب إلى الصواب، وأوفق بالدليل، والله أعلم. ¬

_ = لطهوره ولحاجته، وكانت اليسرى لخلائه، وما كان من أذى " ـ قلت: سنده صحيح ـ فهذا نص أن الأذى والخلاء له اليسرى. وأما على الرواية بدون واو فليس فيها هذا العموم، قال صاحب الفتح (168): وأما على إسقاطها فقوله: " في شأنه كله " متعلق بـ يعجبه، لا بالتيمن. أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله .. الخ أي لا يترك ذلك سفراً ولا حضراً ولا في فراغه، ولا شغله، ونحو ذلك". وجاء في بعض ألفاظ الحديث من دون قوله: " في شأنه كله " فقد رواه أحمد (6/ 147) عن محمد بن جعفر، ورواه أيضاً (6/ 202) عن يحيى بن سعيد القطان. وأخرجه البخاري (5926) عن أبي الوليد، ومن طريق عبد الله بن المبارك (5380) كلهم عن شعبة به بدون قوله " في شأنه كله ". ورواه مسلم (268) والترمذي (608) من طريق أبي الأحوص عن أشعث به. بدون ذكرها، والراجح والله أعلم أنها محفوظة، لأن محمد بن جعفر، وعبدان قد صرحا في آخر الحديث عن شعبة بأن أشعث كان قد قال بواسط: " في شأنه كله " فبين شعبة أن كلمة " في شأنه كله " ثبتت في السماع القديم، والسماع القديم مقدم على غيره.

المبحث الخامس في الاعتماد على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة

المبحث الخامس في الاعتماد على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة استحب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، الاعتماد على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة. وقيل: لا يستحب، اختاره بعض المحققين (¬5)، وهو الراجح. دليل من قال بالاستحباب. الدليل الأول: من الأثر. (183 - 27) ما رواه البيهقي من طريق زمعة (¬6)، عن محمد بن عبد الرحمن، عن رجل من بني مدلج، عن أبيه، قال: قدم علينا سراقة بن جعشم فقال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 77)، نور الإيضاح (ص: 16)، البحر الرائق (1/ 256)، الفتاوى النهدية (1/ 50)، حاشية ابن عابدين (1/ 345). (¬2) التاج والإكليل (1/ 387)، الخرشي (1/ 141)، حاشية الدسوقي (1/ 105)، الشرح الصغير (1/ 87). (¬3) المجموع (2/ 104)، أسنى المطالب (1/ 45)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 43،44)، حاشية البجيرمي (1/ 52)، شرح زبد بن رسلان (ص:54)، فتح الوهاب (1/ 20)، روضة الطالبين (1/ 65). (¬4) الفروع (1/ 114)، كشاف القناع (1/ 60)، مطالب أولي النهى (1/ 65)، أخصر المختصرات (1/ 90)، زاد المستقنع (ص: 23)، المبدع (1/ 81)، شرح العمدة (1/ 141)، المحرر (1/ 9)، عمدة الفقه (ص: 6). (¬5) منهم الشوكاني كما في السيل الجرار (1/ 64). (¬6) في المطبوع ربيعة، وهو خطأ.

الدليل الثاني: من النظر.

أحدنا الخلاء أن يعتمد اليسرى، وينصب اليمنى (¬1). [إسناده ضعيف مسلسل بالمجاهيل] (¬2). الدليل الثاني: من النظر. قالوا: الاعتماد على اليسرى أسهل في خروج الحدث، وحكمة ذلك: أن المعدة في الشق الأيمن، فإذا اعتمد على ذلك صار المحل كالمزلق لخروج الحدث، فهي شبه الإناء الملآن الذي أقعد على جنبه للتفريغ منه، بخلاف ما إذا أقعد معتدلاً. ويجاب: بأن هذا الكلام غير دقيق، والمرجع فيه إلى الطب، وليس لنظر الفقهاء، والغائط لا يخرج من المعدة مباشرة إلى الخارج حتى يقال: إن المعدة في الشق الأيمن، ويكون الاعتماد على اليسرى من أجل إفراغها من الفضلات، والله أعلم. الدليل الثالث: أن في الاعتماد على اليسرى إكراماً لليمين. ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 96). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة وابن منيع في مسنديهما كما في المطالب العالية (47)، والطبراني في الكبير (7/ 160) رقم 6605 من طريق زمعة بن صالح به، والحديث ضعيف، فيه ثلاث علل: الأولى: ضعف زمعة بن صالح. الثانية: جهالة محمد بن عبد الرحمن. الثالثة: فيه رجلان مبهمان، المدلجي وأبوه. قال الحازمي: لا نعلم في الباب غيره، وفي إسناده من لا يعرف. تلخيص الحبير (1/ 89). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 206): وفيه رجل لم يسم.

دليل من قال: لا يشرع.

ويجاب عنه: لو كان ذلك من باب إكرام اليمين لجاء الأمر به، أو فعله من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما لم ينقل الأمر به، ولا فعله، وكان يتكرر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن صحابته علم أنه غير مشروع، والله أعلم. دليل من قال: لا يشرع. قالوا: لم يرد في هذه المسألة شيء يثبت به حكم الندب، وما ورد في ذلك فليس بصحيح، ولا حسن، ولا ضعيف خفيف الضعف، وإثبات الأحكام الشرعية بما لا تقوم به حجة لا يجوز. الراجح عدم المشروعية، لأن الدليل الوارد فيه لا يثبت، والأصل عدم المشروعية حتى يثبت فيه دليل صحيح.

المبحث السادس في الكلام أثناء قضاء الحاجة

المبحث السادس في الكلام أثناء قضاء الحاجة ويشتمل على فرعين: الفرع الأول: في ذكر الله تعالى داخل الخلاء. الفرع الثاني: في الكلام في الخلاء.

الفرع الأول في ذكر الله تعالى داخل الخلاء

الفرع الأول في ذكر الله تعالى داخل الخلاء اختلف العلماء في ذكر الله داخل الخلاء، كأن يجيب المؤذن، أو يحمد الله إذا عطس، ومنه دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله، كورقة كتب فيها اسم من أسماء الله، وكالدراهم المنقوش فيها ذكر الله، ونحو ذلك على قولين: فقيل: يكره أن يذكر الله داخل الخلاء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4). وهذا المذهب منسوب إلى ابن عباس رضي الله عنهما (¬5). وقيل: لا مانع من ذكر الله داخل الكنيف، فإذا عطس فليحمد الله ولو كان على حاجته، وهو قول مالك (¬6)، ورجحه القرطبي ¬

(¬1) مراقي الفلاح (ص: 23)، البحر الرائق (1/ 256)، حاشية ابن عابدين (1/ 109)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 33). (¬2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 90،91)، حاشية الدسوقي (1/ 106)، الخرشي (1/ 145). (¬3) المجموع (2/ 103،104)، المهذب (1/ 26)، روضة الطالبين (1/ 66). (¬4) المبدع (1/ 79)، الفروع (1/ 83)، شرح العمدة (1/ 140)، المحرر (1/ 9)، عمدة الفقه (ص: 6)، الكافي (1/ 51). (¬5) الأوسط لابن المنذر (1/ 339). (¬6) التاج والإكليل (1/ 392)، الفواكه الدواني (2/ 348، 349). وفي مواهب الجليل (1/ 275): روى عن مالك في العتبية: لا بأس أن يستنجي بالخاتم فيه ذكر الله. اهـ وأنكرها بعض أصحاب الإمام مالك، ظناً منهم أن ذلك يستلزم أن يتلطخ اسم الله الكريم بالنجاسة، ولا يلزم من الاستنجاء باليد تلطخ اسم الله الكريم بالنجاسات. =

دليل من قال يكره ذكر الله تعالى حال قضاء الحاجة.

من المالكية (¬1). وهذا المذهب منسوب إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، والنخعي، وابن سيرين والشعبي (¬2). ونقل الإجماع على جواز ذكر الله في القلب حال قضاء الحاجة (¬3). دليل من قال يكره ذكر الله تعالى حال قضاء الحاجة. الدليل الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ قبل دخول الخلاء، ولو كان الأمر غير مكروه لكان التعوذ مصاحباً للفعل عند الشروع في قضاء الحاجة، فلما قدمه على سببه علم كراهيته له فيه. (184 - 28) فقد روى البخاري في الأدب المفرد، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: ¬

= وجاء في البيان والتحصيل (1/ 71): " وسألت مالكاً عن لبس الخاتم فيه ذكر الله، أيلبس في الشمال، وهو يستنجي به؟ قال مالك: أرجو أن يكون خفيفاً. قال محمد بن رشد: قوله: أرجو أن يكون خفيفاً يدل على أنه عنده مكروه، وأن نزعه أحسن. الخ كلامه. وقال في نفس الكتاب (1/ 127): وسئل أينزع الخاتم الذي فيه ذكر الله منقوش عند الاستنجاء؟ فقال: إن نزعه فحسن، وما سمعت أحداً نزع خاتمه عند الاستنجاء. قيل له: فإن استنجى، وهو في يده فلا بأس به؟ قال: نعم. اهـ وذكر الحافظ في الفتح أن مالك يرى جواز ذكر الله تعالى في الخلاء. (¬1) تفسير القرطبي (4/ 311). (¬2) انظر المرجع السابق، وانظر شرح صحيح مسلم للنووي (4/ 65)، وفتح الباري (ح142). (¬3) حاشية العدوي على الخرشي (1/ 145).

حدثني أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعو بك من الخبث والخبائث (¬1). [انفرد بقوله: إذا أراد أن يدخل سعيد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، والحديث في الصحيحين، من طرق عن عبد العزيز بن صهيب، بلفظ: إذا دخل الخلاء، ولم يقل: إذا أراد أن يدخل] (¬2). ¬

(¬1) الأدب المفرد (692). (¬2) وسعيد بن زيد لا تحتمل مخالفته، وقد رواه البخاري (142) من طريق شعبة. ورواه مسلم (375) من طريق حماد بن زيد وهشيم وإسماعيل بن علية، أربعتهم عن عبد العزيز بن صهيب به، بلفظ: كان إذا دخل الخلاء وقيل: الكنيف. وسعيد بن زيد لم يتابع على قوله: إذا أراد أن يدخل، وليس بالقوي حتى يقبل تفرده، فقد جاء في ترجمته: قال يحيى بن معين: ليس بقوي. قيل: يحتج بحديثه؟ قال: يكتب حديثه الجرح والتعديل (4/ 21). وقال الدوري: عن يحيى بن معين: ثقة. تاريخ ابن معين (2/ 199). وقال النسائي: ليس بقوي. الضعفاء والمتروكين (275). وقال أبو عبيد الآجري، عن أبي داود: كان يحيى بن سعيد يقول: ليس بشيء. سؤالات الآجري (355). وضعفه الدارقطني. تهذيب التهذيب (4/ 29). وقال الجوزجاني: سمعتهم يضعفون أحاديثه فليس بحجة بحال. أحوال الرجال (183). وقال ابن حبان: كان صدوقاً حافظاً، ممن كان يخطئ في الأخبار، ويهم في الآثار حتى لا يحتج به إذا انفرد. المجروحين (1/ 320). وقال البزار: لين. وقال في موضع آخر: لم يكن له حفظ. وقال البخاري: قال مسلم: حدثنا سعيد بن زيد أبو الحسن صدوق حافظ. التاريخ الكبير (3/ 472). وقال سليمان بن حرب: حدثنا سعيد بن زيد، وكان ثقة. الجرح والتعديل (4/ 21). =

الدليل الثاني

وقد يقال: إن هذه الرواية ليست معارضة لرواية الصحيحين، بل هي مبينة لها؛ فتكون معنى: إذا دخل الخلاء: أي إذا أراد أن يدخل؛ لأن إذا تأتي قبلية، وبعدية، ومصاحبة بحسب القرائن (¬1). الدليل الثاني: (185 - 29) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر، أن رجلا مرَّ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبول، فسلم، فلم يرد عليه (¬2). ¬

= وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/ 399). وفي التقريب: صدوق له أوهام. (¬1) فقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله}: أي إذا أردت أن تقرأ. ومثله: إذا دخل الخلاء: أي إذا أراد أن يدخل. وأما البعدية: فقوله في الحديث: إذا كبر الإمام فكبروا. وأما المصاحبة، فقوله في الحديث: إذا أمن الإمام فأمنوا. أي معه، كما تفيده رواية: وإذا قال الإمام ولا الضالين، فقولوا: آمين. ومثله قوله تعالى: {إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم}، والله أعلم. (¬2) صحيح مسلم (375). والحديث مداره على نافع، عن ابن عمر، يرويه عن نافع ثقتان: الأول: الضحاك بن عثمان، كما في رواية مسلم المذكورة في الباب، أخرجها ابن أبي شيبة (5/ 247) رقم 25736، وأبو داود (16)، والترمذي (90،2720)، والنسائي (37)، وابن ماجه (353)، وأبو عوانة (1/ 215)، وأبو نعيم في مستخرجه على مسلم (815)، والطحاوي (1/ 85)، وبن الجارود في المنتقى (38)، وبن خزيمة (73)، والبيهقي (1/ 138). الثاني: يزيد بن الهاد، عن نافع به، وزاد ذكر التيمم لرد السلام، فقد أخرجه أبو داود =

وأجيب: بأنه يحتمل أنه لم يرد عليه؛ لأنه على غير طهر، كما جاء في بعض الأحاديث. (186 - 30) فقد روى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان، عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه، فلم ¬

_ = (331) حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا عبد الله بن يحيى البرلسي، حدثنا حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، أن نافعاً حدثه عن ابن عمر قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل، فسلم عليه، فلم يرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الحائط، فوضع يده على الحائط، ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرجل السلام. وأخرجه البيهقي (1/ 206) من طريق أبي داود. وجعفر بن مسافر في التقريب: صدوق ربما وهم، لكن قد تابعه ثقة، فقد أخرجه الدراقطني (1/ 206) من طريق الحسن بن عبد العزيز الجردي، أخبرنا عبد الله بن يحيى المعافري، نا حيوة بن شريح به. وهذا إسناد حسن. والتيمم لرد السلام له شاهد من حديث أبي الجهيم الأنصاري في الصحيحين، فقد روى البخاري رحمه الله (337)، قال: حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج قال سمعت عميرا مولى ابن عباس قال أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (369). كما أن له شاهداً من حديث المهاجر بن قنفذ وغيره وسنأتي على ذكرها إن شاء الله تعالى.

يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر، أو قال: على طهارة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (17). (¬2) اختلف في لفظه: هل قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، أو قال: وهو يتوضأ، وعلى اللفظ الثاني ليس فيه موضع شاهد لمسألتنا. والحديث رواه شعبة، كما عند الحاكم (592). وهشام الدستوائي كما في سنن الدارمي (2641)، والأوسط لابن المنذر (1/ 133)، والطبراني في الكبير (20/ 329) رقم 780. ومعاذ بن معاذ، كما في سنن النسائي الكبرى (37)، والصغرى (38). ثلاثتهم عن قتادة به، بلفظ: أنه سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، وأنه تيمم لرد السلام. ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، واختلف على سعيد: فرواه روح بن عبادة كما في مسند أحمد (5/ 80)، وسنن ابن ماجه (350). وعبد الوهاب بن عطاء، كما في شرح معاني الآثار (1/ 85). ويزيد بن زريع، كما في معجم الطبراني في الكبير (20/ 329) رقم 781، ثلاثتهم رووه عن سعيد، بلفظ: أنه سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ. وخالفهم عبد الأعلى، كما في سنن أبي داود (17)، وصحيح ابن حبان (806) فرواه عن سعيد بن أبي عروبة به، بلفظ شعبة وهشام الدستوائي ومعاذ بن معاذ. وأرى أن لفظ شعبة ومن معه أولى بالحفظ من لفظ سعيد؛ لأن سعيداً واحد، وقد اختلف عليه، وهؤلاء جماعة، وقد جاء الحديث من غير طريق قتادة، وفيه ذكر البول، فقد رواه ابن أبي شيبة (5/ 247) رقم 25735 حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جرير بن حازم، قال: حدثنا الحسن، عن المهاجر، أنه سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فلم يرد عليه حتى فرغ. وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات إلا زيد بن الحباب فإنه صدوق، إلا أن الحسن قد دلسه عن المهاجر، ولم يسمعه منه إنما سمعه من حضين كما في طريق قتادة. ورواه أحمد (5/ 81)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 85) من طريق حميد بن =

الدليل الثالث

فالحديث ظاهر بأنه لم يترك السلام بناء على أنه في الخلاء، وأن ذكر الله مكروه في هذا المكان، وإنما ترك السلام؛ لأنه ليس على طهارة؛ لأنه لو سلم بعد الفراغ من البول لم يرد عليه أيضاً؛ لأنه يصدق عليه أنه ليس على طهارة. الدليل الثالث: (187 - 31) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عيسى بن يونس، عن هاشم بن البريد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، أن رجلا مر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول، فسلم عليه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي؛ فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= أبي حميد الطويل، عن الحسن، عن المهاجر، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول، أو قد بال، فسلمت عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم رد علي. اهـ والشك هنا لا يقضي على يقين طريق قتادة، فالذي يظهر لي أن السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ييول، وقد ذكره ثلاثة حفاظ من أصحاب قتادة: هم شعبة وهشام، ومعاذ بن معاذ، والله أعلم. (¬1) سنن ابن ماجه (352). (¬2) في إسناده سويد بن سعيد، قال الحافظ: وهو وإن أخرج له مسلم في صحيحه، فقد ضعفه الأئمة، واعتذر مسلم عن تخريج حديثه، بأنه ما أخرج له إلا ما له أصل من رواية غيره، وقد كان مسلم لقيه، وسمع منه قبل أن يعمى، ويتلقن ما ليس من حديثه، وإنما كثرت المناكير في روايته بعد عماه. النكت (1/ 411). وقال ابن حجر أيضاً: فليس ما ينفرد به على هذا صحيحاً. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق في نفسه، إلا أنه عمي، فصار يتلقن ما ليس من حديثه، وأفحش =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن معين فيه القول. اهـ وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل مختلف فيه. قال ابن حبان: كان عبد الله من سادات المسلمين من فقهاء أهل البيت وقرائهم إلا أنه كان رديء الحفظ، كان يحدث على التوهم فيجيء بالخبر على غير سننه فلما كثر ذلك في أخباره وجب مجانبتها والاحتجاج بضدها. المجروحين (2/ 3). قال أبو معمر القطيعي: كان ابن عيينة لا يحمد حفظ ابن عقيل. قال سفيان كان ابن عقيل في حفظه شيء فكرهت أن ألقيه. كما في رواية الحميدي عنه الجرح والتعديل (5/ 154) وقال يعقوب: ابن عقيل صدوق، وفي حديثه ضعف شديد جداً وكان ابن عيينة يقول: أربعة من قريش يترك حديثهم، فذكره فيهم. وقال ابن المديني عن ابن عيينة رأيته يحدث نفسه فحملته على أنه قد تغير. تهذيب التهذيب (6/ 13). تهذيب الكمال (16/ 78). سئل يحيى بن معين عن عبد الله بن محمد بن عقيل، فقال: ليس بذاك. كما في رواية أبي بكر ابن أبى خيثمة. قال مسلم بن الحجاج: قلت ليحيى بن معين: عبد الله بن محمد بن عقيل أحب إليك أو عاصم ابن عبيد الله؟ فقال: ما أحب واحداً منهما في الحديث. وقال أيضاً: عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف في كل أمره. كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (5/ 153). تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن عبد الله بن محمد بن عقيل؟ فقال: لين الحديث ليس بالقوي، ولا ممن يحتج بحديثه يكتب حديثه وهو أحب الى من تمام بن نجيح. الجرح والتعديل (5/ 153). وقال ابن المديني: كان ضعيفاً. كما في رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة. تهذيب الكمال (16/ 78)، تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال: أحمد منكر الحديث. كما في رواية حنبل عنه. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. المرجع السابق. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه. المرجع السابق. =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (188 - 32) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا نصر بن علي، عن أبي علي الحنفي، عن همام، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (¬1). [الحديث معلول] (¬2). ¬

= وقال الخطيب: كان سيء الحفظ. المرجع السابق وقال عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سليمان: خير فاضل، ووصفه بالعبادة، وقال: إن كانوا يقولون فيه شيء ففي حفظه. الضعفاء الكبير ـ العقيلي (2/ 298). وقال أبو أحمد الحاكم: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يحتجان بحديثه، وليس بذاك المتين المعتمد. تهذيب الكمال (16/ 78)، تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال الترمذي: صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد ابن إسماعيل يقول: كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل، قال: محمد ابن إسماعيل: وهو مقارب الحديث. سنن الترمذي (1/ 9). وقال ابن عدي: روى عنه جماعة من المعروفين الثقات، وهو خير من ابن سمعان ويكتب حديثه. الكامل (4/ 127)، تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال ابن عبد البر: هو أوثق من كل من تكلم فيه. قال الحافظ: وهذا إفراط. تهذيب التهذيب (6/ 13) ولا أعلم أين ذكر ذلك ابن عبد البر، والموجود في التمهيد (20/ 125): " ليس بالحافظ ". فعلى هذا الأكثر على تضعيفه، فابن عيينة، ويحيى بن معين، وابن خزيمة، وابن حبان، ويعقوب بن شيبة، وأبو حاتم الرازي، وابن المديني، والنسائي، والخطيب، كل هؤلاء تكلموا في حفظ ابن عقيل، ومن رفعه لم يرفعه إلى درجة الضبط، بل قال: مقارب الحديث، والله أعلم. (¬1) سنن أبي داود (19). (¬2) الحديث أعله جماعة بأن من رواية همام عن ابن جريج، ولم يخرج الشيخان رواية =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = همام عن ابن جريج، وأنه وهم في لفظه، وأن ابن جريج لم يسمعه من الزهري، وإنما سمعه من زياد بن سعد، عن الزهري، بلفظ آخر: قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ورق، ثم ألقاه. والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام. ونقل البيهقي كلام أبي داود، وأقره، وقال: هذا هو المشهور عن ابن جريج، دون حديث همام. سنن البيهقي (1/ 95). وقال النسائي: هذا حديث غير محفوظ. تلخيص الحبير (1/ 107، 108). وحكم الدارقطني بشذوذه. المرجع السابق، وانظر الجامع الصغير للسيوطي (1/ 132). وضعفه النووي، وقال: ضعفه أبو داود والنسائي والبيهقي والجمهور. وقول الترمذي: إنه حسن مردود عليه. الخلاصة (329). ومثل به العراقي في ألفتيه وشرحها للحديث المنكر. الجامع الصغير للسيوطي (1/ 132). وقال الحافظ: حديث معلول. كما في بلوغ المرام. وقواه بعضهم، فقال الترمذي: حسن غريب. سنن الترمذي (1746). وقال المنذري: الصواب عندي تصحيحه، فإن رواته ثقات أثبات!! وتبعه على ذلك أبو الفتح القشيري (ابن دقيق العيد) في آخر الاقتراح". تلخيص الحبير. وقال ابن التركماني متعقباً تضعيف البيهقي: همام ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وقال أحمد: ثبت في كل المشايخ، واحتج به الشيخان، وحديثه هذا قال فيه الترمذي: صحيح. والحديثان مختلفان متناً وسنداً؛ لأن الأول رواه ابن جريج بلا واسطة، والثاني بواسطة، فانتقال الذهن من الحديث الذي زعم البيهقي أنه المشهور، إلى حديث وضع الخاتم -مع اختلافهما- لا يكون إلا عن غفلة شديدة، وحال همام لا يحتمل مثل ذلك". وقال أيضاً: وقول البيهقي: هذا شاهد ضعيف فيه نظر؛ إذ ليس في سنده من تكلم فيه فيما علمت ... وذكر الدارقطني في كتاب العلل أن يحيى الضريس رواه عن ابن جريج كرواية همام، فهذه متابعة ثانية، وابن الضريس ثقة، فتبين بذلك أن الحديث ليس له علة، وأن الأمر فيه كما ذكره الترمذي من الحسن والصحة. اهـ

الدليل الخامس

الدليل الخامس: من النظر، قالوا: إن في ذلك تكريماً لاسم الله سبحانه وتعالى، وتكريم ¬

_ [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أبو داود (19) من طريق أبي علي الحنفي. وأخرجه الترمذي (1746) في السنن، وفي الشمائل (88) من طريق سعيد بن عامر. وأخرجه الترمذي (1746) والبيهقي في السنن (1/ 94) من طريق حجاج بن منهال. وأخرجه ابن ماجه (303) من طريق أبي بكر الحنفي. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (3543) وابن حبان (1413)، والحاكم (670)، والبيهقي (1/ 94،95) من طريق هدبة، كلهم عن همام، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس. وأخرجه الحاكم (671)، والبيهقي (1/ 95) والبغوي في شرح السنة (189) من طريق يحيى بن المتوكل، عن ابن جريج به. بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتماً، نقشه محمد رسول الله، فكان إذا دخل الخلاء وضعه. وهذه متابعة لهمام في رفعه. وهذه المتابعة لا ترفع الإعلال المتقدم من أن ابن جريج لم يسمعه من أنس. وحديث أنس في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من فضة، ونقش فيه محمد رسول الله. ولم يذكر ما ذكره ابن جريج من كونه إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. رواه البخاري (65) ومسلم (2092) من طريق شعبة، عن قتادة. ووراه البخاري (5877) ومسلم (2092) من طريق عبد العزيز بن صهيب. ورواه البخاري (5870) من طريق حميد بن أبي حميد، ثلاثتهم عن أنس، ولم يذكروا ما ذكره ابن جريج عن الزهري. بل إن يونس بن يزيد رواه عن الزهري عن أنس في صحيح مسلم (2094) وسنن النسائي (5196،5197) ولم يذكر ما ذكره ابن جريج عن الزهري. ولفظ النسائي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ورق، وفصه حبشي، ونقش فيه محمد رسول الله. ولفظ مسلم: كان خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ورق، وفصه حبشي. والله أعلم.

الدليل السادس

اسماء الله تعالى، وإبعادها عن الأماكن الخبيثة، وصونها عن ذلك من تعظيم الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الإنسان يستحب له أن لا يذكر الله تعالى إلا على طهارة، كما تقدم من حديث ابن عمر تعظيماً لله سبحانه، وهي طهارة من الحدث، فتعظيم الله عن نجاسة الخبث من باب أولى. الدليل السادس: إذا كان الإنسان مأموراً أن لا يقرأ القرآن، وهو راكع أو ساجد، وشرع في حال القيام، وإن كان الركوع والسجود شرفاً للعبد، لكونه عبداً، لكنه لا يليق بالله سبحانه وتعالى الذي هو صفته، فكونه يعظم أسماء الله عن ذكرها في مكان الخلاء من باب أولى. وهذا الدليل قلته تفقهاً، والله أعلم. الدليل السابع: (189 - 33) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن زمعة، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس إذا دخل الخلاء ناولني خاتمه. [إسناده ضعيف فيه زمعة بن صالح، وقد توبع] (¬1). ¬

(¬1) المصنف (1/ 106). وقد روى ابن المنذر في الأوسط (1/ 340) من طريق قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: يكره أن يذكر الله، وهو جالس على الخلاء، والرجل يواقع امرأته؛ لأنه ذو الجلال يجل عن ذلك. والإسناد فيه قابوس بن أبي ظبيان، فيه ضعف، فلعل أحد الطريقين يقوي الأخر. وإن كان هناك فرق بين حال البول والغائط، وحال الجماع، وإن كان يجمع بينهما كشف العورات، فالبول والغائط لم يجعلهما الله صفة لأهل الجنة، بخلاف الجماع، بل إن ذكر الله حال الجماع فيه محمدة؛ لأن حال الجماع تكون مدعاة للانشغال عن ذكر الله، =

دليل من قال: يذكر الله حتى في الخلاء.

دليل من قال: يذكر الله حتى في الخلاء. الدليل الأول: (190 - 34) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء وإبراهيم بن موسى قالا: حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة، عن عائشة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث:: " كل " وكل من ألفاظ العموم. وقوله: " أحيانه" أي أوقاته، وهي نكرة مضافة، فتعم كل وقت، ومنه حال قضاء الحاجة. وأجيب: بأن المقصود يذكر الله متطهراً ومحدثاً، وجنباً، وفي حال القعود والمشي، والقيام والاضطجاع، وليس المقصود أنه يذكر الله حال قضاء الحاجة، فهذه الحال مخصوصة من الحديث. الدليل الثاني: قالوا: لا يوجد نص صريح في النهي عن ذكر الله، وقد شرع الله لنا ذكره في كل حال، وأمرنا أن نذكره ذكراً كثيراً، وحذر من نسيان ذكره، فلا نترك هذه النصوص إلا لنص صريح لا نزاع فيه، وما ذكرتموه لا يكفي لمعارضة ما ذكر: ¬

= وسبباً في اللهو والنسيان، فإذا تذكر الله في تلك الحال، كان ذكره محموداً، والله أعلم. (¬1) صحيح مسلم (373).

الدليل الثالث

فقولكم: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقول الذكر قبل دخول الخلاء، إذا سلم ذلك فيكون دليلاً على استحباب هذا الذكر قبل الدخول، ولا يلزم منه كراهية ذكره بعد الدخول؛ لأن ترك المستحب لا يلزم منه ارتكاب المكروه، مع أن رواية الأكثر للحديث كان يقول إذا دخل الخلاء، وتفرد بقوله: إذا أراد أن يدخل راو ليس بالقوي. وأما حديث تركه رد السلام على من سلم عليه، فقد سبق الجواب عليه، ولا نجتهد العلة وقد نص عليها: " إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر" وأما حديث وضع الخاتم، فقد علمتم أنه معلول. وأما قولكم: إن فيه تكريماً لذكر الله، فنحن لا نذكر الله إلا تكريماً وتعظيماً له. وأما النهي عن قراءة القرآن حال الركوع والسجود، فكون العلة هي تعظيم القرآن حال الخضوع والذل، فهي علة مستنبطة، فقد تكون هي العلة، وقد تكون غيرها، فلا تخصص الأحاديث المطلقة الآمرة بذكر الله على كل حال، وعلى فرض أن تكون هي العلة، فلا يستوي كلام الله الذي هو صفته بسائر الأذكار الذي هو من كلام المخلوقين، فالفرق بين كلام الله وبين سائر الأذكاركالفرق بين الخالق والمخلوق. فتبين بهذا أنه لا يقوم دليل يخصص الآيات والأحاديث الآمرة بذكر الله تعالى، والله أعلم. الدليل الثالث: (191 - 35) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن كريب،

الدليل الرابع

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً. وأخرجه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: ترجم له البخاري في صحيحه بقوله: باب التسمية على كل حال، وعند الوقاع. قال الحافظ: فيه إشارة إلى تضعيف ما ورد من كراهية ذكر الله في حالين: الخلاء والوقاع (¬2). اهـ فإذا كان الإنسان يذكر الله حال كشف العورة في الجماع، فلا مانع من ذكر الله حال البول والغائط، والله أعلم. الدليل الرابع: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن، ورأسه في حجر عائشة، وهي حائض، فإذا كان قربه من النجاسة لا يمنعه أن يقرأ القرآن، لم يمنع حال قضاء الحاجة. (192 - 36) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أمه، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن، ورأسه في حجري، وأنا حائض، ورواه مسلم بنحوه (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (6388)، ومسلم (1434). (¬2) فتح الباري (1/ 242). (¬3) صحيح البخاري (7549)، ومسلم (301).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: الراجح من أقوال أهل العلم أن الحائض تقرأ القرآن، مع أن حدثها مستمر، ودم الحيض بمنزلة البول، بجامع أن كلا منهما نجس، ومنتن الرائحة، ومن مخرج واحد، ومع ذلك قد تقرأ القرآن ودمها يسيل، فما المانع أن تذكر الله بغير القرآن إذا احتاجت إلى ذلك حال قضاء الحاجة. الدليل السادس: كان معروفاً ذكر الله في حال الخلاء عن بعض السلف، وهذا يذكر للاستئناس، وليس ذكره من باب الاحتجاج (193 - 37) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد -يعني: ابن سيرين- سئل عن الرجل يعطس في الخلاء؟ قال: لا أعلم به بأساً بذكر الله عز وجل (¬1). [وسنده صحيح]. (194 - 38) وروى أيضاً، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن منصور، عن إبراهيم، قال: يحمد الله فإنه يصعد (¬2). [وسنده صحيح]. (195 - 39) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن الشعبي في الرجل يعطس على الخلاء، قال: يحمد الله (¬3). ¬

(¬1) المصنف (1/ 108). (¬2) المرجع السابق (1/ 108). (¬3) المصنف (1/ 108).

[رجاله ثقات] (¬1). فهؤلاء ثلاثة من التابعين يرون أنه لا بأس بذكر الله في الخلاء. فالراجح من الخلاف: جواز ذكر الله تعالى ولو كان على حاجته، فإذا عطس فلا يمنع أن يحمد الله، وإذا سمع المؤذن فلا مانع من إجابته، ولم أقف على دليل صحيح صريح يمنع من ذكر الله حال قضاء الحاجة، والله أعلم. ¬

(¬1) إن سلم من تغير حصين، وقد أخرج مسلم لحصين من رواية ابن إدريس، ولم أقف على من نص على أن رواية ابن إدريس قبل أو بعد تغي حصين، فالظاهر أن الإسناد صحيح إن شاء الله تعالى.

مسألة: لو توضأ في الخلاء هل يأتي بالبسملة أم لا؟

مسألة: لو توضأ في الخلاء هل يأتي بالبسملة أم لا؟ أما من يرى وجوب التسمية في الوضوء، وكذلك يرى إجابة المؤذن فإنه يفعل ذلك ولو كان في الخلاء؛ لأن المكروه تبيحه الحاجة، فلا يبقى مكروهاً مع الحاجة، فما بالك بالواجب. وأما من يرى سنية التسمة وإجابة المؤذن، فهنا تعارض الأمر والنهي على القول بكراهة ذلك، فهل يقدم الأمر، أو يقدم النهي؟ (196 - 40) فالظاهر تقديم النهي؛ لما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، ورواه مسلم (¬1). فالأمر يتعلق بالاستطاعة، والنهي حتم تركه. وسوف نأتي على حكم التسمية في الوضوء في باب سنن الوضوء، والأقوال فيها ثلاثة: فقيل: تجب التسمية. وقيل: بل هي من سنن الوضوء. وقيل: لا تشرع. ومع ذلك لا يبنغي أن يعطى حكماً عاماً، بل يرجع إلى طبيعة الخلاف، فليس كل خلاف يكون الراجح قوياً، والمرجوح ضعيفاً، ففي بعض المسائل تتجاذب الأقوال، فيكون أحدها قوياً، والآخر أقوى منه، وليست المقابلة بين ¬

(¬1) صحيح البخاري (7288)، مسلم (1337).

ضعيف وقوي، والخلاف في التسمية ليس كالخلاف في إجابة المؤذن، وهكذا، وسوف نأتي في سنن الوضوء على أدلة حكم التسمية في الوضوء، وما فيه من آثار إن شاء الله تعالى.

الفرع الثاني في الكلام في الخلاء

الفرع الثاني في الكلام في الخلاء الكلام في الخلاء إن كان في ذكر الله تعالى، فقد سبق بحثه، وإن كان كلاماً غير ذلك، فقد اختلف فيه: فقيل: يكره إلا لحاجة، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يتنحنح (¬2). وقيل: يحرم، اختاره ابن عبيدان من الحنابلة (¬3). وقيل: يحرم إن كان الكلام من رجلين يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما (¬4). وقيل: لا يكره، وهو الراجح. وظاهر كلامهم أن الكراهة لا تختص بحال قضاء الحاجة، بل ما دام في ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية (ص: 22)، شرح فتح القدير (1/ 213)، درر الحكام (1/ 49)، الفتاوى النهدية (1/ 50). وفي مذهب المالكية: التاج والإكليل (1/ 397)، وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/ 103)، أسنى المطالب (1/ 46)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 46)، فتاوى الرملي (1/ 34)، وفي مذهب الحنابلة: الفروع (1/ 114)، كشاف القناع (1/ 64). (¬2) البحر الرائق (1/ 256). (¬3) الإنصاف (1/ 96)،. (¬4) قال في مراقي الفلاح (ص: 22): " ولا يتكلم إلا لضرورة". وهذا الاستثناء ظاهره يدل على التحريم، وليس على الكراهة، لكن جاء في حاشية ابن عابدين (1/ 343) ما ظاهره أن التحريم خاص بمن جمع كل أوصاف حديث أبي سعيد الآتي: " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط ... الحديث.

دليل الكراهة.

المكان المعد لقضاء الحاجة. واختار بعضهم أن الكراهة تختص بقاضي الحاجة دون المكان (¬1). دليل الكراهة. (197 - 41) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن عياض، قال: حدثني أبو سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يخرج الرجلان يضربان الغائط، كاشفان عورتهما، يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك (¬2). [إسناده ضعيف، وفيه اضطراب] (¬3). ¬

(¬1) أسنى المطالب (1/ 46). (¬2) المسند (3/ 36). (¬3) ضعيف، أولاً: لأن في إسناده هلال بن عياض، تفرد بالرواية عنه يحيى بن أبي كثير. قال الذهبي: لا يعرف، كما في ميزان الاعتدال. وفي التقريب: مجهول. ثانياً: أنه من رواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، وفيها اضطراب. ضعف حديثه عن يحيى كل من يحيى بن سعيد القطان، وأحمد والبخاري وأبو حاتم الرازي وابن حبان وغيرهم، انظر الجرح والتعديل (7/ 10)، الثقات (5/ 233)، ميزان الاعتدال (5719). ثالثاً: الاختلاف في إسناده. فقد قال الدارقطني في العلل (3 - ورقة 238): يرويه يحيى بن أبي كثير، واختلف عنه، فرواه عكرمة بن عمار، واختلف عن عكرمة أيضاً: فرواه الثوري، عن عكرمة، عن يحيى، عن عياض بن هلال، عن أبي سعيد، وكذلك قال عبد الملك بن الصباح، عن عكرمة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال عبيد بن عقيل: عن عكرمة بن عمار، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقال أبان العطار، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه. وقال مسكين بن بكير: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله. وقال غير مسكين: عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، مرسلاً. وأشبهها بالصواب: حديث عياض بن هلال، عن أبي سعيد. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وأبو داود (15)، والنسائي في الكبرى (33)، والبيهقي في السنن (1/ 99،100) من طريق عبد الرحمن بن مهدي به. وأخرجه ابن ماجه (342) عن عبد الله بن رجاء. وأخرجه ابن ماجه (342)، وابن خزيمة بعد ح (71) والحاكم في المستدرك (560) والبيهقي في السنن (1/ 100) من طريق سلم بن إبراهيم الوراق. وأخرجه النسائي في الكبرى (32)، وابن ماجه (342)، والحاكم في المستدرك (559) من طريق سفيان، ثلاثتهم عن عكرمة بن عمار به. وخالف الأوزاعي عكرمة بن عمار، وهو أوثق منه فقد رواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن رسول الله مرسلاً. أخرجه الحاكم (560) ومن طريقه البيهقي (1/ 100) من طريق الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا السند حسن إن سلم من عنعنة الوليد بن مسلم، فإنه يسوي حديث الأوزاعي. وفي العلل لابن أبي حاتم (1/ 41) قال أبي: الصحيح في هذا المعنى حديث الأوزاعي، وحديث عكرمة وهم. واختلف على عكرمة بن عمار: فرواه عبد الرحمن بن مهدي وسلم بن إبراهيم وسفيان الثوري، عن عكرمة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عياض بن هلال، عن أبي سعيد. ورواه الطبراني كما في مجمع البحرين (344) من طريق عبيد بن عقيل، ثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح، من حديث يحيى بن أبي كثير، عن عياض بن هلال الأنصار، وإنما أهملاه لخلاف بين أصحاب يحيى بن أبي كثير فيه، فقال بعضهم: هلال =

دليل من قال: يكره التنحنح.

والحديث لو صح لدل على التحريم، وليس على الكراهة، لكن قالوا: إن التحريم خاص بمن جمع كل أوصاف الحديث، رجلان يمشيان إلى الغائط كاشفين عن عورتيهما، يتكلمان، فمن فعل بعض موجبات المقت، فقد ارتكب مكروهاً. قال الشوكاني: القرينة الصارفة إلى معنى الكراهة الإجماع على أن هذا الكلام غير محرم في هذه الحالة (¬1). دليل من قال: يكره التنحنح. لا أعلم له دليلاً، والتنحنح ليس كلاماً، فلو تنحنح الإنسان، وهو في صلاته لم تبطل صلاته، ولو كان متعمداً. وقد نص الشافعية على أنه لا يكره التنحنح. قال في تحفة المحتاج: والأقرب أن مثل التنحنح عند طرق باب الخلاء من الغير ليعلم هل فيه أحد أم لا؟ لا يسمى كلاماً، وبتقديره فهو لحاجة، وهي دفع دخول الغير عليه (¬2). اهـ ¬

= بن عياض، وقد حكم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل في التاريخ، أنه عياض بن هلال الأنصاري، سمع أبا سعيد، سمع منه يحيى بن أبي كثير. قاله هشام ومعمر وعلي بن المبارك وحرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير. ومع أن الذهبي أقر الحاكم في تصحيحه في التلخيص، إلا أنه في الميزان حكم على عياض بن هلال بأنه لا يعرف، ونقل عن يحيى القطان وأحمد والبخاري بأن أحاديث عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير ضعاف، وليست بصحاح. والله أعلم. (¬1) نيل الأوطار (1/ 100). (¬2) تحفة المحتاج (1/ 171).

دليل من قال: لا يكره.

دليل من قال: لا يكره. حجته أن الكراهة حكم شرعي، يفتقر إلى دليل شرعي، ولا دليل على الكراهة، والأصل في مثل هذا الإباحة حتى يثبت النهي من الشارع، ولم يثبت نهي، والله أعلم.

المبحث السابع في اللبث على الحاجة فوق الحاجة

المبحث السابع في اللبث على الحاجة فوق الحاجة استحب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، أن لا يطيل القعود فوق الحاجة. وفي مذهب الحنابلة ثلاثة أقوال: التحريم، وهو أشهرها (¬3). والكراهة، والجواز بلا كراهة (¬4). دليل من منع المكث فوق الحاجة. الأول: قالوا: إن فيه كشفاً للعورة بلا حاجة. الثاني: ما يروى عن لقمان الحكيم. (198 - 42) ذكره ابن المنذر بلا إسناد، قال: وروينا عن لقمان أنه قال لمولاه: إن طول القعود على الخلاء يجمع منه الكبد، ويأخذ منه الناسور (¬5). ¬

(¬1) قال في البحر الرائق (1/ 256): ولا يطيل القعود على البول والغائط؛ لأنه يورث الباسور، أو وجع الكبد. اهـ وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 345)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (1/ 36). (¬2) تحفة المحتاج (1/ 173)، المجموع (2/ 105)، المنهج القويم (1/ 77)، حواشي الشرواني (1/ 173)، أسنى المطالب (1/ 46). (¬3) قال في كشاف القناع (1/ 63): ويحرم لبثه في الخلاء فوق حاجته. وانظر مطالب أولى النهى (1/ 70، 71). (¬4) الإنصاف (1/ 96، 97)، تصحيح الفروع (1/ 114، 115). (¬5) الأوسط (1/ 340).

الثالث: الإجماع، قال النووي في المجموع: وهذا الأدب -يعني: عدم إطالة القعود- مستحب بالاتفاق (¬1). وقال ابن قاسم رحمه الله في حاشيته: قد حكي الإجماع على تحريمه. قلت: وفي ذلك نظر، فلعله يعني الإجماع الذي نقله النووي، فإنه ينقل كثيراً من إجماعات النووي، وهو إجماع على الاستحباب، لا على التحريم، وقد ذكرنا وجهاً في مذهب أحمد أنه يجوز بلا كراهة (¬2). هذا غاية ما يمكن أن يستدل به لهذا القول. ويمكن مناقشة هذا القول بما يلي: أما قولهم بأنه كشف للعورة بلا حاجة، فقد سبق تفصيل ذلك في مسألة: رفع الثوب قبل الدنو من الأرض، فارجع إليها إن شئت. وأما الاستدلال بما يروى عن لقمان الحكيم، فهذا لا أصل له. قال الشوكاني: ومما يضحك منه التمسك بما روي عن لقمان الحكيم، أنه يورث الباسور، فيا لله العجب ممن لا يتحاشى عن تدوين مثل هذا الكلام في كتب الهداية، ولقد أبعد النجعة من اعتمد في مثل هذه المسألة الشرعية على لقمان الحكيم (¬3). وأما قولهم: إنه يدمي الكبد، ويورث الناسور، فإن ذلك مرجعه إلى الطب، فإذا أخبر طبيب ثقة، ولو كافراً بأن هذا يحصل منه ذلك، تركناه، وأما قبل فلا. والعجب من الحنابلة كيف يعتبر رفع الثوب قبل دنوه من ¬

(¬1) المجموع (2/ 105). (¬2) انظر تصحيح الفروع (1/ 114). (¬3) السيل الجرار (1/ 71).

الأرض مكروهاً فقط مع أنه كشف للعورة بلا حاجة، ويعتبر إطالة مكثه من المحرمات، مع أنه قد يقال: إن إطالة اللبث في الخلاء تبع لأمر مباح، بخلاف من فعل ذلك ابتداء من غير حاجة، وقد يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، فقد يتسامح في إطالة المكث، ما لايتسامح في كشفه لعورته قبل دنوه من الأرض، والله أعلم. (199 - 43) وأما ما رواه الترمذي في سننه، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن نيزك البغدادي، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا أبو محياة، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم والتعري؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم. قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وأبو محياة اسمه يحيى بن يعلى (¬1). [إسناده ضعيف]. فالراجح: أن القول بالتحريم قول ضعيف، وأما الكراهة فيتجه إلا أنه مبني على مسألة حكم كشف العورة والإنسان خالياً، فإن كان ذلك مباحاً فهو مباح، وإلا كان مكروهاً، ولا يتجاوز به الكراهة. ¬

(¬1) سنن الترمذي (2800).

المبحث الثامن في استحباب تغطية الرأس حال قضاء الحاجة

المبحث الثامن في استحباب تغطية الرأس حال قضاء الحاجة استحب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، تغطية الرأس عند قضاء الحاجة. دليل الاستحباب. (200 - 44) ما رواه البيهقي من طريق إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبد الله، عن حبيب بن صالح، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء لبس حذاءه، وغطى رأسه (¬5). [إسناده ضعيف مع إرساله] (¬6). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 256)، الفتاوى الهندية (1/ 50). (¬2) مواهب الجليل (1/ 270)، التاج والإكليل (1/ 270)، حاشية الدسوقي (1/ 106)، والشرح الكبير (1/ 106)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 89)، مختصر خليل (ص:14). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 109): قال إمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون: يستحب أن لا يدخل الخلاء مكشوف الرأس، قال بعض أصحابنا فإن لم يجد شيئاً وضع كمه على رأسه. اهـ (¬4) المبدع (1/ 82)، الإنصاف (1/ 97). (¬5) سنن البيهقي (1/ 96). (¬6) في إسناده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي، جاء في ترجمته: قال يحيى بن معين: شامي ضعيف الحديث، ليس بشيء. الكامل (2/ 36). وقال عيسى بن يونس: لو أردت أبا بكر بن أبي مريم على أن يجمع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً لفعل، يعني: راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحبيب بن عبيد. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. المرجع السابق. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (201 - 45) ما رواه ابن عدي، من طريق محمد بن يونس، ثنا خالد بن عبد الرحمن المخزومي، ثنا سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء غطى رأسه، وإذا أتى أهله غطى رأسه (¬1). [موضوع] (¬2). الدليل الثالث: (202 - 46) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن المبارك، عن ¬

= وقال ابن عدي: ولأبي بكر بن أبي مريم غير ما ذكرت من الحديث، والغالب على حديثه الغرائب، وقل ما يوافقه عليه الثقات، وأحاديثه صالحة، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولكن يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، طَرَقَهُ لصوص، فأخذوا متاعه، فاختلط. وفي التقريب: ضعيف وكان قد سرق بيته فاختلط. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 383) من طريق ابن المبارك، عن أبي بكر بن عبد الله به. (¬1) الكامل (6/ 293). (¬2) فيه محمد بن يونس الكديمي متهم بالوضع. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبى وعرض عليه شيء من حديثه، فقال: ليس هذا حديث أهل الصدق. الجرح والتعديل (8/ 122). وقال ابن عدي: اتهم بوضع الحديث وبسرقته، وادعى رؤية قوم لم يرهم، ورواية عن قوم لا يعرفون، وترك عامة مشايخنا الرواية عنه، ومن حدث عنه نسبه إلى جده موسى بأن لا يعرف. الكامل (6/ 292). وقال ابن حبان: كان يضع على الثقات الحديث وضعاً، ولعله قد وضع أكثر من ألف حديث. المجروحين (2/ 312).

الدليل الرابع

يونس، عن الزهري، قال: أخبرني عروة، عن أبيه أن أبا بكر الصديق قال وهو يخطب الناس: يا معشر المسلمين استحيوا من الله، فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب إلى الغائط في الفضاء مغطى رأسي استحياء من ربي (¬1). [رجاله ثقات]. وقال البيهقي: وروي عن أبي بكر، وهو عنه صحيح (¬2). (203 - 47) ومن الآثار، روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن طاوس، قال: أمرني أبي إذا دخلت الخلاء أن أقنع رأسي. قلت: لما أمرك بذلك؟ قال: لا أدري (¬3). [رجاله ثقات]. الدليل الرابع: ذكر بعض الفقهاء جملة من التعاليل لاستحباب تغطية الرأس عند دخول الخلاء، فقالوا منها: يغطي رأسه حياء من الله سبحانه وتعالى. ومنها: أنه أجمع لمسام البدن، وأسرع لخروج الفضلات!! ولأنه قد يصل إلى شعره ريح الخلاء فيعلق به (¬4). وقال الحطاب: إن كشف الرأس حال قضاء الحاجة يصيبه مرض يقال ¬

(¬1) المصنف (1/ 100) رقم 1127. (¬2) سنن البيهقي (1/ 96). (¬3) المصنف (1/ 101) رقم 1135. (¬4) الجامع الصغير للسيوطي (1/ 135)، فيض القدير (5/ 128).

له: اللوى يمنع الخارج!! (¬1) والذي صح من هذه التعليلات ما ذكره الصديق رضي الله عنه: وهو الحياء من الله سبحانه وتعالى. ولولا ما صح عن الصديق رضي الله عنه لقلت: في استحباب هذا نظر؛ لأن العورة وهي العورة يباح للإنسان إذا أراد الاغتسال أن يغتسل وهو عريان، وإن كان الستر أفضل، كما فعله موسى عليه الصلاة والسلام وأيوب، وهذا ثابت عنهما، فكيف بتغطية الرأس، ولو كان المغطى الوجه لكان له مناسبة، (204 - 48) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا إسحاق بن نصر، قال حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، فقال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضرباً بالحجر، ورواه مسلم (¬2). (205 - 49) وروى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 142). (¬2) صحيح البخاري (278)، وصحيح مسلم (339).

عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى. قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك (¬1). ومع ذلك يكفي في الاستحباب ما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فينبغي تعظيم ما يروى عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمنزلتهم عند الله سبحانه، وصحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهادهم في نشر الدين والعلم، وهذا من آحادهم، فكيف إذا كان هذا عن خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن له سنة متبعة، فلا يعظم صحابة رسول الله إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق. ¬

(¬1) صحيح البخاري (7493).

المبحث التاسع في مسح الذكر عند الفراغ من البول

المبحث التاسع في مسح الذكر عند الفراغ من البول سلت الذكر عند الفراغ من البول، ويسميه بعض الفقهاء الاستبراء: وهو طلب البراءة من البول وذلك باستخراج ما في المخرج منه، وهو خاص بالبول دون الغائط (¬1)، وقد اختلف الفقهاء في حكمه: فقيل: يجب سلت الذكر، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3). وقيل: يستحب، وهو مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وقيل: يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان من طبعه وعادته أنه لا يطهر إلا بالاستبراء فعله، ومن غلب على ظنه أنه طهر، استنجى، ولو لم يستبرئ، اختاره بعض الحنفية (¬6). ¬

(¬1) قال الدسوقي في حاشتيه (1/ 110): قوله: مع سلت ذكر، هذا خاص بالبول، وأما الغائط فيكفي في تفريغ منه الاحساس بأنه لم يبق شيء مما هو بصدد الخروج. اهـ (¬2) مراقي الفلاح (ص: 17)، حاشية ابن عابدين (1/ 344)، الدر المختار (1/ 345، 346)، نور الإيضاح (1/ 14)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 28، 29). (¬3) القوانين الفقهية (ص: 42)، التاج والإكليل (1/ 407، 408)، مواهب الجليل (1/ 182)، منح الجليل (1/ 104). (¬4) أسنى المطالب (1/ 49)، شرح البهجة (1/ 141)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 47)، تحفة المحتاج (1/ 171)، نهاية المحتاج (1/ 141)، حاشية الجمل (1/ 91). (¬5) الإنصاف (1/ 102)، مطالب أولى النهى (1/ 72)، المبدع (1/ 87)، الفروع (1/ 89)، شرح العمدة (1/ 150)، المحرر (1/ 9)، عمدة الفقه (ص: 6)، كشاف القناع (1/ 65). (¬6) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 67).

دليل من قال بوجوب الاستبراء بسلت ونحوه.

وقيل: يكره، اختاره بعض المحققين كابن تيمية (¬1)، وهو الراجح. دليل من قال بوجوب الاستبراء بسلت ونحوه. (206 - 50) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا محمد بن قدامة، قال حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان مكة أو المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى كان أحدهما لا يستبرئ من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث (¬2). وجه الاستدلال: قالوا: الاستبراء: طلب البراءة من البول، وذلك باستفراغ ما في المخرج منه، كما يقال: براءة الرحم: خلوه من الحمل. فالبراءة من البول: خلو الذكر منه، وذلك بسلته. وأجيب: بأن رواية الأكثر: لا يستتر. وفي رواية لمسلم: لا يستنزه، وهي بمعنى: لا يستتر (¬3). ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 102)، شرح العمدة (1/ 151). (¬2) النسائي (2068). (¬3) قال الحافظ في الفتح (1/ 318): قوله لا يستتر كذا في أكثر الروايات. وفي رواية ابن عساكر: " يستبرىء " بموحدة ساكنة: من الاستبراء. ولمسلم وأبي داود في حديث الأعمش " يستنزه " بنون ساكنة بعدها زاى ثم هاء. فعلى رواية الأكثر: معنى الاستتار: أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة -يعني: لا يتحفظ منه- فتوافق رواية " لا يستنزه"؛ لأنها من التنزه: وهو الابعاد. وقد وقع عند أبي نعيم في المستخرج، من طريق وكيع، عن الأعمش: كان لا يتوقى. وهي مفسرة للمراد.

دليل من قال بالسنية.

ثم لو كان الاستبراء: هو سلت الذكر لنقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعله، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت ذكره، ولا يتنحنح، ولا يمشي خطوات قبل الاستنجاء، وكل ذلك من فعل أهل الوسوسة، ومن تلاعب الشيطان ببني آدم، ولم ينقل عن الصحابة فعل ذلك، ولو فعلوه لنقل عنهم، والله أعلم. الدليل الثاني: قال محمد عليش: إن الاستبراء شرط مطلق في صحة الوضوء إجماعاً، وعلل ذلك: بأن الباقي من البول في المخرج خارج حكماً، فهو مناف للوضوء، وشرط صحة الوضوء عدم المنافي (¬1). والصحيح أن البول في الذكر ليس في حكم الخارج، ولا ينقض الوضوء إلا بخروجه من الذكر، ومشاهدته، وإذا كان كذلك لم يجب الاستبراء منه، بل نقل ابن تيمية اتفاق العلماء على أنه لا يجب إخرج البول الواقف (¬2). والغريب أن الذين قالوا بوجوب الاستبراء كالحنفية والمالكية هم الذين يقولون: إن الاستنجاء كله ليس بواجب، فلو ترك النجاسة على مخرجيه لم يجب عليه غسلها، فهلا قالوا ذلك في سلت الذكر. دليل من قال بالسنية. (207 - 51) ممكن أن يستدل له بما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا شيبان، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره بيمينه، وإذا تمسح أحدكم فلا ¬

(¬1) منح الجليل (1/ 104). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 106).

دليل من قال: لا يشرع.

يتمسح بيمينه، وأخرجه مسلم بنحوه (¬1). فقوله: لا يسمح ذكره بيمينه، مفهومه أنه يمسح ذكره بشماله، ولا يقصد فيه الاستنجاء؛ لأنه قال بعده: ولا يتمسح بيمينه. دليل من قال: لا يشرع. أولاً: أنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أرشد إليه، {وما كان ربك نسياً} (¬2). ثانياً: لأنه مضر بالصحة، يورث السلس، وما كان كذلك يحرم فعله. ثالثاً: ولأن ذلك قد ينتهي به إلى الوسواس والعياذ بالله، والوسواس غلو في الطهارة وتعد وظلم، مع ما يحمل الإنسان من تفويت للواجبات، وأحياناً في الوقوع في المحرمات. رابعاً: اعتبره ابن تيمية من البدع، قال في مجموع الفتاوى: " سلت البول بدعة، لم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحديث المروي في ذلك ضعيف لا أصل له، والبول يخرج بطبعه، وإذا فرغ انقطع بطبعه، وهو كما قيل: كالضرع، إن تركته قر، وإن حلبته در، وكلما فتح الإنسان ذكره فقد يخرج منه، ولو تركه لم يخرج منه، وقد يخيل إليه أنه خرج منه شيء، ولم يخرج، والبول يكون واقفاً في رأس الإحليل لا يقطر، فإذا عصر الذكر أو الفرج أو الثقب بحجر أو أصبع أو غيره خرجت الرطوبة، فهذا أيضاً بدعة، وذلك أن البول الواقف لا يحتاج إلى إخراج باتفاق العلماء، لا بحجر ولا أصبع، ولا غير ذلك، بل كلما أخرجه جاء غيره؛ فإنه يرشح دائماً (¬3). اهـ ¬

(¬1) البخاري (5630)، ومسلم (267). (¬2) مريم: 64. (¬3) مجمع الفتاوى (21/ 106).

وجه من قال يفعله من يحتاج إليه.

وجه من قال يفعله من يحتاج إليه. نقل النووي عن إمام الحرمين قوله: إن المختار أن هذا يختلف باختلاف الناس، والمقصود أن يظن أنه لم يبق في مجرى البول شيء يخاف خروجه، فمن الناس من يحصل له هذا المقصود بأدنى عصر، ومنهم من يحتاج إلى تكراره، ومنهم من يحتاج إلى تنحنح، ومنهم من يحتاج إلى مشي خطوات، ومنهم من يحتاج إلى صبر لحظة، ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا، وينبغي لكل أحد أن لا ينتهي إلى حد الوسوسة (¬1). اهـ قلت: إذا كان البائل يحتاج إلى شيء من ذلك فهذا دليل مرض، لا صحة؛ لأنه خلاف الطبيعة، فينبغي له طلب العلاج، والحمد لله على العافية. الراجح: أنه لا يشرع له شيء من ذلك لعدم وجود دليل يدل على المشروعية، والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع (2/ 106).

المبحث العاشر في نتر الذكر

المبحث العاشر في نتر الذكر تعريف النتر: قال في المصباح المنير: نترته نتراً من باب: قَتَلَ: جذبته في شدة، والنترة المرة، والجمع نترات، مثل سجدة وسجدات (¬1). وفي اللسان: النَّتْر: الجذب بجفاء، واستنتر الرجل بوله: اجتذبه واستخرج بقيته من الذكر عند الاستنجاء (¬2). ومنه نترني فلان بكلامه: إذا شدده لك وغلظه، واستنتر: طلب النتر، وحرص عليه، واهتم به (¬3). وحكم النتر يرجع إلى حكم الاستبراء من البول، فالقائلون بوجوب الاستبراء كالحنفية والمالكية يرون أن على البائل أن يستبرئ من بوله، سواء كان عن طريق النتر أو النحنحة أو المشي خطوات، أو عن طريق مسح الذكر، فلو توقف الاستبراء على النتر كان واجباً عندهم (¬4). وقد تكلمت في مسألة سابقة عن حكم الاستبراء بمسح الذكر من أصله إلى رأسه. ¬

(¬1) المصباح المنير (ص: 593). (¬2) اللسان (5/ 190). (¬3) الفائق في غريب الحديث (3/ 406). (¬4) انظر مواهب الجليل (1/ 282)، حاشية الدسوقي (1/ 110)، وقال الخرشي في شرح مختصر خليل (1/ 147): السلت والنتر واجبان، قال الحطاب: وهو الذي يقتضيه كلام غير واحد من أهل المذهب، وانظر حاشية العدوي (1/ 219)، الفواكه الدواني (1/ 133)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 94، 95).

دليل من قال إن النتر مشروع.

بينما الشافعية والحنابلة يرون استحباب النتر (¬1). وقيل: لا يشرع النتر، اختاره ابن تيمية رحمه الله (¬2). دليل من قال إن النتر مشروع. الدليل الأول: وجوب الاستبراء من البول، وقد سبق ذكر الأدلة عليه في مسألة مستقلة. وأجيب عليها، ويزاد: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان من أكمل الناس طهارة واستتاراً من البول، فإن كان هذا الاستبراء الذي يذكرونه من النتر والنحنحة، والمشي، والقيام والقعود الخ إن كان فعله - صلى الله عليه وسلم - فأين الدليل، وإن لم يفعله لم يكن هذا بياناً للاستتار من البول المذكور في حديث صاحب القبرين المعذبين، وفيه: "كان أحدهما لا يستتر من بوله". فلم يرشد الشرع إلا بالاستنجاء إما بماء أو بأحجار، هذا هو حقيقة الاستبراء. الدليل الثاني: قالوا: إن التوقي من البول والاحتراز منه واجب إجماعاً، وفي النتر تحقيق لذلك. والجواب: أن الذي أوجب الاحتراز من البول والتوقي منه لم يفعله، ولو ¬

(¬1) المجموع (2/ 106)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 47)، تحفة المحتاج (1/ 171)، إعانة الطالبين (1/ 112)، روضة الطالبين (1/ 66)، شرح زبد بن رسلان (ص: 55). وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/ 102)، أخصر المختصرات (ص: 90)، شرح العمدة (1/ 151)، المبدع (1/ 87)، عمدة الفقه (ص: 6)، شرح منتهى الإرادت (1/ 37). (¬2) الفتاوى الكبرى (5/ 301)، وشرح منتهى الإرادات (1/ 37)، الإنصاف (1/ 102).

الدليل الثالث

كان خيراً لفعله، ولو فعله لنقل إلينا. الدليل الثالث: (208 - 52) ما رواه أحمد، قال: حدثنا روح، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن عيسى بن يزداد، عن أبيه فساءة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). دليل من قال لا يشرع النتر. الأدلة التي استدل بها من يقول: لا يشرع سلت الذكر، يستدل بها هنا ¬

(¬1) المسند (4/ 347). (¬2) الحديث له علتان: الأولى: جهالة عيسى بن يزداد. الثاني: كونه مرسلاً. قال يحيى بن معين عن عيسى بن يزداد: لا يعرف. الجرح والتعديل (6/ 291). وقال أبو حاتم الرازي: لا يصح حديثه، وليس لأبيه صحبة، ومن الناس من يدخله في المسند على المجاز، وهو وأبوه مجهولان. المرجع السابق. وقال البخاري: عيسى بن يزداد، عن أبيه، مرسل، لا يصح. التاريخ الكبير (6/ 391). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 216). [تخريج الحديث]. الحديث رواه ابن أبي شيبة (1/ 149)، وأحمد (4/ 347) وابن ماجه (326)، وأبو داود في المراسيل (4) من طريق زمعة بن صالح. وأخرجه أحمد (4/ 347)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 381،382)، والبيهقي (1/ 113) من طريق زكريا بن إسحاق، كلاهما عن عيسى بن يزداد به.

على عدم مشروعية النتر، فلو كان النتر مشروعاً، لفعله خير الخلق، ولو فعله لنقل إلينا، هذا مع ما فيه من كونه مضراً للذكر، جالباً للوسوسة. قال ابن تيمية: التنحنح بعد البول والمشي، والطفر إلى فوق، والصعود في السلم، والتعلق في الحبل، وتفتيش الذكر بإسالته وغير ذلك كل ذلك بدعة، ليس بواجب ولا مستحب عند أئمة المسلمين، بل وكذلك نتر الذكر بدعة على الصحيح، لم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك سلت البول بدعة لم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحديث المروي في ذلك ضعيف، لا أصل له، والبول يخرج بطبعه، فإذا فرغ انقطع بطبعه، وهو كما قيل: كالضرع إن تركته قر، وإن حلبته در (¬1). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 106، 107).

المبحث الحادي عشر في استحباب قول غفرانك

المبحث الحادي عشر في استحباب قول غفرانك استحب الفقهاء أن يقول: إذا خرج من الخلاء غفرانك (¬1). والدليل على هذا: (209 - 53) ما رواه أحمد، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة، عن أبيه قال: حدثتني عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من الغائط قال غفرانك (¬2). [حديث حسن] (¬3). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: حاشية ابن عابدين (1/ 345). وانظر في مذهب المالكية: التاج والإكليل (1/ 391)، الخرشي (1/ 143)، الفوكه الدواني (2/ 333)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 106)، حاشية الصاوي (1/ 90)، منح الجليل (1/ 99). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/ 90)، شرح البهجة - الأنصاري- (1/ 115)، تحفة المحتاج (1/ 173)، نهاية المحتاج (1/ 143)، وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/ 110)، الفروع (1/ 117)، كشاف القناع (1/ 67)، مطالب أولي النهى (1/ 65)، المبدع (1/ 82)، دليل الطالب (ص: 7)، شرح العمدة (1/ 139)، حاشية الطحطاوي (ص: 36). (¬2) المسند (6/ 155). (¬3) في إسناده يوسف بن أبي بردة، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/ 226). ذكره ابن حبان في الثقات. (7/ 638). وقال العجلي: كوفي ثقة. معرفة الثقات (2/ 375). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الذهبي: ثقة. الكاشف (6427). وذكر الشوكاني وأحمد شاكر أن أبا حاتم صحح حديثه هذا. سنن الترمذي (1/ 12)، ونيل الأوطار (1/ 88). والموجود في العلل (1/ 43) قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: أصح حديث في هذا الباب حديث عائشة، يعني: حديث إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة، عن أبيه، عن عائشة. اهـ فإن كان الشوكاني وأحمد شاكر أخذا ذلك من هذه العبارة، فهي ليست صريحة في التصحيح، لأن قوله: أصح حديث في هذا الباب، لا يلزم منها تصحيح الحديث، إلا أن يكون للشيخ أحمد شاكر والشوكاني مصدر آخر غير هذا. كما صحح حديثه ابن حبان وابن خزيمة، حيث خرجاه في صحيحيهما، كما سيأتي بيانه في تخريج الحديث. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، يوسف بن أبي بردة من ثقات آل أبي موسى، ولم نجد أحداً يطعن فيه، وقد ذكر سماع أبيه من عائشة. وفي التقريب: مقبول، يقصد بشرط المتابعة، والذي يظهر لي والعلم عند الله أن يوسف أرفع من حكم الحافظ، وحديثه إن لم يكن من قبيل الحديث الصحيح، فهو من قبيل الحديث الحسن لذاته، وقد قال الترمذي: حديث حسن غريب كما في السنن (7) والله أعلم. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه أحمد (6/ 155)، وأبو داود (30) وابن الجارود (42)، والبغوي في شرح السنة (188) من طريق هاشم بن القاسم. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 11) وابن خزيمة (90)، والبيهقي في السنن (1/ 97) من طريق يحيى بن أبي بكير. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (8/ 386) والترمذي (7) والدارمي (680) من طريق مالك بن إسماعيل. وأخرجه الحاكم (1/ 158)، والبيهقي في السنن (1/ 97) من طريق عبيد الله بن موسى. وأخرجه البيهقي (1/ 97) من طريق طلق بن غنام وأبي النضر. كلهم رووه عن إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة به.

مبحث مناسبة طلب المغفرة بعد قضاء الحاجة ذكر النووي وجهين: أحدهما: أنه استغفر من ترك ذكر الله تعالى، حال لبثه على الخلاء، وكان لا يهجر ذكر الله تعالى إلا عند الحاجة (¬1). اهـ وقد تعقبه بعضهم: بأنه امتنع عن ذكر الله بأمر الله، فهو محمود في ذلك غير مذموم، ومن فعل فعلاً محموداً كان المناسب له الشكر، وليس الاستغفار. وممكن أن يقال: إن المرأة ناقصة عن الرجل في دينها، وقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم، مع أنها تركت الصلاة اتباعاً للشرع، وهي محمودة في تركها للصلاة، ولو فعلت لكانت مستحقة للذم. والذي يترجح لي أن المرأة لا تثاب على تركها للصلاة؛ لأنها ليست مكلفة في الصلاة حال حيضها، ثم تركت الصلاة لوجود عذر، وإنما هي ليست مخاطبة بالصلاة حال الحيض، بخلاف من كان من عادته فعل شيء، وكان مخاطباً به مطلوباً منه فعله، ثم تركه لعذر، فإنه يكتب له، وقد بحثت هذه المسألة في كتابي الحيض والنفاس، وذكرت أقوال أهل العلم فيها، والله أعلم. الوجه الثاني: قال النووي: إنه استغفر خوفاً من تقصيره في شكر نعمة الله تعالى التي أنعمها عليه، فقد أطعمه، ثم هضمه، ثم سهل خروجه، فرأى شكره قاصراً ¬

(¬1) المجموع (2/ 90).

عن بلوغ هذه النعمة، فتداركه بالاستغفار (¬1). اهـ الوجه الثالث: قال ابن القيم: في هذا من السر -والله أعلم- أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه، وسأل أن يخلصه من المؤذي الآخر، ويريح قلبه منه، ويخففه، وأسرار كلماته وأدعيته فوق ما يخطر بالبال (¬2). اهـ فيكون بذهاب الأذى الحسي، تذكر الأذى المعنوي: وهو الذنوب، فسأل الله المغفرة. الوجه الرابع: يذكره بعض الفقهاء، وليس له أصل. قال الخرشي: لما كان خروج الأخبثين بسبب خطيئة آدم، ومخالفة الأمر حيث جعل مكثه في الأرض، وما تنال ذريته فيها عظة للعباد، وتذكرة لما تئول إليه المعاصي، فقد روي: " أنه حين وجد من نفسه ريح الغائط، قال: أي رب، ما هذا؟ فقال تعالى: هذا ريح خطيئتك، فكان نبينا - صلى الله عليه وسلم -، يقول: حين خروجه من الخلاء: غفرانك، التفاتاً إلى هذا الأصل، وتذكيراً لأمته بهذه العظة (¬3). ولا يبعد أن يكون هذا التعليل من الإسرائيليات، خاصة أن النصارى هم الذين يرون أن بني آدم يحملون خطيئة أبيهم، فيحتاجون إلى الاستغفار عن ذنب لم يعملوه، والله أعلم. ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) إغاثة اللهفان (1/ 58، 59). (¬3) الخرشي (1/ 143).

المبحث الثاني عشر استحباب الحمد بعد الخروج من الخلاء

المبحث الثاني عشر استحباب الحمد بعد الخروج من الخلاء استحب الفقهاء أن يقول بعد خروجه من الخلاء: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني (¬1). دليل الاستحباب. الدليل الأول: (210 - 54) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا هارون بن إسحق، حدثنا عبد الرحمن المحاربي، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن وقتادة، عن أنس بن مالك قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/ 256)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 50). وانظر في مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/ 270)، الشرح الكبير (1/ 106)، القوانين الفقهية (ص: 29)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 24)، منح الجليل (1/ 99). وانظر في مذهب الشافعية: المهذب (1/ 26)، إعانة الطالبين (1/ 112)، الإقناع للشربيني (1/ 59)، روضة الطالبين (1/ 66)، شرح زبد بن رسلان (1/ 54)،. وانظر في مذهب الحنابلة: دليل الطالب (ص: 7)، الفروع (1/ 87)، المحرر (1/ 9)، الكافي في فقه أحمد (1/ 49)، والمبدع (1/ 82)، كشاف القناع (1/ 67). (¬2) سنن ابن ماجه (301). (¬3) فيه علتان: الأولى: إسماعيل بن مسلم المكي، متفق على ضعفه، قاله في الزوائد. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (211 - 55) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان ووكيع، عن سفيان، عن منصور، عن أبي علي، أن أبا ذر كان يقول إذا خرج من الخلاء: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني (¬1). [موقوف، وإسناده ضعيف] (¬2). ¬

= وقال البخاري: تركه ابن المبارك، وربما روى عنه، وتركه يحيى وابن مهدي. التاريخ الكبير (1/ 372). العلة الثانية: عنعنة عبد الرحمن المحاربي، وهو مدلس. (¬1) المصنف (1/ 12) رقم 10. (¬2) فيه أبو علي الأزدي، اسمه: عبيد بن علي، ذكره البخاري، وسكت عليه. التاريخ الكبير (5/ 455). وفي التقريب: مقبول، وباقي رجال إسناده ثقات. وقد رواه المزي في التحفة (9/ 195) من طريق ابن مهدي ومحمد بن بشر، كلاهما عن سفيان به. ورواه شعبة، واختلف عليه فيه: فرواه النسائي في اليوم والليلة كما في تحفة الأشراف (9/ 194،195) من طريق يحيى بن بكير، عن شعبة، عن منصور، عن أبي الفيض، عن أبي ذر كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. وخالف يحيى من هو أوثق منه لا سيما في شعبة، فرواه محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، قال: سمعت رجلاً يرفع الحديث إلى أبي ذر قوله. نقلاً من التحفة. ومحمد بن جعفر من أثبت الناس في شعبة. وفي العلل لابن أبي حاتم (1/ 27) رواه شعبة، عن منصور، عن الفيض بن أبي حثمة، عن أبي ذر. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (212 - 56) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان حذيفة إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله ... وذكر الحديث (¬1). ¬

= فصار شعبة تارة يرويه عن منصور عن أبي الفيض، وقيل: الفيض بن أبي حثمة. وتارة يروية عن منصور، عن رجل يرفع الحديث إلى أبي ذر. ويرويه سفيان، عن منصور، عن أبي علي الأزدي: واسمه عبيد بن علي. جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/ 27) سألت أبي عن حديث رواه شعبة، عن منصور، عن الفيض بن أبي حثمة، عن أبي ذر، أنه كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي عافاني وأذهب عني الأذى. فقال أبو زرعة: وهم شعبة في هذا الحديث، ورواه الثوري فقال: عن منصور، عن أبي علي عبيد بن علي، عن أبي ذر، وهذا هو الصحيح وكان أكثر وهم شعبة في أسماء الرجال. وقال أبي: كذا قال سفيان، وكذا قال شعبة، والله أعلم أيهما الصحيح، والثوري أحفظ، وشعبة ربما أخطأ في أسماء الرجال، ولا يدرى هذا منه أم لا؟ اهـ وقال الدارقطني في العلل (6/ 235): يرويه شعبة واختلف عنه، فرواه عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن شعبة، عن منصور، عن أبي الفيض، عن سهل بن أبي حثمة وأبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا القول بمحفوظ، وغيره يرويه عن شعبة، عن منصور، عن رجل يقال له الفيض، عن ابن أبي حثمة، عن أبي ذر موقوفاً، وهو أصح. وقد رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (539) من حديث شعبة، عن منصور، عن أبي الفيض، عن سهل بن أبي خيثمة، عن أبي ذر مرفوعاً. اهـ وقد سبق النقل من علل الدارقطني: عن سهل بن أبي خيثمة وأبي ذر. فإن رجحنا رواية سفيان، كانت علة الحديث أبا علي الأزدي، مع كونها موقوفة على أبي ذر. وإن رجحنا رواية شعبة، فإن شعبة قد اختلف عليه في الإسناد اختلافاً يرد حديثه، وقد رجح الدارقطني الرواية الموقوفة، والله أعلم. (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 12) رقم 11.

الدليل الرابع

[ضعيف جداً] (¬1). الدليل الرابع: (213 - 57) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا هريم، عن ليث، عن المنهال بن عمرو، قال: كان أبو الدرداء إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أماط عني الأذى وعافاني (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) في إسناده جويبر بن سعيد، قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء، ضعيف ما أقربه من عبيدة الضبي ومحمد بن سالم وجابر الجعفي. الجرح والتعديل (2/ 540). وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: جويبر بن سعيد كان خراسانياً ليس بالقوي. المرجع السابق. قال فيه النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (140). وقال في موضع آخر: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (2/ 106). وقال الدارقطني وعلي بن الجنيد: متروك. الكامل (2/ 122)، ميزان الاعتدال (ت1595). وقال ابن عدي: والضعف على حديثه ورواياته بين. الكامل (2/ 121، 122). وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألته -يعني أباه- عن جويبر فضعفه جداً. تهذيب التهذيب (2/ 106). وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. المرجع السابق. وقال الحاكم أبو عبد الله: أنا أبرأ إلى الله من عهدته. المرجع السابق. وفي التقريب: ضعيف جداً. (¬2) المصنف (1/ 12) رقم 13. (¬3) فيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف قد تغير، كما أن المنهال بن عمرو لم يدرك أبا الدرداء.

فصار الحديث يروى من حديث أنس مرفوعاً، وهو ضعيف، ومن حديث أبي ذر، الصواب موقوف من قوله، وفيه ضعف، وعن حذيفة، وهو ضعيف جداً، وعن أبي الدرداء موقوفاً عليه، وهو ضعيف، وعليه فلا يثبت في الباب شيء، والله أعلم. قال أبو حاتم الرازي: أصح حديث في هذا الباب -يعني في باب الدعاء عند الخروج من الخلاء -حديث عائشة (¬1). اهـ والذي فيه قول: غفرانك- وسبق الكلام عليه وقال الترمذي: لا نعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة (¬2). وضعف الحديث النووي في الخلاصة (¬3). وقال في مصباح الزجاجة: هذا حديث ضعيف ولا يصح فيه بهذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء (¬4). ¬

(¬1) العلل لابن أبي حاتم (1/ 43). (¬2) سنن الترمذي (7). (¬3) الخلاصة (1/ 171) .. (¬4) مصباح الزجاجة (1/ 44).

المبحث الثالث عشر في استحباب تنظيف اليد بعد غسل دبره

المبحث الثالث عشر في استحباب تنظيف اليد بعد غسل دبره يستحب له أن يدلك يده في الأرض أو بغيرها من المطهرات بعد غسل دبره لقطع الرائحة عنها، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يجب غسلها، وهو قول في مذهب الحنفية (¬5). وهل يشترط ذهاب الرائحة، على قولين في مذهب الحنفية (¬6). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 253)، حاشية ابن عابدين (1/ 345)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 31)، الفتاوى الهندية (1/ 6)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 50)، بدائع الصنائع (1/ 20)، بل إن الحنفية استحبوا أيضاً غسل اليد قبل الاستنجاء كما استحبوه بعد الاستنجاء، انظر الإحالات السابقة. (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 105)، التاج والإكليل (1/ 269)، الفواكه الدواني (1/ 132)، مواهب الجليل (1/ 269). قال في الشرح الصغير (1/ 96): وندب بعد فراغه من الاستنجاء أن يغسل يده التي لاقى بها الأذى حال الاستنجاء بتراب ونحوه، كأشنان وغاسول وصابون. اهـ (¬3) قال في المجموع (2/ 129): السنة أن يدلك يده بالأرض بعد غسل الدبر، ذكره البغوي والروياني وآخرون. الخ كلامه رحمه الله، وانظر حواشي الشرواني (1/ 184)، شرح زبد بن رسلان (ص: 53)، مغني المحتاج (1/ 46)، أسنى المطالب (1/ 53). (¬4) شرح العمدة (1/ 94)، كشاف القناع (1/ 66)، المغني (1/ 103)، مطالب أولي النهى (1/ 73). (¬5) قال في حاشية ابن عابدين (1/ 345): قيل: يجب غسلها -يعني اليد- لأنها تتنجس بالاستنجاء، وقيل: يسن وهذا هو الصحيح. اهـ (¬6) جاء في حاشية ابن عابدين (1/ 345): قال في السراج: وهل يشترط فيه ذهاب =

الدليل الأول

دليل الاستحباب. الدليل الأول: (214 - 58) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده ثم دلك بها الحائط ثم غسلها ثم توضأ وضوءه للصلاة فلما فرغ من غسله غسل رجليه (¬1). ولفظ مسلم: " ثم أدخل يده في الإناء، أفرغ بها على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة (¬2). ¬

= الرائحة؟ قال بعضهم: نعم. فعلى هذا لا يقدر بالمرات، بل يستعمل الماء حتى تذهب العين والرائحة. وقال بعضهم: لا يشترط، بل يستعمل حتى يغلب على ظنه أنه قد طهر، وقدروه بالثلاث. اهـ والظاهر أن الفرق بين القولين: أنه على الأول يلزمه شم يده حتى يعلم زوال الرائحة، وعلى الثاني لا يلزمه بل يكفي غلبة الظن. اهـ نقلاً من حاشية ابن عابدين. وقال في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 31): يغسل حتى يقطع الرائحة الكريهة: أي عن المحل وعن أصبعه التي استنجى بها؛ لأن الرائحة أثر النجاسة، فلا طهارة مع بقائها، والناس عنه غافلون. اهـ (¬1) صحيح البخاري (260). (¬2) صحيح مسلم (317).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (215 - 59) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرنا شريك، عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء دعا بماء، فاستنجى، ثم مسح بيده على الأرض ثم توضأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 454). (¬2) الحديث أخرجه أحمد (2/ 213) وأبو داود (45)، وابن ماجه (358)، والنسائي (50)، وابن حبان (1405) والبيهقي (1/ 106،107) من طريق شريك به. واختلف على إبراهيم بن جرير: فرواه عنه شريك، عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة كما سبق. ورواه أبان بن عبد الله البجلي، واختلف عليه: فرواه الدارمي (679) عن محمد بن يوسف. والنسائي (51) من طريق شعيب بن حرب. وابن ماجه (359) وابن خزيمة (89) من طريق أبي نعيم. والبيهقي (1/ 107) من طريق محمد بن عبد الله أبي عثمان الكوفي، أربعتهم عن أبان، عن إبراهيم بن جرير، عن أبيه جرير، فجعله أبان من مسند جرير، ولفظه: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتى الخلاء، فقضى الحاجة، ثم قال: يا جرير هات طهوراً، فأتيته بالماء، فاستنجى بالماء، وقال بيده، فدلك بها الأرض. قال النسائي: هذا أشبه بالصواب من حديث شريك. وإبراهيم بن جرير لم يسمع من أبيه، فهو منقطع. وخالفهم جماعة رووه عن أبان، عن مولى لأبي هريرة، عن أبي هريرة. ورواه محمد بن عبد الله بن الزبير كما في مسند أحمد (2/ 358) والبيهقي (1/ 107). وأبو داود الطيالسي كما في مسند أبي يعلى (6136). ومحمد بن يوسف كما في سنن الدارمي (678). ثلاثتهم رووه عن أبان، عن مولى =

والدليل الأول كاف في الاستدلال، وهذا الأدب ظاهر أثراً ونظراً، وهو شاهد على أن الدين الإسلامي ولله الحمد لم يترك صغيرة ولا كبيرة مما قد يحتاجها الإنسان إلا وقد أرشد إليها، فأين هذا من الديانات التي تدين بالقذارة والنجاسة، وصدق الله {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (¬1). وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا تجد خيراً في أي نحلة أو ملة إلا وتجد في هذه الشريعة ما هو أكمل وأتم، فلله الحمد على إكمال دينه، {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (¬2). رضينا بالله ربا، وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيناً. ¬

= لأبي هريرة، عن أبي هريرة بنحوه. ومولى أبي هريرة هذا لم أعرفه، وقد جاء في سند البيهقي، قال: وأظنه قال: أبو وهب. اهـ وأبو وهب ذكره البخاري في الكنى (751) ولم يذكر في الرواة عنه سوى حميد بن سعيد، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. فهذا الاختلاف على أبان مما يضعف روايته، فإن رجحنا رواية شريك، فإنه هو علة الحديث؛ لأنه سيء الحفظ. وإن رجحنا رواية أبان بن عبد الله فإن فيه ضعفاً، فهو من مسند جرير فيها انقطاع، ومن مسند أبي هريرة، فيها رجل مجهول، فالحديث ضعيف على أية حال، والله أعلم. (¬1) الأنعام: 38. (¬2) المائدة: 3.

المبحث الرابع عشر في البول واقفا

المبحث الرابع عشر في البول واقفاً اختلف الفقهاء في البول، والإنسان قائم: فقيل: يكره من غير عذر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: لا بأس به إن أمن التلوث والناظر، وهو نص المدونة (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5). واستحب بعض المالكية البول جالساً، وهو نص خليل في مختصره (¬6)، ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 344)، البحر الرائق (1/ 256)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 35)، الفتاوى الهندية (5/ 379)، بريقة محمودية (4/ 116). (¬2) قال في المهذب (1/ 26): ويكره أن يبول قائماً من غير عذر. اهـ وقال في المجموع (2/ 100): يكره البول قائماً بلا عذر كراهة تنزيه، ولا يكره للعذر، هذا مذهبنا. اهـ وانظر إعانة الطالبين (1/ 112)، الإقناع للشربيني (1/ 58)، روضة الطالبين (1/ 66)، أسنى المطالب (1/ 49). (¬3) الإنصاف (1/ 99). (¬4) قال في المدونة (1/ 131): وقال مالك في الرجل يبول قائما قال: إن كان في موضع رمل أو ما أشبه ذلك لا يتطاير عليه منه شيء فلا بأس بذلك، وإن كان في موضع صفا يتطاير عليه فأكره له ذلك، وليبل جالساً. (¬5) قال في الفروع (1/ 117): ولا يكره البول قائماً وفاقاً لمالك. اهـ وانظر الإنصاف (1/ 99)، شرح العمدة (1/ 147)، كشاف القناع (1/ 65)، دليل الطالب (ص: 7)، منار السبيل (1/ 26). (¬6) قال في مختصره (ص:14): ندب لقاضي الحاجة جلوس. اهـ ومقتضى ذلك أنه لا =

ولا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه. فإن كان البول واقفاً من عذر جاز بالاتفاق (¬1). الدليل الأول: لم يأت نهي من الشارع عن البول واقفاً، والأصل الإباحة حتى يأتي دليل يدل على المنع. الدليل الثاني: (216 - 60) ما رواه البخاري، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم، فبال قائماً، ثم دعا بماء، فجئته بماء فتوضأ (¬2). الدليل الثالث: (217 - 61) ما رواه أحمد، قال: أبي ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أنا ¬

= يكره؛ لأنه لا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه، وهذا ما صرح به الخرشي (1/ 141) قال: ويجوز له القيام إذا أمن الاطلاع. ونص عليه الباجي في المنتقى حيث أجاز البول واقفاً، وقال عن الجلوس بأنه أفضل، قال في المنتقى (1/ 129): البول على قدر الموضع الذي يبال فيه، فإن كان موضعاً طاهراً دمثاً ليناً يؤمن فيه تطاير البول على البائل جاز أن يبال فيه قائماً؛ لأن البائل حينئذ يأمن تطاير البول عليه، ويجوز أن يبول قاعداً؛ لأنه يأمن على ثوبه من الموضع. والبول قاعدا أفضل وأولى؛ لأنه أستر للبائل. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/ 385 - 387)، حاشية الدسوقي (1/ 104). (¬1) لم أقف على أحد منع البول قائماً لعذر، فهذا الشافعية والحنفية كرهوا البول قائماً وقيدوا الكراهة من غير عذر، انظر ما تقدم من مراجعهم. (¬2) صحيح البخاري (224) ومسلم (273) وزاد: ومسح على خفيه.

عاصم بن بهدلة وحماد، عن أبي وائل، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على سباطة بني فلان، فبال قائماً. قال حماد بن أبي سليمان: ففحج رجليه (¬1). [المحفوظ حديث أبي وائل، عن حذيفة، وحديث أبي وائل عن المغيرة وهم، والله أعلم] (¬2). ¬

(¬1) المسند (4/ 246). (¬2) الحديث رواه عاصم بن بهدلة وحماد بن أبي سليمان، عن أبي وائل عن المغيرة. وخالفهما الأعمش ومنصور، والشعبي فرووه عن أبي وائل، عن حذيفة، وهو الصواب. قال الترمذي في سننه (1/ 20): حديث أبي وائل عن حذيفة أصح. وقال الدارقطني في العلل (7/ 95) إن عاصماً وحماداً وهما فيه على أبي وائل، وقال: رواه الأعمش ومنصور، عن أبي وائل، عن حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصواب. اهـ وكذا قال البيهقي في سننه الكبرى (1/ 101). وقال ابن حجر في الفتح (1/ 329): قال الترمذي: حديث أبي وائل، عن حذيفة أصح -يعني من حديثه عن المغيرة- وهو كما قال، وإن جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين، لكون حماد بن أبي سليمان وافق عاصماً على قوله: عن المغيرة، فجاز أن يكون أبو وائل سمعه منهما، فيصح القولان معاً، لكن من حيث الترجيح؛ رواية الأعمش ومنصور أصح من رواية عاصم وحماد، لكونهما في حفظهما مقال. اهـ قلت: حديث حذيفة في الصحيحين، وسبق تخريجه. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب عن عفان. وأخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب (396)، وابن خزيمة (63) عن يونس بن محمد والطبراني في الكبير (20/ 405) رقم 966 من طريق حجاج بن منهال وأسد بن موسى، أربعتهم، عن حماد بن سلمة به. =

الدليل الرابع: (218 - 62) من الآثار، ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬

= وأخرجه ابن ماجه (306) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 101) والطبراني في الكبير (20/ 406) رقم 969، من طريق شعبة. وأخرجه عبد بن حميد (399) والبزار في البحر الزخار (2891) من طريق أبي بكر بن عياش. والطبراني في الكبير (20/ 405) رقم 966 من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، ثلاثتهم عن عاصم به. (¬1) المصنف (1/ 173). (¬2) أبو ظبيان اسمه: حصين بن جندب، من رجال الجماعة، وقد وثقه ابن معين والنسائي وأبو زرعة، والدارقطني وغيرهم. ورواه عبد الرزاق (784) عن الثوري، عن الأعمش به. وأخرجه البيهقي (1/ 288) من طريق ابن نمير، عن الأعمش به مطولاً، ولفظه: رأيت علي بن أبي طالب بالرحبة بال قائماً حتى أدعى، فأتى بكوز من ماء، فغسل يديه، واستنشق، وتمضمض، وغسل وجهه وذراعيه، ومسح برأسه، ثم أخذ كفاً من ماء، فوضعه على رأسه حتى رأيت الماء ينحدر على لحيته، ثم مسح على نعليه، ثم أقيمت الصلاة، فخلع نعليه، ثم تقدم، فأم الناس. قال ابن نمير: قال الأعمش: فحدثت إبراهيم، قال: إذا رأيت أبا ظبيان فأخبرني، فرأيت أبا ظبيان قائماً في الكناسة، فقلت: هذا أبو ظبيان، فأتاه، فسأله عن الحديث. ورواه عبد الرزاق (783) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن أبي ظبيان به. =

دليل من قال يكره البول قائما.

الدليل الخامس: (219 - 63) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن زيد، قال: رأيت عمر بال قائماً. [إسناده صحيح] (¬1). دليل من قال يكره البول قائماً. (220 - 64) ما رواه أحمد، قال: وكيع، عن سفيان، عن المقدام بن شريح بن هانئ، عن أبيه، قالت عائشة: من حدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال قائماً فلا تصدقه، ما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً منذ أنزل عليه القرآن (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

= واختلف في سماع أبي ظبيان من علي، قال في التهذيب: لا يثبت له سماع من علي. وسئل الدارقطني: ألقي أبو ظبيان علياً؟ قال: نعم. اهـ وهنا أبو ظبيان يقول: رأيت علياً. وقال الحافظ في التهذيب (226): قد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قياماً، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش، والله أعلم، ولم يثبت في النهي عنه شيء. اهـ (¬1) المصنف (1/ 115) ورجاله ثقات. (¬2) المسند (6/ 192). (¬3) الحديث رواه أحمد أيضاً (6/ 213)، وإسحاق بن راهوية في مسنده (1570) عن وكيع، وأخرجه أحمد (6/ 213) عن عبد الرحمن بن مهدي. وأخرجه أبو عوانة في مسنده (1/ 198) من طريق قبيصة. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 267) والحاكم في المستدرك (644) والبيهقي في سننه الكبرى (1/ 101) من طريق أبي نعيم، أربعتهم عن سفيان به. =

فقالوا: إن قول عائشة هذا ناسخ لحديث حذيفة. وأجيب عنه. قال الحافظ: الصواب أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن (¬1). الدليل الثاني: (221 - 65) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبول قائماً، فقال: يا عمر لا تبل قائماً، فما بلت قائماً بعد (¬2). [إسناده ضعيف جداً، ومتنه منكر] (¬3). ¬

= وأخرجه الحاكم (660) والبيهقي (1/ 101،102) من طريق إسرائيل، عن المقدام به. وأخرجه الطيالسي (1515)، وابن أبي شيبة (1/ 116)، والترمذي (12)، والنسائي (29)، وابن ماجه (307) من طريق شريك، عن المقدام به. وشريك سيء الحفظ، لكنه قد توبع. وزعم أبو عوانة في مسنده (1/ 198) أن هذا الحديث ناسخ لحديث حذيفة رضي الله عنه!! (¬1) فتح الباري (ح 226). (¬2) سنن ابن ماجه (308). (¬3) في إسناده عبد الكربم بن أبي أمية، وهو متروك، وقد خالف فيه عبيد الله بن عمر، =

ويعارضه ما تقدم عن عمر في أدلة القول الأول أن زيد بن وهب الجهني، قال: رأيت عمر بال قائماً. ¬

_ = فقد رواه عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: ما بلت قائماً منذ أسلمت، وهذا إسناد في غاية الصحة، إلا أنه موقوف على عمر، أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 116) حدثنا ابن إدريس وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر به. قال الترمذي (12): وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أيوب السختياني، وتكلم فيه، وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، فذكر حديث ابن أبي شيبة الموقوف، وقال: وهذا أصح. وأخرجه أبو عوانة (4/ 25) من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج به، وفيه زيادة النهي عن الحلف بغير الله. وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 340)، والحاكم (661)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 102) من طريق عبد الرزاق به. واختلف على ابن جريج، فرواه عبد الرزاق، عنه، عن عبد الكريم بن أبي المخارق، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر مرفوعاً. وأخرجه ابن حبان (1423) من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن نافع به، فأسقط من إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق، فصار ظاهر الإسناد الصحة. وقد قال ابن حبان: أخاف أن ابن جريج لم يسمع من نافع هذا الخبر. اهـ وخوفه متحقق، وقد قال في مصباح الزجاجة (1/ 45): هذا إسناد ضعيف عبد الكريم متفق على تضعيفه وقد تفرد بهذا الخبر، وعارضه خبر عبد الله بن عمر العمري الثقة المأمون المجمع على ثقته، ولا يغتر بتصحيح ابن حبان هذا الخبر من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر؛ فإنه قال بعده: أخاف أن يكون ابن جريج لم يسمعه من نافع، وقد صح ظنه، فإن ابن جريج سمعه من ابن أبي المخارق كما ثبت في رواية ابن ماجة هذه. اهـ

الدليل الثالث: (222 - 66) ما رواه البخاري في التاريخ الكبير (¬1)، والبزار (¬2)، والطبراني في الأوسط (¬3)، من طريق سعيد بن عبيد الله بن جبير، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده. قال البزار: لا نعلم رواه عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، إلا سعيد، ورواه عن سعيد عبد الله بن داود وعبد الواحد بن واصل. [ضعفه الترمذي وغيره] (¬4). ¬

(¬1) (3/ 496). (¬2) كما في كشف الأستار (547). (¬3) (6/ 129) رقم 5998. (¬4) قال الترمذي (1/ 18): حديث بريدة هذا غير محفوظ. فاعترض عليه العيني في شرح البخاري (3/ 135) وقال: في قول الترمذي هذا نظر؛ لأن البزار أخرجه بسند صحيح. قال العلامة المباركفوري: الترمذي من أئمة هذا الشأن، فقوله: حديث بريدة هذا غير محفوظ يعتمد عليه. وأما إخراج البزار حديثه بسند ظاهره الصحة فلا ينافي كونه غير محفوظ. اهـ ونقل هذا أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي (1/ 18). وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (74) رجاله ثقات إلا أنه معلول. قلت: القول بأن إسناده صحيح فيه نظر، فإن سعيد بن عبد الله هو ابن جبير، قال عنه الدارقطني في سؤالات الحاكم (334): ليس بالقوي يحدث بأحاديث يسندها، وغيره يوقفها. اهـ وفي التقريب: صدوق ربما وهم، وهذا من أو هامه، فإنه خالفه من هو أوثق منه، فقد =

الدليل الرابع: (223 - 67) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، قال: قال عبد الله: من الجفاء أن يبول قائماً (¬1). [المسيب لم يسمع من ابن مسعود] (¬2). الدليل الخامس: (224 - 68) ما رواه البيهقي من طريق عدي بن الفضل، عن علي، عن الحكم، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبول الرجل قائماً (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). وأجابوا عن كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بال قائماً بعدة أجوبة منها: ¬

= رواه ابن أبي شيبة (1/ 116) حدثنا وكيع، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة قال: كان يقال: من الجفاء أن يبول قائماً، ولم يرفعه. ورواه البيهقي (2/ 285) من طريق جعفر بن عون، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن بريدة، عن ابن مسعود موقوفاً عليه. (¬1) المصنف (1/ 116) رقم 1326. (¬2) قال أحمد: لم يسمع من ابن مسعود شيئاً. جامع التحصيل (ص: 281). (¬3) سنن البيهقي (1/ 102). (¬4) فيه عدي بن الفضل، ضعف البيهقي الحديث بسببه، وفي التقريب: عدي بن الفضل التيمي متروك.

الأول: أنه كان به - صلى الله عليه وسلم - وجع الصلب، وأن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب، ولا دليل على هذا. الثاني: أنه فعل ذلك لوجع في مأبضه، (225 - 69) فقد أخرج الحاكم، ومن طريقه البيهقي من طريق حماد بن غسان الجعفي، ثنا معن بن عيسى، نا مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بال قائماً من جرح كان بمأبضه. [إسناده ضعيف] (¬1). الثالث: قالوا: إنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود، فاحتاج إلى القيام، وقد يكون خشي أن يرتد عليه بوله خاصة أنه بال على سباطة القوم. الرابع: قالوا: إنما بال قائماً؛ لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح، ففعل ذلك لكونه قريباً من الديار. (226 - 70) ويؤيده ما رواه ابن المنذر، من طريق سعيد بن عمرو بن سعيد، قال: قال عمر: البول قائماً أحصن للدبر (¬2). [رجاله ثقات إلا أن سعيد بن عمرو بن سعيد لم يدرك عمر]. فالوجوه المتقدمة كلها ضعيفة، والصواب أنه فعل ذلك لبيان الجواز، بل إن العرب كانت تعد البول قاعداً من شأن المرأة. ¬

(¬1) قال الحاكم: هذا حديث صحيح، تفرد به حماد بن غسان، ورواته كلهم ثقات. قال الذهبي: حماد ضعفه الدارقطني قاله في التلخيص، وقاله في الميزان (1/ 599). وقال في الفتح: لو صح لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي. (¬2) الأوسط (1/ 116).

(227 - 71) فقد روى أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة، قال: كنت أنا وعمرو بن العاص جالسين، قال: فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه درقة أو شبهها، فاستتر بها، فبال جالساً. قال: فقلنا: أيبول كما تبول المرأة؟! قال: فجاءنا، فقال: أو ما علمتم ما أصاب صاحب بني إسرائيل؟ كان الرجل منهم إذا أصابه شيء من البول، قرضه، فنهاهم عن ذلك، فعذب في قبره (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). قال السيوطي: قال الشيخ ولي الدين العراقي: هل المراد التشبه بها في الستر أو الجلوس أو فيهما؟ محتمل، وفهم النووي الأول، فقال في شرح أبي داود: معناه أنهم كرهوا ذلك، وزعموا أن شهامة الرجال لا تقتضي الستر على ما كانوا عليه في الجاهلية. ¬

(¬1) المسند (4/ 196). (¬2) الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 115)، وأبو يعلى (932)، وأبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (5/ 52)، والنسائي في الكبرى (26)، وفي المجتبى (30) وابن ماجه (346)، وابن حبان (3127)، والحاكم (657) من طريق أبي معاوية به. وأخرجه الحميدي (882) عن سفيان. وأبو داود (22) من طريق عبد الواحد بن زياد. وأخرجه ابن الجارود (131) وابن المنذر في الأوسط (1/ 137)، والبيهقي (1/ 101) من طريق يعلى بن عبيد. وأخرجه البيهقي (1/ 104) من طريق عبيد الله بن موسى، أربعتهم عن الأعمش به.

الراجح من الخلاف

قال الشيخ ولي الدين: ويؤيد الثاني رواية البغوي في معجمه، فإن لفظها، فقال بعضنا لبعض: يبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تبول المرأة، وهو قاعد. وفي معجم الطبراني: " يبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس كما تبول المرأة " وفي سنن بن ماجة: قال أحمد بن عبد الرحمن المخزومي: كان من شأن العرب البول قائماً، ألا تراه في حديث عبد الرحمن بن حسنة يقول يقعد ويبول (¬1). الراجح من الخلاف: جواز البول واقفاً بشرطه، وهو الأمن من الناظر. وأما الأمن من التلوث فليس بشرط؛ لأن التلوث بالنجاسة ليس محرماً، وإنما يشترط أن يتخلى من النجاسة عند إرادة العبادة التي من شرطها الطهارة كالصلاة، والله أعلم. ¬

(¬1) شرح السيوطي للنسائي (1/ 28).

المبحث الخامس عشر استحباب أن يهيء ما يستجمر به قبل جلوسه

المبحث الخامس عشر استحباب أن يهيء ما يستجمر به قبل جلوسه استحب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، أن يهيء ما يستجمر به قبل جلوسه. دليل الاستحباب. الدليل الأول: (228 - 72) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (¬4). [إسناده أرجو أن يكون حسناً] (¬5). الدليل الثاني: (229 - 73) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل، ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 269)، التاج والإكليل (1/ 269)، مختصر خليل (ص: 14)، حاشية الدسوقي (1/ 105)، الخرشي (1/ 142)، القوانين الفقهية (ص: 29)، منح الجليل (1/ 98)، حاشية الصاوي (1/ 96). (¬2) المجموع (2/ 109)، تحفة المحتاج (1/ 166)، شرح البهجة (1/ 114)، روضة الطالبين (1/ 65)، مغني المحتاج (1/ 40). (¬3) كشاف القناع (1/ 60)، مطالب أولي النهى (1/ 67). (¬4) المسند (6/ 133). (¬5) سبق تخريجه في مسألة حكم الاستنجاء.

الدليل الثالث

قال: حدثنا مخلد بن خالد، قال: حدثنا ابراهيم بن خالد الصنعاني، قال: حدثنا رباح بن زيد، عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن أبي رشدين، عن سراقة بن مالك بن جعشم، أنه كان إذا جاء من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث قومه وعلمهم، فقال له رجل يوماً- وهو كأنه يلعب- ما بقي لسراقة إلا أن يعلمكم كيف التغوط؟ فقال سراقة: إذا ذهبتم الى الغائط فاتقوا المجالس على الظل، والطريق، خذوا النبل واستنشبوا على سوقكم، واستجمروا وتراً (¬1). [إسناده ضعيف مع أنه موقوف] (¬2). قال النووي: النُبَل بضم النون وفتح الموحدة: هي الحجارة الصغيرة (¬3). الدليل الثالث: من النظر، قالوا: لأنه إذا لم يعد الأحجار أو الماء، وتحرك لتحصيل المزيل ربما انتشرت النجاسة فلا يكفيه إلا الماء، وربما تلوثت ثيابه بالنجاسة، فكان الأفضل أن يعدها قبل جلوسه ليزيلها مباشرة. ¬

(¬1) الأوسط (5198). (¬2) انظر تخريجه في مسألة البول في الطريق والظل النافع. (¬3) المجموع (2/ 109).

الفصل الثاني في آداب قضاء الحاجة المتعلقة بالمكان

الفصل الثاني في آداب قضاء الحاجة المتعلقة بالمكان ويشتمل على اثني عشر مبحثاً: المبحث الأول: في طلب المكان الرخو. المبحث الثاني: في استحباب الاستتار. المبحث الثالث: في حكم استقبال الريح حال البول. المبحث الرابع: في حكم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط. المبحث الخامس: في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء. المبحث السادس: في استقبال النيرين (الشمس والقمر). المبحث السابع: في البول في الطريق والظل النافع وتحت شجرة مثمرة. المبحث الثامن: في البول في المسجد. المبحث التاسع: في البول في الشق ونحوه. المبحث العاشر: في البول على القبر. المبحث الحادي عشر: في البول في الإناء المبحث الثاني عشر: في التحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء.

المبحث الأول في طلب المكان الرخو

المبحث الأول في طلب المكان الرخو يستحب أن يطلب لبوله موضعاً رخواً، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). دليل المشروعية. الدليل الأول: الإجماع. قال النووي: وهذا الأدب متفق على استحبابه (¬2). الدليل الثاني: أن طلب المكان الرخو مشروع حتى يأمن التلوث بالبول، حتى لا يرتد عليه رشاش من بوله. (230 - 74) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: الفتاوى النهدية (1/ 50). وفي مذهب المالكية: الشرح الكبير (1/ 107)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 129)، والتاج والإكليل (1/ 402)، مواهب الجليل (1/ 268)، الخرشي (1/ 145)، الشرح الصغير (1/ 88)، منح الجليل (1/ 100). وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/ 98)، المهذب (1/ 26)، المنهج القويم (1/ 76)، الإقناع للشربيني (1/ 58)، حواشي الشرواني (1/ 169)، أسنى المطالب (1/ 48). وفي مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 60)، مطالب أولي النهى (1/ 66)، المغني (1/ 108)، المبدع (1/ 82)، المحرر (1/ 9)، الكافي (1/ 50)،. (¬2) المجموع (2/ 98).

الدليل الثالث

يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). قال الشوكاني: إن كان البول في الصلب مما يتأثر عنه عود شيء منه إلى البائل، فتجنب ذلك واجب؛ لأن التلوث به حرام، وما يتسبب عن الحرام حرام (¬2). الدليل الثالث: (231 - 75) ما رواه أحمد، قال: حدثنا بهز، حدثنا شعبة، حدثنا أبو التياح، عن شيخ لهم، عن أبي موسى، قال: مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دمث إلى جنب حائط، فبال قال: شعبة فقلت لأبى التياح جالساً قال لا أدري قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم البول قرضوه بالمقاريض، فإذا بال أحدكم فليرتد لبوله (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري (216)، ومسلم (292). (¬2) السيل الجرار (1/ 66). (¬3) المسند (4/ 399). (¬4) إسناده ضعيف لإبهام شيخ أبي التياح. والحديث أخرجه الطيالسي (519)، ومن طريقه الحاكم في المستدرك (5964). وأخرجه البيهقي (1/ 93،94) من طريق وهب بن جرير. وأخرجه أحمد (4/ 396) حدثنا محمد بن جعفر. وأخرجه أبو داود (3) ومن طريقه البيهقي (1/ 93،94) من طريق حماد بن سلمة. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 329) من طريق المقرئ، كلهم عن شعبة به. =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (232 - 76) روى الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا بشر بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، ثناسعيد بن زيد، عن واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عبيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبوأ لبوله كما يتبوأ لمنزله (¬1). [إسناده ضعيف]. قال السيوطي: يتبوأ بالهمز لبوله كما يتبوأ لمنزله: أي يطلب موضعاً يصلح كما يطلب موضعاً يصلح للسكنى، يقال: تبوأ منزلاً: أي اتخذه، فالمراد: اتخاذ محل يصلح للبول فيه. قال الحافظ العراقي: واستعمال هذه اللفظة على جهة التأكيد، والمراد: أنه يبالغ في طلب ما يصلح لذلك، ولو قصر زمنه، كما يبالغ في استصلاح المنزل الذي يراد للدوام، وفيه أنه يندب لقاضي الحاجة أن يتحرى أرضاً لينة من نحو تراب أو رمل، لئلا يعود عليه الرشاش، ¬

= والحديث صححه الحاكم، وضعفه ابن المنذر في الأوسط (1/ 329). (¬1) ورواه ابن عدي في الكامل (3/ 377) من طريق أبي عاصم. ورواه الحارث بن أسامة كما في المطالب العالية (35) من طريق يحيى بن إسحاق. كلاهما عن سعيد بن زيد، عن واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عبيد، عن أبيه، قال: وذكره، ولم يذكر أبا هريرة. ورواه سعيد بن يعقوب الأصبهاني في كتابه في الصحابة كما في المطالب العالية (1/ 154) من طريق وكيع، عن سعيد بن زيد، عن واصل مولى بن عينة، عن عبيد بن صيفي، عن أبيه مرفوعاً. قال الهيثمي في المجمع (1/ 204): رواه الطبراني في الأوسط، وهو من رواية يحيى بن عبيد بن دجي، عن أبيه، ولم أر من ذكرهما، وبقية رجاله موثقون. وضعفه السيوطي في الجامع الصغير (495).

الدليل الخامس

فينجسه، فإذا لم يجد إلا صلبة لينها بنحو عود، والله أعلم (¬1). الدليل الخامس: (233 - 77) روى الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا الحكم بن موسى، نا الوليد-هو ابن مسلم- عن الوليد بن سليمان بن أبي السائب، عن طلحة بن أبي قنان، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يبول فوافى عزازاً من الأرض أخذ عوداً فنكت به في الأرض حتى يثير التراب، ثم يبول فيه (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). الدليل السادس: (234 - 78) ما رواه ابن عدي في الكامل (¬4)، وابن حبان في المجروحين (¬5)، من طريق عمر بن هارون البلخي، عن الأوزاعي، عن يحيى ¬

(¬1) الجامع الصغير (495). (¬2) المطالب العالية (36). (¬3) الحديث له أكثر من علة: منها: الإرسال، فقد نص البخاري في التاريخ الكبير بأن رواية طلحة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة. التاريخ الكبير (4/ 347). ومنها عنعنة الوليد بن مسلم، وبه أعله البوصيري في الإتحاف (1/ 356). ومنها جهالة طلحة بن أبي قنان، قال ابن القطان كما في فيض القدير (5/ 94): لم يذكر عبد الحق لهذا علة إلا الإرسال وطلحة هذا لا يعرف بغير هذا. اهـ والحديث ذكره أبو داود في المراسيل في أول حديث فيه (ص: 73) بنحوه. (¬4) الكامل (5/ 31). (¬5) المجروحين (2/ 91).

بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبوأ للبول، كما يتبوأ الرجل لنفسه منزلاً. [إسناده ضعيف جداً] (¬1). ¬

(¬1) فيه عمر بن هارون البلخي، وهو متروك.

المبحث الثاني في استحباب الاستتار

المبحث الثاني في استحباب الاستتار ويشتمل على خمسة فروع: الفرع الأول: استحباب الابتعاد عن أعين الناس إن كان في الفضاء. الفرع الثاني: في وجوب ستر العورة عن الناس عند قضاء الحاجة. الفرع الثالث: في رفع الثوب قبل الدنو من الأرض. الفرع الرابع: إذا لم يتمكن الإنسان من قضاء الحاجة إلا بالنظر إلى عورته. الفرع الخامس: إذا اضطر إلى كشف العورة أمام الغير لقضاء الحاجة.

الفرع الأول استحباب الابتعاد عن أعين الناس إن كان في الفضاء

الفرع الأول استحباب الابتعاد عن أعين الناس إن كان في الفضاء ذكر المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، إلى أنه يندب لقاضي الحاجة إذا كان في الفضاء التباعد عن الناس. دليل المشروعية. الدليل الأول: (235 - 79) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن مغيرة بن شعبة، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال: يا مغيرة خذ الإداوة، فأخذتها، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني، فقضى حاجته. الحديث، ورواه مسلم (¬4). الدليل الثاني: (236 - 80) ما رواه مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ وعبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، قالا: حدثنا مهدي -وهو ابن ميمون- حدثنا ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 275)، حاشية الدسوقي (1/ 106)، التاج والإكليل (1/ 275)، مختصر خليل (ص:15)، الشرح الكبير (1/ 106)، الشرح الصغير (1/ 91). (¬2) المجموع (2/ 92)، المهذب (1/ 26)، التنبيه (ص: 17)، أسنى المطالب (1/ 45)، الإقناع للشربيني (1/ 58)، روضة الطالبين (1/ 66)، شرح البهجة (1/ 114). (¬3) كشاف القناع (1/ 60)، الروض المربع (1/ 35)، مطالب أولي النهى (1/ 66)، أخصر المختصرات (ص: 90)، الفروع (1/ 82)، شرح العمدة (1/ 143)، المحرر (1/ 9). (¬4) صحيح البخاري (363)، مسلم (274).

الدليل الثالث

محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم خلفه، فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته هدف، أو حائش نخل (¬1). الدليل الثالث: (237 - 81) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، وكان إذا ذهب أبعد في المذهب، فذهب لحاجته وقال يا مغيرة اتبعني بماء فذكر الحديث .. (¬2). [إسناده حسن، والحديث صحيح] (¬3). ¬

(¬1) مسلم (342). (¬2) المسند (4/ 248). (¬3) رجاله ثقات إلا محمد بن عمرو، وهو صدوق. والحديث أخرجه الدارمي (660)، والطبراني في الكبير (20/ 437) رقم 1064، وابن المنذر في الأوسط (1/ 321) من طريق يعلى بن عبيد به. وأخرجه أبو داود (1) والطبراني في الكبير (20/ 436) رقم 1062من طريق الدراوردي. وأخرجه الترمذي (20) من طريق عبد الوهاب الثقفي. وأخرجه النسائي (17) والطبراني في الكبير (20/ 436) رقم 1063، وابن خزيمة (50)، والحاكم في المستدرك (488) من طريق إسماعيل: هو ابن جعفر بن أبي كثير القارئ. =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (238 - 82) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي جعفر الخطمي، قال: حدثنا عمارة بن خزيمة والحارث بن فضيل، عن عبد الرحمن بن أبي قراد قال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجاً، فرأيته خرج من الخلاء، فاتبعته بالإداوة أو القدح، فجلست له بالطريق، وكان إذا أتى حاجته أبعد (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

= وابن ماجه (331) والطبراني في الكبير (20/ 437) رقم 1065من طريق إسماعيل بن علية. وأخرجه البيهقي (1/ 93) من طريق يزيد بن هارون. كلهم من طريق محمد بن عمرو به. وأخرجه الدارمي (661) قال: أخبرنا أبو نعيم، حدثنا جرير بن حازم، عن ابن سيرين، عن عمرو بن وهب، عن المغيرة بن شعبة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تبرز تباعد. ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 321). وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات، وجرير بن حازم أخرج له الجماعة، وإنما ضعفه ابن معين وأحمد وابن عدي في قتادة خاصة، وإذا حدث من حفظه ربما وهم، والحديث قد جاء في الصحيحين بنحوه، وسبق تخريجه انظر 235. (¬1) المسند (3/ 443). (¬2) رجاله كلهم ثقات، وقد قال الحافظ في أبي جعفر عمير بن يزيد: صدوق، والحق أنه ثقة، فقد وثقه يحيى بن معين. الجرح والتعديل (6/ 379). وقال النسائي أيضاً: ثقة. تهذيب التهذيب (. . .) وحسبك بهما. كما وثقه ابن نمير والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات. معرفة الثقات (2/ 192)، ثقات ابن حبان (7/ 272)، تهذيب التهذيب (8/ 134). وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان أبو جعفر وأبوه وجده قوماً يتوارثون الصدق بعضهم عن بعض. تهذيب التهذيب (8/ 134). =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (239 - 83) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا مسدد بن مسرهد، حدثنا عيسى بن يونس، أخبرنا إسمعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= وقال الطبراني في الأوسط: ثقة. المرجع السابق. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 100) رقم 1129 وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (4/ 224)، والنسائي (16)، وفي الكبرى (17)، وابن ماجه (334) وابن خزيمة (51) من طرق عن يحيى بن سعيد القطان به. وفي العلل لابن أبي حاتم (1/ 57) سئل أبو زرعة عن حديث رواه يحيى بن سعيد القطان، عن أبي جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة والحارث بن فضيل، عن عبد الرحمن بن قراد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء، ورواه غندر، عن شعبة، عن أبي جعفر المديني، عن عمارة بن عثمان بن حنيف، قال: حدثني القيس أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى بماء فغسل يده مرة، وغل وجهه وذراعيه مرة، وغسل رجليه مرة بيديه كلتيهما. فقال أبو زرعة: الصحيح حديث يحيى بن سعيد القطان. اهـ قلت: حديث شعبة الذي أشار إليه ابن أبي حاتم أخرجه أحمد (5/ 368)، والنسائي (113). (¬1) سنن أبي داود (2). (¬2) الحديث فيه علتان: الأولى: فيه إسماعيل بن عبد الملك. قال عمرو بن على: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن إسماعيل بن عبد الملك بن أبى الصفيراء. الجرح والتعديل (2/ 186). =

الدليل السادس

الدليل السادس: (240 - 84) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن خثيم، عن يونس بن خباب، عن يعلى بن مرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد (¬1). [إسناده فيه ضعف] (¬2). ¬

= وقال عمرو بن على: رأيت عبد الرحمن -يعنى بن مهدى- وذكر إسماعيل بن عبد الملك، وكان قد حمل عن سفيان عنه، فقال: اضرب على حديثه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث، وليس حده الترك. قيل: يكون مثل أشعث بن السوار في الضعف؟ فقال: نعم. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان سيء الحفظ، ردئ الفهم، يقلب ما يروي. المجروحين (1/ 121). وفي التقريب: صدوق كثير الوهم. العلة الثانية: عنعنة أبي الزبير عند من يعتبره مدلساً. [تخريج الحديث]. الحديث رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 321) وعبد بن حميد في مسنده (1053)، والدارمي في المقدمة (17) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 223) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل بن عبد الملك به، مطولاً، وفيه قصة اجتماع الشجرتين ليستتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهما، وفيه أيضاً أن امرأة عرضت صبياً على رسول - صلى الله عليه وسلم - وكان فيه مس من شيطان، فأخرجه منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 101) ومن طريقه ابن ماجه (335) مختصراً، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأتي البراز حتى يتغيب فلا يرى. (¬1) سنن ابن ماجه (333). (¬2) فيه يونس بن خباب، جاء في ترجمته: قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما تعجبنا الرواية عن يونس =

الدليل السابع

الدليل السابع: (241 - 85) ما رواه أبو يعلى في مسنده، قال: حدثني أبو بكر الرمادي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع -يعني: ابن عمر- عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذهب لحاجته إلى المغمس. قال نافع: نحو ميلين عن مكة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

= بن خباب. الجرح والتعديل (9/ 238). وقال يحيى بن سعيد أيضاً: كان كذاباً. ميزان الاعتدال (9911). وقرئ على العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: يونس بن خباب رجل سوء. الجرح والتعديل (9/ 238). وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: يونس بن خباب لا شيء. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: مضطرب الحديث ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال الجوزجاني: كذاب مفتر. أحوال الرجال (22). وقال العجلي: كوفى، أظنه قال: شيعى خبيث يقال: إنه كان يقول عثمان قتل ابنتى النبي - صلى الله عليه وسلم -. معرفة الثقات (2/ 377). وقال الدراقطني كان رجل سوء، فيه شيعية مفرطة، كان يسب عثمان، وحين سمعه عباد بن عوام يتهم عثمان بقتل ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال له: قتل واحدة فلم زوجه الأخرى؟!! الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/ 224). قال في مصباح الزجاجة (1/ 49): إسناده ضعيف، لضعف يونس بن خباب. (¬1) مسند أبي يعلى (5626). (¬2) الحديث أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه (2/ 609) حدثنا عمر بن الخطاب. وأخرجه الطبراني (12/ 451) رقم 13638، حدثنا عمرو بن أبي الطاهر بن السرح =

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (242 - 86) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا محمد بن بكار، حدثنا يوسف بن عطية، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انطلق لحاجته تباعد حتى لا يكاد يرى (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

= ويحيى بن أيوب العلاف المصريان، كلهم عن سعيد بن أبي مريم به. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 203): رواه أبو يعلى، والطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات من أهل الصحيح. (¬1) مسند أبي يعلى (3664). (¬2) في إسناده يوسف بن عطية، جاء في ترجمته: قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (8/ 387)، والأوسط (2/ 223). قال يحيى بن معين كما في رواية الدوري عنه: ليس بشيء. الجرح والتعديل (9/ 226). وقال عمرو بن علي: كثير الوهم والخطأ. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى وأبا زرعة عن يوسف بن عطية أبى سهل الصفار فقال: ضعيف الحديث، زاد أبو حاتم: منكر الحديث. المرجع السابق. وقال العجلي: ضعيف الحديث. معرفة الثقات (2/ 375). وقال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين (617)، والكامل (7/ 153). وقال أبو داود: ليس بشيء. تهذيب التهذيب (11/ 367). وقال ابن عدي: عامة حديثه مما لا يتابع عليه. الكامل (7/ 153). وقال الذهبي: مجمع على ضعفه. ميزان الاعتدال (9885). وفي التقريب: متروك. والحديث أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (1253) من طريق سعيد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بن منصور، ثنا يوسف بن عطية، عن عطاء بن أبي ميمونة، ثنا أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الفضل بن عباس أن يعد له طهوراً، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته، وكان إذا كانت له حاجة تباعد حتى لا يكاد يرى، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجته أقبل راجعاً، فمر بامرأة عند قبر ميت لها، وهي تعدد وتعول، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها، وهي لا تعرفه، فقال لها: اتقي الله واصبري. قالت: يا عبد الله إذهب لحاجتك. فقال لها ثلاثاً، ثم انصرف، فجاء، فأخذ المطهرة من الفضل، فقام الفضل، فأتى المرأة، فقال لها: ما قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقامت، فقالت: يا ويلها! هذا رسول الله، ولم أعرفه، فسعت حتى لحقته على باب المسجد، فقالت: يا رسول الله، والله ما عرفتك. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصبر عند الصدمة الأولى، قالها ثلاثاً. وهذه الزيادة من تخليط يوسف بن عطية، وحديث أنس في البخاري (1283)، ومسلم (926)، وليس فيه زيادة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الفضل بن عباس أن يعد له طهوراً، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته، وكان إذا كانت له حاجة تباعد حتى لا يكاد يرى" فهي زيادة منكرة. وذكره البوصيري في الإتحاف (640)، وقال: هذا إسناد ضعيف: عطاء بن أبي ميمونة ضعفه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة والبخاري وأبو داود والنسائي، والعجلي وابن المديني، والدارقطني وغيرهم. اهـ قلت: ينبغي أن تكون علته يوسف بن عطية، فإن عطاء بن أبي ميمونة قد وثقه يحيى بن معين وأبو زرعة والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح لا يحتج بحديثه، وكان قدرياً. وقال ابن عدي: في بعض أحاديثه بعض ما ينكر عليه. ووثقه يعقوب بن سفيان، واحتج به الجماعة سوى الترمذي، وليس له في البخاري سوى حديثه عن أنس في الاستنجاء، وفي التقريب: ثقة. فأقل أحواله أن يكون حسناً. وقد خولف فيه يوسف بن عطية، فقد أخرج الشيخان البخاري (150)، ومسلم (271) من طريق شعبة. وأخرجه البخاري (217)، ومسلم (271) من طريق روح بن القاسم. وأخرجه مسلم (270) من طريق خالد الحذاء، كلهم رووه عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء، يعني: يستنجي به. =

الدليل التاسع

الدليل التاسع: (243 - 87) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب ¬

_ = وأخرجه البزار كما في كشف الأستار (238) من طريق الأعمش، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد حاجة أبعد. والأعمش لم يسمع من أنس. وأخرجه ابن ماجه (332) قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا عمرو بن عبيد، عن عمر [وفي المطبوع محمد، وهو خطأ والتصحيح من تحفة الأشراف (1/ 288)] بن المثنى، عن عطاء الخراساني، عن أنس قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فتنحى لحاجته، ثم جاء، فدعا بوضوء، فتوضأ. وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه عمرو بن عبيد التيمي. حدث أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن يونس قال: كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث. الجرح والتعديل (6/ 246). وقال الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: عمرو بن عبيد ليس بشيء. المرجع السابق. وقال عمرو بن على: كان متروك الحديث، صاحب بدعة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: كان متروك الحديث. المرجع السابق. وفي التقريب: اتهمه جماعة، مع أنه كان عابداً. وفيه أيضاً: عمر بن المثنى قال عنه الحافظ في التقريب: مستور.

الدليل العاشر

بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬1). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬2). ولو كان الحديث صحيحاً لكان الاستتار واجباً؛ فإذا كان تركه يفضي إلى أن يتلاعب بمقاعد بني آدم، كيف يكون الاستتار مستحباً. الدليل العاشر: (245 - 89) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا هاشم بن مرثد، ثنا آدم، نا حبان بن علي، نا سعد بن طريف الإسكاف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الحاجة أبعد المشي، فانطلق ذات يوم لحاجته، ثم توضأ، ولبس أحد خفيه، فجاء طائر أخضر، فأخذ الخف الآخر، فارتفع به، ثم ألقاه، فخرج منه أسود سابح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذه كرامة أكرمني الله بها، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إني أعوذ بك من شر من يمشي على بطنه، ومن شر من يمشي على رجلين، ومن شر من يمشي على أربع (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). هذه الأدلة من السنة، وقد كان يكفي ذكر الصحيح عن الضعيف، لكن أردت أن أستوعب تخريج الأحاديث لمن أراد أن ينظر في صحتها، والله أعلم. ¬

(¬1) المسند (2/ 371). (¬2) وسبق تخريجه في حكم الاستنجاء. (¬3) المعجم الأوسط (9304). (¬4) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 203) فيه سعد بن طريف متهم بالوضع.

الدليل الحادي عشر

الدليل الحادي عشر: استدلوا على مشروعية الإبعاد في الفضاء بالإجماع. قال النووي: وهذان الأدبان -يعني: البعد والاستتار- متفق على استحبابهما (¬1). وابتعاد الإنسان هل يشرع للبول والغائط، أو للغائط فقط؟ فقد يقال يشرع للغائط فقط، (246 - 90) لما أخرج مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا أبو خيثمة، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً، فتنحيت فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه. وأخرجه البخاري (¬2). فهنا بال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر حذيفة أن يكون قريباً منه: فقيل: فعله لبيان الجواز. وقيل: استدناه ليستتر به عن أعين الناس، واستدبره حذيفة، (247 - 91) فقد روى الطبراني من حديث عصمة بن مالك، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض سكك المدينة، فانتهى إلى سباطة قوم، فقال: يا حذيفة استرني، وسكت عليه الحافظ في الفتح. وقيل: فعله؛ لأنه في البول خاصة، وهو أخف من الغائط؛ لاحتياجه إلى زيادة تكشف، ولم يقترن به من الرائحة. ولإن الغرض من الإبعاد هو التستر، ¬

(¬1) المجموع (2/ 92). (¬2) البخاري (224)، ومسلم (273).

وهو حاصل لمن بال قائماً بإرخاء ذيله، ودنوه من الساتر. وقيل: فعله؛ لأنه بال قائماً، ولو بال قاعداً لتباعد، فلا بأس لمن بال قائماً أن يبول بقرب الناس؛ لأن البول قائماً أحصن للدبر (¬1)، وقد روي عن عمر، ولا أظنه يصح. (248 - 92) فقد روى ابن المنذر، حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن مطرف، عن سعيد بن عمرو بن سعيد، قال: قال عمر: البول قائماً أحصن للدبر (¬2). [ورجاله كلهم ثقات إلا أن سعيد بن عمرو بن سعيد لم يدرك عمر]. (249 - 93) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن إدريس وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر: مابلت قائماً منذ أسلمت (¬3). [إسناده صحيح]. ¬

(¬1) انظر فتح الباري حديث (225)، والأوسط (1/ 222). (¬2) الأوسط (1/ 322)، والأثر أخرجه البيهقي (1/ 102) من طريق إسحاق به. (¬3) المصنف (1/ 116).

الفرع الثاني في وجوب ستر العورة عن الناس عند قضاء الحاجة

الفرع الثاني في وجوب ستر العورة عن الناس عند قضاء الحاجة يجب ستر العورة عن الناس (¬1). أدلة وجوب ستر العورة والدليل على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} (¬2). (250 - 94) ومن السنة: ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وإسماعيل بن إبراهيم، عن بهز قال: حدثني أبي، عن جدي قال قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قال قلت يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال إن استطعت أن لا يراها أحد فلا ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (2/ 185)، شرح معاني الآثار (1/ 476)، المبسوط (10/ 155)، العناية شرح الهداية (10/ 28)، درر الحكام (1/ 313،314)، واعتبر الزيلعي النظر إلى عورة الغير موجباً للفسق انظر تبيين الحقائق (3/ 194). وانظر في مذهب المالكية: حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/ 736)، والخرشي (1/ 246)، حاشية العدوي (2/ 456)، المنتقى شرح الموطأ (2/ 2). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/ 237)، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 115)، وطرح التثريب (2/ 227) و (6/ 103)، وحاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 320). وانظر في مذهب الحنابلة: الفتاوى الكبرى (1/ 284،300)، الإنصاف (8/ 28)، كشاف القناع (1/ 265). (¬2) النور: 30.

يرينها قلت فإذا كان أحدنا خاليا قال فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه. حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز فذكر مثله قال فالله عز وجل أحق أن يستحيا منه ووضع يده على فرجه (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬

(¬1) المسند (5/ 3، 4). (¬2) [تخريج الحديث]. الحديث مداره على بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وهذا الإسناد إسناد حسن لذاته. أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وأبو داود (4017)، والترمذي (2769)، والنسائي في الكبرى (8972)، والروياني في مسنده (911) من طريق يحيى بن سعيد القطان. وأخرجه أحمد كما في حديث الباب، والبيهقي (1/ 199) و (2/ 225)، والروياني في مسنده (928) من طريق إسماعيل بن علية. وأخرجه عبد الرزاق (1106)، ومن طريقه أحمد (5/ 4)، والطبراني في الكبير (19/ 414) رقم 996. عن معمر. وأخرجه أحمد (5/ 4)، والطبراني في الكبير (19/ 412) رقم 991. من طريق حماد بن زيد. وأخرجه الترمذي (2794)، والروياني في مسنده (928)، والبيهقي (1/ 199) و (2/ 225) من طريق معاذ بن معاذ. وأخرجه الترمذي (2794)، وابن ماجه (1920)، والحاكم (7358)، والطبراني في الكبير (19/ 413) رقم 994 من طريق يزيد بن هارون. وأخرجه البيهقي (7/ 94) من طريق سفيان. وأخرجه أبو داود (4017) من طريق مسلمة بن قعنب. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (251 - 95) روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، عن الضحاك بن عثمان قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد (¬1). الدليل الثالث: من الإجماع. قال النووي: ستر العورة عن العيون واجب بالإجماع (¬2). ونقل الإجماع معه جماعة (¬3). ¬

= وأخرجه ابن ماجه (1920) من طريق حماد بن أسامة. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/ 413) رقم 992. من طريق حماد بن سلمة. وأخرجه أيضاً (19/ 413) رقم 993. من طريق عيد بن الفضل. وأخرجه أيضاً (19/ 413) رقم 995. من طريق النضر بن شميل. وأخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (863) والطبراني في الكبير (19/ 413) رقم 995 من طريق عيسى بن يونس. كلهم رووه عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعاً. ورواه البخاري تعليقاً، ذكره قبل حديث (278) جازماً به. قال الحافظ في الفتح: الإسناد إلى بهز صحيح، ولهذا جزم به البخاري. وصححه الشوكاني في السيل الجرار (1/ 68). (¬1) صحيح مسلم (338). (¬2) المجموع (3/ 171). (¬3) انظر موسوعة الإجماع (2/ 844).

الفرع الثالث في رفع الثوب قبل الدنو من الأرض

الفرع الثالث في رفع الثوب قبل الدنو من الأرض استحب الفقهاء أن لا يرفع ثوبه قبل الدنو من الأرض، وبعضهم عبر بكراهة رفع الثوب. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: يحرم، وهي رواية عن الإمام أحمد (¬2). وقيل: يجوز بلا كراهة، يعني: ولم يكن ثم ناظر ينظر إلى عورته (¬3). قال الطيبي: يستوي فيه الصحراء والبنيان؛ لأن رفع الثوب فيه كشف العورة، وهو لا يجوز إلا عند الحاجة، ولا ضرورة في الرفع قبل القرب من الأرض (¬4). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/ 256)، الفتاوى الهندية (1/ 50)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 36). وفي مذهب المالكية: التاج والإكليل (1/ 269)، مواهب الجليل (1/ 269)، الخرشي (1/ 142)، حاشية الدسوقي (1/ 105). وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/ 98)، المهذب (1/ 26)، روضة الطالبين (1/ 66)، المنهج القويم (ص: 76)،. وفي مذهب الحنابلة: المغني (1/ 108)، الفروع (1/ 115،116)، الإنصاف (1/ 95)، المبدع (1/ 80)، شرح العمدة (1/ 401)، الكافي (1/ 50)، كشاف القناع (1/ 61). (¬2) الفروع (1/ 116). (¬3) اختارها ابن تميم من الحنابلة، انظر الفروع (1/ 116). (¬4) شرح المشكاة (. . .) وهذا الكلام حسن، إلا أنه جعل كشف العورة لا يجوز مطلقاً حتى ولو لم يكن هناك ناظر، وهي مسألة خلافية.

دليل من قال: يستحب أن لا يرفع ثوبه من الأرض.

دليل من قال: يستحب أن لا يرفع ثوبه من الأرض. الدليل الأول: الإجماع، قال النووي: هذا الأدب مستحب بالاتفاق. الدليل الثاني: (252 - 96) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (253 - 97) ما رواه الطبراني، من طريق الحسين بن عبيد الله العجلي، ثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، ¬

(¬1) سنن أبي داود (14). (¬2) ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 96). وفيه رجل مبهم، واختلف على الأعمش، فرواه وكيع، عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عمر. ورواه أبو داود (14) والترمذي (14) والدارمي (666) من طريق عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن أنس بنحوه، ولم يسمع الأعمش من أنس. قال أبو داود في سننه بعد أن ساق حديث الباب: ورواه عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن أنس بن مالك، وهو ضعيف. وفي علل الترمذي (ص: 25) ذكر الحديث من مسند أنس ومن مسند ابن عمر، ثم قال: فسألت محمداً عن هذا الحديث أيهما أصح؟ - يعني: مسند أنس أم مسند ابن عمر- فقال: كلاهما مرسل، ولم يقل أيهما أصح. اهـ

دليل من قال: يحرم كشف ثوبه قبل دنوه من الأرض.

عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض (¬1). [موضوع] (¬2). دليل من قال: يحرم كشف ثوبه قبل دنوه من الأرض. الدليل الأول: قال دلت السنة على تحريم كشف العورة، ولو كان الإنسان خالياً. (254 - 98) لما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وإسماعيل بن إبراهيم عن بهز قال حدثني أبي، عن جدي قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قال قلت: يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه (¬3). [إسناده حسن] (¬4) ¬

(¬1) مجمع البحرين (343). (¬2) ورواه ابن عدي في الكامل (2/ 364) من طريق الحسين بن عبيد الله العجلي به. وفيه الحسين بن عبيد الله العجلي. قال الدارقطني: كان يضع الحديث. ميزان الاعتدال (2024). وقال ابن عدي: يشبه أن يكون ممن يضع الحديث. الكامل (2/ 364). (¬3) المسند (5/ 3، 4). (¬4) سبق بحثه، انظر ح 250.

وجه الاستدلال: قال ابن حجر: ظاهر حديث بهز يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقاً. اهـ قلت: لأن وجوب ستر العورة عن الناس لا ينازع فيه أحد، فإذا كان الله أحق أن يستحيا منه من الناس، كان ستر العورة خالياً أولى بالمنع هذا ما يفيده قوله: " فالله أحق" كما استدل به في قوله: " اقضوا الله فالله أحق بالقضاء" (255 - 99) فقد روى البخاري، قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: إن أختي قد نذرت أن تحج، وإنها ماتت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقض الله، فهو أحق بالقضاء (¬1). وكونه ثبت عن موسى وأيوب عليهما السلام اغتسالهما عريانين، فهذا في شريعتهما، وقد جاء في شريعتنا ما يدل على وجوب ستر العورة خالياً. قال الشوكاني: أصل ستر العورة الوجوب، فلا يحل كشف شيء منها إلا لضرورة، كما يكون عند خروج الحاجة، فالاستتار قبل حالة الخروج واجب، فيكشف عورته حالا الانحطاط لخروج الخارج، لا حال كونه قائماً، ولا حال كونه ماشياً إلى قضاء الحاجة (¬2). اهـ ¬

(¬1) صحيح البخاري (6699). (¬2) السيل الجرار (1/ 64).

وممكن أن يجاب. بأن يقال: قوله: فالله أحق بالقضاء، هذا التعبير لا يدل على الوجوب، فالصيام عن الميت، ووفاء نذره لا يجب على غير الميت، ولكن القضاء عنه من الوفاء له والبر به، لكن الأصل في العبادة أنها واجبة على الإنسان نفسه، لكن إن تطوع أحد من الورثة كان محسناً، فلا يدل تعبير " فالله أحق " على وجوب قضاء العبادة عن الميت، وبالتالي لا يدل على وجوب ستر العورة والإنسان خالياً، والله أعلم.

الفرع الخامس: إذا اضطر إلى كشف العورة أمام الغير لقضاء الحاجة

الفرع الخامس (*): إذا اضطر إلى كشف العورة أمام الغير لقضاء الحاجة إذا لم يتمكن الإنسان من قضاء الحاجة إلا بالنظر إليه، فعل ذلك بعد أن يأمرهم بكف أبصارهم، وبالانكار عليهم إن لم يفعلوا؛ لأن كشف العورة محرم لغيره (¬1)، فتبيحه مجرد الحاجة، فكيف وهو هنا مضطر إلى كشفها، ولذلك يجوز كشف عورته للتداوي مع أن التداوي ليس بواجب، ولو تركه لا يلام. وأما الاستنجاء فيتركه، ولا يجب عليه فعله مع النظر إليه؛ لأن إزالة النجاسة ليست واجبة على الفور، ويحاول تخفيفها وتقليلها بنحو حجر ونحوه من تحت ساتر ما أمكن (¬2)، والله أعلم. ¬

(¬1) المحرمات قسمان: محرم لذاته لا تبيحه إلا الضرورة، كأكل الميتة. ومحرم لغيره تبيحه مجرد الحاجة، ويذكر العلماء له أمثلة، منها ربا الفضل، فقد أبيحت العرايا، مع أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز؛ لأن الرطب ينقص إذا جف، وأبيح لمجرد حاجة التفكه؛ لأن الرجل عنده تمر، ولكن ليس معه نقود يشتري رطباً، فأباح الشرع له بيع الرطب بالتمر بشروط معروفة ليس هذا مجال ذكرها. وأباح الشرع لبس ثوب الحرير للرجل إذا كان للتداوي من حكة ونحوها. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 549)، مراقي الفلاح (ص: 20). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هكذا بالمطبوع: (الفرع الخامس)، وقبله مباشرة (الفرع الثالث)، والله أعلم.

المبحث الثالث في كراهية استقبال الريح

المبحث الثالث في كراهية استقبال الريح يكره استقبال الريح حال البول، وهو مذهب الجمهور (¬1). دليل الكراهة. الدليل الأول: (256 - 100) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا روح، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا خرج أحدكم لغائط أو بول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستقبل الريح (¬2). [زيادة ولا يستقبل الريح زيادة منكرة انفرد بها ابن لهيعة، وحديث أبي هريرة في صحيح مسلم وليس فيه هذه الزيادة] (¬3). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/ 256)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 34). وانظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/ 1/107)، التاج والإكليل (1/ 275،276)، مواهب الجليل (1/ 276)، مختصر خليل (ص: 15)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 91). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/ 109)، أسنى المطالب (1/ 49)، شرح البهجة للأنصاري (1/ 121)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 45)، تحفة المحتاج (1/ 169)، زبد بن رسلان (ص: 53). وانظر في مذهب الحنابلة: دليل الطالب (ص: 7)، الإنصاف (1/ 100)، منار السبيل (1/ 25)، المغني (1/ 107)، شرح منتهى الإرادت (1/ 34). (¬2) شرح معاني الآثار (4/ 233). (¬3) حديث أبي هريرة في مسلم (265) من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة، بلفظ: إذا جلس أحدكم على حاجته، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. اهـ

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (257 - 101) ما رواه الدارقطني من طريق مبشر بن عبيد، حدثني الحجاج بن أرطاة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثم مر سراقة بن مالك المدلجي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن التغوط، فأمره أن يتنكب القبلة ولا يستقبلها ولا يستدبرها، ولا يستقبل الريح، وأن يستنجي بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب. قال الدارقطني: لم يروه إلا مبشر بن عبيد، وهو متروك الحديث (¬1). وجاء من مسند سراقة مرفوعاً، والراجح وقفه (¬2). الدليل الثالث: (258 - 102) ما رواه ابن عدي، من طريق يوسف بن السفر بن الفيض أبو الفيض، ثنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره البول في الهواء. ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 56). (¬2) قال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 36): سألت أبي عن حديث رواه أحمد بن ثابت فرخويه، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن أبي رشدين الجندي، عن سراقة بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، واتقوا مجالس اللعن والظل، وقارعة الطريق، واستمخروا الريح، واستنشبوا على سوقكم، وأعدوا النبل. قال أبي: أن مايروونه موقوف وأسنده عبد الرزاق بآخرة. اهـ وانظر الكلام على طرق الحديث وتخريجه في مسألة النهي عن البول في الطريق والظل النافع، والله أعلم.

الدليل الرابع

حكم عليه ابن عدي بالوضع (¬1). الدليل الرابع: (259 - 103) قال الحافظ: روى ابن قانع عن الحضرمي رفعه: إذا بال أحدكم فلا يستقبل الريح ببوله، فترده عليه. قال الحافظ: وإسناده ضعيف جداً (¬2). الدليل الخامس: من النظر أن في استقبال الريح قد يتلوث بالنجاسة بأن ترد عليه بوله. هذا ما وقفت عليه مما ورد في الباب، والمعتمد في الكراهة التعليل، وإلا فالدليل لا يثبت فيه شيء، والله أعلم. ¬

(¬1) الكامل (7/ 163)، ومن طريق ابن عدي أخرجه البيهقي في السنن (1/ 98). قال ابن عدي: وهذه الأحاديث، عن يحيى، عن أبى سلمة مع غيرها بهذا الإسناد يرويها كلها يوسف بن السفر، وهي موضوعة كلها. اهـ وقال الحافظ في التلخيص (1/ 107): وفي إسناده يوسف بن السفر، وهو ضعيف. اهـ قلت: لا يكفي قول الحافظ بأنه ضعيف، فقد قال الجوزجاني عن يوسف: كان يكذب. أحوال الرجال (285). وقال دحيم: ليس بشيء. الجرح والتعديل (9/ 223). وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث جداً. المرجع السابق. وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الأوسط (2/ 223). وقال النسائي: ليس بثقة. لسان الميزان (6/ 322). وقال الدارقطني: متروك الحديث يكذب. المرجع السابق. (¬2) تلخيص الحبير (1/ 107).

المبحث الرابع في حكم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط

المبحث الرابع في حكم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط اختلف العلماء في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة إلى سبعة أقوال، فقيل: يحرم مطلقاً، وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬1)، ورجحه من المالكية ابن العربي (¬2)، ورواية في مذهب أحمد (¬3)، واختاره ابن حزم (¬4). وهو قول أبي أيوب الأنصاري، وأبي هريرة، وابن مسعود، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والثوري، وأبي ثور، وعطاء، والأوزاعي وغيرهم. وقيل: يجوز مطلقاً، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وعروة، وربيعة، وداود (¬5). وقيل: يحرم استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء، ويجوز في البنيان ونحوه، وهو مذهب المالكية (¬6)،والشافعية (¬7)، ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (4/ 236)، حاشية ابن عابدين (1/ 341)، البحر الرائق (1/ 256)، نور الإيضاح (ص: 16)، مراقي الفلاح (ص: 22). (¬2) عارضة الأحوذي (1/ 27). (¬3) تصحيح الفروع (1/ 111). (¬4) المحلى (1/ 189، 190). (¬5) المنتقى شرح الموطأ (1/ 336). (¬6) المدونة (1/ 117)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 336)، مواهب الجليل (1/ 279)، التمهيد (1/ 309)، التاج والإكليل (1/ 403)، الخرشي (1/ 146)، حاشية الدسوقي (1/ 108). (¬7) الأم (1/ 176)، المجموع (1/ 92)، اختلاف الحديث (ص: 227)، حلية العلماء =

دليل من قال بالتحريم مطلقا في الصحراء والبنيان.

والحنابلة (¬1)، ونسبه الحافظ في الفتح إلى الجمهور، واختاره البخاري في صحيحه، قال ابن حجر: وهو أعدل الأقوال. وقيل: يكره استقبال القبلة واستدبارها، وهو الراجح. وقيل: يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء والبنيان، ويحل الاستدبار فيهما، وهو رواية عن أبي حنيفة، وأحمد (¬2). وقيل: يجوز الاستدبار في البنيان فقط، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: إن التحريم مختص بأهل المدينة، ومن كان على سمتها، وأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقاً، وهذا أضعف الأقوال، والله أعلم. دليل من قال بالتحريم مطلقاً في الصحراء والبنيان. الدليل الأول: (260 - 104) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: ¬

= (1/ 159)، متن أبي شجاع (ص: 18)، الإقناع للشربيني (1/ 56)، روضة الطالبين (1/ 65). (¬1) المغني (1/ 107)، الفروع (1/ 82)، الإنصاف (1/ 100)، كشاف القناع (1/ 64)، الكافي (1/ 50). (¬2) الإنصاف (1/ 101). (¬3) الإنصاف (1/ 101).

الدليل الثاني

فقدمنا الشأم، فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة، فننحرف ونستغفر الله تعالى، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال من الحديث: أن النهي عن استقبال القبلة واستدبارها مطلق، فيشمل ما إذا كان في الصحراء أو في البنيان، وهذا هو الذي فهمه أبو أيوب راو الحديث رضي الله عنه، فإنه كان ينحرف عن القبلة في المرحاض، وهو بنيان، ويستغفر الله؛ لأنه اعتبر ذلك ذنباً ممن فعله، ومشروع للمسلم أن يستغفر الله إذا رأى كثرة المعاصي حتى لا تشمله عقوبة عامة، وغضب من الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (¬2). الدليل الثاني: (261 - 105) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن خراش، حدثنا عمر بن عبد الوهاب، حدثنا يزيد -يعني: ابن زريع- حدثنا روح، عن سهيل، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها (¬3). ولم يستثن الحديث من ذلك شيئاً، فوجب أن يشمل الصحراء والبنيان. الدليل الثالث: (262 - 106) ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن ¬

(¬1) صحيح البخاري (394)، ومسلم (264). (¬2) الأنفال: 33. (¬3) صحيح مسلم (265).

الدليل الرابع

عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء، حتى الخراءة؟! قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬1). الدليل الرابع: (263 - 107) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن حرب الموصلي، حدثنا القاسم بن يزيد الجرمي، عن إبراهيم بن طهمان، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يستقبل القبلة، ولم يستدبرها في الغائط كتب له حسنة، ومحي عنه سيئة. قال الطبراني: لم يروه عن يحيى إلا حسين، ولا عنه إلا إبراهيم، ولا عنه إلا القاسم، تفرد به أحمد [إسناده حسن] (¬2). ¬

(¬1) صحيح مسلم (262). (¬2) مجمع البحرين (342). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 206): رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح، إلا شيخ الطبراني وشيخ شيخه، وهما ثقتان. وإليك تراجم إسناده: شيخ الطبراني: هو أحمد بن محمد بن صدقة، ثقة حافظ. انظر تاريخ بغداد (5/ 40)، والتذكرة (745). الثاني: أحمد بن حرب الموصلي. روى له النسائي، وقال عنه: لا بأس به. =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (264 - 108) ما رواه البزار في مسنده، قال: حدثنا الحسن بن يحيى وإبراهيم بن عبد الله قالا: نا مسدد، قال: نا حصين بن نمير قال: نا سفيان بن حسين، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قال رجل من المشركين لعبد الله: إني لأحسب صاحبكم قد علمكم كل شيء، حتى علمكم كيف تأتون الخلاء. قال: إن كنت مستهزئاً، فقد علمنا أن لا نستقبل القبلة بفروجنا، وأحسبه قال: ولا نستنجي بأيماننا، ولا نستنجي بالرجيع، ولا نستنجي بالعظم، ولا نستنجي بدون ثلاثة أحجار (¬1). ¬

= وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: أدركته، ولم أكتب عنه. الجرح والتعديل (2/ 49). وفي التقريب: صدوق. الثالث: القاسم بن يزيد الجرمي. قال أحمد: ما علمت إلا خيراً. وقال أبو حاتم: صالح، وهو ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما خالف. (9/ 16) وقال يحيى بن معين: ليس به بأس، ثقة. وقال أحمد بن أبي رافع: حدثنا القاسم بن يزيد الجرمي، وكان من خير أهل زمانه. وقال أبو زكريا يزيد بن محمد الأزدي: كان فاضلاً ورعاً حسناً من المعدودين في أصحاب سفيان. وإبراهيم بن طهمان ومن فوقه على شرط الشيخين. فالسند حسن إن شاء الله تعالى، وما أشار إليه الطبراني من التفرد، هو علة لو كان تفرد بشيء لا يحتمل تفردهم به، أما كون التفرد من قبيل أنه حسنة، فإنه معلوم من الشرع أن ما يأمر الله به من الطاعات، ففعله يكتب حسنة، فالحديث لم ينفرد بشيء يوجب رده، والله أعلم. (¬1) مسند البزار (1492) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = دراسة الإسناد: حصين بن نمير، قال أبو زرعة: ثقة. الجرح والتعديل (3/ 197). وقال أبو حاتم: صالح، ليس به بأس. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 208). وروى عباس الدوري عن ابن معين قال: ليس بشيء. وروى إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح ذكره النباتي. ميزان الاعتدال (2101). وفي التقريب: لا بأس به. روى له البخاري حديثاً واحداً (3410): عرضت علي الأمم. الحديث، وقد تابعه عليه جماعة. الثاني: سفيان بن حسين الواسطي. قال أحمد بن حنبل في رواية المروذي: ليس هو بذاك، في حديثه عن الزهري شيء. وقال المروذي في رواية أخرى: سألته عن سفيان بن حسين، كيف هو؟ قال: ليس بذاك، وضعفه. بحر الدم (ص: 179). وقال أبو حاتم الرازي: صالح الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به، هو نحو محمد بن إسحاق، وهو أحب إلي من سليمان بن كثير. الجرح والتعديل (4/ 227). وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس، وليس من أكابر أصحاب الزهرى. وقال ابن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول سفيان بن حسين الواسطي، ثقة، وكان يؤدب المهدي، وهو صالح، حديثه عن الزهرى قط ليس بذاك، إنما سمع من الزهرى بالموسم. المرجع السابق. قال عثمان بن أبي شيبة: كان ثقة، ولكنه كان مضطرباً في الحديث. وقال محمد بن سعد: ثقة يخطىء في حديثه كثيراً. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ثقة، وفي حديثه ضعف، وقد حمل الناس عنه. وقال النسائي: ليس به بأس إلا في الزهري. وقال أبو أحمد بن عدي: هو في الزهري صالح الحديث، وفي الزهري يروي أشياء خالف الناس. =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (265 - 109) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث -يعني: ابن سعد، عن يزيد -يعني: ابن أبي حبيب- أنه سمع عبد الله بن الحارث الزبيدي يقول: أنا أول من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبولُ أحدكم مستقبل القبلة، وأنا أول من حدث الناس بذلك (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

= وقال ابن خراش: لين الحديث. نقلاً من تهذيب الكمال (11/ 141). والحكم ومن فوقه رجال ثقات مشهورون. وقد اختلف فيه على الأعمش. فرواه مسلم من طريق أبي معاوية والثوري ووكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان. وخالفهم سفيان بن حسين، فرواه، عن الحكم، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، ويغلب على ظني أن سفيان أخطأ فيه، ولذلك قال البزار بعد أن ساق الحديث: قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن الحكم إلا سفيان بن حسين، ولا نعلم رواه عن حصين بن نمير إلا مسدد، وإنما يعرف هذا الحديث من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان. ورواه منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 205): رواه البزار، ورجاله موثوقون. (¬1) المسند (4/ 190). (¬2) الحديث رجاله ثقات، وقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 139) رقم 1609 وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2485) عن شبابة. وأخرجه أحمد (4/ 191) حدثنا حجاج بن محمد. وأخرجه ابن ماجه (317) حدثنا محمد بن رمح المصري. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 232) من طريق ابن وهب. والطبراني في الأوسط (6/ 313) رقم 6500 من طريق رشدين بن سعد كلهم عن =

الدليل السادس.

الدليل السادس. أن العلة في النهي تكريم القبلة، ولذلك قال: لا تستقبلوا القبلة. وهذا موجود في الصحاري والبنيان، ولو كان مجرد الحائل كافياً لجاز في الصحاري لوجود الجبال والأشجار بيننا وبين الكعبة، وأما جهة القبلة فلا حائل بيننا وبينها. قال ابن العربي: ظاهر الأحاديث يقتضي أن الحرمة إنما هي للقبلة، لقوله: " لا تستقبلوا القبلة " فذكرها بلفظها، فأضاف الاحترام لها. اهـ (266 - 110) على أن الدارقطني روى في سننه، قال: نا محمد بن إسماعيل الفارسي، ثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد، نا عبد الرزاق، عن زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، قال: سمعت طاووساً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى أحدكم البراز، فليكرم قبلة الله، فلا يستقبلها، ولا يستدبرها، ثم ليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب، ثم ليقل: الحمد لله الذي أخرج ما يؤذيني، وأمسك ما ينفعني (¬1). ¬

= الليث بن سعد به. وأخرجه أحمد (4/ 190) وعبد بن حميد (487) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 232) من طريق عبد الحميد بن جعفر، حدثني يزيد بن حبيب به. وهذه متابعة تامة لليث بن سعد. وأخرجه أحمد (4/ 190) من طريق ابن لهيعة. وابن حبان (1419) من طريق غوث بن سليمان بن زياد، كلاهما عن سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث به. (¬1) سنن الدراقطني (1/ 57)، ومن طريقه رواه البيهقي (1/ 111).

دليل من قال بالجواز مطلقا.

[إسناده ضعيف، ورفعه منكر، والصواب وقفه على طاووس] (¬1). دليل من قال بالجواز مطلقاً. الدليل الأول: الأصل الحل، فلا يجوز المنع إلا بدليل لا معارض له، وقد نظرنا في الأدلة فإذا هي متعارضة، فلم يجب العمل بشيء منها، فرجعنا إلى الأصل، وهو الحل (¬2). الدليل الثاني: (267 - 111) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد بن جبر، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا عن أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة (¬3). ¬

(¬1) زمعة بن صالح ضعيف، وقد خالفه سفيان بن عيينة، فرواه الدارقطني (1/ 58) من طريق سفيان بن عيينة، عن سلمة بن وهرام، أنه سمع طاووس يقول: نحوه، ولم يرفعه. قال: قلت لسفيان: أكان زمعة بن صالح يرفعه؟ قال: نعم. فسألت سلمة عنه، فلم يعرفه. يعني: لم يعرف رفعه. وروي موصولاً عن طاووس، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواه الدارقطني، وقال: لم يسنده إلا الحسن المضري، وهو كذاب متروك. فصار الراجح عن طاووس من قوله؛ لأن سفيان أرجح من زمعة. (¬2) التمهيد (3/ 109). (¬3) المسند (3/ 360).

[إسناده حسن] (¬1). ¬

(¬1) إسناده حسن، رجاله ثقات إلا محمد بن إسحاق، وهو صدوق، وقد صرح بالتحديث، وأما أبان بن صالح، فقد قال المزي في الأطراف: أبان بن صالح ضعيف. قلت: تابع المزي رحمه الله ابن عبد البر وابن حزم، فقد قال ابن عبد البر كما جاء في التهذيب: أبان بن صالح ضعيف. وقال ابن حزم: ليس بالمشهور، فتعقبهما الحافظ في التهذيب، وقال: هذه غفلة منهما، وخطأ تواردا عليه، فلم يضعف أبان أحد قبلهما، وقد جاء في التهذيب: قال ابن معين والعجلي ويعقوب بن أبي شيبة، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. انظر الجرح والتعديل (2/ 297)، معرفة الثقات (1/ 198)، الثقات (6/ 67)، تهذيب الكمال (2/ 9). وفي حاشية سبط ابن العجمي على الكاشف، ذكر عن العراقي أنه وهم المزي في تضعيفه لأبان. وفي التقريب: وثقه الأئمة، ووهم ابن حزم فجهله، وابن عبد البر فضعفه. اهـ [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وابن الجارود (31)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 234)، وابن حبان (1420)، والدارقطني (1/ 58،95)، والحاكم (552)، والبيهقي (1/ 92) من طريق إبراهيم بن سعد. وأخرجه أبو داود (13)، وابن ماجه (325)، والترمذي (9)، وابن خزيمة (58) من طريق جرير بن حازم. قال الترمذي: حديث جابر حديث حسن غريب. واختلف على جابر، فروي عنه كما سبق من مسنده. ورواه أحمد (5/ 300) ثنا حسن بن موسى وموسى بن داود. ورواه الترمذي (10) حدثنا قتيبة. ورواه الطبراني في الأوسط (1/ 61) من طريق سعيد بن أبي مريم. كلهم عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن أبي قتادة، أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - =

ولا يعتبر هذا الحديث مخالفاً لحديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة حتى يضعف لذلك، بل هو موافق لها في كونه نهى عن استقبال القبلة أولاً، ولكنه زاد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رآه يفعل ذلك، ومخرج الحديث ليس واحداً حتى يقال بشذوذه، فلا أجد مناصاً من قبوله. وقد أجيب عنه بأجوبة منها: أولاً: أنه حكاية فعل للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يقدم على القول، ولا يعارضه أيضاً، فيحتمل أن يكون خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والقول تشريع للأمة. وهذا الاحتمال ضعيف؛ لأن الأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬1)، حتى يأتي دليل صحيح صريح بأن ذلك خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: يحتمل أن فعله لبيان الجواز، ولبيان أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة فقط. وهذا هو الذي يتمشى مع القواعد. ¬

= يبول مستقبل القبلة. فجعله ابن لهيعة من مسند أبي قتادة. قال الترمذي: وحديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصح من حديث ابن لهيعة، وابن لهيعة ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه. وقال الطبراني: لا يروى عن أبي قتادة إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة. ورواه أحمد (3/ 12) حدثنا موسى بن داود ووراه أيضاً (3/ 15) حدثنا حسن بن موسى. ورواه ابن ماجه (320) من طريق مروان بن محمد، كلاهما عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، حدثني أبو سعيد الخدري، أنه شهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه زجر أن تستقبل القبلة لبول. ولفظ ابن ماجه بغائط أو ببول. (¬1) الأحزاب: 21.

الدليل الثالث

وقيل: يحتمل أن كان يبول إلى ساتر، ولا يتعين الساتر أن يكون بناء؛ لأن ذلك هو المعهود من حاله - صلى الله عليه وسلم - لمبالغته في التستر، ولا فرق في الساتر بين الجدار والدابة وكثيب الرمل، ونحوها. الدليل الثالث: (268 - 112) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد فعلوها؟ استقبلوا بمقعدتي القبلة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (6/ 137). (¬2) الحديث فيه أكثر من علة: الأولى: خالد بن أبي الصلت. قال البخاري: خالد بن أبي الصلت عامل عمر بن عبد العزيز، عن عمر بن عبد العزيز وعراك مرسل. التاريخ الكبير (3/ 155). وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (3/ 336). وقال أحمد: ليس معروفاً. تهذيب التهذيب (3/ 84). وقال ابن حبان: من متقني أهل المدينة، وكان عامل عمر بن عبد العزيز عليها. مشاهير علماء الأمصار (1032). وقال الذهبي: لا يكاد يعرف. ميزان الاعتدال (2435). وقال ابن حزم: مجهول. فتعقبه ابن مفوز، فقال: هو مشهور بالرواية، معروف بحمل العلم، ولكن حديثه معلول. تهذيب التهذيب (3/ 84). وقال ابن عبد البر: ليس خالد بن أبي الصلت بمجهول، لأنه يروي عنه خالد الحذاء والمبارك بن فضالة، وواصل مولى ابن عيينة، وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز، فكيف يقال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فيه: مجهول؟ قلت: إن انتفت عنه جهالة العين، فهو مستور إذ لم يوثقه أحد، ولذلك قال في التقريب: مقبول. العلة الثانية: الاختلاف في سماع عراك من عائشة. فقد جزم الإمام أحمد بأن عراكاً لم يسمع من عائشة، فجاء في المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 162،163): قال أحمد بن هانئ سمعت أبا عبد الله وذكر حديث خالد بن أبي الصلت، عن عراك، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حولوا مقعدتي ... الحديث فقال: مرسل. فقلت له: عراك بن مالك، قال: سمعت عائشة رضي الله عنها، فأنكره، وقال: عراك من أين سمع عائشة، ماله ولعائشة؟ إنما يروي عن عروة، هذا خطأ ". اهـ الثالثة: أن في إسناده اختلافاً كثيراً، والصواب وقفه، كما رجحه البخاري وغيره. قال البخاري: قال موسى، حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت: كنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال عراك بن مالك: سمعت عائشة قالت، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: حولوا مقعدي إلى القبلة بفرجه. وقال موسى: حدثنا وهيب، عن خالد، عن رجل، أن عراكاً حدث عن عمرة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن بكير: حدثني بكر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك، عن عروة، أن عائشة كانت تنكر قولهم لا تستقبل القبلة. قال البخاري: وهذا أصح. التاريخ الكبير (3/ 155). وفي علل الترمذي (ص: 24): هذا حديث فيه اضطراب، والصحيح عن عائشة قولها. اهـ وقال أبو حاتم الرازي: لم أزل اقفو أثر هذا الحديث حتى كتبت بمصر عن اسحاق بن بكر بن مضر أو غيره، عن بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عروة، عن عائشة موقوف، وهذا أشبه. العلل لابن أبي حاتم (ح50). [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أبو داود الطيالسي (1541)، وأحمد كما في حديث الباب، وأيضاً (6/ 219،227،239)، وابن أبي شيبة (1/ 140) رقم 1613، وإسحاق بن راهوية (1095)، وابن ماجه (324)، والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 155)، والطحاوي في شرح =

قال ابن حزم: حديث عائشة ساقط؛ لأن روايه خالد الحذاء، وهوثقة، عن خالد بن أبي الصلت، وهو مجهول. ثم قال: ولو صح لما كان لهم فيه ¬

_ = معاني الآثار (4/ 234)، والدراقطني (1/ 59،60)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 326) من طريق حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك، عن عائشة به. ورواه أحمد (6/ 184)، وإسحاق بن راهوية (1096)، والدارقطني (1/ 59) والبيهقي (1/ 92) من طريق علي بن عاصم، عن خالد الحذاء به. وقيل: عن خالد الحذاء، عن عراك، دون ذكر خالد بن أبي الصلت. رواه إسحاق بن راهوية (1094) والدراقطني (1/ 59) من طريق أبي عوانة، والقاسم بن مطيب، ويحيى بن مطر فرقهم، عن خالد الحذاء، عن عراك، عن عائشة. وقيل: عن خالد الحذاء، عن رجل، عن عراك، عن عائشة. رواه ابن أبي شيبة (1/ 140) وأحمد (6/ 183)، وإسحاق بن راهوية في مسنده (1093)، والدارقطني (1/ 60) من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن خالد به، بنحوه. وقيل: عن عراك، عن عروة، عن عائشة موقوفاً عليها. ساقه البخاري في التاريخ الكبير (3/ 155)، وابن أبي حاتم في العلل (ح 50)، وذكرنا تصويب البخاري وأبي حاتم الرازي لهذا الطريق على غيره، وأن المعروف أن الحديث موقوف على عائشة، والله أعلم. والغريب مع هذا الاختلاف الكبير في إسناده مما يجعل الباحث يميل إلى اضطرابه لولا أن البخاري وأبا حاتم رجحا وقفه على عائشة، تجد النووي يقول في شرحه لصحيح مسلم بأن إسناده حسن. ويقول الكناني في مصباح الزجاجة (1/ 47): وهذا الذي علل به البخاري ليس بقادح، فالإسناد الأول حسن رجاله ثقات معروفون، وقد أخطأ من زعم أن خالد بن أبي الصلت مجهول، أقوى ما علل به هذا الخبر أن عراكاً لم يسمع من عائشة، نقلوه عن الإمام أحمد، وقد ثبت سماعه منها عند مسلم، رواه الدارقطني في سننه من هذا الوجه، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه كما رواه ابن ماجه عنه. اهـ

الدليل الثالث

حجة، لأن نصه يبين أنه إنما كان قبل النهي؛ لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط، ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك، هذا ما لا يظنه مسلم، ولا ذو عقل، وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم، فلو صح لكان منسوخاً بلا شك. الدليل الثالث: (269 - 113) استدل بعضهم بما رواه البخاري، قال: عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: إن ناساً يقولون إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر: لقد ارتقيت يوماً على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته. الحديث (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استقبال القبلة واستدبارها، فكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - استدبر القبلة في حديث ابن عمر، وحديث جابر دليل على جواز استقبالها، فهذا دليل على أن النهي عن الاستقبال والاستدبار منسوخ، وأن الاستقبال والاستدبار كلاهما جائز. ونوزع هذا الاستدلال بما يلي: أما القائلون بتحريم الاستقبال والاستدبار، فأجابوا عن حديث ابن ¬

(¬1) صحيح البخاري (148)، ومسلم (266).

عمر بما يلي: يحتمل أن يكون فعل ابن عمر قبل النهي عن استدبار القبلة، لأنه على البراءة الأصلية. قال ابن حزم: " ليس فيه -يعني: حديث ابن عمر- أن ذلك كان بعد النهي، وإذا لم يكن ذلك فيه، فنحن على يقين من أن ما في حديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل أن ينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وهذا ما لا شك فيه، فحكم حديث ابن عمر منسوخ قطعاً بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، هذا يعلم ضرورة، ومن الباطل المحرم ترك اليقين بالظنون، وأخذ المتيقن نسخه، وترك المتيقن أنه ناسخ، وقد رجحنا في غير هذا المكان أن كل ما صح أنه ناسخ، لحكم منسوخ، فمن المحال الباطل أن يكون الله تعالى يعيد الناسخ منسوخاً، والمنسوخ ناسخاً، ولا يبين ذلك تبياناً لا إشكال فيه، إذ لو كان هذا لكان الدين مشكلاً غير بين، ناقصاً غير كامل، وهذا باطل، قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (¬1) وقال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} (¬2). انتهى كلام ابن حزم (¬3). وقالوا أيضاً: إن حديث ابن عمر فعل، وأحاديث النهي قول، والقول مقدم على الفعل؛ لأن الفعل قد يكون فعله معذوراً أو ناسياً بخلاف القول، وقد يكون الفعل خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) المائدة: 3. (¬2) النحل: 44. (¬3) المحلى (1/ 191).

دليل من فرق بين الصحراء والبنيان.

والجواب: أن الأصل عدم العذر والنسيان، وكونه خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - سبق الجواب عليه. وقالوا أيضاً: إننا لو أخذنا به لكان ليس فيه إلا جواز الاستدبار، وليس فيه جواز الاستقبال. وهذا القول بناء على أن حديث جابر لم يثبت عندهم، أو لم يطلعوا عليه، وسبق لنا أنه حديث حسن إن شاء الله تعالى. أما القائلون بالتفريق بين الصحراء وغيرها، فأجابوا عن حديث ابن عمر: بأن حديث ابن عمر دليل على جواز ذلك في البنيان، وأن المنع مختص بالصحراء؛ لأننا لما رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل القبلة واستدبرها، واستحال أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نهى عنه، علمنا أن الحال التي استقبل فيها القبلة واستدبرها غير الحال التي نهى عنها، فأنزلنا النهي عن ذلك في الصحاري، والرخصة في البيوت؛ لأن حديث ابن عمر في البيوت، ولم يصح لنا أن يجعل أحد الخبرين ناسخاً للآخر؛ لأن الناسخ يحتاج إلى تاريخ، أو دليل لا معارض له، ولا سبيل إلى القول بالنسخ ما وجد إلى استعمال الدليلين، والقول بالنسخ إبطال لأحدهما (¬1). دليل من فرق بين الصحراء والبنيان. الدليل الأول: حملوا حديث أبي أيوب الأنصاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. ورواه ¬

(¬1) التمهيد بتصرف (3/ 106).

مسلم (¬1). ومثله حديث سلمان وابن مسعود وأبي هريرة حملوا هذه الأحاديث على الصحراء. وحملوا حديث ابن عمر رضي الله عنهما: لقد ارتقيت يوماً على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته. الحديث (¬2). على جواز استدبار القبلة إذا كان ذلك في البنيان. وحملوا حديث جابر رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا عن أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة (¬3). حملوا هذا الحديث على جواز الاستقبال إذا كان هناك ساتر من جدار أو غيره، مع أن حديث جابر ليس فيه ذكر الساتر، لكن قالوا: هو المعهود من حاله - صلى الله عليه وسلم - لمبالغته في التستر حال قضاء الحاجة. قال الحافظ ابن حجر: دل حديث ابن عمر على جواز استدبار القبلة في الأبنية، وحديث جابر على جواز استقبالها، ولولا ذلك لكان حديث أبي أيوب لا يخص من عمومه بحديث ابن عمر إلا جواز الاستدبار فقط، ولا يلحق به الاستقبال قياساً؛ لأنه لا يصح إلحاقه به، لكونه فوقه (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري (394)، ومسلم (264). (¬2) صحيح البخاري (148)، ومسلم (266). (¬3) المسند (3/ 360). (¬4) الفتح (ح 144).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (270 - 114) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا صفوان بن عيسى، عن الحسن بن ذكوان، عن مروان الأصفر، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس (¬1). [إسناده فيه لين] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (11). (¬2) في إسناده الحسن بن ذكوان، مختلف فيه: ذكر إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: الحسن بن ذكوان ضعيف. الجرح والتعديل (3/ 13). وقال أبو حاتم الرازي: الحسن بن ذكوان ضعيف الحديث، ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال ابن عدي: للحسن بن ذكوان أحاديث غير ما ذكرت، وليس بالكثير، وفي بعض ما ذكرت لا يرويه غيره، على أن يحيى القطان وابن المبارك قد رويا عنه كما ذكرته، وناهيك للحسن بن ذكوان من الجلالة أن يرويا عنه، وأرجوا أنه لا بأس به. الكامل (2/ 317). قلت: رواية يحيى بن سعيد القطان عنه ليست دليلاً على توثيقه، فقد قال على بن المديني: حدث يحيى بن سعيد، عن الحسن بن ذكوان، ولم يكن عنده بالقوي. الضعفاء الكبير (2/ 223)، الكامل (2/ 317). وقال أحمد: أحاديثه أباطيل. تهذيب الكمال (2/ 241). وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 163). وقال ابن جحر: الحسن بن ذكوان مختلف في الاحتجاج به، وله في صحيح البخاري =

وجه الاستدلال: قالوا: إن قول ابن عمر: إنما نهي عن هذا في الفضاء، يدل على أنه علم ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون له حكم الرفع. وأجيب: هذا القول من ابن عمر يحتمل أن يكون قال ذلك فهماً منه للفعل الذي شاهده من النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه، فكأنه لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت حفصة مستدبراً ¬

_ = حديث واحد، وأشار ابن صاعد الى أنه كان مدلساً. طبقات المدلسين (70). وفي التقريب: صدوق يخطئ، ورمي بالقدر، وكان يدلس. وقال في مقدمة الفتح (ص: 560): ضعفه أحمد وابن معين، وأبو حاتم والنسائي وابن المديني، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وأورد له حديثين عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي. وقال: إنه دلسها، وإنما سمعها من عمر بن خالد الواسطي، وهو متروك. اهـ قلت: فهذا أحد أسباب تضعفيه. وقال الآجري، عن أبي داود: إنه كان قدرياً. فهذا سبب آخر أيضاً. روى له البخاري حديثاً واحداً في الرقاق من رواية يحيى بن سعيد القطان، عنه، عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بن حصين، يخرج قوم من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا الحديث شواهد كثيرة، والله أعلم. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه ابن الجارود في المنتقى (32)، وابن خزيمة (60)، والدارقطني (1/ 58)، والحاكم في المستدرك (551)، والسنن الصغرى للبيهقي (1/ 62)، والسنن الكبرى له (1/ 92) من طريق صفوان بن عيسى به. قال الدراقطني في سننه (1/ 58): هذا صحيح، كلهم ثقات، مع أنه قال في العلل: ضعيف. كما نقل ذلك بشار عواد في تحقيقه البديع لتهذيب المزي (6/ 147). وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بالحسن بن ذكوان، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. وقد علمت أن البخاري خرج له حديثاً واحداً له شواهد كثيرة.

الدليل الثالث

للقبلة، فهم اختصاص النهي بالبنيان، فلا يكون هذا الفهم حجة، ولا يصلح هذا للاستدلال به، خاصة وقد عارضه غيره من الصحابة، منهم أبو أيوب، فلا يكون حجة، وقد خالف الصحابي صحابي آخر، هذا على التسليم بأن قول ابن عمر: إنما نهي عن هذا بالفضاء صحيح، ومع تضعيفه يكون لا حاجة إلى هذا التوجيه، والله أعلم. الدليل الثالث: من النظر، قالوا: إن التكريم وإن كان لجهة القبلة، فإن التفريق بين البنيان والصحراء له حظ من النظر، وذلك أن الأمكنة المعدة لقضاء الحاجة تكون مأوى للشياطين، فليست صالحة لكونها قبلة؛ ولأن الحديث يقول: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة. وحقيقة الغائط: هو المكان المطمئن من الأرض في الفضاء، وهذه حقيقته اللغوية، فلا يدخل فيه البنيان أصلاً، وإن كان قد صار يطلق على كل مكان أعد لذلك مجازاً، فيختص النهي به؛ إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة. قال الحافظ: وهذا الجواب للإسماعيلي، وهو أقواها. وقالوا أيضاً: إن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء، وأما الجدار والأبنية، فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفاً (¬1). الدليل الرابع: (271 - 115) ما رواه الدراقطني (¬2) من طريق موسى بن وارد. ورواه البيهقي (¬3) من طريق يعقوب بن كعب الحلبي، كلاهما عن حاتم ¬

(¬1) الفتح (ح 144). (¬2) سنن الدراقطني (1/ 61). (¬3) سنن البيهقي (1/ 93).

بن إسماعيل، عن عيسى بن أبي عيسى، قال: قلت للشعبي: عجبت لقول أبي هريرة، ونافع عن ابن عمر. قال: وما قالا؟ قلت: قال أبو هريرة: لا تستقبلوا القبلة ولا تسدبروها. وقال نافع، عن ابن عمر: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب مذهباً مواجه القبلة. فقال: أما قول أبي هريرة ففي الصحراء. إن لله تعالى خلقاً من عباده يصلون في الصحراء، فلا تستقبلوهم، ولا تستدبروهم، وأما بيوتكم هذه التي يتخذونها للنتن،، فإنه لا قبلة لها. [إسناده ضعيف جداً] (¬1). ومع ضعفه، فإن متنه منكر؛ فإنه علله بوجود المصلين في الصحراء، لا تكريماً للقبلة، وقد رده ابن العربي من خمسة أوجه: الأول: أنه موقوف على الشعبي. الثاني: أنه إخبار عن غيب، فلا يثبت إلا عن الشارع. الثالث: أنه لو كان لحرمة المصلين ما جاز التشريق والتغريب؛ لأن العورة لا تخفى معه أيضاً عن المصلين، وهذا يعرف باختبار المعاينة. الرابع: أن النهي علل بحرمة القبلة، لقوله: لا تستقبلوا القبلة، فذكرها بلفظها، وأضاف الاحترام لها. الخامس: أن الاسناد فيه رجل متروك (¬2). ¬

(¬1) فيه عيسى بن أبي عيسى الحناط، وفي البيهقي: الخياط، قال الحافظ عنه في التقريب: متروك. (¬2) انظر شرح ابن العربي (1/ 25).

وقال النووي: قول المصنف: ولأن في الصحراء خلقاً من الملائكة والجن يصلون. هكذا قال أصحابنا واعتمدوه، ورواه البيهقي بإسناد ضعيف، عن الشعبي التابعي من قوله. وهو تعليل ضعيف؛ فإنه لو قعد قريباً من حائط، واستقبله، ووراءه فضاء واسع، جاز بلا شك، صرح به إمام الحرمين والبغوي وغيرهما، ويدل على ما قدمناه عن ابن عمر، أنه أناخ راحلته، وبال إليها، فهذا يبطل هذا التعليل، فإنه لو كان صحيحاً لم يجز في هذه الصورة، فإنه مستدبر الفضاء الذي فيه المصلون، ولكن التعليل الصحيح أن جهة القبلة معظمة، فوجب صيانتها في الصحراء، ورخص فيها بالنباء للمشقة (¬1). اهـ قلت: الأحاديث القولية مطلقة، تشمل الاستقبال والاستدبار، والصحراء والبنيان، وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في البنيان، هل ورد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أنه إنما خالف النهي؛ لأنه كان في البنيان، أم أن كونه في البنيان وقع اتفاقاً، وإلا فهو وصف غير مؤثر في الحكم؟ الذي يترجح لي الثاني. ولو كان البنيان مؤثراً لما أطلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - النهي في أحاديث كثيرة منها حديث أبي أيوب، وسلمان وابن مسعود وأبي هريرة، وغيرها. والذي يؤيد ذلك حديث جابر، فإن الراوي لم يذكر أنه كان في البنيان، ولم يذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمد إلى ساتر، فاعتماد أن البنيان مؤثر في الحكم، ويلحق به الساتر علة مظنونة مستنبطة، قد تكون علة مؤثرة، وقد لا تكون، وفهم جابر رضي الله عنه في حديثه قد بين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استقبال القبلة، ثم وقع منه مخالفة لما نهى، وهو واضح أن النهي كان مطلقاً، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد خالف ذلك بعد أن نهى، واعتبار أن الفعل يكون ¬

(¬1) المجموع (2/ 97).

دليل من قال بكراهة الاستقبال والاستدبار.

ناسخاً للقول ضعيف أيضاً، فالراجح عندي القول بالكراهة، وانظر وجهه في الكلام الآتي. دليل من قال بكراهة الاستقبال والاستدبار. قالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيء، فالأصل فيه التحريم، وإذا خالف النهي انتقل من التحريم إلى الكراهة. وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بشيء اقتضى الوجوب، فإذا خالف ذلك الأمر انتقل الأمر إلى الاستحباب، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاستقبال والاستدبار مطلقاً، ثم خالف ذلك في الاستدبار كما في حديث ابن عمر، وخالف ذلك في الاستقبال كما في حديث جابر، فانتقل النهي من التحريم إلى الكراهة، والله أعلم. دليل من قال يحرم الاستقبال مطلقاً ويحل الاستدبار مطلقاً. وأما الذين قالوا بتحريم الاستقبال في الصحراء والبنيان، وجواز الاستدبار فيهما فاستدلوا بتحريم الاستقبال بحديث أبي أيوب وسلمان وغيرهما. وقد تقدم ذكر الأحاديث. واستدلوا بجواز الاستدبار مطلقاً بحديث ابن عمر: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي .. الحديث. ومنعنا الاستقبال مطلقاً؛ لأنه لم يقم دليل على جوازه (¬1)، ولا يصح قياس الاستقبال على الاستدبار لعدم مساواة الفرع بالأصل، لكون الاستقبال أشد قبحاً من الاستدبار. ¬

(¬1) إما لأنهم لم يطلعوا على حديث جابر، أو لم يصححوه.

دليل من قال بجواز الاستدبار في البنيان فقط.

دليل من قال بجواز الاستدبار في البنيان فقط. تمسك هذا القائل بظاهر حديث ابن عمر، فإنه - صلى الله عليه وسلم - استدبر القبلة في البنيان، فيخصص النهي عن استدبار القبلة، ويبقى النهي عن الاستقبال مطلقاً بلا مخصص، شاملاً للصحراء والبنيان، والله أعلم. دليل من قال: يحرم حتى في القبلة المنسوخة. الدليل الأول: (272 - 116) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق سليمان بن بلال، ووهيب، فرقهما، قالا: حدثنا عمرو بن يحيى المازني، عن أبي زيد، عن معقل الأسدي، وقد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلتين بعائط أو بول (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 139) رقم 1603، 1610. (¬2) فيه أبو زيد مولى بني ثعلبة، لم يرو عنه إلا عمرو بن يحيى المازني، ولم يوثقه أحد، وفي التقريب: مجهول. والحديث رواه سليمان بن بلال، واختلف عليه، فرواه ابن أبي شيبة (1/ 139) ومن طريقه ابن ماجه (319) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1057) حدثنا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى المازني به، بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقبل القبلتين بغائط أو بول. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 233) من طريق الحماني، ثنا سليمان بن بلال به، بلفظ: أن نستقبل القبلة بغائط أو بول. والحماني وإن كان مجروحاً إلا أنه قد توبع، فقد تابعه عبد العزيز بن محمد، وعبد العزيز بن المختار، =

وقد نقل الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة، والله أعلم. وفي هذا الإجماع نظر، فقد خالف فيه ابن سيرين وإبراهيم النخعي، نقله عنهما الحافظ في الفتح (¬1). (273 - 117) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: كانوا يكرهون أن يستقبلوا واحدة من القبلتين (¬2). ¬

= فرواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1058) حدثنا يعقوب بن حميد، نا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن يحيى المازني به، بلفظ الحماني بإفراد القبلة. وكذلك رواه ابن قانع في معجم الصحابة (3/ 77،78) من طريق عبد العزيز بن المختار، حدثني عمرو بن يحيى المازني به، بإفراد القبلة. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 140)، والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 391)، وأبو داود (10)، وابن قانع في معجم الصحابة (3/ 78) والبيهقي (1/ 91)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 304،305) من طريق وهيب. وأخرجه أحمد (4/ 210) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 233) وابن قانع في معجم الصحابة (3/ 78)، والطبراني في الكبير (20/ 234) رقم 550 من طريق داود العطار، كلاهما عن عمرو بن يحيى المازني به، بلفظ: القبلتين. ورواه أحمد (6/ 406) والطبراني في المعجم الكبير (20/ 234) رقم 549 من طريق ابن جريج، عن عمرو بن يحيى المازني به، بلفظ: القبلتين. وسواء كان الراجح فيه لفظ إفراد القبلة، أو ذكر بلفظ: النهي عن القبلتين، فإن مداره على أبي زيد، وهو مجهول. (¬1) فتح الباري (ح 144). (¬2) المصنف (1/ 139).

دليل من قال: التحريم خاص بأهل المدينة ومن على سمتها.

[رجاله ثقات]. وقول التابعي: كانوا يكرهون يقصد به الصحابة رضوان الله عليهم، ولعل الصحابة كانوا يكرهون ذلك؛ لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبار الكعبة، فالعلة استدبار القبلة، لا استقبال بيت المقدس، فقد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استقبل بيت المقدس حال قضاء الحاجة، كما في حديث ابن عمر، وقد تقدم. دليل من قال: التحريم خاص بأهل المدينة ومن على سمتها. وهذا القول هو أضعف الأقوال، وقد أخذوه من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولكن شرقوا أو غربوا" قاله أبو عوانة، صاحب المزني، وهذه ظاهرية بحتة، ولا يوجد حكم يخص به أهل المدينة دون غيرهم، والعلة تكريم القبلة، وهم وغيرهم سواء في ذلك. بقي أن نشير قبل ختام هذا البحث أن القائلين بالتفريق بين الصحراء والبنيان لا فرق عندهم في الساتر بين الجدار والدابة والوهدة، وكثيب الرمل، ونحو ذلك، ولو أرخى ذيله في قبالة القبلة فهل يحصل به الستر، وجهان عند الشافعية والحنابلة، الصحيح منهما عندهما الاكتفاء بذلك حيث أمن التنجس؛ لأن المقصود أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بسوأته، وهذا المقصود يحصل بالذيل، وبه قال المالكية (¬1). وإذا قلنا: إن الساتر مؤثر في جواز الاستقبال والاستدبار حال قضاء الحاجة، ومعلوم أن الفضاء فيه جبال وأشجار وغيرها، فهل يشترط مسافة ¬

(¬1) حاشية العدوي على الخرشي (1/ 147)، المجموع (2/ 93)، تصحيح الفروع (1/ 112)، كشاف القناع (1/ 65).

معينة من الساتر حتى يكون مؤثراً، أو يكفي وجود الساتر ولو بعد من الإنسان، وهل يشترط في الساتر قدراً معيناً في ارتفاعه، أو لا يشترط. أما القائلون بالتحريم مطلقاً كالحنفية فلا يحتاجون إلى هذا التفصيل. وأما القائلون بالتفريق بين الصحراء والبنيان، فهم يفصلون في ذلك: قال ابن ناجي من المالكية: لم أقف عندنا على مقدار السترة (¬1). وأما الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، فقالوا: إن كان قضاء الحاجة في بيت بني لذلك كالمرحاض ونحوه، فلا يشترط أن يكون قريباً من الساتر، وإن كان في غيره، فقالوا: يشترط أن يكون بينه وبين الساتر نحو ثلاثة أذرع، فما دونها، وأن يكون ارتفاع الساتر مرتفعاً قدر مؤخرة الرحل، فإن زاد ما بينهما على ثلاثة أذرع، أو قصر الحائل عن مؤخرة الرحل، فهو حرام. وإنما اعتبروا في المسافة ثلاثة أذرع كسترة الصلاة، واعتبروا مؤخرة الرحل في الارتفاع من أجل أن تستر أسفله ليحصل المقصود. وكل هذه الشروط تدل على أن اشتراط الساتر فيه ضعف، لأن كل هذه المقادير تحتاج إلى توقيف، ولا توقيف هنا. وهذا التفصيل لا يلزمنا إذا رجحنا القول بكراهة استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، في الصحراء والبنيان، والله أعلم. ¬

(¬1) حاشية العدوي على الخرشي (1/ 147)، وقد نص الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 94) بقوله: ويكفي أن يكون طوله ثلثي ذراع، وقربه منه ثلاثة أذرع فأقل، وعرضه منه مقدار ما يواري عورته. اهـ (¬2) المجموع (2/ 93). (¬3) كشاف القناع (1/ 65).

المبحث الخامس في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء

المبحث الخامس في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء اختلف العلماء في استقبال القبلة واستدبارها عند الاستنجاء: فقيل: يكره الاستقبال والاستدبار، وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يكره الاستقبال فقط، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يكره الاستقبال والاستدبار حال الاستنجاء، ومثله الجماع، وخروج الريح، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقال المراداوي من الحنابلة: ويتوجه التحريم (¬5). ولم أقف على نص في مذهب المالكية إلا أن تكون مقيسة على الجماع، وهم قد نصوا على تحريم الوطء في الفضاء مستقبلاً القبلة أو مستدبرها (¬6). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 655)، البحر الرائق (1/ 54)، بدائع الصنائع (5/ 126)، الهداية شرح البداية (1/ 65). (¬2) جاء في الفروع (1/ 112): ويكره استقبالها في فضاء باستنجاء. وانظر الإنصاف (1/ 102). (¬3) المجموع (2/ 94)،. (¬4) الإنصاف (1/ 102). (¬5) الإنصاف (1/ 102). (¬6) جاء في المدونة (1/ 117): أيجامع الرجل امرأته مستقبل القبلة في قول مالك؟ قال: لا أحفظ عن مالك فيه شيئاً، وأرى أنه لا بأس به؛ لأنه لا يرى بالمراحيض بأساً في المدائن والقرى، وإن كانت مستقبلة القبلة. الخ ونص المالكية على تحريم الوطء في الفضاء مستقبلاً القبلة أو مستدبرها، انظر حاشية =

ويرجع اختلافهم إلى اختلافهم في علة المنع من استقبال القبلة بالبول والغائط، هل هو للخارج النجس، أو لكشف العورة ونحوها؟ فمن علل بالأول أباح الاستنجاء، ومن علل بالثاني منعه، والله أعلم. والصحيح جواز الاستنجاء مستقبل القبلة، لعدم وجود الدليل المقتضي للتحريم، أو الكراهة، {وما كان ربك نسياً} (¬1). ولأن الأصل في الأشياء الحل. فلا نحرم ولا نكره شيئاً إلا بنص. وتكريم القبلة في مثل هذا الأمر يحتاج إلى توقيف، نعم جاء النص فيه بالبول والغائط، فلا يتعداه إلى غيره، ولو كان الانحراف عن القبلة من شرع الله حال الاستنجاء أو الوطء لجاء النص فيه من الشرع لحاجة الناس إليه، بل قد بالغ الحنفية حتى كرهوا مد الرجل إلى القبلة في النوم وغيره عامداً، وهذا تكلف لا يعرف عن السلف رحمهم الله (¬2). ¬

= الدسوقي (1/ 108، 109)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 93)، الخرشي (1/ 146)، مواهب الجليل (1/ 280)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 336، 337). (¬1) مريم: 64. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 655).

المبحث السادس في استقبال النيرين (الشمس والقمر)

المبحث السادس في استقبال النيرين (الشمس والقمر) كره جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، وعليه جمهور الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، استقبال عين الشمس والقمر (¬5)،. وقيل: يكره استقبالهما واستدبارهما، اختاره بعض الحنفية. (¬6)، وبعض الشافعية (¬7). وقيل: لا يكره مطلقاً الاستقبال والاستدبار، اختاره بعض المالكية (¬8)، وبعض ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 256)، مراقي الفلاح (ص: 23)، حاشية ابن عابدين (1/ 342)، الفتاوى الهندية (1/ 320)، نور الإيضاح (ص: 16)،. (¬2) التاج والإكليل (1/ 407)،. (¬3) أسنى المطالب (1/ 46)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 44)،. (¬4) المغني (1/ 107)، مطالب أولي النهي (1/ 67)، كشاف القناع (1/ 61)، الإنصاف (1/ 100). (¬5) قال في مراقي الفلاح (ص: 23): " ويكره استقبال عين الشمس والقمر. اهـ وفي حاشية ابن عابدين (1/ 342): " والذي يظهر أن المراد استقبال عينهما مطلقاً، لا جهتهما، ولا ضوئهما، وأنه لو كان ساتر يمنع عن العين، ولو سحاباً فلا كراهة، وأن الكراهة إذا لم يكونا في كبد السماء، وإلا فلا استقبال للعين. اهـ (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 342) إلا أن الطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح (ص:34) أشار إلى أن الاستدبار لا يكره. (¬7) أسنى المطالب (1/ 46)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 44)، المجموع (2/ 110). (¬8) الشرح الكبير (1/ 109)، منح الجليل (1/ 103، 104)، وجاء في مواهب الجليل (1/ 281): قال في التوضيح عن ابن هارون: إنه يجوز عندنا استقبال الشمس والقمر لعدم ورود النهي. وقال في المدخل في آداب الاستنجاء: لا يستقبل الشمس والقمر؛ فإنه ورد أنهما =

دليل من قال بالكراهة.

الشافعية (¬1)، وبعض الحنابلة (¬2)، ورجحه الشوكاني (¬3). دليل من قال بالكراهة. (274 - 118) ما رواه الحكيم الترمذي في كتاب المناهي، كما في تلخيص الحبير، من طريق عباد بن كثير، عن عثمان الأعرج، عن الحسن، قال: حدثني سبعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو هريرة وجابر، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك يزيد بعضهم على بعض في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبال في المغتسل، ونهى عن البول في الماء الراكد، ونهى عن البول في المشارع، ونهى أن يبول الرجل، وفرجه باد إلى الشمس والقمر ... وذكر حديثاً طويلاً في نحو خمسة أوراق (¬4). [قال الحافظ: وهو حديث باطل لا أصل له، بل هو من اختلاق عباد] (¬5). الدليل الثاني: أوردوا تعاليل فيها نظر كثير، فقالوا: كره؛ لأن معهما ملائكة؛ ولأن ¬

= يلعنانه، فأتى كلامه أنه في المذهب، فإنه قال قبل ذلك: وقد ذكر علماؤنا آداب التصرف في ذلك. انتهى ثم قال: تنبيه علم من كلام صاحب المدخل أن المنهي عنه في القمرين إنما هو استقبالهما، لا استدبارهما، وصرح بذلك الدميري من الشافعية، وعد ابن يعلى في منسكه في الآداب أن لا يستقبل الشمس ولا يستدبرها. انتهى وقال المواق الجزولي في آداب الأحداث: لا يستقبل الشمس ولا القمر ولا يستدبرهما. وقال ابن هارون: لا يكره ذلك. اهـ نقلاً من مواهب الجليل. (¬1) رجح النووي في المجموع عدم الكراهة (2/ 110). (¬2) الإنصاف (1/ 100). (¬3) السيل الجرار (1/ 70). (¬4) تلخيص الحبير (1/ 180). (¬5) وقال النووي في المجموع (2/ 110): ضعيف، بل باطل.

دليل من قال: لا يكره استقبال الشمس والقمر.

أسماء الله مكتوبة عليهما، ولأنهما يلعنانه؛ ولأن نورهما من نور الله، وقيل: لشرفهما بالقسم بهما، فأشبهتا الكعبة (¬1). أما قولهم: إن معهما ملائكة، فلا يقتضي ذلك كراهة؛ لأن كثيراً من مخلوقات الله قد وكل فيها ملائكة كالسحاب، والجبال وغيرهما، فهل يكره استقبال الغيم مثلا؟ وأما القول بأن أسماء الله مكتوبة عليهما، فهذا يحتاج إلى توقيف، فأين الدليل عليه؟ وكذلك يقال عن قولهم: بأنهما يلعنان من يستقبلهما. وأما قولهم بأن فيهما من نور الله، فلا شك أن نورهما نور مخلوق، وليس المقصود بنور الله الذي هو صفته، وإذا كان كذلك فلا يقتضي هذا التعليل كراهة، ولو أخذنا بهذا التعليل لكره استقبال ضوئهما، بحيث لا يستقبل ضوء الشمس والقمر حال البول، وأنتم إنما كرهتم استقبال عينهما. وأما قولهم: إن الله قد أقسم بهما، فقد أقسم الله بالنجوم أيضاً، وأقسم بالضحى، وأقسم بالليل، فلا تقضى فيها الحاجات إذاً، فهذه التعاليل هالكة. دليل من قال: لا يكره استقبال الشمس والقمر. الدليل الأول: عدم الدليل على الكراهة، والكراهة حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي. الدليل الثاني: (275 - 119) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: ¬

(¬1) كشاف القناع (1/ 61)، نيل الأوطار (1/ 110)، حاشية ابن قاسم (1/ 134).

حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: فقدمنا الشأم، فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة، فننحرف، ونستغفر الله تعالى، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " ولكن شرقوا أو غربوا " فيه الإذن باستقبال الشرق أوالغرب واستدبارهما، فلا بد أن يكونا أو أحدهما في الشرق أو الغرب، والله أعلم. فالراجح: جواز استقبال النيرين. قال ابن القيم: لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كلمة واحدة، لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف، ولا مرسل، ولا متصل، وليس لهذه المسألة أصل في الشرع (¬2). وقال الشوكاني: وأما استقبال النيرين فهذه من غرائب أهل الفروع، فإنه لم يدل على ذلك دليل لا صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، وما روي في ذلك فهذا كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن رواية الكذابين، وإن كان ذلك بالقياس على القبلة، فقد اتسع الخرق على الراقع، ويقال لهذا القائس: ما هكذا تورد يا سعد الإبل .. وأعجب من هذا إلحاق النجوم النيرات بالقمرين، فإن الأصل باطل، فكيف بالفرع، وكان ينبغي لهذا القائس أن يلحق السماء، فإن لها شرفاً عظيماً، لكونها مستقر الملائكة، ثم يلحق الأرض؛ لأنه مكان العبادات والطاعات، ومستقر عباد الله الصالحين، فحينئذ تضيق على قاضي ¬

(¬1) صحيح البخاري (394)، صحيح مسلم (264). (¬2) مفتاح دار السعادة (2/ 205).

الحاجة الأرض بما رحبت، ويحتاج أن يخرج عن هذا العالم عند قضاء الحاجة، وسبحان الله ما يفعل التساهل في إثبات أحكام الله من الأمور التي يبكى لها تارة، ويضحك منها أخرى (¬1). ¬

(¬1) نيل الأوطار (1/ 70).

المبحث السابع في البول في الطريق والظل النافع وتحت شجرة مثمرة

المبحث السابع في البول في الطريق والظل النافع وتحت شجرة مثمرة اختلف العلماء في حكم البول في الطريق والظل النافع: فقيل: يكره البول فيها، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2)، وعليه أكثر أصحاب الشافعية (¬3)، ورواية في مذهب أحمد (¬4). وقيل: يستحب اتقاء هذه الأماكن. اختارها من المالكية الخرشي (¬5). وقيل: يحرم البول فيها، اختاره بعض المالكية (¬6)، ورجحه النووي من الشافعية (¬7)، وهو رواية في مذهب أحمد، جزم بها في ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 256)، حاشية ابن عابدين (1/ 343)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 35). (¬2) جاء في مواهب الجليل (1/ 276): قال في النوادر: ويكره أن يتغوط في ظل الجدار، والشجر وقارعة الطريق وضفة الماء وقربه. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/ 402 - 403)، (¬3) روضة الطالبين (1/ 66)، اختلاف الحديث (ص: 107)، نهاية المحتاج (1/ 140،141)، المهذب (1/ 26)، إعانة الطالبين (1/ 110). (¬4) الفروع (1/ 116)، الإنصاف (1/ 97، 98). (¬5) اعتبر الخرشي اتقاء الطريق والظل النافع من الآداب المستحبة (1/ 144)، ولا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه. (¬6) نقل العدوي في حاشيته على الخرشي (1/ 145): عن عياض القول بالتحريم، ونقل عن علي الأجهوري أنه قال: وظاهر الحديث التحريم، وينبغي الرجوع إليه، إذ فاعل المكروه لا يلعن. اهـ (¬7) قال النووي في المجموع (1/ 102): وظاهر كلام المصنف والأصحاب أن فعل هذه =

أدلة القائلين بالتحريم.

المغني وغيره (¬1). أدلة القائلين بالتحريم. الدليل الأول: من الكتاب، قوله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} (¬2). ولا شك أن الذي يتغوط في طريق الناس، وفي ظلهم ومجالسهم أنه قد آذى المؤمنين بذلك. الدليل الثاني: (276 - 120) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعاً، عن إسمعيل بن جعفر -قال ابن أيوب- حدثنا إسمعيل، أخبرني العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا اللعانين. قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم (¬3). الدليل الثالث: (277 - 121) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إسحق بن سويد الرملي ¬

= الملاعن أو بعضها مكروه كراهة تنزيه، لا تحريم، وينبغي أن يكون محرماً لهذه الأحاديث، ولما فيه من إيذاء المسلمين، وفي كلام الخطابي إشارة إلى تحريمه. اهـ (¬1) المغني (1/ 108)، والمبدع (1/ 83)، الفروع (1/ 116)، الإنصاف (1/ 97،98)، تصحيح الفروع (1/ 116). (¬2) النساء: 20. (¬3) صحيح مسلم (269).

وعمر بن الخطاب أبو حفص وحديثه أتم، أن سعيد بن الحكم حدثهم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، حدثني حيوة بن شريح، أن أبا سعيد الحميري حدثه، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ومعنى قوله: " اتقوا اللاعنين، أو الملاعن " يحتمل أن يكون المعنى: أي الملعون فاعلهما. فيكون المراد من اسم الفاعل اسم المفعول. ويحتمل أن يكون المعنى: أي الجالبين للعن، أي الباعثين للناس عليه، فإنه سبب للعن من فعله في هذه المواضع، وهذا المعنى يرجع إلى الأول؛ لأن المسلمين لا يلعنون ولا ينبغي لهم أن يلعنوا أحداً إلا لشخص مستحق للعن، ولو كان غير مستحق لنهى الشرع عن لعنه، فبأي المعنيين حملناه، فإنه دليل ¬

(¬1) سنن أبي داود (26). (¬2) فيه أبو سعيد الحميري، لم يرو عنه إلا حيوة بن شريح، ولم يوثقه أحد، وفي التقريب: مجهول، وروايته عن معاذ بن جبل مرسلة. والحديث أخرجه ابن ماجه (328) من طريق عبد الله بن وهب. وأخرجه الطبراني (20/ 123) رقم 247، والحاكم (594)، والبيهقي (1/ 97) من طريق سعيد بن أبي مريم، كلاهما عن نافع بن يزيد به. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه. وصححه ابن السكن كما في تلخيص الحبير (1/ 184)، وتعقبه الحافظ، فقال: فيه نظر؛ لأن أبا سعيد لم يسمع من معاذ، ولا يعرف هذا الحديث بغير هذا الإسناد. قاله ابن القطان. اهـ وقال في مصباح الزجاجة (1/ 48): هذا إسناد ضعيف، فيه أبو سعيد الحميري المصري، قال ابن القطان: مجهول. وقال أبو داود والترمذي وغيرهما: روايته عن معاذ مرسلة.

الدليل الرابع

على أن صاحبه ملعون، والعياذ بالله، وهذا دليل على أن فعله محرم، وليس مكروهاً كما قيل، أو أن اتقاءه مستحب على قول. الدليل الرابع: (278 - 122) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن هشام، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سرتم في الخصب فأمكنوا الركاب أسنانها، ولا تجاوزوا المنازل، وإذا سرتم في الجدب فاستجدوا، وعليكم بالدلج؛ فإن الأرض تطوى بالليل، وإذا تغولت لكم الغيلان فنادوا بالأذان، وإياكم والصلاة على جواد الطريق، والنزول عليها؛ فإنها مأوى الحيات والسباع، وقضاء الحاجة فإنها الملاعن (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (3/ 305). (¬2) الحديث له علتان: الأولى: الانقطاع، فإن الحسن لم يسمع من جابر. قال علي بن المديني: لم يسمع من جابر. تهذيب التهذيب (2/ 231). وقال أبو زرعة: لم يلق جابراً. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي سمع الحسن من جابر؟ قال: ما أرى، ولكن هشام بن حسان يقول: حدثنا جابر، وأنا أنكر هذا، وإنما الحسن عن جابر كتاب، معن أدرك جابراً. اهـ العلة الثانية: هشام بن حسان ضعيف في الحسن، قال في التقريب: روايته عن الحسن وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 213) رواه أبو يعلى رجاله رجال الصحيح. وقال الحافظ في التلخيص (158): إسناده حسن. =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (279 - 123) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عتاب بن زياد، حدثنا عبد الله قال: أخبرنا ابن لهيعة قال: حدثني ابن هبيرة، قال: أخبرني من سمع ابن عباس يقول: ¬

_ = [تخريج الحديث]. الحديث رواه ابن أبي شيبة (2/ 169) رقم 7746 حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا هشام بن حسان به مختصراً، بلفظ: لا تصلوا على جواد الطريق، ولا تنزلوا عليها؛ فإنه مأوى الحيات والسباع. وأخرجه أحمد (3/ 381)، وأبو يعلى (2219) من طريق يزيد بن هارون به، مطولاً. وأخرجه ابن خزيمة (2549) من طريق يحيى بن اليمان، ثنا هشام به. وقال: كان علي بن عبد الله ينكر أن يكون الحسن سمع من جابر. اهـ وأخرجه ابن ماجه (329)، وابن خزيمة (2548) من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، قال: قال سالم: سمعت الحسن يقول: حدثنا جابر بن عبد الله، فذكره بنحوه. وهذا الحديث من هذا الطريق له علتان أيضاً: الأولى: ضعف سالم هذا. قال في مصباح الزجاجة (1/ 49): وهذا إسناد ضعيف، وسالم هذا: هو ابن عبد الخياط البصري، ضعفه ابن معين والنسائي وأبو حاتم وابن حبان والدارقطني. اهـ العلة الثانية: زهير بن محمد، جاء في التقريب: ثقة، إلا أن رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة، فضعف بسببها. كأن زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر. وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه، فكثر غلطه. قلت: والراوي عنه عمرو بن أبي سلمة، شامي من أهل دمشق، ضعفه يحيى بن معين، وقال العقيلي: في حديثه وهم، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وفي التقريب صدوق له أوهام.

الدليل السادس

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول اتقوا الملاعن الثلاث. قيل: ما الملاعن يا رسول الله؟ قال: أن يقعد أحدكم في ظل يستظل فيه، أو في طريق، أو في نقع ماء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). قال في فيض القدير: نقع ماء: أي ماء ناقع: أي مجتمع ومستنقع الماء (¬3). الدليل السادس: (280 - 124) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن حبان بن بكر الباهلي البصري ببغداد، ثنا كامل بن طلحة الجحدري، ثنا محمد بن عمرو الأنصاري، عن محمد بن سيرين، قال: قال رجل لأبي هريرة: قد أفتيتنا في كل شيء، يوشك أن تفتينا في الخرء. فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سل سخيمته على طريق ¬

(¬1) المسند (1/ 299). (¬2) فيه راو مبهم، كما أن فيه ابن لهيعة، وإن كان الراوي عنه ابن المبارك، إلا أن الراجح فيه ضعفه مطلقاً، ورواية العبادلة عنه أعدل من غيرها، وقد سبق أن كثيراً من أئمة الحديث يضعفونه مطلقاً قبل احتراق كتبه، وبعدها، من رواية العبادلة ومن رواية غيرهم في كتابي أحكام المسح على الحائل، فانظره إن شئت. قال مغلطاي: هو مرسل؛ لأنه أبهم الراوي فيه عن ابن عباس، وابن لهيعة مختلف فيه، لكن ذلك لا يقدح في إيراده شاهداً لما قبله؛ لأن الشواهد لا يعتبر لها شرط الصحيح من كل وجه. انتهى نقلاً من فيض القدير (1/ 137). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 204): رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، ورجل لم يسم. اهـ (¬3) فيض القدير (1/ 137).

الدليل السابع

عامرة من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السابع: (281 - 125) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا ابن لهيعة، عن قرة، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلى على قارعة الطريق، أو يضرب الخلاء عليها، أو يبال فيها (¬3). ¬

(¬1) مجمع البحرين (350). (¬2) في إسناده محمد بن عمرو الأنصاري، جاء في ترجمته: قال علي بن المديني: سألت يحيى يعنى ابن سعيد القطان، عن محمد بن عمرو الأنصاري، قلت: روى عن حفصة؟ فضعف الشيخ جداً. قلت: ماله؟ قال: روى عن القاسم عن عائشة في الكبش الأقرن، وعن القاسم عن عائشة في الصلاة الوسطى، وروى عن الحسن أوابد. الجرح والتعديل (8/ 32). وقال يحيى بن معين: محمد بن عمرو بن عبيد الأنصاري ضعيف. المرجع السابق. وقال أحمد بن حنبل: كان يحيى بن سعيد يضعفه جداً. المرجع السابق. وقال ابن نمير: أبو سهل محمد بن عمرو بصرى ليس يسوى شيئاً. المرجع السابق. وقال ابن عدي: عزيز الحديث، وأحاديثه إفرادات، ويكتب حديثه في جملة الضعفاء. الكامل (6/ 225). [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 225)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 110)، والحاكم (665) والبيهقي (1/ 98). قال العقيلي: لا يتابع عليه. (¬3) رواه ابن ماجه (330).

[إسناده ضعيف] (¬1). ¬

(¬1) في إسناده ابن لهيعة، وقد سبق أن حررت في كتاب المسح على الحائل أنه ضعيف مطلقاً. وفيه أيضاً: قرة بن عبد الرحمن، جاء في ترجمته: قال ابن حنبل: قرة بن عبد الرحمن، صاحب الزهري، منكر الحديث جداً. الجرح والتعديل (7/ 131). وقال ابن أبى خيثمة: سئل يحيى بن معين، عن قرة بن عبد الرحمن فقال: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن قرة بن حيوئيل فقال: الأحاديث التي يرويها مناكير. المرجع السابق. وقال العجلي: يكتب حديثه. معرفة الثقات (2/ 217). وقال يزيد بن السمط: أعلم الناس بالزهرى قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل. فتعقبه ابن حبان، فقال: هذا الذي قاله يزيد بن السمط ليس بشيء يحكم به على الإطلاق، وكيف يكون قرة بن عبد الرحمن أعلم الناس بالزهرى وكل شيء روى عنه لا يكون ستين حديثاً؟ بل أتقن الناس في الزهرى مالك ومعمر والزبيدي ويونس وعقيل وابن عيينة، هؤلاء الستة أهل الحفظ والإتقان والضبط والمذاكرة، وبهم يعتبر حديث الزهرى إذا خالف بعض أصحاب الزهرى بعضاً في شيء يرويه. الثقات (7/ 343). وفي التقريب: صدوق له مناكير. وقال في مصباح الزجاجة (1/ 49): هذا الحديث ضعيف؛ لضعف ابن لهيعة، وشيخه، ولكن للمتن شواهد صحيحة. اهـ [تخريج الحديث]. والحديث أخرجه ابن ماجه كما في حديث الباب من طريق الذهلي. وأخرجه الطبراني في الكبير (12/ 281) رقم 1320 من طريق روح بن الفرج، كلاهما عن قرة بن عبد الرحمن به. =

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (282 - 126) ما رواه الطبراني من طريق شعيب بن بيان، ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من آذى المسلمين في طرقهم، وجبت عليه لعنتهم (¬1). [إسناده فيه لين] (¬2). ¬

= واختلف على قرة، فرواه ابن لهيعة عنه كما سبق. ورواه ابن عدي في الكامل (3/ 151) من طريق رشدين بن سعد، حدثني قرة وعقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه. ورشدين بن سعد، ضعيف، وقد قدم أحمد ابن لهيعة عليه، انظر الجرح والتعديل (3/ 513). ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (14/ 407) من طريق أيوب بن سويد الرملي، عن يونس، عن الزهري وحده به. وأيوب بن سويد الرملي ضعيف. (¬1) المعجم الكبير (3/ 179) رقم 3050. (¬2) شعيب بن بيان، قال العقيلي: بصرى يحدث عن الثقات بالمناكير وكاد أن يغلب على حديثه الوهم. ضعفاء العقيلي (2/ 183). وقال الجوزجاني: له مناكير. المغني في الضعفاء (2773). وقال الذهبي: صدوق. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق يخطئ. وأما عمران القطان، فذكره ابن حبان في الثقات (7/ 243). قال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. الجرح والتعديل (6/ 297). وقال ابن معين: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (478)، والكامل (5/ 88). وذكره العقيلي في الضعفاء (3/ 300). وذكره يحيى بن سعيد القطان، فأحسن الثناء عليه. المرجع السابق. =

الدليل التاسع

الدليل التاسع: (283 - 127) ما رواه الطبراني من طريق فرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتخلى الرجل تحت شجرة مثمرة، ونهى أن يتخلى على ضفة نهر جار (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل العاشر: (284 - 128) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل، قال: حدثنا مخلد بن خالد، قال: حدثنا ابراهيم بن خالد الصنعاني، قال: حدثنا رباح بن زيد، عن معمر، عن سماك بن الفضل، ¬

= وقال ابن شاهين: من أخص الناس بقتادة. تاريخ أسماء الثقات (1111). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 204): رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن. وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 81): إسناده حسن. اهـ واختلف على أبي الطفيل، فرواه قتادة كما سبق. ورواه ابن عدي في الكامل (3/ 213) من طريق زكريا بن حكيم الحبطي، ثنا عطاء بن السائب، عن أبي الطفيل، عن أبي ذر مرفوعاً: من آذى المسلمين في طرقهم أصابته لعنتهم. وزكريا بن حكيم ضعيف جداً، والله أعلم. (¬1) الأوسط (3/ 36) رقم 2392. (¬2) فيه فرات بن السائب، وهو متروك. ومن طريق فرات بن السائب أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 93)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 458)، وابن عدي في الكامل (6/ 24). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 204) رواه الطبراني في الأوسط، وفي الكبير الشطر الأخير. وفيه فرات بن السائب، وهو متروك الحديث. اهـ

عن أبي رشدين، عن سراقة بن مالك بن جعشم، أنه كان إذا جاء من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث قومه وعلمهم، فقال له رجل يوماً- وهو كأنه يلعب- ما بقي لسراقة إلا أن يعلمكم كيف التغوط؟ فقال سراقة: إذا ذهبتم الى الغائط فاتقوا المجالس على الظل، والطريق، خذوا النبل واستنشبوا على سوقكم، واستجمروا وتراً (¬1). [إسناده ضعيف مع أنه موقوف] (¬2). ¬

(¬1) الأوسط (5198). (¬2) في إسناده أبو رشدين الجندي، واسمه زياد، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/ 550). وقال البخاري: وروى معمر، عن سماك بن الفضل، عن أبي رشدين الجندي، قال سراقة في الغائط. قال أبو عبد الله: لم أجده في العتيق. التاريخ الكبير (3/ 353). واختلف على معمر، فرواه عنه رباح بن زيد القرشي، كما في حديث الباب موقوفاً على سراقة. وخالفه عبد الرزاق، فرواه عن معمر به، مرفوعاً. والمعروف وقفه. قال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 36): سألت أبي عن حديث رواه أحمد بن ثابت فرخويه، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن أبي رشدين الجندي، عن سراقة بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكر الحديث بطوله. قال أبي: إن مايروونه موقوف، وأسنده عبد الرزاق بآخرة. اهـ قلت: عبد الرزاق قد عمي في آخر عمره، فتغير. وقال الحافظ في التلخيص (1/ 189): حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أن الأصح وقفه، وكذا هو عند عبد الرزاق في مصنفه، فإذا كان موقوفاً في مصنف عبد الرزاق كان هذا دليلاً على أنه قد اختلف على عبد الرزاق في رفعه ووقفه، فيكون الوقف هو القديم. ولم أقف عليه في مصنف عبد الرزاق، والله أعلم.

الدليل الحادي عشر

الدليل الحادي عشر: (285 - 129) ما رواه الخطيب في تاريخه، من طريق داود بن عبد الجبار، حدثنا سلمة بن المجنون، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تغوط على ضفة نهر يتوضأ منه ويشرب، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثاني عشر: (286 - 130) حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: اتقوا الملاعن. [رجح الدراقطني وقفه] (¬3). ¬

(¬1) تاريخ بغداد (8/ 356). (¬2) في إسناده داود بن عبد الجبار المؤذن، وهو متروك، وقد كذبه ابن معين. وفيه سلمة بن المجنون: أبو شرعة، وهو مجهول. (¬3) ذكره الدارقطني في العلل (4/ 378،379) رقم 641، وفيه: سئل عن حديث قيس بن سعد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: اتقوا الملاعن. فقال: يرويه بيان بن بشر وإسماعيل بن أبي خالد، فرواه شعبة عن بيان، واختلف عنه، فرفعه بن حميد الرازي، عن أبي داود، عن شعبة. ورواه أبو عباد يحيى بن عباد، عن شعبة، عن بيان، فقال: أظنه رفعه. ورواه غيرهما عن شعبة موقوفاً، وكذلك رواه أبو الأحوص وخالد الواسطي، عن بيان. وأما إسماعيل بن أبي خالد، فرواه عن قيس موقوفاً على سعد. والموقوف، هو المحفوظ. حدثنا ابن مخلد، ثنا محمد بن سعيد بن غالب، ثنا أبو عباد يحيى بن عباد، ثنا شعبة، عن بيان، عن قيس، عن سعد، أظنه رفعه: قال إياكم والملاعن: أن يلقي أحدكم أذاه في الطريق فلا يمر به أحد إلا قال: من فعل هذا لعنه الله. اهـ

تنبيهات على هذه المسألة

هذه الأدلة من السنة، وإن كان في بعضها ضعف، إلا أن أكثرها من الضعف المنجبر، وقد كان يكفي في الاستدلال حديث أبي هريرة في مسلم، إلا أن الكتاب كان من شرطه أن يأتي على أغلب الأحاديث الواردة في الباب، الصحيح منها والسقيم. والله أعلم. تنبيهات على هذه المسألة: التنبيه الأول: الطريق إذا لم تكن مطروقة فلا بأس بالتبول فيها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " في طريق الناس " أي الذي يحتاجون إليه بطرقه. وفي حديث أبي هريرة: " من سل سخيمته في طريق عامرة من طرق المسلمين " وسبق تخريجه (¬1). وفي حديث حذيفة: " من آذى المسلمين في طرقهم ". والطريق المهجور لا يؤذي المسلمين، فالحكم يدور مع علته. التنبيه الثاني: الظل الذي لا ينتفع به فلا بأس بالتبول فيه، فالمراد هنا بالظل: هو الظل الذي اتخذه الناس مقيلاً ومنزلاً ينزلونه، وليس كل ظل يحرم قضاء الحاجة تحته، ولأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن جعفر: كان أحب ما استتر به النبي - صلى الله عليه وسلم - لحاجته هدف أو حائش نخل. وقال ابن خزيمة في تفسير قوله: هدف أو حائش نخل، فقال: الهدف: هو الحائط. والحائش من النخل: هو النخلات المجتمعات، وإنما سمي البستان ¬

_ (¬1) انظر ح 280.

التنبيه الثالث

حائشاً لكثرة أشجاره، ولا يكاد الهدف يكون إلا وله ظل إلا وقت استواء الشمس، فأما الحائش من النخل فلا يكون وقت من الأوقات بالنهار إلا ولها ظل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان يستحب أن أن يستتر الإنسان في الغائط بالهدف والحائش، وإن كان لهما ظل انتهى (¬1). ولقوله في حديث أبي هريرة: " قيل: وما اللعنان يا رسول الله: قال الذي يتبول في طريق الناس أو في ظلهم " فحين أضاف الظل إليهم علم أنه الظل الذي يستظلون به، أما الظل الذي لا يستظلون به، فليس هو من ظلهم، والله أعلم. التنبيه الثالث: ذكر بعض الفقهاء من الحنفية والمالكية بأنه يلحق بالظل في الصيف محل الاجتماع في الشمس في الشتاء. وهذا قياس جلي؛ لأن العلة ليست من أجل الظل أو من أجل الشمس، إنما العلة أذية المؤمنين في أماكن اجتماعهم، ويدخل فيه محل مدارسهم، وأماكن بيعهم، ونحوها (¬2). قال ابن عابدين: ينبغي تقييده بما إذا لم يكن محلاً للاجتماع على محرم، أو مكروه، وإلا فقد يقال بطلب ذلك لدفعهم عنه. قلت: قد يقول قائل: إن النهي مطلق، فيدخل حتى هذا في النهي عن البول، وقد يقال: بأن ذلك يغتفر؛ لأنه من باب إزالة المنكر، كما أن هجر ¬

(¬1) صحيح ابن خزيمة (1/ 37). (¬2) انظر حاشية ابن عابدين (1/ 343) وحاشية العدوي على الخرشي (1/ 145).

التنبيه الرابع

المسلم محرم، ويغتفر إذا كان ذلك رادعاً له أو لغيره عن بدعة ونحوها، لكن ينبغي ألا يفعل ذلك حتى يغلب على ظنه أن الفعل يحقق المصلحة منه، ولا يحملهم على منكر أكبر منه، وأن النصيحة لا تجدي في تغيير المنكر، ولا يفعل ذلك إلا إذا كان ما يفعل في تلك الأماكن محرماً، وليس مكروهاً، والله أعلم. التنبيه الرابع: اشتملت الأحاديث على النهي عن الموارد. والمقصود بالموارد، قال الخطابي: هي طرق الماء، واحده: مورد (¬1). وفي فيض القدير: المراد بها: مناهل الماء، أو الأمكنة التي يأتي إليها الناس، ورجح الأول بموافقته لقوله في الحديث: " أو نقع ماء " والحديث يفسر بعضه بعضاً، وإرادة طرق الماء بعيدة هنا. والله أعلم (¬2). أو يكون مقصوده النهي عن البول في الماء الراكد، وقد ذكرنا أحاديث النهي عنه في مباحث المياه، وذكرنا حكم البول في الماء الراكد، فقيل: يحرم البول في الماء القليل مطلقاً؛ لأنه ينجسه ويتلفه على نفسه وعلى غيره. ولأن الأصل في النهي التحريم. وقد اختار هذا بعض الحنفية وبعض المالكية، والنووي من الشافعية. وقيل: يكره مطلقاً، كما هو مذهب الشافعية. وفرق الحنابلة بين البول والتغوط، فحرموا التغوط فيه، وكرهوا البول، والله أعلم (¬3). ¬

(¬1) معالم السنن (1/ 19). (¬2) فيض القدير (1/ 136). (¬3) انظر حاشية ابن عابدين (1/ 342)، وحاشية العدوي على الخرشي (1/ 144)، =

التنبيه الخامس

التنبيه الخامس: قوله: " اتقوا اللاعنين " وقوله: " اتقوا الملاعن " قال النووي في الأذكار: ظاهر هذه الأحاديث تدل على جواز لعن العاصي مع التعيين، أي أنه لو لم يجز لعنه كانت اللعنة على لاعنه، والمشهور حرمة لعن المعين. وأجاب الزين العراقي: بأنه قد يقال: إن ذلك من خصائص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لقوله: اللهم إني اتخذ عهداً عندك أيما مسلم سببته أو لعنته. الحديث. والله أعلم (¬1). التنبيه السادس: قيد جمهور الفقهاء بأن تكون الشجرة لها ثمرة. قال النووي: وإنما لم يقولوا بتحريم ذلك؛ لأن تنجس الثمار به غير متيقن (¬2). وفي حاشية ابن عابدين: ذكر العلة، فقال: خوفاً من إتلاف الثمر، وتنجسه، والمتبادر أن المراد وقت الثمرة، ويلحق به ما قبله بحيث لا يأمن زوال النجاسة بمطر أو نحوه كجفاف أرض من بول، ويدخل فيه الثمر المأكول وغيره، ولو مشموماً لاحترام الكل، والانتفاع به (¬3). قال النووي: وهذ الذي ذكره - يعني: من كراهية البول في مساقط الثمار- متفق عليه، ولا فرق بين الشجر المباح (غير المملوك) والذي يملكه، ¬

= المجموع (2/ 108، 109). (¬1) نقلاً من فيض القدير (1/ 137). (¬2) المجموع (2/ 103). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 343).

ولا بين وقت الثمر، وغير وقته؛ لأن الموضع يصير نجساً، فمتى وقع الثمر تنجس، وسواء البول والغائط، وإنما ذكروا البول تنبيهاً للأعلى على الأدنى (¬1). اهـ قلت: قد يأتي إلى الشجرة صاحبها لسقي أو تقليم أو غيره، ولو لم يكن تحتها ثمرة، فيتأذى من النجاسة، ويدخل في عموم النهي عن أذية المؤمنين. وقيل: بتحريم ذلك، وهي رواية في مذهب أحمد بشرط أن يكون عليها ثمرة مقصودة، فإن لم يكن عليها ثمرة، ولم يكن لها ظلاً مقصوداً لم يحرم، والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع (2/ 102).

المبحث الثامن في البول في المسجد

المبحث الثامن في البول في المسجد يحرم البول في المسجد. وهل يحرم إذا بال في إناء في المسجد؟ فيه خلاف: فقيل: يحرم، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وظاهر مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، ومذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يجوز، اختاره بعض الشافعية (¬5). دليل من قال يحرم البول في المسجد. الدليل الأول: (287 - 131) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، ¬

(¬1) الدر المختار (1/ 656)،. (¬2) قال في الشرح الكبير (4/ 70) وجاز إعداد إناء لبول أو غائط إن خاف بالخروج سبعاً. اهـ فكونه قيد البول في الإناء بالخوف من السبع، ظاهره أنه يجوز للضرورة، ويحرم بدونها. (¬3) قال في المجموع (2/ 108): يحرم البول في المسجد في غير إناء، وأما الإناء ففيه احتمالان لابن الصباغ، ذكرهما في باب الاعتكاف، أحدهما: الجواز، كالفصد والحجامة في الإناء والثاني: التحريم؛ لأن البول مستقبح، فينزه المسجد منه، ورجحه النووي. وانظر حلية العلماء (3/ 189)، المنهج القويم (ص: 77)، روضة الطالبين (1/ 66). (¬4) قال في كشاف القناع (1/ 107): ويحرم فيه -أي في المسجد- الاستنجاء والريح والبول ولو بقارورة؛ لأن هواء المسجد كقراره". وانظر الفروع (3/ 130). (¬5) انظر المراجع السابقة.

الدليل الثاني

أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن حجر: وفي هذا الحديث من الفوائد: تعظيم المسجد وتنزيهه عن الأقذار، وأن الاحتراز من النجاسة كان مقرراً في نفوس الصحابة، ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته - صلى الله عليه وسلم - قبل استئذانه، ولما تقرر عندهم أيضا من طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة، ولم يقل لهم: لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصب الماء (¬2). الدليل الثاني: (288 - 132) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك -وهو عم إسحق- قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا ¬

(¬1) صحيح البخاري (220). (¬2) فتح الباري (1/ 325).

الدليل الثالث

تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه. ورواه البخاري دون قوله: إن هذه المساجد ... الخ (¬1). فقوله: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر. نص على شيئين: النجاسات، وذلك مثل البول، فتنزه المساجد عن سائر النجاسات. والقذر: أي ما يستقذر، وإن لم يكن نجساً، كالمخاط والبصاق والرائحة الكريهة كالثوم والبصل، ونحوهما، فينزه المسجد عنها، وإن لم تكن من النجاسات. الدليل الثالث: (289 - 133) ما رواه البخاري، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا قتادة، قال: سمعت أنس بن مالك قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها. ورواه مسلم (¬2). فإذا نزه المسجد من البصاق، وهو طاهر، فتنزيه المسجد من النجاسات أولى. الدليل الرابع: (290 - 134) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، ¬

(¬1) صحيح مسلم (285)، صحيح البخاري (219، 220، 6025). (¬2) صحيح البخاري (415)، وصحيح مسلم (552).

دليل من قال: يجوز البول في إناء في المسجد.

عن عبيد الله قال: حدثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر: من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا، ورواه مسلم (¬1). دليل من قال: يجوز البول في إناء في المسجد. (291 - 135) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ابن لهيعة، قال: كتب إلي موسى بن عقبة يخبرني عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في المسجد. قلت لابن لهيعة: في مسجد بيته؟ قال: لا، في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). قال النووي: فيه احتمالان لابن الصباغ، أحدهما: الجواز؛ كالفصد والحجامة (¬4). قلت: إن كان تجويز الحجامة على حديث ابن لهيعة فهو ضعيف. أولاً: ابن لهيعة لا يحتمل تفرده بمثل هذا الحكم. ثانياً: قد وهم فيه ابن لهيعة، كما ذكره مسلم في كتابه القيم التمييز، قال رحمه الله: وهذه رواية فاسدة من كل جهة، فاحش خطؤها في المتن والاسناد جميعاً، وابن لهيعة المصحِّف في متنه المغفل في إسناده، وإنما الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجر في المسجد بخوصة أو حصير يصلي فيها، وسنذكر صحة ¬

(¬1) صحيح البخاري (853)، مسلم (561). (¬2) المسند (5/ 185). (¬3) في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. (¬4) المجموع (2/ 108).

الرواية في ذلك إن شاء الله، ثم ساق بإسناده إلى موسى بن عقبة، قال: سمعت أبا النضر يحدث، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ليالي حتى اجتمع اليه أناس، ثم فقدوا صوته ليلة وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح بأن يخرج اليهم، وساقه (¬1). ثالثاً: لو تنزلنا، وقلنا بصحة الحديث، فإنه لا يصح القياس، فالبول غير الدم، فإن قلنا بنجاسته، وهو قول ضعيف، فإن الدم يعفى عن يسيره، والبول لا يعفى عن يسيره، وإن قلنا بطهارة الدم، وهو الصحيح، فإنه لا مجال لقياس النجس على الطاهر، وليس هذا موضع بحث طهارة الدم، لكن أسوق فيه ما وقع من حدوثه في المسجد. (292 - 136) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا زكرياء بن يحيى، قال: حدثنا عبد الله بن نمير قال: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم -وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دماً، فمات فيها، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬2). ¬

(¬1) التمييز (ص: 187). (¬2) صحيح البخاري (463)، ومسلم (1769).

المبحث التاسع في البول في الشق ونحوه

المبحث التاسع في البول في الشق ونحوه كره الفقهاء البول في الشق ونحوه كالجحر: وهو ما يحفره الهوام والسباع لأنفسها. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). دليل الكراهة. الدليل الأول: الإجماع. قال النووي: وهذا الذي قاله المصنف من الكراهة -يعني: من البول في الثقب ونحوه- متفق عليه، وهي كراهة تنزيه (¬2). الدليل الثاني: (293 - 137) ما رواه أحمد، قال: حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن عبد الله بن سرجس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبولن أحدكم في الجحر. الحديث وفيه: قالوا لقتادة: ما يكره من البول في الجحر؟ قال ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: مراقي الفلاح (ص: 23)، وفي مذهب المالكية: الخرشي (1/ 144)، الشرح الكبير (1/ 106)، مختصر خليل (ص: 15)، حاشية الدسوقي (1/ 106)، التاج والإكليل (1/ 398، 399). وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/ 100، 101)، أسنى المطالب (1/ 148، 149)، المهذب (1/ 26)، الإقناع للماوردي (1/ 25)، روضة الطالبين (1/ 65)، التنبيه (ص:17). وفي مذهب الحنابلة: المغني (1/ 108)، الفروع (1/ 116)، الإنصاف (1/ 97)، المبدع (1/ 83)، المحرر (1/ 9)، الكافي (1/ 51)، كشاف القناع (1/ 62). (¬2) المجموع (2/ 101).

يقال: إنها مساكن الجن (¬1). [إسناده صحيح، إن سلم من عنعنة قتادة] (¬2). ¬

(¬1) المسند (5/ 82). (¬2) اختلف العلماء في سماع قتادة من عبد الله بن سرجس: فأثتب سماعه منه علي بن المديني، كما في تلخيص الحبير (1/ 106). وأبو حاتم الرازي، كما في المراسيل لابنه (ص: 75). وأحمد بن حنبل، في رواية ابنه عبد الله. وروى ابن أبي حاتم في المراسيل (ص: 168) عن حرب بن إسماعيل، عن أحمد: ما أعلم قتادة روى عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عن أنس. قيل: فابن سرجس؟ فكأنه لم يره سماعاً. اهـ وهذا تشكيك منه، وليس بجزم، وقد جزم في رواية عبد الله بالسماع، كما جزم غيره من العلماء. واختلف قول الحاكم فيه، ففي المتسدرك لم يستبعد سماعه منه، وفي التهذيب، ذكر الحاكم بأنه لم يسمع من صحابي غير أنس. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وأبو داود (29)، والنسائي في الكبرى (30)، وفي المجتبى (34)، وابن الجارود في المنتقى (34)، والحاكم (666)، والروياني في مسنده (1451)، والبيهقي (1/ 9)، والبغوي في شرح السنة (192)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (9/ 402) من طريق معاذ بن هشام به. والحديث سكت عليه أبو داود والمنذري، وصححه ابن خزيمة، وقال الحاكم: هذا حديث على شرط الشيخين فقد احتجا بجيمع رواته، ولعل متوهماً يتوهم أن قتادة لم يذكر سماعاً، وليس هذا بمستبعد، فقد سمع قتادة من جماعة من الصحابة لم يسمع منهم عاصم بن سليمان الأحول، وقد احتج مسلم بحديث عاصم، عن عبد الله بن سرجس، وهو من ساكني البصرة. اهـ قلت: لم يذكر لنا الحاكم جماعة الصحابة الذين روى عنهم قتادة، والمعلوم أنه لم يرو =

وما يقال: إنها مساكن الجن، هذا قول قتادة، ليس قولاً مرفوعاً، وقد ساقه بصيغة: يقال إنها مساكن الجن. وهذا لا يقبل إلا بتوقيف. (294 - 138) وقد روى الطبراني، قال: حدثنا أبو مسلم الكشي، ثنا أبو عاصم، عن ابن عون، عن ابن سيرين قال: بينا سعد يبول قائماً إذ اتكأ، فمات قتلته الجن فقالوا: نحن قتلنا سيد الخزر ... ج، سعد بن عبادة رميناه بسهمين ... فلم يخطىء فؤاده (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= إلا عن أنس، واختلف في سماعه من عبد الله بن سرجس، فإذا كان عاصم بن سليمان الأحول قد شاركه في الرواية عن أنس وعن عبد الله بن سرجس، فكيف يكون روى عن جماعة من الصحابة لم يسمع منهم عاصم بن سليمان الأحول، إلا إن كان مقصود الحاكم بأنه يرسل عنهم، فإذا كان كذلك فأي فائدة تذكر في روايته عنهم، والله أعلم. (¬1) المعجم الكبير للطبراني (6/رقم5359). (¬2) ابن سيرين لم يدرك سعد بن عبادة، قاله الهيمثي في مجمع الزوائد (1/ 206). والحديث أخرجه الحارث بن أبي أسامة، كما في بغية الباحث (63) قال: حدثنا أبو عاصم به. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 116) رقم 1322 حدثنا أبو أسامة وابن إدريس، عن ابن عون، عن ابن سيرين أن سعد بن عبادة بال قائماً. اهـ ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 617) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن ابن سيرين به بنحوه. وأخرجه الحاكم في المستدرك (5102) من طريق بكار بن محمد، ثنا ابن عون به، بلفظ: أن سعد بن عبادة أتى سباطة قوم، فخر ميتاً، فقالت الجن: وذكر البيتين. وقد تابع محمد بن سيرين كل من قتادة، وعبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة، وعطاء بن أبي رباح، وأبو رجاء العطاري. =

الدليل الثالث

وقال بعضهم: لعله أراد صغار الحيات، فإنها يقال لها جن، وجنان، وأحدها جانٌّ. الدليل الثالث: من النظر، فإنه ينهى عن البول في الجحر؛ لإن في ذلك مفسدتين: الأولى: أن هذه الهوام قد تخرج من جحرها، فيفزع منها، فيتلوث بالنجاسة. الثانية: أن في ذلك اعتداء على هذه الهوام، وإفساد لمساكنها، دون أن ¬

_ = أما متابعة قتادة، فأخرجها عبد الرزاق في مصنفه (3/ 597) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبراني في الكبير (6/رقم 5360) والحاكم في المستدرك (5103)، وهذا الإسناد فيه انقطاع أيضاً، فإن قتادة لم يدرك سعد بن عبادة. وقد قدمنا عن الأئمة أن قتادة لا يروي عن صحابي إلا عن أنس، واختلف في سماعه من عبد الله بن سرجس، وانظر جامع التحصيل (ص: 254). وأما متابعة عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة، فأخرجها ابن سعد في الطبقات (3/ 617)، و (7/ 390) من طريق الواقدي، قال: أخبرنا يحيى بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، فذكر بمعناه، وسياقه أطول. والواقدي متروك، فلا يفرح بها، ويحيى قال فيه أبو حاتم: لا أعرفه. الجرح والتعديل (9/ 171). وأما متابعة عطاء بن أبي رباح، فقد ذكره ابن عبد البر معلقاً في الاستيعاب، المطبوع بهامش الإصابة (2/ 40) قال: روى ابن جريج، عن عطاء، فذكره ... وهذا ضعيف؛ لإنقطاعه. وأما متابعة أبي رجاء العطاردي، فذكره الذهبي في السير (1/ 278) قال الأصمعي: حدثنا سلمة بن بلال، عن أبي رجاء، فذكره مختصراً. ولم أقف على ترجمة سلمة بن بلال، والإسناد معلق، ولم يذكر الذهبي إسناده إلى الأصمعي لينظر فيه. هذا ما وقفت عليه في طرق الحديث، وكلها لا تخلو من ضعف، والله أعلم.

تؤذيه، وقد علم أن الحشرات والهوام أقسام: منها ما أمرنا بقتله ابتداء، لكونه معتدياً بطبعه، كالحية والعقرب. ومنها: ما نهينا عن قتله كالنملة والنحلة. ومنها ما سكت عنه، فهذا النوع لا يعتدى عليه إلا إذا اعتدى أو آذى، ولذا جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين: " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ... الحديث. مع أن غمسه قد يكون سبباً في هلاكه أحياناً كما لو كان الشراب حاراً، أو دهناً، أو نحوهما، ولكنه حين اعتدى وسقط في الإناء أمرنا بذلك، ولم يأت نص بقتله ابتداء.

المبحث العاشر في البول على القبر

المبحث العاشر في البول على القبر اختلف العلماء في البول على القبر: فقيل: يكره البول على القبر، وهو مذهب الحنفية، ولعلها كراهة تحريم (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يحرم البول على القبر، وهو مذهب الجمهور (¬3). وأما البول بقربه، فقيل: يكره البول بقربه (¬4). وقيل: لا يكره، وهو رواية عن أحمد (¬5). ¬

(¬1) قال ابن نجيم في البحر الرائق (2/ 109): " وفي المجتبى: ويكره أن يطأ القبر أو يجلس أو ينام عليه أو يقضي عليه حاجة من بول أو غائط. اهـ وانظر الكتاب نفسه (1/ 256)، وتحفة الفقهاء (1/ 257)، وشرح معاني الآثار (1/ 516، 517). (¬2) الإنصاف (1/ 100) قال المرادوي: لو قيل بالتحريم لكان أولى، وكأنه لا يعلم أن هناك قولاً بالتحريم، بل قال المؤلف نفسه في الكتاب نفسه (2/ 550): لا يجوز التخلي عليه، على الصحيح من المذهب، وقال في نهاية الأزجي: يكره التخلي. قال المرداوي: فلعله أراد بالكراهة التحريم، وإلا فبعيد جداً، ويكره التخلي بينها، وكرهه الإمام أحمد، زاد حرب: كراهية شديدة، وقال في الفصول: حرمته ثابتة، ولهذا يمنع من جميع ما يؤذي الحي أن ينال به، كتقريب النجاسة منه. انتهى. (¬3) الأم (1/ 277، 278)، مواهب الجليل (2/ 253)، حاشية الدسوقي (1/ 428)، التاج والإكليل (1/ 252)، المنتقى للباجي (2/ 24)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 46، 400)، المجموع (2/ 108)، روضة الطالبين (1/ 66)، المغني (2/ 192)، الفروع (2/ 236)، المحلى (5/ 141). (¬4) انظر المراجع السابقة. (¬5) الإنصاف (1/ 99).

دليل من قال: يحرم البول عليه.

دليل من قال: يحرم البول عليه. (295 - 139) ما رواه مسلم، قال: وحدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر (¬1). وجه الاستدلال: إذا كان الجلوس على القبر محرماً، فالبول والتغوط عليه أشد حرمة، مع أن أبا حنيفة (¬2) ومالكاً (¬3) فسرا الجلوس على القبر كناية عن الجلوس عليه لقضاء الحاجة، فيكون الاستدلال إما بالقياس الجلي، وإما بالنص حسب تفسير المالكية، وإن كان تفسير المالكية فيه ضعف (¬4). ¬

(¬1) مسلم (971). (¬2) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 516). (¬3) المنتقى للباجي (2/ 24). (¬4) فقد رد ابن حزم على الحنفية والمالكية الذين حملوا النهي عن الجلوس على القبر، بأنه كناية عن الجلوس للغائط، فقال في المحلى (5/ 136): وهذا باطل بحت لوجوه: أولها: أنه دعوى بلا برهان، وصرف لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه، وهذا عظيم جداً. وثانيها: أن لفظ الخبر مانع من ذلك قطعاً بقوله عليه السلام: لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن القعود للغائط لا يكون هكذا ألبتة، وما عهدنا قط أحداً يقعد على ثيابه للغائط إلا من لا صحة لدماغه. وثالثها: أن الرواة لهذا الخبر لم يتعدوا به وجهه من الجلوس المعهود، وما علمنا قط في اللغة جلس فلان بمعنى تغوط، فظهر فساد هذا القول ولله تعالى الحمد. اهـ =

دليل من قال: يكره البول بقربه.

دليل من قال: يكره البول بقربه. قالوا: إن هذا قد يؤذي الإحياء ممن يأتي لزيارة القبور، وأذية المؤمنين لا تجوز، وإذا كان قد ثبت النهي عن البول في طرق المسلمين وظلهم، فإنه البول بالقرب من القبر في معنى المنهي عنه، بجامع الأذية في الكل. التعليل الثاني: أن حرمة الميت كحرمة الحي، قال في الفصول: وحرمته -يعني الميت-باقية ولهذا يمنع من جميع ما يؤذي الحي أن يناله به، كتقريب النجاسة منه (¬1). دليل من قال: لا يكره البول بقرب القبر. (296 - 140) روى ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة، ثنا المحاربي، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق (¬2). [المحفوظ فيه وقفه على عقبة] (¬3). ¬

= وقال ابن قدامة في المغني (2/ 192): ذكر لأحمد أن مالكاً يتأول حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يجلس على القبور: أي للخلاء، فقال: ليس هذا بشيء، ولم يعجبه رأي مالك. اهـ (¬1) الفروع (2/ 236). (¬2) سنن ابن ماجه (1567). (¬3) فقد رواه ابن أبي شيبة (3/ 26) حدثنا شبابة، عن ليث بن سعد به، موقوفاً على عقبة، والمحاربي مدلس، ولعل ذكره قضاء الحاجة في السوق، وفي مسند ابن أبي شيبة: والناس ينظرون إلا أن يبين أن الوطء على القبر أشد حرمة، والله أعلم.

المبحث الحادي عشر في البول في الإناء

المبحث الحادي عشر في البول في الإناء يجوز البول في إناء، وهو مذهب الشافعية (¬1)، واختاره ابن قدامة في المغني (¬2). وقيل: يكره إن كان بلا حاجة، وهو مذهب الحنابلة (¬3). وخص المالكية الكراهة بالآنية النفيسة كالذهب والفضة (¬4). دليل من جوز البول في إناء. الدليل الأول: الأصل الجواز، وقد حكى الشوكاني في جوازه الإجماع. قال الشوكاني: جواز إعداد الآنية للبول فيها بالليل، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً (¬5). ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (1/ 108): قال أصحابنا لا بأس بالبول في إناء. اهـ وانظر حلية العلماء (3/ 189)، روضة الطالبين (1/ 66)، بل قال في شرح البجيرمي على الخطيب (1/ 191): ويندب اتخاذ إناء للبول فيه ليلاً للاتباع؛ ولأن دخول الحش يخشى منه ليلاً. اهـ (¬2) قال ابن قدامة في المغني (1/ 110) ولا بأس أن يبول في الإناء. (¬3) الإنصاف (1/ 99)، الفروع (1/ 85)، منار السبيل (1/ 26)، كشاف القناع (1/ 62)، مطالب أولي النهى (1/ 68). (¬4) قال في مواهب الجليل (1/ 277): قال في المدخل: يكره البول في أواني النفيسة؛ للسرف، وكذلك يحرم في أواني الذهب والفضة؛ لحرمة اتخاذها واستعمالها. اهـ (¬5) نيل الآوطار (1/ 115).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (297 - 141) ما رواه النسائي، قال: خبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أزهر، أنبأنا ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى إلى علي، لقد دعا بالطست؛ ليبول فيها، فانخنثت نفسه وما أشعر، فإلي من أوصى؟ (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث: (298 - 142) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن عيسى، ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن حكيمة بنت أميمة بنت رقيقة، عن أمها أنها قالت: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل (¬3). ¬

(¬1) سنن النسائي (33). (¬2) والحديث أخرجه البيهقي (1/ 99) من طريق العباس بن محمد الدوري، ثنا أزهر به. وقد أخرجه البخاي (4459) حدثنا عبد الله بن محمد، أخبرنا أزهر به. وفيه: فدعا بالطست، فانخنث، فمات. فلم تذكر البول. وأخرجه البخاري (2741) ومسلم (1636) من طريق إسماعيل بن علية، عن ابن عون به، بلفظ: فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري. الحديث. ولم تذكر البول. فهل يحمل المجمل في هذه الرواية على الصريح في رواية النسائي، وأن الطست إنما دعا به للبول فيه، فيه احتمال. قال النووي في المجموع (2/ 108): وهو محمول على الرواية الصحيحة الصريحة في البول. اهـ (¬3) سنن أبي داود (24).

دليل من قيده بالحاجة.

[إسناده فيه لين] (¬1). دليل من قيده بالحاجة. لعلهم رأوا أن ذلك كان في وقت قبل أن تنتشر الحشوش في البيوت في المدينة، وكان الخروج لقضاء الحاجة ليلاً فيه مشقة، أو رأوا أن في ذلك نجاسة للآنية، فيقيد بالحاجة، أو رأوا أن الأدلة الدالة على الجواز تشعر بقيد الحاجة؛ لأنها إما بوقت مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في وقت الليل، وكلها تدل على وجود الحاجة إلى هذا الفعل، فقيدوه بالحاجة، والله أعلم. دليل من خص الكراهة بالآنية النفيسة. دليله أن البول في الآنية الثمينة يدل على السرف والخيلاء، وهذا منهي عنه في آيات وأحاديث كثيرة، وليس النهي عائداً إلى ذات البول، وإنما ما يكون فيه من إسراف وخيلاء، ولا شك أن من يبول في آنية الذهب والفضة أنه مسرف، مع ما قد يقال: إن البول في آنية الذهب والفضة يدخل في الاستعمال، وقد حررت الخلاف في حكم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب في مسألة مستقلة من هذا الكتاب. والقول الأول أقوى، وهو الراجح أن البول في الإناء جائز، والأصل الحل، والله أعلم. ¬

(¬1) في إسناده حكيمة بنت أميمة، لم يرو عنها إلا ابن جريج، ولم يوثقها إلا ابن حبان. الثقات (4/ 195)، وقال الذهبي في الميزان: غير معروفة. وفي التقريب: لا تعرف. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه النسائي في الكبرى (34)، وفي الصغرى (32)، وأبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (3342)، والطبراني في المعجم الكبير (24/ 205)، وابن حبان في صحيحه (1426)، والحاكم في المستدرك (593)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 99) من طريق حجاج بن محمد به.

المبحث الثاني عشر في التحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء

المبحث الثاني عشر في التحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء استحب الجمهور أن يتحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء (¬1)، بشرطين: الأول: أن يكون الاستنجاء بالماء، فإن كان الاستنجاء بالحجارة، فلا يشرع له التحول؛ لأن التحول قد يزيده تلوثاً. الثاني: عند خوف التلوث، فإن أمن التلوث لم يشرع له الانتقال، كما في المرحاض؛ لأن التلوث فيه مأمون. دليل الاستحباب. الدليل الأول: (299 - 143) روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 344)، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (35)، ومواهب الجليل (1/ 276)، وقال النووي في المجموع (2/ 107): واتفق أصحابنا على أن المستحب أن لا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة، لئلا يترشش عليه، وهذا في غير الأخلية المتخذة لذلك. أما المتخذ لذلك كالمرحاض فلا بأس فيه؛ لأنه لا يترشش عليه؛ ولأن في الخروج منه إلى غيره مشقة، وقول المصنف والأصحاب: لا يستنجي بالماء في موضعه، احتراز من الاستنجاء بالأحجار، فإن شرطه أن لا ينتقل عن موضعه كما سنوضحه إن شاء الله تعالى. وانظر تحفة المحتاج (1/ 170، 171)، روضة الطالبين (1/ 65)، نهاية المحتاج (1/ 141)، وانظر المغني (1/ 109)، كشاف القناع (1/ 63)، الروض المربع (1/ 36)، زاد المستقنع (ص: 23).

الدليل الثاني

كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله. الحديث (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثاني: (300 - 144) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أخبرني أشعث، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه (¬3). [اختلف في وقفه ورفعه، والحسن قد سمع من عبد الله بن مغفل] (¬4). ¬

(¬1) مسند أحمد (4/ 111). (¬2) وسبق الكلام عليه في باب المياه. (¬3) المسند (5/ 56). (¬4) الحديث أخرجه عبد الرزاق في المصنف (978)، ومن طريقه أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وعبد بن حميد (505)، وأبو داود (27)، وابن ماجه (304)، وابن الجارود (35)، والبيهقي (1/ 98). وأخرجه أحمد (5/ 56)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 429)، والترمذي (21)، والنسائي (36) وابن حبان (1255)، والحاكم (595) من طريق ابن المبارك، أخبرنا معمر، حدثني أشعث به، بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبول الرجل في مستحمه، فإن عامة الوسواس منه. ورواه قتادة، واختلف عليه فيه: فرواه ابن أبي شيبة (1/ 106) رقم 1201، والبخاري في التاريخ الكبير (6/ 431)، والعقيلي في الضعفاء (1/ 29)، والبيهقي (1/ 98) من طريق شعبة، عن قتادة، عن عقبة بن صهبان، عن ابن مغفل، أنه سئل عن الرجل يبول في مغتسله. قال: يخاف منه الوسواس. =

قال الخطابي: المستحم: المغتسل، ويسمى مستحماً باسم الحميم، وهو الماء الحار الذي يغتسل به، وإنما نهي عن ذلك إذا لم يكن المكان جدداً صلباً، أو لم يكن مسلك ينفذ فيه البول، ويسيل فيه الماء، فيوهم المغتسل أنه أصابه من قطره ورشاشه، فيورثه الوسواس (¬1). ¬

= وهذا موقوف، ورجاله ثقات. ورواه الحاكم (663)، وعنه البيهقي (1/ 98) من طريق يزيد بن زريع، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عقبة بن صهبان، عن عبد الله بن مغفل، قال: نهي أو زجر أن يبال في المغتسل. ويزيد بن زريع سمع منه سعيد قبل اختلاطه، فهنا اختلف شعبة وسعيد بن أبي عروبة في لفظه، ولفظ سعيد بن أبي عروبة له حكم الرفع، ولفظ شعبة صريح بالوقف، وشعبة إمام. ورواه البيهقي (1/ 98) من طريق يزيد بن إبراهيم التستري، ثنا قتادة، عن سعيد، عن الحسن بن أبي الحسن، عن عبد الله بن مغفل، أنه كان يكره البول في المغتسل، وقال: إن منه الوسواس. وهذا موقوف أيضاً، إلا أن إسناده ضعيف، فيه يزيد بن إبراهيم التستري، وإن كان ثقة ثبتاً إلا أن روايته عن قتادة فيها لين، وسعيد لم ينسب، فلم يتبين لي من هو؟ (¬1) معالم السنن (1/ 31).

الباب الثالث في صفة الاستنجاء والاستجمار

الباب الثالث في صفة الاستنجاء والاستجمار ويشتمل على إحدى عشر فصلاً: الفصل الأول: في التسمية عند الاستنجاء والاستجمار. الفصل الثاني: حكم النية للاستنجاء. الفصل الثالث: يبدأ الرجل بالقبل قبل الدبر. الفصل الرابع: هل يكفي في الاستنجاء غلبة الظن أم لا بد من اليقين الفصل الخامس: في صفة الإنقاء. الفصل السادس: قول العلماء في الأثر المتبقي بعد الاستجمار. الفصل السابع: القول في قطع الاستنجاء على وتر. الفصل الثامن: في صفة المسح بالأحجار. الفصل التاسع: لايباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس الذكر بها حال البول. الفصل العاشر: الشك بعد الفراغ من الاستنجاء. الفصل الحادي عشر: نضح الماء على الفرج والسروايل.

الفصل الأول في التسمية عند الاستنجاء والاستجمار

الفصل الأول في التسمية عند الاستنجاء والاستجمار لم أقف على كلام لأحد من أهل أنه أستحب للإنسان أن يسمي إذا أراد الشروع في الاستنجاء أو الاستجمار. وقد ذكرنا الخلاف في مشروعية التسمية عند إرادة الدخول لمكان الخلاء في فصل مستقل، فلعلهم رأوا أن التسمية السابقة لدخول الخلاء إنما هي للبول والغائط والاستنجاء منهما، خاصة إذا علمنا أن الجمهور يكرهون ذكر الله في الخلاء، كما أني لا أعلم دليلاً من السنة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسمي عند مباشرته للاستنجاء، فنستطيع أن نقول: بأن التسمية عند البدء بالاستنجاء أو الاستجمار غير مشروعة، فلا قائل بها فقهاً، ولم يرد فيها أثر منقول فيما أعلم، والله أعلم. (301 - 145) ولا يستدل للتسمية للاستنجاء بما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله، فهو أبتر أو قال: أقطع (¬1). [فإن إسناده ضعيف ومتنه مضطرب] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 359). (¬2) أما ضعف إسناده ففيه قرة بن عبد الرحمن، وفي التقريب يقال: اسمه يحيى. قال أحمد: منكر الحديث جداً. الكامل (6/ 53)، لسان الميزان (7/ 492). وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، كما في رواية ابن أبي خيثمة. الجرح والتعديل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (7/ 131)، تهذيب التهذيب (8/ 333). وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال أبو زرعة: الأحاديث التي يرويها مناكير. الجرح والتعديل (7/ 131). وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/ 333). وذكره ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار (526). وذكره في الثقات. ثقات ابن حبان (7/ 382) ورد قول ابن السمط أن قرة بن عبد الرحمن أعلم الناس بالزهري، وقال: كيف يكون أعلم الناس بالزهري، وكل شيء روى عنه لا يكون ستين حديثاً. قلت ما نسبه ابن حبان من قول ابن السمط إنما هو من قول الأوزاعي. انظر الجرح والتعديل (7/ 131)، وتهذيب التهذيب (8/ 333). وقال الآجري عن أبي داود: في حديثه نكارة. تهذيب التهذيب (8/ 333). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 485) وفي التقريب: صدوق له مناكير. وقد اضطرب إسناده ومتنه. أما اضطراب الإسناد فقيل فيه كما في إسناد الباب: الأوزاعي عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقيل: الأوزاعي، عن الزهري به، سقط منه قرة. وقيل: الأوزاعي، عن يحيى (قرة بن عبد الرحمن) عن أبي سلمة به، سقط منه الزهري. وقيل: عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وأما اضطراب المتن، فقيل: " كل أمر لا يفتح بذكر الله .. " وقيل: " لا يبدأ فيه بحمد الله .. ". وقيل: " لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وقيل: " لا يبدأ بحمد الله والصلاة عليَّ ـ أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - " فزاد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ?. وإليك تفصيل ما أجمل من الإسناد والمتن: أما رواية: [لا يبدأ فيه بذكر الله] =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فرواها ابن المبارك كما عند أحمد (2/ 359)، وموسى بن أعين كما في سنن الدارقطني (1/ 129) كلاهما عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأما رواية: [لا يبدأ فيه بحمد الله]: فرواها جماعة الأول: الوليد بن مسلم، كما في سنن أبي داود (4840)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (494)، والدارقطني (1/ 229). الثاني: عبيد الله بن موسى، كما في سنن ابن ماجه (1849). الثالث: عبد الحميد بن أبي العشرين، كما في صحيح أبن حبان رقم (1). الرابع: شعيب بن إسحاق، كما في صحيح ابن حبان رقم (2). الخامس: أبو المغيرة: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني كما في سنن البيهقي (3/ 208،209) خمستهم رووه عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة به، فتبين أن أكثر الرواة يروونه بلفظ " الحمد " وليس فيها شاهد على مسألتنا، ولذا قال الحافظ في الفتح (8/ 220) في تفسير قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} في الكلام على حديث هرقل، قال: وصححه ابن حبان وفي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته، فالمشهور فيه بلفظ: حمد الله. اهـ وأما الرواية بلفظ: [لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] فقد رواه الخطيب في الجامع (1210) من طريق مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، عن الزهري به. وهذا الطريق كما أن فيه مخالفة في المتن، فيه مخالفة في الإسناد، حيث أسقط من سنده قرة بن عبد الرحمن. وأما رواية: [لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة عليَّ]: فقد أخرجها الخليلي في الإرشاد (1/ 449) من طريق إسماعيل بن أبي زياد الشامي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة به. قال المناوي في فيض القدير (5/ 14): " وقال الرهاوي غريب تفرد بذكر الصلاة. فيه إسماعيل بن أبي زياد، وهو ضعيف جداً، لا يعتبر بروايته ولا بزيادته ". قال الدارقطني: يضع الحديث، كذاب متروك. الضعفاء والمتروكين له (85). =

ومع ضعف الحديث فإن هناك عبادات لا تشرع فيها التسمية، منها الأذان، والدخول في الصلاة، فلا يقال: إن التسمية مشروعة في كل شيء، والاستنجاء شيء، لأننا نقول: إن الاستنجاء يتكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً، فهل نقل من فعله أنه كان يسمي، أو نقل من قوله: أن الإنسان يسمي إذا شرع في الاستنجاء، وإذ لم يوجد تكون التسمية في الاستنجاء بدعة، والله أعلم. ¬

_ = الكشف الحثيث (142)، اللسان (1/ 1/ 406). وقال الخليلي: ليس بالمشهور، كان يكون في دار المهدي. يقال: إنه كان يعلم ولد المهدي، وهو من جملة الحواشي، ويشحن هذا التفسير بأحاديث مسندة يرويها عن شيوخه عن ثور بن يزيد، وعن يونس الأيلي أحاديث لا يتابع عليها. الإرشاد (1/ 391). [وأما رواية الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً] فأخرجها النسائي (496) في عمل اليوم والليلة عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري مرسلاً، وأخرجه (495) عن محمود بن خالد، حدثنا الوليد، حدثنا سعيد ابن عبد العزيز، عن الزهري به.

الفصل الثاني حكم النية للاستنجاء

الفصل الثاني حكم النية للاستنجاء اتفق الجمهور على أن الطهارة من الخبث لا تشترط له نية، ومنه الاستنجاء (¬1)، وخالف أكثر المالكية فاشترطوا النية في الاستنجاء من المذي خاصة، وهو المعتمد في المذهب (¬2). وقال القرافي: تشترط النية في إزالة كل النجاسات، وهو خلاف شاذ (¬3). ¬

(¬1) أما الحنفية فإنهم لا يشترطون النية لا في طهارة الحدث، ولا في طهارة الخبث، انظر في كتب الحنفية شرح فتح القدير (1/ 32)، البناية في شرح الهداية (1/ 173)، تبيين الحقائق (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 24)، بدائع الصنائع (1/ 19)، مراقي الفلاح (ص:29)، أحكام القرآن للجصاص (3/ 337). وفي مذهب الشافعي انظر المهذب (1/ 14)، والمجموع (1/ 354)، وفي مذهب الحنابلة مطالب أولي النهي (1/ 105)، انظر المبدع (1/ 117). (¬2) قال في حاشية الدسوقي (1/ 112): واعلم أن غسل الذكر من المذي وقع فيه خلاف، قيل: إنه معلل بقطع المادة، وإزالة النجاسة. وقيل: إنه تعبد، والمعتمد الثاني. (أي كونه تعبداً) ثم قال: ويتفرع أيضاً، هل تجب النية في غسله أو لا تجب، فعلى القول بالتعبد تجب، وعلى القول بأنه معلل لا تجب، والمعتمد وجوبها. اهـ وأما في غير المذي فقد صرحوا بأن الاستنجاء يجزئ بلا نية، جاء في التاج والإكليل (1/ 229): قال ابن أبي زيد في الاستنجاء: ويجزئ فعله بغير نية، وكذلك غسل الثوب النجس. اهـ وانظر مواهب الجليل (1/ 160). (¬3) مواهب الجليل (1/ 160).

دليل الجمهور على عدم اشتراط النية

دليل الجمهور على عدم اشتراط النية. الدليل الأول: الإجماع. حكى الإجماع على أن طهارة الخبث لا تجتاج إلى نية جماعة، منهم القرطبي في تفسيره (¬1)، وابن بشير وابن عبد السلام من المالكية (¬2)، والبغوي، وصاحب الحاوي من الشافعية (¬3). الدليل الثاني: قالوا: إن الطهارة من الخبث من باب التروك، وهو لا يحتاج إلى نية كترك الزنا والخمر، فلو أن المطر نزل على ثوب نجس، فزالت النجاسة طهر الثوب ولو لم ينو؛ لأن النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها. دليل المالكية على اشتراط النية. (302 - 146) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك (¬4). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: اغسل ذكرك، حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف، فيعم جميع الذكر، فيغسل مخرج الذكر من أجل النجاسة، أما بقية الذكر فالراجح عندهم أن غسله تعبدي غير معقول المعنى، وهذا سبب اشتراط النية. وقال بعضهم: إن غَسْل الذكر إنما هو من أجل قطع مادة المذي، فهو ¬

(¬1) تفسير القرطبي (5/ 213)،. (¬2) مواهب الجليل (1/ 160). (¬3) المجموع (1/ 354). (¬4) صحيح البخاري (269)، ومسلم (303).

كغسل النجاسات، لا يفتقر إلى نية، والمعتمد القول الأول (¬1). والراجح قول الجمهور، وأن طهارة الخبث لا تفتقر إلى نية، وسوف يأتي بحث مستقل هل يغسل الذكر كله، أو يغسل رأس الحشفة منه، أو يغسل الذكر كله مع الإنثيين في الاستنجاء من المذي، وكلها أقوال فقهية للأئمة، رجحت منها أن غسل الذكر كله لا يجب، وإنما الواجب غسل رأس الحشفة، وبالتالي يكون قول المالكية قولاً مرجوحاً، لأنه بني على قول مرجوح، وهو وجوب غسل جميع الذكر، والله أعلم. ¬

(¬1) قال القاضي أبو الوليد كما في المنتقى للباجي (1/ 50): الصحيح عندي أنه يفتقر إلى النية لأنها طهارة تتعدى محل وجوبها. وانظر في مذهب المالكية مواهب الجليل (1/ 285)، الخرشي (1/ 149)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323).

الفصل الثالث يبدأ الرجل بالقبل قبل الدبر

الفصل الثالث يبدأ الرجل بالقبل قبل الدبر اختلف الفقهاء أيهما أفضل يبدأ في الاستنجاء بالقبل أم بالدبر: فقيل: يبدأ بالدبر قبل القبل، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله (¬1). وقيل: يبدأ بالقبل قبل الدبر، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد من الحنفية (¬2)، وقيل: يبدأ بالقبل قبل الدبر إلا إن كان القبل يقطر عند ملاقاة الماء لدبره، اختاره بعض المالكية (¬3). وقيل: يستحب إن كان يستنجي بالماء تقديم القبل على الدبر، وإن كان بالحجر قدم الدبر على القبل، اختاره بعض الشافعية (¬4). وقيل: يبدأ ذكر وبكر بقبل، والثيب تخير بأيهما تبدأ، وهو مذهب الحنابلة (¬5). ¬

(¬1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 31). (¬2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 31)، ولم يذكر غيره ابن عابدين في حاشيته (1/ 345). (¬3) الشرح الكبير (1/ 106)، حاشية الدسوقي (1/ 106)، الفواكه الدواني (1/ 132)، الخرشي (1/ 142)، حاشية العدوي (1/ 173،174)، حاشية الصاوي (1/ 97). (¬4) المنهج القويم (ص: 83)، إعانة الطالبين (1/ 108)، حاشية البجيرمي (1/ 63)، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/ 48)، مغني المحتاج (1/ 46)، وأطلق النووي في كتابيه المجموع (1/ 127)، وروضة الطالبين (1/ 71) تقديم القبل على الدبر مطلقاً، ولم يفصل إن كان المستنجى به ماء أو حجراً. (¬5) كشاف القناع (1/ 65)، الفروع (1/ 89)، وقال في الإنصاف (1/ 107): يبدأ =

وقيل: إن المرأة تتخير مطلقاً بكراً كانت أو ثيباً، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬1). هذه هي الأقوال في المسألة، ولا أعلم أن هناك نصاً في استحباب تقديم القبل أو العكس، وإنما المسألة مبنية على تعاليل استنبطها بعض القوم، ورأى أنها كافية في الاستحباب، فمن استحب تقديم القبل على الدبر، قال: من أجل أن يأمن التلوث عند الاستنجاء بالدبر، لأن يده قد تمس ذكره، فتتنجس يده. ومن استحب تقديم الدبر على القبل، قال: لأنه إذا قام بدلك دبره وما حوله قطر البول كما هو مشاهد، فلا تكون هناك فائدة في تقديم القبل، وهذا اختيار أبي حنيفة، وهو الذي جعل المالكية يستحبون تقديم القبل على الدبر إلا في رجل يعرف من نفسه أنه إذا مس الماء الدبر قطر بوله. وأما من فرق بين البكر والثيب، رأى أن البكر يخرج بولها فوق الفرج، والعذرة تمنع نزول البول فيه، فأشبهت الرجل من هذا الوجه بخلاف الثيب، والصحيح أن المرأة ليست كالرجل، فإن ذكر الرجل يتدلى وقد يلوث اليد إذا لم يبدأ بالقبل قبل الدبر بخلاف المرأة. وبهذه التعليلات نعرف أنها كلها مبنية على استحسان ليس أكثر، وليس في المسألة نص، والأمر واسع، ولو كان هناك صفة مشروعة لجاء الشرع بها {وما كان ربك نسياً} (¬2) والله أعلم. ¬

= الرجل والبكر بالقبل على الصحيح من المذهب. اهـ (¬1) شرح العمدة (1/ 156)، الإنصاف (1/ 107). (¬2) مريم: 64.

الفصل الرابع هل يكفي في الاستنجاء غلبة الظن أم لا بد من اليقين

الفصل الرابع هل يكفي في الاستنجاء غلبة الظن أم لا بد من اليقين اختلف الفقهاء في هذا، فقيل: يكفي فيه غلبة الظن، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا بد من اليقين، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل من قال: يكفي غلبة الظن. الدليل الأول: (303 - 147) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: الهداية شرح البداية (1/ 137)، وحاشية ابن عابدين (1/ 345). وفي مذهب المالكية: الفواكه الدواني (1/ 132)، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (1/ 43). وفي مذهب الشافعية: الإقناع للشربيني (1/ 155)، روضة الطالبين (1/ 72)، إعانة الطالبين (1/ 107)، مغني المحتاج (1/ 46). وفي مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 70)، الإنصاف (1/ 110)، المبدع (1/ 95)، الفروع (1/ 120). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 345). (¬3) الإنصاف (1/ 110).

أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، وقالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم من إناء واحد، نغرف منه جميعاً، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته " وغسل الجنابة إحدى الطهارتين، لأن الطهارة إما عن حدث، وإما عن خبث، فإذا جاز الاكتفاء بالظن في طهارة الحدث، جاز في طهارة الخبث. ويناقش هذا الاستدلال: أولاً: يحتمل أن يكون الظن هنا، بمعنى العلم، فيكون معناه: حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته: أي حتى إذا علم. وإطلاق الظن على العلم كثير في اللغة العربية، قال تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} (¬2)، وقال: {وظنوا أنهم مواقعوها} (¬3)، وقد يطلق العلم على الظن، قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} (¬4)، فالعلم هنا متعذر؛ لأن الإيمان أمر قلبي، لكن يراد به غلبة الظن. ثانياً: على التسليم أن الظن في الحديث على بابه، فلم يكتف بالظن، ألا ترى أنه حين ظن أنه أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، فيحصل العلم بتعميم الماء، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (273)، ومسلم (316). (¬2) الحاقة: 20. (¬3) الكهف: 53. (¬4) الممتحنة: 10.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: جاء العمل بالظن في كثير من العبادات، والطهارة من الاستنجاء مقيسة عليها. (304 - 148) منها ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال عبد الله: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم -قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص- فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى، كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله: فليتحر الصواب. فالتحري عمل بالظن، وإذا جاز العمل بالظن في الصلاة وهي مقصودة، جاز العمل بالظن في الطهارة لها، والله أعلم. (305 - 149) ومنها: ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: أفطرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم ثم طلعت الشمس (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (401)، مسلم (572). (¬2) صحيح البخاري (1959).

الدليل الثالث

ولو أمروا بالقضاء لنقل، فإذا جاز التحري بدخول وقت الصلاة، جاز التحري للطهارة لها. الدليل الثالث: قالوا: إن طلب اليقين في مثل هذه الأشياء يكون فيه حرج ومشقة، والحرج مدفوع عن هذه الأمة، قال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬1)، وقال سبحانه {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} (¬2). دليل من قال: لا بد من اليقين. الدليل الأول: قالوا: إن النجاسة متيقنة، ولا يطهر المحل بمجرد غلبة الظن، فلا بد من اليقين أن المحل قد طهر، وإنما يكتفى بغلبة الظن إذا تعذر اليقين، واليقين هنا غير متعذر. الدليل الثاني: (306 - 150) ربما يستدل بعضهم بما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬3). ¬

(¬1) الحج: 78. (¬2) المائدة: 6. (¬3) صحيح البخاري (216)، ومسلم (292).

ويجاب بأن الحديث ليس في رجل يستنجي، ويعمل بغلبة ظنه، وإنما رجل لا يستنزه من بوله، ولا يقوم بما أوجب الله عليه من الطهارة، والتحرز من البول، والله أعلم.

الفصل الخامس في صفة الإنقاء

الفصل الخامس في صفة الإنقاء ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في صفة الإنقاء بالحجر. المبحث الثاني: في صفة الإنقاء بالماء.

المبحث الأول: في صفة الإنقاء بالحجر

المبحث الأول: في صفة الإنقاء بالحجر اختلف العلماء في صفة الإنقاء بالحجر على قولين: فقيل: بقاء أثر لا يزيله إلا الماء، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: خروج الحجر الأخير لا أثر به إلا يسيراً، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). والثاني أقوى؛ والقول الأول فيه حرج ومشقة، والحرج مرفوع عن هذه الإمة إن شاء الله، والنجاسة اليسيرة معفو عنها إجماعاً كما سيأتي بحثه ¬

(¬1) قال في الأم (1/ 37): فإن امتسح بثلاثة أحجار، فعلم أنه أبقى أثراً لم يجزه، إلا أن يأتي من الامتساح على ما يرى أنه لم يبق أثراً قائماً، فأما أثر لاصق لا يخرجه إلا الماء فليس عليه إنقاؤه؛ لأنه لو جهد لم ينقه بغير ماء. اهـ وانظر أسنى المطالب (1/ 51)، شرح البهجة (1/ 122)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 50)، تحفة المحتاج (1/ 182)، (¬2) قال في كشاف القناع (1/ 69): والإنقاء بأحجار ونحوها كخشب وخرق: إزالة العين الخارجة من السبيلين حتى لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء، والإنقاء بالماء: خشونة المحل، وعوده كما كان، لزوال لزوجة النجاسة وآثارها. اهـ وانظر المبدع (1/ 94)، دليل الطالب (ص: 6)، الفروع (1/ 90)، الإنصاف (1/ 110)، شرح منتهى الإرادات (1/ 39)، مطالب أولي النهى (1/ 76). (¬3) قال في الإنصاف (1/ 110): حد الإنقاء بالأحجار: بقاء أثر لا يزيله إلا الماء، جزم به في التلخيص، والرعاية والزركشي، وقدمه في الفروع. وقال المصنف -يعني ابن قدامة- والشارح وابن عبيدان وغيرهم: هو إزالة عين النجاسة وبلتها، بحيث يخرج الحجر نقياً ليس عليه أثر إلا شيئا يسيراً. فلو بقي ما يزول بالخرق لا بالحجر أزيل على ظاهر الأول، لا الثاني. اهـ وانظر المبدع (1/ 94). (¬4) انظر الفروع (1/ 90).

إن شاء الله في فصل لا حق، وقد اختار الحنفية والمالكية أن الاستنجاء كله ليس بواجب ما دام أن النجاسة لم تتجاوز الموضع المعتاد، فما بالك بالأثر اليسير جداً يبقى على المحل.

المبحث الثاني في صفة الإنقاء بالماء

المبحث الثاني في صفة الإنقاء بالماء اختلف الفقهاء في صفة الإنقاء بالماء، فقيل: لا يعتبر عدد معين، بل المطلوب أن يعود المحل كما كان، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4)، وقيل: المطلوب غسل المحل سبع غسلات، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: ثلاث غسلات، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬6)، والراجح الأول. ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 21)، الهداية في شرح البداية (1/ 37)، البحر الرائق (1/ 253)، وسوف يأتي أن الحنفية لا يرون العدد في الاستجمار بالحجارة فضلاً أن يروا العدد في الماء. (¬2) يرى المالكية أن العدد غير معتبر في الاستنجاء سواء كان بحجر أم بماء، انظر المنتقى (1/ 68)، شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/ 72)، التاج والإكليل (1/ 270)، التمهيد (11/ 17)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 17)، مواهب الجليل (1/ 290)، بداية المجتهد (1/ 62)، وسوف يأتي أدلتهم في الإكتفاء بحجر واحد في الشرط الأول من شروط الاستجمار، فانظره غير مأمور. (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 22): وإذا استنجى بالماء فلا عدد في الاستنجاء إلا أن يبلغ من ذلك ما يرى أنه قد أنقى كل ما هنالك، ولا أحسب ذلك يكون إلا في أكثر من ثلاث مرات، وثلاث فأكثر. اهـ (¬4) المغني (1/ 106)، المبدع (1/ 238)، شرح العمدة (1/ 90)، الإنصاف (1/ 313)، الكافي (1/ 91). (¬5) قال ابن تيمية في شرح العمدة (1/ 91): وهي اختيار أكثر أصحابنا، وانظر المغني (1/ 106)، الإنصاف (1/ 313)، دليل الطالب (ص: 20)، المحرر (1/ 4)، منار السبيل (1/ 57)، الكافي في فقه أحمد (1/ 91). (¬6) انظر المراجع السابقة.

دليل من قال: لا يشترط في الاستنجاء عدد معين.

دليل من قال: لا يشترط في الاستنجاء عدد معين. الدليل الأول: قالوا: القياس على الطهارة من دم الحيض، فإذا كان دم الحيض لا يشترط لطهارته عدد معين، فكذلك البول والغائط. (307 - 151) فقد روى البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: فهنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر عدداً في غسل نجاسة دم الحيض، والمقام مقام بيان، وجواب عن سؤال كيف يطهر الثوب، وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حته، وقرصه، وغسله، مع أن الحت ليس بواجب مع الغسل، فيبعد أن ينص على ما ليس بواجب، ويهمل ما هو واجب، فدل على أن تكرار الغسل ليس بواجب. الدليل الثاني: (308 - 152) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله ¬

(¬1) البخاري (227)، ومسلم (291).

الدليل الثالث

إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي قال وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بغسل الدم، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاغسلي عنك الدم، ثم صلي ". ولو كان العدد معتبراً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد علم أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو مقرر في أصول الفقه. الدليل الثالث: (309 - 153) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند وسدر. [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (228)، ورواه مسلم (333) دون قوله وقال أبي ... الخ وسيأتي الكلام عليه في الاستحاضة إن شاء الله تعالى. (¬2) المسند (6/ 355). أبو المقدام اسمه: ثابت بن هرمز. وثقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين كما في الجرح والتعديل (2/ 459)، وتهذيب الكمال (4/ 380). ووثقه أبو داود، ويعقوب بن سفيان وابن المديني وأحمد بن صالح كما في تهذيب التهذيب (2/ 15). =

الدليل الرابع

وجه الاستدلال: الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله، وقد ذكر السدر مع كونه ليس وجباً، فكيف يترك ذكر العدد لو كان العدد واجباً. الدليل الرابع: من النظر، قالوا: النجاسة عين محسوسة، ووجوب غسلها معلل ببقائها، فإذا زالت من الغسلة الأولى ارتفع حكمها. دليل من قال: يجب غسل النجاسة في الاستنجاء سبع مرات. قال ابن قدامة: روي عن ابن عمر أنه قال: أمرنا بغسل الأنجاس ¬

_ = ووثقه الذهبي انظر الكاشف (700). وليس له إلا هذا الحديث، وقد صححه ابن حبان، وابن خزيمة، وفي التهذيب: صححه ابن القطان، وقال عقبه: لا أعلم له علة، وثابت ثقة، ولا أعلم أحداً ضعفه غير الدارقطني. قلت: كلام ابن القطان في بيان الوهم والإيهام ليس فيه تضعيف الدارقطني، فأخشى أن يكون هذا وهماً من ابن حجر، أو يكون في نسخة أخرى غير المطبوعة، ولم أقف على تضعيف الدارقطني في غيره من الكتب. وإليك كلام ابن القطان، قال في بيان الوهم والإيهام (5/ 281): " وهذا في غاية الصحة، فإن أبا المقدام: ثابت بن هرمز الحداد، والد عمرو بن أبي المقدام، ثقة، قاله أحمد بن حنبل، وابن معين، والنسائي، ولا أعلم أحداً ضعفه ". اهـ وعدي بن دينار. وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر تهذيب التهذيب (7/ 151). وباقي رجاله ثقات مشهورون. تخريج الحديث: الحديث أخرجه أحمد (6/ 356)، والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 44)، وأبو داود (363)، والنسائي في المجتبى (292، 395)، وابن ماجه (628)، وابن حبان (1392)، وابن خزيمة (277)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 407). وحسنه الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (229)، وصححه ابن القطان كما نقلنا كلامه آنفاً.

سبعاٌ (¬1). والجواب على هذا من وجهين. الأول: أن هذا الأثر لا يعرف مسنداً في كتب الحديث، إنما ذكره الحنابلة في كتبهم الفقهية، فلا حجة فيه. الثاني: على فرض صحته قد روي ما يدل على أنه منسوخ. (310 - 154) فقد روى أحمد، قال: ثنا حسين بن محمد، ثنا أيوب بن جابر، عن عبد الله ـ يعنى بن عصمة ـ عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار، والغسل من البول سبع مرار، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) المغني (1/ 75). (¬2) المسند (2/ 109). (¬3) فيه أيوب بن جابر. ضعفه أبو حاتم الرازي، وابن المديني، ويحيى بن معين، وقال أبو زرعة: واهي الحديث ضعيف. انظر الجرح والتعديل (2/ 242). وضعفه النسائي. انظر الضعفاء والمتروكين (ص: 5). وضعفه الذهبي انظر الكاشف (512). وقال معاوية بن صالح: ليس بشيء. انظر تهذيب التهذيب (1/ 349). وذكره ابن حبان في المجروحين (1/ 167)، وقال: يخطئ. حتى خرج عن حد الاحتجاج به لكثرة وهمه. وفي الإسناد: عبد الله بن عصم. وقيل: عصمة. مختلف فيه. قال أبو زرعة: ليس به بأس، وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. =

الدليل على وجوب غسل نجاسة الكلب سبعا

الدليل الثاني: قالوا: ثبت الأمر بغسل نجاسة الكلب سبعاً، وغيرها من النجاسات قياساً عليه. والدليل على وجوب غسل نجاسة الكلب سبعاً. (311 - 155) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا. ورواه مسلم (¬1). وأجيب: بأن نجاسة الكلب مغلظة لا يمكن قياس النجاسة العادية على النجاسة المغلظة، أرأيت نجاسة دم الحيض مع أنه مجمع على نجاسته كما قدمنا إلا أنه لم يرد فيه تكرار الغسل، ولم يرد ذكر التراب في تطهير شيء من النجاسات إلا نجاسة الكلب، والرواية التي فيها ذكر التراب رواها مسلم في صحيحة، ¬

= كما في الجرح والتعديل (5/ 126). وقال: مثله الذهبي في الكاشف. واضطرب قول ابن حبان فيه، فذكره في المجروحين (2/ 5)، وقال: منكر الحديث جداً على قلة روايته، يروي عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة. ثم رجع ابن حبان وذكره في الثقات (5/ 57)، وقال: يخطئ كثيراً. وفي التقريب: صدوق يخطئ، أفرط ابن حبان فيه وتناقض. [تخريج الحديث]. أخرجه أبو داود (247)، والبيهقي في السنن (1/ 179، 244)، والمعجم الصغير للطبراني (1/ 123) ح 182 من طرق عن أيوب بن جابر به. (¬1) البخاري (172)، ومسلم (279).

دليل من قال: يشترط ثلاث غسلات.

(312 - 156) قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (¬1). دليل من قال: يشترط ثلاث غسلات. الدليل الأول: (313 - 157) روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬2). وجه الاستدلال: قالوا: إذا كان الاستجمار لا بد فيه من ثلاثة أحجار، فكذلك الاستنجاء بالماء لا بد فيه من ثلاث غسلات. ¬

(¬1) صحيح مسلم (279). (¬2) مسلم (262).

الدليل الثاني

وأجيب: بأن هناك فرقاً بين الماء والأحجار، فالأحجار لا تزيل النجاسة بالكلية، ولذلك اشترط العدد بخلاف الماء فإنه يزيل عين النجاسة حتى لا يبقي لها أثراً. الدليل الثاني: (314 - 158) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (¬1). وجه الاستدلال: إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر القائم من نوم الليل أن يغسل يده ثلاثاً معللاً بتوهم النجاسة، فوجوب الثلاث مع تحققها أولى. وأجيب: بأنه قد تقدم الخلاف في العلة من أمر القائم بغسل يده ثلاثاً من نوم الليل، وأن هناك خلافاً هل غسل اليد تعبدي أو معقول المعنى، وهل هو للوجوب أم للاستحباب؟ ولو كان غسلها من أجل النجاسة لكفى غسلها مرة واحدة، ولن تكون أكثر نجاسة من دم الحيض، ومع ذلك لم يطلب تكرار الغسل. الراجح: القول بأن الاستنجاء في الماء ليس فيه عدد معين، وإنما يغسل حتى يغلب على ظنه أن المحل رجع كما كان قبل البول والغائط، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح مسلم (278)، وانظر صحيح البخاري (162).

الفصل السادس قول العلماء في الأثر المتبقي بعد الاستجمار

الفصل السادس قول العلماء في الأثر المتبقي بعد الاستجمار أثر الاستنجاء قيل: نجس، معفو عن يسيره. وقيل: طاهر (¬1). وحكي الإجماع على أنه معفو عنه. قال ابن قدامة: وقد عفي عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع: أحدها: محل الاستنجاء، فعفي فيه عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه. واختلف أصحابنا في طهارته، فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، ولو كان نجساً لنجسه. ثم قال: وقال أصحابنا المتأخرون: لا يطهر المحل، بل هو نجس. اهـ أي نجس معفو عنه (¬2). وقال البهوتي: وأثر الاستجمار نجس؛ لأنه بقية الخارج من السبيل، يعفى عن يسيره بعد الإنقاء واستيفاء العدد، بغير خلاف نعلمه (¬3). الدليل على أن الاستنجاء مطهر. (315 - 159) ما رواه الدارقطني، من طريق يعقوب بن حميد ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 109)، المغني (1/ 411). (¬2) المغني (1/ 411). (¬3) كشاف القناع (1/ 192).

بن كاسب، نا سلمة بن رجاء، عن الحسن بن فرات القزاز، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجى بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يطهران (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 56). (¬2) دراسة الإسناد: يعقوب بن حميد بن كاسب، جاء في ترجمته: قال النسائي: ليس بشيء. الضعفاء والمتروكين (616). وقال في موضع آخر: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (11/ 336). وقال البخاري: لم يزل خيراً، هو في الأصل صدوق. المرجع السابق. وقال العباس بن محمد الدوري: سألت يحيى بن معين عن يعقوب بن كاسب، فقال: ليس بشيء. الجرح والتعديل (9/ 206). وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول، وذكر ابن كاسب فقال: ليس بثقة. قلت: من أين قلت: ذاك؟ قال: لأنه محدود. قلت: أليس هو في سماعه ثقة؟ قال: بلى. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: هو ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن يعقوب بن كاسب؟ فحرك رأسه. قلت: كان صدوقا في الحديث؟ قال: لهذا شروط وقال في حديث رواه يعقوب: قلبي لايسكن على ابن كاسب. المرجع السابق. وقال العقيلي: حدثنا زكريا بن يحيى الحلواني، قال: رأيت أبا داود السجستاني صاحب أحمد بن حنبل قد ظاهر بحديث ابن كاسب، وجعله وقايات على ظهور ركبته، فسألته عنه، فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري، كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ضعفاء العقيلي (4/ 446). وقال الذهبي: وكان من علماء الحديث، لكن له مناكير وغرائب. الميزان (9810). وفي التقريب: صدوق ربما وهم. قلت: لو قال: له أوهام لكان أقرب، فقد جرحه أبو داود والنسائي وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم. - سلمة بن رجاء، جاء في ترجمته: قال النسائي: كوفي ضعيف. الضعفاء والمتروكين (242). قرئ على العباس بن محمد الدوري: سئل يحيى بن معين عن سلمة بن رجاء، فقال: ليس بشيء. الجرح والتعديل (4/ 160). وقال أبو حاتم الرازي: ما بحديثه بأس. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: كوفى صدوق. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء (2/ 149). وذكر ابن عدي هذا الحديث من غرائب سلمة بن رجاء، وقال: لا أعلم رواه عن فرات القزاز غير ابنه الحسن، وعن الحسن سلمة بن رجاء، وعن سلمة ابن كاسب، ولسلمة بن رجاء غير ما ذكرت من الحديث، وأحاديثه أفراد وغرائب، ويحدث عن قوم بأحاديث لا يتابع عليه. الكامل (3/ 331). وقال الدارقطني: ينفرد عن الثقات بأحاديث. تهذيب التهذيب (4/ 127). وفي التقريب: صدوق يغرب. - الحسن بن فرات القزاز، جاء في ترجمته، قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين قال: الحسن بن فرات القزاز ثقة. الجرح والتعديل (3/ 32). ذكره ابن حبان في الثقات (6/ 165). وقال أبو حاتم منكر: الحديث نقله عنه ابنه في مقدمة الجرح والتعديل. وفي التقريب: صدوق يهم. وقد بين الدارقطني أن الوهم من الحسن بن الفرات، حيث انفرد بزيادة: إنهما لا يطهران، وقد رواه من هو أوثق منه عن أبيه، ولم يقل: إنهما لا يطهران. فقد رواه الدراقطني كما في العلل (8/ 239) من طريق نصر بن حماد، ثنا شعبة، عن =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: أن النجاسة تزال بأي مزيل، ولا يتعين الماء في إزالتها، فكيف زالت زال حكمها، فإذا استنجى الإنسان، وأزال عين النجاسة فقد طهر المحل، والدليل على أن الماء لا يتعين في إزالة النجاسة أحاديث كثيرة في تطهير ذيل المرأة بالتراب، وتطهير النعل بدلكه في التراب، (316 - 160) فقد روى أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير -يعنى ابن معاوية- ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال: وكان رجل صدق، عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى. قال: فهذه بهذه (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). (317 - 161) ومنها ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت ¬

= فرات، عن أبي حازم به، بلفظ: نهى أن يستنجى بعظم أو روث. قال الدارقطني: وزاد الحسن بن فرات، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة في آخره، وقال: إنهما لا يطهران. ونصر بن حماد فيه ضعف. (¬1) المسند (6/ 435). (¬2) انظر تخريجه في مسألة الاستنجاء من المذي.

فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). (318 - 162) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قالت بريقها فقصعته بظفرها (¬3). فإذا كانت النعل تطهر بالتراب، وكان التراب لها طهوراً، وكان ذيل المرأة يطهره ما بعده من التراب الطيب، وكان الريق ربما طهر الثوب يصيبه شيء من دم الحيض، فكذلك مكان البول والغائط يطهره الأحجار ونحوها، والله أعلم. ¬

(¬1) المسند (3/ 20، 92). (¬2) انظر تخريجه في مسألة: الاستنجاء من المذي. (¬3) صحيح البخاري (312).

فرع ما تطاير من الماء وقت الاستنجاء جاء في المعيار المعرب: وسئل أبو حفص عما تطاير في الثوب وقت الاستنجاء؟ فأجاب: إن كان أول شروعه فهو نجس، وإن كان مما بعده فهو طاهر. قلت: ينبغي أن يفصل إن كان يسيراً جداً فهو من المعفو عنه؛ لأن المشقة قد تلحق به، وقد حكي الإجماع في العفو عن أثر الاستجمار مع بقاء قدر من النجاسة لا يزيلها إلا الماء، وإن كان كثيراً عرفاً كان التفصيل الذي ذكره جيداً (¬1). ¬

(¬1) المعيار المعرب (1/ 14)، وانظر النوازل الكبرى للوازاني (1/ 24).

الفصل السابع القول في قطع الاستنجاء على وتر

الفصل السابع القول في قطع الاستنجاء على وتر استحب الفقهاء قطع الاستنجاء على وتر، على خلاف بينهم هل يتحقق الوتر بحجر واحد، أم يتحقق الوتر بعد المسحات الثلاث بحسب اختلافهم في وجوب الاستنجاء: فمن يرى أن الاستنجاء سنة، كما هو المشهور من مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، أو يرى أن الاستنجاء واجب، ولكن لا يشترط ثلاثة أحجار، بل المقصود الإنقاء ولو بحجر واحد، فيرى أن تحقيق السنة في قطعه على وتر يتحقق ولو بحجر واحد إذا أنقى (¬3). ¬

(¬1) انظر العزو إلى كتبهم في مسألة: حكم الاستنجاء. (¬2) انظر العزو إلى كتبهم في مسألة: حكم الاستنجاء. (¬3) انظر مذهب الحنفية في استحباب قطعه على وتر شرح معاني الآثار (1/ 121 - 123). وقال ابن عبد البر في التمهيد (11/ 17): ويجوز عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار إذا ذهب النجس؛ لأن الوتر يقع على الواحد فما فوقه، والوتر عندهم مستحب وليس بواجب، وإذا كان الاستنجاء عندهم ليس بواجب، فالوتر فيه أحرى بأن لا يكون واجباً. اهـ وقال الزرقاني في شرحه (1/ 72): ذهب مالك وأبو حنيفة وداود ومن وافقهم في أن الإيتار مستحب فقط، لا شرط، ولا يخالفه حديث سلمان عند مسلم مرفوعاً: " لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار؛ لحمله على الكمال، وكذا أمره لابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار، لا أنه شرط كما قال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث؛ لتصريحه في هذه الرواية - يعني: من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج- بأن الأمر ليس للوجوب، وبه حصل الجمع بين الأدلة، وحمله على الزائد على الثلاثة إن لم تنق تحكم. اهـ وانظر المنتقى للباجي (1/ 68).

دليل استحباب قطع الاستنجاء على وتر

وأما من يرى وجوب الثلاث مسحات أو ثلاثة أحجار، فيكون قطعه على وتر بعدها مستحباً، كما لو أنقى بأربعة أحجار، يستحب له حجر خامس، أو أنقى بستة أحجار يستحب له حجر سابع، أما لو أنقى بثلاث أو خمس، فلا يستحب له الزيادة، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يجب الوتر في الاستنجاء بالحجارة مطلقاً، اختاره بعض الشافعية (¬3)، وهو رأي ابن حزم (¬4). دليل استحباب قطع الاستنجاء على وتر. (319 - 163) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه، ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده. ورواه مسلم (¬5). ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم (3/ 126)، شرح زبد ابن رسلان (1/ 52)، أسنى المطالب (1/ 52)، المنهج القويم (1/ 82)، الإقناع للشربيني (1/ 54)، المجموع (2/ 112)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 50)، تحفة المحتاج (1/ 182). (¬2) كشاف القناع (1/ 70)، المبدع (1/ 95)، المغني (1/ 102)،. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 126)، طرح التثريب (2/ 55). (¬4) المحلى (1/ 108) مسألة: 122. (¬5) صحيح البخاري (162)، وصحيح مسلم (237).

الدليل الثاني: (320 - 164) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحق بن إبراهيم ومحمد بن رافع، قال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استجمر أحدكم فليوتر (¬1). الدليل الثالث: (321 - 165) ما روه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر (¬2). الدليل الرابع: (322 - 166) ما رواه ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن سلمة بن قيس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا توضأت فانتثر، وإذا استجمرت فأوتر (¬3) [إسناده صحيح] (¬4). ¬

(¬1) صحيح مسلم (239). (¬2) صحيح مسلم (237). (¬3) المصنف (1/ 32) رقم 273، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (406). (¬4) رجاله ثقات، وقد أخرجه أحمد (4/ 339) والحميدي (856) والطبراني (7/ 38) رقم: 6313 عن سفيان بن عيينة. وأخرجه أحمد أيضاً (4/ 339، 340) والطبراني (7/ 37) رقم 6303، وابن حبان =

الدليل الخامس: (323 - 167) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن ويحيى بن إسحاق، قالا: حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا اكتحل أحدكم فليكتحل وتراً، وإذا استجمر فليستجمر وتراً (¬1). [إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة] (¬2). ¬

= (1436) من طريق الثوري. وأخرجه أحمد (4/ 340) والطبراني (7/ 37) رقم 6306من طريق معمر. وأخرجه النسائي في الكبرى (44) من طريق حماد. وأخرجه الترمذي (27) من طريق حماد بن زيد وجرير. وأخرجه الطيالسي (1274)، والطحاوي (1/ 121) والطبراني (7/ 37) رقم 6308 من طريق شعبة. وأخرجه الطبراني في الكبير (6309) من طريق زائدة. وأخرجه أيضاً (6310) من طريق قيس بن الربيع. وأخرجه أيضاً (6311) من طريق أبي عوانة، كلهم عن منصور، عن هلال بن يساف، عن سلمة بن قيس به. (¬1) المسند (2/ 351). (¬2) وقد أخرجه ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (2/ 99) من طريق ابن وهب، أخبرني أبن لهيعة، أنا أبا يونس حدثه، فذكره دون موضع الشاهد: وهو الاستجمار. وابن وهب وإن كانت روايته عن ابن لهيعة أعدل من غيرها إلا أن ابن لهيعة ضعيف في كل أمره على الصحيح، وقد حررت الأقوال فيه في مسألة تغيير الشيب بالسواد، فانظره غير مأمور. ورواه أحمد (4/ 156) حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة، حدثنا الحارث بن يزيد، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عقبة بن عامر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكي، وكان يكره =

الدليل السادس: (324 - 168) ما رواه ابن خزيمة، قال: أخبرنا أبو غسان مالك بن سعد القيسي، نا روح -يعني: ابن عبادة- ثنا أبو عامر الخزاز، عن عطاء، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استجمر أحدكم فليوتر، فإن الله وتر يحب الوتر، أما ترى السموات سبعاً، والأرض سبعاً، والطواف سبعاً ... وذكر أشياء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= شرب الحميم، وكان إذا اكتحل اكتحل وتراً، وإذا استجمر استجمر وتراً. وأخرجه الطبراني في الكبير (17/ 338) رقم 932،933 من طريق سعيد بن أبي مريم، والقعنبي فرقهما، عن ابن لهيعة به. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 321) من طريق عمرو بن خالد، عن ابن لهيعة به، واقتصر على النهي عن الكي. ورواه أحمد (4/ 156) حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، قال: أخبرني عبد الرحمن بن جبير، أنه سمع عقبة بن عامر، فذكره، فاستبدل ابن لهيعة الحارث بن يزيد بعبد الله بن هبيرة، وهذا من سوء حفظه رحمه الله. وله طريق آخر إلى أبي هريرة بإسناد ضعيف أيضاً، رواه أحمد (2/ 371) من طريق ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج. وسبق تخريجه في مسألة حكم الاستنجاء فليراجع. (¬1) صحيح ابن خزيمة (77). (¬2) في إسناده أبو عامر الخزاز، جاء في ترجمته: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن صالح بن رستم، فقال: صالح الحديث. الجرح والتعديل (4/ 403). وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: صالح بن رستم لا شيء. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به، هو صالح، وهو أشبه من ابنه عامر. المرجع السابق. وقال أبو داود الطيالسي: سمعت أبا عامر الخزاز صالح بن رستم، وكان ثقة. المرجع السابق. ووثقه أبو داود السجستاني. تهذيب التهذيب (4/ 342). وقال العجلي: جائز الحديث. ثقات العجلي (1/ 463). وقال ابن حبان: من الحفاظ الذين كانوا يخطئون. مشاهير علماء الأمصار (1190). وذكره ابن حبان أيضاً في الثقات (6/ 457). وذكره العقيلي في الضعفاء. (2/ 203). وقال الدارقطني: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (4/ 342). وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق كثير الخطأ. وقد رواه الطبراني في الأوسط (7/ 249) من طريق إبراهيم بن بسطام الزعفراني. وأخرجه ابن حبان (1437) والبزار (239) من طريق محمد بن معمر. وأخرجه الحاكم (561)، ومن طريقه البيهقي (1/ 104) من طريق الحارث بن أبي أسامة، كلهم عن روح بن عبادة به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه الألفاظ، وإنما اتفقا على: " ومن استجمر فليوتر" فقط. فتعقبه الذهبي بقوله: منكر، والحارث ليس بعمدة. قلت: لم ينفرد به الحارث، بل رواه محمد بن معمر وأبو غسان وإبراهيم بن بسطام كلهم رووه عن روح بن عبادة، لكن لا يحتمل أبو عامر الخزاز، فإنه كما قال الحافظ: صدوق كثير الخطأ، والله أعلم.

الدليل السابع: (325 - 169) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا الأخنسي أحمد بن عمران، حدثنا محمد بن فضيل وسمعته يقول: حدثنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله وتر يحب الوتر، فإذا استجمرت فأوتر (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

(¬1) مسند أبي يعلى (5270). (¬2) في إسناده أحمد بن عمران، وقال بعضهم: محمد بن عمران الأخنسي. قال البخاري: محمد بن عمران الأخنسي، كان ببغداد يتكلمون فيه، منكر الحديث عن أبي بكر بن عياش. التاريخ الكبير (1/ 202). وقال ابن حبان: حدثنا عنه أبو يعلى مستقيم الحديث. الثقات (8/ 13). وقال أبو زرعة: كتبت عنه ببغداد، وكان كوفياً، وتركوه. الجرح والتعديل (2/ 64) وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: لم أكتب عنه، وقد أدركته. قلت: وما حاله؟ قال: شيخ. المرجع السابق. وقال ابن عدي: محمد هذا لم يبلغني معرفته، وإنما أعرف أحمد بن عمران الأخنسي كوفي، وأحمد بن عمران ثقة. الكامل (6/ 277). وذكره العقيلي في الضعفاء. (1/ 126). وفي إسناده أيضاً: إبراهيم الهجري، جاء في ترجمته: قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (6). وكان ابن عيينة يضعفه. التاريخ الكبير (1/ 326). وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. الطبقات الكبرى (6/ 341). وقرئ على العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين قال: إبراهيم الهجري ليس بشيء. الجرح والتعديل (2/ 131). =

دليل من قال: إن الإيتار واجب.

دليل من قال: إن الإيتار واجب. استدل بحديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً: ومن استجمر فليوتر. وبحديث جابر عند مسلم: إذا استجمر أحدكم فليوتر. وسبق تخريجهما في أدلة القول الأول. وجه الاستدلال: قالوا: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليوتر أمر، والأصل في الأمر الوجوب، ولا يوجد صارف يمنع من حمله على الوجوب. والشافعية والحنابلة حملوا الأمر بالإيتار إن كان في الثلاث مسحات، فالأصل فيها الوجوب، وما زاد حملوه على الاستحباب، وأخذاو من مفهوم حديث سلمان في مسلم: ونهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار. مفهومه: ¬

_ = وقال أبو حاتم الرازي: إبراهيم الهجري ليس بقوي لين الحديث. المرجع السابق. وقال الحميدي: قال سفيان: كان الهجري رفاعاً، وكان يرفع عامة هذه الأحاديث، فلما حدث بحديث أن يعبد الأصنام، قلت: أما هذا فنعم، وقلت له: لا ترفع تلك الأحاديث. ضعفاء العقيلي (1/ 65). وقال سفيان بن عيينة أيضاً: أتيت إبراهيم الهجري، فدفع إلي عامة حديثه، فرحمت الشيخ، فأصلحت له كتابه، فقلت: هذا عن عبد الله، وهذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا عن عمر. الكامل (1/ 211). ومعنى هذا أن حديث الهجري من رواية سفيان صالحة، ولذلك كان ابن مهدي يحدث عن سفيان، عنه. ولا يحدث يحيى عن الهجري. انظر المرجع السابق. وفي التقريب: لين الحديث، رفع موقوفات. وقال أبو أحمد بن عدي: أحاديثه عامتها مستقيمة المتن، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 211): فيه أحمد بن عمران الأخنسي متروك.

دليل من قال: يحصل الإيتار ولو بحجر واحد.

الاكتفاء بثلاثة فما زاد، ومما زاد الأربعة والستة ونحوها. دليل من قال: يحصل الإيتار ولو بحجر واحد. (326 - 170) استدلوا بما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬1). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬2). قالوا: فالمعتبر بالاستجمار: هو الإنقاء، دون العدد، فإن حصل بحجر واحد كفاه، وتحقق له سنة الإيتار. ورد عليهم: أولاً: أن هذا الحديث ضعيف، لا يرد الأحاديث الصحيحة كحديث سلمان، وحديث أبي هريرة، وحديث عائشة وغيرها. ¬

(¬1) المسند (2/ 371). (¬2) سبق تخريجه في حكم الاستنجاء.

ثانياً: لو ثبت أن الحديث صحيح، فلا بد من الجمع بينه وبين الأحاديث التي تنهى عن الاستنجاء دون ثلاثة أحجار، فيحمل الإيتار بما زاد على الثلاثة. ثالثاً: إذا كان المقصود هو الإنقاء كما تقولون، فإنه معلوم أن الإنقاء لا يحصل بحجر واحد غالباً، هذا من جهة. ولو كفى الإنقاء لم يكن لإشتراط العدد معنى في حديث سلمان وحديث أبي هريرة وحديث عائشة وغيرها، فإنا نعلم أن الإنقاء قد يحصل بواحد، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى لأن الماء يزيل العين والأثر، فدلالته قطعية، فلم يحتج إلى الاستظهار بالعدد، وأما الحجر فلا يزيل الأثر، وإنما يفيد الطهارة ظاهراً لا قطعاً، فاشترط فيه العدد. (327 - 171) رابعاً: يرد عليهم بما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن بحر، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً (¬1). [إسناده حسن إن كان أبو سفيان سمعه من جابر، وقد رواه أبو الزبير عن جابر في مسلم، ولم يقل: ثلاثاً] (¬2). وسوف يأتي مزيد بحث في الكلام على مسألة هل يشترط ثلاثة أحجار، أم يكفي حجر واحد؟ وإنما الكلام في مسألتنا هنا هل قطع الاستنجاء على وتر تتحقق السنة ¬

(¬1) المسند (3/ 400). (¬2) انظر تخريجه في خلاف العلماء في جواز الاستجمار.

فيه بالحجر الواحد، أم تتحقق فيما زاد على الثلاث، والله أعلم. كما أن الكلام في قطعه بالأحجار، أم الماء فالصحيح أنه لا يشرع فيه الإينار لعدم الدليل وقد تقدم الكلام عليه في الفصل الذي قبل هذا، والله الموفق.

الفصل الثامن في صفة المسح بالأحجار

الفصل الثامن في صفة المسح بالأحجار اختلف الفقهاء في صفة المسح بالأحجار: فقيل: لا كيفية له، فكيف حصل الإنقاء أجزأ. رجحه السرخسي من الحنفية، ومال إليه ابن نجيم، وهو المنصوص عليه في السراج الوهاج والمجتبى (¬1)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2).وهو الراجح. وقيل: كيفية الاستنجاء أن يمسح بالحجر الأول من جهة المقدم إلى خلف، وبالثاني من خلف الى قدام، وبالثالث من قدام الى خلف إذا كانت الخصية مدلاة، وإن كانت غير مدلاة يبتدىء من خلف الى قدام، والمرأة تبتدىء من قدام الى خلف خشية تلويث فرجها، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3). وقيل: كيفيته في المقعد في الصيف للرجل إدبار الحجر الأول والثالث، وفي الشتاء العكس، اختاره بعض الحنفية (¬4). ¬

(¬1) قال في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 30): قال السرخسي: لا كيفية له، والقصد الإنقاء كما في السراج، قال ابن أمير حاج: وهو الأوجه في الكل. اهـ ونقل في البحر الرائق (1/ 252) المجتبى ما نصه: أن المقصود الإنقاء، فيختار ما هو الأبلغ والأسلم عن زيادة التلويث. وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 337). (¬2) الإنصاف (1/ 112). (¬3) نور الإيضاح (ص: 14، 15). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 337)، ولعل التفريق بين الشتاء والصيف لتدلي الخصية، فيرجع إلى القول الثاني في مذهب الحنفية.

وقيل: يعم بكل حجر موضع النجو، وهو مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). وفي مذهب الشافعية ثلاثة أوجه: فقيل: يمر حجراً من مقدم الصفحة اليمنى ويديره عليها، ثم على اليسرى حتى يصل الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الحجر الثاني من أول الصفحة اليسرى إلى آخرها، ثم على اليمنى حتى يصل موضع ابتدائه، ثم يمر بالثالث على المسربة، وهو الراجح في مذهب الشافعية (¬3)، وذكره بعض الحنفية (¬4)، واختاره القاضي من الحنابلة (¬5). الوجه الثاني: أن يمسح بحجر الصفحة اليمنى وحدها، ثم بحجر اليسرى وحدها، وبالثالث المسربة (¬6)، واختاره بعض الحنابلة (¬7). والوجه الثالث: يضع حجراً على مقدم المسربة ويمره إلى آخرها، ثم حجراً على مؤخرة المسربة ويمره إلى أولها، ثم يحلق بالثالث، حكاه البغوي ¬

(¬1) المنتقى للباجي (1/ 68)، الفواكه الدواني (1/ 133)، حاشية العدوي (1/ 223). (¬2) قال في كشاف القناع (1/ 69) بثلاثة أحجار -يعني الاستجمار- تعم كل مسحة المسربة والصفحتين. أهـ (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 123،124) واتفق الأصحاب على أن الصحيح هو الوجه الأول؛ لأنه يعم المحل بكل حجر. (¬4) الجوهرة النيرة (1/ 40) إلا أنه قال: ثم يمر الثالث على الصفحتين. (¬5) الإنصاف (1/ 112) إلا أنه قال: ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين. (¬6) وهو قول أبي إسحاق المروزي من الشافعية انظر المجموع (2/ 124). (¬7) قال في الإنصاف (1/ 112): قال المصنف -يعني ابن قدامة-: ويحتمل أن يجزئه لكل جهة مسحة لظاهر الخبر.

دليل من قال: لا كيفية للاستنجاء.

قال النووي: وهو غريب. واختلف الشافعية في هذا الخلاف، هل هو على الوجوب أو الاستحباب على قولين (¬1). وقيل: يكفي لكل جهة مسحها ثلاثا بحجر، والوسط مسحه ثلاثاً بحجر، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال: لا كيفية للاستنجاء. الدليل الأول: قال: إن استحباب كيفية معينة تحتاج إلى توقيف من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول صاحب، ولم يصح دليل في المسألة. الدليل الثاني: قالوا: إن المطلوب في الاستنجاء هو الإنقاء وإزالة النجاسة فكيف زالت النجاسة حصل المقصود، فلا يتكلف صفة معينة. دليل من قال: يمسح بالأول من المقدم إلى خلف، وبالثاني من خلف إلى قدام، وبالثالث من قدام الى خلف. علل هذا الاستحباب بأنه إذا بدأ من جهة الخلف في أول مرة ربما لوث ¬

(¬1) الأول: قال النووي في المجموع (2/ 124): الصحيح أنه خلاف في الأفضل وأن الجميع جائز. وبهذا قطع العراقيون والبغوي وآخرون من الخراسانيين، وحكاه الرافعي عن معظم الأصحاب. الثاني: حكى الخراسانيون وجهاً أنه خلاف في الوجوب، فصاحب الوجه الأول لا يجيز الكيفية الثانية وصاحب الثاني لا يجيز الأولى، وهذا قول الشيخ أبي محمد الجويني والغزالي. (¬2) الإنصاف (1/ 112).

دليل من طلب تعميم المحل بكل حجر

الخصية بالنجاسة، فتنتشر النجاسة إلى غير موضعها المعتاد، ثم لا تكفي إزالتها بالأحجار في حقه، ولكن إذا بدأ من جهة المقدم أمن تلوث الخصية بالنجاسة، ولذلك قال: إذا كانت الخصية غير مدلاة بدأ من جهة الخلف. وهذا التعليل لا يكفي في استحباب هذه الصفة في الاستنجاء، بل إن التعليل السابق أقوى، وأن المقصود من الاستجمار هو إزالة النجاسة، فكيف زالت حصل مقصود الشارع من مشروعية الاستجمار. دليل من طلب تعميم المحل بكل حجر قالوا: إن المطلوب أن يعم المحل بكل حجر حتى يصدق عليه أنه مسح المحل ثلاث مسحات، فإذا لم تعم كل مسحة المحل كله لم تكن مسحة، بل كانت بعضها. دليل من فرق الأحجار بين الصفحتين والمسربة. (328 - 172) ما رواه الدارقطني، قال: نا علي بن أحمد بن الهيثم العسكري، نا علي بن حرب، نا عتيق بن يعقوب الزبيري، نا أبي بن العباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده سهل بن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الاستطابة؟ فقال: أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار: حجرين للصفحتين، وحجراً للمسربة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 56). (¬2) شيخ الدارقطني لم أقف عليه. عتيق بن يعقوب الزبيري، جاء في ترجمته: قال أبو زرعة: بلغني أن عتيق بن يعقوب الزبيري حفظ الموطأ في حياة مالك. الجرح =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والتعديل (7/ 46). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 527). ووثقه الدارقطني. لسان الميزان (4/ 129). - أبي بن العباس بن سهل، جاء في ترجمته: قال البخاري: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (1/ 163). وقال أحمد: منكر الحديث. بحر الدم (49). وقال يحيي بن معين: ضعيف. تهذيب الكمال (2/ 260). قال النسائي: ليس بالقوي. الكامل (1/ 420). وقال ابن عدي: ولأبي غير ما ذكرت من الحديث يسير، وهو يكتب حديثه، وهو فرد في المتون والأسانيد. المرجع السابق. وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/ 290). وقواه الدارقطني. انظر من تكلم فيه وهو موثق (12). وفي التقريب: فيه ضعف. فالحديث ضعيف، ولا يحتمل تفرد أبي بن عباس بهذا الحديث، قال العقيلي: روى الاستنجاء بثلاثة أحجار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة منهم أبو هريرة وسلمان وخزيمة بن ثابت، وعائشة، والسائب بن خلاد الجهني وأبو أيوب، ولم يأت أحد منهم بهذا اللفظ، ولأبي أحاديث لا يتابع منها على شيء. قلت: والعجيب أن الإمام الدارقطني: قال: إسناد حسن، ولعله لا يقصد الحسن الاصطلاحي عند المتأخرين، وإن كان نَفَسَ الدارقطني في سننه يختلف اختلافاً كثيراً عنه في علله، بل كم من حديث حكم بصحته في سننه، أعله في علله، فينظر سبب التفاوت الكبير بين الكتابين من النقاد. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 420)، والطبراني في الكبير (5697)، والروياني في مسنده (1108)، والبيهقي في سننه (2/ 114)، والعقيلي في الضعفاء (1/ 16) من طريق عتيق بن يعقوب به. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 211): رواه الطبراني في الكبير، وفيه عتيق بن =

والراجح أن الاستجمار لم يرد له في الشرع صفة معينة، بل المطلوب أمران: الأول: الإنقاء، وهو إزالة عين النجاسة، على الصفة المطلوبة التي قدمناها في صفة الإنقاء. الثاني: استعمال ثلاثة أحجار، بحيث لا يكتفي بحجر واحد، وكيف استعمل هذه الأحجار أجزأه، والكلام على استحباب صفة معينة يحتاج إلى توقيف، ولا توقيف في المسألة، والله أعلم. ¬

_ = يعقوب الزبيري، يقال: إنه حفظ الموطأ في حياة مالك. اهـ وينبغي أن يقول فيه: فيه أبي بن عباس، وقد تكلموا فيه.

الفصل التاسع لا يباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس الذكر بها حال البول

الفصل التاسع لا يباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس الذكر بها حال البول ويشتمل على خمس مباحث: المبحث الأول: هل يكره مس الذكر مطلقاً، أو حال البول فقط؟ المبحث الثاني: إذا استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟. المبحث الثالث: اشكال وجوابه. المبحث الرابع: حكم مس الدبر. المبحث الخامس: حكم مس فرج المرأة.

الفصل التاسع لا يباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس ذكره بها كره الفقهاء مس الفرج باليمين حال البول، واستنجاؤه واستجماره بها، وهو مذهب الأئمة (¬1). وقيل: يحرم الاستنجاء باليمين، رجحه ابن نجيم من الحنفية (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، ورجحه الشوكاني (¬4). وقيل: يكره مس الذكر باليمين، ويحرم الاستنجاء بها (¬5). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 119)، شرح فتح القدير (1/ 216)، العناية شرح الهداية (1/ 216)، الفتاوى الهندية (1/ 50)، حاشية ابن عابدين (1/ 339). وفي مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/ 290)، القوانين الفقهية (ص:29)، التاج والإكليل (1/ 388)، الخرشي (1/ 141)، حاشية الصاوي (1/ 95). وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/ 125)، روضة الطالبين (1/ 70)، أسنى المطالب (1/ 53)، المهذب (1/ 28)، حلية العلماء (1/ 163)، حواشي الشرواني (1/ 184)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 50)، تحفة المحتاج (1/ 184،185). وفي مذهب الحنابلة: المغني (1/ 103)، شرح العمدة (1/ 152)، المحرر (1/ 10)، الكافي (1/ 54)، كشاف القناع (1/ 61)، الفتاوى الكبرى (1/ 340)، الفروع (1/ 120). (¬2) البحر الرائق (1/ 255). (¬3) المحلى (1/ 108)، والعجبيب أن ابن حزم أباح للمرأة أن تمس فرجها باليمين حال البول، وحرم ذلك على الرجل، اتباعاً للظاهر، وجموداً عليه. انظر المحلى (1/ 318). وقد قال بالتحريم غير ابن حزم، قال ابن عبد البر في الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 17): "ولا يجوز لأحد أن يستنجي بيمينه". اهـ (¬4) نيل الأوطار (1/ 106). (¬5) الفروع (1/ 93)، ونسبه ابن حجر في الفتح (ح 153) لبعض الحنابلة، وذهب =

*

دليل من قال: يحرم الاستنجاء باليمين قال: ورد النهي عن الاستنجاء باليمين في أحاديث كثيرة، والأصل في النهي التحريم. ومن تلك الأحاديث مايلي: الدليل الأول: (329 - 173) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا يتنفس في الإناء، ورواه مسلم (¬1). الدليل الثاني: (330 - 174) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬2). ¬

= إليه بعض الشافعية، قال في المهذب (2/ 125): " ولا يجوز أن يستنجي بيمينه". ونسبه النووي إلى سليم الرازي في الكفاية والمتولي، والشيخ نصر وأبي حامد. راجع المجموع (2/ 125). (¬1) صحيح البخاري (154)، مسلم (267). (¬2) مسلم (262).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (331 - 175) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). الدليل الرابع: (332 - 176) روى أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى. قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه [الحديث الراجح فيه أن إسناده منقطع] (¬3). فهذه الأحاديث فيها النهي عن مس الذكر باليمين، وعن الاستنجاء باليمين، وأخذ بظاهرها ابن حزم فقال بتحريم الاستنجاء باليمين. ¬

(¬1) المسند (2/ 250). (¬2) سبق تخريجه انظر ح 160. (¬3) انظر تخريجه في رقم (311) من سنن الفطرة من أحكام الطهارة.

دليل من قال: يكره الاستنجاء باليمين.

دليل من قال: يكره الاستنجاء باليمين. حملوا النهي في الأحاديث السابقة على الكراهة، والقرينة الصارفة عندهم أن ذلك أدب من الآداب، فلا يصل النهي فيها للتحريم، فيحتمل أن تكون الحكمة من النهي كون اليد اليمنى معدة للأكل بها، فلو استنجى بها لأمكن أن يتذكر ذلك عند الأكل فيتأذى بذلك، والله أعلم. دليل من حرم مس الذكر باليمين وكره الاستنجاء بها. قالوا: ثبت النهي عن مس الذكر باليمين، وعن الاستنجاء باليمين كما في حديث أبي قتادة المتقدم، لكن قالوا: إن الاستنجاء باليمين أقبح من مس الذكر حال البول؛ لأن في الأولى مباشرة إزالة النجاسة من طريق اليد اليمنى، وفي الثاني مسه فقط دون الاستنجاء، والذكر في نفسه طاهر، وليس بنجس، لهذا حملنا النهي على الأصل في إزالة النجاسة باليمين، وأنه للتحريم، وحملنا النهي على الكراهة في مس الذكر، لأنه بضعة من الإنسان، والله أعلم. القول بالتحريم قول قوي؛ لأن الصارف ليس واضحاً؛ نعم يتساهل الفقهاء بالصارف لو وجد، ويصرفون اللفظ من الوجوب للندب، ومن التحريم للكراهة لأدنى صارف، لكن لم يظهر لي حكمة كونه أدباً من الآداب أن نحمله على الكراهة، ولا يخفى أن هذا الصارف ليس نصاً منصوصاً عليه، إنما هو شيء انقدح في النفس، وهي علة مستنبطة، فلا بد من حمله على الكراهة من قرينة جلية تكون سبباً في نقله من أصله الذي هو التحريم إلى الكراهة، والله أعلم.

المبحث الأول هل يكره مس الذكر باليمين مطلقا أو حال البول فقط

المبحث الأول هل يكره مس الذكر باليمين مطلقاً أو حال البول فقط فقيل: يكره مس الذكر باليمين مطلقاً حال البول وغيره (¬1). وقيل: يكره حال البول فقط، وهو الظاهر (¬2). دليل من قال: يكره حال البول. استدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: (333 - 177) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، عن همام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه، وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء، ورواه البخاري بنحوه (¬3). وفي رواية للبخاري: إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه. وتقدم تخريجها. فقوله: وهو يبول: أي حالة كونه يبول، فلا يتعدى النهي إلى غيرها؛ ¬

(¬1) وهو ظاهر عبارة أحمد، قال في الفروع (1/ 124): " أكره أن يمس فرجه بيمينه، فظاهره مطلقاً، وذكر صاحب المحرر، وهو ظاهر كلام الشيخ، وحمله أبو البركات ابن منجا على وقت الحاجة، لسياقه فيها، وترجم الخلال رواية صالح كذلك". اهـ (¬2) فتح الباري (ح 154). (¬3) صحيح البخاري (154)، مسلم (267).

الدليل الثاني

لأن الأصل الحل، فلا يكره شيء، ولا يحرم إلا بيقين. الدليل الثاني: (334 - 178) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه وصلينا معه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الذكر في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلا بضعة أو مضغة منك (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 152). (¬2) في إسناده قيس بن طلق، جاء في ترجمته: قال أحمد: غيره أثبت منه. وهذه العبارة من عبارات الجرح، بخلاف ما إذا قال: فلان أثبت منه، وذكر اسمه، فيحتمل أن يكون كل واحد منهما ثبتاً، وأحدهما أثبت من الآخر. وقال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق، فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا قبول خبره. وقال الدارقطني: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث محمد بن جابر، فقالا: قيس بن طلق ليس ممن تقوم حجة، ووهناه، ولم يثبتاه. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/ 356). واختلف قول ابن معين فيه، فقد ضعفه في رواية كما نقل ذلك سبط ابن العجمي في حاشتيه على الكاشف، وذكر ذلك الحافظ الذهبي في الميزان. وأما ما أخرجه الحاكم (1/ 139) ومن طريقه البيهقي (1/ 135) عن عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي، ثنا رجاء بن مرجي الحافظ، قال: اجتمعنا في مسجد الخيف أنا وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحي بن معين، فتناظروا في مس الذكر، فذكر قصة، وفيها: ثم قال يحيى: ولقد أكثر الناس في قيس بن طلق، وأنه لا يحتج بحديثه ... الخ المناظرة. ففي إسناده عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي، قال عنه في الميزان (2/ 524): لقيه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أحمد بن عدي، واتهمه في الكذب في روايته عن علي بن حجر ونحوه. وضعفها ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 135). والمعتمد في تضعيف يحيى بن معين ما ذكره الذهبي وسبط ابن العجمي، لا هذه الرواية. ووثقه يحيى بن معين في رواية، قال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين، قلت: عبد الله بن النعمان، عن قيس بن طلق؟ قال شيوخ يمامية ثقات. الجرح والتعديل (7/ 100). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 313). وقال العجلي: يمامي تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/ 220). ولا شك أن الإمام أحمد وأبا حاتم وأبا زرعة والدارقطني والشافعي أولى من ابن حبان والعجلي. وأما يحيى بن معين فليس قبول توثيقه بأولى من قبول تضعيفه، فيتقابلان ويتساقطان. وأما ابن حجر، فقال في التقريب: صدوق، ومعلوم أن الحافظ رحمه الله وإن كان قد أعطي اعتدالاً وسبراً للرجال، إلا أن عمدته كلام المتقدمين، وقد علمت أقوالهم فيه، ولا أعلم أحداً تابع قيس بن طلق في حديثه عن أبيه، والمتقدمون يعلون الحديث بالتفرد، ولو كان من ثقة، فكيف إذا كان متكلماً فيه من الإمام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم والدراقطني والشافعي، فلا شك في تضعيف حديثه، والله أعلم. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه ابن أبي شيبة كما في حديث الباب، وأخرجه أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي في الكبرى (162)، والمجتبى (165) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1675)، وابن الجارود في المنتقى (21)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 75،76)، وابن حبان (1119،1120)، والطبراني في الكبير (8243)، والدارقطني (1/ 149)، والبيهقي في السنن (1/ 134) من طريق عبد الله بن بدر به. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (426)، وأحمد (4/ 23)، وابن ماجه (483)، وابن الجارود في المنتقى (20)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 75)، والدارقطني (1/ 149)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 103) من طريق محمد بن جابر، عن قيس بن طلق به. ومحمد بن جابر متكلم فيه، قد تغير بآخرة، قال الحافظ: صدوق، ذهبت كتبه، فساء =

دليل من قال يكره مس الذكر مطلقا.

وجه الاستدلال: قوله: إنما هو بعضة منك: دل على جواز مسه بكل حال، خرجت حالة البول بحديث أبي قتادة المتفق عليه، وبقي ما عداها على الإباحة. دليل من قال يكره مس الذكر مطلقاً. قالوا: إذا نهي عن مس الذكر حال البول، مع مظنة الحاجة في تلك الحالة، فيكون النهي في غيرها مع عدم الحاجة من باب أولى. ¬

_ = حفظه، وخلط كثيراً، وعمي، فصار يلقن. وأخرجه الطيالسي (1096)، وأحمد (4/ 22)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 75،76)، والحازمي في الاعتبار (ص: 82) من طريق أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق به. وأيو بن عتبة، وإن كان متكلماً فيه إلا أن سليمابن داود بن شعبة اليمامي، قال: وقع أيوب بن عتبة إلى البصرة، وليس معه كتب، فحدث من حفظه، وكان لا يحفظ، فأما حديث اليمامة ما حدث به، فهو مستقيم. وقد ضعفه كل من يحيىبن معين وعلي بن المديني، وعمرو بن علي، ومسلم بن الحجاج، والبخاري، والنسائي، وابن حجر وغيرهم. وله شاهد من حديث أبي أمامة إلا أن ضعفه شديد، فلا يصلح في الشواهد، أخرجه ابن ماجه (484 (من طريق جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مس الذكر، فقال: إنما هو جزء منك. اهـ وجعفر بن الزبير متروك الحديث. وله شاهد ثان، وهو ضعيف جداً أيضاً، أخرجه الدراقطني (1/ 149) من طريق الفضل بن المختار، عن الصلت بن دينار، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر بن الخطاب وعن عبيد الله بن موهب، عن عصمة بن مالك الخطمي، وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قال: يا رسول الله احتككت في الصلاة، فأصابت يدي فرجي، وذكر الحديث. وفي الإسناد الفضل بن المختار، قال أبو حاتم: هو مجهول، وأحاديثه منكرة، يحدث بالأباطيل. وذكر له في لسان الميزان حديثاً، وقال: هذا يشبه أن يكون موضوعاً.

والراجح القول بجواز مس الذكر في غير حالة البول، ولا يمكن القياس على النهي عن مسه حال البول؛ لأن الشارع حريص على عدم ملابسة النجاسة، أما إذا انقطع البول فلا فرق بين الذكر وغيره من الأعضاء، ولا يقاس الأخف على الأغلظ، ولو كان مسه منهياً عنه مطلقاً لجاءت النصوص الواضحة التي تنهى عن مسه مطلقاً، والإنسان قد لا ينفك عن الحاجة إلى مسه، فالقول بالمنع مع عدم قيام الدليل المانع فيه حرج وكلفة بلا دليل واضح، والله أعلم.

المبحث الثاني إذا استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟

المبحث الثاني إذا استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟ أما القائلون بالكراهة، فظاهر أنه يجزئ بلا إثم. وأما القائلون بالتحريم، فقد اختلفوا: فقيل: يجزئ مع الإثم (¬1). وقيل: لا يجزئ، وهو اختيار ابن حزم (¬2). دليل من قال: لا يجزئ. قال: إذا صححنا الفعل المحرم نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولأن تصحيح الفعل المحرم فيه تشجيع على فعله، بخلاف ما إذا جعل لغواً، فهذا يحمله على تركه. (335 - 179) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، جميعاً، عن أبي عامر، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬3). وروى البخاري القدر المرفوع منه معلقاً (¬4). ¬

(¬1) الفروع (1/ 93). (¬2) المحلى (1/ 108). (¬3) صحيح مسلم (1718). (¬4) باب (34) البيوع: باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع.

دليل من قال يجزئ مع الإثم.

وجه الاستدلال: قال ابن القيم: وقوله: " فهو رد " الرد: فَعْل بمعنى المفعول، أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس الرد، وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده، وعدم اعتباره في حكم المقبول، ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه، بل كونه رداً أبلغ من كونه باطلاً، إذ الباطل قد يقال لما لا نفع فيه أو منفعته قليلة جداً، وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه، وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئاً ولم يترتب عليه مقصوده أصلاً (¬1). دليل من قال يجزئ مع الإثم. قالوا: إن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، ومثله الصلاة في الأرض المغصوبة، والصلاة في الثوب المسروق الصحيح صحة الصلاة مع الإثم، والله أعلم. ومن النظر: قالوا: لا يمكن أن نحكم بنجاسة المحل، مع زوال النجاسة، فالحكم مرتبط بعلته، فإذا ذهبت النجاسة طهر المحل. ولأن القاعدة الشرعية: أن العبادة الواقعة على وجه محرم: إن كان التحريم عائداً إلى ذات العبادة، كصوم يوم العيد، لم تصح العبادة. وإن كان التحريم عائداً إلى شرطها على وجه يختص بها كالصلاة بالثوب النجس على القول بأن الطهارة من النجاسة شرط، لم تصح إلا لعاجز ¬

(¬1) تهذيب السنن (3/ 99).

أو عادم. وإن كان التحريم عائداً إلى شرط العبادة، ولكن لا يختص بها، ففيها روايتان: فقيل: يصح، وهو الأرجح. وقيل: لا يصح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وإن كان التحريم عائداً على أمر خارج لا يتعلق بشرطها، كالوضوء من الإناء المحرم، فالراجح صحة العبادة، وعليه الأكثر (¬1). وهنا المنع ليس عائداً على شرط العبادة التي هي الطهارة، وإنما عائد على أمر خارج، وهو الاستنجاء باليمين، فيصح الاستنجاء مع الإثم، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر بتصرف القاعدة التاسعة من قواعد ابن رجب الفقهية (ص: 12)، وفي مسألة اعتبار الطهارة من النجاسة شرطاً لصحة الصلاة خلاف بين أهل العلم، وإن كنت أميل إلى مذهب المالكية، وأنها الطهارة منها واجبة، وليست شرطاً، وهذا مذهب الشوكاني رحمه الله تعالى.

المبحث الثالث إشكال وجوابه

المبحث الثالث إشكال وجوابه نهي عن الاستنجاء باليمين، وعن مس الذكر بها، فإن استنجى باليد اليسرى، لزم منه مس الذكر باليمين، وهو منهي عنه، وإن استنجى باليمين وقع في النهي، فما المخرج من ذلك؟ قال النووي: الصحيح الذي قاله الجمهور أنه يأخذ الحجر بيمينه، والذكر بيساره، ويحرك اليسار دون اليمين، فإن حرك اليمين، أو حركهما كان مستنجياً باليمين، مرتكباً لكراهة التنزيه (¬1). اهـ وقال الخطابي في معالم السنن: الصواب في مثل هذا أن يتوخى الاستنجاء بالحجر الضخم الذي لا يزول عن مكانه بأدنى حركة تصيبه، أو بالجدار، أو بالموضع الناتئ من وجه الأرض، أو بنحوها من الأشياء، فإن أدته الضرورة إلى الاستنجاء بالحجارةوالنبل ونحوها، فالوجه أن يتأتى بأن يلصق مقعدته إلى الأرض، ويمسك الممسوح بين عقبيه، ويتناول عضوه بشماله، فيمسحه به، وينزه عنه يمينه (¬2). اهـ وتعقبه ابن حجر، فقال: وأثار الخطابي هنا بحثاً، وبالغ في التبجح به، وقال عن رأي الخطابي: بأنه هذه هيئة منكرة، بل يتعذر فعلها في غالب ¬

(¬1) ونسب ابن حجر في الفتح (ح153) هذا القول إلى إمام الحرمين، ومن بعده كالغزالي في الوسيط، والبغوي في التهذيب. قال ابن حجر: ومن ادعى في هذه الحالة أنه يكون مستجمراً بيمينه فقد غلط، وإنما هو كمن صب بيمينه الماء على يساره حال الاستنجاء. اهـ (¬2) معالم السنن (1/ 21).

الأوقات (¬1). وذكر النووي قولاً ثالثاً، ونسبه لبعض أصحابهم: بأنه يأخذ الذكر بيمينه، والحجر بيساره، ويحرك اليسار، لئلا يستنجي باليمين. حكاه صاحب الحاوي وغيره. قال النووي: وهذا غلط؛ فإنه منهي عن مس الذكر باليمين. ¬

(¬1) فتح الباري (ح 153).

المبحث الرابع حكم مس الدبر

المبحث الرابع حكم مس الدبر المس وإن كان منصوصاً على الذكر، لكن يلحق به الدبر قياساً، والتنصيص على الذكر لا مفهوم له. وقال ابن حزم: بأن النهي عن الاستنجاء باليمين خاص بالدبر، ويرى أن مسح البول باليمين جائز. وتعليل ابن حزم: بأنه لم ينه عنه، وإنما نهي عن الاستنجاء باليمين، ومسح البول لا يسمى استنجاء. وهذا القول ضعيف جداً؛ لأنه إذا نهي عن مس الذكر، وهو يبول، فنهيه عن مباشرة البول من باب أولى، ثم هل يسلم له بأن مسح البول لا تسمى استنجاء؟ فإذا نظرنا إلى أصل النجو في اللغة وجدنا أن من معانيه القطع، من قولهم: نجوت الشجرة: إذا قطعتها. وفي الاستنجاء من البول ونحوه قطع له، والمسح الذي لم يره ابن حزم استنجاء هو بحد ذاته قطع وإزالة للنجاسة، فاتضح أن مسح البول يمكن أن يسمى استنجاء، والله أعلم.

المبحث الخامس حكم مس فرج المرأة

المبحث الخامس حكم مس فرج المرأة التنصيص على الذكر لا مفهوم له، بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبين، والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خصه الدليل. وقال ابن حزم: ومس المرأة فرجها بيمينها وشمالها جائز (¬1). ودليل ابن حزم. أخذ ابن حزم رحمه الله بالظاهر، وأن المنهي عنه هو مس الذكر، لا مس فرج المرأة، وكل ما لا نص في تحريمه، فهو مباح بقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (¬2). وبحديث: " دعوني ما تركتكم ". ولكن يقال: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (¬3). ¬

(¬1) المحلى (1/ 318). (¬2) الأنعام: 119. (¬3) النساء: 83.

الفصل العاشر الشك بعد الفراغ من الاستنجاء

الفصل العاشر الشك بعد الفراغ من الاستنجاء لو شك بعد الاستنجاء هل غسل ذكره أم لا، وهل مسح ثنتين أم ثلاثاً لم تلزمه إعادته كما لو شك بعد الوضوء (¬1). وقد نص الفقهاء على أن الشك بعد الفراغ من العبادة لا يؤثر فيها (¬2). ¬

(¬1) فتح المعين (1/ 107)، وانظر إعانة الطالبين (1/ 112). (¬2) قال ابن قدامة في المغني (3/ 187): وإن شك بعد الفراغ منه - أي من الطواف- لم يلزمه شيء. اهـ وقال أيضاً (1/ 80): وإن شك في النية في أثناء الطهارة لزمه استئنافها؛ لأنها عبادة شك في شرطها وهو فيها، فلم تصح كالصلاة، إلا أن النية إنما هي القصد، ولا يعتبر مقارنتها، فمهما علم أنه جاء ليتوضأ وأراد فعل الوضوء مقارنا له أو سابقا عليه قريبا منه فقد وجدت النية، وإن شك في وجود ذلك في أثناء الطهارة لم يصح ما فعله منها، وهكذا إن شك في غسل عضو أو مسح رأسه، كان حكمه حكم من لم يأت به؛ لأن الأصل عدمه، إلا أن يكون ذلك وهما كالوسواس، فلا يلتفت إليه. وإن شك في شيء من ذلك بعد فراغه من الطهارة لم يلتفت إلى شكه؛ لأنه شك في العبادة بعد فراغه منها، أشبه الشك في شرط الصلاة. الخ كلامه رحمه الله. وقال الدسوقي في حاشتيه (1/ 124): إذا شك بعد الفراغ من الصلاة فلا شيء عليه إلا إذا تبين له الحدث. اهـ وقال في المنثور (2/ 257): الشك بعد الفراغ من العبادة قال ابن القطان فى المطارحات: فرق الإمام الشافعى بين الشك فى الفعل، وبين الشك بعد الفعل، فلم يوجب إعادة الثاني؛ لأنه يؤدى إلى المشقة، فإن المصلى لو كلف أن يكون ذاكراً لما صلى لتعذر عليه ذلك، ولم يطقه أحد فسومح فيه. اهـ

الفصل الحادي عشر نضح الماء على الفرج والسراويل

الفصل الحادي عشر نضح الماء على الفرج والسراويل إذا فرغ من الاستنجاء بالماء استحب له أن ينضح فرجه أو سراويله بشيء من الماء، إن كان الشيطان يريبه كثيراً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: يستحب مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، قطعاً للوسواس. ¬

(¬1) قال في البحر الرائق (1/ 253): ولو عرض له الشيطان كثيراً لا يلتفت إليه، بل ينضح ... فرجه بماء أو سراويله حتى إذا شك حمل البلل على ذلك النضح ما لم يتيقن خلافه. اهـ وانظر بدائع الصنائع (1/ 33)، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 29)، وفي الفتاوى الهندية (1/ 49): ولو عرض له الشيطان كثيراً لا يلتفت إلى ذلك كما في الصلاة، وينضح فرجه بماء حتى لو رأى بللا حمله على بلة الماء. هكذا في الظهيرية. اهـ (¬2) قال في التاج والإكليل (1/ 282): وسئل ابن رشد عن الرجل يخرج من بيت الماء، وقد استنجى بالماء، ثم توضأ فيكون في الصلاة أو سائراً إليها، فيجد نقطة هابطة، فيفتش عليها، فتارة يجدها وتارة لا يجدها. فأجاب: لا شيء عليه إذا استنكحه ذلك ودين الله يسر. وسئل ربيعة عن الرجل يمسح ذكره من البول ثم يتوضأ فيجد البلل فقال: لا بأس به قد بلغ محنته، وأدى فريضته. وسئل سليمان بن يسار عن البلل يجده قال: انضح ما تحت ثوبك بالماء واله عنه، قال القاسم بن محمد: إذا استبرأت وفرغت فارشش بالماء. اهـ (¬3) قال في المجموع (2/ 130): يستحب أن يأخذ حفنة من ماء، فينضح بها فرجه، وداخل سراويله أو إزاره بعد الاستنجاء دفعا للوسواس، ذكره الروياني وغيره. وجاء به الحديث الصحيح في خصال الفطرة وهو الانتضاح، والله أعلم. وانظر طرح التثريب (2/ 85،86)، أسنى المطالب (1/ 53). (¬4) الفروع (1/ 122)، الإنصاف (1/ 109)، المغني (1/ 103).

دليل من قال: ينضح فرجه.

وقيل: لا ينتضح في الاستنجاء كما لا ينتضح في الاستجمار، وهو رواية عن أحمد (¬1). دليل من قال: ينضح فرجه. الدليل الأول: (336 - 180) ما رواه أحمد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي الحكم أو الحكم بن سفيان الثقفي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم توضأ، ونضح فرجه. قال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، قال: قال شريك: سألت أهل الحكم بن سفيان فذكروا أنه لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). [اختلف في إسناده، وهل هو متصل أم منقطع] (¬3). ¬

(¬1) الفروع (1/ 122)، الإنصاف (1/ 109). (¬2) المسند (3/ 410). (¬3) اختلف في إسناده على هذا الوجه. فقيل: عن منصور، عن الحكم بن سفيان أو أبي الحكم بن سفيان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه أحمد كما في حديث الباب، والطبراني في الكبير (3184) من طريق جرير. وأخرجه الطبراني في الكبير (3/ 216) رقم 3177، من طريق شعبة وأخرجه الطبراني أيضاً (3179) من طريق أبي عوانة كلاهما عن منصور به. واختلف على شعبة، فقيل: هذا، وقيل: عن الحكم أو أبي الحكم عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيادة أبيه، وسيأتي تخريجها. وقيل: عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان، أو سفيان بن الحكم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (586،587) ومن طريقه عبد بن حميد كما في المنتخب (486) والطبراني في الكبير (3174) عن معمر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أحمد (4/ 179، 212) والطبراني (6392) والحاكم (608) من طريق الثوري. وأخرجه الطبراني أيضاً (3181) من طريق مفضل بن مهلهل، وأخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (1/ 206) من طريق زائدة أربعتهم عن منصور عن مجاهد به. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 155) ومن طريقه ابن ماجه (461)، والطبراني في الكبير (3180)، و (3182) من طريق زكريا بن أبي زائدة. وأخرجه الطبراني في الكبير (3175) وابن قانع في معجم الصحابة (1/ 206) من طريق سلام بن أبي مطيع. وأخرجه أيضاً (3183) من طريق قيس بن الربيع. ثلاثتهم عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يشك. وقيل: عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم، أو أبي الحكم، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فزاد كلمة عن أبيه. رواه أبو داود الطيالسي (1268) ومن طريقه البيهقي (1/ 161) وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 161) من طريق حفص بن عمر كلاهما عن شعبة، عن منصور، عن مجاهد به. وقيل: عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه النسائي في الكبرى (135)، وفي المجتبى (134) من طريق شعبة. والطبراني في الكبير (3178) من طريق وهيب، كلاهما عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان، عن أبيه به. وقيل: عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم أو ابن الحكم، عن أبيه. أخرجه أبو داود (167) من طريق زائدة، عن منصور، عن مجاهد به. وقيل: عن مجاهد، عن رجل من ثقيف، عن أبيه. أخرجه الحاكم (609) ومن طريقه البيهقي (1/ 161) من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به. وعندي أن هذا الاختلاف يرجع إلى اختلافين: =

وعلى تقدير صحته فليس فيه دليل؛ لأنه يحتمل أن يكون النضح هنا بمعنى الغسل، فيكون إشارة إلى الاستنجاء، كما قال في المذي: توضأ وانضح فرجك كما هو في مسلم سواء بسواء. ¬

_ = هل هو عن الحكم بن سفيان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أو عن الحكم بن سفيان، عن أبيه. وعلى تقدير أن يكون عن الحكم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هل سمع الحكم بن سفيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون متصلاً، أو لم يسمع فيكون منقطعاً. وأما بقية الاختلافات هل هو الحكم بن سفيان أو سفيان بن الحكم، أو أبي الحكم فإنما اختلاف في اسمه، وهو لا يؤثر إذا كانت عينة معروفة. واختلف في الراجح من هذين الاختلافين: فقد ذكر هذه الطرق ابن أبي حاتم في العلل (1/ 46) وصحح أبو زرعة: أنه عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان، وله صحبة. ورجح أبو حاتم أنه عن الحكم بن سفيان عن أبيه. اهـ وقال الترمذي على إثر حديث رقم (50): وفي الباب عن أبي الحكم بن سفيان، وقال بعضهم: سفيان بن الحكم أو الحكم بن سفيان، واضطربوا في هذا الحديث. اهـ كلام الترمذي وقال العلائي في جامع التحصيل (ص: 166): الحكم بن سفيان، وقيل: ابن أبي سفيان، وقيل: سفيان بن الحكم، ويقال أيضا: أبو الحكم، وقيل: غير ذلك الثقفي له في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ونضح فرجه، وفي بعضها يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية: عن الحكم بن سفيان، عن أبيه، وفيه اختلاف كثير. قال شريك النخعي: سألت أهل الحكم بن سفيان فذكروا أنه لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما بن عبد البر فصحح صحبته وسماعه، والله أعلم. اهـ وقال البخاري في التاريخ الكبير (2/ 329): وقال بعض ولد الحكم بن سفيان لم يدرك الحكم النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ ولاشك أن أهل الرجل أعلم به، خاصة أن مثلهم حريص على مثل هذا الشرف العظيم، فكونهم ينفون سماع سفيان بن الحكم من النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على عدم سماعه، ولو سمع لكان أهله أعلم به من الناس، والله أعلم.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (337 - 181) رواه أحمد، قال: ثنا عفان، ثنا: حماد، ثنا علي بن زيد، عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من الفطرة - أو الفطرة - المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وتقليم الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط والاستحداد والاختتان والانتضاح. [ضعيف] (¬1). الدليل الثالث: (338 - 182) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وأحمد بن أبي عبيد الله السليمي البصري، قالا: حدثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة، عن الحسن بن علي الهاشمي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: جاءني جبريل، فقال: يا محمد إذا توضأت فانتضح (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) المسند (4/ 264) وسيأتي تخريجه في كتاب السواك. (¬2) سنن الترمذي (50) وقال بعده الترمذي: هذا حديث غريب، قال وسمعت محمدا يقول الحسن بن علي الهاشمي منكر الحديث. (¬3) ورواه ابن ماجه (463) وابن عدي في الكامل (2/ 321) والعقيلي في الضعفاء (1/ 234) والمجروحين لابن حبان (1/ 235) وابن الجوزي في العلل المتناهية (586) من طريق سلم بن قتيبة به. وفي إسناده الحسن بن علي الهاشمي، جاء في ترجمته: قال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي، منكر الحديث، ضعيف الحديث، روى ثلاثة =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (339 - 183) ما رواه أحمد، قال: حدثنا هيثم -قال عبد الله: وسمعته أنا من الهيثم بن خارجة- حدثنا رشدين بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل عليه السلام لما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلمه الوضوء، فلما فرغ من وضوئه أخذ حفنة من ماء فرش بها نحو الفرج، قال فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرش بعد وضوئه. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬

= أحاديث أربعة أحاديث أو نحو ذلك مناكير. الجرح والتعديل (3/ 20). وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (2/ 298). وقال ابن حبان: يروي المناكير عن المشاهير، فلا يحتج به إلا بما يوافق الثقات. المجروحين (1/ 234). وقال ابن عدي: حديثه قليل، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق. الكامل (2/ 321). (¬1) في إسناده رشدين بن سعد، وستأتي ترجمته وافية في باب تغيير الشيب بالسواد من كتاب سنن الفطرة، فانظره غير مأمور. وأخرجه الدارقطني (1/ 111) من طريق رشدين بن سعد، عن عقيل وقرة، عن ابن شهاب به. وأخرجه الدراقطني (1/ 11)، والبيهقي (1/ 161) من طريق ابن لهيعة، أخبرني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد بن حارثة، عن أبيه. فجعله من مسند زيد بن حارثة. وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. ورواه الطبراني في الأوسط (4/ 174) من طريق سعيد بن شرحبيل، قال: نا الليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب به.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (340 - 184) ما رواه أبو داود، قال: أخبرنا قبيصة، أنبأ سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ونضح فرجه. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الليث إلا سعيد بن شرحبيل، والمشهور من حديث ابن لهيعة. (¬1) انفرد قبيصة عن سفيان بزيادة: ونضح على فرجه، ولم يذكرها أحد غيره، فذكر النضح غير محفوظ بهذا الحديث، خاصة وأن رواية قبيصة عن سفيان متكلم فيها، وهذا الحديث قد اتفق رواته على أن الوضوء فيه مرة مرة، سواء ذكروه بهذا اللفظ المختصر، أو ذكروه على سبيل التفصيل بأن ذكروا غسل الوجه مرة وغسل اليدين مرة وغسل الرجلين مرة وهكذا، وكلا الروايتين في البخاري، والذي ساقه مختصراً لم يتعرض لذكر أعضاء الوضوء بما فيها الرجلان، والذين ذكروه مفصلاً اختلفوا في الرجلين، فبعضهم يذكر غسل الرجلين فقط، وبعضهم يذكر رش الرجلين، وبعضهم يذكر مسح القدمين وفيها النعلان، وقد خرجت هذه الروايات بشيء من التفصيل، وبيان الراجح منها في كتاب المسح على الحائل انظر (ح 37) فمن أراد أن ينظر إلى الكلام على ألفاظه فلينظره مشكوراً، والذي أنا بصدده الآن بيان من خالف قبيصة بن عقبة بعدم التعرض للنضح، فقد رواه جماعة عن سفيان، ولم يذكروا ما ذكره قبيصة، منهم: الأول: محمد بن يوسف، كما عند البخاري (157)، ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة. الثاني: يحيى بن سعيد، أخرجه أبو داود (138) والنسائي (80)، والترمذي (42) وابن ماجه (411)، وابن حبان (1195) ولفظه أيضاً كلفظ محمد بن يوسف (توضأ مرة مرة). الثالث: وكيع، كما عند الترمذي (42) بالوضوء مرة مرة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الرابع: أبو عاصم النبيل كما عند الدارمي (696) والطحاوي (1/ 29) بذكر الوضوء مرة مرة. الخامس: أبو شهاب الحناط، كما عند أبي عبيد في كتاب الطهور (103). السادس: المؤمل بن إسماعيل، كما عند البغوي في شرح السنة (226). السابع: عبد الرزاق كما في المصنف (128)، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (1/ 365). الثامن: زيد بن الحباب كما في سنن البيهقي (1/ 286). التاسع: رواد بن الجراح كما في الكامل لابن عدي (3/ 177). فهؤلاء تسعة رواة رووه عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، ولم يذكروا ما ذكره قبيصة، ومنهم من يقدم وحده على قبيصة كالقطان ووكيع. كما رواه عن زيد بن أسلم ثمانية رواة، ولم يذكروا ما ذكره قبيصة، وإليك بيان رواياتهم: الأول: ابن عجلان عند ابن أبي شيبة (1/ 17) رقم 64، وأبي يعلى (2486)، والنسائي (103)، وابن ماجه (439)، وابن خزيمة (148)، وابن حبان (1078، 1086)، والبيهقي (1/ 55،73) وغيرهم. الثاني: سليمان بن بلال عند البخاري (140)، وأحمد (1/ 286) والبيهقي (1/ 72) الثالث: هشام بن سعد عند أبي داود (137) والحاكم (1/ 147)، والبيهقي (1/ 73) وفي المعرفة (1/ 222). الرابع: الدراوردي، كما في الطهور لأبي عبيد (105)، والنسائي (101)، وابن ماجه (403)، والدارمي (697)، ومسند أبي يعلى (2670،2672)، والطحاوي (1/ 32،35) والبيهقي (1/ 50)، وابن حبان (1076). الخامس: محمد بن جعفر بن كثير عند البيهقي (1/ 73). السادس: ورقاء بن عمر، كما عند البيهقي (1/ 67، 73). السابع: أبو بكر بن محمد عند عبد الرزاق (129). الثامن: معمر، عند عبد الرزاق على إثر ح (783). =

الدليل السادس

الدليل السادس: (341 - 185) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا قيس، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر قال توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنضح فرجه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). دليل من قال: لا ينضح فرجه. الدليل الأول: القياس على الاستجمار، كما أن الاستجمار لا ينضح الإنسان فرجه، فكذلك الاستنجاء بالماء. الدليل الثاني: أن الأحاديث الصحيحة في وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرها من حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد وغيرهما لم تذكر ¬

= فكل هؤلاء لم يذكروا ما ذكره قبيصة، وبالتالي لا يشك الباحث بخطأ قبيصة، وأن الحديث ليس فيه ذكر النضح، خاصة إذا علمنا أن رواية قبيصة عن سفيان قد تكلم فيها، والله أعلم. (¬1) سنن ابن ماجه (464). (¬2) في إسناده ابن أبي ليلى، سيء الحفظ، والله أعلم، وفي إسناده أيضاً قيس بن الربيع مختلف فيه، قال عمرو بن على: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن قيس بن الربيع، وكان عبد الرحمن حدثنا عنه قبل ذلك، ثم تركه. الجرح والتعديل (7/ 96). وفي التقريب: صدوق، تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، فحدث به، وانظر ترجمته وافية في باب دفن الظفر والشعر من باب سنن الفطرة من كتابي هذا، والله الموفق.

الدليل الثالث

النضح، وهي مقدمة على غيرها. الدليل الثالث: أن أحاديث النضح في الوضوء لا تخلو من مقال، وبالتالي لو كان النضح ثابتاً لجاء فيه حديث صحيح، ولا أرى في مثل هذه المسألة التي تتكرر أن يتساهل فيها فيصحح النضح بالشواهد، بل كون الأحاديث التي جاءت فيها كلها ضعيفة دليل على ضعف القول. دليل من قال: ينضح إن كان الشيطان يريبه كثيراً. رأى أن هذا من العلاج للوسواس، وأن فيه نوعاً من قطع الوسوسة، حتى إذا رابه شيء قال: هذا من الماء، والقول به كعلاج لقطع الوسواس جيد، ومجرب، ولكن لا يقال: إنه سنة، وإنما يفعله لعارض، وإن كان العبد يقدر على دفع الوسوسة بدونه فهو أحب إلي، ومتى ما فتح الإنسان باباً للشيطان أفسد عليه عبادته إما بغلو وإما بتقصير، والله المستعان وحده على شر الشيطان وشركه.

الباب الرابع في الاستجمار

الباب الرابع في الاستجمار ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز الاستجمار. الفصل الثاني: في شروط الاستتجمار.

الفصل الأول خلاف العلماء في جواز الاستجمار

الفصل الأول خلاف العلماء في جواز الاستجمار اختلف العلماء في جواز الاستجمار بالحجارة: فقيل: يجوز الاستجمار بالحجارة، ولو مع وجود الماء والقدرة عليه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)،مع أن الحجر قد لا ينقي المحل، فلا بد أن يبقى به أثر لا يزيله إلا الماء، وهذا من تيسير الشريعة، ومن التخفيف الذي وضعه الله سبحانه وتعالى عن عباده، خاصة أن الإنسان قد يحتاج إلى البول والغائط في مكان لا يوجد فيه ماء، فكان من سعة الله على عبادة أن يسر لهم إزالتها بأي مزيل من أجحار ونحوها. وقيل: لا يجوز الاستجمار بالحجارة إلا لمن عدم الماء، وادعى أن العمل بالاستجمار قد ترك العمل به، اختاره ابن حبيب من المالكية (¬2). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 336)، البحر الرائق (1/ 253)، حاشية الطحطاوي (ص: 31)، الفتاوى الهندية (1/ 48)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 48). وانظر في مذهب المالكية مواهب الجليل (1/ 286)، القوانين الفقهية (ص: 29)، شرح الزرقاني (1/ 93)، التاج والإكليل (1/ 286)، الشرح الكبير (1/ 113)، مختصر خليل (ص: 15). وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/ 22)، المهذب (1/ 27)، الإقناع للشربيني (1/ 53)، روضة الطالبين (1/ 65)، المجموع (2/ 119). وانظر في الفقه الحنبلي: الفروع (1/ 89)، الإنصاف (1/ 109)، المبدع (1/ 91)، المحرر (1/ 10)، عمدة الفقه (ص: 6)، الكافي (1/ 52). (¬2) قال ابن رشد في البيان والتحصيل (17/ 485): قال ابن حبيب: لا نبيح اليوم الاستنجاء -يعني: بالحجارة- إلا لمن عدم الماء؛ لأنه أمر قد ترك، وجرى العمل بخلافه، على ما قاله ابن هرمز. اهـ =

الأدلة على جواز الاستجمار بالحجارة.

الأدلة على جواز الاستجمار بالحجارة. الدليل الأول: (341 - 185) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). الدليل الثاني: (342 - 186) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (¬3). ¬

= وقال القرطبي في المفهم (1/ 520): وقد شذ ابن حبيب من أصحابنا، فقال: لا يجوز استعمال الأحجار مع وجود الماء، وهذا ليس بشيء؛ إذ قد صح في البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل الحجارة مع وجود الماء في الإداوة مع أبي هريرة يتبعه بها. اهـ (¬1) المسند (2/ 250). (¬2) رجاله كلهم ثقات إلا ابن عجلان، فإنه صدوق، وسبق تخريجه في حكم الاستنجاء. (¬3) المسند (6/ 133).

الدليل الثالث

[إسناده أرجو أن يكون حسناً] (¬1). الدليل الثالث: (343 - 187) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬2). الدليل الرابع: (344 - 188) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا بكر، ثنا عمرو بن هاشم، ثنا الهقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي شعيب الحضرمي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا تغوط أحدكم فليتمسح بثلاثة أحجار، فإن ذلك كافيه (¬3). [إسناده فيه لين إلا أنه صالح في الشواهد] (¬4). ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) مسلم (262). (¬3) مجمع البحرين (354). (¬4) دراسة الإسناد: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في إسناده بكر بن سهل الدمياطي، ضعفه النسائي كما في المغني في الضعفاء (978). وجاء في لسان الميزان: حمل الناس عنه وهو مقارب الحال، قال النسائي: ضعيف. وقال البيهقي في الزهد: أخبرنا الحاكم وجماعة قالوا حدثنا الأصم ثنا بكر بن سهل ثنا عبد الله بن محمد بن رمح بن المهاجر، أنا بن وهب، عن حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما من معمر عمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ الخمسين لين الله عليه حسابه، وإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة، وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء، وإذا بلغ الثمانين قبل الله حسناته، وتجاوز عن سيئاته وإذا بلغ التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في الأرض، وشفع في أهل بيته ومن وضعه ما حكاه أبو بكر القتات مسند أصبهان، أنه سمع أبا الحسن بن شنبوذ المقري، قال: سمعت بكر بن سهل الدمياطي: يقول هجرت أي بكرت يوم الجمعة، فقرأت إلى العصر، ثمان ختمات فأسمع إلي هذا وتعجب. انتهى وقد ذكره ابن يونس في تاريخ مصر وسمي جده نافعاً، ولم يذكر فيه جرحاً. وقال مسلمة بن قاسم: تكلم الناس فيه، ووضعوه من أجل الحديث الذي حدث به، عن سعيد بن كثير، عن حيي بن أيوب، عن مجمع بن كعب، عن مسلمة بن مخلد رفعه: اعروا النساء يلزمن الحجال. قال الحافظ: والحديث الذي أورده المصنف لم ينفرد به، بل رواه أبو بكر المقري في فوائده، عن أبي عروبة الحسين بن محمد الحراني، عن مخلد بن مالك الحراني، عن الصنعاني، وهو حفص بن ميسرة به أملاه الحافظ أبو القاسم بن عساكر في المجلس التاسع والسبعين من أماليه وقال: إنه حديث حسن، وإما حديث مسلمة فأخرجه الطبراني عنه. لسان الميزان (1/ 61). والحديث أخرجه الطبراني في الكبير (4/ 174) رقم 4055، وفي الأوسط (3/ 280) رقم 3146، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 211): رجاله موثوقون إلا أبا شعيب صاحب أبي أيوب لم أر فيه تعديلاً ولا تجريحاً. اهـ وعلى كل حال فالحديث صالح في الشواهد، والجهالة في التابعين أخف من الجهالة في من دونهم عد ما انتشر علم الجرح والتعديل، واستقرت قواعده، وكان له أئمته المعروفون.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (345 - 189) ما أخرجه الطبراني، كما في مجمع البحرين، قال: حدثنا أحمد، ثنا محمد بن يحيى النيسابوري، ثنا أبو غسان محمد بن يحيى الكناني، حدثني أبي، عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال: أخبرني ابن خلاد، أنا أباه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا تغوط أحدكم فليتمسح ثلاث مرات. [إسناده حسن لولا أن فيه يحيى بن علي بن عبد الحميد لم أقف له على ترجمة] (¬1). الدليل السادس: (346 - 190) ما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن بحر، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً (¬2). [إسناده حسن إن كان أبو سفيان سمعه من جابر، ورواه أبو الزبير عن جابر في مسلم، ولم يقل: ثلاثاً] (¬3). ¬

(¬1) يحيى بن علي بن عبد الحميد الكناني ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/ 175). وكذلك ذكره البخاري، وسكت عليه. التاريخ الكبير (8/ 297). (¬2) المسند (3/ 400). (¬3) قال وكيع، عن شعبة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة، وفي رواية إنما هو كتاب. وقال أبو خيثمة، عن سفيان بن عيينة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة. =

الدليل السابع

الدليل السابع: (347 - 191) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير وعبدة، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الاستطابة بثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع (¬1). [إسناده فيه لين] (¬2). ¬

= وقال شعبة: سمع أبو سفيان من جابر أربعة أحاديث، قال: ويقال إن أبا سفيان أخذ صحيفة جابر وصحيفة سليمان اليشكري. جامع التحصيل (ص: 202). قلت: ولعلها هي الأحاديث التي أخرجها البخاري عنه في صحيحه مقروناً بغيره. والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 143) حدثنا أبو معاوية. وأخرجه ابن خزيمة (76) من طريق جرير وعيسى بن يونس، وسفيان الثوري. وأخرجه البيهقي (1/ 103) من طريق جابر، كلهم عن الأعمش به. وتابع أبو الزبير طلحة بن نافع، فأخرجه عبد الرزاق (9804)، ومن طريقه أحمد (3/ 294) ومسلم (239)، وأبو عوانة (1/ 219) حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: إذا استجمر أحدكم فليوتر. ولم يقل أبو الزبير ثلاثاً. وأخرجه أحمد (3/ 336) من طريق ابن لهيعة، حدثنا أبو الزبير به، بلفظ: إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات. وهذا إسناد فيه ابن لهيعة. (¬1) المصنف (1/ 142) رقم 1652. (¬2) في إسناده عمرو بن خزيمة، ذكره ابن حبان في الثقات (7/ 220). وسكت عليه البخاري وابن أبي حاتم، فلم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. التاريخ الكبير (6/ 327)، الجرح والتعديل (6/ 229). وفي التقريب: مقبول: أي حيث يتابع، ولم أعلم أحداً تابعه في هذا الإسناد. [تخريج الحديث] =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أخرجه أحمد (5/ 213) من طريق محمد بن بشر. وأخرجه ابن ماجه (315) من طريق وكيع. أخرجه الدارمي (671) من طريق علي بن مسهر. وأخرجه الطحاوي (1/ 121) من طريق عبد الرحمن بن سليمان، كلهم من طريق هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة به. واختلف على هشام. فرواه عنه من سبق: ابن نمير وعبدة ووكيع، عن هشام، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت. ورواه سفيان بن عيينة، عن هشام، واختلف على سفيان، فرواه ابن ماجه (315) حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا هشام به، كرواية الجماعة. وواه الشافعي في مسنده (ص: 13) عن سفيان بن عيينة، أخبرني هشام بن عروة، قال: أخبرني أبو وجزة، عن عمران بن حدير، عن عمارة بن خزيمة، عن أبيه به. ووراه الحميدي في مسنده (432) بمثل طريق الشافعي، إلا أنه سقط منه عمران بن حدير. ووراه أبو معاوية، واختلف عليه: فرواه أبو داود (41) ومن طريقه البيهقي (1/ 103) حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت، مثل حديث الجماعة. وأخرجه الطبراني في الكبير (4/ 86) رقم 3723 من طريق عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهوية كلاهما عن أبي معاوية، عن هشام، عن عبد الرحمن بن سعد، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة به. فجعلوا بين هشام وبين عمرو بن خزيمة عبد الرحمن بن سعد. وأخرجه أحمد (5/ 315) عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني رجل، عن عمارة بن خزيمة به. وهذا إسناد ضعيف؛ لأن فيه مبهماً. وأخرجه الطبراني في الكبير (4/ 87) رقم 3729 من طريق هشام بن عمار، ثنا =

الدليل الثامن

الدليل الثامن: ما ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه اكتفى بالحجارة في الاستنجاء، من ذلك: (348 - 192) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل/ حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً (¬1). ¬

= إسماعيل بن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة به. وساق الترمذي الاختلاف في إسناده، ثم قال: سألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقال: الصحيح ما روى عبدة ووكيع، وحديث مالك عن هشام بن عروة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح أيضاً. اهـ وفي العلل لابن أبي حاتم (1/ 54): سئل أبو زرعة عن اختلاف الرواة في خبر هشام بن عروة في الاستنجاء، رواه وكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن أبيه خزيمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع، ومنهم من يقول: عن هشام بن عروة، عن من حدثه، عن عمارة بن خزيمة، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو زرعة: الحديث حديث وكيع وعبدة. اهـ (¬1) صحيح البخاري (3860).

الدليل التاسع

الدليل التاسع: (349 - 193) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). فلجميع هذه النصوص يجزم المسلم أن الحجارة تكفي في إزالة النجاسة من البول والغائط، وللاستجمار بالحجارة شروط، سوف نذكرها، ونذكر كلام أهل العلم حولها إن شاء الله تعالى في المباحث التالية. دليل من قال: الاستجمار لا يجزي إلا لمن عدم الماء. لا أعلم له دليلاً من السنة على أن الاستنجاء بالحجارة مشروط بعدم القدرة على الماء، وأحاديث الاستجمار مطلقة، وليست مقيدة. قال ابن رشد: لا اختلاف في أن من اكتفى في استنجائه بالأحجار دون الماء، فصلى أن صلاته تامة، ولا إعادة عليه في وقت ولا غيره، لما جاء أن النبي عليه السلام سئل عن الاستطابة، فقال: أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار إلا أن الماء أطهر وأطيب، ومن قدر على الجمع بين الأحجار والماء فهو أولى وأحسن (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (156). (¬2) البيان والتحصيل (17/ 484).

الفصل الثاني في شروط الاستجمار

الفصل الثاني في شروط الاستجمار ويشتمل على ثماني شروط: الشرط الأول: في اشتراط ثلاثة أحجار. الشرط الثاني: أن تكون الأحجار ونحوها طاهرة. الشرط الثالث: أن يكون المستنجى به غير عظم وروث. الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون المستجمر به من الأحجار. الشرط الخامس: أن يكون الحجر ونحوه منقياً. الشرط السادس: هل يشترط أن يكون جامداً. الشرط السابع: ألا يكون المستجمر به حممة. الشرط الثامن: أن يكون المستجمر به غير محترم.

الشرط الأول في اشتراط ثلاثة أحجار

الشرط الأول في اشتراط ثلاثة أحجار اختلف الفقهاء هل يشترط في الاستجمار ثلاثة أحجار، أم لا؟ فقيل: لا يجب العدد، بل المعتبر الإنقاء، فكيف حصل أجزأ، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: لا بد من ثلاثة أحجار، فأكثر، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). دليل الحنفية والمالكية على الاكتفاء بحجر واحد. الدليل الأول: (350 - 194) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 121) وما بعدها، بدائع الصنائع (1/ 19)، تبيين الحقائق (1/ 76،77)، البحر الرائق (1/ 253). (¬2) المنتقى (1/ 68)، شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/ 72)، التاج والإكليل (1/ 270)، التمهيد (11/ 17)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 17)، مواهب الجليل (1/ 290)، بداية المجتهد (1/ 62). (¬3) الأم (1/ 22)، المجموع (2/ 120)، المهذب (1/ 27)، الإقناع للشربيني (1/ 54)، شرح زبد بن رسلان (ص: 52)، مغني المحتاج (1/ 45). (¬4) المغني (1/ 102)، الفتاوى الكبرى (1/ 339،340)، المبدع (1/ 94)، مختصر الخرقي (ص: 17)، منار السبيل (1/ 23)، الكافي (1/ 52)، كشاف القناع (1/ 69)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 211). (¬5) المحلى (1/ 108)،

الأسود، عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). وجه الاستدلال: قال الطحاوي: ففي هذا الحديث ما يدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجار، لقوله لعبد الله: ناولني ثلاثة أحجار، ولو كان بحضرته من ذلك شيء لما احتاج إلى أن يناوله من غير ذلك المكان، فلما أتاه عبد الله بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وأخذ الحجرين، دل ذلك على استعماله الحجرين، وعلى أنه قد رأى أن الاستجمار بهما يجزيء، ولو كان لا يجزيء الاستجمار بما دون الثلاث لما اكتفى بالحجرين، ولأمر عبد الله أن يبغيه ثالثاً، ففي تركه ذلك دليل على اكتفائه بالحجرين (¬2). وطريق آخر للاستدلال على جواز الأقل من ثلاثة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - طلب من ابن مسعود ثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين، فإما أن يكون ابن مسعود لم يأته بالثالث، أو أنه أتاه به، وعلى الحالين ففيه دليل على عدم اشتراط ثلاثة أحجار؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - اقتصر في الموضعين على ثلاثة، فحصل لكل منهما أقل من ثلاثة. وأجيب عن هذا الدليل: قالوا: كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب حجراً ثالثاً لاحتمال أن يكون اكتفى ¬

(¬1) صحيح البخاري (156). (¬2) شرح معاني الآثار (1/ 122).

بالأمر الأول في طلب ثلاثة أحجار، فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث؛ لأن المقصود بالثلاث أن يمسح بها ثلاث مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد. قال ابن حزم رحمه الله: وليس في الحديث أنه عليه السلام اكتفى بالحجرين، وقد صح أمره - صلى الله عليه وسلم - له أن يأتيه بثلاثة أحجار، فالأمر باق لازم، لابد من إبقائه (¬1). أما قولكم: إنه استعمل في الموضعين ثلاثة، فحصل لكل منهما أقل من ثلاثة، فيحتمل أن يكون لم يخرج منه شيء إلا من سبيل واحد، خاصة إذا علمنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عادته إذا أراد الغائط أبعد، حتى يستتر عن أعين الناس، بحيث لا يراه أحد، ولم يكن يفعل هذا في البول، فقد بال - صلى الله عليه وسلم - قائماً، وحذيفة عند عقبه، فقول ابن مسعود: " أتى الغائط، فأمرني " ظاهره أنه لم يأمره حتى أتى مكان قضاء الحاجة، وهذا يرجح أنه كان للبول فقط. وقال الحافظ: وعلى تقدير أن يكون خرج منهما، فيحتمل أن يكون اكتفى للقبل بالمسح في الأرض، وللدبر بالثلاثة، أو مسح من كل منهما بطرفين. وأجاب ابن حزم بجواب آخر، وقصر وجوب ثلاثة أحجار للغائط فقط دون البول. قال رحمه الله: فإن قيل: أمره عليه السلام بثلاثة أحجار، هو للغائط والبول معاً، فوقع لكل منهما أقل من ثلاثة أحجار. قلنا: هذا باطل؛ لأن النص ورد بأن لا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، ¬

(¬1) المحلى (1/ 113).

ومسح البول لا يسمى استنجاء (¬1). وقال ابن حزم أيضاً: فإن بدأ بمخرج البول، أجزأت تلك الأحجار بأعيانها لمخرج الغائط، وإن بدأ بمخرج الغائط لم يجزه من تلك الأحجار إلا ما كان لا رجيع عليه فقط، والله أعلم (¬2). (351 - 195) وقد روى أحمد رحمه الله، قال: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن أبي إسحاق، عن علقمة بن قيس، عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب لحاجته، فأمر ابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار، فجاءه بحجرين وبروثه، فألقى الروثة وقال: إنها ركس ائتني بحجر (¬3). [إسناده منقطع] (¬4). ¬

(¬1) المحلى (1/ 110). (¬2) المرجع السابق (1/ 108). (¬3) المسند (1/ 450). (¬4) الحديث أخرجه أحمد كما في حديث الباب، والطبراني (9951)، والدارقطني (1/ 55)، والبيهقي في السنن (1/ 103) من طريق عبد الرزاق به. وأخرجه الدارقطني (1/ 55) من طريق أبي شيبة الواسطي، عن أبي إسحاق به. قال أبو زرعة وأبو حاتم: أبو إسحاق لم يسمع من علقمة شيئاً. المراسيل (ص: 145). وروى ابن أبي حاتم بسند صحيح عن شعبة، قال: كنت عند أبي إسحاق، فقال له رجل: شعبة يقول إنك لم تسمع من علقمة؟ قال: صدق شعبة. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين كما في تاريخه (2/ 448): رأى علقمة، ولم يسمع منه. اهـ وأثبت الكرابيسي سماع أبي إسحاق من علقمة فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (1/ 257)، والأول أرجح، فقد نص كل من شعبة ويحيى بن معين وأبي حاتم وأبي زرعة أربعة أئمة على عدم سماعه منه، ثم أبو أسحاق نفسه قد صرح بأنه لم يسمع من علقمة شيئاً، =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (352 - 196) استدلوا بما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬1). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬2). ¬

= ويكفي هذا في غلط الكرابيسي. وعلى التنزل أن يكون أبو إسحاق سمع من علقمة مع أن هذا افتراض بعيد، فإن هذه الزيادة يحكم بشذوذها، فقد رواه البخاري (156)، والنسائي (1/ 39) وابن ماجه (314)، وأبو يعلى (5127)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 122)، والطبراني في الكبير (9953)، والبيهقي في السنن (1/ 108) من طريق زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، وليس فيه هذه الزيادة. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 143)، وأحمد (1/ 388)، والترمذي (17)، والشاشي في مسنده (921)، والطبراني في الكبير (9952) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، وليس فيه زيادة علقمة. وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. (¬1) المسند (2/ 371). (¬2) سبق تخريجه في حكم الاستنجاء.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: من النظر، قالوا: إن المقصود من الاستنجاء: هو الإنقاء، فلا معنى لاشتراط الزيادة بالثلاث بعد حصوله، ولهذا لو لم يحصل الإنقاء بالثلاث يزاد عليها إجماعاً، لكونه هو المقصود. وأجيب عن هذا: قولكم: إن المقصود: هو الإنقاء غير صحيح، فلو كان المقصود هو الإنقاء لخلا اشتراط العدد عن فائدة، فلما اشترط العدد لفظا، وعلم الإنقاء به معنى، دل على إيجاب الأمرين، ونظيره العدة بالأقراء، فإن العدد معتبر، ولو تحققت براءة الرحم بقرء. دليل الشافعية والحنابلة على اشتراط الثلاث. الدليل الأول: (352 - 196) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬1). ¬

(¬1) مسلم (262).

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: قوله: " نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" والأصل في النهي التحريم، ولا صارف له عنه. الدليل الثاني: (353 - 197) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: قوله: " وكان يأمر بثلاثة أحجار" والأصل في الأمر الوجوب، ولا صارف له عنه. الدليل الثالث: (354 - 198) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير، ¬

(¬1) المسند (2/ 250). (¬2) رجاله كلهم ثقات إلا ابن عجلان، فإنه صدوق، وسبق تخريجه في حكم الاستنجاء.

الدليل الرابع

عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (¬1). [إسناده أرجو أن يكون حسناً] (¬2). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليذهب معه بثلاثة أحجار. فهذا أمر، والأصل فيه الوجوب. الدليل الرابع: (355 - 199) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا بكر، ثنا عمرو بن هاشم، ثنا الهقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي شعيب الحضرمي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا تغوط أحدكم فليتمسح بثلاثة أحجار، فإن ذلك كافيه (¬3). [إسناده فيه لين إلا أنه صالح في الشواهد] (¬4). الدليل الخامس: (356 - 200) ما أخرجه الطبراني، كما في مجمع البحرين، قال: حدثنا أحمد، ثنا محمد بن يحيى النيسابوري، ثنا أبو غسان محمد بن يحيى الكناني، ¬

(¬1) المسند (6/ 133). (¬2) سبق تخريجه، انظر ح 161. (¬3) مجمع البحرين (354). (¬4) سبق تخريجه، انظر ح 345.

الدليل السادس

حدثني أبي، عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال: أخبرني ابن خلاد، أنا أباه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا تغوط أحدكم فليتمسح ثلاث مرات. [إسناده حسن لولا أن فيه يحيى بن علي بن عبد الحميد لم أقف له على ترجمة] (¬1). الدليل السادس: (357 - 201) ما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن بحر، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً (¬2). [إسناده حسن إن كان أبو سفيان سمعه من جابر، ورواه أبو الزبير عن جابر في مسلم، ولم يقل: ثلاثاً] (¬3). الدليل السابع: (358 - 202) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير وعبدة، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الاستطابة بثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع (¬4). ¬

(¬1) سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه. (¬2) المسند (3/ 400). (¬3) سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه. (¬4) المصنف (1/ 142) رقم 1652.

الدليل الثامن

[إسناده فيه لين] (¬1). الدليل الثامن: من النظر، قالوا: ليس الحجر كالماء، إذا أنقى كفى؛ لأن الماء يزيل العين والأثر فدلالته قطعية، فلم يحتج إلى الاستظهار بالعدد، وأما الحجر فلا يزيل الأثر، وإنما يفيد الطهارة ظاهراً لا قطعاً، فاشترط فيه العدد (¬2). جواب الحنفية والمالكية عن أدلة الشافعية والحنابلة: أجابوا عن الأحاديث السابقة بأن ذكر الأحجار الثلاثة خرجت مخرج الغالب والعادة؛ لأن النقاء يحصل بها غالباً، أو أن الثلاثة تحمل على الكمال والاستحباب (¬3). وقال ابن الهمام: وما رووه من الأحاديث متروك ظاهرها، فإنه لو استنجى بحجر واحد له ثلاثة أحرف جاز بالإجماع (¬4). ويجاب عن هذا: بأن حمل الأحاديث على الاستحباب خلاف الأصل، لإن الأصل في الأمر الوجوب، وفي النهي التحريم. كما أن القول بأنها خرجت مخرج الغالب يحتاج إلى دليل، وكما قلنا سابقاً، لما كان الماء يطهر طهارة كاملة، لم يشترط عدد، ولما كانت الحجارة ¬

(¬1) سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه. (¬2) معالم السنن (1/ 11، 12)، المجموع (2/ 122). (¬3) انظر شرح معاني الآثار (1/ 121)، مواهب الجليل (1/ 290). (¬4) شرح فتح القدير (1/ 214).

يبقى منها أثر معفو عنه، اشترط لحصول العفو عن هذا النجاسة عدد معين، وهو ثلاثة أحجار. أما قولكم: إن الأحاديث التي تنص على ثلاثة أحجار متروك ظاهرها بالإجماع كما لو استنجى بحجر واحد له ثلاث شعب. فيقال: حكاية الإجماع ليست دقيقة، فإن ابن المنذر وابن حزم يريان وجوب ثلاثة أحجار، ولا يكفي ثلاث مسحات بحجر واحد له شعب. وعلى التنزل فمن تمسح بثلاث مسحات لا يكون بمنزلة من تمسح بحجر واحد مرة واحدة. فالقول الراجح أنه لا بد من ثلاثة أحجار أو ثلاثة مسحات، والله أعلم.

دليل من قال: يكفي حجر واحد له ثلاث شعب.

المبحث الأول في الاكتفاء بحجر واحد له ثلاث شعب اختلف القائلون باشتراط ثلاثة أحجار، هل المطلوب ثلاث مسحات، بحيث يكفي الحجر الواحد إذا كان ذا ثلاث شعب، أو لا بد من ثلاثة أحجار. فقيل: يكفي الحجر الواحد إذا كان له ثلاث شعب، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: لا بد من ثلاثة أحجار مطلقاً، هو رواية عن أحمد (¬3)، واختاره ابن المنذر (¬4)، ورجحه ابن حزم (¬5). دليل من قال: يكفي حجر واحد له ثلاث شعب. قالوا: إن الشارع لما نص على ثلاثة الأحجار أراد من المستجمر ألا يتكفي بمسح المحل مرة واحدة، بل يكرر المسح ثلاث مرات، فكان المعنى ثلاثة أحجار: أي ثلاث مسحات، وإذا كان ذلك كذلك كان هذا حاصلاً ولو بحجر واحد، والدليل على صحته أنه لو مسح بطرف واحد وروماه، ثم ¬

(¬1) الأم (1/ 22)، المهذب (1/ 27)، تحفة المحتاج (1/ 182)، المنهج القويم (1/ 82)، الإقناع للشربيني (1/ 54)، التنبيه (ص: 18)، شرح زبد ابن رسلان (ص: 52). (¬2) كشاف القناع (1/ 69)، المغني (1/ 105)، المبدع (1/ 94)، الفروع (1/ 90)، المحرر (1/ 10)، الإنصاف (1/ 112)، مطالب أولي النهى (1/ 78). (¬3) المغني (1/ 105)، المحرر (1/ 10). (¬4) الأوسط (1/ 354). (¬5) المحلى (1/ 108) مسألة: 122.

دليل من قال: لا بد من ثلاثة أحجار.

جاء شخص آخر، فمسح بطرفه الآخر لأجزأهما بلا خلاف، واعتبر لكل واحد منهما مسحة. وأيضاً لو استجمر، ثم كسر المتنجس منها، واستجمر به ثانية لعد حجرين، وكذا لو غسله، ثم استنجى به. دليل من قال: لا بد من ثلاثة أحجار. الدليل الأول: حديث سلمان رضي الله عنه: " ونهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" فمن استنجى بحجر واحد ثلاث مسحات يكون قد استنجى بحجر واحد، وقد وقع في ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان المقصود ثلاث مسحات لجاء بها النص، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطي جوامع الكلم، فلما لم يأت نص بالتعبير بالمسح، لزم الأخذ بظاهر النص، وأنه لا بد من ثلاثة أحجار. الدليل الثاني: قال ابن المنذر: ليس يخلو الأمر بثلاثة أحجار من أحد أمرين: إما أن يكون أريد بها إزالة نجاسة، فإن كان هكذا فبما أزيلت النجاسة يجزي بحجر وغير حجر ولو أزيلت بحجر واحد. أو يكون عبادة فلا يجزي أقل من العدد. أو معنى ثالثاً. فيقال: أريد بها إزالة نجاسة وعبادة، فلما بطل المعنى الأول لم يبق إلا هذان المعنيان، ولا يجزي في واحد من المعنيين إلا بثلاثة أحجار؛ لأن العبادات لا يجوز أن ينتقص عددها، والخبر يدل على صحة ما قاله هذا القائل، وذلك موجود في حديث سلمان: "لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار" وكلما أمر الناس بعدد شيء لم يجز أقل منه، ولا يجزي أن أن ترمي الجمرة مع سبع

حصيات، مع أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستغنى به عن غيره، ولا تأويل لما قال: " لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار " لمتأول معه (¬1). وهذا الكلام جيد، إلا أن قياسه على الرمي فيه نظر، فالرمي عبادة غير معقولة المعنى، بخلاف إزالة النجاسة. فالراجح مذهب الشافعية والحنابلة، وأن المقصود من ثلاثة الأحجار تكرار المسح ثلاث مرات، كما أن المعتبر بقطع الاستنجاء على وتر إنما هو في المسح، وليس في عدد الأحجار، فلو مسح المستنجي ست مرات من ثلاثة أحجار لم يكن قد أتى بسنة الإيتار، لأن الإيتار المقصود به في عدد المسحات، لا عدد الأحجار، والله أعلم. ¬

(¬1) الأوسط (1/ 354).

الشرط الثاني أن تكون الأحجار ونحوها طاهرة

الشرط الثاني أن تكون الأحجار ونحوها طاهرة يشترط في ما يستجمر به أن يكون طاهراً، لا نجساً، ولا متنجساً (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يجزئ الاستجمار بكل ما يزيل العين من طاهر ونجس، وهو مذهب الحنفية (¬5)، وقول للإمام ¬

(¬1) النجس: ما كانت عينه نجسة. والمتنجس: ما طرأت عليه النجاسة. (¬2) المنتقى (1/ 68،69)، التاج والإكليل (1/ 414)، مواهب الجليل (1/ 289)، حاشية الدسوقي (1/ 113)، حاشية الصاوي (1/ 101)، القوانين الفقهية (ص: 42)، الخرشي (1/ 149)، منح الجليل (1/ 106). (¬3) الأم (1/ 22)، تحفة المحتاج (1/ 176)، المهذب (1/ 28)، إعانة الطالبين (1/ 108)، حلية العلماء (1/ 164)، المجموع (2/ 132). (¬4) مطالب أولي النهى (1/ 77)، المبدع (1/ 91)، دليل الطالب (ص: 6)، الفروع (1/ 92)، المحرر (1/ 10)، كشاف القناع (1/ 68)، الكافي (1/ 53). (¬5) قال في بدائع الصنائع (1/ 18): فإن فعل ذلك -يعني من الاستنجاء بالعظم والروث-فإنه يعتد به عندنا، فيكون مقيماً سنة، ومرتكباً كراهة، ويجوز أن يكون لفعل واحد جهتان مختلفتان، فيكون بجهة كذا، وبجهة كذا. وعند الشافعي لا يعتد به، حتى لا تجوز صلاته إذا لم يستنج بالأحجار بعد ذلك. وجه قوله: إن النص ورد بالأحجار فيراعى عين المنصوص عليه؛ ولأن الروث نجس في نفسه، والنجس كيف يزيل النجاسة؟ (ولنا): أن النص معلول بمعنى الطهارة، وقد حصلت بهذه الأشياء كما تحصل بالأحجار، إلا أنه كره بالروث لما فيه من استعمال النجس، وإفساد علف دواب الجن، وكره بالعظم لما فيه من إفساد زادهم على ما نطق به الحديث، فكان النهي عن الاستنجاء به لمعنى في غيره لا في عينه، فلا يمنع الاعتداد به وقوله: " الروث نجس في نفسه " مسلم، لكنه يابس لا ينفصل منه شيء إلى البدن =

الدليل على اشتراط الطهارة.

الطبري رحمه الله (¬1)، واختاره ابن تيمية (¬2). الدليل على اشتراط الطهارة. الدليل الأول: (359 - 203) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬3). وجه الاستدلال: قوله: هذا ركس. فإن معنى الركس في اللغة يحتمل أمرين: ¬

= فيحصل باستعماله نوع طهارة بتقليل النجاسة. وانظر العناية شرح الهداية (1/ 216)، شرح فتح القدير (1/ 216)، الجوهرة النيرة (1/ 40)، والفتاوى الهندية (1/ 50)، مراقي الفلاح (ص: 19)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 29،30)، البحر الرائق (1/ 255)، حاشية ابن عابدين (1/ 339). (¬1) انظر فتح البر في ترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 92). كما أجاز الاستجمار بالروث أشهب من المالكية وأبو الحسن القاضي، انظر المنتقى للباجي (1/ 68). (¬2) قال ابن تيمية كما في الفروع (1/ 123): وانفرد شيخنا بجزائه بروث وعظم، وظاهر كلامه وبما نهي عنه، قال: لأنه لم ينه عنه لأنه لا ينقي، بل لإفساده، فإذا قيل: يزول بطعامنا مع التحريم، فهذا أولى. (¬3) صحيح البخاري (156).

الدليل الثاني

الأول: الركس بمعنى: الرجيع. والثاني: الركس بمعنى: النجس. فعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه بأنه رجس. وقد قال بعضهم: ليس في الحديث دليل على اشتراط الطهارة، وإنما فيه ترك الاستنجاء بالروث، ولا يلزم من ذلك النجاسة، كما لم يلزم من تركه الاستنجاء بالعظم والمحترمات. فأجاب النووي بقوله: إن الاعتماد في الاستدلال على قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها ركس" وليس على مجرد تركه الاستنجاء بها، قال: ولا يجوز أن يحمل على أنه مجرد إخبار بأنها رجيع، فإن ذلك إخبار بالمعلوم، فيؤدي الحمل عليه إلى خلو الكلام عن فائدة، فوجب حمل الكلام على ما ذكرناه من تفسير الركس بمعنى: النجس (¬1). الدليل الثاني: (360 - 204) ما رواه الدارقطني، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، نا سلمة بن رجاء، عن الحسن بن فرات القزاز، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجى بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يطهران (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) المجموع (2/ 570). (¬2) سنن الدراقطني (1/ 56). (¬3) وسبق تخريجه في مسألة: حكم الأثر المتبقي بعد الاستجمار.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: من جهة النظر، قالوا: إن النجس: نجس في نفسه، فلا يمكن أن يطهر غيره. الدليل الرابع: قالوا: إن الاستجمار رخصة عندهم؛ لأن الأصل في إزالة النجاسة هو الماء، والرخصة لا تحصل بحرام، يعني: بملابسة النجاسة. والصحيح أن الاستجمار على وفق القياس، وليس هو رخصة، لأن إزالة النجاسة إذا أزيلت بأي مزيل زال حكمها، ولا يختص هذا في محل الاستجمار، كما قدمنا في دلك النعل بالتراب (¬1)، وفي تطهير ذيل المرأة (¬2)، ونحوهما. دليل من قال: يجزئ الاستجمار بكل مزيل ولو كان نجساً. قالوا: إن النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها، وحديث ابن مسعود غايته عدم الاستنجاء بالنجس، لكن إذا استنجى فقد طهر مع الإثم، لكن لا يمكننا الحكم بنجاسة المحل، وقد ارتفعت النجاسة، فالنهي والصحة غير متلازمين، فقد تجتمع الصحة والتحريم. وهذا القول فيه قوة، ولا يقال هذا القول ابتداء، لكن لو استنجى أحد بما نهي عن الاستنجاء به، وجاء يسأل هل يجزؤه ذلك؟ قلنا: يجزؤك، ولا تعد. ¬

(¬1) سبق تخريجه من حديث أبي سعيد، والحديث صحيح. (¬2) سبق تخريجه من حديث أمرأة من بني عبد الأشهل، ومن حديث أم سلمة، والحديث صحيح، انظر ح 396.

الشرط الثالث أن يكون المستنجى به غير عظم وروث

الشرط الثالث أن يكون المستنجى به غير عظم وروث لا يستنجي بعظم، ولا روث، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وابن حزم من الظاهرية (¬3). وقيل: يستنجي بهما، وهو اختيار أشهب من المالكية (¬4). وقيل: لا يستنجي بهما، وإن خالف واستنجى أجزأه، وهو مذهب الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، وابن تيمية من الحنابلة (¬7). ¬

(¬1) المهذب (1/ 28)، حلية العلماء (1/ 65)، الإقناع للشربيني (1/ 54)، إعانة الطالبين (1/ 108)، التنبيه (ص: 18). (¬2) الفروع (1/ 92)، كشاف القناع (1/ 69)، المبدع (1/ 92)، المحرر (1/ 10). (¬3) المحلى (1/ 110). (¬4) قال أشهب كما في المنتقى للباجي (1/ 68): ما سمعت في العظم والروث نهياً عاماً، وأما أنا في علمي فما أرى به بأسا. اهـ فواضح أن النهي عن الاستنجاء بالعظم والروثة لم يبلغه. (¬5) ذكرنا العزو إلى كتبهم في المسألة المتقدمة في اشتراط طهارة ما يستنجى به، فانظره إن شئت. (¬6) قال في الخرشي (1/ 151) فإن أنقت -يعني: الاستجمار بروث وعظم أجزأت. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/ 289)، الشرح الكبير (1/ 114)، المنتقى للباجي (1/ 68)، مواهب الجليل (1/ 290)، حاشية الدسوقي (1/ 114)، حاشية الصاوي (1/ 102)، القوانين الفقهية (ص:42)، منح الجليل (1/ 106) .. (¬7) الفروع (1/ 123)، المبدع (1/ 92)، دليل الطالب (ص: 6)، (1/ 10)، منار السبيل (1/ 23)، الكافي (1/ 53)، كشاف القناع (1/ 69).

دليل من قال: لا يستنجي بعظم وروث.

دليل من قال: لا يستنجي بعظم وروث. الدليل الأول: (361 - 205) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). الدليل الثاني: (362 - 206) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (156). (¬2) مسلم (262).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (363 - 207) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل/ حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً (¬1). الدليل الرابع: (364 - 208) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا زكرياء بن إسحق، حدثنا أبو الزبير، أنه سمع جابراً يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتمسح بعظم أو ببعر (¬2). الدليل الخامس: (365 - 209) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، ¬

(¬1) صحيح البخاري (3860). (¬2) صحيح مسلم (263).

الدليل السادس

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). قال الطحاوي: الرمة: العظام. الدليل السادس: (366 - 210) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن غيلان، قال: حدثنا المفضل، قال: حدثني عياش بن عباس، أن شييم بن بيتان أخبره، أنه سمع شيبان القتباني يقول: استخلف مسلمة بن مخلد رويفع بن ثابت الأنصاري على أسفل الأرض، قال: فسرنا معه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رويفع لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أنه من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو بعظم فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - بريء منه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المسند (2/ 250). (¬2) سبق تخريجه في حكم الاستنجاء. (¬3) المسند (4/ 109). (¬4) في إسناده شيبان القتباني، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (4/ 355). وفي التقريب: مجهول. وفي إسناده اختلاف على عياش بن عباس، كالتالي: الحديث رواه أبو داود (36) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 101)، وابن أبي =

الدليل السابع

الدليل السابع: (367 - 211) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني

عبد الكريم بن أبي المخارق، أن الوليد بن مالك بن عبد القيس أخبره، أن محمد بن قيس مولى سهل بن حنيف أخبره، أن سهل بن حنيف أخبره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: أنت رسولي إلى أهل مكة. قل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني يقرأ السلام عليكم، ويأمركم بثلاث لا تحلفوا بغير الله، وإذا تخليتم فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولا تستنجوا بعظم ولا ببعرة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). والعلة في النهي: إما أن يكون الروث والعظم طاهرين، أو نجسين: ¬

(¬1) مصنف عبد الرزاق (15920). (¬2) في إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف جداً. كما أن في إسناده الوليد بن مالك ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/ 17). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 552). وقال ابن حجر: مجهول غير مشهور. تعجيل المنفعة (1155). ومحمد بن قيس، قال علي بن المديني: لا يعرف. لسان الميزان (5/ 349). وقال الحافظ في تعجيل المنفعة (969): ليس بمشهور. [تخريج الحديث] الحديث رواه أحمد (3/ 487) عن عبد الرزاق به. وأخرجه الدارمي (664) والحاكم (3/ 412) من طريق أبي عاصم. وأخرجه الحارث في مسنده كما في بغية الباحث (66) من طريق جرير، كلاهما عن عبد الكريم بن أبي المخارق به. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 205)، (4/ 177): رواه أحمد، وفيه عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف. اهـ وقال ابن حجر في التلخيص: رواه أحمد، وإسناده واهـ.

(368 - 212) فإن كانا طاهرين، فالعلة فيهما ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم (¬1). فإن كان العظم والروث طاهرين، فعلة النهي أنهما طعام إخواننا من الجن وطعام دوابهم. (369 - 213) وإن كان العظم والروث نجسين، فالعلة ماروه البخاي ما ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ¬

(¬1) مسلم (450).

دليل من قال: يجوز الاستنجاء بالعظم والروث.

ركس (¬1). وسقنا إسناده في أول دليل في مسألتنا هذه. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: هذا ركس: أي نجس كما بيناه من قبل، ولا ينبغي أن يفسر الركس بمعنى الرجيع،، فإن ذلك إخبار بالمعلوم، فيؤدي الحمل عليه إلى خلو الكلام من فائدة، والله أعلم. دليل من قال: يجوز الاستنجاء بالعظم والروث. لا أعلم له دليلاً، وقد صرح أشهب بأنه لا يعلم فيه نهياً، وهذا دليل على أنه لم يبلغه النهي، ولو بلغه لقال به، لأن النهي ثابت في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وابن مسعود وغيرهما كما سقناه في أدلة القول الأول. دليل من قال: لا يستنجي، وإذا استنجى أجزأ. قالوا: إن كان العظم والروث طعام إخواننا من الجن، فإن هذا لا يمنع من صحة الاستنجاء، كما لو استنجى بثوب غيره، فكون اعتدى على ثوب غيره لم يمنع من الاستنجاء به، وإن كان العظم والروث نجسين فإن هذا أيضاً لا يمنع من صحة الاستنجاء، لإن العظم نجاسته لا تتعدى كما لو كان خالياً من الرطوبة، وكذلك البعر الناشف لا تتعدى نجاسته إلى البدن، فهو يزيل النجاسة، ولا ينجس غيره، وبالتالي فإن النهي عن الاستنجاء منهما منفك عن كونهما ينظفان المحل، وكيف نحكم على المحل بالنجاسة وقد زالت عينها. ¬

(¬1) صحيح البخاري (156).

فرع النهي عن العظام والروث للكراهة أو للتحريم اختلف الفقهاء هل النهي عن الاستجمار بالروث والعظام هل هو للكراهة أم للتحريم؟ فقيل: يكره، اختاره بعض الحنفية (¬1). وقيل: يكره في العظم والروث الطاهرين، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: يحرم، اختاره بعض الحنفية (¬3)، واختاره أيضاً بعض المالكية (¬4)، وهو مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬

(¬1) كتب الحنفية نصت على كراهة الاستنجاء بعظم أو روث كما في بدائع الصنائع (1/ 18)، وتبيين الحقائق (1/ 78)، والجوهرة النيرة (1/ 40)، والبحر الرائق (1/ 255) وأكثر كتبهم لم تفسر الكراهة هل هي للتحريم أو للتنزيه، إلا أن ابن عابدين قال في حاشيته (1/ 339): أما العظم والروث فالنهي ورد فيهما صريحاً في صحيح مسلم لما سأله الجن الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم، وعلل في الهداية للروث بالنجاسة، وإليه يشير قوله في حديث آخر: " إنها ركس " لكن الظاهر أن هذا لا يفيد التحريم. اهـ (¬2) مواهب الجليل (1/ 288)، الشرح الكبير (1/ 114). (¬3) مراقي الفلاح (ص: 21). (¬4) الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 17). (¬5) المهذب (1/ 28)، حلية العلماء (1/ 65)، الإقناع للشربيني (1/ 54)، إعانة الطالبين (1/ 108)، التنبيه (ص: 18). (¬6) الفروع (1/ 92)، كشاف القناع (1/ 69)، المبدع (1/ 92)، المحرر (1/ 10).

دليل من قال: يكره.

دليل من قال: يكره. قالوا: إن الأصل في النهي التحريم، لكن مقتضى التعليل بأنه زاد إخواننا من الجن جعلنا نحمل النهي على أنه مكروه، وليس بمحرم. دليل من قال: يحرم. قالوا: الأصل في النهي التحريم، ولا توجد قرينة صارفة للنهي عن هذا الأصل. بل قالوا: إن مقتضى التعليل يقتضي التحريم؛ لأن العظم والروث لما كان طعام إخواننا من الجن، كان في الاستنجاء به، تعد وإفساد له، أما التعدي فظاهر، فلأن كل عظم وروث جعل من طعامهم وطعام دوابهم، فكانوا أحق به. وأما الإفساد، فلأن هذا الطعام إذا استنجي به أدى إلى إفساده عليهم، وما جمع بين التعدي والإفساد كيف لا يكون حراماً. دليل من قال: يكره إن كان العظم والروث طاهرين ويحرم إن كانا نجسين. لعلهم سبب التفريق عندهم إن العظم والروث إن كانا طاهرين كان في الاستنجاء به ملابسة النجاسة، وهي مكروهة عندهم، بخلاف ما إذا كانا طاهرين. ولو عكسوا لم يبعدوا، لأن العظم والروث إن كانا نجسين فاستعمال النجاسة على وجه لا يتعدى لا يمنع منه، كما انتفع من شحم الميتة، فإنه يطلى به السفن ويدهن به الجلود ويستصبح به الناس كما في حديث جابر

المتفق عليه. (370 - 214) فقد روى البخاري، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح، وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه، ورواه مسلم (¬1). وأما إذا كان العظم والروث طاهرين فإن فيه كما بينا سابقاً تعدياً وإفساداً فينبغي أن يكون حراماً، لو قيل هذا لم يبعد. الراجح أن النهي للتحريم، لأنه الأصل في نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا خالف، واستنجى به، فهل يجزؤه أم لا؟ أما القائلون بالكراهة فظاهر، وأما القائلون بالتحريم فهل يصح أم لا فيه خلاف بيناه في مسألة مستقلة في اشتراط أن يكون المستنجى به طاهراً، وفي ما سبق من الفصول، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (2236)، ومسلم (1581).

الشرط الرابع في اشتراط أن يكون المستجمر به من الأحجار

الشرط الرابع في اشتراط أن يكون المستجمر به من الأحجار اختلف الفقهاء هل يشترط أن يكون الاستجمار من الأحجار، أو يجوز أن يكون من الخشب والورق ونحوهما؟ فقيل: يجوز الاستجمار بكل طاهر منق من حجر أو ورق أو خشب ونحوها، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يجوز إلا الماء أو الأحجار ونحوها مما هو من جنس الأرض، ولا يجوز بالورق والخشب وغيرها من غير جنس الأحجار، وهو اختيار أصبغ من المالكية (¬5)، وابن حزم من الظاهرية (¬6). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 253)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 48)، الفتاوى النهدية (1/ 48)، حاشية ابن عابدين (1/ 337)، الجوهرة النيرة (1/ 40)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 29). (¬2) المنتقى (1/ 67، 68)، حاشية الدسوقي (1/ 113)، مواهب الجليل (1/ 286)، التاج والإكليل (1/ 286)، حاشية الصاوي (1/ 100، 101)، مختصر خليل (ص: 15). (¬3) الأم (1/ 22)، المهذب (1/ 28)، حلية العلماء (1/ 164)، الإقناع للشربيني (1/ 54)، أسنى المطالب (1/ 50)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 48)، المجموع (2/ 130). (¬4) المبدع (1/ 91)، الفروع (1/ 92)، المحرر (1/ 10)، الكافي في فقه أحمد (1/ 53)، المغني (1/ 103)، كشاف القناع (68)، الإنصاف (1/ 109)، مطالب أولي النهى (1/ 76). (¬5) مواهب الجليل (1/ 286). (¬6) المحلى (1/ 108).

دليل الجمهور على جواز الورق والخشب.

دليل الجمهور على جواز الورق والخشب. الدليل الأول: (371 - 215) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل/ حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت. الحديث (¬1). فقوله: " ولا تأتني بعظم ولا روثة " لما خص النهي بالعظم والروثة دل على جواز غيرهما، ولو لم يكن حجراً كالورق والخشب. الدليل الثاني: (372 - 216) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (3860). (¬2) صحيح البخاري (156).

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل منع الاستنجاء بها بكونها ركساً، ولم يعلل بكونها غير حجر. وهذا يعني جواز الاستنجاء بكل طاهر منق لم يكن رجساً. الدليل الثالث: (373 - 217) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكري ببغداد، نا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا عباس بن عبد الله الترقفي، نا يحيى بن يعلى، نا أبي، عن غيلان، عن أبي إسحاق، عن مولى عمر يسار بن نمير، قال كان عمر رضي الله عنه إذا بال قال: ناولني شيئا أستنجي به، قال: فأناوله العود والحجر، أو يأتي حائطاً يتمسح به، أو يمس الأرض ولم يكن يغسله. قال البيهقي: وهذا أصح ما روي في هذا الباب وأعلاه (¬1). [رجاله ثقات إلا أن غيلان بن جامع لم أقف هل سمع من أبي إسحاق قبل أو بعد تغيره] (¬2). الدليل الرابع: (374 - 218) ما رواه الدارقطني من طريق مبشر بن عبيد، حدثني الحجاج بن أرطاة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثم مر سراقة بن مالك المدلجي على ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 111). (¬2) غيلان بن جامع من رجال مسلم، ومع ذلك لم يخرج مسلم حديث أبي إسحاق من رواية غيلان، ولا أحد من الكتب الستة إلا النسائي فقد أخرج له حديثاً واحداً قد توبع عليه (5077) بلفظ: " أفضل ما غيرتم به الشمط الحناء والكتم ".

الدليل الخامس

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن التغوط، فأمره أن يتنكب القبلة ولا يستقبلها ولا يستدبرها، ولا يستقبل الريح، وأن يستنجي بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب. قال الدارقطني: لم يروه إلا مبشر بن عبيد، وهو متروك الحديث (¬1). الدليل الخامس: (375 - 219) ما رواه الدارقطني، قال: نا عبد الباقي بن قانع، نا أحمد بن الحسن المضري، نا أبو عاصم، نا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أعواد، أو ثلاثة أحجار، أو بثلاث حثيات من التراب. قال زمعة: فحدثت به ابن طاوس، فقال: أخبرني أبي عن ابن عباس بهذا سواء (¬2). [ضعيف جداً أو موضوع] (¬3). ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 56). (¬2) سنن الدارقطني (1/ 57). (¬3) قال الدارقطني: لم يسنده غير المضري، وهو كذاب متروك، وغيره يرويه عن أبي عاصم، عن زمعة، عن سلمة بن وهرام، عن طاوس مرسلاً، ليس فيه عن ابن عباس، وكذلك رواه عبد الرزاق وابن وهب ووكيع وغيرهم عن زمعة. ورواه ابن عيينة عن سلمة بن وهرام عن طاوس قوله، وقد سألت سلمة (السائل ابن عيينة) عن قول زمعة: أنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعرفه. على هذا فالمرفوع ضعيف جداً أو موضوع، والمرسل ضعيف؛ لأن فيه زمعة بن صالح، وهو ضعيف، والمعروف أنه من قول طاوس موقوفاً عليه. =

الدليل السادس

الدليل السادس: من النظر، قالوا: إن النجاسة عين خبيثة، متى زالت بأي مزيل زال حكمها، وليس التعبد بالمزيل، ولكن التعبد بالإزالة، فالحجر وما كان مثله أو أنقى منه يحصل به المقصود، وهو طهارة المحل، والله أعلم. دليل ابن حزم على وجوب الاقتصار على الماء أو الحجارة. يرى ابن حزم أن الاستنجاء يقتصر على ما رود فيه النص، وقد جاء الاستنجاء بالماء في أحاديث كثيرة سوف نسوق ما وقفنا عليه منها في باب الاستنجاء بالماء، وجاء الاستنجاء بالحجارة، وقد ذكرنا ما وقفت عليه منها في باب الاستجمار بالحجارة، ولم يرد النص في الاستنجاء إلا بالماء أو الحجارة، فطلب الاستنجاء بغيرهما لم يدل عليه الدليل، فلا يجوز الاستنجاء به، ولا يرى ابن حزم القياس حتى يقيس على الحجارة غيرها مما يزيل النجاسة، أو ربما يكون أنقى منها في الإزالة. ¬

_ = وهو كذلك في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 142) قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن طاووس، قال: الاستنجاء بثلاثة أحجار، قال: قلت: فإن لم أجد ثلاثة أحجار؟ قال: فثلاثة أعواد، قلت: فإن لم أجد ثلاثة أعواد؟ قال: فثلاث حفنات من تراب. وسنده صحيح إلى طاووس. ورواه البيهقي (1/ 111) من طريق هشيم به. وقال: هذا هو الصحيح عن طاووس من قوله، وكذلك رواه سفيان بن عيينة، عن سلمة بن وهرام، عن طاووس. ورواه زمعة بن صالح، عن سلمة، فرفعه مرسلاً، ثم ساقه البيهقي بإسناده (1/ 111) من طريق عبد الرزاق، عن زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، قال: سمعت طاووساً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. قال البيهقي: هكذا رواه ابن وهب ووكيع وغيرهم عن زمعة. حتى قال: ولا يصح وصله ولا رفعه.

ويقال لابن حزم: كيف جوزت الاستجمار بالرمل والتراب مع أنه لم يأت به نص، فإن كان الدليل هو الاستجمار بالحجارة، فهذا باب من القياس، وأنت لا ترى القياس، وإن كان اتباعاً للدليل فلا أعلم نصاً في السنة في الاستجمار بالرمل والتراب. واستدل بعضهم من وجه آخر، فقال: إن الاستجمار رخصة، فيقتصر بها على ما ورد (¬1). وقال ابن المنذر: لا نحفظ عن رسول الله شيئاً من الأخبار أنه أمر بالاستنجاء بغير الحجارة، ومن استنجى بالحجارة كما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أتى بما عليه، وإن استنجى بغير الحجارة، فالذي نحفظ عن جماعة من أهل العلم أنه قالوا: ذلك جائز، والاستنجاء بالحجارة أحوط (¬2). ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 286). (¬2) الأوسط (1/ 353).

الشرط الخامس أن يكون الحجر ونحوه منقيا

الشرط الخامس أن يكون الحجر ونحوه منقياً اشترط الفقهاء أن يكون الحجر أو ما يقوم مقامه منقياً (¬1). لأن المقصود من الاستجمار هو الإنقاء، فالذي لا ينقي لا حاجة إلى الاستجمار به. وعليه فقيل: يكره الاستجمار بزجاج، وهو مذهب الحنفية (¬2). وقيل: لا يجوز الاستجمار بالزجاج، وهو مذهب الجمهور (¬3). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 252) نور الإيضاح (ص: 14)، الدر المختار (1/ 337) وقال ابن عابدين في حاشيته (1/ 337): " لم يرد به حقيقة الإنقاء، بل تقليل النجاسة" قلت: الذي يقلل النجاسة يحصل به الإنقاء تدريجياً. وانظر في مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/ 286)، التاج والإكليل (1/ 286)، الشرح الكبير (1/ 113)، مختصر خليل (ص: 15). وقال النووي من الشافعية في المجموع (2/ 134) اتفق الأصحاب على أن شرط المستنجى به أن يكون قالعاً لعين النجاسة. اهـ وانظر في مذهب الحنابلة المبدع (1/ 93)، الفروع (1/ 92)، المحرر (1/ 10). وقال في كشاف القناع (1/ 69): والإنقاء بأحجار ونحوها: إزالة العين الخارجة من السبيلين حتى لا يبقى أثر لا يزيله إلا الماء. الخ وقد بينا في مسألة مستقلة صفة الإنقاء بالحجر، فارجع إليه إن شئت، غير مأمور. اهـ (¬2) تبيين الحقائق (1/ 78)، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (1/ 340). (¬3) انظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/ 113)، الخرشي (1/ 150)، التاج والإكليل (1/ 286)، مواهب الجليل (1/ 286)، مختصر خليل (ص: 15). وفي مذهب الشافعية: انظر روضة الطالبين (1/ 68). وقال النووي في المجموع (2/ 134): واتفقوا - يعني أصحابهم- على أن الزجاج والقصب الأملس وشبهها لا يجزئ.

علة النهي عن الاستنجاء بالزجاج.

علة النهي عن الاستنجاء بالزجاج. علل الفقهاء النهي عن الاستنجاء بالزجاج بأمرين: الأول: أنه لا ينقي، والمقصود من الاستجمار هو الإنقاء، فإذا كان الزجاج لا ينقي المحل كان الاستنجاء به عبثاً. الثاني: أن الزجاج قد يضر بالمقعدة. والذي يظهر من التعليل أنه لا يوجد نص في النهي عن الاستنجاء بالزجاج أو بالحجر الأملس، وإذا استنجى به فإن تم المقصود، وأزل عين النجاسة فقد طهر المحل، وإن لم ينق فإنه يكون مطالباً بالاستنجاء حتى يطهر المحل، والله أعلم. ¬

_ وانظر في مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 69)، المغني (1/ 104)، المبدع (1/ 93)، شرح العمدة (1/ 159).

فرع إذا استنجى بالزجاج، فهل يجزئه الاستجمار أو يتعين الماء

فرع إذا استنجى بالزجاج، فهل يجزئه الاستجمار أو يتعين الماء اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: إن كان حين استنجى بالزجاج بسط النجاسة بحيث تعدت محلها، فإن الماء يتعين في هذه الحالة، وإلا فتكفيه الحجارة، وهذا مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وفي مذهب الحنابلة ثلاثة أقوال فيما إذا استجمر بمنهي عنه، ثم استجمر بمباح: فقيل: لا يجزئ مطلقاً، ويتعين الماء. وقيل: يجزئ مطلقاً الاستجمار بالحجارة. وقيل: إن أزال شيئاً أجزأ، وإلا تعين الماء (¬3). وأما من يرى أن الاستجمار مجزئ، ولو تعدت النجاسة مخرجها المعتاد، فإنه ليس بحاجة إلى هذا التفصيل، وهو الراجح، وسوف يأتي الكلام في مسألة مستقلة: خلاف الفقهاء فيما إذا تجاوزت النجاسة مخرجها المعتاد، في بحث: متى يتعين الماء، فانظره إن شئت. ¬

(¬1) الخرشي (1/ 150). (¬2) المجموع (2/ 134). (¬3) انظر تصحيح الفروع (1/ 123).

الشرط السادس هل يشترط أن يكون جامدا

الشرط السادس هل يشترط أن يكون جامداً اختلف الفقهاء فيما يستجمر به هل يشترط أن يكون جامداً، أو يجزئ الاستنجاء بكل رطب أو مائع غير الماء؟ فقيل: يجزئ كل مائع طاهر مزيل للنجاسة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يجزئ إلا ما كان جامداً، أما الرطب والمائع من غير الماء فلا يجزئ الاستنجاء به، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يجزئ كل مزيل، سواء كان مائعاً أو جامداً أو رطباً، وهو اختيار ابن تيمية (¬5). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 254)، حاشية ابن عابدين (1/ 337)، الهداية شرح البداية (1/ 34). (¬2) منح الجليل (1/ 106)، حاشية الدسوقي (1/ 113)، التاج والإكليل (1/ 286)، مواهب الجليل (1/ 287)، القوانين الفقهية (ص: 29). (¬3) قال في المهذب (1/ 28): أما غير الماء من المائعات فلا يجوز الاستنجاء به؛ لأنه ينجس بملاقاة النجاسة فيزيد في النجاسة. اهـ وانظر المجموع (2/ 132)، تحفة المحتاج (1/ 176)، دقائق المنهاج (ص: 33)، المنهج القويم (ص: 81). وقال في حلية العلماء (1/ 146): ويجوز الاستنجاء بالحجر وما يقوم مقامه: وهو كل جامد طاهر منقي. الخ فنص على اشتراط الجامد. (¬4) كشاف القناع (1/ 69)، الإنصاف (1/ 111)، المبدع (1/ 92)، المحرر (1/ 10)، الكافي في فقه أحمد (1/ 53). (¬5) قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 475): الراجح في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها؛ فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة؛ لما في ذلك من فساد الأموال كما لا =

دليل الحنفية على إزالة الاستجمار بكل مائع ورطب.

دليل الحنفية على إزالة الاستجمار بكل مائع ورطب. قالوا: إن كل مائع مزيل فإنه يطهر النجاسة، قياساً على إزالة النجاسة بالماء بناء على أن الطهارة بالماء معلولة بعلة كونه قالعاً لتلك النجاسة، والمائع قالع فهو محصل ذلك المقصود فتحصل به الطهارة. وقيدوا المائع بكونه مزيلاً ليخرج الدهن والسمن واللبن وما أشبه ذلك؛ لأن الإزالة إنما تكون بأن يخرج أجزاء النجاسة مع المزيل شيئا فشيئاً، وذلك إنما يتحقق فيما ينعصر بالعصر بخلاف الخل وماء الباقلاء الذي لم يثخن فإنه مزيل، وكذا الريق، وعلى هذا فرعوا طهارة الثدي إذا قاء عليه الولد ثم رضعه حتى أزال أثر القيء (¬1)، وكذا إذا لحس أصبعه من نجاسة بها حتى ذهب الأثر، أو شرب خمراً ثم تردد ريقه في فيه مراراً طهر (¬2) حتى لو صلى صحت صلاته (¬3). دليل الجمهور على اشتراط الماء أو الجامد. قالوا: جاءت أحاديث كثيرة في الاستنجاء بالماء (¬4)، كما جاءت أحاديث كثيرة بجواز الاستجمار بالحجارة (¬5)، قالوا: والأصل في النجاسات ¬

= يجوز الاستنجاء بها. اهـ (¬1) هذا بناء على القول بنجاسة القيء، والصحيح طهارته، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى في أحكام النجاسات بلغنا الله إياه بلطفه ورحمته. (¬2) وهذا بناء على أن الخمر نجسة، والصحيح أن نجاستها معنوية، وأن عينها طاهرة. (¬3) البحر الرائق (1/ 233) مع تصرف يسير. (¬4) ذكرت ما وقفت عليه منها في باب الاستنجاء بالماء. (¬5) ذكرت ما وقفت عليه منها في باب الاستجمار بالحجارة.

الدليل على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء

كلها أنها لا تزال إلا بالماء، جاء الاستجمار بالأحجار على خلاف الأصل فقبلناه في محله، ولا نتعداه لغيره، فلا نزيل النجاسة بالأحجار إذا كانت النجاسة على غير المخرج، ولا نزيلها بمائع غير الماء لعدم الدليل، بل إن المائع غير الماء قد ينشر النجاسة أكثر؛ لأنه سوف يتنجس المائع بمجرد الملاقاة، فيكون ما يصيب البدن منه يكون نجساً، والنجس لا يطهر. والدليل على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء أدلة كثيرة منها: قوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي: ذكر الله سبحانه امتناناً، فلو حصل -يعني التطهير- بغيره لم يحصل الامتنان (¬2). الدليل الثاني: (376 - 220) ما رواه البخاري، قال: حدثنا خالد بن مخلد، قال: وحدثنا سليمان، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت أنس بن مالك: قال جاء أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء، فأهريق عليه. ورواه مسلم (¬3). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أراد تطهير المسجد من بول الأعرابي أمر بالماء لقوله ¬

(¬1) الإنفال: 11. (¬2) المجموع (1/ 143). (¬3) صحيح البخاري (219)، ومسلم (284).

في الحديث: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء " فهذا الأمر دال على اختصاص الماء بالتطهير. الدليل الثالث: (377 - 221) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء قالت: جاءت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه وتصلي فيه، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد في تطهير الثوب من دم الحيض إلى الماء، ولم يرشد إلى غيره، فتعين الماء لإزالة النجاسة من دم الحيض، لكونه منصوصاً عليه، وباقي النجاسات مقيسة عليه. وأجيب عن هذه الأدلة: بأن هذه الأدلة تدل على أن الماء يزيل النجاسة، وهذا لا إشكال فيه، وهو محل إجماع، لكن ليس فيها دلالة على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء .. وفرق بين المسألتين. الدليل الرابع: قالوا: إذا كانت طهارة الحدث لا تكون إلا بالماء مع وجوده، فكذلك إزالة النجاسة لا تكون إلا بالماء. ¬

(¬1) صحيح البخاري (227)، مسلم (291).

دليل من قال: تزال النجاسة بأي مزيل

وأجيب: بأن القياس على طهارة الحدث قياس مع الفارق. أولا: طهارة الحدث من باب فعل المأمور، وأما طهارة الخبث فمن باب ترك المحضور. ثانياً: طهارة الحدث تشترط لها النية على الصحيح خلافاً للحنفية، بخلاف طهارة الخبث فهي من باب التروك لا تشترط لها النية كترك الزنا والخمر ونحوها. ثالثاً: طهارة الحدث طهارة تعبدية محضة غير معقولة المعنى، فبدن المحدث وعرقه وريقه طاهر، وأما طهارة الخبث فإنها طهارة معللة بوجود النجاسة الحسية. رابعاً: طهارة الحدث الصغرى تختص بأعضاء مخصوصة، ربما ليس لها علاقة بالحدث، فالحدث: الذي هو البول والغائط موجب لغسل الأعضاء الأربعة الطاهرة، بينما طهارة الخبث تتعلق بعين النجاسة أين ما وجدت. خامساً: طهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان على الصحيح بخلاف طهارة الخبث. دليل من قال: تزال النجاسة بأي مزيل. الدليل الأول: الاستجمار ليس رخصة على خلاف القياس، بل إذا صح الاستجمار بالحجارة صح إزالة النجاسة بأي مزيل، فلما سقط تعين الماء في الاستجمار سقط تعين الماء في غير الاستجمار. الدليل الثاني: صح تطهير النعلين بالتراب، وهو غير الماء، وليس في محل الاستجمار،

(378 - 222) فقد روى أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). وصح تطهير ذيل المرأة بغير الماء، وفي غير محل الاستجمار أيضاً (379 - 223) روى أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير -يعنى ابن معاوية- ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال: وكان رجل صدق، عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى. قال: فهذه بهذه (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). فسقط دعوى أن إزالة النجاسة في الاستجمار بالحجارة على خلاف ¬

(¬1) المسند (3/ 20، 92). (¬2) انظر تخريجه في مسألة: الاستنجاء من المذي. (¬3) المسند (6/ 435). (¬4) انظر تخريجه في مسألة الاستنجاء من المذي.

القياس، وأنه لا يتعدى فيها محلها، بل تزال النجاسة بأي مزيل كان. الدليل الرابع: من النظر، قالوا: إن النجاسة عين خبيثة لها طعم أو لون أو رائحة، والمطلوب ازالة كل ذلك فإذا ذهب طعمها ولونها ورائحتها بأي مزيل زال حكمها وأصبح المحل طاهراً. وهذا هو القول الراجح، والله أعلم.

الشرط السابع ألا يكون المستجمر به حممة

الشرط السابع ألا يكون المستجمر به حُمَمَة وقع خلاف بين الفقهاء في حكم الاستنجاء بالحمم، ومثله الرماد (¬1). فقيل: يكره الاستنجاء به، وهو مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3). وقيل: لا يجزئ مطلقاً، اختاره العراقيون من الشافعية (¬4). وقيل: إن كان صلباً لا يتفتت أجزأ الاستنجاء به، وإن كان رخواً يتفتت لم يجزئ، اختاره الخرسانيون من الشافعية (¬5). ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (2/ 135): الحممة: بضم الحماء، وفتح الميمين مخففتين: وهي الفحم، وكذا قاله أصحابنا في كتب الفقه، وكذا قاله أهل اللغة وغريب الحديث. وقال الخطابي: الحمم الفحم، وما أحرق من الخشب والعظام ونحوها. وقال البغوي: المراد به: الفحم الرخو الذي يتناثر إذا غمز، فلا يقلع النجاسة. اهـ (¬2) نور الإيضاح (ص: 16)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 33)، مراقي الفلاح (ص: 20)، حاشية ابن عابدين (1/ 341). (¬3) قال ابن عبد البر في الكافي (ص: 17): ويكره الاستنجاء بالحممة. وانظر مواهب الجليل (1/ 288). (¬4) قال النووي في المجموع (2/ 134): وأما الفحم فقطع العراقيون بأنه لا يجزئ. وانظر المهذب (1/ 28). (¬5) قال النووي في المجموع (2/ 134): وقال الخرسانيون: اختلف نص الشافعي فيه -أي في الاستنجاء بالفحم- قالوا: وفيه طريقان: الصحيح منهما أنه على حالتين: فإن كان صلباً لا يتفتت أجزأ الاستنجاء به، وإن كان رخواً يتفتت لم يجزئ. وقيل: فيه قولان مطلقاً. اهـ وانظر روضة الطالبين (1/ 68)، مغني المحتاج (1/ 43).

دليل من قال: بالكراهة أو المنع

وقيل: يجزئ الاستنجاء بالحممة، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). دليل من قال: بالكراهة أو المنع. (380 - 224) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا حيوة بن شريح الحمصي، ثنا ابن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الله بن مسعود، قال: قدم وفد الجن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد إنه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة؛ فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقاً. قال: فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬2). [حديث ابن مسعود في مسلم وليس فيه إلا العظم والروثة] (¬3). ¬

(¬1) قال في مواهب الجليل (1/ 288): "لم يذكر المصنف حممة، وتقدم ذكرها في كلام ابن الحاجب. وقال في التوضيح: الحمم: الفحم، ثم قال: وأما الحممة فقال المصنف: الأصح فيها عدم الجواز. وقال التلمساني: إن ظاهر المذهب الجواز، والنقل يؤيده، قال أشهب في العتبية: سئل مالك عن الاستنجاء بالعظم والحممة؟ قال: ما سمعت فيها نهياً، ولا أرى بها بأساً في علمي. انتهى، ثم قال في التوضيح: قيل: وإنما منعت الحممة؛ لأنها تسود المحل، ولا تزيل النجاسة انتهى. قلت (القائل الحطاب): ما ذكره عن التلمساني هو في شرح الجلاب له، وأصله لصاحب الطراز، ونصه: " أما الفحم فظاهر المذهب جوازه، وقد تردد فيه قول مالك. قال ابن حبيب: استخف مالك ما سوى الروث والعظم، وقد كرهه جماعة لما فيه من التسخيم انتهى. وقال في الإكمال: المشهور عن مالك النهي عن الاستنجاء بالحممة. قال في كتاب الطهارة: فقد رجح كل واحد من القولين، فينبغي أن يكون في ذلك خلاف، وقد جزم في الشامل بالجواز، والله تعالى أعلم. انتهى نقلاً من مواهب الجليل. (¬2) سنن أبي داود (39). (¬3) في إسناده إسماعيل بن عياش، وهو وإن كانت روايته عن أهل بلده لا بأس بها، إلا أن حديث ابن مسعود في صحيح مسلم ولم يذكر الحممة، مما يدل على أن ذكرها ليس محفوظاً، وجاء ذكر النهي عن طعام الجن وطعام دوابهم في حديث أبي هريرة، فلم يذكر إلا =

. . . . . . . . . . . . . ¬

_ = العظم والروثة، فأخشى أن يكون ذكر الحممة ليس محفوظاً. وقد توبع فيه إسماعيل بن عياش، تابعه فيه بقية بن الوليد، إلا أنه مدلس، وقد عنعن، فقد أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2/ 37) رقم 872 من طريق بقية، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني به. فخرج إسماعيل بن عياش من عهدته. ومع ذلك يبقى الخوف من الشذوذ وارداً. قال الدراقطني في سننه (1/ 56): إسناد شامي ليس بثابت. والذي يظهر أنه لحظ فيه الشذوذ، وإلا فإسناد أبي داود رجاله كلهم ثقات إلا إسماعيل بن عياش، وهو صدوق في ما روى عن أهل الشام، وقد توبع، والله أعلم. [تخريج الحديث]. الحديث رواه أبو داود كما في إسناد الباب، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن (1/ 109)، والبغوي (180). ورواه الدارقطني (1/ 56) من طريق هشام بن عمار، إنا إسماعيل بن عياش به. ورواه الطبراني في مسند الشاميين من طريق بقية، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني به. وسبق الإشارة إليها. كما جاء حديث ابن مسعود من طريق آخر، فقد أخرجه أحمد (1/ 457) عن عتاب وعلي بن إسحاق، عن عبد الله، أخبرنا موسى بن علي بن رباح، قال: سمعت أبي يقول: عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه ليلة الجن، ومعه عظم حائل، وبعرة، وفحمة، فقال: لا تسنجين بشيء من هذا إذا خرجت إلى الخلاء. ووهم ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 346) فاعتقد أن عبد الله: هو ابن لهيعة، وإنما هو ابن المبارك، وموسى بن علي بن رباح وإن كان قد روى عنه ابن لهيعة، لكن عتاب وعلي بن إسحاق إنما رويا عن عبد الله بن المبارك، كما في تهذيب المزي، والله أعلم. رجال إسناد أحمد كلهم ثقات إلا أن عُلي بن رباح قال فيه الدارقطني: لا يثبت سماعه من ابن مسعود، ولا يصح. وحاول ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 109) أن يدفع كلام الدارقطني، فقال: إن مسلماً أنكر في ثبوت الاتصال اشتراط السماع، وادعى اتفاق أهل العلم على أنه يكفي إمكان اللقاء والسماع، وعُلي هذا ولد سنة خمس عشرة كذا ذكره أبو سعيد بن يونس، فسماعه من =

دليل من قال يجزئ الاستنجاء بالحممة

الدليل الثاني: (381 - 225) ما رواه البزار، من طريق أبي الأسود، قال: أنا ابن لهيعة، عن ابن المغيرة -يعني عبيد الله- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجي أحد بعظم أو روثة أو حممة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: من النظر: قالوا: إن الحممة إن كانت صلبة فقد تسود الجسم، وإن كانت تتفتت فلا يحصل منها الإنقاء المطلوب. دليل من قال يجزئ الاستنجاء بالحممة. الدليل الأول: لم يثبت نهي عن الاستنجاء بالحممة، والأصل الجواز، فقد نقل عن ¬

= ابن مسعود ممكن بلا شك؛ لأن ابن مسعود توفي سنة 32، وقيل: سنة 33 من الهجرة. اهـ قلت: كلام الدارقطني الجزم بعدم السماع، حيث قال: لا يثبت سماعه ولا يصح، فقوله: ولا يصح دليل على أنه علم أنه لم يسمع منه، ولا كل من أمكن لقيه جزم بسماعه، فإذا علمنا بأن الرواي لم يسمع قد هذا العلم، فالعلم بعدم السماع، كالعلم بالسماع، لكن عدم العلم هو الذي فيه نقاش. وحديث أحمد رواه الدراقطني (1/ 56)، والبيهقي في السنن (1/ 109) من طريق ابن وهب، حدثني موسى بن علي بن رباح به. والله أعلم. (¬1) مسند البزار المسمى بالبحر الزخار (3783). (¬2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 209): رواه الطبراني في الكبير والبزار، وهذا لفظه، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.

الدليل الثاني

مالك أنه قال: ما سمعت فيها نهياً (¬1). الدليل الثاني: كونها قد تتفتت هذا لا يكفي دليلاً في المنع، فقد ذهب كثير من الفقهاء إلى الاستنجاء بالرمل، وهو أكثر نعومة من الفحم إذا تتفتت، ومع ذلك فالرمل ينقي، وكونها قد تسود الجسم، فإنها عين طاهرة لا تنجس البدن حتى يتقى هذا، وقد يحتاج إلى الاستنجاء بها، ويكفي أن الكلام هذا لا يصح أن يكون دليلاً شرعياً في المنع من الاستنجاء بها. الراجح: إن ثبت النهي عن الاستنجاء بالحممة قلت به، وإن كان النهي غير محفوظ، فالأصل الجواز، والله أعلم. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 288).

الشرط الثامن أن يكون المستجمر به غير محترم

الشرط الثامن أن يكون المستجمر به غير محترم

المبحث الأول الاستنجاء بالكتب الشرعية

المبحث الأول الاستنجاء بالكتب الشرعية لا يستنجي بالكتب الشرعية، وهل هو على التحريم أو الكراهة خلاف؟ فقيل: يكره، ويجزئ، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يحرم ويجزئ، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: يحرم ولا يجزئ، وهو مذهب الحنابلة (¬3)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬4). تعليل الكراهة أو المنع. قالوا: إن الكتب الشرعية يجب احترامها، لما فيه من علم محترم، والاستنجاء بها إهانة، وهذا منهي عنه. ولأن الكتب الشرعية تعتبر من المال، فهي لها قيمة شرعاً، والاستنجاء ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 340)، نور الإيضاح (ص: 16). (¬2) قال العدوي في حاشيته على الخرشي (1/ 151): أما المحترم من مطعوم ومكتوب وذهب وفضة يحرم عليه -يعني الاستنجاء بها- سواء أراد الاقتصار عليه أم لا؟ ولكن إذا أنقى يجزئ. اهـ وانظر مواهب الجليل (1/ 286)، التاج والإكليل (1/ 286)، مختصر خليل (ص: 15)، التمهيد (1/ 347). (¬3) المغني (1/ 105)، الإنصاف (1/ 110،111)، المبدع (1/ 93)، المحرر (1/ 10) (¬4) قال النووي في المجموع (2/ 137): من الأشياء المحتمة التي يحرم الاستنجاء بها الكتب التي فيها شيء من علوم الشرع، فإن استنجى بشيء عالماً أثم. وفي سقوط الفرض الوجهان: الصحيح لا يجزئه. وانظر الوسيط (1/ 306)، المنهج القويم (ص: 79،80)، شرح زبد ابن رسلان (ص: 55)، روضة الطالبين (1/ 68).

تعليل من قال: إن استنجى بها، فأنقى أجزأ

بها إفساد لهذا المال، وإفساد الأموال منهي عنه. ولأن الكتب الشرعية لا تخلو من أسماء الله سبحانه وتعالى ومن أحاديث شريفة يجب توقيرها، ولا يجوز إهانتها. وقياساً على النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ لأنه طعام إخواننا من الجن وطعام دوابهم، فإذا كان زاد الأبدان منهياً عنه، فكذلك زاد الأرواح من العلوم الشرعية. والكراهة التي عند الحنفية لا يبعد أن تكون كراهة تحريم، لا كراهة تنزيه. تعليل من قال: إن استنجى بها، فأنقى أجزأ. قالوا: إن النجاسة قد زالت، فلا يمكن أن نحكم للمحل بالنجاسة وقد زالت عين النجاسة، والتحريم والصحة غير متلازمين، خاصة أن النهي عن الاستنجاء بها لمعنى آخر وهو احترام ما فيها، فكما نصحح الصلاة في الأرض المغصوبة، والصلاة في الثوب المسروق؛ لأن النهي ليس عائداً للصلاة، وإنما لوصف الغصب والسرقة، وهذا لا يختص بالصلاة، فكذلك الا ستنجاء بالكتب الشرعية، والله أعلم. تعليل من قال: لا يجزئ. الدليل الأول: قالوا: إن الاستجمار بغير الماء رخصة؛ لأن الأصل أن الاستنجاء يكون بالماء وحده، والرخصة لا تستباح بمعصية. الدليل الثاني: قال: أن هذا مخالف لأمر الله ورسوله، فإذا صححنا الفعل المحرم نكون

بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولأن تصحيح الفعل المحرم فيه تشجيع على فعله، بخلاف ما إذا جعل لغواً، فهذا يحمله على تركه. (382 - 226) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، جميعاً، عن أبي عامر، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). وروى البخاري القدر المرفوع منه معلقاً (¬2) .. وقد سبق أن نقلنا كلام ابن القيم في شرحه لقوله: فهو رد. وأن الرد: فَعْل بمعنى المفعول، أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس الرد، وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده، وعدم اعتباره في حكم المقبول، ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه، بل كونه رداً أبلغ من كونه باطلاً، إذ الباطل قد يقال لما لا نفع فيه أو منفعته قليلة جداً، وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه، وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئاً ولم يترتب عليه مقصوده أصلاً (¬3). ¬

(¬1) صحيح مسلم (1718). (¬2) باب (34) البيوع: باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع. (¬3) تهذيب السنن (3/ 99).

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف: القول بتحريم الاستجمار بالكتب الشرعية، وإذا خالف فعليه التوبة وعدم العود إلى هذا الفعل، مع الإجزاء، وقولهم: إن الاستنجاء بغير الماء رخصة، والرخصة لا تستباح بالمعصية غير مسلم لا في مقدمتها ولا في نتيجتها، أما المقدمة: وهو قولهم: إن الاستجمار رخصة، فنقول: الصحيح أن الاستجمار ليس برخصة، وأن النجاسة إذا زالت بأي مزيل زال حكمها، وقد ناقشنا هذا في مسألة مستقلة، وقدمت أدلة كثيرة على إزالة النجاسة بغير الماء، فإذا لم تصح المقدمة لم تسلم النتيجة، وعلى فرض أن تكون المقدمة صحيحة فلا نسلم النتيجة، وأن الرخصة لا تستباح بمعصية، بل الرخصة إذا حصل سببها إبيحت، فالمسح على الخفين يمسح المسافر مطلقاً سواء كان المسافر في سفر طاعة أم معصية، وكذلك يقصر الصلاة ويفطر في رمضان، لأن النصوص مطلقة غير مقيدة، ولا يقيد النص الشرعي إلا نص مثله، وقد ناقشت هذه المسألة بشيء من التفصيل في كتابي المسح على الحائل، فليراجعه من شاء، والله أعلم.

المبحث الثاني ألا يكون المستنجى به مطعوما

المبحث الثاني ألا يكون المستنجى به مطعوماً ذهب الأئمة الأربعة (¬1) إلى تحريم الاستنجاء بالطعام. وإذا خالف واستنجى أجزأه إذا حصل الإنقاء عند الحنفية والمالكية. وقيل: لا يجزئ في مذهب الشافعية والحنابلة. ومثل طعام الآدمي طعام البهيمة فلا يستنجي به (¬2). ¬

(¬1) أطلق الكراهة في مراقي الفلاح (ص: 20) قال: ويكره الاستنجاء بعظم وطعام لآدمي ... الخ. ولعلها كراهة تحريم كالجمهور، فإن الموجود في الدر المختار (1/ 339) "وكره تحريماً بعظم وطعام وروث .. الخ. وقال في البحر الرائق (1/ 255): والظاهر أنها كراهة تحريم. وقال ابن عبد البر من المالكية في كتابه الكافي (ص: 17): وما يجوز أكله لا يجوز الاستنجاء به. اهـ وانظر حاشية العدوي على الخرشي (1/ 151)، مواهب الجليل (1/ 286)، التاج والإكليل (1/ 286)، مختصر خليل (ص: 15). وفي مذهب الشافعية: قال في المجموع (2/ 135): لا يجوز الاستنجاء بعظم ولا خبز ولا غيرهما من المطعوم، فإن خالف واستنجى به عصى، ولا يجزئه هكذا نص عليه الشافعي، وقطع به الجمهور، ثم قال: وإذا لم يجزئه المعطوم كفاه بعده الحجر إن لم ينشر النجاسة. اهـ وانظر إعانة الطالبين (1/ 108)، الإقناع للشربيني (1/ 54)، شرح زبد بن رسلان (ص:55). وفي مذهب الحنابلة انظر: كشاف القناع (1/ 67،69)، المغني (1/ 104)، الإنصاف (1/ 110،111)، المبدع (1/ 93)، المحرر (1/ 10). (¬2) نص على طعام البهيمة الحنفية في نور الإيضاح (ص: 16)، حاشية ابن عابدين (1/ 339). ومن الحنابلة دليل الطالب (ص: 6)، ومنار السبيل (1/ 24)، المبدع (1/ 93)، الإنصاف (1/ 110)، كشاف القناع (1/ 69).

دليل المنع من الاستنجاء بالطعام

دليل المنع من الاستنجاء بالطعام. (383 - 227) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم (¬1). وجه الاستدلال: فإذا نهي عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ لأنه طعام الجن وطعام دوابهم، فالنهي عن طعام الإنس وطعام دوابهم من باب أولى. الدليل الثاني: أن الاستنجاء بالطعام مناف لشكر النعمة وتعظيمها، وعدم امتهانها، ¬

(¬1) مسلم (450).

الراجح

وقد ينتفع بها حيوان أو طير أو غيرهما من دواب الأرض، وعلى هذا ما يفعله بعض الناس من وضع بقايا الطعام مع حفائظ الأطفال المتنجسة، ودفعها على عمال النظافةواختلاطها بها من المنكر الذي يجب الابتعاد عنه شكراً لنعمة الله، وحرصاً على المحافظ عليها. وأما أدلة الخلاف هل يجزئ فيما لو خالف واستنجى بطعام وأنقى المحل فانظره في المسألة التي قبل هذه، وهي الاستنجاء بالكتب الشرعية؛ فإن الأدلة فيها واحدة، بجامع أن كلا منهما محترم شرعاً. والراجح في هذه المسألة هو ما رجحته في المسألة التي قبل هذه، من صحته مع الإثم، والله أعلم.

المبحث الثالث أن يكون المستنجى به مباحا

المبحث الثالث أن يكون المستنجى به مباحاً اشترط الحنابلة إباحة المستجمر به، فلا يجوز الاستجمار بشيء مغصوب كورق وحجر ونحوها، قال المرداوي: وهو من المفرادت (¬1). دليل اشتراط الإباحة. قالوا: إن الاستجمار يرونه رخصة، والرخصة لا تسباح بمحرم. والشيء المغصوب كسبه محرم بالاتفاق، (384 - 228) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فإن دماءكم وأموالكم، قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب (¬2). فإذا كان كسبه محرماً وصححنا الوضوء به نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. (385 - 229) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ¬

(¬1) قال في الإنصاف (1/ 109) ظاهر كلام المصنف جواز الاستجمار بالمغصوب ونحوه، وهو قول في الرعاية، ورواية مخرجة. واختار الشيخ تقي الدين في قواعده على الصحيح من المذهب ـ وعليه الأصحاب- اشتراط إباحة المستجمر به، وهو من المفردات. اهـ وانظر شرح العمدة (1/ 160)، كشاف القناع (1/ 69). (¬2) البخاري (105)، ومسلم (1679).

وعبد بن حميد جميعاً عن أبي عامر، قال عبد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد، عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى رد: أي مردود عليه، والوضوء بالماء المغصوب خلاف أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حزم رحمه الله: من توضأ بماء مغصوب، أو أخذ بغير حق، أو اغتسل به، أو من إناء كذلك، فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أن استعماله ذلك الماء وذلك الإناء في غسله ووضوئه حرام، وبضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الحرام المنهي عنه هو غير الواجب المفترض عمله، فإذ لا شك في هذا فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به، والذي لا تجزئ الصلاة إلا به، بل هو وضوء محرم، هو فيه عاص لله تعالى، وكذلك الغسل، والصلاة بغير الوضوء الذي أمر الله تعالى به وبغير الغسل الذي أمر الله تعالى به لا تجزئ، وهذا أمر لا إشكال فيه. ونسأل المخالفين لنا عمن عليه كفارة إطعام مساكين، فأطعمهم مال غيره، أو من عليه صيام أيام، فصام أيام الفطر والنحر والتشريق، ومن عليه عتق رقبة فأعتق أمة غيره، أيجزيه ذلك مما افترض الله تعالى عليه؟ فمن قولهم: لا. فيقال لهم: فمن أين منعتم هذا وأجزتم الوضوء والغسل بماء مغصوب وإناء مغصوب؟ وكل هؤلاء مفترض عليه عمل ¬

(¬1) صحيح مسلم (1718).

موصوف في مال نفسه، محرم عليه ذلك من مال غيره بإقراركم سواء سواء. وهذا لا سبيل لهم إلى الانفكاك منه. وليس هذا قياساً، بل هو حكم واحد داخل تحت تحريم الأموال، وتحت العمل بخلاف أمر الله تعال، ى وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وكل هؤلاء عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأجيب: بأن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع. وانظر بقية الأقوال وأدلتها ومناقشتها في باب المياه في الوضوء بالماء المحرم. ¬

(¬1) المحلى (1/ 207،208).

المبحث الرابع ألا يكون المستنجى به حيوانا

المبحث الرابع ألا يكون المستنجى به حيواناً

الفرع الأول الاستنجاء بشيء من الحيوان متصلا به

الفرع الأول الاستنجاء بشيء من الحيوان متصلا به اختلف الفقهاء في الاستنجاء بشيء متصل بالحيوان كالذنب والصوف والأذن ونحوها: فقيل: يكره الاستجمار بشيء متصل بحيوان، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا يجوز الاستنجاء بها، وعليه أكثر الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يصح الاستجمار بما اتصل بالحيوان، واختاره الماوردي والشاشي من الشافعية (¬4)، والأزجي من الحنابلة (¬5). دليل من حرم الاستنجاء بما هو متصل بحيوان. الدليل الأول: قالوا: إ الحيوان محترم فأشبه الاستنجاء بالطعام. ¬

(¬1) الشرح الكبير (1/ 113)، مواهب الجليل (1/ 290). (¬2) قال النووي في المجموع (2/ 138): الصحيح عند الأصحاب تحريم الاستنجاء بأجزاء الحيوان في حال اتصاله، كالذنب والأذن، والعقب والصوف والوبر والشعر وغيرها. الخ كلامه. وانظر أسنى المطالب (1/ 51)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 48)، ومغني المحتاج (1/ 43)، المنهج القويم (ص: 80)، وأما الحنفية فلم أجد أحداً نص على هذه المسألة، وقد نقلها ابن عابدين عن الشافعية وأقرها، انظر حاشية ابن عابدين (1/ 340). (¬3) شرح العمدة (1/ 160)، الكافي في فقه أحمد (1/ 53)، المغني (1/ 105)، مطالب أولي النهي (1/ 76)، الإنصاف (1/ 111). (¬4) المجموع (2/ 138). (¬5) الإنصاف (1/ 111).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: القياس على النهي عن الاستنجاء بعلف الدواب، فإذا كان قد نهي عن الاستنجاء بعلف الدواب، فالاستنجاء بها أولى بالنهي. دليل من قال: بالجواز. الدليل الأول: قالوا: الأصل الجواز، ومن منع كلف الدليل، وقد نهي عن الاستنجاء بالروث والعظام، ولم يأت نهي عن الاستنجاء بالحيوان. الدليل الثاني: قالوا: إن حرمة الحيوان بمنع إيلامه، لا منع ابتذاله بخلاف المطعوم. الدليل الثالث: إذا صححنا الاستنجاء بالشعر والصوف إذا جز من الحيوان، صح الاستنجاء بهما وهما على الحيوان، غاية ما هنالك أن الحيوان قد تنجس، وتنجس بدن الحيوان في مقابلة منفعة الآدمي لا يمنع منها. دليل من قال: يكره الاستنجاء بالحيوان. قال: إن في الاستنجاء به تنجيس لبدن الحيوان الطاهر، وتنجيسه بلا حاجة مكروه. الراجح: جواز الاستنجاء به إذا احتاج إليه الإنسان كما لو لم يجد بقربه إلا ذيل حيوان طاهر، لكن مع الحاجة قد يتجه القول بأنه خلاف الأولى، والله أعلم.

الفرع الثاني الاستنجاء بجلد الحيوان المنفصل

الفرع الثاني الاستنجاء بجلد الحيوان المنفصل اختلف الفقهاء في الاستنجاء بالجلد. فقيل: يجوز بالجلد المدبوغ دون غيره، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يجوز بالجلد مطلقاً مدبوغاً كان أو غير مدبوغ، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يجوز مطلقاً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: لا يجوز إن كان مذكى، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: لا يجوز إن كان مدبوغاً (¬6). دليل من قال: يجوز بالجلد إن كان مدبوغاً. قال: إنه بالدباغ خرج الجلد من كونه من اللحوم إلى كونه من الثياب، ¬

(¬1) قال في الأم (1/ 22): فأما الجلد المدبوغ فنظيف طاهر فلا بأس أن يستنجي به. اهـ وقال في المجموع (2/ 139): أصحها عند الأصحاب يجوز بالمدبوغ دون غيره، وهو نصه في الأم. اهـ وانظر أسنى المطالب (1/ 50)، شرح البهجة (1/ 125)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 49)، مغني المحتاج (1/ 44). (¬2) المجموع (2/ 139). (¬3) الإنصاف (1/ 112). (¬4) المجموع (2/ 139). (¬5) الفروع (1/ 123)، الإنصاف (1/ 112). (¬6) انظر المراجع السابقة.

دليل من قال: لا يستنجى به إن كان غير مدبوغ

والاستنجاء بالثياب جائز. ثم إن الدباغ مطهر له على الراجح، فيكون الاستنجاء بجلد طاهر منق أشبه الاستنجاء بالخزف. دليل من قال: لا يستنجى به إن كان غير مدبوغ. إن كان من ميتة فمانع الاستنجاء به هو النجاسة، والاستنجاء بالنجس عنده لا يجوز، وقد ناقشت هذه المسألة في مبحث مستقل، وهو اشتراط طهارة ما يستنجى به، فليراجع. وإن كان من حيوان مذكى فإنه رطب، فينشر النجاسة، ولا يزيلها، وقد ذكرنا في مبحث مستقل هل يشترط أن يكون جامداً، والجمهور على اشتراطه، والصحيح خلافه. دليل من قال: يشترط أن يكون مذكى. من اشترط أن يكون مذكى حتى يخرج من كون الجلد نجساً، لأن النجس عنده لا يطهر، والصحيح أن النجس إن كان منقياً جاز الاستجمار به، إلا العظم والروث. دليل من قال بالجواز مطلقاً. قال: إن المقصود هو الإنقاء، فإذا أنقى الجلد وطهر المحل حكمنا بطهارة المحل، سواء كان الجلد مدبوغاً أم غير مدبوغ. والراجح جوز الاستنجاء به مطلقاً، ولا يوجد دليل يمنع من الاستنجاء به، وعلى فرض أن يكون الاستنجاء به ينجسه، فإن تنظيفه ممكن، كما لو وقع على الثوب نجاسة، والله أعلم.

فرع ما منع الاستنجاء به لحرمته لا يجوز البول عليه

فرع ما منع الاستنجاء به لحرمته لا يجوز البول عليه لا يبول على ما منع الاستنجاء به لحرمته: كالروث والعظم والطعام (¬1). التعليل: لأنه إذا نهي عن الاستنجاء به، فالبول عليه من باب أولى، وهذا ما يسميه الفقهاء بالقياس الجلي. ¬

(¬1) انظر حاشية ابن عابدين (1/ 343)، المجموع (2/ 109)، أسنى المطالب (1/ 48)، تحفة المحتاج (1/ 171،172)،. وقال ابن قدامة في المغني (1/ 108): ولا يبول على ما نهي عن الاستجمار به؛ لأن هذا أبلغ من الاستجمار به، فالنهي ثم تنبيه على تحريم البول عليه. اهـ وانظر الإنصاف (1/ 99،100)، كشاف القناع (1/ 64)، مطالب أولي النهى (1/ 71).

الباب الخامس في ما يستنجى منه

الباب الخامس في ما يستنجى منه

الفصل الأول في الاستنجاء من البول والغائط

الفصل الأول في الاستنجاء من البول والغائط أجمع العلماء على مشروعية الاستنجاء من البول والغائط، بالماء أو بالإحجار على خلاف بينهم هل هو واجب أو مستحب -على التفصيل المذكور في حكم الاستنجاء- وذلك للإجماع على نجاسة البول والغائط، وقد نقل الإجماع على نجاستهما خلق كثير من العلماء: منهم الطحاوي والسرخسي والعيني وعلي القارئ، وابن عبد البر وابن جزي وابن رشد، وابن المنذر والنووي والخطابي وابن تيمية وغيرهم، وإليك النقول عنهم: قال الطحاوي: لحوم بني آدم قد أجمع أنها لحوم طاهرة، وأن أبوالهم حرام نجسة (¬1). وقال العيني: بول الآدمي الكبير فحكمه أنه نجس مغلظ بإجماع المسلمين من أهل الحل والعقد (¬2). وقال علي القاري: وقد قال أبو حنيفة: لو قلت بالرأي لأوجبت الغسل بالبول؛ أي لأنه نجس متفق عليه، والوضوء بالمني؛ لأنه نجس مختلف فيه (¬3). وقال ابن عبد البر: أجمع المسلمون على أن بول كل آدمي يأكل الطعام نجس (¬4). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 109)، وانظر المبسوط للسرخسي (1/ 60). (¬2) البناية (1/ 738). (¬3) شرح مشكاة المصابيح (1/ 365). (¬4) التمهيد (9/ 109).

وقال ابن رشد: وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربع، ثم قال: وعلى بول ابن آدم ورجيعه (¬1). وقال ابن جزي: وأما الأبوال والرجيع فذلك من ابن آدم نجس إجماعاً. وقال أيضاً: النجاسات المجمع عليها في المذاهب اثنتا عشرة: بول ابن آدم الكبير ورجيعه (¬2). وقال ابن المنذر: وأجمعوا على إثبات نجاسة البول (¬3). وقال النووي: فأما بول الآدمي الكبير فنجس بإجماع المسلمين، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وأصحابنا وغيرهم، ودليله الأحاديث السابقة مع الإجماع (¬4). وقال أبو الخطاب: البول مجمع على نجاسته (¬5). وحكى الإجماع الزركشي في شرحه (¬6). وقال ابن تيمية: قد أجمع المسلمون على جواز الاستجمار (¬7). وجاءت أحاديث كثيرة تدل على نجاسة البول، منها: (386 - 230) ما وراه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، ¬

(¬1) بداية المجتهد (2/ 175،192). (¬2) القوانين الفقهية (ص: 35،36). (¬3) الإجماع (34). (¬4). (¬5) الإنتصار (1/ 485). (¬6) شرح الزركشي (1/ 146). (¬7) مجموع الفتاوى (22/ 167).

عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). فظاهر الحديث أن ترك الاستنجاء كبيرة من كبائر الذنوب، كيف والطهارة تتعلق بأعظم أركان الإسلام العملية، ألا وهي الصلاة. (387 - 231) وروى البخاري أيضاً، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال: قام أعرابي، فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (¬2). وجاء قصة بول الأعرابي من مسند أنس في الصحيحين (¬3). (388 - 232) وروى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه، ورواه مسلم (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري (216)، ومسلم (292). (¬2) صحيح البخاري (220). (¬3) البخاري (6025)، ومسلم (284). (¬4) صحيح البخاري (222)، وصحيح مسلم (286).

الفصل الثاني في الاستنجاء من المذي

الفصل الثاني في الاستنجاء من المذي ذهب الأئمة الأربعة إلى مشروعية الاستنجاء من المذي على خلاف بينهم هل يجب الماء، أو تكفي الحجارة؟ فقيل: يجب غسل موضع الحشفة فقط، وهو مذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2)، ونسبه النووي للجمهور (¬3)، ورجحه ابن عبد البر (¬4). وقيل: يجب غسل الذكر كله، ولا يجزئ الأحجار في المذي، وعليه أكثر أصحاب مالك (¬5). وقيل: يجب غسل الذكر كله مع الأنثيين، وهو مذهب الحنابلة، وذكروه من المفردات (¬6)، وهو مذهب ابن حزم (¬7). وقيل: يجزئ الاستجمار، وهو قول في مذهب الشافعية (¬8). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 48)، شرح فتح القدير (1/ 72)، المبسوط (1/ 67). (¬2) المجموع (2/ 164)، روضة الطالبين (1/ 67)، مغني المحتاج (1/ 79). (¬3) المجموع (2/ 164). (¬4) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323). (¬5) مواهب الجليل (1/ 285)، الخرشي (1/ 149)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323). (¬6) الفروع (1/ 214)، شرح منتهى الإرادات (1/ 21)، الإنصاف (1/ 330)، المبدع (1/ 249)، الفتح الرباني بمفرادت ابن حنبل الشيباني (1/ 87)، الكافي في فقه أحمد (1/ 56)، المغني (1/ 112). (¬7) المحلى (1/ 118). (¬8) المجموع (2/ 164).

الدليل على مشروعية الاستنجاء من المذي

وقيل: المذي طاهر، وهو رواية عن أحمد (¬1). أما الدليل على مشروعية الاستنجاء من المذي. حكى الإجماع على نجاسته، وعلى وجوب الوضوء. قال ابن عبد البر: وأما المذي المعهود المتعارف عليه، وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما يجده من اللذة، أو لطول عزبة، فعلى هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي هذا، وعليه وقع الجواب، وهو موضع إجماع لا خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه، وإيجاب غسله لنجاسته (¬2). وقال النووي: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي (¬3). وسبق لنا أن الإمام أحمد في رواية عنه أن المذي طاهر، فالخلاف محفوظ، لكنه خلاف شاذ. دليل من قال: يغسل موضع الحشفة. (389 - 233) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى -ويكنى أبا يعلى- عن ابن الحنفية، عن علي قال كنت رجلا مذاء وكنت أستحيي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال يغسل ذكره ويتوضأ، ¬

(¬1) في المبدع شرح المقنع (1/ 149): وعن أحمد أن المذي طاهر كالمني، اختاره أبو الخطاب في خلافه؛ لأنه خارج بسبب الشهوة. اهـ وانظر المغني (1/ 413)، والإنصاف (1/ 341). (¬2) الاستذكار (1/ 199). (¬3) المجموع (2/ 571).

ورواه البخاري بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: إن من غسل مخرج المذي من الذكر، فقد غسل ذكره، فإيجاب غسل الذكر كله لا دليل عليه من الشرع. الدليل الثاني: أن ابن عباس تارة يقول: "يغسل ذكره" وتارة يقول: "يغسل حشفته" فدل على أن مراده بقوله: " اغسل ذكرك" أي الحشفة، وفهم الصحابي أولى من فهم غيره؛ لأنه عربي قح لم تدخل لسانه العجمة، وهو ممن روى عن علي حديث غسل الذكر من المذي، فلو كان يقتضي ذلك غسل الذكر كله لكان ابن عباس أولى بفهم ذلك من غيره، كما أن ابن عباس لم يذكر غسل الأنثيين، فلو كان غسل الأنثيين محفوظاً من حديث علي لقال به، خاصة أنه كما قلنا: ممن روى عن علي حديثه في طهارة المذي، وإليك تخريج الروايات التي جاءت عن ابن عباس. (390 - 234) روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال في المذي والودي والمني: من المني الغسل، ومن المذي والودي الوضوء، يغسل حشفته ويتوضأ (¬2). [إسناده صحيح]. وهذا يفسر ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، ¬

(¬1) صحيح مسلم (303)، وصحيح البخاري (269). (¬2) المصنف (608).

عن ابن عباس، قال: المني والودي والمذي، فأما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما الوضوء، ويغسل ذكره (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). فصار مقصود ابن عباس بقوله: يغسل ذكره، أي: يغسل حشفته. الدليل الثالث: من النظر، قال الطحاوي في شرح معاني الآثار: رأينا خروج المذي حدثاً، فأردنا أن ننظر في خروج الأحداث ما الذي يجب به؟ فكان خروج ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 89) رقم 984. (¬2) ورواه عبد الرزاق في المصنف (610) عن الثوري، عن منصور به. واختلف على الثوري فيه، فرواه وكيع وعبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس. ورواه الطحاوي (1/ 47) من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن مؤرق العجلي، عن ابن عباس، فزاد مؤرقاً في الإسناد. ومؤمل سيء الحفظ، وتابع مؤمل بن إسماعيل كل من: الأول: عبد الله بن الوليد العدني كما في الأوسط لابن المنذر (1/ 135) والعدني هذا قال عنه في التقريب: صدوق ربما أخطأ. الثاني: الحسين بن حفص، كما في سنن البيهقي (1/ 115)، وهو صدوق. ورواه الطحاوي (1/ 47) من طريق هلال بن يحيى بن مسلم، قال: حدثنا أبو عوانة، عن منصور به. بزيادة مؤرق العجلي. وهلال له ترجمة في لسان الميزان، قال ابن حبان: كان يخطئ كثيراً على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. فالمحفوظ رواية وكيع وعبد الرزاق، وكل من خالف وكيعاً في هذا الإسناد فهو دونه في الحفظ، وعلى فرض أن يكون ذكر مؤرق العجلي محفوظاً، فإنه ثقة، وثقه النسائي وابن سعد، وزاد: عابد. ووثقه الذهبي في الكاشف، والعجلي، وفي التقريب: ثقة عابد.

دليل من قال: يجب غسل ذكره كله ولا يكفي الاستجمار

الغائط يجب به غسل ما أصاب البدن منه، ولا يجب غسل ما سوى ذلك إلا التطهر للصلاة، وكذلك خروج الدم في أي موضع خرج -في قول من جعل ذلك حدثاً- فالنظر على ذلك أن يكون كذلك خروج المذي، الذي هو حدث، ولا يجب غسل غير الموضع الذي أصاب من البدن غير التطهر للصلاة، فثبت ذلك أيضاً بما ذكرنا من طريق النظر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى (¬1). دليل من قال: يجب غسل ذكره كله ولا يكفي الاستجمار. (391 - 235) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: اغسل ذكرك، حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف، فيعم جميع الذكر. فيغسل مخرج الذكر من أجل النجاسة، أما بقية الذكر فهل غسله تعبدي غير معقول المعنى، بحيث يحتاج الأمر إلى نية؟ أو غسله من أجل قطع مادة المذي، فهو كغسل النجاسات، لا يفتقر إلى نية، قولان في مذهب مالك (¬3). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 48). (¬2) صحيح البخاري (269)، ومسلم (303). (¬3) قال في حاشية الدسوقي (1/ 112): واعلم أن غسل الذكر من المذي وقع فيه خلاف، قيل: إنه معلل بقطع المادة، وإزالة النجاسة. وقيل: إنه تعبد، والمعتمد الثاني. ثم قال: ويتفرع أيضاً، هل تجب النية في غسله أو لا تجب، فعلى القول بالتعبد تجب، وعلى القول بأنه معلل لا تجب، والمعتمد وجوبها. اهـ

دليل من قال: يغسل ذكره وأنثييه

وقوله في الحديث: " يغسل ذكره " دليل على أن الاستجمار لا يكفي، قال ابن عبد البر: وليس في أحاديث المذي على كثرتها ذكر الاستجمار (¬1). وقال ابن دقيق العيد: الحديث دليل على تعين الماء فيه دون الأحجار، لأن ظاهره يعين الغسل، والمعين لا يقع الامتثال إلا به (¬2). دليل من قال: يغسل ذكره وأنثييه. الدليل الأول: (392 - 236) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه: قال: قال علي كنت رجلا مذاء، وكنت أستحي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد، فسأله، فقال: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ (¬3). [رجاله ثقات إلا أن إسناده منقطع، وذكر غسل الأنثيين ليس محفوظاً] (¬4). ¬

(¬1) شرح الزرقاني (1/ 125)، التمهيد (21/ 205). (¬2) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 77). (¬3) المسند (1/ 124). (¬4) جاء الأمر بغسل الأنثيين من حديث علي، ومن حديث رافع بن خديج. أما حديث علي فورد من ثلاثة طرق، الأول: عن عروة بن الزبير عن علي، وهو منقطع كما سأبين ذلك إن شاء الله تعالى. ومن طريق شريك، عن الركين بن الربيع، عن حصين بن قبيصة، عن علي، وهو منكر، تفرد به شريك، وخالفه من هو أوثق منه في ركين بن الربيع. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ومن طريق سليمان بن حيان، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن عبيدة السليماني، عن علي بن أبي طالب، وهو طريق شاذ. وجاء الأمر بغسل الأنثيين من حديث رافع بن خديج، وهو ضعيف، وفي إسناده اختلاف، وإليك بيان هذه الطرق. الطريق الأول: طريق عروة، عن علي. فقد نص العلماء على أن عروة لم يسمع من علي بن أبي طالب، وممن صرح بعدم السماع أبو حاتم وأبو زرعة وابن حجر وغيرهم، انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص:149)، والعلل لابن أبي حاتم (1/ 54)، وتلخيص الحبير (1/ 117). والحديث أخرجه عبد الرزاق (602،603) عن معمر وابن جريج. وأخرجه أحمد (1/ 126) حدثنا يحيى بن سعيد. وأخرجه أبو داود (208) من طريق زهير. وأخرجه النسائي في الكبرى (148)، وفي المجتبى (153) من طريق جرير، كلهم عن هشام به. وفي لفظ جرير، قال: " يغسل مذاكيره" بدلاً من قوله: " يغسل أنثييه". وقال أبو داود بعد حديث (208): ورواه ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن المقداد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر أنثييه. قلت: وإن كان عدم ذكر الأنثيين هو الراجح في الحديث، إلا أن ذكر المقداد وهم من ابن إسحاق، وذلك لأن يحيى بن سعيد القطان ووكيعاً وزهيراً ومعمر وابن جريج كما سبق في التخريج، وذكر أبو داود أيضاً: الثوري وابن عيينة والمفضل بن فضالة ثمانيتهم رووه عن هشام، ولم يذكروا المقداد. أما طريق عبيدة السليماني، عن علي. فقد رواه أبو عوانة (1/ 273) من طريق سليمان بن حيان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السليماني، عن علي بن أبي طالب، قال: كنت رجلاً مذاء، فاستحييت أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسلت المقداد، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يغسل أنثييه وذكره، ويتوضأ وضوءه للصلاة. وسليمان بن حيان الأحمر روى له البخاري متابعة، ووثقه ابن سعد والعجلي وابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المديني. وقال ابن معين: صدوق، وليس بحجة. وقال ابن عدي: إنما أتي من سوء حفظه، فيغلط، ويخطئ. وقال أبو بكر البزار: اتفق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظاً، وأنه روى عن الأعمش وغيره أحاديث لم يتابع عليها. وقال النسائي: ليس به بأس. وفي التقريب: صدوق يخطئ. وباقي رجال الإسناد ثقات، فهذا أحسن إسناداً جاء الأمر فيه بغسل الأنثيين، إلا أن أبا خالد الأحمر لا تحتمل مخالفته للجمع الكثير ممن روى الحديث بدون ذكرها كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما طريق شريك. فأخرجه أحمد (1/ 145)، قال: حدثنا يزيد، أنبأنا شريك، عن الركين بن الربيع، عن حصين بن قبيصة، عن علي قال: كنت رجلا مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أبنته، فأمرت المقداد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد المذي فقال: ذلك ماء الفحل، ولكل فحل ماء، فليغسل ذكره وأنثييه، وليتوضأ وضوءه للصلاة. وزيادة غسل الأنثيين منكر في هذا الطريق، تفرد بها شريك، عن الركين، وهو سيء الحفظ، وقد رواه من هو أوثق منه عن الركين، ولم يذكروا فيه غسل الأنثيين، منهم: الأول: زائدة بن قدامة، كما في صحيح البخاري (269)، ومسند أبي داود الطيالسي (145)، وابن أبي شيبة (1/ 89)، وأحمد (1/ 125)، والنسائي (1/ 111،112)، والطحاوي (1/ 46)، وابن خزيمة (18). الثاني: عبيدة بن حميد التيمي، كما في المسند (1/ 109)، وابن أبي شيبة (1/ 89)، وأبو داود (206)، والنسائي (193)، وابن خزيمة (20). فلو انفرد شريك بغسل الأنثيين لم يقبل تفرده، فكيف وقد خالف من هو أوثق منه. وأما حديث رافع بن خديج:. فأخرجه النسائي (155) أخبرنا عثمان بن عبد الله، قال: أنبأنا أمية، قال: حدثنا يزيد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بن زريع، أن روح بن القاسم حدثه، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن إياس بن خليفة، عن رافع بن خديج أن علياً أمر عماراً أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المذي، فقال: يغسل مذاكيره، ويتوضأ. وقوله: مذاكيره: المراد به الذكر وما يتصل به، وإلا فليس في الجسم إلا ذكر واحد، انظر فتح الباري (1/ 369)، شرح معاني الآثار (1/ 46). وهذا إسناد ضعيف، فيه إياس بن خليفة لم يوثقه إلا ابن حبان، ولم يرو عنه أحد غير عطاء. وقال الذهبي في الميزان: لا يكاد يعرف. وأما قول الحافظ فيه: صدوق، ففيه تساهل لا يخفى. وقد اختلف فيه على عطاء: فقيل: عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن إياس بن خليفة، عن رافع بن خديج، كما سبق. وقيل: عن ابن جريج وعمرو بن دينار، عن عطاء، عن عائش بن أنس البكري، عن علي. وليس فيه غسل الأنثيين. وقيل: عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وليس فيه أيضاً غسل الأنثيين. وهاك بيانها: أما طريق عائش بن أنس، عن علي. فأخرجه أحمد (4/ 320،321) حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن عائش بن أنس سمعه عن علي -يعني على منبر الكوفة- كنت أجد المذي، فاستحييت أن أسأله أن ابنته عندي، فقلت لعمار: سله، فسأله، فقال: يكفي منه الوضوء. ومن طريق سفيان أخرجه الحميدي (39)، وأبو يعلى في مسنده (456)، والنسائي في الكبرى (150) وفي المجتبى (154)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 47)، وابن عبد البر في التمهيد (21/ 203). وأخرجه عبد الرزاق (601)، والطبراني في الكبير (20/ 238) من طريق معمر، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن عائش بن أنس، قال: قال علي للمقداد، فجعله من مسند المقداد، وزاد: ليغسل ذكره، ثم ليتوضأ، ثم لينضح فرجه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه عبد الرزاق (597) وأحمد (6/ 5) حدثنا يحيى بن سعيد، كلاهما عن ابن جريج، ثنا عطاء، عن عائش بن أنس البكري، قال: تذاكر علي وعمار والمقداد المذي، فقال علي: إني رجل مذاء، وإني استحييى أن أسأله من أجل أن ابنته تحتي، فذكر نحوه، وفيه: غسل الذكر ونضح الفرج. وعائش بن أنس لم يرو عنه أحد غير عطاء، ولم يوثقه أحد إلا ابن حبان، وجهله الذهبي في الميزان. واختلف فيه على ابن جريج، فرواه عنه يحيى بن سعيد القطان وعبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عائش بن أنس، عن علي كما تقدم. وخالفهما مخلد بن يزيد، فرواه ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن علي كما في سنن النسائي (435)، وليس فيه غسل الأنثيين. ورواه سعيد بن منصور كما في التمهيد (21/ 203) عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، عن علي. هذا ما وقفت عليه من الروايات في ذكر غسل الأنثيين، فمن حديث علي إما شاذة أو منكرة، فجاء ذكرها من حديث عروة، عن علي، وهو منقطع. ومن طريق شريك، وهو سيئ الحفظ، وقد خالفه زائدة وعبيدة بن حميد، فروياه عن شيخ شريك، وليس فيه ذكر غسل الأنثيين. وجاءت من مسند رافع بن خديج، تفرد بها إياس بن خليفة، وهو في حكم المجهول، لم يرو عنه إلا عطاء، ولم يوثقه إلا ابن حبان، وقد اختلف في إسناده. ومن طريق عائش بن أنس، عن علي، والمعروف أنه ليس فيه غسل الأنثيين على أنه قد اختلف على عائش، وعائش لم يرو عنه إلا عطاء، ولم يوثقه إلا ابن حبان. وأحسن إسناد جاء فيه غسل الأنثيين هو طريق سليمان بن حيان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السليماني، عن علي. ولا يحتمل مخالفة سليمان بن حيان لجمع من الرواة رووه عن علي، لم يذكروا ما ذكره، وأخشى أن يكون هذا من أخطائه، فقد قال ابن عدي: إنما أتي من سوء حفظه، فيغلط ويخطئ، وفي التقريب: صدوق يخطئ، وهاك ما وقفت عليه من الرواة الذين رووا الحدث عن علي، وليس فيه غسل الأنثيين: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الأول: محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. كما في صحيح البخاري (132،178)، ومسلم (303)، وعبد الرزاق (604)، ابن أبي شيبة (1/ 87) رقم 968، وأحمد (1/ 82)، والنسائي في الكبرى (149)، والطحاوي (1/ 46). الثاني: ابن عباس، عن علي. وهو في صحيح مسلم (303)، وأخرجه أحمد (1/ 104)، والنسائي (438،436)، وابن خزيمة (22،23)، والطحاوي (1/ 46). الثالث: أبو عبد الرحمن السلمي، عن علي. وهو في صحيح البخاري (296)، وأخرجه الطيالسي (144)، وأحمد (1/ 129)، والنسائي (1/ 152)، وابن الجارود في المنتقى (6)، وابن خزيمة (18). الرابع: حصين بن قبيصة، عن علي. كما في مسند الطيالسي (144)، وابن أبي شيبة (1/ 89)، وأحمد (1/ 109،125)، وأبو داود (206)، والنسائي (193،194)، وإسناده صحيح. الخامس: عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي. كما في مسند أحمد (1/ 87)، وابن أبي شيبة (1/ 87)، والترمذي (114)، وابن ماجه (504)، والبزار (630)، وأبو يعلى (314،457)، والطحاوي (1/ 46) أخرجوه من طرق عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي. وفي الإسناد ضعف من أجل يزيد بن أبي زياد، جاء في التقريب: ضعيف، كبر، فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً. اهـ لكنه سند صالح في المتابعات إن شاء الله تعالى. السادس: هانئ بن هانئ، عن علي. كما في مسند أحمد (1/ 108)، والطحاوي (1/ 46) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي. السابع: عائش بن أنس، عن علي. كما في مسند أحمد (6/ 5)، و (4/ 320،321)، والحميدي (39)، والنسائي (154)، والطحاوي (1/ 47) وغيرهم وقد سبق الكلام على هذا الطريق. الثامن: سليمان بن يسار، عن المقداد. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (393 - 237) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حزام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: ذلك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وإنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة (¬1). ¬

= كما في الموطأ (1/ 40)، وعبد الرزاق (600)، وأحمد (6/ 5)، وابن ماجه (505)، وابن الجارود (5)، والبيهقي في السنن (1/ 115)، وابن خزيمة (21)، وابن حبان (1101)، كلهم رووه من طريق سالم أبي النضر، عن سليمان بن يسار، عن المقداد بن الأسود، أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل إذا دنا من أهله، فخرج منه المذي، فذكر نحو ما تقدم، وفيه: إذا وجد ذلك أحدكم، فلينضح فرجه بالماء، وليتوضأ وضوءه للصلاة. هذا لفظ مالك في الموطأ، قال ابن عبد البر: هذا إسناد ليس بمتصل؛ لأن سليمان بن يسار لم يسمع من المقداد، ولا من علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. اهـ قلت: موضع الشاهد منه أنه لم يذكر غسل الأنثيين، وقد رواه بكير بن عبد الله الأشج، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، عن علي، كما في صحيح مسلم (19 - 303)، وهذا سند متصل، وقد خرجت هذه الرواية في ما سبق، وليس فيها ذكر الأنثيين. فهؤلاء ثمانية رواة رووه عن علي، ليس في روايتهما ذكر الأنثيين، وبعض الطرق جاءت في الصحيحين كطريق محمد بن الحنفية، وبعضها في البخاري وحده كطريق أبي عبد الرحمن السلمي، وبعضها في مسلم وحده كطريق ابن عباس، عن علي، والقصة واحدة لا تحتمل التعدد، ورواية الأكثر السالمة من الضعف أولى من غيرها. والله أعلم. (¬1) سنن أبي داود (211).

دليل من قال: يجزئ الاستجمار بالحجارة

[إسناده ضعيف] (¬1). دليل من قال: يجزئ الاستجمار بالحجارة. الدليل الأول: القياس على البول، بجامع أن كلاً منهما سائل نجس، خرج من مخرج واحد، فإذا ثبتت الطهارة من البول بالحجارة ثبتت الطهارة بالحجارة من المذي، ولا فرق، ولا يجمع الشارع بين متفرقين، ولا يفرق بين متماثلين. الدليل الثاني: أن الماء لا يتعين في إزالة النجاسات، فالنجاسة تزال بأي مزيل كان سواء كانت النجاسة مذياً أم بولاً أم غائطاً أم غيرها من النجاسات، وقد دلت أحاديث كثيرة على اعتبار التطهير بغير الماء، أسوق منها: تطهير ذيل المرأة، وتطهير النعل، وتطهير دم الحيض، وغيرها من النجاسات. (394 - 238) فقد روى أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير -يعنى ابن معاوية- ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال: وكان رجل صدق، عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ ¬

(¬1) في إسناده العلاء بن الحارث، قد اختلط، ولم يتميز لي ما سمع منه قبل الاختلاط ممن سمع منه بعد، كما أن معاوية بن صالح صدوق له أوهام، وقد تفرد به عن العلاء، وقد ضعف الحافظ في التلخيص (1/ 117). والحديث أخرجه ابن الجارود (7)، والخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/ 111)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 411)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (9/ 412) من طريق معاوية بن صالح به.

قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى. قال: فهذه بهذه (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). (395 - 239) ومنها ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم ¬

(¬1) المسند (6/ 435). (¬2) والجهالة بالصحابية لاتضر. وله شاهد من حديث أم سلمة أخرجه مالك (1/ 24)، والشافعي في المسند (ص 50)، وأحمد (6/ 290)، وأبو يعلى (6925،6981)، وأبو داود (383)، والترمذي (143)، وابن ماجه (531)، والدارمي (742)، والمنتقى لابن الجارود (142)، والمعجم الكبير للطبراني (23/ 359) من طريق محمد بن إبراهيم التيمي، عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة، فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر، فقالت أم سلمة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطهره ما بعده. وفي السند جهالة أم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. لم يرو عنها إلا محمد بن إبراهيم التيمي. فهي مجهولة عيناً. وقال ابن حجر في التقريب: مقبولة. يعني: حيث توبعت، وإلا فحديثها فيه لين. وذكر أن اسمها حميدة، ولم يجزم بذلك. وكأن ابن حجر اعتبر جهالتها جهالة حال، ولعل السبب في ذلك أنها من التابعين وأن مالكاً قد أخرج الحديث في كتابه الموطأ، وقال الفسوي في المعرفة (1/ 349): " ومن كان من أهل العلم، ونصح نفسه علم أن كل من ذكره مالك في موطئه، وأظهر اسمه ثقة تقوم به الحجة ". انتهى وهذا الكلام قد يكون مقبولاً في الجملة، على أن الحديث له شاهد صحيح قد سقته أولاً. والله أعلم.

المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المسند (3/ 20، 92). (¬2) أبو نعامة، ثقة. روى له مسلم. وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لا بأس به. انظر الجرح والتعديل (6/ 41). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 155). وأبو نضرة العبدي. روى له مسلم. وقال أحمد: ما علمت إلا خيراً. ووثقه يحيى بن معين، وأبو زرعة. انظر الجرح والتعديل: (10/ 268). ووثقه النسائي كما في لسان الميزان (7/ 398). وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، كثير الحديث، وليس كل أحد يحتج به. انظر الطبقات الكبرى (7/ 208). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 420) وقال: كان من فصحاء الناس، فلج في آخر عمره، وكان ممن يخطي. واعتمد الذهبي كلام ابن حبان، فقال في الكاشف (6532): " فصيح بليغ مفوه ثقة يخطي. وفي التقريب ثقة. وباقي رجاله مشهورون. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه الدارمي (1378)، وأبو يعلى (1194)، والبيهقي في السنن (2/ 402) من طرق عن حماد بن سلمة به. وصححه الحاكم (1/ 260) ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو داود (650) من طريق حماد بن زيد، عن أبي نعامة به. ولعله خطأ؛ فإني لم أقف على أبي نعامة من شيوخ حماد بن زيد. والله أعلم. أما حديث أبي هريرة عند أبي داود (385): " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور " فإنه حديث ضعيف قد اضطرب إسناده على الأوزاعي، وعلى سعيد بن أبي سعيد. فالأوزاعي تارة يرويه عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري. =

(396 - 240) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قال بريقها فقصعته بظفرها (¬1). ومن النظر: أن النجاسة عين خبيثة لها طعم، أو لون، أو رائحة. والمطلوب هو إزالة كل ذلك، فإذا ذهب طعمها، ولونها ورائحتها بأي مزيل زال حكمها، وأصبح المحل طاهراً، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. هذا ما وقفت عليه من أدلة كل قول، والحق أن غسل الأنثيين لا يثبت الأمر فيه، وأحاديث الصحيحين ليس فيها غسل الأنثيين، وأما هل تكفي الحجارة أم لا؟ الحديث نص على الماء، فمن عمل به، فهو أسعد بالدليل، ومن طهره بغيره، فالقياس جوازه، والله أعلم. ¬

= وتارة يرويه منقطعاً، فيقول: نبئت أن سعيد بن أبي سعيد كما عند أبي داود (386). وتارة يرويه متصلاً دون واسطة عن سعيد بن أبي سعيد كما عند ابن حبان (1403). وتارة يرويه عن محمد بن الوليد، عن سعيد بن أبي سعيد. ويجعله من مسند عائشة. كما عند أبي داود (1403). واختلف فيه أيضاً على سعيد بن أبي سعيد، فتارة يرويه عن أبيه، عن أبي هريرة. وتارة يرويه عن القعقاع بن حكيم، عن عائشة. كما في سنن أبي داود (386،387). قال ابن عبد البر في التمهيد (13/ 103):" حديث مضطرب الإسناد، لا يثبت، اختلف في إسناده على الأوزاعي، وعلى سعيد بن أبي سعيد اختلافاً يسقط الاحتجاج به " اهـ، فيكفي الاحتجاج بحديث أبي سعيد. (¬1) صحيح البخاري (312).

الفصل الثالث في الاستنجاء من الودي

الفصل الثالث في الاستنجاء من الودي الودي نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: طاهر، وهو رواية عن أحمد (¬2). وعلى القول بنجاسته، فهل يجب الماء في الاستنجاء منه، أم يكفي فيه الحجارة؟ اختلف الفقهاء، فقيل: يجب منه ما يجب من البول. وهو قول الجمهور (¬3). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 60)، وحكى الحطاب من المالكية في مواهب الجليل (1/ 104) أن شاس نقل الإجماع على نجاسة الودي. اهـ وانظر الخرشي (1/ 92)، حاشية الدسوقي (1/ 56). وقال الشافعي في الأم (1/ 72): كل ما خرج من ذكر من رطوبة بول، أو مذي، أو ودي، أو ما لا يعرف، أو يعرف، فهو نجس كله ما خلا المني. اهـ بل قال النووي في المجموع (2/ 571): أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي. اهـ وانظر الفروع (1/ 248)، الإنصاف (1/ 341)، كشاف القناع (1/ 193). (¬2) المبدع (1/ 249)، الإنصاف (1/ 341). (¬3) قال مالك في المدونة (1/ 121): قال مالك: المذي عندنا أشد من الودي؛ لأن الفرج يغسل عندنا من المذي، والودي عندنا بمنزلة البول. اهـ واختلف أصحاب مالك في فهم عبارة إمامهم: فقيل: يحتمل قول مالك المذي أشد من الودي، أنه يجب غسل الذكر كله، بخلاف الودي، فيغسل رأس الحشفة منه. وقال بعضهم: معنى المذي أشد من الودي؛ لأن الودي يستنجى منه بالأحجار، والمذي لا بد من غسله. انظر التمهيد لابن عبد البر (21/ 205)، الخرشي (1/ 149). قال في الفواكه الدواني (1/ 112): وأما الودي فهو ماء أبيض خاثر يخرج بأثر البول

وقيل: لا بد من الماء في إزالته، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول في ¬

= يجب منه ما يجب من البول. قال النفرواي في شرح هذه العبارة: يجب منه ما يجب من البول: أي إنما يغسل منه محل الأذى فقط، ويجزي فيه الاستجمار بالحجر كالبول. وقال في حاشية العدوي (1/ 133) في شرح عبارة: " يجب منه ما يجب من البول" قال: غسل محله، أو الاستجمار بالحجر، فلا يتعين الغسل بالماء. اهـ وفي مذهب الشافعية، قال في المهذب (1/ 47): وأما الودي فهو نجس، لما ذكرت من العلة، ولأنه يخرج مع البول فكان حكمه حكمه. اهـ وانظر المجموع (2/ 571)، والإقناع للشربيني (1/ 55)، تحفة المحتاج (1/ 181)، حاشية الجمل (1/ 97). وقال في مغني المحتاج (1/ 160): ويجب الاستنجاء: إزالة للنجاسة من كل خارج ملوث، ولو نادراً كدم ومذي وودي، لا على الفور بل عند الحاجة إليه، (بماء) على الأصل في إزالة النجاسة (أو حجر). اهـ وانظر في مذهب الحنابلة: قال ابن تيمية في شرح العمدة (1/ 156): اذا لم تتعد النجاسة موضع الحاجة فإنه يجزئه الاستجمار اذا انقى واكمل العدد، سواء في ذلك جميع ما يستنجى منه من البول والمذي والودي والدم وغير ذلك. اهـ وقال ابن قدامة في الكافي (1/ 86): والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، حكمه حكم البول؛ لأنه في معناه. اهـ وقال في المغني (1/ 413): أما الودي: فهو ماء أبيض يخرج عقيب البول خاثر، فحكمه حكم البول سواء؛ لأنه خارج من مخرج البول، وجار مجراه. اهـ (¬1) سبق في القول الأول مذهب المالكية، وأن أصحاب مالك اختلفوا في تفسير عبارة إمامهم: المذي أشد من الودي على قولين: الأول: المذي يجب منه غسل الذكر كله، والودي يجب غسل رأس الحشفة، وعلى هذا التفسير يجب غسل رأس الحشفة بالماء من الودي. والثاني: قالوا: إن الودي يستنجى منه بالأحجار، والمذي يجب فيه الماء. انظر الخرشي (1/ 149)، والتمهيد لابن عبد البر (21/ 205).

دليل من قال: يتعين الماء

مذهب الشافعية (¬1). دليل من قال: يتعين الماء. الدليل الأول: (397 - 241) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركين، عن حصين بن قبيصة الفزاري، عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكانت تحتي بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أستحي أن أسأله، فأمرت رجلاً فسأله فقال: إذا رأيت المذي فتوضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت الودي فضخ الماء فاغتسل (¬2). [رجاله ثقات إلا أن ذكر الودي فيه غير محفوظ] (¬3). ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (1/ 144): إذا كان الخارج نادراً كالدم والقيح والودي والمذي وشبهها فهل يجزئه الحجر؟ فيه طريقان: الصحيح منهما - وبه قطع العراقيون أنه على قولين: أصحهما يجزئه الحجر، نص عليه في المختصر وحرملة؛ لأن الحاجة تدعو إليه، والاستنجاء رخصة، والرخص تأتي لمعنى ثم لا يلزم وجود ذلك المعنى في جميع صورها كالقصر وأشباهه. وانظر المهذب (1/ 29). القول الثاني: يتعين الماء. (¬2) المصنف (1/ 89). (¬3) وأخشى أن تكون لفظة الودي تحرفت عن المني، فتكون العبارة وإذا رأيت المني فضخ الماء فاغتسل، خاصة أن الودي مجمع على أنه لا يوجب الغسل، ولا يوجب الغسل شيء سوى المني، وقد وقفت على رواية أبي بكر بن أبي شيبة من رواية ابن بشكوال في غوامض الأسماء المبهمة (2/ 513) فقد روى الحديث من طريق ابن أبي شيبة، وقال: وإذا رأيت نضح الماء فاغتسل. وهذا أرجح. وقد اختلف فيه على زائدة بن قدامة: فرواه عنه حسين بن علي بزيادة ذكر الودي أو المني على الخلاف السابق.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (398 - 242) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: المني والودي والمذي، فأما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما الوضوء، ويغسل ذكره (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). دليل من قال: يكفي فيه الاستجمار. ذكرنا أدلتهم في باب الخلاف في الاستنجاء من المذي، فارجع إليها إن شئت، فلا داعي لإعادتها هنا، والله أعلم. دليل من قال: إن الودي طاهر. قالوا: لا نعلم في الكتاب، ولا في السنة المرفوعة نصاً بأن الودي نجس، وإذا كان كذلك فالأصل طهارته، ولا يكفي في كونه يخرج من من مخرج البول حتى يعطى حكمه، فهذا المني يخرج من نفس المخرج، ومع ذلك فهو طاهر، وإذا كان يخرج عقب البول، كان الاستنجاء منه بسبب البول، لا ¬

= ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (144). ورواه البخاري (269) وابن حزم في المحلى (1/ 106) من طريق أبي الوليد الطيالسي. ورواه أحمد (1/ 125) وأبو يعلى الموصلي (352) عن عبد الرحمن بن مهدي. ورواه الطحاوي (1/ 46) من طريق عبد الله بن رجاء كلهم رووه عن زائدة به، بذكر الوضوء وغسل الذكر، ولم يتعرضوا للودي ولا للمني. وتابع أبو بكر بن عياش زائدة كما في صحيح ابن خزيمة (18) ولم يذكر إلا الوضوء (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 89) رقم 984. (¬2) وسبق تخريجه.

بسببه. قلت: لا شك أن أكثر الأقوال على أن الودي يخرج عقب البول، لكن قال بعض الفقهاء أن خروج الودي بعد البول غالب لا دائم، فقد يخرج بعد حمل شيء ثقيل، وقد يخرج وحده بلا سبب (¬1). ¬

(¬1) قال في حاشية ابن عابدين (1/ 165): الودي ماء ثخين أبيض كدر، يخرج عقب البول. وقال في الفتاوى الهندية (1/ 10): الودي بول غليظ. وقيل: ماء يخرج بعد الاغتسال من الجماع وبعد البول. كذا في التبيين. اهـ وقال في شرح خليل (1/ 152): واعلم أن ودي المرأة يخرج أيضا بأثر البول إلا أنه حينئذ لا حكم له نعم يكون ناقضا فيما إذا خرج بأثر سلس بول، أو خرج عند حمل شيء ثقيل. اهـ وقال في المهذب (1/ 29): الودي يخرج مع البول، فتعقبه النووي في المجموع (2/ 571)، وقال: الأجود أن يقال: عقبه. أي عقب البول. وقال نحوه في مطالب أولي النهى (1/ 234).

الفصل الرابع في الاستنجاء من المني

الفصل الرابع في الاستنجاء من المني اختلف العلماء في الاستنجاء من المني لاختلافهم في طهارته. فقيل: يستنجي منه إن كان رطباً بكل مائع مزيل (¬1)، ولا يكفي الاستجمار بالحجارة، وإن كان يابساً ففيه قولان في مذهب الحنفية: فقيل: يكفي فركه، اختاره الكرخي من الحنفية. وقيل: لا يكفي بل لا بد من غسله، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬2). ¬

(¬1) وإنما قلت المائع، ولم أقل الماء؛ لأن الحنفية يرون أن النجاسة تزال بكل مائع، بخلاف الحدث فيشترط الماء، قال الزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 70): " وأما الثاني: وهو ما يطهر به النجس، فبكل مائع يمكن إزالته كالخل ونحوه. اهـ وقال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 83): وأما ما سوى الماء من المائعات الطاهرة، فلا خلاف في أنه لا تحصل به الطهارة الحكمية: وهي زوال الحدث. وهل تحصل به الطهارة الحقيقية، وهي إزالة النجاسة عن الثوب والبدن، اختلف فيه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف تحصل. وقال محمد وزفر والشافعي: لا تحصل. الخ كلامه. (¬2) قال في بدائع الصنائع (1/ 84): وإن جف -يعني: المني- فهل يطهر بالحت؟ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يطهر. وذكر الكرخي أنه يطهر. وجه رواية الحسن أن القياس أن لا يطهر في الثوب إلا بالغسل، وإنما عرفناه بالحديث. وأنه ورد في الثوب بالفرك، فبقي البدن مع أنه لا يحتمل الفرك على أصل القياس. وجه قول الكرخي: أن النص الوارد في الثوب يكون وارداً في البدن من طريق الأولى؛ لأن البدن أقل تشرباً من الثوب، والحت في البدن يعمل عمل الفرك في الثوب في إزالة العين. انظر المبسوط (1/ 81)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 32)، شرح معاني الآثار (1/ 53)، البحر الرائق (1/ 235،236). =

وقيل: يتعين الماء وحده، ولا يجزئ الفرك، اختاره أبو يوسف من الحنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2). ¬

= وقال في الدر المختار (1/ 312): ويطهر مني يابس بفرك إن طهر رأس حشفة كأن كان مستنجياً بماء. اهـ قال ابن عابدين في حاشيته شرحاً لهذا النص: " قوله: إن طهر رأس حشفة. قيل: هو مقيد أيضاً بما إذا لم يسبقه مذي، فإن سبقه فلا يطهر إلا بالغسل. وعن هذا قال شمس الأئمة الحلواني: مسألة المني مشكلة؛ لأن كل فحل يمذي ثم يمني إلا أن يقال: إنه مغلوب بالمني، مستهلك فيه، فيجعل تبعاً. وهذا ظاهر، فإنه إذا كان كل فحل كذلك، وقد طهره الشرع بالفرك يابساً يلزم أنه اعتبر مستهلكاً للضرورة، بخلاف ما إذا بال فلم يستنج حتى أمنى لعدم الملجئ. ثم قال: وقوله: كأن كان مستنجياً بماء: أي بعد البول، واحترز عن الاستنجاء بالحجر؛ لأنه مقلل للنجاسة لا قالع لها. اهـ وعليه فمذهب الحنفية يكفي فرك المني من رأس الحشفة بشرط أن يكون قد استنجى بماء، فإن كان استنجاؤه بحجر، فيجب غسل المني. والله أعلم. (¬1) قال في تبيين الحقائق (1/ 70): وعن أبي يوسف أنه لا يجوز تطهير البدن إلا بالماء؛ لأنها نجاسة يجب إزالتها فلا يجوز بغير الماء كالحدث. اهـ وقال في بدائع الصنائع (1/ 83): وروي عن أبي يوسف أنه فرق بين الثوب والبدن، فقال في الثوب تحصل - يعني: الطهارة بكل مائع مزيل- وقال في البدن: لا تحصل إلا بالماء. اهـ وفيه قول ثان عن أبي يوسف كقول أبي حنيفة، والله أعلم. (¬2) قال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 113): ولا يجزئ عند مالك وأصحابه في المني ولا في سائر النجاسات إلا الغسل بالماء، ولا يجزئ فيه عنده الفرك، وأنكره، ولم يعرفه. اهـ وقال في القوانين الفقهية (ص: 41): لا يجوز الاستجمار -يعني: بالحجارة- من المني ولا من المذي، ولا إن تعدت النجاسة المخرجين أو ما قرب منهما. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/ 111)، مواهب الجليل (1/ 284)، مختصر خليل (ص: 15)، التاج والإكليل =

دليل من قال يستنجى من المني، وأنه نجس

وقيل: لا يستنجي منه بناء على أن المني طاهر، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، ورجحه ابن حزم (¬3). دليل من قال يستنجى من المني، وأنه نجس. الدليل الأول: (399 - 243) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ¬

= (1/ 284،285)، المفهم للقرطبي (1/ 548)، والمدونة (1/ 128)، المنتقى شرح الموطا (1/ 103). (¬1) قال النووي في المجموع (1/ 146): والمني طاهر لا يجب الاستنجاء منه، وهو محمول على من خرج منه مني، ولم يخرج غيره، وصلى بالتيمم لمرض، أو فقد الماء فإنه تصح صلاته ولا إعادة، كما ذكرنا في دم الحيض، أما إذا اغتسل من الجنابة فلا بد من غسل رأس الذكر، والله أعلم. اهـ (¬2) انظر مسائل أحمد رواية أبي داود (1/ 32) رقم 148،149،150. وقال أحمد في مسائله رواية صالح (3/ 46): قلت لأبي الفراش يصيبه المني، يبسط عليه؟ فقال: المني شيء آخر، وسهل في المني جداً، وقال: أين المني من البول، البول شديد، والمني يفرك، وقد جاء أنه بمنزلة المخاط، يقوله ابن عباس. اهـ وانظر مسائل أحمد رواية ابن هانئ (1/ 25)، ورواية عبد الله (1/ 49) رقم 52. ومسائل أحمد وإسحاق (1/ 157،192،247). وعن أحمد ثلاث روايات في المني: الأولى: أنه طاهر، قال في المغني: وهو المشهور. الثانية: أنه نجس كالدم، ويعفي عن يسيره. الثالثة: أنه لا يعفى عن يسيره، ويجزئ فرك يابسه من الرجل والمرأة. وقيل: من الرجل دون المرأة. انظر المغني (1/ 416)، الإنصاف (1/ 340،341). (¬3) قال في المحلى (1/ 134) مسألة: 131: المني طاهر في الماء كان أو في الجسد أو الثوب لا تجب إزالته، والبصاق مثله ولا فرق. اهـ

الدليل الثاني

ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري ومسلم واللفظ للأول (¬1). قال ابن تيمية: الاستنجاء من المني فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على الدوام، ولا أعلم إخلالهم به بحال (¬2). الدليل الثاني: الأدلة الدالة على نجاسة المني، وإذا كان نجساً كان الاستنجاء منه مشروعاً، ومن هذه الأدلة. (400 - 244) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، ¬

(¬1) صحيح البخاري (260)، ومسلم (317). (¬2) شرح العمدة (1/ 162)، وقال أيضاً في مجموع الفتاوى (21/ 594): الاستنجاء منه مستحب كما يستحب إماطته من الثوب والبدن، وقد قيل: هو واجب، كما قد قيل: يجب غسل الأنثيين من المذي، وكما يجب غسل أعضاء الوضوء إذا خرج الخارج من الفرج، فهذا كله طهارة وجبت لخارج، وإن لم يكن المقصود بها إماطته وتنجيسه بل سبب آخر، كما يغسل منه سائر البدن، فالحاصل أن سبب الاستنجاء منه ليس هو النجاسة بل سبب آخر، فقولهم: يوجب طهارة الخبث وصف ممنوع في الفرع، فليس غسله من الفرج للخبث، وليست الطهارات منحصرة في ذلك كغسل اليد عن القيام من نوم الليل، وغسل الميت والأغسال المستحبة، وغسل الأنثيين، وغير ذلك فهذه الطهارة إن قيل بوجوبها، فهي من القسم الثالث، فيبطل قياسه على البول؛ لفساد الوصف الجامع. اهـ

فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

(¬1) مسند أبي يعلى (1611). (¬2) في إسناده ثابت بن حماد، قال الدارقطني: ثابت بن حماد ضعيف جداً. سنن الدارقطني (1/ 127). وقال ابن عدي بعد أن ساق له جملة من أحاديثه التي يخالف فيها: وثابت بن حماد له غير هذه الأحاديث أحاديث يخالف فيها وفي أسانيدها الثقات، وأحاديثه مناكير ومقلوبات. الكامل (2/ 98). وقال العقيلي: حديثه غير محفوظ، مجهول بالنقل. الضعفاء الكبير (1/ 176). وقال البيهقي: هذا باطل لا أصل له، وإنما رواه ثابت بن حماد، عن علي بن زيد، عن ابن المسيب، عن عمار، وعلي بن زيد غير محتج به، وثابت بن حماد متهم بالوضع. سنن البيهقي (1/ 14). وقال أبو الخطاب: ذكر هبة الله الطبري أنه يرويه ثابت بن حماد، وأن أهل النقل أجمعوا على ترك حديثه. الانتصار (1/ 102). وأخرج البزار الحديث، فقال كما في كشف الأستار (248): حدثنا يوسف بن موسى، ثنا إبراهيم بن زكريا، ثنا ثابت بن حماد، وكان ثقة، عن علي بن زيد به. فقوله: وكان ثقة، يحتمل أن القائل هو البزار، ويحتمل أن القائل هو إبراهيم بن زكريا، فإن كان البزار، فقد خالف في حكمه هذا كلاً من الدارقطني والعقيلي وابن عدي والبيهقي، وابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 314) وهبة الله الطبري اللالكائي، فقولهم مقدم على قول البزار. وإن كان القائل هو إبراهيم بن زكريا، فإن إبراهيم نفسه ضعيف، ضعفه الدارقطني =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وغيره. وقال ابن تيمية: هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، نقله عنه ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 314). وقال أيضاً في مجموع الفتاوى (21/ 594): أما حديث عمار بن ياسر، فلا أصل له. اهـ تخريج الحديث: الحديث أخرجه أبو يعلى كما في إسناد الباب والطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (513)، والعقيلي في الضعفاء (1/ 176)، وابن عدي في الكامل (2/ 98) من طريق محمد بن أبي بكر. وأخرجه ابن عدي أيضاً (2/ 98) من طريق إبراهيم بن عرعرة، كلاهما عن ثابت بن حماد أبي زيد به. ورواه إبراهيم بن زكريا، واختلف عليه: فرواه الدارقطني (1/ 127) من طريق محمد بن شوكر بن رافع الطوسي. والبزار كما في كشف الأستار (248): حدثنا يوسف بن موسى، كلاهما عن إبراهيم بن زكريا، عن ثابت بن حماد به، كرواية محمد بن أبي بكر وإبراهيم بن عرعرة. ورواه الطبراني في المعجم الكبير كما في نصب الراية (1/ 211) ومسند عمار لعله في المفقود من المعجم الكبير رواه من طريق علي بن بحر، ثنا إبراهيم بن زكريا، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد به سنداً ومتناً. وهذا الاختلاف من إبراهيم بن زكريا، وهو ضعيف، وزيادة حماد بن سلمة وهم منه، على أن رواية البزار ليس فيها ذكر المني. وقد حاول الزيلعي في نصب الراية أن يقوي حديث ثابت بن حماد بمتابعة إبراهيم بن زكريا، فقال (1/ 210): وجدت له متابعاً عند الطبراني رواه في معجمه الكبير من حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد به سنداً ومتناً، وبقية الإسناد حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا علي بن بحر، ثنا إبراهيم بن زكريا العجلي، ثنا حماد بن سلمة به. واعلم أني وجدت الحديث في نسختين صحيحتين من مسند البزار من رواية ثابت بن حماد، وليس فيه المني، وإنما قال: إنما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم. انتهى. قال =

(401 - 245) ومنها أيضاً ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريباً من بعض المياه، فاحتلم عمر، وقد كاد أن يصبح فلم يجد مع الركب ماء، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال عمر بن الخطاب: واعجباً لك يا عمرو بن العاصي، لئن كنت تجد ¬

_ = البزار: وثابت بن حماد كان ثقة، ولا يعرف أنه روى غير هذا الحديث. انتهى نقل البزار ذلك عن شيخ شيخه إبراهيم بن زكريا. وقال البيهقي في سننه الكبرى في باب التطهير بالماء دون المائعات: وأما حديث عمار بن ياسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا عمار ما نخامتك إلى آخره فهو باطل لا أصل له، إنما رواه ثابت بن حماد، عن علي بن زيد، عن ابن المسيب، عن عمار، وعلي بن زيد غير محتج به، وثابت بن حماد متهم بالوضع. انتهى ثم قال: وقال شيخنا علاء الدين -يعني: ابن التركماني- ما رأيت أحداً بعد الكشف التام جعله متهماً بالوضع غير البيهقي، وقد ذكره في كتاب المعرفة في الحديث، ولم ينسبه إلى الوضع، وانما حكى فيه قول الدارقطني وقول ابن عدي المتقدمين، والله اعلم. والحق أن الحديث لو لم يختلف فيه على إبراهيم بن زكريا، لكان الحديث ضعيفاً، ولا تنفعه متابعة حماد بن سلمة، لأن علته حينئذٍ تكون من إبراهيم نفسه، ومن علي بن زيد، فكيف وقد اختلف فيه إلى إبراهيم بن زكريا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد ذكر الدراقطني والبيهقي وابن عدي وكلهم من الحفاظ ذوي الاستقراء، نصوا على أن ثابت بن حماد تفرد به، فهذا دليل على أن طريق حماد بن سلمة وهم، والله أعلم. قال الحافظ في التلخيص (1/ 44): رواه البزار والطبراني من طريق إبراهيم بن زكريا، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، ولكن إبراهيم ضعيف، وقد غلط فيه، إنما يرويه ثابت بن حماد. اهـ

ثياباً أفكل الناس يجد ثياباً، والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر (¬1). [إسناده منقطع] (¬2). وجه الاستدلال: قال الباجي: قوله " فجعل يغسل ما رأى من الاحتلام حتى أسفر" يريد أنه تتبع ما كان في ثوبه من المني حتى أسفر الصبح، رأى أن تطهير ثوبه الذي هو فرض، أولى من مبادرة أول الوقت الذي هو أفضل، وهذا يدل على نجاسة المني؛ لأن اشتغاله به وتتبعه له حتى ذهب أكثر الوقت وخيف عليه من ضيقه، وأنكر عليه عمرو بن العاص التأخير، وأمره باستبدال ثوب دليل على نجاسة الثوب عندهم، ولو لم يكن نجساً عندهم لما اشتغل عمر بغسله، ولو اشتغل به لقيل له: تشتغل عن الصلاة بإزالة ما لم تلزم إزالته (¬3). (402 - 246) ومنها ما استدل به فقهاء الحنفية مما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعائشة: إذا وجدت المني رطباً فاغسليه، وإذا وجدته يابساً فحتيه. [لا أصل له] (¬4). ¬

(¬1) الموطأ (1/ 50). (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 226): يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب، قال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل، وكذا قاله غير ابن معين. الخ كلامه رحمه الله. (¬3) المنتقى (1/ 103). (¬4) لم أقف عليه مسنداً في كتب السنة، وقد قال ابن الجوزي في التحقيق (1/ 107): هذا الحديث لا يعرف، وإنما المنقول أنها هي كانت تفعل ذلك من غير أن يكون أمرها. وقال الحافظ في الدراية في تخريج أحاديث الهداية (1/ 91): لم أجده بهذه السياقة. اهـ =

(403 - 247) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا عمرو بن ميمون الجزري، عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه. ورواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: إن غسل المني دليل على نجاسته، لأن الطاهر لا يطهر، ولا يقال: إن غسله للنظافة؛ لأن الأصل في الغسل أنه للنجاسة، إذ هي المأمور بغسلها. وتعقب هذا: بأن عائشة رضي الله عنها كانت تفركه يابساً، ولا تغسله، فلو كان نجساً لما اكتفت بفركه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا مجرد فعل من عائشة، وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجرد لا يدل على الوجوب، فكيف بفعل غيره، ثم إن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق وكل ما يستقذر، ولا يكون هذا كافياً في الدلالة على نجاسته. الدليل الخامس: (404 - 248) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا خالد بن عبد الله، عن خالد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، أن رجلاً نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ¬

= وقال في التلخيص (1/ 33): وأما الأمر بغسله فلا أصله له. (¬1) البخاري (229)، ومسلم (288).

الدليل الثالث

ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً فيصلي فيه. وجه الاستدلال: قال القرطبي: وهذا من عائشة يدل على أن المني نجس، وأنه لا يجزئ فيه إلا غسله، فإنها قالت: إنما: وهي من حروف الحصر، ويؤيد هذا ويوضحه قولها: فإن لم تر نضحت حوله، فإن النضح إنما مشروعيته حيث تحققت النجاسة، وشك في الإصابة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث أصبح يغسل جنابة من ثوبه، فقال: أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر (¬1). فإن قيل: ألم تقل: ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، فيصلي فيه، ألا يدل هذا على طهارته؟ قيل: لا يدل؛ لأن النجاسة تزال بأي مزيل، والفرك في حق النجاسة اليابسة كاف في تطهيرها، كما كانت طهارة النعل بدلكه في الأرض، وسنذكره إن شاء الله مخرجاً في أدلة القول الثاني. الدليل الثالث: قالوا: إن المني فضلة مستحيلة عن الغذاء، يخرج من مخرج البول، فكانت نجسة كالبول، ولا يرد علينا البصاق والمخاط والدمع والعرق؛ لأنها لا تخرج من مخرج البول (¬2). وأجيب: بأن حكمك بالنجاسة إما أن يكون للاستحالة عن الغذاء، أو للخروج من مخرج البول، أو لمجموع الأمرين: ¬

(¬1) المفهم (1/ 548). (¬2) بدائع الفوائد (3/ 640).

الدليل الرابع

فالأول باطل؛ إذ مجرد استحالة الفضله عن الغذاء لا يوجب الحكم بنجاستها، كالدمع والمخاط والبصاق. وإن كان لخروجه من مخرج البول، فهذا إنما يفيدك أنه متنجس لنجاسة مجراه، لا أنه نجس العين كما هو أحد الأقوال فيه، وهو فاسد؛ فإن المجرى والمقر الباطن لا يحكم عليه بالنجاسة، وإنما يحكم بالنجاسةبعد الخروج والانفصال، ويحكم بنجاسة المنفصل لخبثه وعينه لا لمجراه ومقره، وقد علم بهذا بطلان الاستناد إلى مجموع الأمرين، والذي يوضح هذا أنا رأينا الفضلات المستحلة عن الغذاء تنقسم إلى: طاهر: كالبصاق والعرق والمخاط. ونجس: كالبول والغائط، فدل على أن جهة الاستحالة غير مقتضية للنجاسة، ورأينا أن النجاسة دارت مع الخبث وجودا وعدماً فالبول والغائط ذاتان خبيثتان منتنتان مؤذيتان متميزتان عن سائر فضلات الآدمى بزيادة الخبث والنتن والاستقذار، تنفر منهما النفوس، وتنأى عنهما وتباعدهما عنها أقصى ما يمكن، فلا يحلق المني بالبول والغائط بل يحلق بالمخاط والبصاق (¬1). الدليل الرابع: قالوا: إن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة كالبول والغائط والمذي. والمني من الأحدث الموجبة للطهارة، فيكون نجساً. وأجيب: لا نسلم أن الأحداث الموجبة للطهارة كلها نجسة، فأكل لحم الإبل حدث على الصحيح يوجب الطهارة، وهو ليس نجساً. ¬

(¬1) المرجع السابق.

الدليل الخامس

ومس الفرج على الصحيح حدث، ولم يكن ثمة نجاسة، بل لو مس بولاً أو غائطاً لم ينتقض وضوؤه، بخلاف ما لو مس ذكره. والريح طاهرة، ومع ذلك هي حدث إجماعاً، ولم يوجب كونها حدثاً أن يستنجى منها، ولا أن تغسل الثياب والأبدان بسببها. وهذا الجماع الخالي من الإنزال يتطهر منه، ولم يدل على حصول نجاسة. قال الشافعي رحمه الله: أرأيت الرجل إذا غيب ذكره في الفرج الحلال، ولم يأت منه ماء، فأوجبت عليه الغسل، وليست في الفرج نجاسة، وإن غيب ذكره في دم خنزير أو خمر أو عذرة، وذلك كله نجس، أيجب عليه الغسل؟ فإن قال: لا. قيل: فالغسل، إن كان إنما يجب من نجاسة كان هذا أولى أن يجب عليه الغسل مرات ومرات من الذي غيبه في حلال نظيف، ولو كان يكون لقذر ما يخرج منه كان الخلاء والبول أقذر منه، ثم ليس يجب عليه غسل موضعهما الذي خرجا منه، ويكفيه من ذلك المسح بالحجارة، الخ كلامه رحمه الله (¬1). فدل على إن إيجاب الغسل ليس معناه نجاسة المني، وإلا لوجب الغسل من البول والغائط، للإجماع على نجاستهما. الدليل الخامس: قالوا: إن المني خارج من أحد السبيلين، فكان نجساً كسائر النجاسات من البول والغائط والمذي والودي. ألا ترى أن الفضلات الخارجة من أعالي البدن ليست نجسة، وفي أسافله ¬

(¬1) الأم (1/ 56).

الدليل السادس

تكون نجسة. وأجيب: بأن قياسه على جميع الخارجات بجامع إشتراكهن في المخرج ليس دليلا شرعياً، وهو منقوض بالدبر، فإنه مخرج الريح الطاهر، ومخرج الغائط النجس، وبالفم فانه مخرج النخامة والبصاق الطاهرين، ومخرج القيء النجس على قول. الدليل السادس: قياس المني على المذي، فالمني من جنس المذي؛ وذلك أن المذي يخرج عند مقدمات الشهوة، والمني يخرج عند استكمالها. قال الباجي: دليلنا من جهة القياس أنه مائع تثيره الشهوة، فوجب أن يكون نجساً كالمذي (¬1). وأجيب: بأن المني غير المذي، فالأول يتكون منه الولد الذي هو أصل الإنسان، والمذي بخلافه، ألا ترى أن عدم الإمناء عيب، وكثرة الإمذاء ربما كانت مرضاً، وكون الجامع بين المني والمذي هو الشهوة قياس لا يصح؛ وذلك لأن الشهوة ليست هي مناط التنجيس حتى تكون علة في إلحاق الفرع بالأصل. قال ابن القيم: المني والمذي هما حقيقتان مختلفتان في الماهية والصفات والعوارض والرائحة والطبيعة فدعوى أن المذي مبدأ المني، وأنه مني لم تستحكم طبخه دعوى مجردة عن دليل نقلي وعقلي وحسي فلا تكون ¬

(¬1) المنتقى (1/ 103).

دليل من قال بطهارة المني

مقبولة (¬1). دليل من قال بطهارة المني. الدليل الأول: الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يقال بنجاسة شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح سالم من المعارضة، ولا دليل على نجاسة المني. الدليل الثاني: قالوا: لو كان المني نجساً لجاء الأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، خاصة أن البلوى فيه شديدة في الأبدان والثياب والفرش وغيرها، فلما لم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بغسل ما أصابهم علم أن المني طاهر، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من دم الحيض، مع أن البلوى في المني أكثر وأشد، وأمر بغسل المذي أيضاً، ولم يأمر بغسل المني، فعلم أن غسله ليس واجباً، وأن عينه ليست نجسة. الدليل الثالث: (405 - 249) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أحمد بن جواس الحنفي أبو عاصم، حدثنا أبو الأحوص، عن شبيب بن غرقدة، عن عبد الله بن شهاب الخولاني، قال: كنت نازلاً على عائشة، فاحتلمت في ثوبي، فغمستهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة، فأخبرتها، فبعثت إلي عائشة، فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك. قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه. قالت: هل رأيت فيهما شيئاً. قلت: لا. ¬

(¬1) بدائع الفوائد (3/ 639).

قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابساً بظفري. وجه الاستدلال: أن عائشة كانت تفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، وهذا دليل على طهارته؛ إذ لو كان نجساً لوجب غسله كسائر النجاسات. وأجيب بأجوبة منها: أولاً: ثبت في طهارة النعل الدلك بالتراب، وكان ذلك طهارة له. (406 - 250) فقد روى أحمد، قال: يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المسند (3/ 20، 92). (¬2) أبو نعامة، ثقة. روى له مسلم. وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لا بأس به. انظر الجرح والتعديل (6/ 41). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 155). وأبو نضرة العبدي. روى له مسلم. وقال أحمد: ما علمت إلا خيراً. ووثقه يحيى ابن معين، وأبو زرعة. انظر الجرح =

فإذا كان الدلك في النعل لم يدل على طهارة الأذى الذي في النعل، لم ¬

_ = والتعديل: (10/ 268). ووثقه النسائي كما في لسان الميزان (7/ 398). وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، كثير الحديث، وليس كل أحد يحتج به. انظر الطبقات الكبرى (7/ 208). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 420) وقال: كان من فصحاء الناس، فلج في آخر عمره، وكان ممن يخطي. واعتمد الذهبي كلام ابن حبان، فقال في الكاشف (6532): " فصيح بليغ مفوه ثقة يخطي. وفي التقريب ثقة. وباقي رجاله مشهورون. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه الدارمي (1378)، وأبو يعلى (1194)، والبيهقي في السنن (2/ 402) من طرق عن حماد بن سلمة به. وصححه الحاكم (1/ 260) ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو داود (650) من طريق حماد بن زيد، عن أبي نعامة به. ولعله خطأ؛ فإني لم أقف على أبي نعامة من شيوخ حماد ابن زيد. والله أعلم. أما حديث أبي هريرة عند أبي داود (385): " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور " فإنه حديث ضعيف قد اضطرب إسناده على الأوزاعي، وعلى سعيد بن أبي سعيد. فالأوزاعي تارة يرويه عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري. وتارة يرويه منقطعاً، فيقول: نبئت أن سعيد بن أبي سعيد كما عند أبي داود (386). وتارة يرويه متصلاً دون واسطة عن سعيد بن أبي سعيد كما عند ابن حبان (1403). وتارة يرويه عن محمد بن الوليد عن سعيد بن أبي سعيد. ويجعله من مسند عائشة. كما عند أبي داود (1403). واختلف فيه أيضاً على سعيد بن أبي سعيد، فتارة يرويه عن أبيه، عن أبي هريرة. وتارة يرويه عن القعقاع بن حكيم، عن عائشة. كما في سنن أبي داود (386،387). قال ابن عبد البر في التمهيد (13/ 103): " حديث مضطرب الإسناد، لا يثبت، اختلف في إسناده على الأوزاعي، وعلى سعيد بن أبي سعيد اختلافاً يسقط الاحتجاج به " اهـ فيكفي الاحتجاج بحديث أبي سعيد.

يكن دلك المني دليلاً على طهارة المني. نعم يصح الاستدلال على طهارة المني لو أن عائشة تركت المني على ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تغسله رطباً، ولم تفركه يابساً، أو اكتفت بفركه، وهو رطب، أما ما دامت تغسله رطباً، وتفركه يابساً فليس فيه دليل على طهارته، والله أعلم. ثانياً: ذكر بعض الحنفية: أن هذه الآثار إنما جاءت في ذكر ثياب ينام فيها، ولم تأت في ثياب يصلي فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوز الصلاة فيها، وأما الثياب الذي يصلي فيها فإن عائشة كانت تغسله من الثوب، فقد قالت رضي الله عنها: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه (¬1). (407 - 251) وقد روى أحمد، قال: ثنا حجاج وشعيب بن حرب قالا: ثنا ليث، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية بن خديج، عن معاوية بن أبي سفيان، أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الثوب الواحد الذي يجامعها فيه؟ قالت: نعم، إذا لم يكن فيه أذى (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

(¬1) البخاري (229)، ورواه مسلم بنحوه (228). (¬2) المسند (6/ 426). (¬3) الحديث رواه أحمد كما في إسناد الباب عن حجاج وشعيب بن حرب. وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 228) رقم 8411 وأبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (3073)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 407) عن شبابة. وأخرجه أبو داود (366) والنسائي في السنن الكبرى (287) وفي المجتبى (295) =

وقد روي عن عائشة ما يوافق ذلك، (408 - 252) فقد روى أبو داود (¬1)، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا الأشعث، عن محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق، عن ¬

= والبغوي في شرح السنة (522) من طريق عيسى بن حماد. وأخرجه ابن ماجه (540) من طريق محمد بن رمح. وأخرجه الدارمي (1376) وابن خزيمة (776) وابن حبان (2331) من طريق أبي الوليد الطيالسي. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (7126) من طريق هاشم بن القاسم. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 50) والبيهقي (2/ 410) من طريق ابن وهب، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 220) رقم 405، من طريق عبد الله بن عبد الحكم، كلهم عن الليث بن سعد به. وأخرجه أحمد (6/ 325) من طريق محمد بن إسحاق. والدرامي (1375) من طريق عبد الحميد بن جعفر. وأخرجه الطحاوي (1/ 50)، والطبراني في المعجم الكبير (20/ 220) رقم 406،408، من طريق عمرو بن الحارث، وأخرجه الطحاوي (1/ 50) من طريق ابن لهيعة وجعفر بن ربيعة، كهلم عن يزيد بن أبي حبيب به. وقال البخاري في الصلاة (1/ 465): باب وجوب الصلاة في الثياب ... ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه ما لم ير فيه أذى. قال الحافظ في الفتح (1/ 466): يشير إلى ما رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق معاوية بن أبي سفيان، أنه سأل أخته أم حبيبة، هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الثوب الذي يجامع فيه. قالت: نعم إذا لم ير فيه أذى، وهذا من الأحاديث التي تضمنتها تراجم هذا الكتاب بغير صيغة رواية حتى ولا التعليق. اهـ (¬1) سنن أبي داود (367).

عائشة قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي في شعرنا أو لحفنا ". قال عبيد الله: شك أبي. [إسناده صحيح، والمحفوظ فيه ذكر اللحاف فقط] (¬1). فثبت بما ذكرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي في الثوب الذي ينام فيه إذا أصابه شيء من الجنابة، وثبت أن ما ذكرته عائشة، من فرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو في ثوب النوم، لا في ثوب الصلاة (¬2). وأن أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلقت على المني اسم الأذى، والأذى هو ¬

(¬1) [تخريج الحديث] الحديث رواه الترمذي (600) حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا خالد بن الحارث، عن أشعث ـ هو ابن عبد الملك ـ عن محمد بن سيرين به. ورواه النسائي (5366) أخبرنا الحسن بن قزعة، عن سفيان بن حبيب ومعتمر بن سليمان، عن أشعث به. وأخرجه الحاكم (1/ 252)، والبغوي (520) من طريق معاذ بن معاذ، ثنا الأشعث به. وأخرجه البغوي (521) من طريق خالد بن الحارث عن أشعث به، وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (134) من طريق خالد بن الحارث، قال: ثنا الأشعث به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والصحيح أنه ليس على شرط واحد منهما، فإن أشعث بن عبد الملك لم يخرج له مسلم. وخرج له البخاري تعليقاً. فصار الحديث مداره على أشعث. ويرويه خالد بن الحارث، وسفيان بن حبيب، ومعتمر بن سليمان عن أشعث بذكر اللحاف فقط دون ذكر الشعار. ويرويه معاذ بن معاذ عن أشعث بالشك، يعني "قال في شعرنا أو لحفنا" وربما جمعهما دون شك. فتبين أن الراجح في الحديث ذكر اللحاف دون الشعار. (¬2) انظر شرح معاني الآثار بتصرف يسير (1/ 50).

النجس، كما قال تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} (¬1). ورد هذا الجواب: بأن حديث عائشة لفظه: كان لا يصلي في لحاف نسائه، ولم تقل: لا يصلي في ثوبه، فلا يقال: إن هذا في ثوب ينام فيه، وفرق بين كونه لا يصلي في لحاف نسائه، وبين كونه لا يصلي في ثوبه الذي ينام فيه، على أن ترك لحاف نسائه في الصلاة لا يدل على نجاسة المني، فإن لحاف المرأة قد يصيبه من دم حيضها، وهي لا تشعر، كما أن ترك الصلاة في لحاف المرأة ليس بواجب، فقد ورد أنه كان يصلي وعليه ثوب، وبعضه على بعض نسائه، وهي حائض، مع أن دم الحيض نجس إجماعاً (¬2). ¬

(¬1) البقرة: 222. (¬2) روى مسلم في صحيحه (514)، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قال زهير حدثنا وكيع، حدثنا طلحة بن يحيى، عن عبيد الله ابن عبد الله، قال: سمعته عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض وعلي مرط وعليه بعضه إلى جنبه. قال النووي في شرحه لمسلم: " وفيه جواز الصلاة بحضرة الحائض، وجواز الصلاة في ثوب بعضه على المصلي وبعضه على حائض أو غيرها ". وعليه فيكون ترك لحاف النساء مستحباً، وليس بواجب، وقد اختار هذا الشوكاني، ونقله عنه أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي (1/ 497) فقال: " كل ذلك يدل على عدم وجوب تجنب ثياب النساء، وإنما هو مندوب فقط، عملاً بالاحتياط. وبهذا يجمع بين الأحاديث" وقيل: إن ذلك مباح، وهو ما اختاره أحمد شاكر، فقال متعقباً لكلام الشوكاني: =

الدليل الرابع

وقول أم حبيبة: إذا لم يكن فيه أذى لا يدل على أن مرادها بالأذى المني لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام، فإنها إنما أخبرت بأنه يصلي في الثوب الذي يضاجعها فيه ما لم يكن فيه أذى، فلو قال قائل: بأن المراد بالأذى: دم الحيض كان أقرب. وعلى التنزل أن مرادها المني، فالأذى ليس نصاً في النجاسة، فقد قال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية} (¬1)، والأذى في الآية ليس النجس. الدليل الرابع: بأنه ورد أن النبي كان يسلت المني من ثوبه، وهو رطب، من غير غسل، وهذا يدل على طهارته؛ لأن سلت الرطب لا يزيل العين بالكلية، بخلاف ما قد يقال في فرك اليابس. (409 - 253) فقد روى أحمد، قال: حدثنا معاذ بن معاذ، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه. [إسناده حسن إن شاء الله] (¬2). ¬

= " لا دليل على الندب، لأنه لم يطلب ذلك في حديث نعلمه، وإنما كان تارة يفعل، وتارة يترك، وهو الجمع الصحيح بين الروايات، فهو أمر مباح ". (¬1) البقرة: 196. (¬2) فيه عكرمة بن عمار، تكلم في روايته عن يحيى بن أبي كثير، قال معاية بن صالح، عن يحيى بن معين: ثقة. وقال ابن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول عكرمة بن عمار صدوق ليس به بأس. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبى يقول: قال يحيى بن معين: كان عكرمة بن عمار أمياً، وكان حافظاً. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: كان صدوقاً، وربما وهم في حديثه، وربما دلس، وفى حديثه عن يحيى بن أبى كثير بعض الاغاليط. المرجع السابق. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني: كان عكرمة بن عمار عند أصحابنا ثقة ثبتاً. تهذيب الكمال (20/ 260). وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عن عكرمة بن عمار، فقال: ثقة، وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، كان أحمد بن حنبل يقدم عليه ملازم بن عمرو. المرجع السابق. وقال إسحاق بن أحمد بن خلف البخاري الحافظ: عكرمة بن عمار ثقة، روى عنه سفيان الثوري، وذكره بالفضل، وكان كثير الغلط ينفرد عن إياس بأشياء لا يشاركه فيها أحد. المرجع السابق. وقال ابن خراش: كان صدوقاً، وفي حديثه نكرة. المرجع السابق. وقال الدارقطني: ثقة. المرجع السابق. وقال وكيع: ثقة. الجرح والتعديل (7/ 10). وقال أحمد بن حنبل: عكرمة بن عمار مضطرب الحديث عن غير إياس بن سلمة، وكان حديثه عن إياس بن سلمة صالحاً، وحديثه عن يحيى بن أبى كثير مضطرباً. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب، وباقي رجال الإسناد ثقات، وقد صحح إسناده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 589). [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وابن خزيمة (294) وابن الجوزي في التحقيق (1/ 106) من طريق معاذ بن معاذ العنبري. وأخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده (1185) أخبرنا النضر بن شميل. وأخرجه ابن خزيمة (294) من طريق أبي الوليد وأبي قتيبة سلم بن قتيبة،

الدليل الخامس

الدليل الخامس: ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما صلى، وهو في ثوبه، فتحته عائشة من ثوبه، وهو في الصلاة، وهذا فيه إشارة إلى أن إزالته من باب الاستقذار، لأنه لم يكن يتفقد ثوبه قبل صلاته. (410 - 254) فقد روى ابن خزيمة، قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا إسحاق، يعني: الأزرق، قال: حدثنا محمد بن قيس، عن محارب بن دثار، عن عائشة، أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي (¬1). [رجاله ثقات]. الدليل السادس: قالوا: كل ما لا يمكن الاحتراز عن ملابسته معفو عنه، ومعلوم أن المني يصيب أبدان الناس وثيابهم وفرشهم بغير اختيارهم أكثر مما يلغ الهر في آنيتهم، فهو طواف الفضلات، بل قد يتمكن الإنسان من الاحتراز من البصاق والمخاط المصيب ثيابه، ولا يقدر على الاحتراز من مني الاحتلام والجماع، وهذه المشقة الظاهرة توجب طهارته لو كان المقتضي للتنجيس قائماً، ألا ترى أن الشارع خفف في النجاسة المعتادة فاجتزأ فيها بالجامد مع أن إيجاب الاستنجاء عند وجود الماء أهون من إيجاب غسل الثياب من المني لا ¬

= وأخرجه البيهقي (2/ 418) من طريق يزيد بن عبد الله بن يزيد بن ميمون بن مهران، كلهم عن عكرمة بن عمار به. (¬1) صحيح ابن خزيمة (290).

الدليل السابع

سيما في الشتاء في حق الفقير، ومن ليس له إلا ثوب واحد (¬1). الدليل السابع: (411 - 255) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار وابن جريج، كلاهما يخبر عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال في المني يصيب الثوب: أمطه عنك. قال أحدهما: بعود أو إذخرة، وإنما هو بمنزلة البصاق أو المخاط (¬2). [إسناده صحيح، وروي مرفوعاً ولم يصح] (¬3). الدليل الثامن: قال الشافعي في الأم: بدأ الله جل وعز خلق آدم من ماء وطين، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 592). (¬2) الأم (1/ 56)، وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 159) من طريق عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني عطاء به. (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 148) رقم 11321، والدارقطني (1/ 24) من طريق إسحاق الأزرق، نا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، عن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً. وابن جريج وعمرو بن دينار أثبت من طريق ابن أبي ليلى، فإنه من رواية شريك عن ابن أبي ليلى، وكلاهما في حفظه شيء. قال البيهقي (2/ 418): هذا صحيح عن ابن عباس من قوله، وقد روي مرفوعاً ولا يصح رفعه. وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 590): وأما رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنكر باطل لا أصل له. وقال أيضاً (21/ 591): أهل نقد الحديث والمعرفة به ليسوا يشكون في أن هذه الرواية وهم.

وجعلهما معاً طهارة، وبدأ خلق ولده من ماء دافق، فكان في ابتدائه خلق آدم من الطهارتين اللتين هما الطهارة دلالة أن لا يبدأ خلق غيره إلا من طاهر لا من نجس. وأجيب: بأن قولكم إن المنى مبدأخلق بشر، فكان طاهراً كالتراب غريب، فالتراب وضع طهوراً ومساعداً للطهور في الولوغ، ويرفع الحدث أو حكمه، فأين ما يتطهر به إلى ما يتطهر منه؟ على أن الاستحالات تعمل عملها، فأين الثواني من المبادىء، وهل الخمر إلا ابنة العنب، والمني إلا المتولد من الأغذية في المعدة ذات الإحالة لها إلى النجاسة، ثم إلى الدم، ثم إلى المني (¬1). ورد هذا الجواب: أما كون المني يتطهر منه، فقد أجبنا على هذا، وأن هذا لا يقتضي تنجيسه. وأما اعتبار الإحالة، فهذا صحيح، وهو حجة عليكم، فالاستحالة تقلب الطيب إلى خبيث، كالغذاء ينقلب إلى عذرة، وتقلب الخبيث إلى طيب، كاللبن من دم الحيض، فلو اعتبرنا الإحالة لحكمنا بطهارة المني، فإن كان المني قد استحال من الدم، فالدم على الصحيح طاهر، وسوف نذكر الخلاف فيه إن شاء الله في باب النجاسات. وإن كان قد استحال من البول والغائط، فأين الغائط النتن من المني ذو الرائحة الطيبة، فلو أعطينا الاستحالة حكمها لحكمنا بطهارة المني، والله أعلم. ¬

(¬1) بدائع الفوائد (3/ 639).

الدليل التاسع

الدليل التاسع: قالوا: إن المني مبتدأ خلق الأنبياء والرسل وبني آدم الذين كرمهم الله، فلا يليق أن يكون أصل هؤلاء نجساً. قال ابن القيم: الله تعالى أحكم من أن يجعل محال وحيه ورسالاته وقربه مبادئهم نجسة، فهو أكرم من ذلك، وأيضا فإن الله تعالى أخبر عن هذا الماء وكرر الخبر عنه في القرآن، ووصفه مرة بعد مرة، وأخبر أنه دافق يخرج من بين الصلب والترائب، وأنه استودعه في قرار مكين، ولم يكن الله تعالى ليكرر ذكر شيء كالعذرة والبول ويعيده ويبديه ويخبر بحفظه في قرار مكين، ويصفه بأحسن صفاته من الدفق وغيره، ولم يصفه بالمهانة إلا لإظهار قدرته البالغة أنه خلق من هذا الماء الضعيف هذا البشر القوي السوي، فالمهين هاهنا الضعيف، وليس هو النجس الخبيث، وأيضا فلو كان المني نجساً، وكل نجس خبيث لما جعله الله تعالى مبدأخلق الطيبين من عبادة والطيبات، ولهذا لا يتكون من البول والغائط طيب، فلقد أبعد النجعة من جعل أصول بني آدم كالبول والغائط في الخبث والنجاسة والناس إذا سبوا الرجل قالوا: أصله خبيث، وهو خبيث الأصل (¬1). وتعقب هذا الاستدلال: بأنه ليس عيباً أن يكون أصل خلق الإنسان نجساً، ولا يلحقهم عيب من ذلك، كما أن الله يجعل خواص عباده ظروفاً وأوعيةً للنجاسة كالبول والغائظ والدم والمذي ولا يكون ذلك عائداً عليهم بالعيب والذم. ¬

(¬1) المرجع السابق (3/ 640).

ورد هذا الجواب: بأن الإنسان ليس ظرفاً للنجاسة البتة، وإنما تصير الفضلة بولاً وغائطاً إذا فارقت محلها فحينئذ يحكم عليها بالنجاسة، وإلا فما دامت في محلها فهي طعام وشراب طيب غير خبيث، فالمؤمن لا ينجس كما أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكون وعاء للنجاسة (¬1). الراجح من الخلاف. القول بطهارة المني قول قوي جداً، والاستنجاء منه ليس بواجب، ويكفي حجة لهذا القول أن الشارع لم يأت منه أمر بغسله، ولو كان نجساً لجاء الأمر بغسله والتوقي منه كما جاء الأمر بالاستتار من البول، وغسل دم الحيض، وغسل المذي، وغيرها من سائر النجاسات، ولا مع من قال بنجاسته إلا مجرد أن عائشة كانت تغسله من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفركه إذا كان يابساً، ولو كان الفاعل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ذلك حجة على نجاسة المني؛ لأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - المجردة لا تقتضي الوجوب، والله أعلم. ¬

(¬1) بدائع الفوائد (3/ 639).

الفصل الخامس في الاستنجاء من الحدث الدائم

الفصل الخامس في الاستنجاء من الحدث الدائم

المبحث الأول هل يعتبر الخروج الدائم للنجاسة حدثا أم يعفى عنه

المبحث الأول هل يعتبر الخروج الدائم للنجاسة حدثاً أم يعفى عنه اختلف العلماء هل يعتبر خروج دم الاستحاضة، وكذا من به حدث دأئم هل يعتبر حدثاً يوجب الوضوء، وبالتالي يكون الاستنجاء منه مشروعاً أم لا؟ فقيل: يعتبر حدثاً، على خلاف بينهم هل يجب الوضوء منه لوقت كل صلاة كما هو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2)، أو لكل فريضة مؤداة أو مقضية بخلاف النافلة، كما هو مذهب الشافعية (¬3)، أو يجب الوضوء لكل صلاة مطلقاً فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج، وهو اختيار ابن حزم (¬4). وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب، وبالتالي لا يستنجي منه. وهو مذهب المالكية، وهو الراجح (¬5). ¬

(¬1) الاختيار لتعليل المختار (3/ 508) حاشية ابن عابدين (1/ 504) البحر الرائق (1/ 226) مراقي الفلاح (ص60) شرح فتح القدير (1/ 181) تبيين الحقائق (1/ 64) بدائع الصنائع (1/ 28). (¬2) المغني (1/ 421) شرح منتهى الإرادات (1/ 120) كشاف القناع (1/ 215) الإنصاف (1/ 377) الفروع (1/ 279) شرح الزركشي (1/ 437). (¬3) المجموع (1/ 543، 363)، مغني المحتاج (1/ 111)، روضة الطالبين (1/ 147، 125). (¬4) المحلى (مسألة: 168). (¬5) قال صاحب مواهب الجليل (1/ 291): " طريقة العراقيين من أصحابنا، أن ما خرج =

دليل من اعتبره الخروج الدائم للبول ونحوه حدثا

دليل من اعتبره الخروج الدائم للبول ونحوه حدثاً. الدليل الأول: (412 - 256) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). ¬

= على وجه السلس لا ينقض الوضوء مطلقاً وإنما يستحب منه الوضوء ". ثم قال: " والمشهور من المذهب طريقة المغاربة أن السلس على أربعة أقسام: الأول: أن يلازم، ولا يفارق، فلايجب الوضوء، ولا يستحب؛ إذ لا فائدة فيه فلا ينتقض وضوء صاحبه بالبول المعتاد. الثاني: أن تكون ملازمته أكثر من مفارقته، فيستحب الوضوء إلا أن يشق ذلك عليه لبرد أو ضرورة فلا يستحب. الثالث: أن يتساوى إتيانه ومفارقته، ففي وجوب الوضوء واستحبابه قولان " ثم قال: والرابع: أن تكون مفارقته أكثر، فالمشهور وجوب الوضوء خلافاً للعراقيين فإنه عندهم مستحب. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/ 116) وانظر بهامش الصفحة التاج والإكليل. وانظر الخرشي (1/ 152)، فتح البر في ترتيب التمهيد (3/ 508)، الاستذكار (3/ 225 - 226) القوانين الفقهية لابن جزي (ص29). (¬1) صحيح البخاري (228).

[زيادة قال هشام: قال أبي، الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (¬1). ¬

(¬1) سبب اختلاف العلماء في دم الاستحاضة، هل هو حدث أم لا؟ اختلافهم في قول هشام: " وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت " هل هذه الزيادة موقوفة أو مرفوعة؟ وهل هي متصلة أو معلقة؟ وعلى تقدير كونها مرفوعة، هل هي محفوظة أو شاذة؟ فالحديث مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ورواه عن هشام جمع كثير على اختلاف يسير في متنه، وبعضهم يذكر هذه الزيادة وبعضهم لا يذكرها. وقد جاءت الزيادة بالوضوء من طريق أبي معاوية عن هشام به. واختلف على أبي معاوية فيه، فروى بعضهم الحديث عن أبي معاوية دون ذكر الزيادة، وبعضم رواه عن أبي معاوية مصرحاً برفعها، وبعضهم روى الزيادة عن أبي معاوية موقوفة على عروة. وممن روى الزيادة أبو حمزة السكري، واختلف عليه أيضاً: فروي عنه مرفوعاً، وروى عنه مرسلاً. وروى الزيادة أيضاً حماد بن زيد، وحماد بن سلمة عن هشام، إلا أنهما ذكرا الوضوء ولم ينصا على التكرار لكل صلاة بل قال: " فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي " فكما أن الاغتسال يكفي فيه الامتثال مرة واحدة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ الحمادين، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه الوضوء. وممن روى الزيادة أيضاً أبو عوانة (الوضاح بن عبد الله اليشكري) وأبو حنيفة واختلف عليهما فيه كما سيأتي. هؤلاء هم الذين انفردوا بذكر الزيادة على الخلاف السابق، وخالفهم جمع كثير، وفيهم من هو أحفظ منهم، فقد روى الحديث عن هشام ستة عشر حافظاً ولم يذكروها، منهم مالك، ووكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وزهير، وسفيان بن عيينة، وأبو أسامة، والليث ابن سعد، وعمرو بن الحارث، وعبدة، ومحمد بن كناسة، ومعمر، وجعفر بن عون، والداروردي، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعبد الله بن نمير، وسعيد بن عبد الرحمن. هذا بعض من وقفت عليه ممن رواه عن هشام ولم يذكر الزيادة، فلو كان من ذكر هذه الزيادة لم يضطرب فيها لكانت شاذة، لأن الحكم عند أهل الحديث للأحفظ، وللأكثر عدداً على من دونهم، كما فصلت ذلك في بحث زيادة الثقة. وقد حكم بضعف هذه الزيادة الإمام مسلم والنسائي والبيهقي، وأبو داود كما سيأتي، وضعفه ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري قال (2/ 72): والصواب أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة: فقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة " اهـ كلام ابن رجب. فهنا فصل مالك الحديث المرفوع من الموقوف في روايته عن هشام، فحين روى المرفوع لم يورد قال هشام: قال أبي ثم توضئي لكل صلاة، وحين روى الموقوف لم يذكر المرفوع، والله أعلم. هذا الكلام المجمل حول الحديث، وأما تفصيله فإليك بيانه: فالحديث كما ذكرت سابقاً مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وله طرق كثيرة إلى هشام. الأول: أبو معاوية عن هشام. وقد سقت لفظه في الباب، وقد أخرجه البخاري (228): حدثنا محمد - يعني ابن سلام - حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة به. وقال في آخره: قال - يعني هشاماً - قال أبي: " ثم توضئي لكل صلاة ". ورواه الترمذي (125): حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية، عن هشام به، قال أبو معاوية في حديثه: " وقال توضئي لكل صلاة حتى يجيىء ذلك الوقت ". وأخرجه مسلم (333): حدثنا يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام به، ولم يذكر الأمر بالوضوء. وأخرجه النسائي (359): أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو معاوية به، بدون ذكر الزيادة. وأخرجه الدارقطني (1/ 206) من طريق يعقوب بن إبراهيم، نا أبو معاوية به، وفيه: " فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم اغتسلي " فخالف الجماعة فإن لفظهم " فاغسلي عنك الدم وصلي ". فصار الحديث يرويه يحيى بن يحيى كما عند مسلم، وإسحاق بن إبراهيم كما عند =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = النسائي، ويعقوب بن إبراهيم كما عند الدارقطني، ثلاثتهم عن أبي معاوية دون ذكر الوضوء لكل صلاة. ورواه هناد عن أبي معاوية كما في رواية الترمذي، وهي صريحة بالرفع. ورواه البخاري عن محمد بن سلام عن أبي معاوية بذكر الزيادة موقوفة على عروة بسند ظاهره التعليق؛ لأنه قال بعد ذكر الحديث، وقال هشام قال أبي، ويحتمل أنه موصول بالإسناد نفسه. وكذلك رواه إسماعيل بن قتيبة، عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية عند البيهقي (1/ 344)، قال هشام: قال أبي: " ثم توضئي لكل صلاة ". وإسماعيل بن قتيبة ثقة له ترجمة في السير (13/ 344). واختلف العلماء في هذه الزيادة، هل هي معلقة أم لا؟ وهل هي موقوفة أو مرفوعة؟ قال البيهقي في السنن (1/ 327): وفيه زيادة الوضوء لكل صلاة، وليست بمحفوظة. وقال أيضاً (1/ 344): " والصحيح أن هذه الكلمة من قول عروة بن الزبير. وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 201): " وهذه اللفظة - أعني: توضئي لكل صلاة- هي معلقة عند البخاري، عن عروة في صحيحه "، ثم قال: " وقد جعل ابن القطان في كتابه مثل هذا تعليقاً ". اهـ قلت: ذكر مسلم أنه ترك تخريجها في كتابه من طريق حماد، عن هشام، وكذلك أشار النسائي إلى أنها غير محفوظة، وسوف يأتي نقل كلامه عند الحديث على زيادة حماد. وقال بعضهم: إنها مرفوعة. قال الحافظ في الفتح (1/ 441) ح 228 وادعى بعضهم أن هذا معلق، وليس بصواب، بل هو بالإسناد المذكور، عن محمد، عن أبي معاوية، عن هشام، وقد بين ذلك الترمذي، وادعى آخر أن قوله: " ثم توضئي " من كلام عروة موقوفاً عليه، وفيه نظر؛ لأنه لو كان من كلام عروة لقال: " ثم تتوضأ " بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر شاكله الأمر الذي في المرفوع وهو قوله: "فاغسلي " اهـ. قلت: ظاهر نقل البخاري أنها موقوفة عليه، خاصة أن هشاماً لايروي الحديث إلا عن أبيه، ولا يشاركه شيخ آخر، فلماذا إذاً قال، قال هشام: قال أبي، ولو أن هشاماً يروي الحديث عن أكثر من شيخ لأمكن أن يقال: إن هشاماً أراد أن يفصل زيادة أبيه عن لفظ مشايخه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الآخرين، فلما لم يكن له شيخ إلا أبوه، علمنا أن هشاماً أضاف إلى أبيه هذا الكلام، ولم يقصد رفعها، وكون هذه الكلمة جاءت صريحة في رواية الترمذي فهذا من الاختلاف على أبي معاوية، ويرجح كونها موقوفة أيضاً أن الإمام مالكاً رحمه الله روى الحديث عن هشام فذكر المرفوع، ولم يذكر الزيادة، وروى الزيادة عن هشام موقوفاً على عروة دون ذكر المرفوع، ففصل المرفوع عن الموقوف كما روى الحديث ابن أبي شيبة (1/ 119) عن أبي معاوية عن هشام عن عروة قال: " المستحاضة تغتسل وتتوضأ لكل صلاة" موقوفاً عليه. كما رواه ابن أبي شيبة (1/ 119) عن حفص عن هشام به قرنه بأبي معاوية موقوفاً على عروة فصار الحديث عن أبي معاوية، تارة يروى بدون زيادة الوضوء. وتارة تروى عنه صريحة بالرفع. وتارة تروى عنه موقوفة على عروة. وهل السند معلق أو موصول ظاهره التعليق؟ وإن كنت أميل إلى أنه موصول بالإسناد نفسه، إلا أن الأمر بالوضوء لكل صلاة موقوف على عروة. وأبو معاوية قد قال فيه أحمد: في غير حديث الأعمش مضطرب لايحفظها جيداً. وقال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام؟ قال: فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي التقريب: ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره. وقد جاءت الزيادة في غير طريق أبي معاوية كما في الطريق الآتي: الطريق الثاني: أبو حمزة، محمد بن ميمون السكري، عن هشام به. فقد تابع أبو حمزة أبا معاوية بذكر الزيادة بالأمر بالوضوء لكل صلاة، لكن قد اختلف عليه فيه. فرواه ابن حبان (1354) من طريق علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا أبو حمزة عن هشام بن عروة به، وفيه: " فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيها، فإذا أدبرت فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة ". لكن رواه البيهقي (1/ 544) من طريق عبد الله بن عثمان، ثنا أبو حمزة، قال: سمعت =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = هشاماً يحدث عن أبيه، أن فاطمة بنت أبي حبيش، قالت: " يا رسول الله: إني أستحاض فلا أطهر ... " الحديث، وقال فيه: " فاغتسلي عند طهرك وتوضئي لكل صلاة ". فصار الحديث يروى عن أبي حمزة تارة مرسلاً، وتارة موصولاً. وجاءت الزيادة من طريق الحمادين كما في الطريق التالي. الطريق الثالث والرابع: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد عن هشام به. فقد جاء ذكر الزيادة أيضاً من طريق حماد بن سلمة عن هشام، إلا أنه لم يأمرها بالوضوء لكل صلاة، بل أمرها بالوضوء عقب غسل الدم، فكما ذكرت سابقاً: أن غسل الدم يكفي في الامتثال مرة واحدة عند إدبار الحيضة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ حماد بن سلمة. فقد أخرج الحديث الدارمي (779): أخبرنا حجاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأترك الصلاة؟ قال: لا؛ إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي ". قال هشام: فكان أبي يقوله: تغتسل غسل الأول، ثم ما يكون بعد ذلك فإنها تطهر وتصلي. قلت: في هذا الحديث دليل ظاهر على أن هشاماً يُتْبِع الحديث المرفوع بكلام لأبيه موقوفاً عليه، فلا يبعد أن يكون بعض الرواة أدرج الموقوف في المرفوع، كما ذكر ابن رجب ونقلت كلامه سابقاً. وقد اختلف على حماد بن سلمة: فرواه حجاج بن منهال، عن حماد، عن هشام به، كما سبق بذكر الزيادة. ورواه ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/ 512) من طريق عفان، عن حماد بن سلمة به، وليس فيه " وتوضئي " وعفان من أثبت أصحاب حماد بن سلمة، فهو مقدم على غيره. ولم ينفرد حماد بن سلمة بلفظ: " وتوضئي " دون قوله: " عند كل صلاة " بل تابعه على هذا حماد بن زيد، فقد أخرجه النسائي (364) أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد، عن هشام به، وفيه " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وتوضئي وصلي؛ فإنما ذلك عرق، وليست بالحيضة. قيل له: فالغسل؟ قال: وذلك لايشك فيه ". قال أبو عبد الرحمن (النسائي): وقد روى هذا الحديث غير واحد عن هشام بن عروة ولم يذكر فيه " وتوضئي " غير حماد، والله تعالى أعلم. وأخرجه مسلم (233): حدثنا خلف بن هشام، حدثنا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة به ثم قال مسلم: وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره. اهـ. يشير إلى زيادة الأمر بالوضوء، ولعله تركها للخلاف فيها. قال البيهقي في السنن (1/ 344): وكأنه ـ يعني مسلماً ـ ضعفه لمخالفته سائر الرواة عن هشام. اهـ فهذا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد روياه بلفظ: " فاغسلي عنك الدم، وتوضئي وصلي "، ولم يقل: " عند كل صلاة ". وهذا وجه من المخالفة. الطريق الخامس: أبو عوانة عن هشام به. أخرجه ابن حبان (1355) بلفظ: " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المستحاضة فقال: تدع الصلاة أيامها، ثم تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ عند كل صلاة "، فيظهر أنه روى الحديث بالمعنى فاختصره. الطريق السادس: عن أبي حنيفة عن هشام به. رواه أبو نعيم الفضل بن دكين، عن أبي حنيفة، واختلف على أبي نعيم به. فرواه الطحاوي (1/ 102) عن فهد بن سليمان، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبوحنيفة رحمه الله، عن هشام به، بذكر الوضوء لكل صلاة. وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/ 510،511) من طريق محمد بن الحسين ابن سماعه، قال: حدثنا أبو نعيم به، ولم يذكر زيادة الوضوء لكل صلاة. الطريق السابع: يحيى بن سليم، عن هشام. أخرجها السراج كما في فتح الباري (306)، والدارقطني معلقاً في العلل (5ـ ورقة 32). الطريق السابع: الحجاج بن أرطاة، عن هشام. أخرجها الطبراني في الكبير (24/ 361) ح 361، 897. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الطريق الثامن: محمد بن عجلان عن هاشم به. كما في سنن البيهقي (1/ 344). وعلقه الدارقطني في العلل (5ـورقة 32). هذا ما وقفت عليه ممن ذكر الزيادة، ولا يخلو أحد من الرواة ممن ذكر هذه الزيادة إلا وقد خالف واختلف عليه فيها، فأبو معاوية تارة يذكرها، وتارة لايذكرها، وتارة مرفوعة، وتارة موقوفة. وأبو حمزة السكري، تارة يروي الحديث مرسلاً، وتارة موصولاً. وأما الحمادان فقد خالفا غيرهما بذكر الأمر بالوضوء، ولم يذكرا بأنه عند كل صلاة، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه هذه الزيادة، وكذا أبوحنيفة تارة يذكرها، وتارة لايذكرها، والذي لم يختلف عليه هو أبو عوانة فقد ذكرها، وقد روى الحديث بالمعنى، وهو ثقة إلا أن مخالفته لاتحتمل، فقد روى الحديث عن هشام أئمة ثقات أعلى قدراً، وأكثر عدداً فلم يذكروا هذه الزيادة وإليك بيانهم: الأول: إمام دار الهجرة مالك بن أنس. أخرجه في الموطأ (1/ 61)، ومن طريق مالك أخرجه البخاري (306)، والنسائي (366)، وأبو عوانة (1/ 319)، والدارقطني (1/ 206)، وابن حبان (1350)، والبيهقي (1/ 329،321)، والبغوي (324). الثاني: وكيع. أخرجه أحمد (6/ 194)، ومسلم (332)، والترمذي (125)، والنسائي (359)، وابن ماجه (621). الثالث: زهير. أخرجه البخاري (331)، وأبو داود (282). الرابع: يحيى بن سعيد القطان. عند أحمد (6/ 194)، والدارقطني (1/ 206). الخامس: جعفر بن عون، عند الدارمي (774)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 319)، وابن الجارود في المنتقى (112). السادس: معمر عند عبد الرزاق في المصنف (1165). =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (413 - 257) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير (¬1). ¬

= السابع: عبد العزيز بن محمد عند مسلم (333). الثامن والتاسع: جرير، وابن نمير عند مسلم (333). العاشر: عبدة عند الترمذي (125)، والنسائي (359). الحادي عشر: سفيان بن عيينة. عند البخاري (320)، والحميدي (193)، والبيهقي (1/ 327). الثاني عشر: أبو أسامة عند البخاري (325)، والبيهقي (1/ 324). الثالث عشر: محمد بن كناسة كما عند البيهقي (1/ 324). الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر: سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، والليث ابن سعد، وعمرو بن الحارث كما عند أبي عوانة (1/ 319)، والطحاوي (1/ 102،103)، فهؤلاء ستة عشر حافظاً رووا الحديث عن هشام ولم يذكروا زيادة الوضوء لكل صلاة، وهو المحفوظ فيما أرى. والله أعلم. وأما تحرير بعض ألفاظ الحديث والاختلاف بينهم: فبعضهم يقول: " وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي ". وبعضهم يقول: " وإذا أدبرت ". وبعضهم يقول: " فاغتسلي وصلي "، فقد خرجت هذه الألفاظ في كتابي الحيض والنفاس، وبينت الراجح منها، ولا تعلق له في هذا البحث، فارجع إليه إن شئت. (¬1) المسند (6/ 204).

[الحديث ضعيف، وفيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وعروة مختلف فيه، قيل: عروة المزني، وهو مجهول، وقيل: عروة بن الزبير] (¬1). ¬

(¬1) الحديث ذكر له ثلاث علل: الأول: عنعنة حبيب بن أبي ثابت،، وهو مدلس مكثر، ذكره في المدلسين الذهبي، والعلائي، والمقدسي، والحلبي، وابن حجر. وفي التقريب: ثقة فقيه جليل، كان كثير الإرسال والتدليس. العلة الثانية: اختلافهم في عروة، من هو؟ هل هو عروة المزني فيكون مجهولاً أو هو ابن الزبير فيكون منقطعاً؛ لأن حبيباً لم يسمع من عروة بن الزبير شيئاً. قال أحمد، ويحيى بن معين: لم يسمع حبيب بن أبي ثابت من عروة شيئاً. المراسيل لابن أبي حاتم (ص 28). قال الترمذي في السنن (1/ 135): عن البخاري: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة شيئاً. وقال أبو حاتم: روى عن عروة حديث المستحاضة وحديث القبلة، ولم يسمع ذلك من عروة. الجرح والتعديل (3/ 107)، والمراسيل (ص 28). وقال يحيى بن معين كما في تهذيب الكمال (5/ 362) قال أحمد بن سعيد بن أبي مريم قيل ليحيى: حبيب ثبت؟ قال: نعم، إنما روى حديثين. قال: أظن يحيى يريد منكرين: حديث تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير، وحديث القبلة للصائم. وساق البيهقي بسنده (1/ 126) عن يحيى بن سعيد قال: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيباً لم يسمع من عروة شيئاً. وروى الدارقطني (1/ 139): عن علي بن المديني، قال: سمعت يحيى - يعني: ابن القطان -وذكر عنده حديث الأعمش، عن حبيب عن عروة، عن عائشة: تصلي وإن قطر الدم على الحصير، وفي القبلة. قال يحيى: إحك عني أنهما شبه لاشيئ. ونقله أبو داود (180)، والنسائي في السنن (1/ 104،105) عن ابن القطان. وهناك من أثبت سماع حبيب من عروة بن الزبير. قال أبو داود في السنن (180): قد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثاً صحيحاً. اهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: حديث حمزة الزيات، ليس من قبيل الصحيح، فإنه في التقريب: صدوق زاهد ربما وهم. اهـ وقد تكلم فيه بعضهم. وقال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 52): وحبيب بن أبي ثابت لاينكر لقاؤه عروة، لروايته عمن هو أكبر من عروة، وأجل وأقدم موتاً، وهو إمام من أئمة العلماء الأجلة. قلت: قد جزم الأئمة بعدم سماع حبيب بن أبي ثابت من عروة: كسفيان، وأحمد، وابن القطان، والبخاري، ويحيى بن معين، وأبي حاتم الرازي وغيرهم، وليس عند ابن عبد البر إلا مجرد إمكان اللقي، وكم من راو عاصر رواة ولم يسمع منهم، فلا يكفي هذا الاحتمال لرد ما جزم به الأئمة، وأبو داود حكى عن حمزة الزيات عن حبيب عن عروة حديثاً صحيحاً، ولم يذكر الحديث حتى ينظر فيه، فإن صح فإن الانقطاع يكون للعنعنة حيث لم يصرح في التحديث في جميع طرقه وهو مدلس مكثر. وممن صرح في أن عروة هو ابن الزبير، ابن ماجه فقد رواه (624): حدثنا محمد بن علي وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: ثنا وكيع، عن الأعمش به، وصرح بأن عروة هو ابن الزبير. وقد رواه الدراقطني (1/ 212) من طريق وكيع وعبد الله بن داود مجتمعين، عن الأعمش به وصرحا بأنه ابن الزبير. وقد رواه أحمد (6/ 204)، وابن أبي شيبة (1/ 118) عن وكيع به، ولم ينسبا عروة. ورواه الدارقطني (1/ 212) من طريق محمد بن ربيعة، عن الأعمش به، ونسب عروة بأنه ابن الزبير إلا أنه أوقفه على عائشة. هذا الذي وقفت عليه ممن نسب عروة. ورواه جمع كثير كما سيأتي في تخريج الحديث ولم ينسبوا عروة. قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 200): واعلم أن أبا داود لم ينسب عروة في هذا الحديث، كما نسبه ابن ماجه، وأصحاب الأطراف لم يذكروه في ترجمة عروة بن الزبير، وإنما ذكروه في ترجمة عروة المزني، معتمدين في ذلك على قول ابن المديني: إن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير، ورواه أحمد، وإسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة، والبزار في مسانيدهم، ولم ينسبوا عروة. ولكن ابن راهويه، والبزار أخرجاه في ترجمة عروة ابن الزبير، عن عائشة " اهـ. العلة الثالثة: الاختلاف في وقفه ورفعه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الدارقطني في السنن (1/ 211) بعد أن ساق رواية علي بن هاشم، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة عن، عائشة مرفوعاً. قال الدارقطني: تابعه وكيع، والحربي، وقرة بن عيسى، ومحمد بن ربيعة، وسعيد بن محمد الوراق، وابن نمير عن الأعمش فرفعوه. ووقفه حفص بن غياث، وأبو أسامة، وأسباط بن محمد، وهم أثبات. تخريج الحديث: بعد استعراض علل الحديث نأتي إلى تخريجه، فالحديث مداره على الأعمش، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش وذكرت القصة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وله طرق كثيرة إلى الأعمش .. فقد رواه أحمد كما قدمت في الباب (6/ 204)، ورواه ابن أبي شيبة (1/ 118) 1345 عن وكيع، عن الأعمش به. ورواه أبو داود (298): حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع به، وليس فيه: " وإن قطر الدم على الحصير ". وأخرجه ابن ماجه (624): حدثنا علي بن محمد، وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا وكيع به وصرح بأن عروة هو ابن الزبير. وأخرجه الدراقطني (1/ 212) من طريق وكيع، وعبد الله بن داود جمعهما عن الأعمش به ونسبا عروة بأنه ابن الزبير. وأخرجه الدارقطني (1/ 212) من طريق يوسف من موسى، ومحمد بن إسماعيل الحساني فرقهما عن وكيع به، ولم ينسبا عروة. وأخرجه أحمد (6/ 42) ثنا علي بن هاشم، ثنا الأعمش به، وأخرجه الدراقطني (1/ 211) من طريق محمد بن معاوية بن مالج، نا علي بن هاشم به. وأخرجه الطحاوي (1/ 602) من طريق يحيى بن عيسى، قال: ثنا الأعمش به. وأخرجه الدراقطني (1/ 211،212،213،214) من طريق قره بن عيسى، وسعيد بن محمد الوراق الثقفي، ومحمد بن ربيعة، وعبد الله بن نمير فرقهم كلهم عن الأعمش به. واختلف على الأعمش: =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (414 - 258) ما رواه الدرامي، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها في كل شهر، فإذا كان عند انقضائها اغتسلت وصلت، وصامت، وتوضأت عند كل صلاة (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬

= فرواه وكيع، وعبد الله بن داود، وعلي بن هاشم، ويحيى بن عيسى، وقرة بن عيسى، وسعيد بن محمد الوراق، ومحمد بن ربيعة، وابن نمير كلهم رووه عن الأعمش به مرفوعاً كما سبق. ورواه الدارقطني (1/ 213) من طريق حفص بن غياث، وأبو أسامة فرقهما، عن الأعمش به موقوفاً على عائشة. قال الدارقطني بعده: وتابعهما أسباط بن محمد ولم يذكر سنده عن أسباط. (¬1) سنن الدارمي (793). (¬2) فيه شريك بن عبد الله النخعي. قال ابن معين: شريك ثقة، من يسأل عنه؟ كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (4/ 365). وقال أيضاً: صدوق ثقة، إلا أنه إذا خولف فغيره أحب إلي منه. كما في رواية معاوية ابن صالح. تاريخ بغداد (9/ 279)، تهذيب التهذيب (4/ 293). وقال أيضاً: شريك ثقة إلا أنه كان لا يتقن ويغلط، ويذهب بنفسه على سفيان وشعبة. تاريخ بغداد (9/ 279). تهذيب التهذيب (4/ 293). قيل ليحيى بن سعيد القطان: يقولون: إنما خلط شريك بآخرة. فقال: ما زال مخلطاً. الجرح والتعديل (4/ 365). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن شريك وأبي الأحوص. فقال: شريك أحب إلي، شريك صدوق، وهو أحب إلي من أبي الأحوص، وقد كان له أغاليط. الجرح والتعديل (4/ 365). وقال أبو زرعة: كان كثير الحديث، صاحب وهم، يغلط أحياناً، فقيل له: إن شريكاً حدث بواسط بأحاديث بواطيل، فقال أبو زرعة: لا تقل بواطيل. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 193). وقال ابن المبارك: شريك أعلم بحديث الكوفه من سفيان. الجرح والتعديل (4/ 365). وقال ابن حبان: كان في آخر عمره يخطئ فيما يروي، تغير حفظه، فسماع المتقدمين عنه الذين سمعوا منه بواسط ليس فيه تخليط، مثل يزيد بن هارون، وإسحاق الأزرق، وسماع المتأخرين عنه بالكوفة، فيه أوهام كثيرة. الثقات (6/ 444). وقال ابن عدي: الغالب على حديثه الصحة والاستواء، والذي يقع في حديثه من النكرة إنما أتي فيه من سوء حفظه، لا أنه يتعمد في الحديث شيئاً مما يستحق أن ينسب إلى شيء من الضعف. الكامل (4/ 6). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (4/ 293). وحدد ابن حبان تاريخ توليه القضاء عام خمسين ومائة. وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة. اهـ. ووصفه عبد الحق الإشبيلي بالتدليس. وقال القطان: كان مشهوراً بالتدليس. تهذيب التهذيب (4/ 293). وفي الإسناد: أبو اليقظان: اسمه عثمان بن عمير. قال ابن معين: ليس حديثه بشيء في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (6/ 161). الضعفاء الكبير (3/ 211). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، كان شعبة لا يرضاه. وذكر أنه حضره، فروى عن شيخ. فقال له شعبة: كم سنك؟. فقال كذا. فقال شعبة: فإذاً قد مات الشيخ وهو ابن سنتين. الجرح والتعديل (6/ 161) .. وقال عنه البخاري في الأوسط: منكر الحديث. تهذيب الهذيب (7/ 132). وقال في الكبير: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه. التاريخ الكبير (6/ 245). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الدارقطني: متروك، كما في سؤالات البرقاني (356). وقال أيضاً: زائغ لم يحتج به. كما في سؤالات الحاكم (407). وقال ابن حبان: كان ممن اختلط، حتى لا يدري ما يحدث، لا يجوز الاحتجاج بخبره الذي وافق الثقات، ولا الذي انفرد به عن الأثبات، لا ختلاط البعض بالبعض. المجروحين (2/ 95). وقال ابن عدي: ردئ المذهب، غال في التشيع، يؤمن بالرجعة، على أن الثقات قد رووا عنه، ويكتب حديثه مع ضعفه. الكامل (5/ 166). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 211). وقال أحمد: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (6/ 161). وقال أيضاً: ترك ابن مهدي حديث أبي اليقظان. المرجع السابق. وفي الإسناد أيضاً: جد عدي بن ثابت الأنصاري. قال الترمذي: سألت محمداً ـ يعني البخاري ـ عن هذا الحديث، فقلت: عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، جدُّ عدي، ما اسمه؟، فلم يعرف محمد اسمه، وذكرت لمحمد قول يحيى بن معين: أن اسمه دينار، فلم يعبأ به. سنن الترمذي (1/ 221) ح 126. وقال الحربي في العلل: ليس لجد عدي بن ثابت صحبة. وقال أبو علي الطوسي: جدي عدي مجهول، لا يعرف، ويقال: اسمه دينار، ولا يصح. تهذيب التهذيب (2/ 17). وقال البرقي: لم نجد من يعرف جده معرفة صحيحة. تهذيب التهذيب (2/ 17). وساق الحافظ ابن حجر الاختلاف في اسمه على خمسة أقوال، ثم قال: ولم يترجح في اسم جده إلى الآن شيئ من هذه الأقوال، وأقربها للصواب أن جده، هو جد أمه: عبد الله ابن يزيد الخطمي. والله أعلم. تهذيب التهذيب (2/ 17). كما أن والده ثابت الأنصاري. قال أبو حاتم: مجهول الحال. الجرح والتعديل (2/ 460). وقال الذهبي: والد عدي بن ثابت مجهول الحال؛ لأنه ما روى عنه إلا ولده. الميزان (1/ 369). وفي التقريب: مجهول الحال. تخريج الحديث: الحديث مداره على شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (415 - 259) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد بن القاسم الطائي، ثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا أبو يوسف القاضي، عن عبد الله بن علي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي أيوب الأفريقي، وهو عبد الله ابن علي، إلا أبو يوسف (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= أخرجه الدارمي (793) أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا شريك به. وأخرجه الترمذي (126) حدثنا قتيبة، حدثنا شريك به.، وأخرجه أيضاً (127) حدثنا علي ابن حجر، أخبرنا شريك به. وأخرجه ابن ماجه (625) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسماعيل بن موسى، قالا حدثنا شريك به. وأخرجه الطحاوي (1/ 102) حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، قال: أنا شريك به. ورواه الطحاوي بالإسناد نفسه، إلا أنه جعله من مسند علي. وأظن الأختلاط فيه من شريك، فإنه قد تغير. (¬1) المعجم الأوسط (1620). (¬2) دراسة الإسناد: أحمد بن القاسم الطائي البغدادي: ثقة. انظر: تاريخ بغداد (4/ 350). بشر بن الوليد الكندي: صاحب أبي يوسف. ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (2/ 369). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (8/ 143). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن سعد: تكلم بالوقف، فأمسك أصحاب الحديث، وتركوه. الطبقات الكبرى (7/ 355). وقال الآجري: سألت أبا داود: بشر بن الوليد ثقة؟ قال: لا. تاريخ بغداد (7/ 80) لسان الميزان (2/ 35). وقال صالح جزرة: هو صدوق، لكنه لا يعقل، قد كان خرف. المرجعين السابقين. وقال الدارقطني: ثقة. تاريخ بغداد (7/ 80)، لسان الميزان (2/ 35). وقال مسلمة: ثقة. وكان ممن امتحن، وكان أحمد يثني عليه. اللسان (2/ 35). وقال البرقاني: ليس هو من شرط الصحيح. المرجع السابق. أبو يوسف القاضي: هو يعقوب بن إبراهيم، صاحب أبي يوسف. قال ابن كامل: لم يختلف يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني في ثقته في النقل. قال ابن معين، كما في رواية إبراهيم بن أبي داود البرلسي: ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثاً، ولا أثبت من أبي يوسف. الميزان (4/ 447)، تذكرة الحفاظ (1/ 292)، اللسان (6/ 300). وقال أيضاً: لم يكن يعرف بالحديث، وكان ثقة، كما في رواية الغلابي عنه. تاريخ بغداد (14/ 242). وقال ابن معين في رواية الدوري: أبو يوسف أنبل من أن يكذب. المرجع السابق. وقال أيضاً في رواية أخرى عن الدوري: كان أبو يوسف يميل إلى أصحاب الحديث كثيراً، وكتبنا عنه، ولم يزل الناس يكتبون عنه. الجرح والتعديل (9/ 201). وقال أيضاً: ثقة إلا أنه ربما غلط، كما في رواية محمد بن سعد العوفي. تاريخ بغداد (14/ 242). وقال يحيى أيضاً: لا يكتب حديثه، كما في رواية ابن أبي مريم عنه. تاريخ بغداد (14/ 242)، وهذه الرواية شاذة بالنسبة لما سبق من الروايات عن يحيى بن معين. وقال عمرو بن علي: أبو يوسف صدوق كثير الغلط. تذكرة الحفاظ (1/ 292)، تاريخ بغداد (14/ 292). وكان ابن المبارك سيء الرأي فيه جداً، وقد تركت نقل كلامه عمداً. انظر الكامل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (7/ 144)، تاريخ بغداد (14/ 242). وقال الإمام البخاري: تركوه. التاريخ الكبير (8/ 397). وقال أحمد: صدوق، ولكنه من أصحاب أبي حنيفة لا ينبغي أن يروى عنه شيئ. الجرح والتعديل (9/ 201). وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وهو أحب إلي من الحسن اللؤلؤي. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 438). وقال ابن عدي: ليس من أصحاب الرأي أكثر حديثاً منه، إلا أنه يروي عن الضعفاء الكثير مثل الحسن بن عمارة، وغيره، وهو كثيراً ما يخالف أصحابه، ويتبع أهل الأثر إذا وجد فيه خبراً مسنداً، وإذا روى عنه ثقة، ويروي هو عن ثقة، فلا بأس برواياته. الكامل (7/ 144). وقال ابن حبان: كان شيخاً متقناً، لم يكن يسلك مسلك صاحبيه إلا في الفروع، وكان يباينهما في الإيمان والقرآن. ثم قال: " لسنا من يوهم الرعاع ما لا يستحله، ولا ممن يحيف بالقدح في إنسان وإن كان لنا مخالفاً، بل نعطي كل شيخ حقه مما كان فيه، ونقول في كل إنسان ما يستحقه من العدالة والجرح. أدخلنا زفراً وأبا يوسف في الثقات لما تبين لنا من عدالتهما في الأخبار. الخ كلامه رحمه الله تعالى. الثقات (7/ 645). والذي ترجح لي في أبي يوسف ما قاله الإمام أحمد وأنه صدوق، ولكن كون الإمام أحمد ترك الرواية عنه لكونه صاحب أبي حنيفة هذا لا يقدح في صدقه، والعدالة في الرواية مبنية على الصدق. والله أعلم. عبد الله بن العلي، أبو أيوب الإفريقي. تقدمت ترجمته. عبد الله بن محمد بن عقيل. سبق تحرير الكلام فيه، وأكثر الأئمة على ضعفه. وفي التقريب: صدوق، وفي حديثه لين، ويقال: تغير بآخره. فالإسناد صالح في الشواهد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 281) فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو مختلف في الاحتجاج به.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (416 - 260) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا مورع بن عبد الله، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم بن عتيبة عن جعفر، عن سودة بنت زمعة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلاً واحداً ثم تتوضأ لكل صلاة " (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). فتبين أن الأمر بالوضوء لكل صلاة من حديث عائشة، المحفوظ أنه موقوف على عروة، ورفعه شاذ، والشاذ غير صالح للاعتبار. ومن حديث غيرها ضعيف، ومن يحسن بالشواهد مطلقاً، فإن الحديث عنده قد يرقى إلى الحسن. فحمل الحنفية والحنابلة على أن المراد: توضئي لكل صلاة: أي لوقت كل صلاة. وحمل الشافعية على أن المراد: توضئي لكل صلاة فريضة، بخلاف النافلة، فاعتبروه خروجه حدثاً في صلاة الفرض، ولم يتعبروه حدثاً في صلاة النفل. وحمله ابن حزم على ظاهره، فقال بوجوب الوضوء لكل صلاة، وقد ¬

(¬1) الأوسط (1984)، وسبق الكلام عليه. انظر: حديث رقم (463). (¬2) شيخ الطبراني لم أقف عليه، وجعفر لم ينسب حتى يتبين لي من هو؟. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 281)، وفيه جعفر عن سودة لم أعرفه.

دليل المالكية على أن الخارج الدائم ليس حدثا، ولا يجب منه الوضوء

ذكرنا دليل كل قول في كتابي الحيض والنفاس، فليراجعه من شاء، لأن البحث هنا هو في اعتبار الخارج حدثاً، وليس في ما يترتب على ذلك من حيث الصلاة، والله أعلم. دليل المالكية على أن الخارج الدائم ليس حدثاً، ولا يجب منه الوضوء. الدليل الأول: قالوا: إن من كان به حدث دائم لو تطهر فلن يرتفع حدثه، وإذا كان كذلك، كان طهارته استحباباً لا وجوباً. الدليل الثاني: إذا كان دم الاستحاضة لايبطل الطهارة بعد الوضوء، وقبل الصلاة، لم يكن حدثاً يوجب الوضوء عند تجدد الصلاة أو خروج الوقت، ولذا حملنا الأمر على الاستحباب. الدليل الثالث: دم العرق لاينقض الوضوء، فلو خرج دم من عرق اليد، أو الرجل لم ينتقض وضوءه على الصحيح، فكذلك دم الاستحاضة، فإنه دم عرق كما في أحاديث الصحيحين، ولا يقال: إن خروجه من الفرج جعل حكمه يختلف؛ لأن المني يخرج من الفرج، ومع ذلك هو طاهر. الدليل الرابع: الشارع حكيم، لا يؤاخذ الإنسان إلا بما فعل، فإذا كان خروج الدم ليس من فعل الإنسان، ولا من قصده، لم تفسد عبادته، ولهذا لايؤاخذ الإنسان باللغو في اليمين لعدم توفر القصد.

قال ابن المنذر في الأوسط: والنظر دال على ما قال ربيعة -يعني: في عدم وجوب الوضوء- إلا أنه قول لا أعلم أحداً سبقه إليه. وإنما قلت: النظر يدل عليه؛ لأنه لافرق بين الدم الذي يخرج من المستحاضة قبل الوضوء، والذي يخرج في أضعاف الوضوء، والدم الخارج بعد الوضوء؛ لأن دم الاستحاضة إن كان يوجب الوضوء فقليل ذلك وكثيره في أي وقت كان يوجب الوضوء، فإذا كان هكذا، وابتدأت المستحاضة في الوضوء، فخرج منها دم بعد غسلها بعض أعضاء الوضوء، وجب أن ينتقض ما غسلت من أعضاء الوضوء، لأن الدم الذي يوجب الطهارة في قول من أوجب على المستحاضة الطهارة قائم. وإن كان ما يخرج منها بين أضعاف الوضوء، وما خرج منها قبل أن تدخل الصلاة، وما حدث في الصلاة منه لاينقض طهارة، وجب كذلك أن ما خرج منها بعد فراغها من الصلاة لا تنقض طهارة إلا بحدث غير دم الاستحاضة هذا الذي يدل عليه النظر. اهـ (¬1). فالراجح ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ولا ينهض عندي تحسين الأحاديث الضعيفة بالشواهد؛ لأن اللفظ في حديث عائشة بالأمر بالوضوء لكل صلاة شاذ، والشاذ لا يصلح للشواهد، وما عداه لا يكفي للتحسين بمثل هذه المسألة التي يحتاج إليها، وقد وقعت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكرر وقوعه مرات، فلو كان الأمر بها محفوظاً لجاءت الأحاديث الصحيحة التي تبين وجوب الوضوء بصورة تقوم بمثلها الحجة. والله أعلم. ولو قلنا: بموجب حديث: توضيء لكل صلاة، لكان الوضوء واجباً ¬

(¬1) الأوسط (1/ 164).

لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج، وهذا رأي ابن حزم، للأمر بالوضوء لكل صلاة وأما حمل الأمر بالوضوء لكل صلاة: أي لوقت كل صلاة، كما هو مذهب الحنفية فيحتاج الأمر إلى دليل على أن المراد الوقت، وليس خروج الوقت حدثاً، ويكفي أن حملهم خلاف ظاهر اللفظ بلا مسوغ. والجواب عما قاله الحنفية رحمهم الله: أن إطلاق الصلاة قد يطلق ويراد بذلك الوقت إذا صح إنما يصح لقرينة تمنع من إرادة الصلاة نفسها، وإلا فالأصل في الكلام عدم الحذف وعدم التقدير، ولا قرينة هنا تمنع من إرادة الصلاة، أي فعلها، فوجب حمل اللفظ على ظاهره، لو قلنا بصحة الحديث. وأما حمل الشافعية الصلاة بأن المراد بها الفريضة دون النافلة، فهذا من أضعف الأقوال.

المبحث الثاني الكلام في غسل فرج من به حدث دائم عند الوضوء

المبحث الثاني الكلام في غسل فرج من به حدث دائم عند الوضوء لم يذكر ذلك الحنفية، ولعل ذلك لأن الاستنجاء ليس بواجب عندهم (¬1) وغسله إنما هو من قبيل الاستنجاء (¬2). وأوجب غسل الفرج الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وهل يكفي غسله مرة واحدة؟ أو تغسله لكل صلاة. المشهور من مذهب الشافعية ما قاله النووي: في شرح صحيح مسلم: قال: وأما تجديد غسل الفرج وحشوه، وشده لكل فريضة، فينظر فيه: فإن زالت العصابة عن موضعها زوالاً له تأثير، أو ظهر الدم على جوانب ¬

(¬1) قال في الاختيار (1/ 36): " والاستنجاء سنة من كل ما يخرج من السبيلين إلا الريح". اهـ ولا شك أن دم الاستحاضة خارج من أحد السبيلين، فالاستنجاء منه ليس بواجب عندهم " وانظر بدائع الصنائع (1/ 18). وهو رأي مرجوح، وليس هذا موضع بحثه. (¬2) الحنفية لم يوجبوا غسله حتى ولو أصاب ثوبها. قال في البحر الرائق (1/ 227): " وينبغي لصاحب الجرح أن يربطه تقليلاً للنجاسة، ولو سال على ثوبه فعليه أن يغسله إذا كان مفيداً بأن لايصيبه مرة أخرى، وإن كان يصيبه المرة بعد الأخرى أجزأه، ولايجب غسله ما دام العذر باقياً، وقيل: لايجب غسله أصلاً، واختار الأول السرخسي، والمختار ما في النوازل: إن كان لو غسله تنجس ثانياً قبل الفراغ من الصلاة جاز أن لايغسله، وإلا فلا ". اهـ وهذا مقيس عليه. ولم أتعرض لمذهب مالك؛ لأننا عرفنا مذهبه أنه لا يوجب الوضوء من الخارج، فإذا كان لا يوجب الوضوء منه، لم يوجب غسل الفرج أيضاً. (¬3) مغني المحتاج (1/ 111)، روضة الطالبين (1/ 137)، حاشية البيجوري (1/ 212). (¬4) الإنصاف (1/ 377)، كشاف القناع (1/ 214)، المحرر (1/ 27)، المغني (1/ 421).

أدلة الشافعية والحنابلة على وجوب غسل الفرج

العصابة وجب التجديد، وإن لم تزل العصابة عن موضعها ولا ظهر الدم، ففيه وجهان لأصحابنا، أصحهما: وجوب التجديد كما يجب تجديد الوضوء. اهـ (¬1). وأما المشهور من المذهب الحنبلي، أنه لا يلزمها غسل الفرج لكل صلاة إذا لم تفرط (¬2). وفي مذهب الحنابلة قولان آخران: قيل: يلزمها ذلك. وقيل: يلزمها إن خرج شيء، وإلا فلا (¬3). أدلة الشافعية والحنابلة على وجوب غسل الفرج. استدلوا بأدلة عامة، وخاصة. أما الدليل الخاص. (417 - 261) فاستدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا ¬

(¬1) شرح النووي لصحيح مسلم (4/ 25). (¬2) قال في الإنصاف (3/ 377): " وهو صحيح، وهو المذهب، وعليه جمهور الأصحاب، وقدمه في الفروع وغيره، وجزم به المصنف والشارح، وصححه المجد في شرحه ... الخ كلامه رحمه الله. وقال في كشاف القناع (1/ 214): " ولا يلزمها إذن إعادة شده، ولا إعادة غسله لكل صلاة إن لم تفرط في الشد للحرج، فإن فرطت في الشد وخرج الدم بعد الوضوء أعادته؛ لأنه حدث أمكن التحرز منه " اهـ. (¬3) الفروع (1/ 279) الإنصاف (1/ 377،378).

أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " فاغسلي عنك الدم وصلي ". قال ابن رجب في شرحه للبخاري: واختلفوا هل يجب عليها غسل الدم، والتحفظ والتلجم عند كل صلاة؟ فيه قولان: هما روايتان عن أحمد. وربما يرجع هذا الاختلاف إلى الاختلاف المشهور في أن الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أم لا؟ وفيه خلاف مشهور، لكن الأصح هنا أنه لايقتضي التكرار لكل صلاة، فإن الأمر بالاغتسال وغسل الدم إنما هو معلق بانقضاء الحيضة وإدبارها فإذا قيل: إنه يقتضي التكرار، فالجواب أنه لم يقتضيه إلا عند إدبار كل حيضة فقط. اهـ (¬2). وأما الأدلة العامة: فهي من قبيل القياس، فيقاس غسل الفرج من دم الاستحاضة بأحاديث الاستنجاء والاستجمار، بجامع أن كلاً منها قطع للنجاسة من السبيلين. وأحاديث الاستنجاء كثيرة، ويكفي منها: (418 - 262) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع والأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة. قال: أجل، لقد ¬

(¬1) صحيح البخاري (228)، ومسلم (333). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 68).

دليل الحنفية على أن الاستنجاء ليس بواجب، ومنه غسل الفرج من دم الاستحاضة

نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. رواه مسلم (¬1). ولا يسلم القياس إلا بتحقق أمرين: أولهما: أن يكون غسل الفرج قاطعاً للخارج، كما أن الاستنجاء يقطع الخارج. وهذا لا يتحقق هنا؛ لأن الاستنجاء هنا لن يقطع دم الاستحاضة. وثانيهما: أن يكون دم الاستحاضة نجساً، كالحال في الاستنجاء من البول والغائط، وأما من رأى أن دم الاستحاضة طاهر؛ لأنه دم عرق، مثله مثل دم سائر العروق من البدن، فلا يسلم القياس، ولا يوجب غسل الفرج؛ لأنه كالمني لا يجب الاستنجاء منه، والله أعلم. دليل الحنفية على أن الاستنجاء ليس بواجب، ومنه غسل الفرج من دم الاستحاضة. سقت أدلتهم في مسألة مستقلة في حكم الاستنجاء، وأجيب عنها، فانظرها غير مأمور. ¬

(¬1) صحيح مسلم (262).

المبحث الثالث شد عصابة الفرج عند الوضوء

المبحث الثالث شد عصابة الفرج عند الوضوء ذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أنه يجب على المستحاضة ¬

(¬1) قال في البحر الرائق (1/ 227): " ومتى قدر المعذور على رد السيلان برباط أو حشو، أو كان لو جلس لايسيل، ولو قام سال وجب رده ". وقال ابن الهمام في شرح فتح القدير (1/ 185): " ومتى قدر المعذور على رد السيلان برباط أو حشو، أو كان لو جلس لا يسيل، ولو قام سال وجب رده، فإنه يخرج برده عن أن يكون صاحب عذر ". اهـ وانظر مراقي الفلاح (ص60). (¬2) قال النووي في الروضة (1/ 137): " فتغسل المستحاضة فرجها قبل الوضوء أو التيمم، وتحشوه بقطنة أو خرقة دفعاً للنجاسة وتقليلاً، فإن اندفع به الدم، وإلا شدت مع ذلك خرقة في وسطها، وتلجمت بأخرى مشقوقة الطرفين، فكل هذا واجب إلا أن تتأذى بالشد أو تكون صائمة، فتترك الحشو وتقتصر على الشد ". وقال في مغني المحتاج (1/ 111): " تشده - يعني فرجها - بعد غسله بخرقة مشقوقة الطرفين، تخرج أحدهما من أمامها والآخر من خلفها، وتربطهما بخرقة تشدها على وسطها كالتكة، فإن احتاجت في رفع الدم أو تقليله إلى حشو بنحو قطن، وهي مفطرة، ولم تتأذى به وجب عليها أن تحشو قبل الشد والتلجم، وتكتفي به إن لم تحتج إليهما، أما إذا كانت صائمة أو تأذت باجتماعه فلا يجب عليها الحشو". وقال أيضاً (1/ 112): " ويجب تجديد العصابة، وما يتعلق بها من غسل وحشو في الأصح، قياساً على تجديد الوضوء. والثاني: لايجب تجديدها، لأنه لا معنى للأمر بإزالة النجاسة مع استمرارها، ومحل الخلاف إذا لم يظهر الدم على جوانب العصابة، ولم تزل العصابة عن موضعها زوالاً له وقع، وإلا وجب التجديد بلا خلاف؛ لأن النجاسة قد كثرت مع إمكان تقليلها. وانظر كلام النووي في شرح صحيح مسلم (4/ 25). (¬3) قال: ابن قدامة في المغني (1/ 421):" والمستحاضة تغسل المحل، ثم تحشوه بقطن أو =

أن تشد فرجها وتعصبها، وهل يجب عليها ذلك في كل صلاة؟ على الخلاف السابق في غسل الفرج. الأدلة على وجوب التلجم والتحفظ. الدليل الأول: (419 - 263) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت فلتغتسل، ثم لتستثفر، ثم لتصلي (¬1). [والحديث رجاله ثقات، إلا أنه أعل بالانقطاع، وفي إسناده اضطراب] (¬2). ¬

= ما أشبهه ليرد الدم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لحمنة حين شكت إليه كثرة الدم: " أنعت لك الكرسف؛ فإنه يذهب الدم "، فإن لم يرتد الدم بالقطن استثفرت بخرقة مشقوقة الطرفين تشدها على جنبيها ووسطها على الفرج ". ثم قال: " فإذا فعلت ذلك، ثم خرج الدم، فإن كان لرخاوة الشد فعليها إعادة الشد والطهارة، وإن كان لغلبة الخارج وقوته، وكونه لايمكن شده أكثر من ذلك لم تبطل الطهارة؛ لأنه لايمكن التحرز منه، فتصلي ولو قطر الدم ". (¬1) الموطأ (1/ 62). (¬2) الحديث فيه اختلاف في إسناده. فقيل: عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. وقيل: عن سليمان، عن رجل، عن أم سلمة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقيل: عن سليمان، أن فاطمة بنت حبيش استحيضت، فأمرت أم سلمة أن تسأل لها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: عن سليمان، عن مرجانة، عن أم سلمة. أما رواية سليمان بن يسار، عن أم سلمة مرفوعاً .. فرواها أيوب، عن سليمان به. ورواه نافع عن سليمان، واختلف على نافع: فرواه مالك عن نافع، عن سليمان، عن أم سلمة، كرواية أيوب عن سليمان. وخالف مالك جماعة، منهم الليث، وصخر بن جويرية، وجويرية بن أسماء، وإسماعيل بن إبراهيم ابن عقبة، كل هؤلاء رووه عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن رجل، عن أم سلمة، فجعلوا بين سليمان، وبين أم سلمة رجلاً مبهماً. ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع بالوجهين: تارة يذكر بين سليمان وأم سلمة واسطة كرواية الجماعة، وتارة لا يذكر واسطة كرواية مالك وأيوب. وقد يقدم مالك على غيره لولا رواية عبيد الله بن عمر العمري، فلا أجد مرجحاً بين الروايتين، وعبيد الله بن عمر مقدم على مالك في نافع عند أكثرهم. وأما رواية سليمان عن مرجانة، عن أم سلمة. فرواها البيهقي (1/ 334) من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن سليمان بن يسار، به. وأما رواية سليمان بن يسار، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، حتى كان المركن ينقل من تحتها، وأعلاه الدم. قال: فأمرت أم سلمة أن تسأل لها النبي - صلى الله عليه وسلم -. فرواه حماد بن زيد عن أيوب، عن سليمان بن يسار به عند الدارقطني (1/ 208)، وقد سبق لك رواية مالك عن أيوب. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 118) حدثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن سليمان بن يسار، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: سئل له النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم تذكر أم سلمة. ومن طريق إسماعيل أخر جه الدارقطني (1/ 208). فرجح بعض العلماء أن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة. قال البيهقي (1/ 333): هذا حديث مشهور، أودعه مالك بن أنس الموطأ، وأخرجه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أبو داود في كتاب السنن، إلا أن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة. وكذا قال المنذري. وخالفهما ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 333)، فقال: " أخرجه أبو داود في سننه من حديث أيوب السختياني، عن سليمان، عن أم سلمة، كرواية مالك، عن نافع،. وقد ذكره البيهقي فيما بعد. قال صاحب الإمام: وكذلك رواه أسيد، عن الليث. وراه أسيد أيضاً عن أبي خالد الأحمر: سليمان بن حيان، عن الحجاج بن أرطاة، كلاهما عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. وذكر صاحب الكمال أن سليمان سمع من أم سلمة، فيحتمل أنه سمع هذا الحديث منها، ومن رجل عنها " اهـ قلت: هذا احتمال، والاحتياط للرواية ألا يقبل فيها ما كان من باب الاحتمالات، فالاحتمال غالباً يسقط الدليل لا يقويه. وقال النووي: إسناده على شرطهما. اهـ والنووي رحمه الله على طريقة الفقهاء يحكم دائماً للزيادة سواء كانت في الاسناد أو في المتن، فإذا أرسله جماعة، ووصله ثقة، أو أوقفه بعضهم ورفعه آخر، أو زاد لفظة لا يذكرها غيره ممن روى هذا الحديث، اعتبر النووي الاتصال، والرفع، والزيادة مقبولة، وهذا لا يتأتى على منهج جمهور أهل الحديث. هذا فيما يتعلق بالحديث على سبيل الإجمال، وإليك تخريج ما ذكر على سبيل التفصيل: تخريج الحديث أما رواية أيوب، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة: فأخرجها أحمد (6/ 321، 322) حدثنا، عفان، حدثنا وهيب، قال: ثنا أيوب، عن سليمان ابن يسار، عن أم سلمة بلفظ: أن فاطمة استحيضت، وكانت تغتسل في مركن لها، فتخرج، وهي عالية الصفرة والكدرة، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: تنظر أيام قرئها، أو أيام حيضها، فتدع الصلاة، وتغتسل فيما سوى ذلك، وتستثفر بثوب، وتصلي " وليس في هذا اللفظ موضع شاهد للباب، وهو قوله:" قبل أن يصيبها الذي أصابها الذي أصابها ".ولم يرد هذا اللفظ إلا في روية مالك عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. وأخرجه أبوداود (278) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب به. وأخرجه الدارقطني (1/ 208) من طريق معلى بن أسد، أخبرنا وهيب به. وقرنه برواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن سليمان بن يسار، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت حتى كان المركن ينقل من تحتها، وأعلاه الدم، فأمرت أم سلمة تسأل لها النبي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = - صلى الله عليه وسلم - ... . وذكر الحديث. وأخرجه الدارقطني (1/ 207) من طريق سفيان، وأخرجه أيضاً (1/ 208) من طريق عبد الوارث، كلاهما عن أيوب به. أما رواية نافع، عن سليمان عن رجل عن أم سلمة فرواه أبو داود (275) حدثنا قتيبة بن سعيد، ويزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب، قالا: حدثنا الليث، عن نافع به. ومن طريق الليث أخرجه البيهقي (1/ 333). وأخرجه أبو داود (277) حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا صخر بن جويرية، عن نافع به. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 333). وأخرجه الدارقطني (1/ 217) من طريق ابن مهدي، عن صخر بن جويرية به. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (113) حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، ثنا عبد الرحمن بن مهدي. وأخرجه البيهقي (1/ 333) من طريق جويرية بن أسماء، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، فرقهما، عن نافع به. واختلف على نافع: فرواه الليث، وصخر بن جويرية، وجويرية بن أسماء، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، كلهم رووه عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن رجل، عن أم سلمة. وخالفهم مالك، فرواه عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. أخرجها مالك في الموطأ (1/) وأحمد في المسند (6/ 320) قرأت على عبد الرحمن، مالك به. وأخرجه أبو داود (274) حدثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا مالك به. وأخرجه النسائي (208،355)، وفي الكبرى (214) أخبرنا قتيبة، عن مالك به. ومن طريق مالك أخر جه البغوي (325). ورواه عبيد الله بن عمر. واختلف على عبيد الله فيه: فرواه أبو أسامة، وعبد الله بن نمير، كلاهما، عن عبيد الله، عن نافع، عن سليمان، عن أم سلمة، ولم يذكرا واسطة بين سليمان، وبين أم سلمة. وخالفهما أنس بن عياض، فرواه عن عبيد الله، عن نافع، عن سليمان، عن رجل، عن أم سلمة. فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 118) ح1346 حدثنا ابن نمير، وأبو أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. وأخرجه أحمد (6/ 293) حدثنا ابن نمير، ثنا عبيد الله به. =

وجه الاستدلال: قوله: " ثم لتستثفر بثوب ". قال ابن منظور في اللسان: وهو أن تشد فرجها بخرقة عريضة أو قطنة تحتشي بها، وتوثق طرفيها في شيء تشده على وسطها فتمنع سيلان الدم وهو مأخوذ من: ثَفَر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها. وفي نسخة: " وتوثق طرفيها، ثم تربط فوق ذلك رباطاً، تشد طرفيه إلى حقب تشده كما تشد الثفر تحت ذنب الدابة " (¬1). وقال في تاج العروس: " والاستثفار أن يدخل الإنسان إزاره بين فخذيه ملوياً ثم يخرجه، والرجل يستثفر بإزاره عند الصراع، إذا هو لواه على فخذيه فشد طرفيه في حجزته وزاد ابن ظفر في شرح المقامات: حتى يكون كالتُّبان، وقد تقدم أن التبان هو السراويل الصغير، لا ساقين له .. الخ كلامه (¬2). وورد كذلك التلجم والتحفظ في حديث حمنة بنت جحش، ¬

= وأخرجه النسائي (354) أنبأنا محمد بن عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا أبو أسامة به. وأخرجه ابن ماجه (623) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: ثنا أبو أسامة به. ومن طريق أبي أسامة أخرجه الدارقطني (1/ 217). وخالفهما أنس بن عياض فرواه عن عبيد الله بن عمر بزيادة الرجل المبهم بين سليمان، وبين أم سلمة. فقد أخرجه أبو داود (276) ومن طريقه البيهقي (1/ 333) حدثنا عبيد الله بن مسلمة، حدثنا أنس بن عياض به. وأما رواية سليمان بن يسار، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أو سئل لها ... الحديث. فرواه ابن أبي شيبة (1/ 118) حدثنا أسماعيل بن علية، عن أيوب، عن سليمان به. ومن طريق ابن علية أخرجه الدارقطني (1/ 208). والله أعلم. (¬1) اللسان (4/ 105). (¬2) تاج العروس (6/ 148).

(420 - 264) فقد رواه أحمد، وفيه: فقلت: يا رسول الله، إني استحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها، قد منعتني الصلاة والصيام، قال: أنعت لك الكرسف؛ فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فتلجمي. قالت: إنما اثج ثجاً ... الحديث (¬1). [والحديث ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (6/ 439)، وبقية الحديث: قال: سآمرك بأمرين أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الآخر، فإن قويت عليهما، فأنت أعلم. فقال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستيقنت، واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلة أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن بميقات حيضهن وطهرهن وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين، وكذلك فافعلي، وصلي وصومي، إن قدرت على ذلك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهذا أعجب الأمرين إلي. (¬2) والحديث ضعيف لما يلي: أولاً: انفرد فيه ابن عقيل، والأكثر على ضعفه. قال ابن عيينة: أربعة من قريش يترك حديثهم، فذكر ابن عقيل منهم. وسبق أن حررت القول فيه. ومن أخطائه ما رواه أحمد (1/ 102): من طريق حماد بن سلمة، عن ابن عقيل، عن محمد بن علي بن الحنفية عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في سبعة أثواب. فإن هذا مخالف لما في الصحيحين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب. ثانياً: أن أحاديث الصحيحين ترد المستحاضة إلى عادتها، وحديث ابن عقيل يردها إلى غالب النساء لا إلى عادتها ولا إلى التمييز، ولا أعلم له متابعاً، فانفراده بمثل هذا الحكم لايجعل مقدماً على حديث الصحيحين. فهذه قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش صريحة بردها إلى عادتها، فقد روى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = البخاري (306): من طريق مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله إني لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي. فقوله: فإذا ذهب قدرها صريح بردها إلى العادة. ورواه البخاري (325) من طريق أبي أسامة عن هشام به بلفظ: " ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ". ورواه ابن حبان (1355) بسند صحيح من طريق أبي عوانة عن هشام به بلفظ: "تدع الصلاة أيامها". ورواه البخاري (320): من طريق ابن عيينة عن هشام به: " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ". ورواه مسلم (333) من طريق وكيع عن هشام به بنفس اللفظ، إلا أنه قال: " فاغسلي عنك الدم وصلي "، والمقصود بالإقبال والإدبار: إقبال وقت الحيض وإدبار وقته جمعاً بينه وبين ما سبق. كما أن أم حبيبة قد ردها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى عادتها. فقد روى مسلم (65 - 434) عن عائشة رضي الله عنها قال: إن أم حبيبة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدم؟ فقالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دماً، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي ". فهذه أحاديث الصحيحين ظاهرها ترد المستحاضة إلى عادتها. وهنا حديث ابن عقيل رحمه الله ردها إلى غالب الحيض، فقال: "تحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام"، فلم يردها إلى عادتها، وقد تكون عادتها أكثر أو أقل، ولم يردها إلى التمييز. وقد قال الخطابي في معالم السنن (1/ 183): " إنما هي امراة مبتدأة لم يتقدم لها أيام، ولا هي مميزة لدمها، وقد استمر بها الدم حتى غلبها، فرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها إلى العرف الظاهر، والأمر الغالب من أحوال النساء، كما حمل أمرها في تحيضها كل شهر مرة واحدة على الغالب من عادتهن ... الخ ". قلت: أين الدليل من الحديث على أنها مبتدأة، هذا أولاً. وثانياً: أنها لاتستطيع أن تميز بين دم الحيض ودم الاستحاضة. فهذا لاسبيل إليه من الحديث، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسألها هل أنت مبتدأة؟ وهل لك عادة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مستقرة من قبل؟ وهل تميزين بين دم الحيض وبين دم الاستحاضة؟ فلو وقع ذلك لكان له وجه في حمل الحديث على المبتدأة غير المميزة، ولما كانت هناك مخالفة لأحاديث الصحيحين، ولكن لما ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاستفصال في مقام الاحتمال نزل منزلة العموم في المقال. فالحديث ظاهره رد المستحاضة مطلقاً إلى عادة النساء. ثالثاً: أن الحديث أمرها في الجمع بين الصلوات، وأحاديث المستحاضة في الصحيحين من أحاديث عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش وأم حبيبة لم يرشدها إلى الجمع. كما أن الحديث دليل على من يقول بالجمع الصوري. وقد يستدل بهذا الحديث لو ثبت على من ينكر الجمع في الإقامة والسفر إلا في عرفة، ويحمل الأحاديث على الجمع الصوري، وهو تأخير أولى الصلاتين وتعجيل الثانية، فالأولى في آخر الوقت، والثانية في أول الوقت، وإنما قصد من الجمع لأهل الاعذار التخفيف عليهم، والجمع في هذه الصورة فيه حرج ومشقة، ومن يعلم الوقت ودقته، والناس في ذلك الوقت لم يكن لديهم ساعات كما هي الحال في هذا العصر، حتى يوقع أولى الصلاتين في آخر الوقت، بينما تقع الصلاة الثانية في أول الوقت كلام أهل العلم في الحديث: ضعفه أبو حاتم في العلل (1/ 51) ح123، قال ابنه: سألت أبي عن حديث رواه ابن عقيل، عن إبراهيم بن محمد، عن عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش في الحيض، فوهنه، ولم يقو إسناده. وضعفه الدارقطني كما في شرح ابن رجب للبخاري (2/ 64)، ولم أجده في السنن له، لكن قال محققوا شرح ابن رجب إنه موجود في كتاب العلل الدارقطني، وأحالوا على (5 ب / ق 101ـأ) وفي تلخيص الحبير (1/ 288): " وقال ابن منده: لايصح بوجه من الوجوه؛ لأنهم أجمعوا على ترك حديث ابن عقيل ". وحمل الحافظ قول ابن منده بكونهم أجمعوا على ترك حديثه يعني مَنْ خرج الصحيح، فليس له في الصحيحين رواية. وقال البيهقي: تفرد به ابن عقيل، وهو مختلف في الاحتجاج به. وأما الإمام أحمد .. فاختلف النقل عنه، والراجح عنه تضعيفه. قال الترمذي (1/ 226): سألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = صحيح، وقال: يعني الترمذي: وهكذا قال أحمد: هو حديث حسن صحيح. فهذا النقل من الترمذي عن أحمد، لايقدم على نقل أبي داود، فإن أبا داود من تلاميذ أحمد الملازمين له، وله عنه مسائل مشهورة. فقد قال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث في السنن (287) قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء. وقال ابن رجب في شرحه للبخاري (2/ 64): والمعروف عن الإمام أحمد، أنه ضعفه، ولم يأخذ به، وقال: ليس بشيء. وقال مرة: ليس عندي بذلك، وحديث فاطمة أصح منه وأقوى إسناداً، يعني: أنه لم يردها إلى غالب النساء بل ردها إلى العادة. وقال أحمد أيضاً: في نفسي منه شيء. ولكن ذكر أبو بكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بحديث حمنة، والأخذ به!!. اهـ كلام ابن رجب رحمه الله قلت: والقول بالحديث، والأخذ به لايعني صحته في نفسه ما لم يصرح المحدث بأنه صحيح، وكم من حديث ضعيف في الترمذي ويصرح الترمذي بأن العمل عليه، ولايعني كون العمل عليه أن يكون صحيحاً في نفسه، وأقربها عندي حديث:"الماء طهور لاينجسه شيء إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه"،فالاستثناء لايثبت من جهة الحديث، والعمل عليه. فقول أبي بكر الخلال بأن أحمد يقول بحديث حمنة ويأخذ به ليس صريحاً في كونه صحيحاً عنده. وفي التمهيد لابن عبد البر (16/ 61): " قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: في الحيض حديثان، والآخر في نفسي منه شيء، قال أبو داود: يعني أنه في الحيض ثلاثة أحاديث، هي أصول هذا الباب: أحدها: حديث مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار. والآخر: حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. والثالث: والذي في قلبه منه شيء، وهو حديث حمنة بنت جحش الذي يرويه ابن عقيل". وقال الخطابي في معالم السنن (1/ 183): " وقد ترك بعض العلماء القول بهذا الخبر؛ لأن ابن عقيل راويه ليس بذاك ". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وصححه البخاري، قال الترمذي: سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن صحيح. لكن البيهقي نقل عبارة البخاري بأتم مما نقل الترمذي إلا أنه ساقها بلاغاً. قال البيهقي (1/ 339): بلغني عن أبي عيسى الترمذي، أنه سمع محمد بن إسماعيل البخاري يقول: حديث حمنة بنت جحش في المستحاضة هو حديث حسن إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم، لا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا؟ وكان أحمد بن حنبل يقول: هو حديث صحيح. والبلاغ ضعيف للجهل بالواسطة بين البيهقي والترمذي. وقد أجاب الشوكاني بجواب واضح فقال في النيل (1/ 338): إبراهيم بن طلحة مات سنة 110 هـ عشر ومائة فيما قاله أبو عبيد القاسم بن سلام، وعلي بن المديني، وخليفة بن خياط، وهو تابعي سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبا هريرة، وعائشة. وابن عقيل سمع عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، والربيع بنت معوذ، فكيف ينكر سماعه من محمد بن إبراهيم بن طلحة لقدمه، وأين ابن طلحة من هؤلاء في القدم، وهم نظراء شيوخه في الصحبة، وقريب منهم في الطبقة، فينظر في صحة هذا عن البخاري " اهـ. تخريج الحديث: الحديث كما سبق مداره على ابن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران ابن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش. ويرويه عن ابن عقيل زهير بن محمد الخرساني، وشريك بن عبد الله النخعي، وعبيد الله ابن عمر الرقي، وعمرو بن ثابت، وإبراهيم بن أبي يحيى. أما رواية زهير بن محمد عن ابن عقيل: فأخرجها أحمد (6/ 439): حدثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا زهير - يعني ابن محمد الخرساني - عن عبد الله بن محمد - يعني: ابن عقيل بن أبي طالب به. وأخرجه أبو داود (287): حدثنا زهير بن حرب وغيره، قالا: حدثنا عبد الملك بن عمرو به. وأخرجه الترمذي (128): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عامر العقدي (عبد الملك ابن عمرو) به. =

وجه الاستدلال: قوله: "تلجمي"، قال ابن منظور في اللسان: تلجمت المرأة، إذا استثفرت لمحيضها. واللجام: ما تشده الحائض، وفي حديث المستحاضة: "تلجمي " أي شدي لجاماً، وهو شبيه بقوله: " استثفري " أي: ألجمي موضع خروج الدم عصابة تمنع الدم، تشبيهاً بوضع اللجام في فم الدابة (¬1). وقال: نحوه في تاج العروس (¬2). وكانت النساء تستثفر ولو لم تجب عليها الصلاة حرصاً على عدم تلوثها ¬

= وأخرجه الدارقطني (1/ 214) من طريق أبي عامر العقدي. ورواه الحاكم، ومن طريقه البيهقي (1/ 238) عن زهير بن محمد، وعبيد الله بن عمرو الرقي، عن ابن عقيل به، إلا أنه ليس فيه الاغتسال لصلاة الفجر. وأما رواية شريك بن عبد الله عن ابن عقيل. أخرجه أحمد (6/ 381): ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك بن عبد الله، عن ابن عقيل به. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 120) ح 1364، ومن طريقه ابن ماجه (627) حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شريك به، ولم يذكر غسل الفجر. وأخرجه الدارقطني (1/ 214) من طريق يزيد بن هارون به. وأما رواية عبيد الله بن عمرو الرقي عن ابن عقيل. فأخرجها الدارقطني (1/ 215)، والحاكم (1/ 172)، والبيهقي (1/ 238). وأما رواية إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن ابن عقيل. رواه الشافعي في الأم (1/ 60) ومن طريقه الدارقطني (1/ 215). وأما رواية عمرو بن ثابت عن ابن عقيل. فرواها الدارقطني (1/ 215). (¬1) اللسان (12/ 534). (¬2) تاج العروس (17/ 639).

في الدم. (421 - 265) فجاء في حديث جابر عند مسلم في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، واستثفري، وأحرمي (¬1)، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح مسلم (147 - 1218).

الفصل السادس في الاستنجاء من البعر الناشف والحصاة والدود

الفصل السادس في الاستنجاء من البعر الناشف والحصاة والدود إذا خرج البعر ناشفاً وكذلك الحصاة والدود، فاختلف الفقهاء هل يستنجي منها أم لا؟ فقيل: لا يستنجي، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والأظهر عند الشافعية (¬3)، ورحجه بعض الحنابلة (¬4). وقيل: يشرع الاستنجاء، وهو قول في مذهب الشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 252) وقال: إنه صرح به في السراج الوهاج، وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 335). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 113)، مواهب الجليل (1/ 284)، التاج والإكليل (1/ 291)،المنتقى (1/ 45). (¬3) قال في روضة الطالبين (1/ 67): فإن لم يكن ملوثاً، كدود وحصاة بلا رطوبة، لم يجب الاستنجاء على الأظهر. قال النووي: والبعرة اليابسة كالحصاة، وصرح به صاحب الشامل وآخرون. اهـ وانظر شرح زبد ابن رسلان (ص: 52)، مغني المحتاج (1/ 46)،أسنى المطالب (1/ 49)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 50). (¬4) كشاف القناع (1/ 70)، منار السبيل (1/ 25)، وانظر المغني (1/ 100)، والإنصاف (1/ 113)، تحفة المحتاج (1/ 185). (¬5) مغني المحتاج (1/ 46)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 50). (¬6) عبارة الحنابلة: ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الريح، والاستثناء معيار العموم، فلما لم يستثن إلا الريح دل على وجوبه فيما عداه، ومنها الحصى والدود والبعر الناشف. وقال في المغني (1/ 100): والاستنجاء لما خرج من السبيلين، هذا فيه إضمار، وتقديره: والاستنجاء واجب، فحذف خبر المبتدأ اختصاراً، وسواء كان الخارج معتاداً، =

دليل من قال: لا يستنجي

دليل من قال: لا يستنجي. الدليل الأول: الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة، ولا نجاسة هنا. فالاستنجاء والمحل نظيف شبيه بالعبث. الدليل الثاني: قالوا: الحصاة طاهرة خاصة إذا خرجت، وهي ناشفة، فهي تشبه الريح، ¬

_ = كالبول والغائط، أو نادراً، كالحصى والدود والشعر, رطبا أو يابسا. اهـ وقال الإنصاف (1/ 113): قوله: (ويجب الاستنجاء من كل خارج إلا الريح) شمل كلامه الملوث وغيره، والطاهر والنجس، أما النجس الملوث فلا نزاع في وجوب الاستنجاء منه. وأما النجس غير الملوث والطاهر: فالصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب: وجوب الاستنجاء منه، وهو ظاهر كلام الخرقي، والهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والمستوعب، والتلخيص، والبلغة. قال الزركشي وابن عبيدان وغيرهما: بل هو ظاهر قول أكثر أصحابنا، وقدمه في المغني، والشرح، والفروع، والرعايتين، والحاويين، والزركشي، وغيرهم. قال المرداوي: وهو ضعيف. وانظر المبدع (1/ 95). وقيل: لا يجب الاستنجاء للخارج الطاهر وهو ظاهر المحرر , والمنور , والمنتخب. فإنهم قالوا: وهو واجب لكل نجاسة من السبيل [وكذا قيده المجد في شرح الهداية. قال ابن عبدوس في تذكرته: ويجزئ أحدهما لسبيل] نجس بخارجه. قال في التسهيل: وموجبه خارج من سبيل سوى طاهر , وقيل: لا يجب للخارج الطاهر , ولا للنجس غير الملوث. قال المصنف وتبعه الشارح والقياس لا يجب الاستنجاء من ناشف لا ينجس المحل. وكذلك إذا كان الخارج طاهرا , كالمني إذا حكمنا بطهارته ; لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة. ولا نجاسة هنا. قال في الفروع: وهو أظهر , قال في الرعاية الكبرى: وهو أصح قياسا. قلت: وهو الصواب. وكيف يستنجي أو يستجمر من طاهر؟ أم كيف يحصل الإنقاء بالأحجار في الخارج غير الملوث؟ وهل هذا إلا شبيه بالعبث؟ وهذا من أشكل ما يكون. فعلى المذهب يعايى بها. وأطلق الوجوب وعدمه ابن تميم , والفائق.

دليل من قال: يستنجي منها

بل هي أولى من الريح بعدم الاستنجاء، لأن الريح لها رائحة منتنة بخلاف الحصاة. وكيف يستنجي أو يستجمر من طاهر؟ فإن قيل: قد يتصور وجود بلة يسيرة. قيل: إن كان يسيراً فهو معفو عنه، كما يعفى عن أثر الاستجمار، وإن كانت البلة كثيرة خرج البحث عن مسألتنا؛ لأن البحث فيما لو خرجت الحصاة ناشفة، أو البعرة جافة. دليل من قال: يستنجي منها. لا أعلم له دليلاً من كتاب أو سنة إلا القياس على البول والغائط، وهو قياس مع الفارق، لأن البول الغائط نجسان ملوثان، فيحتاج المحل إلى الإنقاء منهما، وأما الحصاة والدودة وحتى البعرة الناشفة فهي أشياء غير ملوثة، فالمحل يعتبر طاهراً فلم يحتج إلى تطهير. وقد يقولون: إن المحل لا يسلم من بلة يسيرة، وهذا غير كاف في مشروعية الاستنجاء، وقد أجبت عنه في ما تقدم. وبناء على ذلك فلا يجب الاستنجاء مما خرج ناشفاً غير منجس للمحل؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فمتى وجدت العلة: وهي النجاسة هنا وجد الحكم، وهو تطهير المحل بالاستنجاء، ومتى عدمت العلة المذكورة عدم الحكم.

الفصل السابع في الاستنجاء من الريح

الفصل السابع في الاستنجاء من الريح لا يشرع الاستنجاء من الريح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يستنجي، اختاره حنابلة الشام (¬5)، وهو خلاف شاذ. وهل الاستنجاء منها على الكراهة أو التحريم فيه خلاف: فقيل: للتحريم، وهو ظاهر مذهب الحنفية حيث أطلقوا على الاستنجاء من ¬

(¬1) قال ابن عابدين في حاشيته (1/ 335): الاستنجاء على خمسة أوجه: ثم قال: والخامس: بدعة، وهو الاستنجاء من الريح. اهـ وقال في مراقي الفلاح (ص: 18): والاستنجاء سنة من نجس، قال: وإنما قيدنا من نجس؛ لأن الريح طاهر على الصحيح، والاستنجاء منها بدعة. اهـ وانظر بدائع الصنائع (1/ 19)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 56)، البحر الرائق (1/ 252)، الفتاوى النهدية (1/ 47). (¬2) المدونة (1/ 117)، المنتقى للباجي (1/ 44)، مواهب الجليل (1/ 105،286)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، التاج والإكليل (1/ 286)، الفواكه الدواني (1/ 132)، مختصر خليل (ص:15)، رسالة القيرواني (ص: 14). (¬3) المجموع (2/ 113)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 48)، المهذب (1/ 27)، المنهج القويم (ص: 79)، شرح زبد بن رسلان (ص: 52)، إعانة الطالبين (1/ 107)، تحفة المحتاج (1/ 185). (¬4) المغني (1/ 100)، الإنصاف (1/ 113،114)، الفروع (1/ 119). (¬5) الإنصاف (1/ 113،114)، الفروع (1/ 119).

دليل من قال: لا يستنجي

الريح بأنه بدعة (¬1)، واختاره بعض الشافعية (¬2). وقيل: يكره الاستنجاء من الريح، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4). وقيل: لا يكره الاستنجاء من الريح إن خرجت والمحل رطب، قاله بعض الشافعية (¬5). دليل من قال: لا يستنجي. الدليل الأول: الإجماع على أن الاستنجاء لا يجب من الريح، حكى الإجماع جماعة منهم النووي في المجموع (¬6)، وابن قدامة في المغني (¬7) وغيرهما. الدليل الثاني: الأصل عدم الوجوب حتى يوجد دليل من كتاب أو سنة أو إجماع على مشروعية الاستنجاء، ولم ينقل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استنجى من الريح، ولا ¬

(¬1) انظر العزو إلى كتبهم في ما تقدم، وخاصة الفتاوى النهدية (1/ 50)، حاشية ابن عابدين (1/ 335)، ومراقي الفلاح (ص: 18). (¬2) تحفة المحتاج (1/ 185). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 112)، الفواكه الدواني (1/ 132). (¬4) إعانة الطالبين (1/ 107)،. (¬5) تحفة المحتاج (1/ 185). (¬6) قال النووي في المجموع (2/ 113): أجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح والنوم ولمس النساء والذكر، وحكي عن قوم من الشيعة أنه يجب، والشيعة لا يعتد بخلافهم. اهـ (¬7) قال ابن قدامة في المغني (1/ 100): ليس على من نام، أو خرجت منه ريح استنجاء، ولا نعلم في هذا خلافا. اهـ

الدليل الثالث

صحابته الكرام، ولا أنه أمر بالاستنجاء منها، وهذا كاف في عدم المشروعية. الدليل الثالث: قالوا: إن الريح ليس بنجس، ولو وجب منه الاستنجاء لوجب غسل الثوب؛ لأنه يلقاه. فإن قيل: تصحبه أجزاء نجسة، قيل: هذا لا سبيل إلى علمه، ولو ثبت فقدر ذلك وأكثر منه يبقى بعد مسح الأحجار، ومع ذلك يحكم بطهارة المحل بعده (¬1). الدليل الرابع: من النظر قالوا: إن الاستنجاء مأخوذ من النجو فإذا لم يكن نجو لم يشرع الاستنجاء، فإذا خرجت الريح لم يكن على السبيل منها شيء من الغائط، فيكون الاستنجاء عبثاً؛ لأن المحل نظيف. وبعضهم يعلل بقوله: إن الريح عرض بإجماع الأصوليين (¬2). الدليل الخامس: (422 - 266) ما رواه ابن عدي (¬3)، ومن طريقه أبو القاسم الجرجاني في تاريخ جرجان (¬4)، من طريق محمد بن زياد بن زبار، حدثنا شرقي بن قطامي، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من استنجى من الريح فليس منا. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 286). (¬2) الفروع (1/ 119). (¬3) الكامل (4/ 35). (¬4) تاريخ جرجان (ص: 313) رقم 547.

دليل من قال: يشرع الاستنجاء منها

[إسناده ضعيف جداً] (¬1). دليل من قال: يشرع الاستنجاء منها. ذهب إلى أن الريح نجسة، وأنها خرجت وقد لا مست النجاسات. قالوا: ولأن الفرج ترمص كما ترمص العين!! والصحيح الأول، وأنها طاهرة، وكون رائحتها خبيثة لا يكفي دليلاً على نجاستها، ولو كانت نجسة لوجب غسل الثياب إذا خرجت الريح ولاقت ثياباً رطبة، والله أعلم. ¬

(¬1) قال محمد بن زياد بن زبار: رأيت شرقي بن قطامي ولم أسمع منه، نقله عنه أبو حاتم في الجرح والتعديل (7/ 258). وقال أبو حاتم الرازي: أتينا محمد بن زياد بن زبار ببغداد، وكان شيخاً شاعراً، وقعدنا في دهليزه ننتظره، وكان غائباً، فجاءنا فذكر أنه قد ضجر، فلما نظرنا إلى قده علمنا أنه ليس من البابة فذهبنا ولم نرجع إليه. المرجع السابق. قال يحيى بن معين: لا شيء. تاريخ بغداد (5/ 281)، وميزان الاعتدال (3/ 552) وتحرفت في الجرح والتعديل إلى قوله: لا أحد. وقال الذهبي: كان شاعرا مشهورا قل ما روى من الحديث. المرجع السابق. وفي إسناده أيضاً: شرقي بن قطامي، جاء في ترجمته: قال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي الحديث، ليس عنده كثير حديث. الجرح والتعديل (4/ 376). وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 449). وضعفه الساجي. المغني في الضعفاء (2757). وقال شعبة: حماري وردائي للمساكين إن لم يكن شرقي كذب على عمر. لسان الميزان (3/ 142). وقال اليوسفي: كان كذاباً، ويكنى أبا المثنى. المرجع السابق.

الباب السادس في الاستنجاء بالماء

الباب السادس في الاستنجاء بالماء

الفصل الأول خلاف العلماء في الاستنجاء بالماء

الفصل الأول خلاف العلماء في الاستنجاء بالماء يجوز الاستنجاء بالماء، ويجوز تركه إلى الحجارة ولو كان قادراً على الماء، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يجوز الاستنجاء بالماء، حكي هذا القول عن بعض السلف، وهو مرجوح (¬2). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: وانظر في مذهب المالكية: وانظر في مذهب الشافعية: وانظر في مذهب الحنابلة: (¬2) جاء في المنتقى للباجي (1/ 46): كان سعيد بن المسيب وغيره من السلف يكرهون ذلك، ويقول ابن المسيب: إنما ذلك وضوء النساء. اهـ وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 142): حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة، قال: سئل عن الاستنجاء بالماء؟ فقال: إذاً لا تزال في يدي نتن. وسنده صحيح، وقد صحح إسناده الحافظ بالفتح. وروى ابن أبي شيبة (1/ 143) حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن نافع، قال: كان ابن عمر لا يستنجي بالماء. وهذا إسناد حسن إن شاء الله تعالى. وروى ابن أبي شيبة (1/ 142)، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان الأسود وعبد الرحمن بن يزيد يدخلان الخلاء، فيستنجيان بأحجار، ولا يزيدان عليها، =

دليل من قال: يجوز الاستنجاء بالماء

دليل من قال: يجوز الاستنجاء بالماء. الدليل الأول: (423 - 267) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، سمع أنس بن مالك يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة يستنجي بالماء (¬1). ¬

= ولا يسمان ماء. وإسناده صحيح. وروى ابن أبي شيبة أيضاً (1/ 142): حدثنا وكيع، عن مسعر، عن عبيد الله ببن القطبية، عن ابن الزبير أنه رأى رجلاً يغسل عنه أثر الغائط، فقال: ما كنا نفعله. وهذا إسناد صحيح. وقال ابن حجر في الفتح (ح 150) تعليقاً على ترجمة البخاري (باب الاستنجاء بالماء): روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سئل عن الاستنجاء بالماء، فقال: إذا لا يزال في يدي نتن. وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء، وعن ابن الزبير: ما كنا نفعله. ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - استنجى بالماء. وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء؛ لأنه مطعوم. اهـ كذا نقل ابن حجر عن ابن حبيب، مع أن الموجود عن ابن حبيب كما في حاشية الخرشي أنه يوجب الاستنجاء بالماء، ولا يجوز الاقتصار على الاستنجاء بالحجارة مع وجود الماء. والنقل هذا عكس ما نقله ابن حجر، وهو مقد على نقل الحافظ؛ لأن هذا من كتب المالكية، وهم أعلم بمذهب أصحابهم، والله أعلم. (¬1) صحيح البخاري (152)، ومسلم (271). قال الأصيلي في الفتح (ح 150) متعقباً على البخاري استدلاله بهذا الحديث بأن قوله: فيستنجي به " من قول أنس، وإنما من قول أبي الوليد، أحد الرواة عن شعبة، فقد رواه البخاري عن أبي الوليد، عن شعبة، عن أبي معاذ، واسمه عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (424 - 268) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرنا شريك، عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء دعا بماء، فاستنجى، ثم مسح بيده على الأرض ثم توضأ (¬1). ¬

= أنس بن مالك يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته، أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء، يعني: يستنجي به. والدليل على أنها من قول أبي الوليد بأن الحديث قد رواه البخاري عن سليمان بن حرب، عن شعبة به، كما في رقم (151) بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام معنا إداوة من ماء. فلم يذكر فيستجي به، فتعقبه الحافظ في الفتح، فقال: لكن رواه عقبة من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة به، فقال: يستنجي بالماء. والاسماعيلي، من طريق ابن مرزوق، عن شعبة به، بلفظ: فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة من ماء يستنجي منها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وللبخاري من طريق روح بن القاسم، عن عطاء بن أبي ميمونة: " إذا تبرز لحاجته أتيته بماء، فيغتسل به. قلت: فهذه الطريق غير طريق شعبة. قال الحافظ: ولمسلم من طريق خالد الحذاء، عن عطاء، عن أنس، فخرج علينا، وقد استنجى بالماء. وهذه متابعة ثانية لشعبة. قال الحافظ: وقد بان بهذه الروايات أن حكاية الاستنجاء من قول أنس رضي الله عنه راوي الحديث، وكذا فيه الرد على من زعم أن قوله: يستنجي بالماء مدرج من قول عطاء، الرواي عن أنس، فيكون مرسلاً، فلا حجة فيه كما حكاه ابن التين عن أبي عبد الملك البوني، فإن رواية خالد الحذاء التي في مسلم، وقد ذكرناها تدل على أنه قول أنس، حيث قال: (وقد خرج علينا، وقد استنجى بالماء). (¬1) المسند (2/ 454).

الدليل الثالث

[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثالث: (425 - 269) ما رواه أحمد، قال: ما رواه أحمد، قال: حدثنا بهز، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، عن معاذة، عن عائشة قالت: مرن أزواجكن يغسلوا عنهم أثر الخلاء والبول، فإنا نستحيي أن ننهاهم عن ذلك، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

(¬1) سبق تخريجه في مسألة: استحباب غسل اليد بعد غسل دبره، فانظره هناك. (¬2) المسند (6/ 95،120). (¬3) رجاله كلهم ثقات، وقد توبع فيه قتادة، كما سيأتي في تخريجه. والحديث يرويه ابن سيرين، ومعاذة وأبو عمار البصري، عن عائشة على خلاف بينهم في رفعه ووقفه على النحو التالي: أما طريق معاذة بنت عبد الله، عن عائشة. فأخرجه أحمد كما في حديث الباب، وأبو يعلى في مسنده (4859) وابن المنذر في الأوسط (1/ 356) من طريق همام، عن قتادة، عن معاذة به. وأخرجه الترمذي (19)، وابن حبان (1443) والنسائي في السنن الكبرى (46)، وفي المجتبى (46) والبيهقي (1/ 105) من طريق أبي عوانة، عن قتادة به. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 140) عن عبد الرحيم بن سليمان. وأحمد (6/ 236) عن يزيد بن هارون. وأخرجه أيضاً (6/ 171) عن محمد بن جعفر. وأخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده (1379) عن عبدة بن سليمان. وأبو يعلى (4514) من طريق محمد بن بكر. وأخرجه البيهقي (1/ 105) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، كلهم عن =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (426 - 270) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا هناد بن السري، ثنا ¬

_ = سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به، وعبدة بن سليمان وعبد الوهاب بن عطاء ممن سمع من سعيد قبل الاختلاط، وكذلك محمد بن جعفر على الصحيح. وأخرجه أحمد (6/ 113،114) حدثنا يونس، ثنا أبان، عن قتادة ويزيد الرشك، عن معاذة به. وانفرد أبان برواية الحديث من طريق يزيد الرشك مرفوعاً، والمحفوظ أن قتادة وحده يرفعه، ويزيد الرشك يرويه عن معاذة، عن عائشة موقوفاً عليها. فقد أشار البخاري في التاريخ الكبير (4/ 300) أنا أبا قلابة ويزيد الرشك روياه عن معاذة، عن عائشة موقوفاً عليها. وذكر ابن أبي حاتم في العلل (2/ 42) أن شعبة يرويه عن يزيد الرشك، عن معاذة موقوفاً عليها أيضاً. وكذلك روى البخاري في التاريخ الكبير (4/ 300) من طريق الحسن، عن معاذة (أم الصهباء) عن عائشة موقوفاً عليها. ورجح أبو رزعة كما في العلل لابن أبي حاتم (1/ 42) رواية قتادة المرفوعة. وقال البيهقي (1/ 106) ورواه أبو قلابة وغيره، عن معاذة العدوية، فلم يسنده إلى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقتادة أحفظ. وأما طريق ابن سيرين عن عائشة موقوفاً عليها: فرواه ابن أبي شيبة (1/ 140) حدثنا هشيم، قال: نا منصور، عن ابن سيرين، عن عائشة موقوفاً عليها. ورجاله ثقات، وقد صرح هشيم بالتحديث إلا أن ابن سيرين لم يسمع من عائشة، كما أخبر بذلك أبو حاتم وابن معين وغيرهما. وأما طريق أبي عمار، عن عائشة مرفوعاً. فوراه أحمد (6/ 93) وإسحاق في مسنده (1726) والبيهقي في السنن (1/ 106) من طريق الأوزاعي، حدثني أبو عمار، عن عائشة مرفوعاً. قال البيهقي: قال أحمد: هذا مرسل، أبو عمار لا أراه أدرك عائشة.

الدليل الخامس

أبو الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من غائط قط إلا مس ماء (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الخامس: (427 - 271) ما رواه إسحاق بن راهوية في مسنده، قال: أخبرنا يحيى بن آدم، نا شريك، عن جابر، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل مقعدته ثلاثاً. وقال ابن عمر: قد فعلناه فوجدناه دواءً وطهوراً (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). ولا أعلم دليلاً في مشروعية العدد في الاستنجاء بالماء، إنما جاء العدد في الاستجمار بالحجارة في أحاديث صحيحة سوف نعرض لها إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (354). (¬2) ومن طريق أبي الأحوص أخرجه ابن حبان في صحيحه (1441). (¬3) مسند إسحاق (1604). (¬4) فيه جابر الجعفي رافضي، وفيه شريك سيء الحفظ، وزيد العمي ضعيف أيضاً، فهو مسلسل بالضعفاء. ورواه ابن ماجه (356) من طريق وكيع، عن شريك به. وقال في مصباح الزجاجة (1/ 54): هذا إسناد فيه زيد العمي، وهو ضعيف، وجابر هو الجعفي، وإن وثقه شعبة وسفيان الثوري فقد كذبه أيوب السجستاني وزاده، بل قال أبو حنيفة: ما رأيت أكذب من جابر الجعفي وكذبه غيرهم. انتهى. ورواه محمد بن يحيى ابن عمر العدني في مسنده عن وكيع بإسناده ومتنه. اهـ

دليل من قال: لا يستنجي بالماء

دليل من قال: لا يستنجي بالماء. استدل من منع الاستنجاء بالماء بأدلة منها: أولاً: قالوا: إن الماء مطعوم، فيجب تكريمه، والاستنجاء به إهانة له. وثانياً: أن في الاستنجاء بالماء تلفاً للماء. وثالثاً: أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء. وللجواب على هذا أن يقال: أما دعوى أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء، فممكن علاجها بتنظيف اليد بعده بالصابون ونحوه، وغاية ما فيه تفضيل الحجارة على الماء، مع أن الماء أبلغ في التطهير. وأما دعوى أنه تلف للمال، فقد كان إتلافه في مقابل منفعة، وليس بدون مقابل، وبذل المال في مقابل أمر واجب، وهو طهارة المحل، لا يعتبر إتلافاً. وأما دعوى أن المال مطعوم، ويجب صونه، فكما ثبت في تطهير دم الحيض بالماء، وهو في الصحيحين، وبول الأعرابي بالماء، وهو في الصحيحين كذلك، فدل على أن ذلك لا يعتبر امتهاناً للماء، وقد أنزل الله الماء مطهراً {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (¬1)، فامتن الله علينا بكونه مطهراً لنا من النجاسات والأحداث، والماء النازل من السماء ماء عذب، فهذا تعليل في مقابل النص، فيطرح. ¬

(¬1) الفرقان: 48.

الفصل الثاني أيهما أفضل الاستنجاء أم الاستجمار

الفصل الثاني أيهما أفضل الاستنجاء أم الاستجمار الاستنجاء بالماء أفضل، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: الاستجمار أفضل، وهو رواية عن أحمد (¬2)، ومنقول عن بعض السلف (¬3). دليل من قال: الماء أفضل. الدليل الأول: قالوا: إن الماء قالع للنجاسة، والحجر مخفف لها، وما كان قالعاً للنجاسة فهو أفضل. ¬

(¬1) انظر مذهب الحنفية: أحكام القرآن للجصاص (2/ 506)، تبيين الحقائق (1/ 77)، البحر الرائق (1/ 254)، الفتاوى الهندية (1/ 48)، حاشية ابن عابدين (1/ 338). وانظر في مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/ 284)، شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/ 74)، حاشية الدسوقي (1/ 111)، الفواكه الدواني (1/ 133). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/ 115)، الإقناع للشربيني (1/ 55)، التنبيه (ص:18)، روضة الطالبين (1/ 71)، شرح زبد الرسلان (ص: 52)، مغني المحتاج (1/ 43). وأنظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/ 105)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 610)، المغني (1/ 101)، مواهب الجليل (1/ 284). (¬2) ذكرها صاحب الفروع (1/ 119). (¬3) قدمت أقوالهم مسندة في مسألة: خلاف العلماء في الاستنجاء بالماء، وفي المغني (1/ 101): وحكي عن سعد بن أبي وقاص وابن الزبير أنهما أنكرا الاستنجاء بالماء. وقال سعيد بن المسيب: وهل يفعل ذلك إلا النساء؟ وقال عطاء: غسل الدبر محدث، وكان الحسن لا يستنجي بالماء، وروي عن حذيفة القولان جميعاً، وكان ابن عمر لا يستنجي بالماء ثم فعله.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (428 - 272) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا، معاوية بن هشام، عن يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: قالوا: إن الماء هو الأصل في تطهير النجاسات، وقد نص عليه في تطهير بول الأعرابي، وفي تطهير الثوب من دم الحيض، وفي تطهير المذي وفي غيرها، بينما يرى كثير من الفقهاء أن الاستجمار على خلاف الأصل، وأنه رخصة تخفيفاً عن الأمة، لأن الماء قد لا يكون موجوداً في كل مكان، والبول والغائط قد يأتي فجأة. دليل من قال: الحجر أفضل. عللوا بعلل منها: أولاً: قالوا: إنه هو المعروف عند أكثر الصحابة. وثانياً: أن الماء مطعوم، فيجب تكريمه، والاستنجاء به إهانة له. ¬

(¬1) سنن أبي داود (44). (¬2) انظر تخريجه وافياً في المسألة التي بعد هذه.

وثالثاً: أن في الاستنجاء بالماء تلفاً للماء. ورابعاً: أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء. وقد أجبت عن هذه الأدلة في ما سبق. والقول الأول هو الراجح؛ لقوة دليله وتعليله، والتمكن من الرد على إيرادات المخالف، والله أعلم.

الفصل الثالث في الجمع بين الحجارة والماء وأيهما يقدم

الفصل الثالث في الجمع بين الحجارة والماء وأيهما يقدم ذهب الجمهور إلى استحباب الجمع بين الحجارة والماء، فيقدم الحجارة لتخفيف النجاسة، ثم يتبعها الماء (¬1). وقيل: لا تجزئ الحجارة مع القدرة على الماء، اختاره ابن حبيب من المالكية (¬2). وقيل: لا يجوز الاستنجاء بالماء، وهو مذهب قديم مهجور لبعض ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 21)، تبيين الحقائق (1/ 77)، البحر الرائق (1/ 254)، حاشية ابن عابدين (1/ 338)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 30)، شرح فتح القدير (1/ 214). وانظر في مذهب المالكية: الفواكه الدواني (1/ 133)، شرح الزرقاني (1/ 75)، مواهب الجليل (1/ 284)، القوانين الفقهية (ص: 29)، وقال العدوي في حاشيته (1/ 224): حاصل ما في ذلك المقام أن الجمع بين الماء الحجر هو الأفضل على الإطلاق، ثم يلي ذلك الجمع بين الماء وغير الحجر من كل طاهر منق، ثم الماء وحده، ثم الحجر وحده، ثم غير الحجر وحده من كل طاهر منق. فالمراتب خمسة لا ثلاثة كما ذكره بعض الشراح. اهـ وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/ 37)، روضة الطالبين (1/ 71)، الإقناع للشربيني (1/ 53)، شرح زبد بن رسلان (ص: 52). وانظر في مذهب الحنابلة: الفروع (1/ 122)، المبدع (1/ 88)، الإنصاف (1/ 104)، حاشية الروض (1/ 138)، شرح العمدة (1/ 153)، الكافي (1/ 52). (¬2) البيان والتحصيل (17/ 485)، المفهم للقرطبي (1/ 520)، ونقل خلافه عن ابن حبيب، فقد قال الحطاب في مواهب الجليل (1/ 283): وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم. ثم قال: والمنقول عن ابن حبيب أنه منع الاستجمار مع وجود الماء. اهـ وعليه فيكون هناك قولان متقابلان عن ابن حبيب: الأول: المنع من الاستنجاء بالماء، والمنع من الاستنجاء بالحجارة.

دليل من قال باستحباب الجمع بين الحجارة والماء

السلف، وسبق ذكر دليله والجواب عنه. ومنع بعض العلماء المعاصرين الجمع بينهما، واعتبر الجمع بين الحجارة والماء من البدع، حيث لم يثبت في السنة الجمع بينهما (¬1). دليل من قال باستحباب الجمع بين الحجارة والماء. ذكروا دليلين، صريح ضعيف، وصحيح غير صريح. الدليل الأول: (429 - 273) ما رواه البزار، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز، وجدت في كتاب أبي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية في أهل قباء {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء. قال البزار: لا نعلم أحداً رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز، ولا عنه إلا ابنه. اهـ [إسناده ضعيف جداً، والمعروف من حديث أهل قباء ذكر الاستنجاء بالماء دون ذكر الحجارة] (¬2). ¬

(¬1) تمام المنة في التعليق على فقه السنة (ص: 65). (¬2) في إسناده محمد بن عبد العزيز بن عمر. قال ابن أبي حاتم: سألت أبى عنه فقال هم ثلاثة اخوة محمد بن عبد العزيز وعبد الله بن عبد العزيز وعمران عبد العزيز وهم ضعفاء الحديث ليس لهم حديث مستقيم وليس لمحمد عن أبى الزناد والزهري وهشام بن عروة حديث صحيح. الجرح والتعديل (8/ 7). وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (1/ 167). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (528). وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الثقات المعضلات، وإذا انفرد أتى بالطامات عن أقوام أثبات حتى سقط الاحتجاج به، وهو الذي جلد بمشورته مالك بن أنس. المجروحين (2/ 263). وقال الدارقطني: ضعيف. لسان الميزان (5/ 259). وفي إسناده أيضاً: عبد الله بن شبيب، ذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل بأنه رفيق أبيه بمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد سمع منه والده، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً (5/ 83). وقال ابن حبان: أخبرنا عن شيوخنا يقلب الأخبار ويسرقها لا يجوز الاحتجاج به لكثرة ما خالف أقرانه في الروايات عن الأثبات. المجروحين (2/ 47). وقال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث. لسان الميزان (3/ 299). وقال فضلك الرازي: يحل ضرب عنقه. تاريخ بغداد (9/ 474). ومع ضعف إسناده فقد انفرد بذكر الحجارة مع الماء، والمعروف من حديث أهل قباء الاستنجاء بالماء وحده، جاء من عدة أحاديث منها: الحديث الأول: ما رواه الحاكم (672) ومن طريقه البيهقي (1/ 105) من طريق ابن إسحاق، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} قال: لما نزلت هذه الآية بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عويم بن ساعدة، فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟ فقالوا: يا نبي الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل دبره. -أو قال مقعدته- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ففي هذا. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وقد حدث به سلمة بن الفضل هكذا عن محمد بن إسحاق. وأقره الذهبي. قلت: قال أبو حاتم في العلل (2/ 210): الأعمش قليل السماع من مجاهد، وعامة ما يروي عن مجاهد مدلس. ومع ضعف إسناده إلا أنه أقوى من طريق البزار، وله شواهد كما سيأتي. الحديث الثاني: ما رواه أحمد (3/ 422) حدثنا حسين بن محمد، ثنا أبو أويس، ثنا شرحبيل، عن عويم بن ساعدة الأنصاري، أنه حدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاهم في مسجد قباء، فقال: إن الله تبارك =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وتعالى قد أحسن عليكم الثناء والطهور في قصة مسجدكم، فماذا هذا الطهور الذي تطهرون به؟ قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا. في إسناده أبو أويس عبد الله بن عبد الله المدني، جاء في ترجمته: قال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (674). قال الدارقطني: في حفظه شيء. من تكلم فيه (397). وفيه شرحبيل بن سعد، جاء في ترجمته: قال ابن أبى ذئب: حدثنا شرحبيل بن سعد، وكان متهماً. الجرح والتعديل (4/ 338). وقال الدوري، عن يحيى بن معين، قال: شرحبيل بن سعد ليس بشيء، هو ضعيف. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى عن شرحبيل بن سعد، وقيل له: في حديثه لين؟ قال: نعم ضعيف الحديث. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سئل أبو زرعة عن شرحبيل بن سعد، فقال: مديني، فيه لين. المرجع السابق. كما أن فيه علة أخرى، وهو سماع شرحبيل من عويم، قال ابن حجر: وفي سماعه من عويم فيه نظر؛ لأن عويماً مات في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويقال: في خلافة عمر رضي الله عنه. تهذيب التهذيب (2/ 158). [تخريج الحديث] الحديث أخرجه أحمد كما تقدم والطبراني في الكبير (17/ 140) رقم 348 من طريق حسين بن محمد. وأخرجه الطبري في تفسيره (11/ 30) والطبراني في الأوسط (5885) وفي الصغير (828) من طريق إسماعيل بن صبيح اليشكري. وأخرجه ابن خزيمة (83) والحاكم (555) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، كلهم عن أبي أويس به. وقد صححه الحاكم. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 212): رواه أحمد والطبراني في الثلاثة، وفيه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = شرحبيل بن سعد، ضعفه مالك وابن معين وأبو زرعة، ووثقه ابن حبان. اهـ وجاءت متابعة لشرحبيل بن سعد، فقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 141) حدثنا هشيم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن مجمع بن يعقوب بن مجمع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعويم بن ساعدة: ما هذا الطهور الذي أثنى الله به عليكم؟ قالوا: نغسل الأدبار. ومجمع لم يدرك عويماً؛ لأن عويماً مات في خلافة عمر رضي الله عنه، ومجمع مات سنة ستين ومائة، وقيل: بعدها. الحديث الثالث: ما رواه أبو داود (44) قال: حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا، معاوية بن هشام، عن يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية. وإسناده ضعيف، في إسناده يونس بن الحارث، جاء في ترجمته: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ذكر أبى يونس بن الحارث، فقال: أحاديثه مضطربة. قال: وسألته مرة أخرى، فضعفه. الجرح والتعديل (9/ 237). وقال يحيى بن معين: يونس بن الحارث ضعيف لا شيء. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (620). وذكره العقيلي في الضعفاء (4/ 461). إبراهيم بن أبي ميمونة، لم يرو عنه إلا يونس بن الحارث، ولم يوثقه إلا ابن حبان حيث ذكره في الثقات (6/ 19)، وفي التقريب: مجهول الحال. والحديث رواه أبو داود (44) والترمذي (3100)، وابن ماجه (357) عن محمد بن العلاء به. وأخرجه البيهقي (1/ 105) من طريق أبي داود. الحديث الرابع: ما رواه ابن ماجه (355) قال: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عتبة بن أبي حكيم، حدثني طلحة بن نافع أبو سفيان قال: حدثني أبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك، أن هذه الآية نزلت {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل، من الجنابة ونستنجي بالماء، قال: فهو ذاك فعليكموه. في إسناده عتبة بن أبي حكيم، جاء في ترجمته: قال الجوزجاني: يروي عن أبي سفيان طلحة بن نافع حديثاً يجمع فيه جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم نجد منها ثم الأعمش ولا ثم غيره مجموعة. يعني: حديثنا هذا. أحوال الرجال (309). كان أحمد يلينه. بحر الدم (669). وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. الكامل (5/ 357). وقال عباس الدوري والمفضل بن غسان الغلابي، عن يحيى بن معين: ثقة. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: ضعيف الحديث. تهذيب الكمال (19/ 302). وقال الآجري، عن أبي داود: سألت يحيى بن معين عنه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو إنه لمنكر الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: كان احمد بن حنبل يوهنه قليلاً. الجرح والتعديل (6/ 370). وقال عثمان بن سعيد الدارمي، عن دحيم: روى عنه الشيوخ، لا أعلمه إلا مستقيم الحديث. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: صالح لا بأس به. الجرح والتعديل (6/ 370). وقال النسائي: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال الدراقطني: ليس بالقوي. وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيراً. كما أن في إسناده هشام بن عمار، قال الحافظ في التقريب: صدوق كبر، فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح. وقال أبو داود: قد حدث هشام بأرجح من أربعمائة حديث ليس لها أصل. تهذيب التهذيب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أبو حاتم: هشام صدوق، ولما كبر تغير حفظه، وكل ما دفع إليه قرأه، وكل ما لقن تلقن، وكان قديماً أصح. ولم يخرج له البخاري في صحيحه سوى حديثين قد توبع عليهما. كما أن أبا سفيان طلحة بن نافع مختلف فيه، وقال ابن عيينة: أحاديثه عن جابر صحيفة، وقال شعبة: لم يسمع من جابر إلا أربعة أحاديث. اهـ وليس له في البخاري إلا أربعة أحاديث مقروناً فيها بغيره، فالحديث إسناده ضعيف. والحديث أخرجه الحاكم (1/ 155) ومن طريقه البيهقي (1/ 105) من طريق محمد بن شعيب بن شابور، حدثني عتبة بن أبي حكيم به. وقد ضعفه الحافظ في التلخيص (1/ 200)، وابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 105)، وحسن إسناده الزيلعي في نصب الراية (1/ 219). الحديث الخامس: ما رواه أحمد (6/ 6) قال: ثنا يحيى بن آدم، ثنا مالك -يعني: ابن مغول- قال: سمعت يساراً أبا الحكم غير مرة يحدث عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا في قباء، قال: إن الله عز وجل قد أثنى عليكم في الطهور خيراً، أفلا تخبروني قال: يعني: قوله: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} قال: فقالوا يا رسول الله: إنا نجده مكتوباً علينا في التوراة الاستنجاء بالماء. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 141) حدثنا يحيى بن آدم به. ورواه الطبري في تفسيره (11/ 31) من طريق ابن المبارك، عن مالك بن مغول به. وفي إسناده شهر بن حوشب، مختلف فيه، والأكثر على ضعفه. وفي التقريب: صدوق كثير الإرسال والأوهام. وقد اختلف على شهر بن حوشب، فرواه الطبراني في الكبير (8/ 121) رقم 7555، وفي الأوسط (3/ 231) رقم 3007) من طريق يحيى بن العلاء، عن ليث، عن شهر، عن أبي إمامة. وهذا إسناد ضعيف جداً، أو موضوع. يحيى بن العلاء، جاء في ترجمته: =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: وأما الدليل الصحيح في الجمع بين الحجارة والماء، إلا أنه ليس صريحاً. (430 - 275) ما رواه البخاري، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة، فقال: أبغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت. فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً (¬1). وجه الاستدلال: قوله: "كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته" فالماء كان ¬

= قال أحمد: كذاب يضع الحديث. تهذيب التهذيب (11/ 229)، الكشف الحثيث (840). وقال وكيع: كان يكذب، حدث في خلع النعلين عشرين حديثاً. تهذيب الكمال (31/ 484). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (627). وقال يحيى بن معين: ليس بثقة. ضعفاء العقيلي (4/ 437). وليث بن أبي سليم ضعيف هو الآخر. ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (358) من طريق سلام الطويل، عن زيد العمي، عن أبي عثمان الأنصاري، عن ابن عمر، عن عبد الله بن سلام نحوه. وسلام الطويل متروك، وزيد العمي ضعيف، فالإسناد ضعيف جداً. (¬1) صحيح البخاري (3860).

الدليل الثالث

للوضوء والحاجة، أي لطهارة الحدث والخبث، قال: فقال: "أبغني أحجاراً استنفض بها" وقد طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحجارة، فيبعد أن يسعى أبو هريرة بحمل الماء لحاجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لا يستعمله، وهو أولى من الحجارة، وأشد أنقاء، فربما طلب الحجارة ليخفف أثر النجاسة، ثم يزيل عينها بالماء، وهو ليس صريحاً بأنه استعملهما معاً. الدليل الثالث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربما جمع بين التراب والماء في طهارة غير الاستنجاء، والاستنجاء مقيس عليها. (431 - 276) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري اللفظ له ومسلم (¬1). ولفظ مسلم: ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ به على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة. الحديث. الدليل الرابع: (432 - 277) من الآثار، ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن يعلى، عن عبد الملك بن عمير، قال: قال علي: إن من كان قبلكم كانوا ¬

(¬1) صحيح البخاري (260)، ومسلم (317).

يبعرون بعراً، وإنكم تثلطون ثلطاً، فأتبعوا الحجارة بالماء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 142). (¬2) عبد الملك بن عمير لم يسمع من علي، وقد ذكر المزي أنه رأى علياً، ولم يذكر أنه روى عنه، وإذا كان تاريخ وفاته سنة 136، ومات وله ثلاث ومائة سنة، فيكون مولده على هذا سنة 33، وقد مات علي رضي الله عنه سنة أربعين، فيكون عمره على ذلك سبع سنوات، فلا أرى أنه يصح له سماع، وإن كان أحد قال: إنه سمع منه، فيحتمل على أنه قيل: إن وفاته سنة 102، على ما ذكره خليفة بن خياط في طبقاته (163)، وعبد الملك بن عمير مدلس، ولم يصرح بالسماع، وانظر حاشية محقق تهذيب الكمال للمزي للاستاذ بشار عواد، والله أعلم. وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 219): إسناده جيد. وقد رواه الدارقطني في العلل (1/ 55) عن الثوري، عن عبد الملك بن عمير به. وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 106) من طريق زائدة ومعمر، عن عبد الملك به. وليس في رواية معمر: " فأتبعوا الحجارة بالماء، قال: أليس هذا من قديم حديث عبد الملك، فإن عبد الملك يروي عن الشباب. وقال الدارقطني في العلل (4/ 54): رواه الجماعة عن عبد الملك بن عمير، منهم سفيان الثوري وعلي بن صالح ومسعر وحبان بن علي وزائدة، واختلف عنه: فقال معاوية، عن زائدة والباقون معه عن عبد الملك بن عمير، قال: قال علي. وخالفهم عمرو بن مرزوق، عن زائدة فقال: عن عبد الملك بن عمير، عن كردوس الثعلبي، عن علي، قاله سعيد، عن عثمان الأهوازي، عنه. وقال جرير بن عبد الحميد: عن عبد الملك بن عمير، عن رجل، عن علي، ولم يسمعه وكذلك رواه السدي، عن رجل لم يسمه، عن علي. وقيل: عن السدي، عن عبد خير. ولا يثبت في هذا عبد خير، والله أعلم.

دليل من قال: لا يجمع بين الحجارة والماء

دليل من قال: لا يجمع بين الحجارة والماء. قال بعض العلماء المعاصرين: الجمع بين الحجارة والماء في الاستنجاء لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم -، فأخشى أن يكون من الغلو في الدين؛ لأن هديه - صلى الله عليه وسلم - الاكتفاء بأحدهما، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها (¬1). وأخشى أن يكون المنع منه فيه غلو أيضاً، وإزالة النجاسة ليست كالعبادات التوقيفة التي يطلب منها موافقة الشارع في الجنس والصفة والمقدار، والوقت؛ فمناديل الورق ليست موجودة في ذلك العهد، ولو أزال بها الإنسان ابتداء، ثم أتبع الماء لكان ذلك من النظافة، وباب التروك أخف من باب فعل المأمورات، والله أعلم. ¬

(¬1) تمام المنة (ص: 65).

الفصل الرابع متى يتعين الاستنجاء بالماء

الفصل الرابع متى يتعين الاستنجاء بالماء

المبحث الأول إذا تجاوز الخارج موضع العادة

المبحث الأول إذا تجاوز الخارج موضع العادة سبق أن ذكرنا الأدلة الكثيرة على جواز الاستجمار، وهو مذهب السواد الأعظم من الناس، واختلف الفقهاء في بعض الصور، هل يجزئ الاستجمار أو يتعين الماء، فمن هذه الصور التي يتعين فيها الماء عند بعض الفقهاء إذا تجاوز الخارج الموضع المعتاد. فقيل: لا تجزئ الحجارة، وهو مذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، إلا أن الحنفية قالوا: يكفي أي مائع طاهر مزيل (¬5). وقال الباقي: يتعين الماء الطهور. واختلفوا في مقدار التجاوز: فقيل: أن يكون انتشار النجاسة أكثر من قدر الدرهم مع سقوط موضع الاستنجاء، وهو مذهب الحنفية (¬6). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 254)، مراقي الفلاح (ص: 18)، الفتاوى الهندية (1/ 48)، مجمع الأنهر (1/ 66)، حاشية ابن عابدين (1/ 339). (¬2) مواهب الجليل (1/ 285)، الخرشي (1/ 148،149)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، منح الجليل (1/ 105). (¬3) الأم (1/ 22)، المجموع (2/ 142)، روضة الطالبين (1/ 68)، حلية العلماء (1/ 66)، المهذب (1/ 28)، شرح زبد ابن رسلان (ص: 53)، مغني المحتاج (1/ 45). (¬4) المبدع (1/ 89)، شرح العمدة (1/ 157)، الإنصاف (1/ 105)، كشاف القناع (1/ 66)، مطالب أولي النهى (1/ 74)، الفروع (1/ 119،120). (¬5) انظر البحر الرائق (1/ 254). (¬6) البحر الرائق (1/ 254)، وهذا رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، فلو كان المجاوز =

وقيل: إذا انتشر انتشاراً كثيراً: وهو ما زاد على ما جرت العادة بتلويثه كأن ينتهي إلى الألية. وهو مذهب المالكية، والشافعية (¬1)، ¬

= للمخرج لا يجاوز قدر الدرهم في نفسه، وإنما بضم ما على المخرج إليه، فإنه لا يتعين الماء، ويكفي الحجارة؛ لأن ما على المخرج ساقط شرعاً، ولهذا لا تكره الصلاة معه فبقي المجاوز غير مانع، خلافا لمحمد بناء على أن ما على المخرج في حكم الباطن عندهما، وفي حكم الظاهر عنده. وقال البحر الرائق (1/ 255) نقلاً من السراج الوهاج: هذا حكم الغائط إذا تجاوز، وأما البول إذا تجاوز عن رأس الإحليل أكثر من قدر الدرهم، فالظاهر أنه يجزئ فيه الحجر عند أبي حنيفة، وعند محمد لا يجزىء فيه الحجر إلا إذا كان أقل من قدر الدرهم. اهـ (¬1) قال النووي في المجموع (2/ 142): قال أصحابنا: إذا خرج الغائط فله أربعة أحوال: أحدها: أن لا يجاوز نفس المخرج فيجزئه الأحجار بلا خلاف. الثاني: أن يجاوزه، ولا يجاوز القدر المعتاد من أكثر الناس، فيجزئه الحجر أيضا؛ لأنه يتعذر الاحتراز من هذا القدر. الحال الثالث: أن ينتشر ويخرج عن المعتاد، ولا يجاوز باطن الألية، فهل يتعين الماء أم يجزئه الحجر؟ فيه قولان (أصحهما) يجزئه الحجر، وهو نصه في الأم (والثاني) يتعين الماء نص عليه في المختصر والقديم. الرابع: أن ينتشر إلى ظاهر الأليتين، فيتعين الماء قولاً واحداً في المذهب. اهـ بتصرف يسير. وهل يتعين الماء في الجميع، أو يقتصر بالماء على الموضع الذي تعدى به الخارج عن موضعه. قال العدوي في حاشيته على الخرشي (1/ 148): يغسل الكل، ولا يقتصر على غسل ما جاوز المعتاد؛ لأنهم قد يغتفرون اليسير منفرداً، دونه مجتمعاً. وقال النووي في المجموع (2/ 143): إن كان متصلا تعين الماء في جميعه كسائر النجاسات لندوره، وتعذر فصل بعضه عن بعض، وإن انفصل بعضه عن بعض تعين الماء في =

وقيل: إلى نصف الألية اختاره بعض الحنابلة. وقيل: المخرج فقط، وهو قول في مذهب الحنابلة أيضاً (¬1). وقيل: يجزئ الاستجمار مطلقاً، تجاوز الخارج أو لم يتجازو، وهو اختيار ابن تيمية (¬2). وسبب الاختلاف اختلافهم في الاستجمار هل هو رخصة، فلا يستعمل إلا فيما جرت فيه العادة، أو ليس برخصة، فيستعمل مطلقاً سواء تجاوز الحدث الموضع المعتاد أم لا؟ ¬

= الذي على ظاهر الألية، وأما الذي لم يظهر ولم يتصل فهو على الخلاف والتفصيل السابق إن لم يجاوز العادة أجزأ الحجر، وإن جاوزه فقولان أصحهما: يجزئه أيضا. اهـ والمشهور من مذهب الحنابلة: أنه إذا تجاوز الخارج موضع العادة وجب الماء. وقيل: يستجمر بالصفحتين والحشفة، ولا يجب الماء لغير المتعدي. قال ابن رجب في قواعده (ص: 39): لو تعدى الخارج من السبيل موضع العادة فهل يجب غسل الجميع أو القدر المجاوز المطيم العادة ويجزئ الحجر في موضع العادة؟ على وجهين. أشهرهما: أن الواجب غسل المتعدى خاصة، وهو قول القاضي (الكبير) وربما نسبه إلى نص أحمد؛ لأن هذا لا ينسب فيه إلى تفريط وتعد بخلاف الوكيل والمضحي. والثاني: يلزمه غسل الجميع وبه جزم القاضي أبو يعلى الصغير ولم يحك فيه خلافاً. اهـ وانظر الفروع (1/ 119،120)، وكشاف القناع (1/ 66)، المحرر (1/ 10)، المبدع (1/ 89)، الإنصاف (1/ 105). (¬1) اختلف الحنابلة، فحده ابن تيمية في شرح العمدة: بأن ينتشر الخارج إلى نصف باطن الألية فأكثر، والبول إلى نصف الحشفة فأكثر، وقال ابن عقيل: وحد المخرج نفس الثقب، وقال الخرقي: وما عدا المخرج فلا يجزئ فيه إلا الماء. (¬2) قال في الاختيارات (ص: 90): ويجزئ الاستجمار ولو تعدى الخارج إلى الصفحتين والحشفة وغير ذلك لعموم الأدلة بجواز الاستجمار، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك تقدير. اهـ

دليل من قال: يتعين الماء إذا انتشر الخارج

وعلى القول بأنه رخصة، فلا يستعمل إلا في الموضع المعتاد، فإذا تجاوز الخارج الموضع المعتاد، فهل النجاسة لا تزال إلا بالماء فيتعين كمذهب الجمهور، أو تزال بكل مائع مزيل طاهر كمذهب الحنفية، أو تزال بكل مزيل مائعاً كان أو غير مائع، كما هو اختيار ابن تيمية؟ وهذه مسألة بحثناها في مسألة مستقلة، وذكرنا أدلة كل قول، فلا داعي لإعادتها. دليل من قال: يتعين الماء إذا انتشر الخارج. الدليل الأول: قالوا: الرخصة في استعمال الحجارة ورد في المحل المعتاد؛ للمشقة في غسله، لتكرار النجاسة فيه، فما لا يتكرر لا يجزئ فيه إلا الماء. الدليل الثاني: لو كانت النجاسة على سائر البدن تعين الماء، كما لو كان البول أو الغائط على يد الإنسان أو ثوبه، فإذا كانت النجاسة على غير المخرج المعتاد، تعين الماء قياساً عليها. دليل من قال: يجزئ الاستجمار مطلقاً تجاوز أم لا. الدليل الأول: قال: استعمال الحجارة في الاستجمار جاء في النصوص مطلقاً، غير مقيد بأن تكون النجاسة على المخرج المعتاد، وما كان مطلقاً من النصوص لا يجوز تقييده إلا بنص مثله.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: أين الدليل على أن استعمال الحجارة في الاستجمار رخصة، حتى يقال: لا تستعمل الرخصة إلا بمقدار ما ورد، بل إن القول في تعين الماء في إزالة النجاسة قول تخالفه النصوص الكثيرة، منها طهارة النعل بدلكه بالتراب (¬1)، ومنها طهارة ذيل المرأة (¬2)، فليس الاستجمار على خلاف القياس، بل إنه دليل على جواز إزالة النجاسة بكل مزيل. فإن قيل: إن الاستجمار قد يبقى بعده أثر يسير، قلنا: إن اليسير من النجاسات معفو عنه مطلقاً في مكان الاستجمار وفي غيره. الراجح: بعد استعراض الأدلة نرى أن قول ابن تيمية قول قوي جداً، وأن النجاسات كل النجاسات تزال بأي مزيل كان، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فمتى زالت النجاسة زال حكمها، والله أعلم. ¬

(¬1) سبق أن ذكرت حديث أبي سعيد في الباب وخرجته. (¬2) سبق أن ذكرنا الأحاديث في الباب وخرجناها.

المبحث الثاني إذا استجمر بمنهي عنه ثم استجمر بعده بمباح فهل يتعين الماء

المبحث الثاني إذا استجمر بمنهي عنه ثم استجمر بعده بمباح فهل يتعين الماء إذا استجمر بمنهي عنه، ثم استجمر بمباح، فاختلف الفقهاء هل يتعين الماء في مثل هذه الصورة، أم يكفي الأحجار. فقيل: إن أنقى المنهي عنه أجزأ مع الإثم. وهو مذهب الحنفية والمالكية. وقيل: لا يجزئ، ولو أنقى، لكن إن انتشرت النجاسة تعين الماء، ويكفيه الحجر إن لم تنتشر. وهو مذهب الشافعية. وقيل: يتعين الماء، ولو أنقى المنهي عنه، ولا يكفيه الحجارة، وهو المشهور عند متأخري الحنابلة. وسبق بحث هذه المسألة والإحالة على المراجع في أكثر من مسألة منها لو استنجى بمطعوم وأنقى، أو استنجى بروث أو عظم كذلك، ومنها لو استنجى بزجاج، فارجع إليها غير مأمور.

المبحث الثالث يتعين الماء في الاستنجاء من المذي

المبحث الثالث يتعين الماء في الاستنجاء من المذي اختلف الفقهاء في الطهارة من المذي، هل يتعين الماء، أو تكفي الحجارة؟ فقيل: يتعين الماء وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، على خلاف بينهم هل يجب غسل موضع الحشفة فقط كما هو مذهب الحنفية والشافعية، ونسبه النووي للجمهور (¬5)، ورجحه ابن عبد البر (¬6). أو يجب غسل الذكر كله، وعليه أكثر أصحاب مالك (¬7)، وهو رواية عن أحمد (¬8). أو يجب غسل الذكر كله مع الإنثيين، كما هو مذهب الحنابلة، وذكروه ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 48)، شرح فتح القدير (1/ 72)، المبسوط (1/ 67). (¬2) مواهب الجليل (1/ 285)، الخرشي (1/ 149)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323). (¬3) المجموع (2/ 164)، روضة الطالبين (1/ 67)، مغني المحتاج (1/ 79). (¬4) الفروع (1/ 214)، شرح منتهى الإرادات (1/ 21)، الإنصاف (1/ 330)، المبدع (1/ 249)، الفتح الرباني بمفرادت ابن حنبل الشيباني (1/ 87)، الكافي في فقه أحمد (1/ 56)، المغني (1/ 112). (¬5) المجموع (2/ 164). (¬6) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323). (¬7) انظر ما سبق من العزو إلى كتب المذهب. (¬8) الكافي في فقه أحمد (1/ 56)، الإنصاف (1/ 330).

من المفردات، وهو مذهب ابن حزم (¬1). وقيل: يجزئ الاستجمار، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: المذي طاهر، وهو رواية عن أحمد (¬3). وقد سبق لنا عند ذكر ما يستنجى منه بحث الاستنجاء من المذي، وذكر أدلة كل قول، والراجح، والله أعلم. ¬

(¬1) المحلى (1/ 118). (¬2) المجموع (2/ 164). (¬3) في المبدع شرح المقنع (1/ 149): وعن أحمد أن المذي طاهر كالمني، اختاره أبو الخطاب في خلافه؛ لأنه خارج بسبب الشهوة. اهـ وانظر المغني (1/ 413)، والإنصاف (1/ 341).

المبحث الرابع يتعين الماء في الاستنجاء من الدم والقيح

المبحث الرابع يتعين الماء في الاستنجاء من الدم والقيح إذا خرج من مقعد الرجل دم أو قيح وصديد بسبب بواسير أو خرج من فرج المرأة دم لمرض أو حيض (¬1)، فهل يجزئ الاستجمار أو يتعين الماء، فيه خلاف. فقيل: يتعين المائع، ولا تكفي الحجارة، وهو مذهب الحنفية (¬2)، وقيل: يتعين الماء، وهو مذهب المالكية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4)، ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (2/ 145): فإن قيل: لا يمكن الاستنجاء بالحجر من دم الحيض في حق المغتسلة؛ لأنه يلزمها غسل محل الاستنجاء في غسل الحيض، فيقال: صورته فيما إذا انقطع دم الحائض ولم تجد ما تغتسل به. أو كان بها مرض ونحوه مما يبيح لها التيمم؛ فإنها تستنجي بالحجر عن الدم، ثم تتيمم للصلاة بدلا عن غسل الحيض وتصلي، ولا إعادة. اهـ (¬2) قال في نور الإيضاح (ص: 14): ويفترض غسل ما في المخرج عند الاغتسال من الجنابة والحيض والنفاس وإن كان ما في المخرج قليلاً. اهـ وقال في تبيين الحقائق (1/ 78): يجب الاستنجاء بالماء إذا جاوزت النجاسة المخرج؛ لأن ما على المخرج من النجاسة إنما اكتفى فيه بغير الماء للضرورة، ولا ضرورة في المجاوز فيجب غسله، وكذا إذا لم يجاوز وكان جنبا يجب الاستنجاء بالماء لوجوب غسل المقعدة لأجل الجنابة، وكذا الحائض والنفساء لما ذكرنا. اهـ فقوله: وكذا الحائض والنفساء أي يجب الماء، ولا يكفي الحجارة. وانظر (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 111)، الفواكه الدواني (1/ 133)، مواهب الجليل (1/ 284). (¬4) قال الشافعي في الأم (1/ 22): وإن كانت برجل بواسير وقروح قرب المقعدة أو في =

وقيل: يجزئ الحجر، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬1)، وهو الراجح. وأدلة هذه المسألة هي أدلة المسائل السابقة من كون الاستجمار رخصة في ما رود من بول أو غائط، وقد أجبت على هذا، وأن الاستجمار على وفق القياس. لكن الطهارة من دم الحيض والنفاس هي طهارة من الحدث، وليست من الخبث، فلا يجزئ فيها الاستجمار، اللهم ألا أن تكون المرأة عادمة للماء، ويكون التيمم هو المشروع في حقها فإنه تستجمر، ثم تتيمم، والله أعلم. ¬

= جوفها، فسالت دماً أو قيحاً أو صديداً لم يجزه فيه إلا الاستنجاء بالماء، ولا يجزيه الحجارة، والماء طهارة الأنجاس كلها، والرخصة في الاستنجاء بالحجارة في موضعها لا يعدى بها موضعها، وكذلك الخلاء والبول إذا عدوا موضعهما فأصابوا غيره من الجسد لم يطهرهما إلا الماء. اهـ وقال في البحر الرائق (1/ 254):وأراد بالماء هنا كل مائع طاهر مزيل بقرينة تصريحه أول الباب وهو أولى من حمله على رواية محمد المعينة للماء. اهـ (¬1) قال النووي في المجموع (2/ 144): إذا كان الخارج نادراً كالدم والقيح والودي والمذي وشبهها فهل يجزئه الحجر؟ فيه طريقان: الصحيح منهما - وبه قطع العراقيون أنه على قولين، (أصحهما) يجزئه الحجر، نص عليه في المختصر وحرملة؛ لأن الحاجة تدعو إليه، والاستنجاء رخصة، والرخص تأتي لمعنى، ثم لا يلزم وجود ذلك المعنى في جميع صورها كالقصر وأشباهه. (والقول الثاني) يتعين الماء، قاله في الأم، ويحتج له مع ما ذكره المصنف بالحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: " أمر بغسل الذكر من المذي". اهـ

المبحث الخامس هل يتعين الماء في بول المرأة

المبحث الخامس هل يتعين الماء في بول المرأة يجزئ المرأة الاستجمار من الغائط بالاتفاق، واختلفوا في البول. فقيل: لا يجزئ الاستجمار مطلقاً بكراً كانت أو ثياباً، بل يتعين الماء، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: يجزئ البكر، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختلفوا في الثيب. فقيل: لا يجزئ الاستجمار بحقها مطلقاً، وهو وجه شاذ في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: يجزئ الاستجمار بحقها مطلقاً، وهو قول في مذهبهما (¬6)، وهو الراجح. وقيل: إن نزل البول إلى ظاهر المهبل، كما هو الغالب لم يكف الا الماء، وإلا كفى، وهو الراجح عند الشافعية (¬7) والحنابلة (¬8). ¬

(¬1) الفواكه الدواني (1/ 133)، مواهب الجليل (1/ 284)، مختصر خليل (ص: 15). (¬2) المجموع (2/ 128)، حاشية البجيرمي (1/ 62)، روضة الطالبين (1/ 71). (¬3) المبدع (1/ 90)، الإنصاف (1/ 106)، المغني (1/ 105)،. (¬4) قال النووي في المجموع (2/ 128): قطع الماوردي بأن الثيب لا يجزئها الحجر، حكاه المتولي والشاشي وصاحب «البيان» وجهاً، وهو شاذ. (¬5) المغني (1/ 105). (¬6) المغني (1/ 105). (¬7) حاشية البجيرمي (1/ 62)، روضة الطالبين (1/ 71)، المجموع (2/ 128). (¬8) المغني (1/ 105)، الإنصاف (1/ 106).

دليل من قال يتعين الماء في بول المرأة مطلقا

دليل من قال يتعين الماء في بول المرأة مطلقاً. قالوا: إن المرأة لا يجزيها المسح بالحجر من البول لتعديه مخرجه إلى جهة المقعدةوحملوا كلام ابن المسيب قوله عن الاستنجاء بالماء: هذا وضوء النساء، قالوا: يريد أن ذلك إنما يكون في حق النساء، فإن المرأة لا يجزيها المسح بالحجر من البول؛ لأنه يتعدى مخرجه ويجري إلى مقاعدهن وكذلك الخصي (¬1). فرجع الدليل إلى مسألة إذا تجاوز الخارج موضع العادة، وقد ذكرنا بحثه في مسألة مستقلة. دليل من قال: يتعين الماء إذا نزل إلى ظاهر المهبل. دليله ما ذكرناه في مسألة مستقلة من أن الخارج إذا تعدى الموضع المعتاد وجب الماء، وأن حقيقة الاستنجاء إنما هو في إزالة الخارج على مخرج البول والغائط، فإذا كانت النجاسة ليست عليهما فلا يسمى استنجاء، وإذا لم يكن استنجاء تعين الماء؛ لأن الاستجمار إنما ورد رخصة في مكانه المعتاد. وقد أجبت عنه هناك، وأنه لا يوجد قيد في الاستجمار أن يكون على الموضع المعتاد. دليل من قال: يجزئ الاستجمار مطلقاً. الدليل الأول: قال: إن الأحاديث في الاستجمار وردت مطلقة، في حق الرجل والمرأة، ولو قدر أنها وردت في الرجال فما ثبت للرجل ثبت للمرأة إلا بدليل، ولا ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 284) بتصرف يسير.

الدليل الثاني

يوجد دليل يخص المرأة من الاستجمار بالأحجار، فمن ادعى خروج المرأة فعليه الدليل. الدليل الثاني: أن نزول البول إلى ظاهر المهبل معتاد من المرأة، فلم يخرج عن قاعدتكم إن الخارج تجاوز الموضع المعتاد، وما كان معتاداً لم يستثن من الاستجمار، وهذا على وفق ما قعدتوه. الدليل الثالث: قدمنا أن الصحيح في إزالة النجاسة إزالتها بأي مزيل، فإذا زالت فقد زال حكمها، واشتراط أن تكون النجاسة على المخرج شرط غير معتبر على الصحيح، بدليل مسألتنا، فالمرأة معتاد أن البول قد ينزل على ظاهر المهبل، ومع ذلك لم تأت نصوص من الشرع تمنع المرأة من الاستجمار، والله أعلم.

المبحث السادس هل يتعين الماء إذا عرق فسال أثر الاستجمار

المبحث السادس هل يتعين الماء إذا عرق فسال أثر الاستجمار إذا عرف فسأل أثر الاستجمار على بدنه أو سراويله، فهل ينجس أم لا؟ فيه خلاف. فقيل: إنه نجس. وقيل: طاهر، ولا تتنجس الملابس بذلك. وهذه المسألة ترجع إلى مسألة سابقة قد تم بحثها، بعد الاتفاق على أن أثر الاستجمار معفو عنه، فهل هو طاهر أم نجس؟ فمن قال: إنه نجس فإنه ينجس الثياب والماء والأبدان إذا سال أثر الاستجمار. ومن قال: إن الاستجمار مطهر، فإنه لا ينجس الثياب ولا الأبدان ولا المياه فيما لو جلس في ماء قليل فسال أثر الاستجمار، فإن أردت الوقوف على أدلة كل فريق فارجع إليه في مسألة أثر الاستجمار هل هو طاهر أم نجس؟

المبحث السابع هل يتعين الماء إذا خرج الحدث من غير السبيلين

المبحث السابع هل يتعين الماء إذا خرج الحدث من غير السبيلين قد يفتح للإنسان فتحة في بدنه يخرج منها البول والغائط تكون بديلة عن السبيلين، فإذا خرج منها الحدث هل يكفي الاستجمار أم يتعين الماء؟ فقيل: إذا انسد المخرج المعتاد، وكانت الفتحة تحت المعدة أجزأ الاستجمار قولاً واحداً في مذهب المالكية (¬1)، واختاراه بعض الحنابلة (¬2). وإن كانت الفتحة فوق المعدة، أو لم ينسد المخرجان فقولان في مذهب المالكية أرجحهما وجوب الماء؛ لأنه غير ناقض. وقيل: يجزئ الاستجمار مطلقاً إذا انسد المخرج سواء كانت الفتحة فوق أو تحت المعدة، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يجزئ فيه الاستجمار مطلقاً، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال: يجزئ فيه الاستجمار مطلقاً. قدمنا في مسألة مستقلة أن النجاسة أي نجاسة لا يتعين في إزالتها الماء، ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 285،293)، الخرشي (1/ 148)، حاشية الدسوقي (1/ 111). (¬2) اختاره ابن عقيل والمجد وجماعة من الحنابلة انظر الإنصاف (1/ 108)، المبدع (1/ 90). (¬3) الإنصاف (1/ 107)، المغني (1/ 106). (¬4) كشاف القناع (1/ 66)، المبدع (1/ 90)، الإنصاف (1/ 107)، المغني (1/ 106)، تصحيح الفروع (1/ 177، 178).

دليل من قال: يتعين الماء

بل إذا زالت بأي مزيل زال حكمها، وسقنا الأدلة على ذلك من تطهير النعل بالتراب وكذلك ذيل المرأة وغيرها وقد خرجناها في مكانها، ومثله الاستجمار بالأحجار عزيمة وليس رخصة حتى يقيد ذلك بالسبيلين، والله أعلم. دليل من قال: يتعين الماء. رأوا أن الاستجمار رخصة ورد في نجاسة معينة وهي البول والغائط على مخرج معين هما السبيلين، أما إذا خرج من غير السبيلين فإنه مخرج نادر بالنسبة إلى سائر الناس فلم يثبت فيه أحكام الفرج، ولأن لمسه لا ينقض الوضوء، ولا يتعلق بالإيلاج فيه شيء من أحكام الوطء أشبه سائر البدن. والصحيح أن هذه التعاليل لا علاقة لها في إباحة الاستجمار على المخرجين فما أبيح الاستجمار على السبيلين لكون مسه ناقضاً، ولا لكون الفرج محلاً للوطء، فهذه أوصاف لا علاقة لها بالاستجمار، وبالتالي لا يستدل بها على رد الاستجمار على غير السبيلين، وإنما أبيح الاستجمار نظراً إلى أنه محل تنجس، وأمكن إزالته بحجر أو ورق ونحوها، وهذا لايمنع من إزالته من سائر البدن إما بالقياس الجلي، أو بعموم النص. دليل من فرق بين ما تحت المعدة وما فوق المعدة. رأى أن ما تحت المعدة يلحق بالبول والغائط، لأن الجسم يكون قد انتهى من الانتفاع منه وحوله إلى فضلات، وأما ما فوق المعدة فيلحق بالقيء، وهذا له وجه من النظر من حيث الحكم عليه أنه بول أو غائط، لكننا لا نقصر إزالة النجاسة بالاستجمار على البول والغائط، بل إن سائر النجاسات تزال بأي مزيل طاهر، نعم نقول ما كان فوق المعدة ممكن أن نحكم له

دليل من اشترط أن ينسد المخرج المعتاد

بالطهارة، فإن الصحيح أن القيء طاهر، وليس بنجس، وبالتالي لا يحتاج إلى استنجاء أو استجمار، والله أعلم. دليل من اشترط أن ينسد المخرج المعتاد. لأنه لا يعطى حكمه حتى يقوم مقامه، ولا يقوم مقامه حتى ينسد المخرج الأصلي. والراجح كما قلنا أن الاستجمار يجزئ مطلقاً، وأن النجاسة تزال بأي مزيل، وأن الاستجمار عزيمة وليس رخصة، وأنه على وفق القياس، والله أعلم.

الباب السابع حكم الترتيب بين الاستنجاء والوضوء

الباب السابع حكم الترتيب بين الاستنجاء والوضوء اختلف الفقهاء في الاستنجاء هل يشترط أن يكون قبل الوضوء، أم يجوز تقديم الوضوء عليه؟ فقيل: يصح الوضوء قبل الاستنجاء، ويستحب أن يكون الوضوء بعده، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)،والشافعية (¬3)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬4). ¬

(¬1) نص الحنفية على أن الاستنجاء من سنن الوضوء، وإذا كان كذلك كان تقديمه على الوضوء سنة عندهم، قال في حاشية ابن عابدين (1/ 123): عد في المنية الاستنجاء من سنن الوضوء، وفي النهاية: أنه من سنن الوضوء بل أقواها؛ لأنه مشروع لإزالة النجاسة الحقيقية، وسائر السنن لإزالة الحكمية، وجعل في البدائع سنن الوضوء على أنواع: نوعٍ يكون قبله، ونوعٍ في ابتدائه ونوعٍ في أثنائه، وعد من الأول الاستنجاء بالحجر، ومن الثاني الاستنجاء بالماء. وانظر بدائع الصنائع (1/ 18). (¬2) انظر الفواكه الدواني (1/ 131)، كفاية الطالب (1/ 218)، الثمر الداني (1/ 41)، رسالة القيرواني (ص: 14)، الخرشي (1/ 141). (¬3) قال الشيرازي في المهذب (1/ 27): ويستنجي قبل أن يتوضأ فإن توضأ ثم ستنجى صح الوضوء. اهـ وأشار النووي في المجموع (2/ 113،114) أنه لا خلاف بين الأصحاب على صحة الوضوء قبل الاستنجاء، وأن من حكى فيه خلافاً منهم فقد غلط. وقال النووي في الكتاب نفسه (2/ 127): السنة أن يستنجي قبل الوضوء ليخرج من الخلاف، وليأمن انتقاض طهره. اهـ وقال في التنبيه (ص: 18): والاستنجاء واجب من البول والغائط، والأفضل أن يكون قبل الوضوء فإن أخره الى ما بعده أجزأه. اهـ وانظر الإقناع للشربيني (1/ 53)، روضة الطالبين (1/ 71). (¬4) شرح العمدة (1/ 163)، المحرر (1/ 10)، الإنصاف (1/ 115)، الفروع (1/ 124).

دليل الجمهور

وقيل: لا يصح الوضوء قبل الاستنجاء، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). دليل الجمهور. الدليل الأول: لا يوجد دليل يقضي بوجوب تقدم الاستنجاء على الوضوء، وإذا لم يوجد دليل فالأصل عدم التكليف، فمن توضأ قبل أن يستنجي، وكان قد لف على يده خرقة حتى لا يمس فرجه، فإن طهارته صحيحة، ومن حكم ببطلانها فعليه الدليل. الدليل الثاني: قياس النجاسة التي على السبيلين بالنجاسة على غير السبيلين، فإذا كان يصح وضوء الرجل مع وجود نجاسة على البدن، فكذلك ينبغي أن نصحح الوضوء مع وجود نجاسة على المخرج؛ إذ لا فرق. الدليل الثالث: حقيقة الوضوء هو مرور الماء على أعضاء الوضوء، وقد فعل، فيجب أن يرتفع حدثه. دليل من قال: يجب تقدم الاستنجاء على الوضوء (433 - 278) استدلوا بما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى ¬

(¬1) شرح العمدة (1/ 163)، المحرر (1/ 10)، الإنصاف (1/ 114)، كشاف القناع (1/ 70)، الفروع (1/ 124).

ويكنى أبا يعلى، عن ابن الحنفية، عن علي قال كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن الأسود، فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ. ورواه البخاري بنحوه (¬1). وأجيب: أولاً: أن رواية البخاري: توضأ واغسل ذكرك، فقدم ذكر الوضوء. (434 - 288) قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك (¬2). ثانياً: أن الواو لا تقتضي ترتيباً، بل هي لمطلق الجمع قال تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} (¬3)، فعطف الركوع على السجود، فإذا قلت: جاء محمد وصالح، فقد يكون قدوم محمد سابقاً لقدوم صالح، وقد يكون متراخياً عنه، وقد يكون قدومهما معاً. الراجح: جواز تقدم الاستنجاء على الوضوء، لأن الاستنجاء طهارة خبث لا علاقة لها بطهارة الحدث، إنما يكون الإنسان مطلوباً أن يتخلى عن النجاسة إذا كان يريد أن يؤدي عبادة من شرطها الطهارة من الخبث كالصلاة على قول، وبالتالي فيستطيع أن يمس المصحف قبل الاستنجاء؛ ¬

(¬1) صحيح مسلم (303)، وصحيح البخاري (269). (¬2) صحيح البخاري (269). (¬3) آل عمران: 43.

ويستطيع أن يلبس خفيه قبله؛ لأن الطهارة من الخبث ليست شرطاً في مس المصحف، ولا شرطاً في لبس الخف، قال ابن حجر رحمه الله: يجوز تقديم غسله -أي الذكر- على الوضوء، وهو أولى، ويجوز تقديم الوضوء على غسله، لكن من يقول بمسه، يشترط أن يكون ذلك بحائل (¬1). ¬

(¬1) فتح الباري (ح 269).

خاتمة البحث

خاتمة البحث الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد في السموات والأرض، وهو الحكيم الخبير، أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم لقاه، وأشكره سبحانه ما أنعم علي من إتمام هذا البحث جعله الله سبحانه وتعالى خالصاً لوجهه صواباً على منهج السلف، سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يمن علي بإكمال هذا المشروع، وسوف أستعرض بإيجاز الفوائد التي خرجت بها من هذا البحث. الفائدة الأولى: كمال شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، التي ما تركت شيئاً يحتاج إليه الإنسان إلا وقد ورد فيه ما يبين حكمه الشرعي، وانتظمت هذه الأمور الجبلية بعبادات رتب عليها ثواب من الشارع، ففي قضاء الحاجة مر معنا ما يقارب من تسعين مسألة فقهية إن لم تزد. الفائدة الثانية: حاجة الفقه الإسلامي إلى جهد الباحثين، فإن مسائل آداب الخلاء على كثرتها لم يصنف فيها مصنفاً منفرداً، بل تجدها مبثوثة في الكتب المطولة، وفي شروح السنة. الفائدة الثالثة: الناظر في كتب الفقهاء في أحكام الخلاء خاصة، قد استحبوا أفعال قد تؤدي بالإنسان إلى الوسوسة من النحنحة والقفز، وسلت الذكر ونتره ونحوها من الأمور التي صرح بعض العلماء بأنه من البدع. الفائدة الرابعة: وجوب الاستنجاء، وأنه على التراخي، وأن القول بعدم الوجوب قول ضعيف، كما هو مذهب الحنفية والمالكية. الفائدة الخامسة: العاجز عن الاستنجاء بنفسه وبغيره يسقط عنه، كسائر الواجبات، وإن وجد من ينجيه فله ذلك، ولكن لا يباشر مس عورته.

الفائدة السادسة: لا تستحب التسمية عند دخول الخلاء. السابعة: يستحب أن يتعوذ عند دخول الخلاء من الخبث والخبائث، ولا يختص هذا الذكر في الأمكنة المعدة، بل في كل مكان. الثامنة: يستحب أن يعيذ الطفل إذا أدخله الخلاء. التاسعة: إذا خشي من تلوث رجليه بالنجاسة من أرض الخلاء كان الأولى في حقه أن يدخل الخلاء بنعليه. العاشرة: لا يستحب له أن يعتمد على رجله اليسرى حال قضاء الحاجة. الحادية عشرة: لا يكره الكلام أثناء قضاء الحاجة، ولا حتى ذكره لله فيه. الثانية عشرة: يكره لبثه على الحاجة فوق الحاجة. الثالث عشرة: يستحب له أن يغطي رأسه حال قضاء الحاجة. الرابع عشرة: يستحب قول غفرانك عند الخروج من الخلاء. الخامس عشرة: يستحب له أن ينظف يده بعد غسل دبره. السادسة عشرة: لا يكره له البول واقفاً بشرطه. السابع عشرة: يكره استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، ولا يكره ذلك حال الاستنجاء. الثامن عشرة: يحرم البول في الطريق والظل النافع وفي المسجد وعلى القبر، ولا يكره البول في الإناء. التاسع عشرة: لا تشرع التسمية عند الاستنجاء، ولا تشترط النية للطهارة من النجو، ويكفي في الاستنجاء غلبة الظن، وصفة الإنقاء أن يرجع

الحجر ليس فيه إلا أثر يسير جداً، ويستحب قطع الإستجمار على وتر، ويجب في الثلاث، ولا يستنجي بيده اليمنى، ولا يمس ذكره بها حال البول. العشرون: لا يلتفت إلى الفراغ بعد الاستنجاء. الحادية والعشرون: لا يستجمر بنجس، وإن استجمر أجزأه إن أنقى. الثانية والعشرون: لا يستجمر بما هو محترم، سواء كان محترماً لحق الله كالكتب الشرعية، أو لحق الآدمي كطعامه وثيابه، أو لحق الحيوان، كالاستنجاء بالعلف، وطعام الدواب. الثالث والعشرون: يستنجى من البول والمذي والمني وإن كان طاهراً، ويستنجى من الحدث الدائم، ولا يستنجى من الريح. الرابع والعشرون: لا يتعين الماء أبداً في الاستنجاء، حتى ولو تجاوز الخارج موضع العادة. الخامس والعشرون: لا ترتيب بين الاستنجاء والوضوء، فالاستنجاء عبادة مستقلة، والله أعلم.

[سنن الفطرة]

مقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فإن دين الإسلام دين الفطرة، كما قال سبحانه وتعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} (¬1). فإذا كان الدين الإسلامي دين الفطرة، فلا يأمر بشيء إلا كان نفعه عائداً على العبد في الدنيا والآخرة، وما ينهى عن شيء قط إلا كان ضرره عائداً على العبد في الدارين، لا تنفع ربنا طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين. أخي القارئ الكريم هذا الكتاب عمل فقهي ضمن مشروع صدر منه فيما يخص الطهارة: كتاب الحيض والنفاس في ثلاثة مجلدات، والمسح على الحائل في مجلد كبير، وهذا الكتاب مكمل لما سبق. وقد درست من خلاله سنن الفطرة. حسب ما ورد في حديث عائشة عند مسلم، وهو أكثر حديث اشتمل على سنن الفطرة. (437 - 1) قال مسلم رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -:عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء .. ¬

_ (¬1) الروم، آية: 30.

اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء (¬1). وألحقت بها ما كان شبهاً بها، وإن كان لم ينص عليه أنه من سنن الفطرة، لكن جرياً على عادة الفقهاء في ذكر هذه المسائل. فكان ما اشتمل عليه حديث عائشة: 1 - السواك. 2 - قص الشارب. 3 - وإعفاء اللحية. 4 - وقص الأظفار. 5 - وحلق العانة. 6 - ونتف الإبط. 7 - وغسل البراجم. 8 - 9 - المضمضة والاستنشاق. 10 - انتقاص الماء (الاستنجاء). وسنأتي على شرح سنن الفطرة واحدة واحدة وأجلت الكلام على أحكام الاستنجاء ليخرج في كتاب مستقل؛ نظراً لكثرة أحكامه، وجرياً على عادة الفقهاء بذكره مفرداً عن سنن الفطرة. وأما المضمضة والاستنشاق، فسوف يأتي التعرض لأحكامها في سنن ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.

خطة البحث

الوضوء، وهو كتاب مستقل قد فرغت من جمع مادته العلمية، وسيطبع قريباً إن شاء الله تعالى. وكان منهجي في هذا البحث هو منهجي في الكتب التي قبله من حيث ذكر الأقوال، وعرض المذاهب الأربعة، وأقوال المجتهدين من علماء السلف، مع ذكر حجة كل قول، والترجيح بينها بما يقتضيه الدليل بدون تعصب لقول معين، والكلام على الأحاديث، ونقدها بمقتضى قواعد أهل الحديث، والعناية بالمتون، وبيان المحفوظ من الشاذ بدون تقليد لأحد في هذا، وقد كانت خطة البحث مشتملة على ثمانية أبواب، وكل باب مشتمل على فصول، وبعضها مشتمل على مباحث، والمباحث على فروع، وهي كما يلي. خطة البحث. التمهيد: تعريف الفطرة. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في تعريف الفطرة. المبحث الثاني: في ذكر خصال الفطرة. الباب الأول: في الختان. وفيه فصول ومباحث. الفصل الأول: في تعريف الختان. الفصل الثاني: كيفية الختان. الفصل الثالث: في ذكر أول من اختتن. الفصل الرابع: في وقت الختان. الفصل الخامس: في حكم الختان.

وفيه مباحث: المبحث الأول: في حكم الختان للذكر. المبحث الثاني: في حكم الختان للأنثى. فرع: في أنواع الخفاض. المبحث الثالث: في حكم الختان للخنثى. فرع: حكم ما لوكان للرجل ذكران. المبحث الرابع: في حكم ختان الميت. الفصل السادس: في من يولد، وهو مختون. الفصل السابع: في موانع الختان. الفصل الثامن: في عبادات الأقلف. المبحث الأول: في طهارة الأقلف. المبحث الثاني: في إمامة الأقلف. المبحث الثالث: في ذبيحة الأقلف. المبحث الرابع: في حج الأقلف. المبحث الخامس: في شهادة الأقلف. الفصل التاسع: في إجابة الدعوة في وليمة الختان. الفصل العاشر: في ضمان ما أتلف بالختان. فرع: في أجرة الخاتن. الفصل الحادي عشر: في فوائد الختان. الباب الثاني: في الاستحداد ويشتمل على تمهيد وفصول.

التمهيد: في تعريفه الفصل الأول: حكم الاستحداد. فرع: إجبار الزوج زوجه على الاستحداد. الفصل الثاني: وقت الاستحداد. الفصل الثالث: في كيفية الاستحداد. الفصل الرابع: في حلق شعر الدبر. الفصل الخامس: الاستحداد للميت. الفرع الأول: إذا قيل بجواز الاستحداد للميت كيف تؤخذ. الفرع الثاني: في دفن ما أخذ من البشرة. الفرع الثالث: لا يحلق العانة أجنبي. الفرع الرابع: في استخدام النورة. الباب الثالث: في تقليم الأظفار. تمهيد: وفيه مبحثان. الأول: تعريف التقليم لغة. الثاني: الأدلة على أن تقليم الأظفار من السنة. الفصل الأول: في حكم تقليم الأظفار. الفرع الأول: هل للزوج إجبار زوجه على تقليم الأظفار. الفرع الثاني: توفير الأظفار في الحرب. الفصل الثاني: هل يستحب تقليم الأظفار في يوم معين. الفصل الثالث: في كيفية تقليم الأظفار. الفصل الرابع: في إزلة الوسخ الذي تحت الظفر.

الفصل الخامس: في دفن الظفر والشعر. الفصل السادس: في من قلم أظفاره هل يعيد وضوءه. فرع: غسل رؤوس الأصابع بعد قص الأظفار. الباب الرابع: في نتف الإبط. تعريف الإبط. الفصل الأول: حكم نتف الإبط والتوقيت فيه. الفصل الثاني: في كيفية نتف الإبط. الفصل الثالث: الوضوء من نتف الإبط. الباب الخامس: في الشارب. تمهيد: الفصل الأول: حكم قص الشارب. الفصل الثاني: هل يقص الشارب أو يحلق؟. فرع: كلام أهل العلم في السبالين. الفصل الثالث: التوقيت في قص الشارب. الباب السادس: في اللحية. تعريف اللحية. الفصل الأول: ما جاء في أن إعفاء اللحية من الفطرة. الفصل الثاني: في حكم إعفاء اللحية. الفصل الثالث: حلق ما تحت الذقن. الفصل الرابع: في نتف الشيب. الفصل الخامس: في تغيير الشيب.

الباب السابع: في شعر الرأس. الفصل الأول: في حلق شعر الرأس. الفصل الثاني: في النهي عن القزع. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في تعريف القزع. المبحث الثاني: في حكم القزع. الفصل الثالث: في الترجل وصفته. الباب الثامن: في غسل البراجم. الكتاب الثاني: في أحكام السواك. ويشتمل على تهميد، وخمسة أبواب، وستة عشر فائدة فقهية وسلوكية متفرقة، وخاتمة. على النحو التالي. التمهيد ويشتمل على خمسة مباحث: المبحث الأول: في تعريف السواك. المبحث الثاني: في فضل السواك. المبحث الثالث: بيان أن السواك من سنن الفطرة. المبحث الرابع: ما ورد في كون الصلاة بسواك أفضل من سبعين ... صلاة بغير سواك. المبحث الخامس: هل السواك في شريعة من قبلنا.

الباب الأول: في ذكر جنس ما يتسوك به. ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: في التسوك بالعود وبيان الأفضل منه. الفصل الثاني: لا يتسوك بعود يضر اللثة. الفصل الثالث: التسوك بما له رائحة ذكية. الفصل الرابع: التسوك بالأصبع والخرقة. الفصل الخامس: معجون الأسنان هل يحصل به إصابة السنة. الباب الثاني: صفة السواك. ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: هل الأفضل اليابس من السواك أو الرطب؟ الفصل الثاني: الكلام في طول السواك وعرضه. الفصل الثالث: التسوك بعود لا يعرفه. الباب الثالث: في حكم السواك ويشتمل على سبعة أبو اب، ومبحث واحد. الفصل الأول: حكم السواك، وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم السواك للصائم. المبحث الثاني: هل خلوف الصائم أطيب عند الله من رائحة في الدنيا والآخرة أم في الآخرة فقط؟ الفصل الثالث: حكم التسوك في المسجد. الفصل الرابع: حكم السواك بحضرة الناس.

الفصل الخامس: التسواك في الخلاء. الفصل السادس: إمكانية ترتيب الأجر على التسوك بما يضر. الفصل السابع: في التسمية للسواك. الباب الرابع: في ذكر المواضع التي يتأكد فيها السواك. ويشتمل على عشرة فصول، ومبحثين: الفصل الأول: السواك عند الصلاة. الفصل الثاني: السواك عند الوضوء. الفصل الثالث: في مشروعية السواك للغسل والتيمم. الفصل الرابع: يستحب السواك عند الانتباه من النوم. الفصل الخامس: يستحب السواك عند تغير الفم. الفصل السادس: استحباب السواك عند دخول البيت. الفصل السابع: حكم السواك عند دخول المسجد. الفصل الثامن: التسوك عند قراءة القرآن. المبحث الأول: حكم السواك لسجود التلاوة والشكر. المبحث الثاني: الاستياك للقراءة بعد السجود. الفصل التاسع: من المواضع التي يتأكد فيها السواك يوم الجمعة. الفصل العاشر: هل يستحب السواك عند الاحتضار. الباب الخامس: في صفة التسوك. ونشتمل على تسعة فصول: الفصل الأول: كيفية التسوك. الفصل الثاني: هل يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن أو الأيسر؟

الفصل الثالث: أفضيلة السواك بيده اليمنى أم اليسرى؟ الفصل الرابع: في كيفية أخذ السواك. الفصل الخامس: الكلام في قبض السواك. الفصل السادس: في موضع السواك من الرجل. الفصل السابع: في الاستياك حال الاضطجاع. الفصل الثامن: أقل ما تحصل به السنة من الاستياك. الفصل التاسع: هل يحتاج المتسوك إلى نية؟ فوائد متفرقة: متممة لبحوث السواك. وتشتمل على ستة عشر فائدة: الفائدة الأولى: استحباب غسل السواك. الفائدة الثانية: إباحة التسوك بسواك الغير. الفائدة الثالثة: إذا دفع السواك للغير يبدأ بالأكبر، وليس بالأيمن. الفائدة الرابعة: في بلع الريق عند ابتداء السواك. الفائدة الخامسة: في الدعاء عند السواك. الفائدة السادسة: في منافع السواك. الفائدة السابعة: ذكر بعض فقهاء الحنفية أن العلك يقوم مقام ... السواك بالنسبة للمرأة. الفائدة الثامنة: التسوك والإمام يصلي. الفائدة التاسعة: في الوضوء من فضل السواك. الفائدة العاشرة: استحب فقهاء الحنفية أن يكون السواك من شجر مر. الفائدة الحادية عشرة: نهى بعض الفقهاء أن يتسوك بطرف السواك الآخر.

الفائدة الثانية عشرة: نهى بعض الفقهاء عن التسوك بالقصب. الفائدة الثالثة عشرة: قال النووي: يستحب أن يعود الصبي السواك ... ليألفه كسائر العبادات. الفائدة الرابعة عشرة: في لقطة السواك. الفائدة الخامسة عشرة: يتسوك المحرم، كما يتسوك الحلال. الفائدة السادسة عشرة: بحث طبي في السواك. الخاتمة. أسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يجعل العمل خالصاً لوجهه، وأن يتقبله مني بقبول حسن، وأن يعظم به الأجر ويكفر به السئيات لي ولوالدي، ولجميع مشايخي، وأهل بيتي إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

التمهيد

التمهيد وفيه مبحثان: المبحث الأول: في تعريف الفطرة. المبحث الثاني: في ذكر خصال الفطرة.

المبحث الأول في تعريف الفطرة

المبحث الأول في تعريف الفطرة تعريف الفطرة من حيث اللغة: جاء في اللسان: فَطَرَ الشيء يَفْطُرُه فَطْراً فانْفَطَر. وفَطَّره: شقه، وتَفَطَّر الشيء: تشقق، والفَطْر: الشق، وجمعه فُطُور. وفي التنزيل العزيز: {هل ترى من فطور} (¬1). وأصل الفَطْر: الشق، ومنه قوله تعالى: {إذا السماء انفطرت} (¬2): أي انشقت. وفي الحديث: " قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تَفَطَّرت قدماه: أي انشقتا. يقال: تَفَطَّرت وانْفَطَرت بمعنى. وفي التنزيل العزيز: {السماء منفطر به} (¬3)، كما قالوا: سيف فطار: فيه صدوع وشقوق. قال عنترة: وسيفي كالعقيقة وهو كمعي ... سلاحي لا أفل ولا فطارا (¬4). وجاء في كتاب العين: الفُطْر: ضرب من الكَمْأة. والفُطْرُ: شيء قليل من اللبن يحلب ساعتئذ، تقول: ما احتلبناها إلا فُطْراً. قال المرار: عاقر لم يحتلب منها فُطُرْ. ¬

_ (¬1) الملك: 3. (¬2) الانفطار: 1. (¬3) المزمل: 18. (¬4) اللسان (5/ 55).

وفَطَرْت الناقة: أفْطِرُها فَطْراً: أي حلبتها بأطراف الأصابع. وقطر ناب البعير: طلع. وفَطَر الله الخلق: أي خلقهم وابتدأ صنعة الأشياء، وهو فاطر السموات والأرض. والفطرة: التي طبعت عليها الخليقة من الدين، فطرهم الله على معرفته بربوبيته، ومنه حديث: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه (¬1). اختلف العلماء في تعريف الفطرة فقال بعضهم: الفطرة: الخلقة، والفاطر الخالق. فكأن معنى: كل مولود يولد على الفطرة: أي على خلقة يعرف بها ربه، إذا بلغ مبلغ المعرفة سالماً في الأغلب خلقة وطبعاً، مهيأ لقبول الدين، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام. وقيل: معنى الفطرة هي الابتداء. وفطر الله الخلق: أي بدأهم. ويقال: أنا فطرت الشيء: أي أول من ابتدأه. ¬

_ (¬1) العين (7/ 417،418)، وقال في المغرب (ص: 363): " (الْفَطْر) إيجاد الشيء ابتداء وابتداعاً. ويقال: فطر الله الخلق فطراً إذا ابتدعهم. و (الفطرة) الخلقة، وهي من الفطر، كالْخِلْقَة من الخلق في أنها اسم للحالة، ثم إنها جعلت اسماً للخلقة القابلة لدين الحق على الخصوص. وعليه الحديث المشهور: " كل مولود يولد على الفطرة " ثم جعلها اسماً لملة الإسلام نفسها؛ لأنها حالة من أحوال صاحبها، وعليه قوله: قص الأظفار من الفطرة. وقال في المصباح المنير (ص: 477): (ف ط ر) فطر الله الخلق فطراً: أي خلقهم. والاسم: الفِطْرَة بالكسر. قال تعالى: {فطرت الله التي فطر الناس عليها} الخ ما ذكره ..

فيكون المراد: البداءة التي ابتدأهم عليها: أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة، والموت، والشقاء، والسعادة، وإلى ما يصيرون عليه عند البلوغ من ميولهم عن آبائهم واعتقادهم. وذلك ما فطرهم الله عليه مما لا بد من مصيرهم إليه، فقد يفطر على الكفر وقد يفطر على الإيمان (¬1). وقيل: الفطرة هي السنة (¬2). وقيل: الفطرة، هي الإسلام. قال ابن عبد البر: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم بالتأويل (¬3). ونسبه ابن عبد البر والقرطبي إلى أبي هريرة، وابن شهاب وغيرهما (¬4). وقيل: الفطرة المقصود بها ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره، فخاطبهم {ألست بربكم قالوا بلى} (¬5)، فأقروا له جميعاً بالربوبية عن معرفة منهم، ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة، وذلك الإقرار. قالوا: وليست تلك المعرفة بإيمان، ولا ذلك الإقرار بإيمان، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب، فطرة ألزمها قلوبهم، ثم أرسل إليهم الرسل، فدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية، فمنهم من أنكر بعد المعرفة؛ لأنه لم يكن الله عز وجل ليدعو خلقه ¬

_ (¬1) المنتقى شرح الموطأ (2/ 33)، فتاوى السبكي (2/ 361)، طرح التثريب (7/ 226). (¬2) المجموع (1/ 338)، نيل الأوطار (2/ 310). (¬3) التمهيد (18/ 72). (¬4) التمهيد (18/ 76)، والجامع لأحكام القرآن (14/ 25). (¬5) الأعراف، آية: 172.

دليل من قال الفطرة: الخلقة

إلى الإيمان به، وهو لم يعرفهم نفسه (¬1). فتلخص من هذا أن الخلاف في الفطرة على النحو التالي: قيل: الفطرة: الخلقة، والسلامة، والتهيؤ للقبول. وقيل: الفطرة: البداءة. وقيل: الفطرة الإسلام. وقيل: الفطرة: السنة. وقيل: الفطرة، الميثاق والعهد المأخوذ على ذرية آدم. وإليك أدلة كل قول، وما يمكن أن يناقش به. دليل من قال الفطرة: الخلقة. استدلوا بقوله تعالى: {قل أغير الله اتخذ ولياً فاطر السموات والأرض} (¬2). وقوله تعالى: {ومالي لا أعبد الذي فطرني} (¬3) أي خلقني. وأصحاب هذا القول أنكروا أن يفطر المولود على كفر وإيمان، أو معرفة أو إنكار، قالوا: وإنما يولد المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعاً، وبنية ليس معها إيمان ولا كفر، ولا إنكار ولا معرفة، ثم يعتقدون الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا، واحتجوا بقوله في الحديث كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء يعني: سالمة. هل تحسون فيها من جدعاء - يعني: مقطوعة الأذن، ¬

_ (¬1) طرح التثريب (7/ 227،228). (¬2) الأنعام، آية 14. (¬3) يس، آية: 22.

دليل من قال: الفطرة: البداءة، والفاطر البادئ

فمثلوا قلوب بني آدم بالبهائم؛ لأنها تولد كاملة الخلق، ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد، وأنوفها، فيقال: هذه بحائر، وهذه سوائب. فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر حينئذٍ ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، كالبهائم السالمة فلما بلغوا استهوتهم الشياطين، فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم، ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء على الكفر أو الإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبداً، ومحال أن يعقل الطفل حال ولادته كفراً أو إيماناً. والله سبحانه وتعالى يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} (¬1)، فمن لا يعلم شيئاً استحال منه كفر وإيمان، أو معرفة أو إنكار. قال ابن عبد البر: هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها، والله أعلم؛ وذلك أن الفطرة السلامة والاستقامة بدليل حديث عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاكياً عن ربه عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء. يعني: على استقامة وسلامة. والحنيف في كلام العرب: المستقيم السالم. وإنما قيل للأعرج: أحنف على جهة الفأل. كما قيل للقفر: مفازة. دليل من قال: الفطرة: البداءة، والفاطر البادئ. الدليل الأول: (438 - 2) استدلوا بما روى الطبري في تفسيره، قال: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، إبراهيم بن مهاجر، ¬

_ (¬1) النحل، آية: 78.

عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر. فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها. يقول: أنا ابتدأتها (¬1). [ابن وكيع ضعيف، لكنه قد توبع، وباقي الإسناد رجاله ثقات إلا إبراهيم بن مهاجر فإنه صدوق في حفظه شيء] (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (7/ 158). (¬2) تابع محمد بن بشار ابن وكيع، كما في التمهيد (18/ 78)، فقد رواه من طريقه، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان به. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 258) من طريق أبي عبيدة، حدثني يحيى بن سعيد القطان به. وإليك أهم ما قيل في إبراهيم بن مهاجر: قال أحمد: ليس به بأس. وكذا قال الثوري. الجرح والتعديل (2/ 132). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (7). وقال في موضع آخر: لا بأس به. تهذيب الكمال (2/ 211). وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة، ويحمل بعضهاً بعضاً، وهو عندي أصلح من إبراهيم الهجري، وحديثه يكتب في الضعفاء. الكامل (1/ 213). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت أبي يقول: إبراهيم بن مهاجر ليس بقوي، هو وحصين بن عبد الرحمن، وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض، فمحلهم عندنا محل الصدق، يكتب حديثهم، ولا يحتج بحديثهم. قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم؟. قال: كانوا أقواماً لا يحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون، فيغلطون. ترى في حديثهم اضطراباً ما شئت. الجرح والتعديل (2/ 132). وسأل الحاكم الدارقطني قلت: فإبراهيم بن مهاجر؟. قال: ضعفوه، تكلم فيه يحيى ابن سعيد وغيره. قلت: بحجة؟. قال: بلى، حدث بأحاديث لا يتابع عليها، وقد غمزه شعبة أيضاً. تهذيب التهذيب (1/ 146). =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (439 - 3) واحتجوا بما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا عبد الله ابن مسلمة بن قعنب، حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن رقبة بن مصقلة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً (¬1). وفي صحيح البخاري: عن ابن عباس أنه كان يقرأ أما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين (¬2). فهنا أطلق على الغلام أنه كافر، وهذا باعتبار أنه فطر أول ما فطر على الكفر. فكان ابتداء خلقه أن يكون كافراً، فهو صائر إليه لا محالة. الدليل الثالث: (440 - 4) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن طلحة بن يحيى، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي ¬

_ = وقال يحيى القطان: لم يكن بالقوي. الجرح والتعديل (2/ 132). وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، كما في رواية عباس الدوري عنه. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق، لين الحفظ. (¬1) صحيح مسلم (2661). (¬2) صحيح البخاري (3401).

من الأنصار، فقلت: يارسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: أو غير ذلك يا عائشة؛ إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (¬1). ورده ابن عبد البر، فقال: إن أراد هؤلاء أن الله خلق الأطفال، وأخرجهم من بطون أمهاتهم ليعرف منهم العارف، ويعترف فيؤمن، وينكر منهم المنكر، فيكفر، كما سبق له القضاء، وذلك حين يصح منهم الإيمان والكفر، فذلك ما قلنا. وإن أرادوا أن الطفل يولد عارفاً مقراً، مؤمناً، وعارفاً جاحداً كافراً في حين ولادته، فهذا يكذبه العيان والعقل. وقال ابن عبد البر: " وهذا المذهب ـ يعني هذا القول ـ شبيه بما حكاه أبو عبيد، عن عبد الله بن المبارك، أنه سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة " فقال:" يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا يعملون " (¬2). (441 - 5) قال ابن عبد البر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن الجهم، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا موسى بن عبيدة، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله عز وجل: {كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (31 - 2662). (¬2) التمهيد (18/ 79)، ونقله العراقي في طرح التثريب (7/ 226،227). (¬3) الأعراف، آية: 29، 30.

قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة، وإن عمل بأعمال الهدى، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره الله إلى الهدى، وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ خلق إبليس على الضلالة، وعمل بعمل السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة، وكان من الكافرين، وابتدأ خلق السحرة على الهدى، وعملوا بعمل الضلالة، ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة، وتوفاهم عليها مسلمين (¬1). ورده ابن عبد البر، فقال: ليس في قوله: {كما بدأكم تعودون} (¬2) دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمناً أو كافراً لما شهدت به العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيماناً ولا كفراً. ومن الحجة أيضاً قوله تعالى: {إنما تجزون ما كنتم تعملون} (¬3). وقوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} (¬4). ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. وقال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} (¬5). ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك. وقال القرطبي: قال شيخنا أبو العباس: من قال: هي سابقة السعادة ¬

_ (¬1) التمهيد (18/ 78). (¬2) الأعراف: 29. (¬3) الطور، آية: 16. (¬4) المدثر، آية: 38. (¬5) الإسراء، آية: 15.

دليل من قال: الفطرة السنة

والشقاوة، فهو إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {لا تبديل لخلق الله} (¬1)، وأما في الحديث فلا؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير (¬2). دليل من قال: الفطرة السنة. الدليل الأول: (442 - 6) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عبد الله محمد بن يعقوب إملاء، ثنا حامد بن أبي حامد المقري، ثنا إسحاق بن سليمان، ثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من السنة قص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار. قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح، عن أحمد بن أبي رجاء، عن إسحاق بن سليمان اهـ (¬3). أراد البيهقي أصل الحديث وإلا فلفظ البخاري: "من الفطرة " (¬4)،وهو ¬

_ (¬1) الروم: 30. (¬2) تفسير القرطبي (14/ 27). (¬3) سنن البيهقي (1/ 149). (¬4) قال البخاري (5890): حدثنا أحمد ابن أبي رجاء، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت حنظلة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب. اهـ هذا لفظ البخاري. وتبع النووي البيهقي، فقال في المجموع (1/ 338): " في صحيح البخاري عن =

المحفوظ (¬1). ¬

_ = ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من السنة قص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار " اهـ. هكذا نسب النووي هذا اللفظ إلى البخاري كما نسبه البيهقي، ولم أجده فيه بهذا اللفظ. قال الحافظ في الفتح (10/ 339): "وقد تبعه شيخنا ابن الملقن على هذا ـ أي على نسبة هذا اللفظ للبخاري- قال الحافظ: ولم أر الذي قاله في شيء من نسخ البخاري، بل الذي فيه من حديث ابن عمر بلفظ الفطرة. وكذا من حديث أبي هريرة، نعم وقع التعبير بالسنة موضع الفطرة في حديث عائشة عند أبي عوانة في رواية أخرى، وفي رواية أخرى بلفظ الفطرة كما في رواية مسلم والنسائي وغيرهما " هـ ولم يقف الحافظ على لفظ البيهقي. (¬1) انفرد بهذه اللفظة حامد بن أبي حامد المقري، فرواه عن إسحاق بن سليمان، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن نافع، عن ابن عمر. وقد رواه أحمد في مسنده (2/ 118). والبخاري في صحيحه (5888) ثنا أحمد بن أبي رجاء، كلاهما روياه، عن إسحاق بن سليمان به، بلفظ: " من الفطرة " وروايتهما أرجح بدون شك. أولاً: لأن أحمد بن حنبل، لا يعدله من خالفه، ولا يقاربه في الحفظ. وثانياً: ولكون لفظ: " من الفطرة " هو لفظ البخاري، أعلى الكتب صحة، متناً وإسناداً بلا منازع. وثالثاً: وجود المتابعات، لأحمد والبخاري، ولم يتابع البيهقي على لفظه، فقد رواه جماعة عن حنظلة بن أبي سفيان، موافقين لرواية أحمد والبخاري، وإليك هم: الأول: عبد الله بن وهب، كما في سنن النسائي الصغرى (1/ 15) رقم 12، والكبرى أيضاً (1/ 66) رقم 12. الثاني: مكي بن إبراهيم. كما في صحيح البخاري (5888)، ومسند عبد الله بن عمر ـ للطرسوسي (ص: 44) رقم 80. سنن البيهقي (3/ 243)، وشعب الإيمان ـ للبيهقي (5/ 221) رقم 6441. الثالث: الوليد بن مسلم، كما في صحيح ابن حبان (5478).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (443 - 7) ما رواه أبو عوانة في مسنده، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي رجاء المصيصي، قال: ثنا وكيع بن الجراح، قال: ثنا زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن ابن الزبير، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر من السنة: قص الشارب، وإعفاء اللحى، والسواك، والاستنثار بالماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء ـ يعني الاستنجاء بالماء. قال زكريا: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة (¬1). [المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ، كما أن المحفوظ أن الأثر بلفظ: " عشر من الفطرة " وليس عشر من السنة] (¬2). ¬

_ (¬1) مسند أبي عوانة (1/ 190،191). (¬2) سيأتي تخريجه في كتاب السواك.، كما أن لفظة: " عشر من السنة " انفرد بها أحمد ابن محمد بن أبي رجاء المصيصي عن وكيع. وتابعه أبو بشر، عن طلق بن حبيب، قال: عشرة من السنة السواك وقص الشارب وذكر الحديث. كما عند النسائي في الصغرى (5042)، والكبرى (9288). وقد رواه جماعة عن وكيع، ولم يذكروا ما ذكره ابن أبي رجاء، وإليك بعض من وقفت عليه منهم: الأول: إسحاق بن راهوية كما في مسنده (2/ 97)، ومسند أبي يعلى (4517). والنسائي في المجتبى (5040)، والكبرى (9286). الثاني: أبو بكر بن أبي شيبة كما في المصنف (5/ 227) رقم 25505، وصحيح مسلم (56ـ261)، وابن ماجه (293)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 36). =

دليل من قال الفطرة هي الإسلام

قال أبو عمر بن الصلاح: " هذا فيه إشكال لبعد معنى السنة عن معنى الفطرة في اللغة (¬1)،قال: فلعل وجهه أن أصله سنة الفطرة، أو أدب الفطرة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه " اهـ. وإذا قلنا إن المراد بالفطرة: السنة. فإن السنة معناها الطريقة: أي أن معنى ذلك من سنن الأنبياء والمرسلين وطريقتهم. دليل من قال الفطرة هي الإسلام. الدليل الأول: قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس ¬

_ = الثالث: قتيبة، كما في مسلم (56 ـ 261) والترمذي (2757). الرابع: زهير بن حرب، كما في مسلم (56 ـ 261). الخامس: يحيى بن معين، كما في سنن أبي داود (53)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 52). السادس: هناد، كما في سنن الترمذي (2757). السابع: يوسف بن موسى كما في صحيح ابن خزيمة (88). الثامن: محمد بن إسماعيل الحساني، كما في سنن الدارقطني (1/ 94). (¬1) المعنى اللغوي للفطرة: قال في المغرب (ص: 363): " (الْفَطْر) إيجاد الشيء ابتداء وابتداعاً. ويقال: فطر الله الخلق فطراً إذا ابتدعهم. و (الفطرة) الخلقة، وهي من الفطر، كالْخِلْقَة من الخلق في أنها اسم للحالة، ثم إنها جعلت اسماً للخلقة القابلة لدين الحق على الخصوص. وعليه الحديث المشهور: " كل مولود يولد على الفطرة " ثم جعلها اسماً لملة الإسلام نفسها؛ لأنها حالة من أحوال صاحبها، وعليه قوله: قص الأظفار من الفطرة. وقال في المصباح المنير (ص: 477): (ف ط ر) فطر الله الخلق فطراً: أي خلقهم. والاسم: الفِطْرَة بالكسر. قال تعالى: {فطرت الله التي فطر الناس عليها} الخ ما ذكره.

الدليل الثاني

عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (¬1). قال ابن عبد البر: قد أجمعوا في قول الله عز وجل: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (¬2)، على أن قالوا فطرة الله دين الله الإسلام. ثم قال: وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} قالوا: دين الله الإسلام. {لا تبديل لخلق الله} قالوا: لدين الله (¬3). الدليل الثاني: (444 - 8) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أوينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم (¬4). ولما كان الإسلام هو دين الفطرة، لم يحتج أن يقول: فأبواه يسلمانه. وتعقبه ابن عبد البر، فقال: يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة في قول ¬

_ (¬1) الروم، آية: 30. (¬2) الروم، آية: 30. (¬3) التمهيد (18/ 75). (¬4) صحيح البخاري (1359)، ورواه مسلم بنحوه (2658).

الدليل الثالث

النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة " الإسلام؛ لأن الإسلام والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح. وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل بذلك ذو عقل (¬1). الدليل الثالث: (445 - 9) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، عن سليمان قال: سمعت زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود، قال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - عليها (¬2). مت على غير الفطرة: أي على غير الدين والملة والإسلام. قال ابن حجر: قال الخطابي: الفطرة الملة أو الدين. قال: ويحتمل أن يكون المراد بها هنا السنة، كما جاء " خمس من الفطرة " الحديث. ويكون حذيفة قد أراد توبيخ الرجل ليرتدع في المستقبل، ويرجحه وروده من وجه آخر بلفظ " سنة محمد " (¬3). الدليل الرابع: (446 - 10) ما رواه مسلم، قال: حدثني أبو غسان المسمعي ومحمد بن ¬

_ (¬1) التمهيد (18/ 77). (¬2) صحيح البخاري (791). (¬3) فتح الباري (2/ 275). وقد أخرجه البخاري بلفظ السنة كما قال الحافظ، في صحيحه (389)، قال: أخبرنا الصلت بن محمد، أخبرنا مهدي، عن واصل، عن أبي وائل، عن حذيفة رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته قال له حذيفة: ما صليت. قال: وأحسبه قال: لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم.

المثنى ومحمد بن بشار بن عثمان ـ واللفظ لأبي غسان وابن المثنى ـ قالا: حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً. الحديث قطعة من حديث طويل (¬1). فقوله: " حنفاء " أي مسلمين. قال ابن عبد البر: ومما يدل على أن الحنفية الإسلام قوله الله عز وجل: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} (¬2). وقوله سبحانه: {هو سماكم المسلمين} (¬3) (¬4). وإنما سمي إبراهيم حنيفاً؛ لأنه كان حنف عما كان يعبد أبوه وقومه من الآلهة، إلى عبادة الله وحده: أي عدل عن ذلك ومال. وأصل الحنف ميل من إبهامي القدمين، كل واحدة منهما على صاحبتها. قال الأوزاعي: سألت الزهري عن رجل عليه رقبة، أيجزئ عنه الصبي أن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2865). (¬2) آل عمران، آية: 67. (¬3) الحج: 78. (¬4) التمهيد (18/ 75).

الدليل الخامس

يعتقه، وهو رضيع؟ قال: نعم؛ لأنه ولد على الفطرة، يعني: الإسلام. ورده ابن عبد البر، وقال: إنما أجزأ عتقه في الرقاب الواجبة عند من أجازه؛ لأن حكمه حكم أبويه (¬1). الدليل الخامس: (447 - 11) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يونس، حدثنا أبان، عن قتادة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية يوم حنين، فقاتلوا المشركين فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فلما جاءوا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين. قال: أوهل خياركم إلا أولاد المشركين، والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها (¬2). [رجاله ثقات، وإسناده منقطع، لم يسمع الحسن من الأسود، وقتادة مدلس] (¬3). ¬

_ (¬1) التمهيد (18/ 77). (¬2) مسند أحمد (3/ 435). (¬3) جاء في كتاب العلل ـ ابن المديني ـ (ص: 55) رقم 63: " وسئل ـ يعني علي بن المديني ـ عن حديث الأسود ـ وهو ابن سريع ـ بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فأكثروا القتل. أخرجه الإمام أحمد، فقال: إسناد منقطع رواية الحسن عن الأسود بن سريع، والحسن عندنا لم يسمع من الأسود؛ لأن الأسود خرج من البصرة أيام علي، وكان الحسن بالمدينة. فقلت له المبارك يعني ابن فضالة، يقول في حديث الحسن، عن الأسود أخبرني الأسود. فلم يعتمد على =

. . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المبارك في ذلك. الخ وقد نقله ابن أبي حاتم في المراسيل (ص: 39) قلت: وافق المبارك بن فضاله يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: حدثنا الأسود. أخرجه النسائي في الكبرى (8616)، والحاكم (2/ 123) من طريق هشيم، عن يونس به. وأخرج الطحاوي في مشكل الآثار (1394) والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 445) من طريق يحيى السري بن يحيى، عن الحسن، قال: حدث الأسود بن سريع ـ هذا لفظ الطحاوي، ولفظ البخاري، قال: حدثنا الأسود بن سريع. وكذلك روى الطحاوي في مشكل الآثار (1396) من طريق الأشعث بن عبد الملك، عن الحسن، أن الأسود بن سريع حدثهم. وذكر نفس الحديث. فهنا ظاهره أن الحسن قد حدثه الأسود، وقد ذهب إلى ذلك الطحاوي في مشكل الآثار (4/ 15). وجزم البزار أن الحسن لم يسمع من الأسود، فقال كما في نصب الراية (1/ 90): "وكذلك قال ـ أي الحسن ـ حدثنا الأسود بن سريع، والأسود قدم يوم الجمل فلم يره، ولكن معناه حدث أهل البصرة " اهـ وممن نص على أن الحسن لم يسمع من الأسود علي بن المديني، كما في ثقات ابن حبان (3/ 8)، والمعرفة والتاريخ (2/ 54). وابن مندة كما في تهذيب الكمال (3/ 222)، ورجحه الحافظ في التهذيب (1/ 295). تخريج الحديث: الحديث أخرجه الطبراني في الكبير (833)، والحاكم في المستدرك (1/ 123)، والبيهقي في السنن (9/ 130) من طريق يونس بن محمد المؤدب، عن أبان به. وأخرجه أحمد (3/ 435) ثنا إسماعيل، قال: أنا يونس، عن الحسن، عن الأسود به. وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1160)، والنسائي في الكبرى (8616) والدارمي (2463)، والطبراني في الكبير (829،832)، والحاكم (2/ 123)، من طرق، عن يونس بن عبيد به. وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1162)، والطحاوي في مشكل الآثار (1397) من طريق شيبان، عن قتادة به. وأخرجه أحمد (4/ 24) حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا السري بن يحيى، حدثنا الحسن به. =

دليل من قال الفطرة الميثاق والعهد

دليل من قال الفطرة الميثاق والعهد. (448 - 12) دليلهم ما رواه أحمد، قال: ثنا حسين بن محمد، ثنا جرير - يعنى ابن حازم - عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعنى عرفة- فاخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا قال {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} (¬1) (¬2). ¬

_ = ومن طريق السري أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 445)، والصغير (1/ 89)، والطحاوي في مشكل الآثار (1394،1395)، وابن حبان (132). وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (20090) عن معمر، عمن سمع الحسن، يحدث عن الأسود بن سريع. وأخرجه ابن أبي شيبة (6/ 484) رقم 33131 حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسماعيل، عن الحسن به. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (924) والطبراني في الكبير (828) من طريق شيبان بن فروخ، حدثنا أبو حمزة العطار إسحاق بن الربيع، حدثنا الحسن ببعضه. وأخرجه الطحاوي (1396) والطبراني (830) من طريق الأشعث بن عبد الملك، عن الحسن به. وأخرجه الطبراني في الكبير (826) من طريق المبارك بن فضالة وأخرجه الطبراني (831) من طريق عمارة بن أبي حفصة، عن الحسن به. وأخرجه الطبراني (834) من طريق المعلى بن زياد، عن الحسن به. (¬1) الأعراف (172، 173). (¬2) مسند أحمد (1/ 272).

[قال النسائي: الحديث غير محفوظ (¬1)، ورجح ابن كثير وقفه] (¬2). ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (11191). (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 263). والحديث فيه كلثوم بن جبر قال أحمد بن حنبل: كلثوم بن جبر ثقة. الجرح والتعديل (7/ 164). وقال يحيى بن معين أيضاً: ثقة. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/ 396). وقال ابن سعد: كان معروفا، وله أحاديث. الطبقات الكبرى (7/ 244). ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي المراسيل. الثقات (7/ 356). وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (2/ 228). قلت: وقد روى له مسلم. وفي التقريب: صدوق يخطئ. وباقي رجال الإسناد ثقات. تخريج الحديث: أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة (1/ 89) رقم 202 ثنا سليمان بن عبد الجبار، ثنا حسين بن محمد المروزي، به. مرفوعاً. وأخرجه النسائي في التفسير (211)، وفي الكبرى (11191)، أنا محمد بن عبد الرحيم، أنا الحسين بن محمد به. قال النسائي: وكلثوم هذا ليس بالقوي، وحديثه ليس بالمحفوظ. اهـ وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 110) حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا الحسين بن محمد به. وأخرجه أيضاً في تاريخه (1/ 134) بالإسناد نفسه. وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 544) من طريق جعفر بن محمد الصائغ، حدثنا الحسين بن محمد به. وصححه، وأقره الذهبي. ورواه الحاكم في المستدرك أيضاً (2/ 27،28) من طريق وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه. به وقد أعله الحافظ ابن كثير في الوقف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقد رواه عن كلثوم موقوفاً كل من ربيعة بن كلثوم، وحماد بن زيد، وعبد الوارث، وابن علية، كلهم رووه عن كلثوم، عن سعيد، عن ابن عباس. فقد رواه الطبراني (9/ 111) من طريق عبد الوارث، ثنا كلثوم بن جبر به موقوفاً. وأخرجه الطبراني (9/ 111) من طريقين، عن ابن علية، قال: ثنا كلثوم بن جبر به. موقوفاً. وقد رواه ابن سعد (1/ 29)، من طريق حماد بن زيد، عن كلثوم به موقوفاً. وأخرجه الطبراني (9/ 110،111) من طريق ربيعة بن كلثوم، عن أبيه به موقوفاً. ورواه عن سعيد بن جبير موقوفاً عطاء بن السائب، وعلي بن بذيمة، وحبيب بن أبي ثابت. فقد أخرجه الطبراني (9/ 111) من طريقين، عن عمران بن عيينة، قال: أخبرنا عطاء ابن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفاً عليه. ورواه الطبراني أيضاً (9/ 111) من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفاً عليه. وأخرجه الطبراني أيضاً (9/ 111) من طريق علي بن بذيمة، عن سعيد به موقوفاً. وقال ابن كثير: (2/ 263)، " روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به، إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفاً " حتى قال: " ورواه عبد الوارث، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فوقفه. وكذا رواه إسماعيل بن علية، ووكيع، عن ربيعة بن كلثوم بن جبر، عن أبيه به. وكذا رواه عطاء بن السائب، وحبيب بن أبي ثابت، وعلي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وكذا رواه العوفي، علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. فهذا أكثر وأثبت اهـ. يعني: كونه موقوفاً. وإذا كان الراجح وقفه كما هو ظاهر من البحث، هل مثله مما يقال بالرأي، أو أن له حكم الرفع. فيه تأمل. وله شواهد: الأول: ما رواه مالك في الموطأ (2/ 898)، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أنه أخبره، عن مسلم بن يسار الجهني، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}، فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسْأل عنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تبارك وتعالى خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة. وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار. ومن طريق مالك أخرجه أبو داود (4703)، والترمذي (3075) وابن أبي عاصم (196)، والنسائي في الكبرى (11190)، وابن حبان (6166)، والبغوي في شرح السنة (77). وإسناده ضعيف، وفيه انقطاع. أما ضعف إسناده ففيه: مسلم بن يسار قال العجلي: بصري تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/ 279). ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 390). وحسن الترمذي حديثه هذا كما في سنن الترمذي (3075). ولكن تحسين الترمذي ذهاب منه إلى ضعف إسناده، لأن الحسن عنده هو الحسن لغيره. وذكره البخاري، وسكت عليه. التاريخ الكبير (7/ 276). وأخرج له مالك في موطئه، مع شدة مالك، وتنقيته للرجال. وأخرج ابن حبان حديث سليمان بن يسار في صحيحه (6166)، فهو ذهاب منه إلى توثيقه. وقال يحيى بن معين، وابن عبد البر: مجهول، كما في التمهيد (6/ 4،5). وفي التقريب: مقبول. أي حيث توبع، وإلا فلين. وأما الانقطاع، فإن مسلم بن يسار لم يسمع من عمر. =

. . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الترمذي: هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر. وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار، وبين عمر رجلاً. سنن الترمذي (3075). ونقل ابن كثير كلام الترمذي، وقال: كذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة. وزاد أبو حاتم: وبينهما نعيم بن ربيعة، وهذا الذي قاله رواه أبو داود، ثم ساق إسناده. اهـ تفسير بن كثير (2/ 263). قلت: قد اختلف في وصله، وإرساله. فرواه مالك، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يسار، عن عمر مرسلاً. ورواه عمر بن جعثم القرشي، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة، عن عمر، كما في سنن أبي داود (4704)، والطبري في تفسيره (9/ 113،114)، عن محمد بن مصفى، عن بقية، عن عمر بن جعثم به. ورواه خالد بن أبي يزيد أبو عبد الرحيم الحراني كما في التمهيد (6/ 4،5) من طريق أحمد بن عبد الملك بن واقد، ومحمد بن وهب، فرقهما، عن محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة به موصولاً وتابعهما على ذكر نعيم، يزيد بن سنان، كما في السنة لابن أبي عاصم (201)، ومحمد بن نصر، في الرد على ابن محمد بن حنيفة، كما في النكت الظراف (8/ 113)، كلاهما من طريق محمد يزيد بن سنان، عن أبيه به. فأيهما أرجح رواية مالك المنقطعة أم رواية أبي عبد الرحيم، ويزيد بن سنان، وعمر بن جعثم القرشي الموصوله؟ اختلف في ذلك: فرجح الدارقطني الرواية الموصوله. قال في العلل (2/ 222) حين سئل عن هذا الحديث: " يرويه زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة، عن عمر حدث عنه كذلك يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي، وجود إسناده ووصله. وخالفه مالك بن أنس، فرواه عن زيد بن أبي أنيسة، ولم يذكر في الإسناد نعيم بن ربيعة وأرسله من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مسلم بن يسار، عن عمر. وحديث يزيد بن سنان متصل، وهو أولى بالصواب والله أعلم. وقد تابعه عمر بن جعثم، فرواه عن زيد بن أبي أنيسة، كذلك قاله بقية بن الوليد عنه " اهـ. وقال الحافظ بن كثير (2/ 264): " الظاهر أن الإمام مالك إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمداً لما جهل حال نعيم، ولم يعرفه؛ فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث، ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم، ولهذا يرسل كثيراً من المرفوعات، ويقطع كثيراً من الموصولات. والله أعلم. ورجح بعضهم الرواية المنقطعة، رواية مالك. قال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 5،6): " زيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة؛ لأن الذي لم يذكرها أحفظ، وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن، وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن مسلم بن يسار، ونعيم بن ربيعة جميعاً غير معروفين بحمل العلم اهـ. وسواء اعتبرنا زيادة نعيم بن ربيعة من المزيد في متصل الأسانيد أم لا، فالحديث بكل أحواله ضعيف، كما قال ابن عبد البر، ومع ضعفه إلا أنه صالح في الشواهد، فيكون شاهداً لحديث ابن عباس المتقدم. الشاهد الثاني: حديث أبي هريرة. رواه الترمذي، قال: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى رجلا منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك، يقال له داود، فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة، فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطئ آدم، فخطئت ذريته. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وليس في الحديث موضع الشاهد، وهو أخذ العهد والميثاق، المذكور بقوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى}. تخريج الحديث: الحديث أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 27)، والطبري في تاريخه (1/ 155)، والحاكم في المستدرك (2/ 585ـ586) من طريق هشام بن سعد به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. وصححه ابن مندة كما في الرد على الجهمية (49). وقد اختلف في إسناد هذا الحديث، فرواه أبو نعيم، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. كما في إسناد الترمذي. ورواه ابن وهب، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، فجعل بدلاً من أبي صالح عطاء بن يسار. كما في العلل لابن أبي حاتم (2/ 88). جاء في العلل (2/ 88): " قلت لأبي زرعة: أيهما أصح؟ - يعني: حديث ابن وهب أم حديث أبي نعيم - قال: حديث أبي نعيم أصح. وهم ابن وهب في حديثه. ورواه أبو خالد الأحمر، واختلف عليه فيه. فرواه الحاكم (1/ 46) من طريق مخلد بن مالك، عن أبي خالد الأحمر، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة. ورواه الطبري في تاريخه (1/ 155)، من طريق أبي خالد الأحمر، حدثني محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ورواه أيضاً، من طريق أبي خالد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. فهذه ثلاثة اختلافات في طريق أبي خالد الأحمر. وجاء الحديث من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، ولكن ليس فيه أيضاً موضع =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الشاهد، وهو مسح ظهر آدم، وإخراج ذريته من ظهره، وأخذ الميثاق عليهم. وفي إسناده الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، صدوق يهم. فقد أخرج الترمذي في سننه (3368) قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما خلق الله آدم، ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: يرحمك الله يا آدم. اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملإ منهم جلوس، فقل السلام عليكم. قالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه، فقال: إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم، فقال الله له، ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريته. فقال: أي رب ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم أو من أضوئهم. قال: يا رب من هذا؟ قال: هذا ابنك داود قد كتبت له عمر أربعين سنة. قال: يا رب زده في عمره، قال: ذاك الذي كتبت له. قال: أي رب فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة. قال: أنت وذاك. قال: ثم أسكن الجنة ما شاء الله، ثم أهبط منها، فكان آدم يعد لنفسه. قال: فأتاه ملك الموت فقال له آدم: قد عجلت قد كتب لي ألف سنة. قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة، فجحد، فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته. قال: فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ. وفي هذا الحديث أن عمر داود كان أربعين سنة، ووهب له ستون سنة. بينما في الحديث السابق، أن عمره كان ستين سنة، ووهب له أربعين. والحديث أخرجه الطبري في تاريخه (1/ 155) وابن خزيمة في كتاب التوحيد (ص:67)، وابن حبان (6167)، والحاكم في المستدرك (1/ 64) (4/ 263) وابن أبي عاصم في السنة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (206) من طريق الحارث بن عبد الرحمن به أبي ذباب به. الشاهد الثالث: حديث أنس بن مالك. حدثنا قيس بن حفص، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، عن أنس يرفعه: إن الله يقول لأهون أهل النار عذاباً: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم. قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك. وهو في صحيح مسلم (2805). قال القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم (8/ 337): وأنت في صلب آدم، قال "هذا تنبيه على ما جاء في قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن، ومن لم يف به فهو كافر. ومراد الحديث ... - والله أعلم ونبيه - قد أردت منك هذا، وأنت في صلب آدم: ألا تشرك بي حين أخذت عليك ذلك الميثاق، فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك اهـ. وقوله: والله أعلم ونبيه إنما يقال هذا في حياته - صلى الله عليه وسلم -، أما بعد موته فيقال: الله أعلم وحده. الشاهد الرابع: حديث أبي الدرداء فقد روى أحمد، رحمه الله، قال: حدثنا هيثم، وسمعته أنا منه، قال: حدثنا أبوالربيع، عن يونس، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي. وقال للذي في كفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي. فيه أبو الربيع: سليمان بن عتبة. قال صالح بن أحمد بن حنبل: قال أبى: سليمان بن عتبة لا أعرفه. الجرح والتعديل (4/ 134). وقال يحيى بن معين كما في رواية إسحاق بن منصور عنه: سليمان بن عتبة شامي لا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = شيء. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن سليمان بن عتبة الشامي، فقال: ليس به بأس، وهو محمود عند الدمشقيين. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات. (8/ 274). وقال أيضاً: من خيار الشاميين، وقرائهم. مشاهير علماء الأمصار (1421). وقال دحيم: ثقة، وقد روى عنه المشائخ. تهذيب التهذيب (4/ 184). وقال أبو زرعة، عن أبي مسهر: ثقة. قلت: إنه يسند أحاديث، عن أبي الدرداء. قال: هي يسيرة. لم يكن له عيب إلا لصوقه بالسلطان. المرجع السابق. ودحيم وأبو مسهر من أعلم الناس بأهل الشام. وقال صالح بن محمد: روى أحاديث مناكير، وكان الهيثم بن خارجة وهشام بن عمار يوثقانه. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق، له غرائب. وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات إلا الهيثم بن خارجه، فإنه صدوق، فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى. الشاهد الخامس: حديث أبي أمامة روى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا إبراهيم بن صالح، ثنا عثمان بن الهيثم، ثنا جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما خلق الله عز وجل الخلق، وقضى القضية، أخذ أهل اليمين بيمينه، وأهل الشمال بشماله، فقال: يا أصحاب اليمين. قالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: يا أصحاب الشمال. قالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. ثم خلط بينهم، فقال: قائل: يا رب لم خلطت بينهم؟ قال: لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم. إسناده ضعيف جداً. فيه جعفر بن الزبير الحنفي، وهو متروك، ولولا خشية الإطالة لنقلت ما جاء في ترجمته. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 189) رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفيه سلم بن سالم، وهو ضعيف. وفي إسناد الكبير جعفر بن الزبير، وهو ضعيف اهـ. ولم أقف عليه في الأوسط المطبوع. وقد راجعت جميع مسند أبي أمامة. ثم وجدته في مجمع البحرين. (3217)، قال: حدثنا محمد بن المرزبان، ثنا أحمد بن إبراهيم النرمقي، ثنا سلم بن سالم، عن عبد الرحمن، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلق الله الخلق، وقضى القضية، وأخذ ميثاق النبيين، وعرشه على الماء ـ فأخذ أهل اليمين بيمينه، وأخذ أهل الشقاء بيده اليسرى، وكلتا يدي الرحمن يمين، فقال: يا أهل اليمين. قالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. ثم خلط بينهم. فقال قائل منهم: رب لم خلطت بيننا؟ فقال: لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن تقولوا يوم القيامة إن كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فخلق الله الخلق وقضى القضية، وأخذ ميثاق النبيين، عرشه على الماء، فأهل الجنة أهلها، وأهل النار أهلها ... الحديث. وفيه سلم بن سالم قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبى يقول: سلم بن سالم البلخي ليس بذاك في الحديث، كأنه ضعفه. الجرح والتعديل (4/ 266). وقال الدوري، عن يحيى بن معين: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: قال أبي ضعيف الحديث، وترك حديثه ولم يقرأه علينا. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة، عن سلم بن سالم، فقال: أخبرني بعض الخراسانيين، قال: سمعت بن المبارك يقول: اتق حيات سلم بن سالم لا تلسعك. المرجع السابق. وقال أيضاً عبد الرحمن: سمعت أبا زرعة يقول: ما أعلم أنى حدثت عن سلم بن سالم إلا أظنه مرة. قلت: كيف كان في الحديث؟ قال: لا يكتب حديثه، كان مرجئا وكان لا وأومى بيده إلى فيه ـ يعنى: لا يصدق ـ المرجع السابق. الشاهد السادس: حديث عبد الرحمن بن قتادة السلمي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رواه أحمد، قال: حدثنا الحسن بن سوار، حدثنا ليث ـ يعني ابن سعد - عن معاوية، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي، أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي. قال: فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر. وأخرجه ابن سعد (1/ 30) (7/ 417)، وابن حبان (338)، والحاكم (1/ 31)، وابن الأثير في أسد الغابة (3/ 489) من طريق معاوية بن صالح به. وإسناد هذا الحديث مضطرب: فقيل فيه: عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: وذكر الحديث. كما سبق في إسناد أحمد. وقيل فيه: عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن أبيه، عن هشام بن حكيم. وقيل: عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم، ليس فيه قتادة والد عبد الرحمن. وجاء في الإصابة: وأعل البخاري الحديث بأن عبد الرحمن إنما رواه عن هشام بن حكيم، هكذا رواه معاوية بن صالح وغيره، عن راشد. وقال معاوية مرة: إن عبد الرحمن قال: سمعت، وهو خطأ. ورواه الزبيدي، عن راشد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن أبيه، وهشام بن حكيم. وقيل: عن الزبيدي وعبد الرحمن، عن أبيه، عن هشام. وقال ابن السكن: الحديث مضطرب. اهـ كلام الحافظ. وقال الحافظ: ويكفي في إثبات صحبته الرواية التي شهد له فيها التابعي بأنه من الصحابة، فلا يضر بعد ذلك إن كان سمع الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بينهما فيه واسطة. وليست المسألة في إثبات صحبته، ولكن إسناد هذا الحديث مضطرب، فلا يمكن أن نصحح إسناداً فيه مثل هذا الاختلاف اعتماداً على صحة كونه صحابياً. =

الراجح من هذه الأقوال

قال ابن عبد البر: قد قال هؤلاء: ليست تلك المعرفة بإيمان، ولا ذلك الإقرار بإيمان، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب، فطرة ألزمها قلوبهم، فكفونا بهذه المقالة أنفسهم. الراجح من هذه الأقوال: أن الفطرة في قوله: " كل مولود يولد على الفطرة " أي على خلقة يعرف بها ربه، إذا بلغ مبلغ المعرفة سالماً في الأغلب خلقة وطبعاً، مهيأ لقبول الدين. وهذا الذي رجحه ابن عبد البر. قال القرطبي: " وإلى ما اختاره أبو عمر، واحتج له غير واحد من المحققين، منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنه الخلقة والهيئة ¬

_ = تخريج الحديث: اما الإسناد الباب: عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد سبق تخريجه. وأما إسناد: راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن أبيه، عن هشام بن حكيم. فأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 314ـ342)، (8/ 191،192). والطبري (9/ 117)، والبزار (2140) كما في كشف الأستار، والطبراني في الكبير (5/ 341)، وفي الشاميين (1854). وأما إسناد الحديث الذي فيه: عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم، ليس فيه قتادة والد عبد الرحمن. فأخرجه الآجري في الشريعة (ص: 172)، والطبري (9/ 118)، والطبراني في الكبير (22/ 434)، وفي الشاميين (1855،2046). وفي الباب: حديث أبي بن كعب، موقوفاً عليه، وعبد الله بن عمرو موقوفاُ عليه، ولولا خشية الإطالة لتكلمت عليهما.

التي في نفس الطفل معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه، ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه " فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة، وقال شيخنا في عبارته: " إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام، وهو الدين الحق، وقد دل على صحة هذا المعنى قوله: " كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، يعني: أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة، سليماً من الآفات، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملاً بريئاً من العيوب، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه، ويوسم وجهه، فتطرأ عليه الآفات والنقائض، فيخرج عن الأصل، وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (14/ 29).

فرع مناسبة تسمية هذه الخصال خصال الفطرة

فرع مناسبة تسمية هذه الخصال خصال الفطرة قال القرطبي في المفهم: " في هذه الخصال مجتمعة في أنها محافظة على حسن الهيئة والنظافة، وكلاهما يحصل به البقاء على أصل كمال الخلقة التي خلق الإنسان عليها، وبقاء هذه الأمور وترك إزالتها يشوه الإنسان، ويقبحه بحيث يستقذر، ويجتنب، فيخرج عما تقتضيه الفطرة الأولى، فسميت هذه الخصال فطرة لهذا المعنى. والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) المفهم (1/ 511، 512).

المبحث الثاني ذكر خصال الفطرة

المبحث الثاني ذكر خصال الفطرة ورد فيه حديث ابن عمر رضي الله عنه. (449 - 13) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت حنظلة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب (¬1). (450 - 14) ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬2). (451 - 15) ومنها حديث عائشة، في مسلم، قال رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -:عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5890). (¬2) صحيح البخاري (5891)، ومسلم (257).

الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء. [المحفوظ أنه من قول طلق، وسيأتي تخريجه في كتاب السواك] (¬1). فأكثر ما ورد فيه من خصال الفطرة حديث عائشة. وسنأتي على شرحها واحدة واحدة، أما السواك، فعقدت له كتاباً خاصاً لأهميته، وكثرة مباحثه. وكذلك الاستنجاء. وأما المضمضة والاستنشاق، فسوف يأتي التعرض لأحكامها في سنن الوضوء. بقي معنا ما ورد في حديث أبي هريرة الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط، فسوف نعرض لها فصلاً فصلاً سائلين المولى سبحانه وتعالى عونه وتوفيقه. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (261).

الباب الأول في الختان

الباب الأول في الختان وفيه أحد عشر فصلاً: الفصل الأول: في تعريف الختان. الفصل الثاني: كيفية الختان. الفصل الثالث: في ذكر أول من اختتن. الفصل الرابع: في وقت الختان. الفصل الخامس: في حكم الختان. الفصل السادس: في من يولد، وهو مختون. الفصل السابع: في موانع الختان. الفصل الثامن: في عبادات الأقلف. الفصل التاسع: في إجابة الدعوة في وليمة الختان. الفصل العاشر: في ضمان ما أتلف بالختان. الفصل الحادي عشر: في فوائد الختان.

الفصل الأول في تعريف الختان

الفصل الأول في تعريف الختان تعريف الختان في اللغة: جاء في لسان العرب: ختن: خَتَنَ الغلامَ والجارية يَخْتِنُهما ويَخْتُنُهما خَتْناً. والاسم: الخِتانُ والخِتانَةُ، وهو مَخْتُونٌ. وقيل: الخَتْن للرجالِ والخَفْضُ للنساء. والخَتِين: المَخْتُونُ الذكر والأُنثى في ذلك سواء. والخِتانة: صناعة الخاتِنِ. والخَتْنُ: فِعْل الخاتن الغُلامَ والخِتان ذلك الأَمْرُ كُلُّه وعِلاجُه. والخِتانُ: موضع الخَتْنِ من الذكرِ وموضع القطع من نَواة الجارِيةِ. قال أَبو منصور: هو موضع القطع من الذكر والأُنثى، ومنه الحديث المرويُّ: "إِذا الْتَقَى الخِتانانِ فقد وجب الغسلُ " وهما موضع القطع من ذكر الغلام وفرج الجارية. ويقال لقَطْعهما: الإِعْذارُ والخَفْضُ. ومعنى التقائهما: غُيُوبُ الحشفة في فرج المرأَة حتى يصيرِ خِتانه بحِذاء خِتَانِهاِ؛ وذلك أَن مدخل الذكر من المرأَة سافل عن ختانها؛ لأَن ختانها مستعلٍ، وليس معناه أَن يَماسَّ خِتانُه خِتانها، هكذا قال الشافعي في كتابه. وأَصل الخَتْن: القطعُ ويقال: أُطْحِرَتْ خِتانَتُه: إِذا اسْتُقْصِيَتْ في

القَطْعِ وتسمى الدَّعْوَةُ لذلك خِتاناً. (¬1). وقال الحافظ: ويسمى ختان الرجل اعذاراً بذال معجمة، وختان المرأة خفضاً بخاء وضاد معجمتين. وقال أبو شامة: كلام أهل اللغة يقتضي تسمية الكل اعذاراً، والخفض يختص بالأنثى. قال أبو عبيدة: عذرت الجارية والغلام وأعذرتهما ختنتهما وأختنتهما وزنا ومعنى. قال الجوهري: والأكثر خفضت الجارية (¬2). ¬

_ (¬1) تاج العروس (18/ 172) وهناك معنى آخر، ذكره أصحاب اللغة، قالوا: وخَتَنُ الرجلِ: المُتزوِّجُ بابنته أَو بأُخته؛ قال الأَصمعي: ابن الأَعرابي: الخَتَنُ أَبو امرأَة الرجل وأَخو امرأَته وكل من كان من قِبَلِ امرأَتهِ والجمع أَخْتَانٌ والأُنثى خَتَنَة وخاتَنَ الرجلُ الرجلَ إِذا تَزَوَّجَ إِليه، وفي الحديث: "عليٌّ خَتَنُ رسول الله " أَي زوجُ ابنتهِ والاسم الخُتُونة وفي التهذيب: الأَحْماءُ من قبل الزوجِ والأَخْتانُ من قبل المرأَة والصِّهْرُ يجمعهما. والخَتَنَة: أُمُّ المرأَة وعلى هذا الترتيب وقال غيره: الخَتَنُ كل من كان من قبل المرأَة مثل الأَب والأَخِ وهم الأَخْتانُ، هكذا عند العربِ، وأَما العامَّةُ فخَتَنُ الرجل زوجُ ابنته. وأَنشد ابن بري للراجز: وما عَلَيَّ أَن تكون جارِيهْ ... حتى إِذا ما بَلَغَتْ ثَمانيَهْ زَوَّجْتُها عُتْبَة أَو مُعاوِيهْ ... أَخْتانُ صدقٍ ومُهور عالِيَهْ وسئل سعيد بن جبير: أَيَنْظُر الرجل إِلى شعر خَتَنَتِه ? فقرأَ هذه الآية: {ولا يُبْدِينَ زينتهن إِلا لبعولتهن} حتى قرأَ الآية فقال: لا أَراه فيهم ولا أَراها فيهنَّ. أَراد بخَتَنَتِه: أُمَّ امرأَته. (¬2) فتح الباري (10/ 340).

الختان في الاصطلاح

ويقال للذي لم يختن: أقلف. والمرأة قلفاء. والفقهاء يخصون أحكام الأقلف بالرجل دون المرأة. وإزالة القلفة من الأقلف تسمى ختاناً في الرجل، وخفضاً في المرأة. والحشفة في اللغة: ما فوق الختان من الذكر. ويقال لها: الكمرة أيضاً. الختان في الاصطلاح: لا يخرج المعنى اللغوي عن المعنى الاصطلاحي؛ لأن المعنى اللغوي: هو القطع. وفي الاصطلاح: قال الحافظ: قطع بعض مخصوص، من عضو مخصوص (¬1). وقال النووي: الختان: هو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف جميع الحشفة (¬2). وقال في شرحه لصحيح مسلم: والختان في المرأة: قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج (¬3). اهـ وهي فوق مخرج البول، تشبه عرف الديك. ¬

_ (¬1) فتح الباري (10/ 340). (¬2) روضة الطالبين (10/ 180). (¬3) روضة الطالبين (3/ 148).

الفصل الثاني في كيفية الختان

الفصل الثاني في كيفية الختان نقل الحافظ عن الماوردي قوله: "ختان الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، والمستحب أن تستوعب من أصلها عند أول الحشفة، وأقل ما يجزئ أن لا يبقى منها ما يتغشى به شيء من الحشفة. وقال إمام الحرمين: المستحق في الرجال قطع القلفة، وهي الجلدة التي تغطي الحشفة حتى لا يبقى من الجلدة شيء متدل. وقال ابن الصباغ: حتى تنكشف جميع الحشفة. وقال ابن كج، فيما نقله الرافعي: يتأدى الواجب بقطع شيء مما فوق الحشفة، وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. قال النووي: وهو شاذ، والأول هو المعتمد. قال الإمام (¬1): والمستحق من ختان المرأة ما ينطلق عليه الاسم. قال الماوردي: ختانها قطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة، أو كعرف الديك، والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله، وقد أخرج أبو داود من حديث أم عطية أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تنهكي؛ فإن ذلك أحظى للمرأة، وقال: إنه ليس بالقوي. قلت (¬2): وله شاهدان من حديث أنس، ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة، وآخر عن الضحاك بن قيس عند البيهقي اهـ. ¬

_ (¬1) أي الشافعي رحمه الله. (¬2) والقائل: هو الحافظ.

وإليك تخريج الأدلة التي أشار إليها الحافظ: (452 - 16) أما حديث أم عطية فقد أخرجه أبو داود، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وعبد الوهاب بن عبد الرحيم الأشجعي، قالا: ثنا مروان، ثنا محمد بن حسان. قال عبد الوهاب الكوفي: عن عبد الملك ابن عمير، عن أم عطية الأنصارية أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تنهكي؛ فإن ذلك أحظى للمرأة، وأحب إلى البعل. قال أبو داود: روي عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك بمعناه وإسناده. قال أبو داود: ليس هو بالقوي، وقد روي مرسلا. قال أبو داود: ومحمد بن حسان مجهول، وهذا الحديث ضعيف. [مضطرب الإسناد على ضعفه]. وله شواهد من حديث أنس، ومن حديث علي، ومن حديث ابن عمر. (453 - 17) أما حديث أنس، فقد رواه الطبراني في المعجم الصغير، قال: حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب النحوي، حدثنا محمد بن سلام الجمحي، حدثنا زائدة بن أبي الرقاد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم عطية خاتنة كانت بالمدينة: إذا خفضت فأشمي، ولا تنهكي؛ فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند الزوج. قال الطبراني: لم يروه عن ثابت إلا زائدة، تفرد به محمد بن سلام. ورواه الطبراني في الأوسط بالإسناد نفسه. [إسناده ضعيف]. (454 - 18) وأما حديث علي بن أبي طالب. فرواه الخطيب،

من طريق عوف بن محمد أبي غسان، حدثنا أبو تغلب عبد الله بن أحمد ابن عبد الرحمن الأنصاري، حدثنا مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي، قال: كانت خفاضة بالمدينة، فأرسل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا خفضت فأشمي، ولا تنهكي، فإنه أحسن للوجه، وأرضى للزوج. [إسناده ضعيف]. (455 - 19) وأما حديث ابن عمر، فقد رواه البزار في مسنده، قال: حدثنا سهل بن بحر، ثنا علي بن عبد الحميد، ثنا مندل بن علي، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نسوة من الأنصار، فقال: يا نساء الأنصار اختضبن غمساً، واخفضن، ولا تنهكن؛ فإنه أحضى عند أزواجكن، وإياكن وكفر المنعمين. قال مندل: يعنى الزوج (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) مختصر مسند البزار (1227). (¬2) في إسناده مندل، وهو ضعيف. قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: سألت أبى عن مندل بن على، فقال: ضعيف الحديث. قلت له: حبان أخوه؟ قال: لا هو أصلح منه ـ يعنى: مندل أصلح من أخيه. وقال مرة: ما أقربهما. الجرح والتعديل (8/ 431). وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: مندل بن على ليس بشيء. المرجع السابق. وقال عثمان بن سعيد: سألت يحيى بن معين عن مندل بن على؟ فقال: ليس به بأس. =

. . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المرجع السابق. وفي موضع آخر: سئل يحيى عن مندل وحبان، فقال: ضعيفان في الحديث. الكامل (6/ 455) وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبى يقول: سألت يحيى بن معين عن مندل وحبان أيهما أحب إليك؟ قال: ما بهما بأس. قال عبد الرحمن: سمعت أبى يقول كذا أقول، وكان البخاري أدخل مندلاً في كتاب الضعفاء، فقال أبى: يحول من هناك. الجرح والتعديل (8/ 431). وقال ابن نمير: حبان وأخوه مندل أحاديثهما فيها بعض الغلط. المرجع السابق. وسئل أبو زرعة عن مندل، فقال: لين. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. المرجع السابق وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (578). وقال ابن سعد: فيه ضعف، ومنهم من يشتهي حديثه ويوثقه، وكان خيراً فاضلاً من أهل السنة. الطبقات الكبرى (6/ 381). وقال ابن عدي: لمندل غير ما ذكرت، وله أحاديث أفراد وغرائب، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (6/ 455). وقال ابن حبان: كان مرجئا من العباد، إلا أنه كان يرفع المراسيل، ويسند الموقوفات، ويخالف الثقات في الروايات من سوء حفظه، فلما سلك غير مسلك المتقنين مما لا ينفعك منه البشر من الخطأ، وفحش ذلك منه عدل به غير مسلك العدول، فاستحق الترك. المجروحين (3/ 24). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 266). وفي التقريب: ضعيف. ورواه ابن عدي في الكامل (3/ 901) من طريق خالد بن عمرو القرشي السعيدي، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سالم، عن أبيه. وخالد هذا متروك. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن خالد بن عمرو القرشي، فقال: ليس =

قال المنذري: ليس في الختان خير يرجع إليه (¬1)، ولا سند يتبع (¬2). وقال في عون المعبود: وحديث ختان المرأة روي من أوجه كثيرة، وكلها ضعيفة معلولة مخدوشة، لا يصح الاحتجاج بها (¬3). وقال ابن عبد البر في التمهيد: والذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال (¬4). ¬

_ = بثقة، يروي أحاديث بواطيل. الجرح والتعديل (3/ 343). قال أبو محمد بن أبي حاتم: سألت أبي عن خالد بن عمرو، فقال: هو متروك الحديث ضعيف. المرجع السابق. وسئل أبو زرعة عنه فقال: منكر الحديث. المرجع السابق. قال البخاري: منكر الحديث. الكامل (3/ 29). وقال النسائي: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال ابن عدي: له غير ما ذكرت من الحديث عن من يحدث عنهم، وكلها أو عامتها موضوعة، وهو بين الأمر في الضعفاء. المرجع السابق. وقال الحسين بن حبان، عن يحيى: كان كذاباً يكذب، حدث عن شعبة أحاديث موضوعة. تهذيب التهذيب (3/ 94). وقال أبو داود: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال صالح بن محمد البغدادي: كان يضع الحديث. المرجع السابق. عن أحمد بن حنبل أنه قال: أحاديثه موضوعة. المرجع السابق. (¬1) يعني: ختان المرأة. (¬2) تلخيص الحبير (4/ 83). (¬3) عون المعبود (14/ 126). (¬4) التمهيد (21/ 59).

الفصل الثالث ذكر أول من اختتن

الفصل الثالث ذكر أول من اختتن ذكر بعض الفقهاء: أن أول من ختن من الرجال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ومن الإناث هاجر رضي الله تعالى عنها (¬1). دليلهم على ذلك: الأول: الإجماع. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن (¬2). وقال القرطبي: أجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن (¬3). الدليل الثاني: (456 - 20) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أول الناس ضيَّف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص الشارب، وأول الناس رأى الشيب فقال: يا رب ما هذا؟ فقال: الله تبارك وتعالى وقار يا إبراهيم. فقال: رب زدني وقاراً (¬4). [رجاله ثقات، إلا أنه موقوف على سعيد] (¬5). ¬

_ (¬1) تحفة المحتاج (9/ 199)، وانظر مغني المحتاج (5/ 540)، حاشية الجمل (5/ 174). (¬2) التمهيد (21/ 59). (¬3) تفسير القرطبي (2/ 98). (¬4) الموطأ (2/ 922) (¬5) ومن طريق مالك أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 211) رقم 6392. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص: 428) رقم 1250. حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد به. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 331) رقم 31831، و (7/ 247) رقم 35738 حدثنا ابن نمير، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب به. وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 317) رقم 26467 حدثنا عبدة، عن يحيى بن سعيد به قال: كان إبراهيم أول الناس أضاف الضيف، وأول الناس قص شاربه وقلم أظافره واستحد، وأول الناس اختتن، وأول الناس رأى الشيب. فقال: يا رب ما هذا؟ قال: الوقار. قال: رب زدني وقاراً. وأخرجه معمر بن راشد، في كتابه الجامع (11/ 175) رقم 20245 عن يحيى بن سعيد به. فهنا مالك، وحماد بن زيد، وابن نمير، وعبدة، ومعمر بن راشد خمستهم رووه عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب من قوله. ورواه ابن عدي الكامل (4/ 194) ثنا أبو عروبة، ثنا محمد بن يحيى بن كثير، ثنا عبد الله بن واقد، عن حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن إبراهيم أول من أضاف الضيف، وأول من قص الشارب، وأول من رأى الشيب، وأول من قص الأظافر، وأول من اختتن بقدومه ابن عشرين ومائة سنة. قال ابن عدي: وهذا الحديث بهذا الإسناد يرويه أبو قتادة. ومن طريق ابن عدي رواه البيهقي في شعب الإيمان (6/ 395) رقم 6841. وأبو قتادة، جاء في ترجمته. قال فيه البخاري: تركوه. الضعفاء الصغير. (ص: 68) رقم 198. وزاد في التاريخ الكبير: منكر الحديث. التاريخ الكبير (5/ 219) رقم 713. وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (337). وقال أيضاً: ليس بثقة. الإكمال ـ الحسني (489). وقال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: سئل أبي عن أبي قتادة الحراني، فقال: ما به =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بأس، رجل صالح يشبه أهل النسك والخير إلا أنه كان ربما أخطأ. قيل له: إن قوماً يتكلمون فيه. قال: لم يكن به بأس. قلت: إنهم يقولون لم يفصل بين سفيان ويحيى بن أبى أنيسة. قال: لعله اختلط أما هو فكان ذكياً. فقلت له: إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة الحراني كان يكذب، فعظم ذلك عنده جداً، وقال: كان أبو قتادة يتحرى الصدق، وأثنى عليه، وذكره بخير، وقال: قد رأيته يشبه أصحاب الحديث، وأظنه كان يدلس، ولعله كبر واختلط. والله اعلم. اهـ الجرح والتعديل (5/ 191). وقال ابن عدي: أبو قتادة الحراني هذا ليس هو ممن يتعمد الكذب، إلا أنه يحمل على حفظه فيخطيء، وله أحاديث كثيرة غير ما ذكرت، وغرائب غير ما ذكرت عن الثوري وابن جريج وسائر شيوخه، وهو عندي كما قال فيه أحمد بن حنبل. الكامل (4/ 192). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن أبى قتادة الحراني، فقال: تكلموا فيه منكر الحديث وذهب حديثه. الجرح والتعديل (5/ 191). وقال عبد الرحمن أيضاً: سألت أبا زرعة عن أبى قتادة الحراني. قلت: ضعيف الحديث. قال: نعم لا يحدث عنه ولم يقرأ علينا حديثه. المرجع السابق. وقال ابن سعد: كان له فضل وعبادة، ولم يكن في الحديث بذاك. الطبقات الكبرى (7/ 486). وقال ابن حبان: كان أبو قتادة من عباد أهل الجزيرة وقرائهم، ممن غلب عليه الصلاح، حتى غفل عن الإتقان، فكان يحدث على التوهم فيرفع المناكير في أخباره والمقلوبات فيما يروى عن الثقات، حتى لا يجوز الاحتجاج بخبره وإن اعتبر بما وافق الثقات من الأحاديث معتبر فلم أر بذلك بأساً من غير أن يحكم له أو عليه، فيجرح العدل بروايته أو يعدل المجروح بموافقته. المجروحين (2/ 29). وقال صالح جزرة: ضعيف مهين. تهذيب التهذيب (6/ 60). وقال الجريري: غيره أوثق منه. قال الحافظ: وهذه العبارة يقولها الجريري في الذي يكون شديد الضعف. المرجع السابق. وقال أبو عروبة: كان يتكل على حفظه، فيغلط. المرجع السابق. وقال الحاكم أبو أحمد: حديثه ليس بالقائم. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أبو نعيم الأصبهاني: روى عن هشام وابن جريج منكرات. تهذيب التهذيب (6/ 60). وجاء من طريق آخر، فقد روى ابن أبي عاصم في الأوائل (1/ 64): حدثنا يعقوب، ثنا سلمة بن رجاء، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أول من اختتن إبراهيم على رأس ثلاثين ومائة سنة. وفيه يعقوب بن حميد بن كاسب. قال النسائي: ليس بشيء مكي. الضعفاء والمتروكين (616). وقال في موضع آخر: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (11/ 336). قال مضر بن محمد، عن ابن معين: ثقة. تهذيب التهذيب (11/ 336). وقال الدوري، عن ابن معين: ليس بشيء. الكامل (7/ 151). وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين، يقول وذكر بن كاسب فقال: ليس بثقة. قلت: من أين قلت ذاك؟ قال: لأنه محدود. قلت: أليس هو في سماعه ثقة. قال: بلى. الجرح والتعديل (9/ 206). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن يعقوب بن كاسب، فحرك رأسه. قلت: كان صدوقاً في الحديث. قال: هذا شروط. وقال في حديث رواه يعقوب: قلبي لايسكن على بن كاسب. المرجع السابق. وقال عباس العنبري: يوصل الحديث. تهذيب التهذيب (11/ 336). وقال البخاري: لم يزل خيِّراً، وهو في الأصل صدوق. تهذيب التهذيب (11/ 336). وقال ابن عدي: لا بأس به وبرواياته، وهو كثير الحديث والغرائب وكتبت مسنده عن القاسم بن مهدي؛ لأنه لزمه بوصية أبى مصعب إياه أن يكتب عنه بمكة فكتب عنه المسند، وفيه من الغرائب والنسخ والأحاديث العزيزة وشيوخ من أهل المدينة يروى عنهم ابن كاسب ولا يروى غيره عنهم، ومسند ابن كاسب صنفه على الأبواب، وإذا نظرت إلى مسنده علمت أنه جماع للحديث، صاحب حديث. الكامل (7/ 151). وقال مسلمة: ثقة. تهذيب التهذيب (11/ 336). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال ابن حبان: وكان ممن يحفظ، وممن جمع وصنف، واعتمد على حفظه، فربما أخطأ في الشيء بعد الشيء، وليس خطأ الإنسان في شيء يهم فيه ما لم يفحش ذلك منه بمخرجه عن الثقات إذا تقدمت عدالته. الثقات (9/ 285). وفي التقريب: صدوق ربما وهم. - سلمة بن رجاء وقال الدوري: سئل يحيى بن معين عن سلمة بن رجاء، فقال: ليس بشيء. الجرح والتعديل (4/ 160). قال أبو حاتم: ما بحديثه بأس. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: كوفى صدوق. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 149). قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (242). وقال ابن عدي: لسلمة بن رجاء غير ما ذكرت من الحديث وأحاديثه أفراد وغرائب ويحدث عن قوم بأحاديث لا يتابع عليه. الكامل (3/ 331). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (8/ 278). ورواه الطبراني في الأوائل أيضاً (1/ 36) حدثنا أحمد بن عمرو الخلال المكي، حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، حدثنا سلمة بن رجاء به. ورواه ابن عدي في الكامل (1/ 122): حدثنا محمد بن أبي علي الخوارزمي، حدثني عبد الله بن أحمد بن سوادة، حدثني هارون بن آدم، حدثنا حجاج، عن ابن جريج عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أول من اختتن إبراهيم عليه السلام وهذا إسناد ضعيف جداً. فيه إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك. وجاء من طريق الأعرج، عن أبي هريرة. فقد رواه ابن عدي في الكامل (4/ 183)، ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان (6/ 395) رقم 8639 ثنا محمد بن يحيى بن سليمان المروزي، ثنا عاصم، ثنا أبو أويس، حدثني أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كان إبراهيم أول من =

. . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = اختتن، وهو ابن عشرين ومائة سنة، فاختتن بالقدوم ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة. - محمد بن يحيى بن سليمان المروزي. قال الخطيب: كان ثقة. تاريخ بغداد (3/ 422). وقال الدارقطني: صدوق. المرجع السابق.، وانظر سير أعلام النبلاء (14/ 48). - عاصم بن علي. قال أحمد بن حنبل: ما أقل خطأه، قد عرض على بعض حديثه. الجرح والتعديل (6/ 348). وقال أحمد كما في رواية أبي الحسن الميموني: صحيح الحديث قليل الغلط ما كان أصح حديثه وكان إن شاء الله صدوقاً. تهذيب الكمال (13/ 508). وقال أيضاً كما في رواية أبي داود: حديثه حديث مقارب، حديث أهل الصدق، ما أقل الخطأ فيه، ولكن أبوه كان يهم في الشيء، قام من الإسلام بموضع أرجو أن يثيبه الله به الجنة. المرجع السابق. وقال أبو بكر المروذي سألته ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ عن عاصم بن علي فقلت إن يحيى بن معين قال: كل عاصم في الدنيا ضعيف، قال: ما أعلم منه إلا خيرا كان حديثه صحيحا حديث شعبة والمسعودي ما كان أصحها. المرجع السابق. قال أبو حاتم الرزاي: عاصم بن على صدوق. الجرح والتعديل (6/ 348). وقال ابن عدي: لا أعرف له شيئاً منكراً في رواياته إلا هذه الأحاديث التي ذكرتها، وقد حدثناه عنه جماعة فلم أر بحديثه بأسا إلا فيما ذكرت، وقد ضعفه بن معين وصدقه أحمد ابن حنبل وصدق أباه وأخاه. الكامل (5/ 234). وقال صالح بن محمد الحافظ: قال يحيى بن معين: كان عاصم بن علي ضعيفاً. تهذيب الكمال (13/ 508). وقال معاوية بن صالح، عن يحيي بن معين: ليس بشيء. وفي رواية: ليس بثقة. المرجع السابق. قيل ليحيى بن معين: احمد الله يا أبا زكريا، أصبحت سيد الناس قال: اسكت ويحك أصبح سيد الناس عاصم بن علي، في مجلسه ثلاثون ألف رجل. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال العجلي: شهدت مجلس عاصم فحزروا من شهده ذلك اليوم ستين ومائة ألف، وكان رجلا مسوداً، وكان ثقة في الحديث. معرفة الثقات (2/ 9). وفي التقريب: صدوق ربما وهم. - أبو أويس عبد الله بن عبد الله قال معاوية بن صالح الدمشقي: سمعت يحيى بن معين يقول أبو أويس المدني ليس بثقة. الجرح والتعديل (5/ 92). وقال الدوري، عن يحيى بن معين: أبو أويس صدوق ليس بحجة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه، ولا يحتج به، وليس بالقوي. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: صالح صدوق كأنه لين. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين: أبو أويس وأبوه يسرقان الحديث. الكامل (4/ 182). وقال ابن عدي: لأبي أويس غير ما ذكرت من الحديث، فمن أحاديثه ما يصح ويوافقه الثقات عليها، ومنها مالا يوافقه عليها أحد، وهو ممن يكتب حديثه. المرجع السابق. قال ابن المديني: كان عند أصحابنا ضعيفاً. التهذيب (5/ 245). وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، وهو عندهم من أهل الصدق. المرجع السابق. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق صالح الحديث، وإلى الضعف ما هو. المرجع السابق. وقال البخاري: ما روى من أصل كتابه فهو أصح. المرجع السابق. وقال النسائي: مدني ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال أبو داود: صالح الحديث. المرجع السابق. وقال الخليلي: منهم من رضي حفظه، ومنهم من يضعفه، وهو مقارب الأمر. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان ممن يخطىء كثيرا، لم يفحش خطؤه حتى استحق الترك، ولا هو ممن سلك سنن الثقات فيسلك مسلكهم، والذي أرى في أمره تنكب ما خالف الثقات من أخباره، والاحتجاج بما وافق الأثبات منها. المجروحين (2/ 24). وفي التقريب: صدوق يهم. وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات. فهذا إسناد فيه لين. لكن ذكر الحافظ في الفتح (11/ 90) قال: وقع في الموطأ من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، =

. . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن أبي هريرة موقوفاً على أبي هريرة، أن إبراهيم أول من اختتن، وهو ابن عشرين ومائة، واختتن بالقدوم وعاش بعد ذلك ثمانين سنة. فإن كان موجوداً في الموطأ فهو حديث إسناده على شرط الصحيح. ولم أقف عليه من رواية يحيى. والله أعلم. ولحديث أبي هريرة شاهدان: الأول: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. فقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد تعليقاً (21/ 67)، قال: روى ابن وهب، عن حيي ابن عبد الله المعافري، عن أبي عبد الرحمان الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن إبراهيم أول رجل اختتن، وأول رجل قص شاربه وقلم أظفاره واستن وحلق عانته. وحيي بن عبد الله قال أحمد بن حنبل: أحاديثه مناكير. الجرح والتعديل (3/ 271). قال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: حيي المصري؟ قال: ليس به بأس. المرجع السابق. وقال البخاري: فيه نظر. التاريخ الكبير (3/ 76). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (162). وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 235). وفي التقريب: صدوق يهم. وباقي الإسناد ثقات. إلا أن الإسناد معلق، ولم أقف عليه موصولاً. والله أعلم. وأما الشاهد الثاني، فقد روى الحاكم في المستدرك، قال: أخبرنا الحسن بن محمد الإسفرائيني، أنبأ محمد بن أحمد بن البراء، حدثنا المعافى بن سليمان الحراني، حدثنا محمد بن سلمة الحراني، عن أبي عبد الرحيم الحراني، عن أبي عبد الملك، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: طلعت كف من السماء بين أصبعين من أصابعها شعرة بيضاء، فجعلت تدنو من رأس إبراهيم، ثم تدنو، فألقتها في رأسه، وقالت: اشتعل وقاراً، ثم أوحى الله إليه أن تطهر، وكان أول من شاب واختتن. الحديث قطعة من حديث طويل يراجع متنه من الحاكم. دراسة الإسناد: - الحسن بن محمد الإسفراييني: قال عنه الحاكم: كان محدث عصره، ومن أجود الناس =

إلا أن قوله: " أول من رأى الشيب " مشكل. فقد ذكر الحافظ ابن رجب عن الحسن أنه ضعف هذا القول، واستحسنه الحافظ. قال: "وقد استدل الحسن على إبطال قول من قال: أول من رأى الشيب إبراهيم عليه السلام، بعموم قوله الله عز وجل: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل ¬

_ = أصولاً. انظر السير (15/ 535) و (16/ 50)، والعبر (2/ 271). - محمد بن أحمد بن البراء أبو الحسن العبدي: ثقة. انظر تاريخ بغداد (1/ 281). - المعافى بن سليمان الحراني. قال الحافظ في التقريب: صدوق من العاشرة. - محمد بن سلمة الحراني. ثقة. انظر الجرح والتعديل (7/ 276)، تهذيب التهذيب (9/ 171). - أبو عبد الرحيم الحراني. اسمه خالد بن أبي يزيد. ثقة من السادسة، كما قال الحافظ في التقريب. - أبو عبد الملك: هو علي بن يزيد الألهاني. قال البخاري: منكر الحديث، عن القاسم بن عبد الرحمن، روى عنه عبيد الله ابن زحر، ومطرح. التاريخ الكبير (6/ 301)، الضعفاء الصغير (255). وقال أيضاً: ذاهب الحديث كما في علل الترمذي الكبير. انظر حاشية تهذيب الكمال وقال النسائي: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال أيضاً: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (432). انظر ترجمته وافية في كتاب السواك من حديث أبي أمامة، في شواهد: " السواك مطهرة للفم ". والله أعلم. فالحديث إسناده ضعيف، إن لم يكن ضعيفاً جداً. هذا ما وقفت عليه مما ورد مرفوعاً من حديث " أول من اختتن إبراهيم ". ولا شك أن مالكاً، وحماد بن زيد، وابن نمير، وعبدة، ومعمر بن راشد روياتهم أرجح من غيرهم. فيكون المحفوظ أنه من قول سعيد بن المسيب، إلا إن ثبت قول الحافظ بأن مالكاً رواه عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. إن ثبت هذا، يكون الحديث محفوظاً مسنداً. والله أعلم.

من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة} (¬1). قال الحافظ: وهو استدلال ظاهر حسن (¬2). وقال الباجي عن الآية: يحتمل ـ والله أعلم ـ أنه يخاطب بها هذه الأمة، أو من شاب من زمن إبراهيم عليه السلام إلى يوم القيامة. ويحتمل أنه خوطب بها جميع الخلق، من شاب ومن لم يشب، إلا أنه جمع مع الضعف الأخير الشيب؛ لأن من الخلق من لم يشب، ولم يرد أن جميعهم يشيب، كما أنه لم يرد أن جميعهم يضعف، بل منهم من يموت في الضعف الأول، ومنهم من يموت في حال القوة قبل الضعف الثاني. والله أعلم وأحكم (¬3). والأول أقوى، ويؤيده أن الختان من سنن الفطرة التي فطر الله عليها بني آدم، والفطرة ملازمة، وليست مكتسبة، لكن إن صح الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر والقرطبي بأن أول من اختتن إبراهيم، فالحجة الإجماع، ولا كلام مع صحته. وإن لم يصح الإجماع، فالنظر له مجال في عدم ثبوت ذلك. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الروم: 54. (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 12). (¬3) المنتقى ـ الباجي (7/ 233).

الفصل الرابع في وقت الختان

الفصل الرابع في وقت الختان لم يقدر الإمام أبو حنيفة وقتاً معلوماً لعدم ورود النص به، ولم يرو عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فيه شيء، وقدره المتأخرون واختلفوا: فقيل: أول وقته من سبع سنين، وآخره اثنتا عشرة سنة. قال في الفتاوى الهندية، وهو المختار كذا في السراجية (¬1). وقيل: لا يختن حتى يبلغ. وقيل: تسع سنين. وقيل: عشر سنين. وهذه كلها أقوال في مذهب الحنفية (¬2). وقيل: إذا ثُغِر الصبي: أي القى ثغره، وهو مقدم أسنانه، اختاره مالك. وفي رواية عن مالك: من سبع إلى عشر (¬3)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: وقت وجوب الختان عند البلوغ، ويستحب ختانه في الصغر ¬

_ (¬1) الفتاوى الهندية (5/ 357). (¬2) البحر الرائق (7/ 96)، وتبيين الحقائق (6/ 227)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (2/ 744)، حاشية ابن عابدين (6/ 752). (¬3) المنتقى ـ الباجي (7/ 233)، مواهب الجليل (3/ 258)، التاج والإكليل (4/ 394)، الخرشي (3/ 48)، الفواكه الدواني (1/ 394)، حاشية العدوي (1/ 595)، منح الجليل (2/ 492). (¬4) نسبه في الإنصاف إلى الرعايتين والحاويين انظر (1/ 124).

هذا هو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). إلا أن الشافعية استحبوه في اليوم السابع، إلا أن يكون الصبي ضعيفاً. وهو رواية عن أحمد (¬2). وهل يحسب يوم الولادة من السبعة، فيه وجهان في مذهب الشافعية: الأول: يحسب. اختاره أبو علي بن أبي هر يرة. الثاني: لا يحسب. وهو قول الأكثرين. فإن أخر عن السابع استحب ختانه في الأربعين، فإن أخر استحب في السنة السابعة. (¬3). وقيل: يكره يوم السابع، وهو مذهب المالكية (¬4)، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) قال في الإنصاف (1/ 124): " محل وجوبه عند البلوغ. قال الشيخ تقي الدين: يجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة. وقال في المنور والمنتخب: ويجب ختان بالغ آمن. ثم قال: " ومنها أن الختان زمن الصغر أفضل على الصحيح من المذهب. زاد جماعة كثيرة من الأصحاب: إلى التمييز. وقال الشيخ تقي الدين: هذا المشهور. وقال في الرعايتين والحاويين: يسن ما بين سبع إلى عشر. قال في التلخيص: ويستحب أن يختن قبل مجاوزة عشر سنين، إذا بلغ سناً يؤمن فيه ضرره. (¬2) قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/ 274): " وأما الختان في السابع، ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد. قيل: لا يكره؛ لأن إبراهيم ختن إسحاق في السابع. وقيل: يكره؛ لأنه عمل اليهود فيكره التشبه بهم. (¬3) المجموع (1/ 350)، أسنى المطالب (4/ 164)، تحفة المحتاج (9/ 200). وقال العراقي في طرح التثريب: 2/ 76): " محل الوجوب بعد البلوغ على الصحيح من مذهبنا. (¬4) المنتقى ـ الباجي 7/ 232)، التاج والإكليل (4/ 394)، حاشية العدوي (1/ 595). (¬5) الإنصاف (1/ 125) مطالب أولى النهى (1/ 92).

أدلة القائلين من سبع إلى عشر

وقيل: يجب على الولي أن يختن الصغير قبل البلوغ، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يحرم الختان قبل استكمال عشر سنين، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2). أدلة القائلين من سبع إلى عشر. قالوا: بأن صاحب السبع سنين، يفهم الأمر ولذلك يؤمر بالصلاة. (457 - 21) فقد روى أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، وعبد الله بن بكر السهمي، المعنى واحد قالا: حدثنا سوار أبو حمزة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله: مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع. وإذا أنكح أحدكم عبده فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإنما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته (¬3). [صحيح لغيره] (¬4). أدلة القائلين بالاستحباب في اليوم السابع. الدليل الأول: (458 - 22) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن القاسم، قال: ¬

_ (¬1) طرح التثريب (2/ 76)، المجموع (1/ 350). (¬2) طرح التثريب (2/ 76) المجموع (1/ 350). (¬3) المسند (2/ 187). (¬4) سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى، انظر ح 765.

حدثنا أبي وعمي عيسى بن المساور، قالا: حدثنا رواد بن الجراح، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس قال: سبعة من السنة في الصبي: يوم السابع يسمى ويختن ويماط عنه الأذى وتثقب أذنه ويعق عنه ويحلق رأسه ويلطخ بدم عقيقته ويتصدق بوزن شعره في رأسه ذهبا أو فضة. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبد الملك إلا رواد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) المعجم الأوسط (558). (¬2) في إسناده القاسم بن المساور. ذكره الخطيب، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. تاريخ بغداد (12/ 427). - عيسى بن المساور قال الخطيب: كان ثقة. تاريخ بغداد. (11/ 161). وقال النسائي: لا بأس به. تهذيب التهذيب (8/ 206). وقال السراج: كان محمد بن أشكاب يحسن الثناء عليه. المرجع السابق. وذكره بن حبان في الثقات، وقال: كان راوياً للوليد بن مسلم وسويد بن عبد العزيز. الثقات (8/ 495). - رواد بن الجراح قال البخاري: كان قد اختلط لا يكاد أن يقوم حديثه، ويقال: يزيد. التاريخ الكبير (3/ 336). وعبارة البخاري في التهذيب: كان قد اختلط، لا يكاد يقوم حديثه، ليس له كثير حديث قائم. التهذيب (3/ 249). وقال النسائي: ليس بالقوي روى غير حديث منكر وكان قد اختلط. الضعفاء والمتروكين (194). وقال أبو حاتم الرازي: هو مضطرب الحديث، تغير حفظه في آخر عمره، وكان محله الصدق. قال ابن أبي حاتم: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء فسمعت أبى يقول: يحول من =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (459 - 23) ما رواه الطبراني في الصغير، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الوليد البغدادي، حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني، حدثنا الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام. قال الطبراني: لم يروه عن محمد بن المنكدر إلا زهير بن محمد، ولم يقل أحد ممن روى هذا الحديث: وختنهما لسبعة أيام إلا الوليد بن مسلم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ = هناك. الجرح والتعديل (3/ 524). وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين عن رواد بن الجراح العسقلاني فقال: ثقة. المرجع السابق. وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به صاحب سنة الا أنه حدث عن سفيان بأحاديث مناكير. الضعفاء الكبير (2/ 68). وذكره العقيلي في الضعفاء. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق اختلط بأخرة فترك، وفي حديثه عن الثوري ضعف شديد. قلت: له ذكر في الكواكب النيرات، وفي الاغتباط، ولم يميز من روى عنه قبل الاختلاط، ومن روى عنه بعد اهـ وباقي رجال إسناده ثقات. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 59):رجاله ثقات!! (¬1) المعجم الصغير للطبراني (891)، ورواه في الأوسط (7/ 12) رقم 6708 وفي مجمع البحرين (1912). (¬2) الحديث له أربع علل: الأولى: عنعنة الوليد بن مسلم. وهو كثير التدليس والتسوية. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثانية: فيه محمد بن أبي السري: وهو محمد بن المتوكل، كثير الغلط، انظر ترجمته في كتاب السواك. العلة الثالثة: أن رواية أهل الشام عن زهير بن محمد ضعيفة. قال أبو حاتم: محله الصدق، وفي حفظه سوء، وكان حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه، وكان من أهل خرسان، سكن المدينة، وقدم الشام، فما حدث من كتبه فهو صالح، وما حدث من حفظه ففيه أغاليط. الجرح والتعديل (3/ 589). وقال البخاري: ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير. وما روى عن أهل البصرة فإنه صحيح. تهذيب الكمال (9/ 414). العلة الرابعة: المخالفة. فقد رواه أبو الزبير، عن جابر. وليس فيه زيادة محمد بن أبي السري. كما سيأتي في تخريج الحديث. كما أن الحديث قد رواه ابن عباس، وعائشة، وبريدة، وأنس بن مالك، وليس فيه زيادة ابن المتوكل. فهي زيادة منكرة. تخريج الحديث: الحديث رواه الطبراني، كما سبق في المعجم الصغير (891)، والأوسط كما في مجمع البحرين (1912). ورواه ابن عدي في الكامل (3/ 219) ومن طريقه البيهقي في سننه (8/ 324) عن الحسن بن سفيان، حدثني محمد بن المتوكل به. قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن الوليد غير محمد بن المتوكل، وهو محمد بن أبي السري العسقلاني " اهـ. وقال الحافظ في الفتح (10/ 343): " وأخرج أبو الشيخ من طريق الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن ابن المنكدر أو غيره، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ختن حسناً وحسيناً لسبعة أيام. قال الوليد: فسألت مالكاً عنه، فقال: لا أدري، ولكن الختان طهرة فكلما قدمها كان أحب إلي " اهـ. وقد خالف ابن الزبير محمد بن المتوكل، فروى الحديث عن جابر دون زيادة ذكر الختن. رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 113) رقم 24232، وفي المسند، كما في المطالب العالية (2304)، ومن طريقه رواه أبو يعلى في مسنده (1933) قال: حدثنا شبابة، قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حدثنا مغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين. رجاله ثقات، إلا المغيرة بن مسلم فإنه صدوق، ومن يعتبر أبا الزبير مدلساً فقد تابعه محمد بن المنكر في الإسناد السابق. والحديث له شواهد كثيرة، كما سأبينه. وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 57): " رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات " اهـ. وروى أبو نعيم في الحلية (3/ 191) حدثنا محمد بن علي بن عمر بن سلم، حدثني محمد بن جعفر بن زكريا الرملي من حفظه، ثنا قسيم بن منصور، ثنا يحيى بن صالح الوحاضي، ثنا محمد بن عبد الله الكندي، عن بسام الصيرفي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً. قال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث أبي جعفر، عزيز من حديث بسام، وهو أحد من يجمع حديثه من مقلي أهل الكوفة، تفرد به عنه الكندي. وأما شواهد الحديث: الشاهد الأول: حديث ابن عباس. رواه عبد الرزاق (4/ 330) رقم 7962 عن معمر والثوري، عن أيوب، عن عكرمة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن حسن وحسين كبشاً. فمعمر والثوري، رواياه عن أيوب، عن عكرمة مرسلاً. وتابعهما على إرساله وهيب وابن علية، كما في العلل لابن أبي حاتم (2/ 49). ورواه عبد الوارث بن سعيد، عن أيوب موصولاً، وإسناده حسن. وصحح إسناده ابن حزم في المحلى (7/ 530). وقال ابن حجر في التلخيص (4/ 147): " وصححه عبد الحق، وابن دقيق العيد " اهـ. كما رواه قتادة، ويحيى بن سعيد، عن عكرمة موصولاً، وإسناده حسن. إلا أن يحيى بن سعيد قد اختلف عليه. كما سيأتي بيانه. ورجح الرواية المرسلة أبو حاتم، كما في العلل (2/ 49) رقم 1631 قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه عبد الوارث، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين. قال أبي: هذا وهم. حدثنا أبو معمر، عن عبد الوارث هكذا. ورواه وهيب، وابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل. قال أبي: وهذا المرسل أصح اهـ. فيكون الوصل شاذاً. والمحفوظ كون الأثر مرسلاً. وإليك بيان رواياتهم. رواه أبو دواد (2841)، قال حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو، ثنا عبد الوارث، ثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً. ورجاله ثقات. ومن طريق أبي معمر أخرجه ابن الجارود في المنتقى (912) والطبراني في الكبير (2567)، (11856)، البيهقي في السنن الكبرى (9/ 299، 302) وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (911) من طريق محمد بن عمر العقدي، ثنا عبد الوارث به. وأخرجه النسائي في الصغرى (4219) وفي الكبرى (4545) قال: أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثني إبراهيم ـ هو ابن طهمان ـ عن الحجاج بن الحجاج، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضي الله عنهما بكبشين كبشين. وهذا إسناد حسن. ومن طريق أحمد بن حفص أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2568)، (11838)، وفي الأوسط (8/ 78) رقم 8018. وأخرجه الطبراني في الكبير (2569) قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا محمد بن عبيد المحاربي، ثنا عبد الله بن الأجلح، عن يحيى بن سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: عق عن الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما. وهذا إسناد حسن. إلا أنه قد اختلف على يحيى بن سعيد، فقد روى عنه موصولاً كما في هذه الرواية. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 113) رقم 24233 قال: حدثنا أبو خالد، ويعلى بن عبيد، عن يحيى بن سعيد، عن عكرمة قال: عق عن الحسن والحسين. وهذه الرواية توافق رواية ابن علية، والثوري، ومعمر، ووهيب. الشاهد الثاني: حديث بريدة أخرجه أحمد (5/ 355)، قال: ثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين بن واقد، حدثني عبد الله بن بريدة، قال: سمعت أبي يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 113) رقم 24231 حدثنا زيد بن الحباب به. وهذا إسناد حسن. وأخرجه أحمد أيضاً (5/ 361)، قال: نا على بن الحسن - وهو ابن شقيق - أنا الحسين بن واقد به. وأخرجه النسائي في الصغرى (4213)، وفي الكبرى (4539) قال: أخبرنا الحسين بن حريث، قال: حدثنا الفضل، عن الحسين بن واقد به. الشاهد الثالث: حديث أنس بن مالك. أخرجه أبو يعلى في مسنده (2945) وفي كتاب المعجم (152) قال: حدثنا الحارث ابن مسكين، حدثنا ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين بكبشين. ومن طريق الحارث بن مسكين أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 126). وأخرجه ابن حبان في صحيحه (5309) أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا ابن وهب به. وأخرجه البزار في مسنده، كما في كشف الأستار (1235) قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: كتب لي أحمد بن صالح، ثنا عبد الله بن وهب به. ومن طريق أحمد بن صالح أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 299). وأخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 246) رقم 1899 حدثنا أحمد بن طاهر، قال: حدثني جدي حرملة، قال: حدثنا عبد الله بن وهب به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الطحاوي في مشكل الأثار (1038) قال: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب به. والحديث له ثلاث علل الأولى: عنعنة قتادة. الثانية: الحديث من رواية جرير، عن قتادة، وجرير ضعيف في حديثه عن قتادة. الثالثة: الإرسال. قال ابن أبي حاتم في العلل (2/ 49): " سألت أبي عن حديث رواه ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس. وذكر الحديث. قال أبي: أخطأ جرير في هذا الحديث، إنما هو قتادة، عن عكرمة، قال: عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسل. ولم أقف على الرواية المرسلة. الشاهد الرابع: حديث عائشة. رواه أبو يعلى في مسنده (4521) قال رحمه الله: حدثنا إسحاق، حدثنا عبد المجيد ابن عبد العزيز بن أبي رواد، عن ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: يعق عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة. قالت عائشة: فعق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين شاتين شاتين يوم السابع، وأمر أن يماط عن رأسه الأذى، وقال: اذبحوا على اسمه، وقولوا: بسم الله، الله أكبر، اللهم منك ولك، هذه عقيقة فلان. قال: وكانوا في الجاهلية تؤخذ قطنة تجعل في دم العقيقة، ثم توضع على رأسه، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوا مكان الدم خلوقاً. وأخرجه ابن حبان مفرقاً في صحيحه. فأخرجه (5308) قال: أخبرنا محمد بن المنذر ابن سعيد، حدثنا يوسف بن سعيد، حدثنا حجاج، عن ابن جريج أخبرني يحيى بن سعيد، عن عائشة قالت: كانوا في الجاهلية إذا عقوا عن الصبي خضبوا قطنة بدم العقيقة، فإذا حلقوا رأس الصبي وضعوها على رأسه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوا مكان الدم خلوقاً. وأخرج بعضه في صحيحه (5311) أخبرنا عمر بن محمد الهمداني، حدثنا أبو الربيع، حدثنا ابن وهب، أخبرني محمد بن عمرو - قال أبو حاتم: وهو اليافعي شيخ ثقة مصري - عن ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، =

دليل القائلين بكراهة اليوم السابع

دليل القائلين بكراهة اليوم السابع. عللوا ذلك بأنه من فعل اليهود. نقله الباجي عن مالك، كما في المنتقى (¬1) وغيره. دليل القائلين بأنه يحرم ختانه قبل عشر سنين. قالوا: لأن الم الختان فوق ألم الضرب، ولا يضرب على الصلاة إلا بعد عشر سنين. قال النووي: هذا القول ليس بشيء؛ وهو كالمخالف للإجماع (¬2). دليل من قال: لا يجب الختان إلا بالبلوغ. (460 - 24) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا عباد بن موسى، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل، عن أبي ¬

_ = عن عائشة قالت: عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حسن وحسين يوم السابع، وسماهما، وأمر أن يماط عن رأسه الأذى. ومن طريق عبد الله بن وهب أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 237)، وابن عدي في الكامل (6/ 226). والحديث صحيح، وأما عنعنة ابن جريج فقد صرح بالتحديث في رواية ابن حبان، من طريق حجاج، عن ابن جريج. وهو وإن لم يخرج الحديث كاملاً من هذا الطريق، إلا أنه يتسامح في مثل هذا، لأن الرد بالعنعة هو من قبيل الاحتياط للرواية، وإلا فقد يقال، إن صيغ التحديث قد يتصرف فيها بعض الرواة، فقد يصرح بالتحديث، ولا ينقل. فإذا وقف على التصريح بالتحديث في بعض الطرق، قبلت العنعنة. والله أعلم. (¬1) المنتقى (7/ 232)، وانظر التاج والإكليل (4/ 394)، حاشية العدوي (1/ 595). (¬2) المجموع (1/ 350).

دليل من قال: يجب على الولي أن يختن الصغير قبل البلوغ

إسحاق، عن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنا يومئذ مختون. قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك (¬1). فقوله: " حتى يدرك " أي حتى يبلغ. قال في تاج العروس: أدرك الشيء إدراكاً بلغ وقته وانتهى (¬2). وقال الشوكاني: الإدراك في أصل اللغة بلوغ الشيء وقته. وأراد به ههنا البلوغ (¬3). الدليل الثاني من النظر: قالوا: إن الختان يجب إذا وجبت الطهارة والصلاة، وهما لا يجبان إلا بالبلوغ. دليل من قال: يجب على الولي أن يختن الصغير قبل البلوغ قالوا: إن هذا من مصلحة الصبي، فيجب على الولي القيام بما فيه مصلحته. قال ابن القيم: وعندي أنه يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ، بحيث يبلغ مختوناً؛ فإن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به. وأما قول ابن عباس: كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك: أي حتى يقارب البلوغ، كقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6299). (¬2) تاج العروس (13/ 552). (¬3) نيل الأوطار (1/ 140). (¬4) الطلاق: 2.

وبعد بلوغ الأجل لا يتأتى الإمساك. وقد صرح ابن عباس أنه كان يوم يموت النبي - صلى الله عليه وسلم - مختوناً، وأخبر في حجة الوداع التي عاش بعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعة وثمانين يوماً أنه قد ناهز الاحتلام، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآباء أن يأمروا أولادهم بالصلاة لسبع، وأن يضربوهم على تركها لعشر، فكيف يسوغ لهم ترك ختانهم حتى يجاوزوا البلوغ (¬1). وقول ابن القيم كان في حجة الوداع قد ناهز الاحتلام. (461 - 25) الحديث رواه البخاري، قال: حدثنا إسحاق، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي بن شهاب، عن عمه، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: أقبلت، وقد ناهزت الحلم أسير على أتان لي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي بمنى حتى سرت بين يدي بعض الصف الأول، ثم نزلت عنها فرتعت فصففت مع الناس وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال البخاري: وقال يونس عن ابن شهاب: بمنى في حجة الوداع (¬2). الراجح: قال ابن المنذر: ليس في باب الختان نهي يثبت، ولا لوقته حد يرجع إليه، ولا سنة تتبع، والأشياء على الإباحة، ولا يجوز حظر شيء منها إلا بحجة، ولا نعلم مع من منع أن يختن الصبي لسبعة أيام حجة (¬3). ¬

_ (¬1) تحفة المودود ـ ابن القيم (ص: 182). (¬2) صحيح البخاري (1857). (¬3) المجموع (1/ 352).

الراجح من الخلاف

وقد قال سفيان بن عيينة: قال لي سفيان الثوري: أتحفظ في الختان وقتاً؟ قلت: لا. قلت: وأنت لا تحفظ فيه وقتاً؟ قال: لا (¬1). وقد قال أحمد في وقت الختان: لم أسمع فيه شيئاً (¬2). وقال ابن تيمية: أما الختان فمتى شاء اختتن، لكن إذا راهق البلوغ فينبغي أن يختن كما كانت العرب تفعل، لئلا يبلغ إلا وهو مختون (¬3). وقوله: " ينبغي " لا يدل على الوجوب. الراجح من الخلاف الصحيح أن الختان لا يجب إلا بالبلوغ؛ لأنه وقت التكليف. وأما قول ابن القيم رحمه الله: يجب على الصبي الختان قبل البلوغ؛ لأن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به. فإن كان يقصد وجوب الصلاة فإن صلاة الأقلف صحيحة، وليس الختان شرطاً في صحة الصلاة. وأما الاستدلال بحديث: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع" فليس فيه دليل على مسألتنا؛ لأن الصلاة نفسها لا تجب قبل البلوغ على الصحيح، وإنما الأمر للتربية والتعليم. وأما تطهير النجاسة المحتقنة في القلفة فإنه يمكنه تطهيرها بالمبالغة في الاستنجاء، وتتبع أماكن احتقان البول في القلفة لتكون طهارته صحيحة، وبالتالي صحة صلاته. فالختان كسائر التكاليف لا تجب على الصبي إلا بالبلوغ. والله أعلم. ¬

_ (¬1) التمهيد (21/ 61). (¬2) الإنصاف (1/ 125). (¬3) الفتاوى الكبرى (1/ 274).

الفصل الخامس في حكم الختان

الفصل الخامس في حكم الختان وفيه مباحث: المبحث الأول: في حكم الختان للذكر. المبحث الثاني: في حكم الختان للأنثى. المبحث الثالث: في حكم الختان للخنثى. المبحث الرابع: في حكم ختان الميت.

المبحث الأول في ختان الذكر

المبحث الأول في ختان الذكر اختلف الفقهاء في حكم ختان الذكر. فقيل: الختان سنة وهو مذهب الحنفية (¬1)،والمالكية (¬2)، واختاره بعض الشافعية (¬3). ¬

_ (¬1) ومع أن الحنفية يرون أنه سنة، إلا أنهم يرون أن الرجل يجبر عليه إذا تركه، بخلاف المرأة. قال في شرح فتح القدير (1/ 63): " الختانان: موضع القطع من الذكر والفرج، وهو سنة للرجل، مكرمة لها، إذ جماع المختونة ألذ، وفي نظم الفقه سنة فيهما، غير أنه لو تركه يجبر عليه إلا من خشية الهلاك، ولو تركته هي لا ". وانظر الفتاوى الهندية (6/ 445). وقال في حاشية ابن عابدين (6/ 371): " الختان سنة للرجال، من جملة الفطرة، لا يمكن تركها، وهي مكرمة في حق النساء أيضاً كما في الكفاية " اهـ. وقال أيضاً (6/ 751): " والأصل أن الختان سنة، كما جاء في الخبر، وهو من شعائر الإسلام وخصائصه، فلو اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام، فلا يترك إلا لعذر " ثم قال: " وختان المرأة ليس سنة، بل مكرمة للرجال، وقيل: سنة. (¬2) جاء في شرح الخرشي (3/ 48): "وحكمه السنية في الذكور: وهو قطع الجلدة الساترة. والاستحباب في النساء " اهـ. وانظر حاشية الدسوقي (2/ 126)، الشرح الصغير (2/ 151). وقال في الفواكه الدواني (1/ 394): " والختان سنة في الذكور واجبة: أي مؤكدة، من تركها لغير عذر لم تجز إمامته، ولا شهادته، بل قال ابن شهاب: لا يتم الإسلام إلا بالختان" اهـ. قلت: ومثل هذا الحكم لا يقال في السنة، بل يقال في الواجب، وليس كل واجب، بل ما يعد تركه من الكبائر. لأنه لا يقال في بعض الواجبات لا يتم الإسلام إلا به. على أن العدوي ذكر في حاشيته (1/ 596) ضعف قول من قال: لا تصح إمامة الأقلف، وقال: إن المذهب كراهة إمامته. وأما بطلان الشهادة، فقد نقل عن الباجي: بأنه تبطل بترك المروءة. (¬3) طرح التثريب (2/ 75).

دليل القائلين بأن الختان سنة

وقيل: بل هو واجب. وهو المشهور من مذهب الشافعة (¬1)، والحنابلة (¬2). دليل القائلين بأن الختان سنة الدليل الأول: (462 - 26) ما رواه أحمد، قال: ثنا سريج، ثنا عباد - يعنى ابن العوام - عن الحجاج، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء (¬3). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 349) وحاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 211)، وتحفة المحتاج (9/ 198)، نهاية المحتاج (8/ 35)، فتوحات الوهاب (5/ 173). (¬2) المحرر (1/ 11)، كشاف القناع (1/ 80)، المبدع (1/ 103) الروض المربع (1/ 237). وفي مسائل ابن هانئ (2/ 151): " وسئل عن المرأة تدخل على زوجها، ولم تختتن، أيجب عليها الختان؟ فقال: الختان سنة حسنة. ثم قال له السائل: إنه أتى عليها أربعون سنة، أو أقل أو أكثر؟ فقال: أما الحسن، فكان يقول في الشيخ الكبير: إذا خاف على نفسه؛ فإنه لم ير به بأساً ألا يختتن. ثم قال أبو عبد الله: ذكر معتمر، عن سلم بن أبي الذيال، أن أميراً كان بالبصرة، فختن قوماً، فمات بعضهم، فقال الحسن: يا عجباه!! قد أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العجمي، والرومي، والأسود، والأبيض، فلم يفتش عنهم. قيل له: فإن هي قويت على ذلك؟ قال: ما أحسنه اهـ. (¬3) مسند أحمد (5/ 75).

[الحديث ضعيف] (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 325) من طريق إبراهيم بن الحجاج، ثنا حفص بن غياث، عن الحجاج به. قال البيهقي: الحجاج بن أرطأة لا يحتج به، وقيل: عنه، عن مكحول، عن أبي أيوب. وهو منقطع. فالحديث فيه حجاج بن أرطأة. كثير الخطأ والتدليس، وقد عنعن. كما أنه قد اختلف عليه. فقيل: عن الحجاج، عن أبي المليح، عن أبيه. كما في إسناد أحمد المتقدم. وقيل: عن حجاج، عن مكحول، عن أبي أيوب. وقيل: عن حجاج، عن أبي المليح، عن شداد بن أوس. أما رواية الحجاج عن مكحول. فقد أخرجها البيهقي في السنن الكبرى (8/ 325) من طريق عبد الواحد بن زياد، ثنا الحجاج، عن مكحول، عن أبي أيوب، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء. وهذا منقطع، مكحول لم يسمع من أبي أيوب. وأما رواية الحجاج، عن أبي المليح، عن شداد بن أوس. فلم تسلم من الاختلاف: فقيل: عن حجاج، عن رجل، عن أبي المليح، عن أبيه عن شداد بن أوس. وقيل: عن حجاج، عن أبي المليح، عن شداد. وقيل: عن حجاج، عن أبي المليح، عن أبيه، عن شداد. وإليك تخريجها فقد رواه ابن أبي شيبة (5/ 317) رقم 26468 حدثنا عباد بن العوام، عن حجاج، عن رجل، عن أبي المليح، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الختان سنة للرجال مكرمة للنساء". ورواه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 273) رقم 7112 قال: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا واصل بن عبد الأعلى، ثنا محمد بن فضيل، عن حجاج، عن أبي مليح، عن أبيه، عن شداد بن أوس به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه الطبراني في الكبير أيضاً (7/ 274) رقم 7113 قال: حدثنا محمد بن الحسن بن كيسان المصيصي، ثنا عارم أبو النعمان، ثنا حفص بن غياث، عن حجاج بن أرطاة، عن أبي المليح، عن أبيه، عن شداد بن أوس به. قال ابن أبي حاتم في العلل (2/ 247): " سألت أبي عن حديث رواه حفص بن غياث، عن حجاج بن أرطأة، عن أبي المليح، عن شداد بن أوس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء. ورواه عبد الواحد بن زياد، عن حجاج، عن مكحول، عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال أبي: الذي أتوهم أن حديث مكحول خطأ. وإنما أراد حديث حجاج، ما قد رواه مكحول، عن أبي الشمال، عن أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خمس من سنن المرسلين التعطر والحناء والسواك. فترك أبا الشمال. فلا أدري هذا من الحجاج أو من عبد الواحد. وقد رواه النعمان بن المنذر، عن مكحول، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء اهـ. قلت: سيأتي تخريج حديث خمس من سنن المرسلين في كتاب السواك. وقد جاء الحديث من مسند ابن عباس. أخرجه الطبراني في الكبير (11590) حدثنا عبدان بن أحمد، ثنا أيوب بن محمد الوزان، ثنا الوليد، ثنا بن ثوبان، عن محمد بن عجلان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء. وأخرجه الطبراني بالإسناد نفسه في مسند الشاميين (146). ومن طريق عبدان أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 324). قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف، والمحفوظ موقوف. قلت الرواية الموقوفة قد أخرجها الطبراني في المعجم (11/ 359) رقم 12009 قال: حدثنا الحسن بن علي الفسوي، ثنا خلف بن عبد الحميد، ثنا عبد الغفور، عن أبي هاشم، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء. وفي إسناده: الحسن بن علي الفسوي قال الدارقطني: لا بأس به. تاريخ بغداد (7/ 372). =

ولو صح، لم يكن المراد بالسنة خلاف الواجب، بل السنة في اللغة وفي لسان الشارع تطلق على الطريقة، وهي تشمل الواجب والمستحب. بل إن إطلاق السنة على المستحب إصطلاح حادث. قال ابن دقيق العيد: كون السنة في مقابلة الواجب وضع اصطلاحي لأهل الفقه، والوضع اللغوي غيره، وهو الطريقة (¬1). وتعقب هذا الجواب: بأنه لما وقع التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك دل على أن المراد افتراق الحكم. ورد: بأنه لم ينحصر في الوجوب، فقد يكون في حق النساء للإباحة، بل ¬

_ = وفيه أيضاً: خلف بن عبد الحميد قال أحمد: لا أعرفه. تاريخ بغداد (8/ 321). وفيه أيضاً: عبد الغفور بن سعيد الواسطي قال يحيى: ما حديثه بشيء. الضعفاء الكبير (3/ 113). أبو هاشم لم ينسب فلم يتبين لي من هو. فالحديث ضعيف. ورواه الطبراني في الكبير (12/ 182) رقم 12828 قال: حدثنا أحمد بن زهير التستري، ثنا عمرو بن عبد الله الأودي، ثنا وكيع، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن جابر ابن زيد، عن ابن عباس قال: الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء. ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 325) من طريق إبراهيم بن مجشر، ثنا وكيع بن الجراح به. وفيه سعيد بن بشير، وهو ضعيف. انظر الجرح والتعديل (4/ 6)، وتهذيب الكمال (10/ 348). (¬1) إحكام الإحكام (1/ 126).

إن قوله: " مكرمة " قد يشعر بأن المراد بالسنة الواجب. لأن المكرمة: المقصود بها: الكرامة، والكرامة بمعنى المستحب، فتكون مقابلة للواجب. على أنهم اختلفوا في معنى مكرمة. فقيل: معنى ذلك: أي محل لكرمهن، أي بسببه يصرن كرائم عند أزواجهن (¬1)، فتكون ذات منزلة وكرامة. وقيل: مكرمة؛ لأنه يتسبب عنه رونق الوجه وبريقه ولمعانه، ويطيب الجماع للزوج، وقد جاء في الحديث: " اخفضي ولا تنهكي؛ فإنه أنضر للوجه وأحظى عند الزوج " (¬2). وقد سبق تخريجه. وقد فسره الحنفية في كتبهم بأن معنى مكرمة: أي أطيب وألذ في الجماع (¬3). ولو صح الحديث لكان معنى مكرمة والله أعلم: أي أن الشارع أكرمها بهذا التشريع. وإكرامها إما لأنه لم يلزمها فجعل الخيار لها؛ لأنه جعله في مقابل السنة في ختان الرجل أي لا زم له، وإما إن هذا التشريع قصد به إكرامها، ولم يقصد به إهانتها، كما هو سائر الأحكام التي تخص المرأة، إلا أنه يشكل عليه أنه مكرمة للرجل أيضاً، وليس له معنى تخصيص المرأة بهذا. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المغرب (ص: 407). (¬2) حاشية العدوي (1/ 596) مع بعض التصرف اليسير. (¬3) تبيين الحقائق (6/ 227)، البحر الرائق (7/ 96)، الفتاوى الهندية (6/ 445)، حاشية ابن عابدين (6/ 751).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرنه في المستحبات دون الواجبات فيأخذ حكمهن. (463 - 27) فقد روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار، ونتف الآباط. ورواه مسلم (¬1). فإذا كانت هذه الخصال المذكورة مع الختان مستحبة، فكذلك الختان. وأجيب على ذلك: أولاً: دلالة الاقتران من أضعف الدلالات. وقد قال سبحانه وتعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} (¬2). وإتيان الحق واجب والأمر مباح، ومثله قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم} (¬3)، والإيتاء واجب، والكتابة سنة، فالأمر المباح أو المندوب حين اقترن بالأمر الواجب لم يعط حكمه. فكذلك الختان (¬4). ثانياً: لا نسلم أن هذه الأمور الخمسة مستحبة، بل واجبة؛ فالأمور التي من الفطرة، وفطر عليها البشر لا يمكن أن تكون مخالفتها مخالفة لأمور مستحبة فقط. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5891) ومسلم (257). (¬2) الأنعام: 141. (¬3) النور: 33. (¬4) المجموع (1/ 338).

قال ابن العربي: " والذي عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة؛ فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين " (¬1). (464 - 28) وقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما، عن جعفر - قال يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان - عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: قال أنس: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة (¬2). ¬

_ (¬1) نقله عنه الصنعاني في العدة شرح العمدة (1/ 351). (¬2) صحيح مسلم (258). الحديث أخرجه النسائي في السنن الكبرى (1/ 66) رقم 15 وفي الصغرى (14) أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا جعفر به. ومن طريق قتيبة بن سعيد أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 150). وأخرجه الترمذي (2759) والدارمي (14) حدثنا قتيبة، حدثنا جعفر به. إلا أنه قال: وقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه ابن ماجه (295) حدثنا بشر بن هلال الصواف، ثنا جعفر به. وأخرجه ابن الجعد في مسنده (3294) حدثنا خلف بن هشام البزاز، نا جعفر بن سليمان به. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2768) من طريق يحيى بن يحيى، أنا جعفر بن سليمان به. قال القرطبي في تفسيره (2/ 107): " هذا الحديث يرويه جعفر بن سليمان. قال العقيلي: في حديثه نظر. وقال أبو عمر ـ يعني ابن عبد البر ـ ليس بحجة لسوء حفظه، وكثرة غلطه. وهذا الحديث ليس بالقوي من جهة النقل " اهـ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وهذا الكلام بنصه موجود في شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (2/ 62). ولم أقف على كلام العقيلي في الضعفاء الكبير في ترجمة جعفر بن سليمان، فلعله في كتاب آخر للعقيلي. والموجود في التمهيد عن ابن عبد البر (21/ 68): " هذا حديث ليس بالقوي من جهة النقل " اهـ. وقد نقل كلام القاضي عياض النووي في شرحه لصحيح مسلم، ورده، فقال (3/ 150): " قد وثق كثير من الأئمة المتقدمين جعفر بن سليمان، ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم. وقد تابعه غيره " اهـ. قلت: تابعه صدقة بن موسى الدقيقي. قال الحافظ في الفتح متعقباً كلام الحافظ ابن عبد البر (10/ 346): " وتعقب بأن أبا داود والترمذي أخرجاه من رواية صدقة بن موسى، وصدقة بن موسى وإن كان فيه مقال لكن تبين أن جعفر لم ينفرد به، وقد أخرج ابن ماجه نحوه من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أنس، وفي علي ضعيف .. الخ كلامه رحمه الله. فقد أخرجه أحمد (3/ 122،203) ثنا يزيد بن هارون، أنا صدقة بن موسى، عن أبي عمران الجوني، عن أنس، قال: وقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قص الشارب، وتقليم الأظفار وحلق العانة في كل أربعين يوماً مرة. وأخرجه أحمد أيضاً (3/ 255) حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا صدقة به. أخرجه أبو يعلى في مسنده (4185) حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يزيد، أخبرنا صدقة بن موسى به. وأخرجه ابن الجعد في مسنده (ص: 474) رقم 3293 من طريق يزيد بن هارون. وأخرجه أيضاً (3291) من طريق علي وأخرجه أيضاً (3292) من طريق هشيم، ثلاثتهم، عن صدقة الدقيقي به. وأخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 76) من طريق علي بن الجعد، أنا صدقة الدقيقي به. وأخرجه أيضاً (4/ 76) من طريق هشيم أخبرنا صدقة به. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 150) من طريق مسلم بن إبراهيم به. وأخرجه =

وقول الصحابي: " وقت لنا " على البناء للمجهول له حكم الرفع، كقول الصحابي: " أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا ". قال الشوكاني: المختار أنه يضبط بالأربعين التي ضبط بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز تجاوزها (¬1). (465 - 29) ومما يدل أيضاً على الوجوب ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى، عن يوسف بن صهيب (ح) ووكيع، ثنا يوسف، عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يأخذ من شاربه فليس منا (¬2). ¬

_ = الترمذي (2758) حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا صدقة بن موسى به. بلفظ: وقت لهم في كل أربعين ليلة. الحديث والحديث انقلب على الترمذي، فجعل صيغة البناء للمجهول (وقت لنا) من لفظ صدقة بن موسى. ولفظ: " وقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من لفظ جعفر بن سليمان. والصواب العكس. قال أبو داود (4200) حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا صدقة الدقيقي، ثنا أبو عمران الجوني، عن أنس بن مالك، قال: وقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب ونتف الإبط أربعين يوماً مرة. قال أبو داود: رواه جعفر بن سليمان، عن أبي عمران، عن أنس لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وقت لنا. وهذا أصح وقال ابن عدي: رواه عن أبي عمران صدقة بن موسى، وجعفر بن سليمان. فقال صدقة: وقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال جعفر: وقت لنا في حلق العانة، فذكره. وما أعلم رواه عن أبي عمران غيرهما. (¬1) نيل الأوطار (1/ 169). (¬2) مسند أحمد (4/ 366، 368).

[إسناده صحيح] (¬1). فهذا الحديث يدل على أن الأخذ من الشارب واجب، بل لو قيل: إن تاركه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب لم يكن بعيداً لهذا العقاب. فهذا الحديث، والحديث الذي قبله يدلان أن سنن الفطرة ليست مستحبة، وإنما هي واجبة، فيسقط القول بأن الختان قرن بما هو مستحب، ¬

_ (¬1) رجاله كلهم ثقات. والحديث أخرجه الترمذي (2761) من طريق يحيى بن سعيد، عن يوسف به. ومن طريق يحيى بن سعيد أخرجه النسائي في الكبرى (14). وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 226) رقم 25493 حدثنا عبدة بن سليمان، عن يوسف بن صهيب به. وأخرجه الترمذي في الأدب (2762) والنسائي (13) من طريق عبيدة بن حميد، حدثني يوسف بن صهيب به. وقال: هذا حديث حسن صحيح. ومن طريق عبيدة أخرجه ابن حبان (5477). وأخرجه النسائي في الكبرى (9293) وفي الصغرى أيضاً (5047) من طريق المعتمر قال: سمعت يوسف بن صهيب به. إلا أنه حذف كلمة (من) في قوله: (من شاربه) في السنن الصغرى. ومن طريق النسائي أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (357). وأخرجه عبد بن حميد، كما في المنتخب (264) حدثنا يعلى ومحمد ابنا عبيد، قالا: ثنا يوسف بن صهيب به. وأخرجه الطبراني في الأوسط (8/ 37) رقم 7886 من طريق حمزة الزيات، عن يوسف بن صهيب به. وأخرجه في المعجم الكبير (5033،5034،5036) من طريق أبي نعيم، ومندل بن علي، وحمزة الزيات فرقهم، عن يوسف بن صهيب به. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 222) رقم 6444،6445 من طريق يعلى بن عبيد وأبي نعيم، كلاهما عن يوسف بن صهيب به.

الدليل الثالث

فيكون مستحباً (¬1). الدليل الثالث: (466 - 30) ما رواه البخاري في الأدب المفرد، قال: حدثنا محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا معتمر، قال: حدثني سلم بن أبي الذيال (وكان صاحب حديث) قال: سمعت الحسن يقول: أما تعجبون لهذا (يعني مالك بن المنذر) عمد إلى شيوخ من أهل كسكر أسلموا ففتشهم، فأمر بهم فختنوا في هذا الشتاء فبلغني أن بعضهم قد مات، ولقد أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرومي والحبشي فما فتشوا عن شيء (¬2). [رجاله ثقات] ورده ابن القيم، فقال: جوابه أنهم استغنوا عن التفتيش بما كانوا عليه من الختان، فإن العرب قاطبة كانوا يختتنون، واليهود قاطبة تختتن، ولم يبق إلا النصارى، وهم فرقتان: فرقة تختتن، وفرقة لا تختتن، وقد علم كل من دخل الإسلام منهم ومن غيرهم أن شعار الإسلام الختان، فكانوا يبادورن إليه بعد الإسلام، كما يبادرون إلى الغسل " (¬3). قلت: ومما يؤيد كلام ابن القيم، ان قيصر أطلق على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ملك ¬

_ (¬1) وقد ذهب الجمهور إلى استحباب سنن الفطرة. وحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا " كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يتغن بالقرآن فليس منا " فالمراد ليس على سنتنا، وليس على طريقنا. (¬2) الأدب المفرد (1287). (¬3) تحفة المودود (ص: 191).

دليل القائلين بالوجوب

الختان كما في البخاري (¬1). دليل القائلين بالوجوب. الدليل الأول: اختتن إبراهيم، وكان الختان مما ابتلى الله به إبراهيم، فكان من شريعته، وقد أمرنا باتباع ملته عليه الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: {ثم أو حينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} (¬2). (467 - 31) أما الدليل على اختتانه، فقد أخرج البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اختتن إبراهيم عليه السلام، وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم. ورواه مسلم (¬3). وأما الدليل على كون الختان مما ابتلى الله به إبراهيم (468 - 32) فقد روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا ¬

_ (¬1) جاء في البخاري (7) من حديث طويل، وفيه: " كان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة. قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود، فينما هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما استخبره هرقل، قال: إذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا، فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. الحديث قطعة من حديث طويل. (¬2) النحل: 123. (¬3) صحيح البخاري (3356)، ومسلم (2370).

أبو زكريا العنبري، ثنا: محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا عبد الرزاق، ثنا: معمر عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء. [وإسناده صحيح] (¬1). والابتلاء غالباً إنما يقع بما يكون واجباً وأما الدليل على كوننا مأمورين باتباع ملته، فقال سبحانه وتعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} (¬2) (¬3). وتعقب هذا الاستدلال: بأنه لا يلزم ما ذكر إلا إذا كان إبراهيم فعله على سبيل الوجوب، فإن من الجائز أن يكون فعله على سبيل الندب، فيحصل امتثال الأمر باتباعه على وفق ما فعل، وقد قال الله سبحانه وتعالى في حق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {واتبعوه لعلكم تهتدون} (¬4)، ومع هذا الأمر باتباعه فقد تقرر في الأصول أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بمجردها لا تدل على الوجوب، وأيضاً هناك قرينة من الحديث أنه ليس ¬

_ (¬1) سنن البيهقي (1/ 149). وسبق تخريجه. (¬2) النحل: 123. (¬3) ذكر هذا الاستدلال البيهقي في السنن (8/ 325). (¬4) الأعراف: 158.

الدليل الثاني

بواجب، لأن من الخصال العشر ما ليس بواجب علينا كالسواك وفرق الرأس. والله أعلم. الدليل الثاني: (469 - 33) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريح قال أخبرت، عن عثيم بن كليب، عن أبيه، عن جده، أنه جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قد أسلمت. فقال: ألق عنك شعر الكفر. يقول: أحلق. قال: وأخبرني آخر معه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لآخر: ألق عنك شعر الكفر واختتن (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3/ 415). (¬2) في الحديث ثلاث علل: الأولى: شيخ ابن جريج الذي لم يسم. قال ابن عدي في الكامل (1/ 222): " وهذا الذي قاله ابن جريج في هذا الإسناد: وأخبرت عن عثيم بن كليب إنما حدثه به إبراهيم بن أبي يحيى، فكنى عن اسمه. ثم أخرجه ابن عدي من طريق الرمادي، عن إيراهيم بن أبي يحيى، عن عثيم به. وإبراهيم بن أبي يحيى قال يحيى بن سعيد القطان: سألت مالك بن أنس، عن إبراهيم بن أبى يحيى أكان ثقة؟ قال: لا، ولا ثقة في دينه. الجرح والتعديل (2/ 125). قال فيه العجلي: مدني رافضي جهمى قدرى، لا يكتب حديثه روى عنه الشافعي. ثقات العجلي (1/ 209). وقال أحمد بن حنبل: كان قدريا معتزلياً جهمياً، كل بلاء فيه. تهذيب التهذيب (1/ 137). العلة الثانية: ضعف عثيم بن كثير بن كليب. =

الدليل الثالث

ولو صح لم يدل على الوجوب، لأن حلق شعر الكافر ليس بواجب، فكذلك الختان. الدليل الثالث: قالوا: إن القلفة تحبس النجاسة، فتتوقف على قطعها صحة الصلاة، كمن أمسك نجاسة في فمه. وفي هذا نظر: من وجهين: الوجه الأول: أن الفم في حكم الظاهر، بدليل أن وضع المأكول فيه لا ¬

_ = لم يوثقه أحد إلا ابن حبان. الثقات (7/ 303). وفي التقريب: مجهول. العلة الثالثة: ضعف كثير بن كليب، والد عثيم. ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (7/ 156). وقال الحسيني: مجهول. الإكمال (737). وقال ابن القطان: مجهول. لسان الميزان (4/ 483). وقال أيضاً: إسناده في غاية الضعف، مع الانقطاع الذي في قول ابن جريج (أخبرت) وذلك أن عثيم بن كليب، وأباه وجده مجهولون. ونقل الحافظ كلام ابن القطان في التلخيص (1/ 153) إلا أنه قال: عثيم وأبوه مجهولان، ولم يقل: وجده. وذلك لأن الحافظ يرى أن جده له صحبه، كما ذكر ذلك في تعجيل المنفعة (901). تخريج الحديث الحديث عند عبد الرزاق في المصنف (9835)، ومن طريقه أخرجه أبو داود (356) وابن أبي عاصم في الأحاد والمثاني (2795) وابن عدي في الكامل (1/ 223) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 172). وله شاهدان من حديث واثلة بن الأسقع وقتادة الرهاوي إلا أنهما في الاغتسال من الكفر، وليس فيهما الاختتان، ولذلك لن أشتغل بتخريجهما هنا، ولعلي أدرس أسانيدهما في كتاب الاغتسال إن شاء الله تعالى.

الدليل الرابع

يفطر به الصائم، بخلاف داخل القلفة فإنه في حكم الباطن، وقد صرح أبو الطيب الطبري بأن هذا القدر مغتفر. الوجه الثاني: أن بإمكانه تطهير القلفة من النجاسة كل ما تبول، والأقلف صلاته صحيحة، وليس الختان شرطاً في صحة الطهارة. الدليل الرابع: جواز كشف العوارة من المختون، وجواز نظر الخاتن إليها - وقد ذكرنا أنه يشرع الختان لمن بلغ أو قارب البلوغ - وكشف العورة والنظر إليها حرام، فلو لم يجب لما أبيح ترك واجبين، وارتكاب محظورين. وتعقب: بأن كشف العورة مباح للحاجة، وليس للضروة، فالحاجة تبيح كشف العورة، ولذلك أبيح النظر إلى العورة بالمداواة، وليس ذلك واجباً إجماعاً، وإذا جاز في المصلحة الدنيوية، كان في المصلحة الشرعية أولى. وقد قال بعضهم: قد يترك الواجب لغير الواجب كترك الإنصات للخطبة يوم الجمعة بالتشاغل بركعتي تحية المسجد، وكشف العورة للمداواة مثلها. الدليل الخامس: أن الولي يؤلم فيه الصبي إيلاماً بالغاً، ويخرج من ماله أجرة الخاتن، وثمن الدواء، ولا يضمن سرايته بالتلف، ولو لم يكن واجباً لما جاز ذلك، فإنه لا يجوز له إضاعة ماله، وإيلامه الألم البالغ، وتعريضه للتلف بفعل مالا يجب فعله. الدليل السادس: قالوا: بأن الختان واجب؛ لأنه من شعار الدين، وبه يعرف المسلم من

الدليل السابع

الكافر، حتى ولو وجد مختوناً بين جماعة قتلى غير مختونين صلي عليه، ودفن في مقابر المسلمين. وأجيب: بأن شعائر الدين ليست كلها واجبة، فمنها ما هو واجب، كالصلوات الخمس والحج والصيام، ومنها ما هو مستحب كالتلبية وسوق الهدي وتقليده، ومنها ما هو مختلف في وجوبه كالأذان والعيدين والأضحية والختان. وما ذكر في المقتول مردود؛ لأن اليهود وكثيراً من النصارى يختتنون، فليقيد ما ذكر بالقرائن. الدليل السابع: الختان قطع عضو سليم من البدن، فلو لم يجب لم يجز كقطع الأصبع، فإن قطعها إذا كانت سليمة لا يجوز إلا إذا وجب بالقصاص. وتعقب: بأن قطع العضو إذا كان فيه مصلحة للبدن، يجوز، ولو لم يكن القطع واجباً، والختان فيه عدة مصالح كمزيد الطهارة والنظافة، فإن القلفة من المستقذارت عند العرب، وقد كثر ذم الأقلف في أشعارهم، وكان للختان عندهم قدر، وله وليمة خاصة به. الدليل الثامن: (470 - 34) ذكر ابن حجر في التلخيص، ما رواه حرب بن إسماعيل في مسائله عن الزهري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أسلم فليختتن (¬1). ¬

_ (¬1) تلخيص الحبير (4/ 82)، ونقله ابن القيم في تحفة المودود (ص: 182). =

الدليل التاسع

وهذا مرسل، ومراسيل الزهري من أضعف المراسيل (¬1). الدليل التاسع: (471 - 35) ما رواه البيهقي في السنن الكبرى، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن بندار القزويني بمكة، ثنا أبو محمد بن سهل بن أحمد الديباجي، ثنا أبو علي محمد بن محمد بن الأشعث (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر محمد بن داود بن سليمان الصوفي، قال: قرئ على أبي علي محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي، حدثني موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، ثنا أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين بن علي، عن أبيه، عن أبيه علي رضي الله تعالى عنه قال: وجدنا في قائم سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيفة، إن الأقلف لا يترك في الإسلام حتى يختتن، ولو بلغ ثمانين سنة. قال البيهقي: وهذا حديث ينفرد به أهل البيت عليهم السلام بهذا ¬

_ = وقد روى البخاري في الأدب المفرد، ولم يرفعه (1288) حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثني سليمان بن بلال، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: وكان الرجل إذا أسلم أمر بالاختتان، وإن كان كبيراً. (¬1) وقال يحيى بن سعيد القطان: مرسل الزهري شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، كلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه. جامع التحصيل في أحكام المراسيل. (ص: 79). قال أحمد بن سنان، قال: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول: هو بمنزلة الريح. المرجع السابق.

الإسناد (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). وهناك أدلة ذكروها في عدم صحة إمامته وذبيحته وحجة، نترك ذكرها لأني أفردتها في بحث مستقل. هذه أهم الأدلة التي استدل بها من يرى الوجوب. ¬

_ (¬1) سنن البيهقي الكبرى (8/ 324). (¬2) فيه محمد بن محمد بن الأشعث متهم. قال ابن عدي: مقيم بمصر، وكتبت عنه بها، حَمَلَه شدة ميله إلى التشيع أن أخرج لنا نسخة قريباً من ألف حديث، عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده إلى أن ينتهي إلى علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب كتاب يخرجه إلينا بخط طري، على كاغد جديد، فيها مقاطيع وعامتها مسندة مناكير، كلها أو عامتها، فذكرنا روايته هذه الأحاديث عن موسى هذا لأبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان شيخاً من أهل البيت بمصر، وهو أخ الناصر، وكان أكبر منه، فقال لنا: كان موسى هذا جاري بالمدينة أربعين سنة ما ذكر قط أن عنده شيئاً من الرواية لا عن أبيه ولا عن غيره. الكامل (6/ 301). وانظر لسان الميزان (5/ 362).

المبحث الثاني في ختان المرأة

المبحث الثاني في ختان المرأة فقيل: الختان سنة في حق الرجل مكرمة في حق المرأة (أي مستحب) ولو تركته لم تجبر عليه. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: ختان المرأة سنة. اختاره بعض الحنفية (¬3)، وبعض المالكية (¬4)، ¬

_ (¬1) قال في شرح فتح القدير (1/ 63): " الختانان: موضع القطع من الذكر والفرج، وهو سنة للرجل، مكرمة لها، إذ جماع المختونة ألذ، وفي نظم الفقه سنة فيهما، غير أنه لو تركه يجبر عليه إلا من خشية الهلاك، ولو تركته هي لا ". وانظر المبسوط (10/ 156)، المغرب (ص: 406)، الفتاوى الهندية (6/ 445). وقال في حاشية ابن عابدين (6/ 371): " الختان سنة للرجال، من جملة الفطرة، لا يمكن تركها، وهي مكرمة في حق النساء أيضاً كما في الكفاية " اهـ. وقال أيضاً (6/ 751): " والأصل أن الختان سنة، كما جاء في الخبر، وهو من شعائر الإسلام وخصائصه، فلو اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام، فلا يترك إلا لعذر " ثم قال: " وختان المرأة ليس سنة، بل مكرمة للرجال، وقيل: سنة. (¬2) قال في مواهب الجليل (3/ 259): " والخفاض في النساء مكرمة " اهـ. وتفسير المكرمة: أي مستحب وليس بسنة. قال صاحب الفواكة الدواني (1/ 394): " والخفاض في النساء مكرمة: أي خصلة مستحبة " اهـ. وقال في شرح الخرشي (3/ 48): " وحكمه السنية في الذكور: وهو قطع الجلدة الساترة. والاستحباب في النساء " اهـ. وانظر حاشية الدسوقي (2/ 126)، الشرح الصغير (2/ 151). وحين قال في كفاية الطالب الرباني (1/ 596): " والخفاض في النساء مكرمة، يعني: سنة كسنة ختان الذكور، وإنما قال مكرمة تبعاً للحديث. تعقبه العدوي في حاشيته عليه، فقال (1/ 596): هذا القول ضعيف، والمعتمد أنه مستحب اهـ. (¬3) شرح فتح القدير (1/ 63). (¬4) كفاية الطالب الرباني (1/ 596).

دليل القائلين بأنه سنة

وبعض الشافعية (¬1)، وهو رواية عن أحمد (¬2). وقيل: يجب ختان المرأة، كما يجب على الرجل، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل القائلين بأنه سنة. استدل القائلون بأن الختان سنة في حق المرأة بنفس أدلتهم في قولهم بأن الختان سنة في حق الرجل. دليل القائلين بأنه واجب في حق المرأة. ساقوا الأدلة في وجوب الختان، قالوا: وهي مطلقة، فتشمل الرجل والمرأة، انظر أدلتهم في القول بوجوب الختان على الرجل في المسألة التي قبل هذه. دليل القائلين بأنه مستحب وليس بسنة. قالوا: إن الختان في حق الرجل يتعلق بالطهارة من النجاسة المحتقنة في القلفة، والطهارة شرط في صحة الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان ¬

_ (¬1) طرح التثريب (2/ 75). (¬2) المحرر (1/ 11)، المغني (1/ 63). (¬3) قال النووي في المجموع (1/ 349): " الختان واجب على الرجال والنساء عندنا، وبه قال كثيرون من السلف، كذا حكاه الخطابي. ثم قال: " والمذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي رحمه الله، وقطع به الجمهور أنه واجب على الرجال والنساء" اهـ. وانظر حاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 211)، وتحفة المحتاج (9/ 198)، نهاية المحتاج (8/ 35)، فتوحات الوهاب (5/ 173). (¬4) المحرر (1/ 11)، كشاف القناع (1/ 80)، المبدع (1/ 103) الروض المربع (. . .).

الإسلام، بينما المقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها، فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة، وهي طلب كمال لا أكثر فلا ترقى إلى الاستحباب. والذي تميل له نفسي بعض الميل أن الختان واجب في حق الرجل، سنة في حق المرأة. قال ابن قدامة: " فأما الختان فواجب على الرجال، ومكرمة في حق النساء، وليس بواجب عليهن. هذا قول كثير من أهل العلم. قال أحمد: الرجل أشد؛ وذلك أن الرجل إذا لم يختتن فتلك الجلدة مدلاة على الكَمَرَة، ولا يُنَقَّى ما ثَمَّ، والمرأة أهون " (¬1). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 63).

شبهة وردها

شبهة وردها: في بعض البلاد الإسلامية صدق قرار وزاري بمنع إجراء ختان الإناث بالمستشفيات أو العيادات العامة والخاصة، وقصر إجرائها على الحالات المرضية. وقامت على إثره هجمة شرسة على ختان المرأة. وقد ألغت محكمة القضاء الإداري في تلك البلاد قرار وزير الصحة. وجاء في جريدة القبس في تاريخ 14/ 11/ 1989 بأن نحو مائتي مسلم في بلغاريا قتلوا، وهم يقاومون أوامر صدرت بتحريم الختان، سواء بالنسبة للذكور والإناث. وهناك من يصف خفاض الإناث بأنه وحشية، وهي حملة غربية ودخيلة على الأمة الإسلامية، تدعي أن خفاض الإناث ينجم عنه أضرار سيئة تلحق بالفتاة من الناحية الصحية كالنزيف وإصابة مجرى البول إلى آخر ما هنالك من أضرار تنجم عن سوء إجراء عملية الخفاض. وأريد أن أثبت أن ختان المرأة مشروع في الإسلام، وليس فيه خلاف في مشروعيته، وإنما الخلاف في وجوبه. قال ابن حزم في مراتب الإجماع: " واتفقوا على إباحة الختان للنساء" (¬1). وقال ابن القيم: لا خلاف في استحبابه للأنثى، واختلف في وجوبه (¬2). (472 - 36) وقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثنا هشام وشعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، ¬

_ (¬1) مراتب الإجماع (ص: 157). (¬2) تحفة المودود (ص: 206).

عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قعد بين شعبها الأربع، وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل (¬1). (473 - 37) وفي مسلم أيضاً، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هشام بن حسان، حدثنا حميد بن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري (ح) وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى - وهذا حديثه - حدثنا هشام، عن حميد بن هلال، قال: ولا أعلمه إلا عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت، فاستأذنت على عائشة، فأذن لي. فقلت: لها يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك. فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل (¬2). فقوله: " وألزق الختان بالختان " دليل على أن المرأة تختن، وأن هذا معروف في زمن الصحابة، وواضح أن من عادتهم ختان الأنثى. نعم قد يقوم بالختان من لا يحسن الختان من النساء والرجال، ورأيت ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (216). (¬2) صحيح مسلم (349).

كثيراً في مجتمعنا في السابق من يذهب في ختان الأولاد إلى الحلاقين، والعوام الذين لا يحسنون المهنة، فينجم عن ذلك أضرار بالغة، ولا يعنى هذا أن يترك الختان من أجل سوء التصرف، بل ينبغي أن تكون هناك توعية للناس بأن يذهبوا إلى الأطباء المتخصصين. والله الموفق. قال أحد الأطباء: أن ما يتم في مناطق كثيرة من العالم، ومنه بعض بلاد المسلمين مثل الصومال والسودان وأرياف مصر من أخذ البظر بأكمله، أو أخذ البظر والشفرين الصغيرين، أو أخذ ذلك كله مع إزالة الشفرين الكبيرين، فهو مخالف للسنة، ويؤدي إلى مضاعفات كثيرة، وهو الختان المعروف باسم الختان الفرعوني، وهو على صفة لا علاقة له بالختان الذي أمر به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. ومضار هذا النوع من الختان المخالف للسنة، كما يلي: أولاً: المضاعفات الحادة: مثل النزيف والالتهابات الميكروبية نتيجة إجراء عملية الختان في مكان غير معقم، وأدوات غير معقمة، وبواسطة خاتنة لا تعرف من الطب والجراحة إلا ما تعلمته من الخاتنات مثلها. ثانياً: مضاعفات متأخرة: مثل البرود الجنسي، والرتق، وهو التصاق فتحة الفرج مما يؤدي إلى صعوبة الجماع، وصعوبة الولادة، وتعسرها عند حدوثها. وهذا كله ناتج عن مخالفة السنة، واتباع الأهواء، والعادات الفرعونية، ولا بد أن يجري الختان كما أمر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ثم يجب أن يتم بواسطة طبيبة لديها التدريب الكافي لإجراء الختان، وفي مكان معقم، وبأدوات معقمة، مثل أي عملية جراحية.

ولذا فإن الضجة المفتعلة ضد ختان البنات لا مبرر لها؛ لأن المضاعفات والمشاكل ناتجة عن شيئين لا ثالث لهما: مخالفة السنة، والثاني: إجراء العملية بدون تعقيم، ومن قبل غير الأطباء. ولو تمت أي عملية بدون تعقيم، وكان الذي يجريها لا علاقة له بالطب فإن مضاعفاتها ستكون مروعة (¬1). ¬

_ (¬1) الختان. د. البار (ص: 71 - 72).

فرع في أنواع الخفاض

فرع في أنواع الخفاض جاء في تقرير الدكتور مأمون الحاج إبراهيم: أستاذ أمراض النساء والولادة بكلية الطب بجامعة الكويت بيان أنواع كيفية ممارسة الخفاض: النوع الأول: يقصد به إزالة قطعة الجلد التي تكون في أعلى الفرج - كما سبق- وقد يزاد على ذلك. النوع الثاني: خياطة الشفرين الصغيرين، من غير إزالة أجزاء منهما، وذلك لتضييق فتحة المهبل. وهذا مخالف للشرع. النوع الثالث: ويعرف باسم الخفاض الفرعوني، وهو أشدها، والذي بدأت ممارسته في مصر القديمة أيام الفراعنة. وفي هذا النوع تتم إزالة البظر، والشفرين الصغيرين، ومعضم الشفرين الكبيرين، ثم تتم عملية خياطة الجانبين لقفل فتحة المهبل، وتترك فتحة صغيرة جداً في الجزء الأسفل من المهبل لخروج البول، ودم الحيض. والشفران الصغيران يقعان بين الشفرين الكبيرين، وفيهما الأنسجة الدموية والأعصاب، ويشكلان مع البظر أكثر الأعضاء الجنسية حساسية. أما البظر فيقع في مقدمة الأعضاء التناسلية الخارجية، فوق فتحة البول،

وهو أكثر الأعضاء حساسية عند المرأة. ويصاحب هذا النوع كثير من المضاعفات مثل النزيف الحاد، والتهاب مجاري البول، والالتهاب التناسلي، والصدوة أو الموت، خاصة أنه يعمل بواسطة نساء غير مؤهلات طبياً، وليس لهن دراية بالعمليات الجراحية (¬1). ¬

_ (¬1) نقلا من كتاب أحاديث الختان حجيتها وفقهها ـ د: سعد المرصفي (ص:38).

المبحث الثالث في ختان الخنثى

المبحث الثالث في ختان الخنثى اختلف العلماء في ختان الأنثى فقيل: يختن الخنثى، ولكن لا يختنه أجنبي بعد المراهقة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يجوز ختانه. وهو وجه في مذهب المالكية (¬2)، وأصح الوجهين ¬

_ (¬1) والذي يقوم بختان الخنثى أمته أو زوجته، وقيل: يجوزه الإمام امرأة تعرف الختان، وهذا في زمن المراهقة وما بعداها، وأما قبل المراهقة فيجوز أن يقوم بختانه الأجنبي رجلاً كان أو امرأة. انظر شرح فتح القدير (10/ 518،519)، بدائع الصنائع (7/ 328)، تبيين الحقائق (6/ 215)، البحر الرائق (8/ 540)، العناية شرح الهداية (10/ 518،519)، الجوهرة النيرة (1/ 395)، وقال: "هذا إذا كان يشتهي، أما إذا كان لا يشتهي جاز للرجال والنساء أن يختنوه "، حاشية ابن عابدين (6/ 728). وقال في الفتاوى الهندية (6/ 439): " أرأيت هذا الخنثى هل يختنه رجل أو امرأة؟ قال: هذا على وجهين: إما أن يكون مراهقاً أو غير مراهق. فإن كان غير مراهق فإنه لا بأس أن يختنه رجل أو امرأة. ثم قال: وإن كان مراهقاً فإنه لا يختنه رجل ولا امرأة، أما كونه لا يختنه رجل فلجواز أن يكون صبية، ولا يباح للرجل أن يختنها، وينظر إلى فرجها؛ لأنها مراهقة، والمراهقة ممن تشتهى، فكانت كالبالغة، ولا تختنه امرأة لجواز أن يكون صبياً مراهقاً فلا يحل للمرأة الأجنبية أن تختنه، وتنظر إلى فرجه؛ لأنه كالبالغ. ثم ذكر المخرج من كونه يشترى له من ماله جارية، أو من مال أبيه، أو من بيت المال. اهـ (¬2) حاشية العدوي (1/ 596)، وقال في مواهب الجليل (3/ 259): " قال الفاكهاني: هل يختتن الخنثى المشكل أم لا. فإذا قلنا يختتن، ففي أي الفرجين، أو فيهما جميعاً. لم أر في ذلك لأصحابنا نقلاً. ثم قال: " والحق أنه لا يختتن لما علمت من قاعدة تغليب الحضر على الإباحة. ومسأله تدل على ذلك، قال ابن حبيب: لا ينكح، ولا ينكح وفي بعض التعاليق، ولا =

في مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يختن نفسه. اختاره بعض المالكية (¬2). وقيل: لا يختن في صغره، فإذا بلغ وجب ختان فرجيه. وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). فتلخص من هذه الأقوال أربعة أقوال: - أنه لا يختن بعد البلوغ إلا من أمته أو زوجته، وأما قبل المراهقة فيجوز مطلقاً. - أنه يجب على الإمام أن يزوجه ختانة. - أنه لا يجوز ختانه مطلقاً. - أنه يجب ختان فرجيه بعد البلوغ مطلقاً فإن أمكن أن يختنه من يحل له النظر إلى عورته، وإلا جاز ختانه من أجنبي ضرورة. ¬

_ = يحج إلا مع ذي محرم، لا مع جماعة رجال فقط، ولا مع جماعة نساء فقط، إلى غير ذلك من مسائله اهـ. (¬1) المجموع (2/ 57)، تحفة المحتاج (9/ 200)، مغني المحتاج (5/ 540)، تحفة الحبيب (4/ 154). (¬2) الفواكه الدواني (1/ 394). (¬3) مغني المحتاج (5/ 540)، وقال في تحفة المحتاج (9/ 200): " قيل: يُخْتَن فرجاه بعد بلوغه، ورجحه ابن الرفعة، فعليه يتولاه هو إن أحسنه، أو يشتري أمة تحسنه، فإن عجز تولاه رجل أو امرأة للضرورة اهـ. (¬4) قال في شرح منتهى الإرادات (1/ 44): ويجب ختان قبلي خنثى مشكل احتياطاً عند بلوغ؛ لأنه قبل ذلك ليس مكلفاً اهـ. وانظر كشاف القناع (1/ 80)، مطالب أولى النهى (1/ 91).

دليل القائلين بأنه يختن ولكن من أمته أو زوجته

دليل القائلين بأنه يختن ولكن من أمته أو زوجته. قالوا: لا يجوز للرجل أن يختنه لاحتمال أنه أنثى، ولا يحل له النظر إلى عورتها، ولا يحل لامرأة أجنبية أن تختنه لاحتمال أنه رجل، فلا يحل لها النظر إلى عورته، فيجب الاحتياط في ذلك، وذلك أن يشترى له من ماله جارية تختنه إن كان له مال؛ لأنه إن كان أنثى فالأنثى تختن الأنثى عند الحاجة. وإن كان ذكراً فتختنه أمته؛ لأنه يباح لها النظر إلى فرج مولاها، وإن لم يكن له مال يشتري له الإمام من مال بيت المال جارية ختانة، فإذا ختنته باعها، ورد ثمنها إلى بيت المال؛ لأن الختان من سنة الإسلام، وهذا من مصالح المسلمين، فيقام من بيت مالهم عند الحاجة والضرورة، ثم تباع ويرد ثمنها إلى بيت المال لاندفاع الحاجة والضرورة (¬1). دليل القائلين بأن على الإمام أن يزوجه امرأة ختانة. قالوا: لأنه إن كان ذكراً فللمرأة أن تختن زوجها، وإن كان أنثى فالمرأة تختن المرأة عند الحاجة (¬2). وتعقب هذا بقولهم: إن زجناه كان عقد النكاح مشكوكاً فيه، فإن صح كانت المرأة معلقة لا يمكنها الخلاص منه، ولا يتيقن أيضاً وجوب المهر بالعقد، ولا وجوب الميراث إن مات وهو مشكل، ولا يدرى هل تلزمه نفقة أم لا (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 328). (¬2) المرجع السابق، وانظر تبيين الحقائق (6/ 215). (¬3) تبيين الحقائق (6/ 215).

دليل القائلين لا يجوز ختانه مطلقا

دليل القائلين لا يجوز ختانه مطلقاً. قال البغوي: لا يختن الخنثى المشكل؛ لأن الجرح على الإشكال لا يجوز. قال النووي: وهذا الذي ذكره البغوي هو الأظهر والمختار. والله أعلم (¬1). دليل من قال يجب ختان فرجيه بعد البلوغ. قالوا: إن ختن أحد فرجيه واجب، ولا يتوصل للواجب إلا بختنهما جميعاً، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (¬2). الراجح: يترك الأمر للطبيب الثقة، فلا شك أن الطب تقدم في هذا المجال، وأصبح باستطاعته أن يتحقق من الخنثى، هل هي رجل أو امرأة، وكان بالإمكان إجراء جراحة طبية لتغليب أحد الجنسين، فإذا قال الطبيب: إن هذا الخنثى امرأة، إما لوجود رحم في جوفها، ووجود مبايض، ونحو ذلك من جريان الحيض ونحوه كان الحكم فيها حكم ختان الأنثى. وإن قال الطبيب: إنه رجل، إما لوجود خصيتين مختفيتين، ولوجود ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 351)، وعبارة أسنى المطالب (4/ 164): " ويحرم ختان الخنثى المشكل مطلقاً: أي سواء أكان قبل البلوغ أم بعده؛ لأن الجرح لا يجوز بالشك، والفرق بين هذه وبين من له كفان في يده، ولم تتميز الأصلية من الزائدة، ثم سرق نصاباً حيث تقطع إحداهما، أن الحق في مسألة السرقة متعلق بالآدمي، وحقوق الآدميين مبنية على المشاحة والمضايقة، والحق في الختان يتعلق بالله تبارك وتعالى، وحقوق الله مبنية على المسامحة والمساهلة. (¬2) المجموع (1/ 350).

هرمون الذكورة فيه، فيكون الخلاف فيه كالخلاف في ختان الرجل. وإن عجز الطب عن تحديد جنس الرجل، كان ختانه إن كان الأمر يتعلق بالطهارة من النجاسة، فله حكم الرجل، وإلا كان له حكم ختان الأنثى. والله أعلم.

فرع حكم ما لوكان للرجل ذكران

فرع حكم ما لوكان للرجل ذكران قال النووي: لوكان لرجل ذكران. قال صاحب البيان: إن عرف الأصلي منهما ختن وحده. قال صاحب الإبانة: يعرف الأصلي بالبول. وقال غيره: بالعمل، فإن كانا عاملين أو يبول منهما، وكانا على منبت الذكر على السواء، وجب ختانهما (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 350).

المبحث الرابع في حكم ختان الميت

المبحث الرابع في حكم ختان الميت اختلف الفقهاء في المسلم يموت غير مختون هل يختن بعد موته. فقيل: لا يختن، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3)، واختيار ابن تيمية (¬4). وقيل: يختن مطلقاً الكبير والصغير، وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعية (¬5)، واختيار ابن حزم (¬6). وقيل: يختن الكبير دون الصغير، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬7). دليل من قال لا يختن مطلقاً. التعليل الأول: قالوا: إن الختان كان تكليفاً، وقد زال التكليف بالموت. ¬

_ (¬1) التاج والإكليل (3/ 52). (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 351): " لو مات غير مختون فثلاثة أوجه: الصحيح الذي قطع به الجمهور لا يختن " اهـ. وقال أيضاً في (5/ 142): " وأما ختان من مات قبل أن يختن ففيه ثلاثة طرق. المذهب، وبه قطع المصنف والجمهور: لا يختن " اهـ. وانظر الغرر البهية في شرح البهجة الوردية (2/ 86)، مغني المحتاج (5/ 541). (¬3) المغني (2/ 211)، وقال في الإنصاف (2/ 495) " يحرم ختنه - يعني: الميت - بلا نزاع في المذهب " اهـ. وانظر كشاف القناع (2/ 97). (¬4) قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/ 417): " لا يختن أحد بعد الموت " اهـ. (¬5) المجموع (1/ 351). (¬6) المحلى (مسألة 620). (¬7) المجموع (1/ 351)، مغني المحتاج (5/ 541).

التعليل الثاني

التعليل الثاني: قالوا: المقصود من الختان الطهارة من النجاسة، وقد زالت الحاجة بموته. التعليل الثالث: قالوا: إن الختان جزء من الميت، فلا يقطع كيده المستحقة في قطع السرقة أو القصاص، وهي لا تقطع من الميت. ويمكن مناقشة هذا التعليل: بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن عدم قطع جزء من الميت في القصاص لحق الآدمي، وقد فات بالموت، وأما في مسألة الختان فهي عبادة وقربة، كتغسيله بعد الموت، والله أعلم. دليل من قال يختن مطلقا. الدليل الأول: قال: ثبت أن حلق العانة من الفطرة، فلا يجوز أن يجهز إلى ربه تعالى إلا على الفطرة التي مات عليها. الدليل الثاني: (474 - 38) روى عبد الرزاق في مصنفه، قال: عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، أن سعد بن مالك حلق عانة ميت (¬1). إسناده صحيح إن كان سمع أبو قلابة من أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ولا يعلم له مخالف من الصحابة، وإذا جاز هذا في العانة جاز في الختان، لأن محلهما العورة. ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (3/ 437) رقم 6235.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: القياس على أخذ شاربه، وتقليم أظفاره، ونتف إبطه. وأجيب: بأن أخذ الشارب، وتقليم الظفر، ونتف الإبط من تمام طهارته، وإزالة وسخه ودرنه، بخلاف الختان فهو قطع عضو من أعضائه، والمعنى الذي شرع له في الحياة قد زال بالموت، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه يبعث يوم القيامة غراً غير مختون، فما الفائدة في قطع عضو منه، سوف يبعث به يوم القيامة، وهو من تمام خلقه في النشأة الأخرى (¬1). (475 - 39) والدليل على كونه يحشر غير مختون، ما رواه البخاري، قال: حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا، كما بدأنا أول خلق نعيده. الآية الحديث قطعة من حديث طويل (¬2). دليل من قال يختن إن كان كبيراً. قالوا: إن الصغير قد مات قبل زمن التكليف، فلا يختن، بخلاف من مات، وهو مكلف، فقد وجب في حقه الختان فيختن ¬

_ (¬1) تحفة المودود (ص: 214). (¬2) صحيح البخاري (6526) مسلم (2860).

الفصل السادس في من يولد وهو مختون

الفصل السادس في من يولد وهو مختون اختلف الفقهاء فيمن ولد مختوناً. فقيل: يستحب إمرار الموسى على موضع الختان. اختاره بعض المالكية (¬1). وقيل: من ولد مختوناً بلا قلفة، فلا ختان عليه لا إيجاباً ولا استحباباً، فإن وجد في القلفة شيء يغطي الحشفة أو بعضها قطع، كما لو ختن ختاناً غير كامل، فإنه يجب تكميله حتى يبين جميع القلفة التي جرت العادة بإزالتها في الختان. رجحه ابن رشد من المالكية (¬2)، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال يجب إمرار الموسى. الدليل الأول: قالوا: قياس على إمرار الموسى على رأس الأقرع في حلق الرأس في الحج. ونظيره أيضاً إمرار السواك على فم من ذهبت أسنانه (¬5). ¬

_ (¬1) التاج والإكليل (4/ 395)، مواهب الجليل (3/ 258)، شرح مختصر خليل (3/ 48)، الفواكه الدواني (1/ 394)، حاشية العدوي (1/ 596). (¬2) التاج والإكليل (4/ 395). (¬3) المجموع (1/ 351،352)، أسنى المطالب (4/ 164)، حاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 211)، مغني المحتاج (5/ 540). (¬4) تحفة المودود (ص: 212). وفي تفسير القرطبي (2/ 100): " قال الميموني: قال لي أحمد: إن هاهنا رجلا ولد له ولد مختون، فاغتم لذلك غماً شديداً. فقلت له: إذا كان الله قد كفاك المؤنة، فما غمك بهذا " اهـ. (¬5) الأشباه والنظائر (ص: 407).

الدليل الثاني

والصحيح أنه لا يجب إمرار الموسى على رأس الأقرع، وإذا سقط المقيس، سقط المقيس عليه. وأما إمرار السواك على فم من ذهبت أسنانه فإن السواك لا يختص بالأسنان، فالسواك مشروع للثة واللسان، كما هو مشروع للأسنان، فلا يصح القياس عليه أيضاً. الدليل الثاني: (476 - 40) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " فكان الواجب أمرين: مباشرة الحديدة والقطع، فإذا سقط القطع فلا أقل من استحباب مباشرة الحديدة. دليل من قال لا يجب. قالوا: إن مجرد امرار الموسى على ذكره عبث، ولا فائدة منه، ولا يتقرب إلى الله تعالى بمثله، وتنزه عنه الشريعة، وإمرار الموسى غير مقصود، بل هو وسيلة إلى فعل المقصود، فإذا سقط المقصود لم يبق للوسيلة معنى (¬2). وهذا القول هو الراجح المتعين. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (7288)، ومسلم (1337). (¬2) تحفة المودود (ص: 212).

فرع

فرع ذكر ابن القيم: أن العرب تزعم أن من ولد في القمر تقلصت قلفته، وتجمعت، ولهذا يقولون: ختنه القمر!! قال ابن القيم: وهذا غير مطرد، ولا هو أمر مستمر، فلم يزل الناس يولدون في القمر، والذي يولد بلا قلفة نادر جداً، ومع هذا فلا يكون زوال القلفة تاماً، بل يظهر رأس الحشفة، بحيث يبين مخرج البول، ولهذا لا بد من ختانه ليظهر تمام الحشفة، وأما الذي يسقط ختانه بإن تكون الحشفة كلها ظاهرة، وأخبرني صاحبنا محمد بن عثمان الخليلي المحدث ببيت المقدس أنه ممن ولد كذلك (¬1). فرع آخر سئل ابن الصلاح عن صبي شمر غرلته وربطها بخيط، وتركها مدة، فتشمرت، وانقطع الخيط، وصار كالمختون بحيث لا يمكن ختانه؟ فأجاب: بأنه إن صار بحيث لا يمكن قطع غرلته، ولا شيء منها إلا بقطع غيرها، سقط وجوبه. وإن أمكن: فإن كانت الحشفة قد انكشفت كلها سقط أيضاً إلا أن يكون تقلص الغرلة واجتماعها بحيث ينقص عن المقطوع في طهارته وجماعه، فالذي يظهر وجوب قطع ما يمكن قطعه منها حتى يلتحق بالمختون في ذلك، وإن لم تنكشف كلها فيجب من الختان ما يكشف جميعها (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق (ص: 213). (¬2) أسنى المطالب (4/ 164).

الفصل السابع في موانع الختان

الفصل السابع في موانع الختان يسقط وجوب الختان لأمور، منها: الأول: أن يولد الرجل ولا قلفة له، وقد ذكرت خلاف العلماء فيه، والراجح أنه لا يجب عليه ختان. الثاني: ضعف المولود عن احتماله، بحيث يخاف عليه من التلف، ويستمر به الضعف كذلك، فهذا يعذر في تركه إذ غايته أنه واجب فيسقط بالعجز عنه كسائر الواجبات الثالث: أن يسلم الرجل كبيراً، ويخاف على نفسه منه، فهذا يسقط عنه عند الجمهور، ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه، وذكر قول الحسن أنه قد أسلم في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرومي والحبشي والفارسي فما فتش عن أحد منهم. وخالف سحنون بن سعيد الجمهور فلم يسقطه عن الكبير الخائف على نفسه. وهو قول في مذهب أحمد حكاه ابن تميم وغيره. الرابع: الموت. قال ابن القيم: فلا يجب ختان الميت باتفاق الأمة، وهل يستحب؟ فجمهور أهل العلم على أنه لا يستحب، وهو قول الأئمة الأربعة، وذكر بعض الأئمة المتأخرين أنه مستحب. وقد ذكرت أدلة كل قول في مسألة مستقلة (¬1). هذه بعض الموانع التي يذكرها الفقهاء، ويضع بعض الأطباء موانع أخرى نلحقها بهذه الموانع: ¬

_ (¬1) تحفة المودود (ص: 212 - 214).

الخامس

الخامس: إذا كان الطفل مصاباً بتشوهات خلقية في الأعضاء التناسلية. السادس: إذا كان الطفل يعاني من أمراض الدم مثل الهيموفيليا (الناعور)، أو نزف دموي، أو زيادة كبيرة في مادة البيليروبين (Bilirubin) (مادة الصفراء) في الدم، وهذه الأسباب كلها وقتيه، وبالتالي يمكن إجراء الختان بعد استقرار حالة الطفل، وحصوله على المواد المانعة للنزف، فمريض الناعور مثلا يمكن إجراء العمليات الجراحية بعد أخذ حقنة من الجلوبيولين المضاد للناعور، وهكذا في سائر أمراض الدم. أما إذا كان مصاباً بسرطان خلايا الدم البيضاء (اللوكميا) أو غيرها من الأمراض الخطيرة فلا داعي آنذاك لأجراء الختان. السابعة: أن تكون حالة الوليد غير مستقرة ويحتاج إلى إجراءات إدخاله الحضانة، فيترك حتى تتحسن حالته وتستقر (¬1). ¬

_ (¬1) الختان. د. البار (ص: 68).

الفصل الثامن في عبادة الأقلف

الفصل الثامن في عبادة الأقلف وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: في طهارة الأقلف. المبحث الثاني: في إمامة الأقلف. المبحث الثالث: في ذبيحة الأقلف. المبحث الرابع: في حج الأقلف. المبحث الخامس: في شهادة الأقلف.

المبحث الأول في طهارة الأقلف

المبحث الأول في طهارة الأقلف. اتفق الفقهاء على أنه إذا كان هناك حرج في غسل ما تحت القلفة فلا يطلب تطهيرها دفعاً للحرج. أما إذا كان تطهيرها ممكناً من غير حرج فالشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2) ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬3)، يوجبون تطهير ما تحت القلفة في الاستنجاء. لأنها واجبة الإزالة، وما تحتها له حكم الظاهر. وذهب الحنفية والمالكية (¬4)، إلى استحباب غسلها في الاستنجاء، لأن الاستنجاء عندهم سنة، وليس بواجب. وأما في الغسل الواجب: فقال المرداوي من الحنابلة: " لو خرج المني إلى قلفة الأقلف أو فرج ¬

_ (¬1) أسنى المطالب (1/ 69)، تحفة المحتاج (1/ 276)، نهاية المحتاج (1/ 224،225). (¬2) قال ابن قدامة في المغني (1/ 106): " والأقلف إن كان مُرْتَتِقاً لا تخرج بشرته من قلفته، فهو كالمختتن، وإن كان يمكنه كشفها كشفها فإذا بال واستجمر أعادها، فإن تنجست بالبول لزمه غسلها كما لو انتشر إلى الحشفة (¬3) بدائع الصنائع (1/ 26). (¬4) قال الباجي في المنتقى (1/ 69): " ومن نسي الاستجمار وصلى، فقد روى أشهب عن مالك أرجو أن لا تكون عليه إعادة. قال الشيخ أبو محمد: أراه يريد إذا مسح. وقال محمد بن مسلمة في المبسوط: من تغوط أو بال، فلم يغسله، ولم يمسح حتى صلى يعيد في الوقت ". قلت: ومفهومه: بعد الوقت لا يعيد؛ لأنه ليس بواجب عندهم.

المرأة وجب الغسل رواية واحدة. وجزم به في الرعاية، وحكاه ابن تميم عن بعض الأصحاب " (¬1). وقال الكاساني أيضاً: يجب على الأقلف إيصال الماء إلى القلفة. وقال بعضهم: لا يجب. وليس بصحيح؛ لإمكان إيصال الماء إليه من غير حرج (¬2). واختلف الحنفية في وجوب غسل القلفة في الغسل الواجب. فقال الزيلعي: لا يجب عليه أن يدخل الماء داخل جلدة الأقلف؛ لأن خِلْقَةً كقصبة الذكر. قال: وهذا مشكل؛ لأنه إذا وصل البول إلى القلفة ينتقض الوضوء، فجعلوه كالخارج في هذا الحكم، وفي حق الغسل كالداخل حتى لا يجب إيصال الماء إليه عند بعض المشايخ. وقال الكردي: يجب إيصال الماء إليه عند بعض المشايخ، وهو الصحيح، فعلى هذا لا إشكال فيه (¬3). ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 231). (¬2) المرجع السابق (1/ 34). (¬3) تبيين الحقائق (1/ 14). وأجاب عن هذا الإشكال صاحب البحر الرائق، فقال (1/ 48): " لا يجب إدخال الماء داخل جلدة الأقلف في غسله من الجنابة وغيرها للحرج الحاصل. لا لكونه خلقة كقصبة الذكر، وهذا هو الصحيح المعتمد، وبه يندفع ما ذكره الزيلعي من أنه مشكل؛ لأنه إذا وصل البول إلى القلفة انتقض وضوؤه، فجعلوه كالخارج في هذا الحكم، وفي حق الغسل كالداخل حتى لا يجب إيصال الماء إليه. وقال الكردي: يجب إيصال الماء إليه عند بعض المشايخ، وهو الصحيح، فعلى هذا لا إشكال فيه. اهـ فإن هذا الإشكال إنما نشاء من تعليله لعدم الوجوب بأنه خلقة كقصبة الذكر، وأما على ما عللنا به تبعاً لفتح القدير فلا إشكال فيه أصلاً. الخ كلامه. وانظر الجوهرة النيرة (1/ 10).

المبحث الثاني في إمامة الأقلف

المبحث الثاني في إمامة الأقلف اختلف الفقهاء في إمامة الأقلف فقيل: تصح إمامته بلا كراهة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: تكره مع الصحة، وهو مذهب الجمهور من المالكية (¬2)،والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4). ¬

_ (¬1) قال في شرح فتح القدير (7/ 422): " وتجوز صلاة الأقلف وإمامته إلا إذا تركه على وجه الرغبة عن السنة، لاخوفاً من الهلاك " اهـ. وقيده في الهداية بأن لا يتركه استخفافاً بالدين. انظر البحر الرائق (7/ 96). (¬2) قال مالك: لا أرى أن يؤم الأغلف. قال ابن رشد: فإن أم صحت صلاته، وصلاة مأموميه. انظر التاج والإكليل (4/ 394). وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 440):" وكره أغلف: وهو من لم يختتن، فتكره إمامته مطلقاً راتباً أولا خلافاً لما مشى عليه خليل من تخصيصه بالراتب " اهـ. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 330)، ومنح الجليل (1/ 364). (¬3) تحفة المحتاج (2/ 289)، مغني المحتاج (1/ 483،484)، نهاية المحتاج (1/ 173،174). (¬4) كشاف القناع (1/ 482،483)، مطالب أولي النهى (1/ 678،679). قال البهوتي في كشاف القناع: " وخصه بعضهم بالأقلف المرتفق، وهو الذي لا يقدر على فتق قلفته، وغسل ما تحتها، فأما المفتوق القلفة فإن ترك غسل ما تحت القلفة مما يمكنه غسله لم تصح إمامته ولا صلاته؛ لحمله نجاسة لا يعفى عنها مع القدرة على إزالتها، قاله بعض الأصحاب، ولعل هذا مراد من أطلق من الأصحاب الخلاف، وهو ظاهر من تعليلهم " اهـ.

وقال بعضهم: هذا إذا كان معذوراً في ترك الختان، فإن أصر على تركه بلا عذر، لم تصح إمامته (¬1). وقيل: تصح إمامته بمثله، وهو رواية عن أحمد (¬2). وقيل: لا تصح مطلقاً، وهي رواية عن أحمد (¬3). وقيل: لا تكره إمامته، وإنما يكره أن يكون إماماً راتباً اختاره بعض المالكية (¬4). هذه ملخص الأقوال في المسألة، وإليك دليل كل قول ¬

_ (¬1) قال ابن حبيب من المالكية كما في مواهب الجليل (3/ 258): الختان من الفطرة، فلا تجوز إمامة تاركه اختياراً. وقال في شرح كفاية الطالب الرباني وهو من المالكية (1/ 596): " ومن ترك الختان من غير عذر ولا علة لم تجز إمامته، ولا شهادته " اهـ. فتعقبه العدوي في حاشيته، فقال: وهذا القول ضعيف؛ إذ المذهب أن إمامة الأغلف مكروهة اهـ. وقال البهوتي مثله في كشاف القناع (1/ 482،483) وانظر مطالب أولي النهى (1/ 678،679). (¬2) الفروع (1/ 12)، وقال في الإنصاف (1/ 257): تصح إمامة الأقلف بمثله. قدمه في الرعاية، والحواشي. قال ابن تميم: تصح إمامته بمثله إن لم يجب الختان اهـ. (¬3) الإنصاف (2/ 256)، الفروع (2/ 12). (¬4) مواهب الجليل (2/ 105). وقال في الخرشي: " وكره ترتب أغلف: وهو من لم يختتن لنقص سنة الختان، وسواء تركه لعذر أم لا، وهو كذلك نص عليه ابن هارون" اهـ. وقال في حاشية العدوي على الخرشي (2/ 105): ويكره أن يكون الأغلف إماماً راتباً في الفرض والعيدين، بخلاف السفر وقيام رمضان اهـ. وقال الدسوقي في حاشيته (1/ 330): والراحج كراهة إمامته مطلقاً. وقال مثله كل من الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 440)، وصاحب منح الجليل (1/ 364).

دليل من قال تصح إمامته

دليل من قال تصح إمامته. قالوا: الأصل الصحة، ولا تبطل العبادة، أو تكره إلا بدليل شرعي، ولا دليل هنا. ولأن العدالة لا تختل بترك الختان، لأن الختان سنة عندنا. ولأن صلاته لنفسه صحيحة، فكذلك صلاته لغيره. دليل من قال تكره إمامته. الدليل الأول: وجه الكراهة عند الشافعية: احتمال وجود النجاسة تحت القلفة. ووجه الكراهة عند الحنابلة، قالوا: أما صحة الصلاة؛ فلأنه ذكر مسلم عدل قارئ، فصحت إمامته كالمختون، والنجاسة تحت القلفة بمحل لا تمكنه إزالتها منه معفو عنها لعدم إمكان إزالتها، وكل نجاسة معفو عنها لا تؤثر في بطلان الصلاة. وأما الكراهة، فلأنه مختلف في صحة إمامته. فكرهنا إمامته خروجاً من الخلاف (¬1). والحقيقة أن الكراهة حكم شرعي، يفتقر إلى دليل شرعي، والخلاف ليس من أدلة الشرع، لا المتفق عليها، ولا المختلف فيها. دليل من قال لا تصح صلاته. استدل من قال بعدم صحة إمامة الأقلف: بأن الختان واجب عليه، وأن تركه للختان موجب للفسق، ولا يرى صحة إمامة الفاسق إلا إذا كان ذلك ¬

_ (¬1) انظر كشاف القناع (1/ 482،483).

الإمام الأعظم. قال في مجمع البحرين: إن كان تاركاً للختان من غير خوف ضرر، وهو يعتقد وجوبه، فسق على الأصح. وفيه الروايتان لفسقه، لا لكونه أقلف، وإن تركه تأولاً أو خائفاً على نفسه التلف لكبر ونحوه: صحت إمامته. انتهى. قال المرداوي متعقباً: الذي قطع به المصنف، والشارح، وابن منجا وغيرهم: أن المنع لعجزه عن غسل النجاسة (¬1). قال في الإنصاف: هل المنع من صحة إمامته لترك الختان الواجب، أو لعجزه عن غسل النجاسة؟ اختلف الأصحاب في مأخذ المنع: فقال بعضهم: تركه الختان الواجب، فعلى هذا إن قلنا: بعدم الوجوب، أو سقط القول به لضرر صحت إمامته. وقال جماعة آخرون: هو عجزه عن شرط الصلاة، وهو التطهر من النجاسة فعلى هذا: لا تصح إمامته إلا بمثله (¬2). والصحيح أنه حتى على القول بفسقه، فإن إمامة الفاسق صحيحة، ولا دليل على البطلان، وكل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره. ومسألة صحة صلاة الفاسق فيها خلاف بين أهل العلم، وليس هذا مكان بحثها، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني لإكمال هذا المشروع فأصل إليها إن شاء الله في فقه الصلاة. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) الإنصاف (2/ 257). (¬2) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

المبحث الثالث في ذبيحة الأقلف

المبحث الثالث في ذبيحة الأقلف اختلف في ذبيحة الأقلف فقيل: يجوز، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يجوز. وهو مذهب ابن عباس (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). وقيل: تكره ذبيحته، وهو مذهب المالكية (¬6)، ورواية عن أحمد (¬7). دليل من قال لا تحل ذبيحته. الدليل الأول: (477 - 41) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، ¬

_ (¬1) العناية شرح الهداية (9/ 488)، الجوهرة النيرة (2/ 181)، شرح فتح القدير (9/ 488)، حاشية ابن عابدين (6/ 298). (¬2) المجموع (9/ 88)، نهاية المحتاج (8/ 113)، حاشية الجمل (5/ 237)، (¬3) المغني (9/ 311)، شرح منتهى الإرادات (3/ 418). (¬4) المجموع (9/ 88)، المغني (9/ 311). (¬5) المغني (9/ 311)، الفروع (6/ 311)، والإنصاف (10/ 389). (¬6) التاج والإكليل (4/ 319)، شرح خليل (3/ 7)، الفواكه الدواني (1/ 385)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (2/ 160) وذكر قولين: الكراهة، وعدمها، ورجح الكراهة. (¬7) الإنصاف (10/ 389).

الدليل الثاني

عن ابن عباس، قال: الأقلف لا تجوز شهادته، ولا تقبل له صلاة، ولا تؤكل له ذبيحة. قال: وكان الحسن لا يرى ذلك (¬1). [رجال ثقات، ومحمد بن بشر ممن سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط] (¬2). الدليل الثاني: (478 - 42) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو طاهر المحمد آباذي، أنبا أبو قلابة، ثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا أبو شهاب عبد ربه، عن حمزة الجزري، عن عبد الكريم، عن إبراهيم، عن علقمة، ¬

_ (¬1) المصنف (5/ 21) رقم 2334. (¬2) قال ابن حجر في الدراية (2/ 173): أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. ولا يشكل عليه إلا عنعنة قتادة. وأخرجه عبد الرزق في مصنفه (8562) قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كان ابن عباس يكره ذبيحة الأغرل، ويقول: لا تجوز شهادته، ولا تقبل صلاته. قال معمر: فسألت عنه حماداً، فقال: لا بأس بذبيحته، وتجوز شهادته، وتقبل صلاته. قال معمر: وكان الحسن يرخص في الرجل إذا أسلم بعد ما يكبر، فخاف على نفسه العنت إن اختتن أن لا يختتن، وكان لا يرى بأكل ذبيحته بأساً. ومن طريق عبد الرزاق رواه البيهقي في شعب الإيمان (6/ 396) رقم 8643. إلا أنه قال: عن معمر، عن قتادة، عن رجل، عن ابن عباس. وهو كذلك بهذا الإسناد في الجامع، لمعمر بن راشد الأزدي، وسنن البيهقي الكبرى 11/ 175). وهذا الرجل المبهم هو جابر بن زيد، كما في المصنف لابن أبي شيبة، وإسقاطه في مصنف عبد الرزاق، وإبهامه في الباقي جاء من معمر، فإن روايته عن قتادة فيها كلام، لأنه سمع منه في الصغر، فلم يحفظ. والله أعلم.

دليل من قال يجوز أكل ذبيحته

أن علياً رضي الله تعالى عنه كان لا يجيز شهادة الأقلف (¬1). [ضعيف جداً. قال البيهقي: حمزة الجزري تركوه لا يجوز الاحتجاج بخبره]. دليل من قال يجوز أكل ذبيحته. الدليل الأول: عموم قوله سبحانه وتعالى: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} (¬2). فلو كان الختان شرطاً لبينه سبحانه وتعالى، ولما أغفل الله سبحانه وتعالى ذكره. الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قد أباح ذبائح أهل الكتاب، ومنهم الأقلف، فالمسلم أولى. قال ابن قدامة: إذا أبيحت ذبيحة القاذف والزاني وشارب الخمر، مع تحقيق فسقه، وذبيحة النصراني، وهو كافر أقلف، فالمسلم أولى (¬3). الدليل الثالث: أن الله سبحانه وتعالى خاطب كل مسلم ومسلمة بقوله سبحانه: {إلا ما ذكيتم} (¬4) ولم يستثن الأقلف. ¬

_ (¬1) سنن البيهقي (8/ 325). (¬2) الأنعام: 118. (¬3) المغني (9/ 311). (¬4) المائدة: 3.

دليل من قال بالكراهة

دليل من قال بالكراهة. دليلهم على الكراهة قول ابن عباس المتقدم، فلعلهم حين رأوا أن هذا قول صحابي، ولا يعلم له مخالف من الصحابة كرهوا ذلك لقوله. الراجح حل ذبيحته. قال ابن حجر: قال ابن عباس في قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (¬1) قال: طعامهم ذبائحهم، رواه البخاري معلقاً (¬2)، وهو موصول عند البيهقي من طريق على بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال: ذبائحهم (¬3). وقائل هذا يلزمه أن يجيز ذبيحة الأقلف؛ لأن كثيراً من أهل الكتاب لا يختتنون، وقد خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - هرقل وقومه بقوله: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} (¬4) وهرقل وقومه ممن لا يختتن وقد سموا أهل الكتاب (¬5). ¬

_ (¬1) المائدة: 5. (¬2) رواه البخاري معلقاً في كتاب الأطعمة، باب: ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم. قال البخاري: قال ابن عباس: طعامهم ذبائحهم. (¬3) رواه البيهقي في سننه (9/ 282) قال: أخبرنا يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أنبأ أبو الحسن أحمد بن محمد الطرائفي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: طعامهم ذبائحهم. (¬4) آل عمران: 64. (¬5) فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 637).

المبحث الرابع في حج الأقلف

المبحث الرابع في حج الأقلف اختلف الفقهاء في حج الأقلف، فقيل: حجه معتبر. وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا حج له. وهو رواية عن أحمد، نقلها عنه حنبل، وعلل ذلك بأنها من تمام الإسلام (¬2). الراجح: ما سبق ترجيحه في إمامة الأقلف، وذبيحته، وشهادته هو الراجح هنا. والختان ليس شرطاً في صحة الحج، أو الصلاة أو غيرها، بل ولا شرطاً في صحة الطهارة على الصحيح إذا كان يمكنه تنظيف القلفة، هذا على القول بأنه ليس معفواً عنها، ولا يختلف الحكم هنا سواء كان الختان واجباً أم سنة، وسواء كان ترك الختان لعذر أو لغير عذر. ¬

_ (¬1) الخلاف فيه كالخلاف في ذبيحته وإمامته راجع النقول عن المذاهب هناك. (¬2) الفروع (6/ 311)، الإنصاف (10/ 389)، كشاف القناع (6/ 205).

المبحث الخامس في شهادة الأقلف

المبحث الخامس في شهادة الأقلف اختلف في قبول شهادة الأقلف. فقيل: تقبل شهادته إذا كان عدلاً لم يترك الختان رغبة عن السنة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: لا تقبل شهادته، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، والمفهوم من مذهب الشافعية والحنابلة؛ لأنهم يقولون بوجوب الاختتان، وترك الواجب يوجب الفسق، وشهادة الفاسق مردودة (¬4). دليل من قال تقبل شهادته. قالوا: إن الختان سنة، وتركه لا يخل بالعدالة، ولا يوجب الفسق، إلا إذا كان تاركاً للختان استخفافاً بالدين، فهنا ترد شهادته؛ لأن عدالته مجروحة. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 269)، وقيده في تبيين الحقائق (4/ 226) وفي الهداية (5/ 93) وفي درر الحكام (2/ 377) إن تركه استخفافاً بالدين فلا تقبل. وانظر العناية شرح الهداية (7/ 422). وانظر البحر الرائق (7/ 95). (¬2) قال في بلغة السالك (4/ 257) " والأقلف الذي لا عذر له في ترك الختان لا تجوز شهادته لإخلال ذلك بالمروءة اهـ. وانظر كفاية الطالب الرباني (1/ 596). وقال في تبصرة الحكام في ذكر موانع قبول الشهادة (1/ 265):" ومنه شهادة الأغلف أي ترد. قاله ابن حبيب. وقال ابن الماجشون: إن ترك ذلك من عذر فشهادته جائزة، وإن كان من غير عذر فلا شهادة له؛ لأنه ترك فطرة من سنة الإسلام، ولا عذر له " اهـ. (¬3) قال ابن حبيب: لا تقبل شهادة الأغلف. انظر تبصرة الحكام (1/ 265). (¬4) ولم أقف عليها منصوصة في كتبهم.

دليل من قال ترد شهادته

دليل من قال ترد شهادته. الدليل الأول: (479 - 43) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: الأقلف لا تجوز شهادته، ولا تقبل له صلاة، ولا تؤكل له ذبيحة. قال: وكان الحسن لا يرى ذلك (¬1). الدليل الثاني: قالوا: إن ترك الختان يوجب الفسق، لأن الختان واجب، وهو من فطرة الإسلام. والفاسق ترد شهادته، هذا دليل من يوجب الختان، وأما دليل المالكية القائلين بأن الختان سنة، قالوا: إن الشهادة ترد بترك المروءة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المصنف (5/ 21) رقم 2334. وقد سبق تخريجه.

الفصل التاسع إجابة الدعوة في وليمة الختان

الفصل التاسع إجابة الدعوة في وليمة الختان فقيل: وليمة الختان سنة، وإجابته كذلك وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: استحباب وليمة الختان محله في الذكرو دون الإناث، لأنه يخفى ويستحيا من إظهارها، لكن الأوجه استحبابه فيما بينهن خاصة، اختاره ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 10)، (¬2) قال الشافعي في الأم (6/ 159): " وكل دعوة كانت على إملاك أو نفاس أو ختان أو حادث سرور دعي إليها رجل فاسم الوليمة يقع عليها، ولا أرخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يبن لي أنه عاص في تركها كما يبين لي في وليمة العرس " اهـ. قال النووي في روضة الطالبين (7/ 333): " وفي وليمة العرس قولان، أو وجهان: أحدهما: أنها واجبة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " ولو بشاة". وأصحها أنها مستحبة، كالأضحية، وسائر الولائم، والحديث على الاستحباب، وقطع القفال بالاستحباب. وأما سائر الولائم فمستحبة، وليست بواجبة على المذهب، وبه قطع الجمهور، ولا تأكد وليمة النكاح. قال المتولي: وخرج بعضهم في وجوب سائر الولائم قولان، لأن الشافعي قال بعد ذكرها، ولا أرخص في تركها. وانظر حاشيتا قليوبي وعميرة (3/ 296)، وقال في إعانة الطالبين (3/ 357): " الوليمة مستحبة لغير العرس " وقال أيضاً (4/ 175): " وظاهر كلامهم في الولائم أن الإظهار سنة فيهما، إلا أن يقال: لا يلزم من ندب وليمة الختان إظهاره في المرأة " اهـ. (¬3) قال في الإنصاف (5/ 320) " هذا قول أبي حفص العكبري، وقطع به في الكافي، والمغني، والشرح، وشرح ابن منجا، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى، قاله في المستوعب. وقال في المغني (7/ 218) " حكم دعوة الختان، وسائر الدعوات غير الوليمة أنها مستحبة، لما فيها من إطعام الطعام، والإجابة عليها مستحبة، غير واجبة " اهـ.

الأذرعي من الشافعية (¬1). وقيل: عمل الوليمة مباح، وإجابة دعوتها مباحة، وهو مذهب المالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: الوليمة مكروهة، وحضورها مكروه، اختاره بعض المالكية (¬4)، وهو رواية عن أحمد (¬5). فتلخص لنا أن الأقوال كالتالي: قيل: سنة. وقيل: يستحب إظهار وليمة ختان الذكور دون الإناث. وقيل: مباحة. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (4/ 403). (¬2) قال في مواهب الجليل (4/ 3): فيما يؤتى من الولائم: وهي خمسة أقسام: واجبة الإجابة إليها: وهي وليمة النكاح. ومستحبة الإجابة: وهي المأدبة، وهي الطعام يعمل للجيران للوداد. ومباحة الإجابة: وهي التي تعمل من غير قصد مذموم، كالعقيقة للمولود، والنقيعة للقادم من السفر، والوكيرة لبناء الدار والخرس للنفاس، والإعذار للختان، ونحو ذلك. ومكروه: وهو ما يقصد به الفخر والمحمدة. الخ كلامه. (¬3) شرح منتهى الإرادات (3/ 33)، كشاف القناع (5/ 166)، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (5/ 234) قال في الإنصاف (8/ 320): " وهو الصحيح من المذهب. (¬4) جاء في الشامل: ووجوب إجابة الدعوة إنما هو لوليمة العرس، وأما ما عداها فحضوره مكروه إلا العقيقة فمندوب. اهـ نقله الدسوقي في حاشيته (2/ 337)، وبلغة السالك (2/ 499)، قالا: والذي في ابن رشد في المقدمات أن حضور الكل مباح إلا وليمة العرس فواجب، وإلا العقيقة فمندوب اهـ. (¬5) الإنصاف (8/ 321).

دليل من قال بالسنية

وقيل: مكروهة. دليل من قال بالسنية. الدليل الأول: (480 - 44) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي، قال: أخبرني ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس (¬1). الدليل الثاني: (481 - 45) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فكوا العاني، وأجيبوا الداعي (¬2). وهذه الأحاديث في إجابة الداعي، وهي مطلقة، فتشمل كل دعوة، سواء كانت دعوة عرس أم غيرها، أما من حيث مشروعية الوليمة؛ فلما فيها من إطعام الطعام، وهو مشروع في الجملة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1240)، ومسلم (2162) وفي رواية لمسلم: حق المسلم على المسلم ست، فزاد: وإذا استنصحك فانصح له. (¬2) صحيح البخاري (7173).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (482 - 46) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها (¬1). الدليل الرابع: (483 - 47) مار واه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: نبئت أن عمر كان إذا سمع صوتاً أنكره، وسأل عنه، فإن قيل: عرس أو ختان أقره (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). الدليل الخامس: (484 - 48) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن نافع، قال: كان ابن عمر يطعم على ختان الصبيان (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5173)، ومسلم (1429). (¬2) المصنف (3/ 495). (¬3) فيه انقطاع، ابن سيرين لم يسمع من عمر، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ 5) رقم 19738 عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، أن عمر بن الخطاب .. وذكر الأثر، ولم يقل: نبئت. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 290). وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (5/ 415) من طريق عاصم بن هلال، حدثنا أيوب به. (¬4) المصنف (3/ 561) رقم 17166.

دليل من قال بالكراهة

وإسناده ضعيف من أجل ليث. دليل من قال بالكراهة. (485 - 49) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن سلمة الحراني، عن ابن إسحاق يعني محمداً، عن عبيد الله أو عبد الله بن طلحة بن كريز، عن الحسن قال: دعي عثمان بن أبي العاص إلى ختان، فأبى أن يجيب، فقيل له، فقال: إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا ندعى له (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وحمله بعضهم على أنه كان دعوة لختان أنثى، والمستحب إخفاؤه. دليل من قال بالإباحة. قالوا: قلنا بالإباحة لأن الأصل في الأشياء الإباحة. (486 - 50) ولما رواه مسلم، من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ائتوا الدعوة إذا دعيتم (¬3). ولم نقل بالاستحباب، لأثر عثمان المتقدم، حيث قال: كنا لا نأتي الختان، ولا ندعو إليه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد سبق تخريجه، وبيان أنه ¬

_ (¬1) مسند أحمد (4/ 217). (¬2) فيه عنعنة محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وسماع الحسن البصري من عثمان بن أبي العاص مختلف فيه. والحديث أخرجه الطبراني في الكبير (8381) عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه به. (¬3) صحيح مسلم (1429).

الراجح

ضعيف (¬1). الراجح أن إجابة الدعوة مطلقاً واجبة، وهي حق للمسلم على أخيه، ولا دليل في صرفها عن الوجوب، خاصة إذا دعاك بعينك، أما إذا كان أخوك لا يفقدك، وكانت الدعوة عامة للناس، ولم تقصد بالدعوة، ولا يحزن أخوك لفقدك، أو كان يلحقك ضرر بالحضور، إما في مالك أو نفسك، فلا بأس بالتخلف. والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر ح 485.

الفصل العاشر في ضمان ما أتلف بالختان

الفصل العاشر في ضمان ما أتلف بالختان الخاتن إذا أذن له في ذلك، وكان الإذن معتبراً، وكان حاذقاً، ولم تجن يده، ولم يتجاوز ما أذن له فيه، وسرى إليه التلف؛ فإنه لا يضمن لأنه فعل فعلاً مباحاً مأذوناً له فيه، ولم يتعد ولم يفرط. قال غانم البغدادي من الحنفية: والفصاد والبزاغ، والحجام والختان لا يضمنون بسراية فعلهم إلى الهلاك إذا لم يجاوز الموضع المعتاد المعهود المأذون فيه، هذا إذا فعلوا فعلاً معتاداً، ولم يقصروا في ذلك العمل (¬1). وقال في التبصرة وهو من المالكية: إذا أذن الرجل لحجام يفصده، أو يختن ولده، أو البيطار في دابة، فتولد من ذلك الفعل ذهاب نفس أو عضو أو تلف الدابة أو العبد، فلا ضمان عليه؛ لأجل الإذن (¬2). وقال ابن قدامة من الحنابلة: " وإذا ختن الولي الصبي في وقت معتدل في الحر والبرد، لم يلزمه ضمان إن تلف به؛ لأنه فعل مأمور به في الشرع، فلم يضمن ما تلف به. اهـ (¬3). وقال أيضاً: إذا فعل الحجام والختان والمطبب ما أمروا به، لم يضمنوا بشرطين: أحدهما: أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم، ولهم بها بصارة ومعرفة؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع، وإذا قطع مع هذا كله كان ¬

_ (¬1) مجمع الضمانات (ص: 48). (¬2) تبصرة الحكام (2/ 340). (¬3) المغني (9/ 151).

مذهب الحنفية

فعلاً محرماً، فيضمن سرايته. الثاني: ألا تجني أيديهم، فيتجاوز ما ينبغي أن يقطع، فإن كان حاذقاً، وتجاوز قطع الختان إلى الحشفة، أو قطع في غير محل القطع، أو في وقت لا يصلح فيه القطع، وأشباه هذا ضمن فيه كله؛ لأنه إتلاف، لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ، فأشبه إتلاف المال، ولأن هذا فعل محرم، فيضمن سرايته كالقطع ابتداء (¬1) أما إذا تعدى، بأن فعل ما لا يجوز له فعله، أو فرط: ترك ما يجب فعله فمات، فقد اختلفوا في مقدار ما يجب عليه، وإليك النقول عنهم: مذهب الحنفية قالوا: لو قطع الختان حشفة الصبي، فمات منه، يجب عليه نصف الدية، وإن برئ منها يجب عليه الدية كاملة؛ لأنه إذا مات حصل موته بفعلين: أحدهما مأذون فيه: وهو قطع الجلدة. والثاني: غير مأذون فيه، وهو قطع الحشفة، فكان ضامناً نصف الدية. وأما إذا برئ جعل قطع الجلدة كأنه لم يكن، وقطع الحشفة غير مأذون فيه، فوجب فيه ضمان الحشفة كاملة، وهو الدية كاملة؛ لأنه عضو مقصود، لا ثاني له في النفس، فيقدر ضمانه بالدية كاملة (¬2). مذهب المالكية: جاء في التبصرة: " إذا كان الخاتن جاهلاً، أو فَعَلَ فعلاً غير ما أذن له ¬

_ (¬1) المغني مع تصرف يسير (5/ 313). (¬2) شرح العناية على الهداية (9/ 120)، الجوهرة النيرة (1/ 265)، حاشية ابن عابدين (6/ 68، 69).

المذهب الشافعي

فيه خطأ، أو يجاوز الحد فيما أذن له فيه، أو قصر فيه عن المقدار المطلوب ضمن ما تولد عن ذلك. قال ابن عبد السلام: وينفرد الجاهل بالأدب، ولا يؤدب المخطئ، وهل يؤدب من لم يؤذن له، فيه نظر " (¬1). وجاء في التاج والإكليل: وإذا أخطأ في فعله، مثل أن يسقي الطبيب المريض ما لا يوافق مرضه، أو تزل يد الخاتن أو القاطع فتجاوز في القطع، أو الكاوي فتجاوز في الكي، أو يد الحجام فيقطع غير الضرس التي أمر بها، فإن كان من أهل المعرفة، ولم يَغُرَّ من نفسه فذلك خطأ يكون على العاقلة، إلا أن يكون أقل من الثلث فيكون في ماله، وإن كان مما لا يحسن، وغَرَّ من نفسه، فعليه العقوبة. واختلف على من تكون الدية، فقال ابن القاسم: على العاقلة، وظاهر قول مالك أنها عليه، ورجحه الدسوقي في حاشيته، وقال: لأن فعله عمد، والعاقلة لا تحمل عمداً (¬2). المذهب الشافعي: ومن ختنه: أي الصبي من ولي أو غيره في سن لا يحتمله، فمات لزمه القصاص، إن علم أنه لا يحتمله، لتعديه بالجرح المهلك؛ لأنه غير جائز في ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام (2/ 340). (¬2) التاج والإكليل (7/ 558)، حاشية الدسوقي (4/ 28)، وقال في بلغة السالك (4/ 47): إذا كان الخاتن والطبيب من أهل المعرفة، ولم يخطئ في فعله، فلا ضمان، فإن أخطأ فالدية على عاقلته، فإن لم يكن من أهل المعرفة عوقب، وفي كون الدية على عاقلته أو في ماله قولان: الأول: لابن القاسم، والثاني: لمالك، وهو الراجح؛ لأن فعله عمد، والعاقلة لا تحمل عمداً.

المذهب الحنبلي

هذه الحالة قطعاً، فإن ظن احتماله، كأن قال له أهل الخبرة يحتمله، فمات، فلا قصاص، ويجب دية شبه العمد، بحثه الزركشي إلا والداً وإن علا ختنه في سن لا يحتمله، فلا قصاص عليه للبعضية، ويجب عليه دية مغلظة في ماله؛ لأنه عمد محض. والسيد في ختان رقيقه لا ضمان عليه، والمسلم في ختان الكافر لا قصاص عليه، فإن احتمله وختنه ولي، فمات، فلا ضمان عليه في الأصح؛ لأنه لابد منه، والتقديم أسهل من التأخير لما فيه من المصلحة. والثاني: يضمن؛ لأنه غير واجب في الحال، فلم يبح إلا بشرط سلامة العاقبة. ويشمل قوله: (ولي) الأب والجد والحاكم والقيم والوصي: وهو كذلك، واقتضى كلامه أن من ليس بولي يضمن قطعاً. قال الأذرعي: وبه صرح الماوردي وغيره، ونص عليه في الأم لتعديه، فيقتص منه. قال الزركشي: إلا إذا قصد بذلك إقامة الشعار، فلا يتجه القصاص؛ لأن ذلك يضمن شبهة في التعدي (¬1). المذهب الحنبلي: وقال البهوتي: وإن أمره بالختان ولي الأمر في حر أو برد أو مرض يخاف من مثله الموت من الختان فتلف بسببه ضمنه؛ لأنه ليس له. أو أمره ولي الأمر به، وزعم الأطباء أنه يتلف، أو ظن تلفه ضمن؛ لأنه ليس له (¬2). وقيل: لا يضمن، وهو رواية عن أحمد (¬3). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (5/ 541). (¬2) كشاف القناع (1/ 80). وانظر الفروع، ومع تصحيح الفروع (1/ 133، 134)، مطالب أولي النهى، في شرح غاية المنتهى (1/ 91). (¬3) انظر الفروع، ومع تصحيح الفروع (1/ 133، 134).

فملخص البحث أنه إن تعدى أو فرط ضمن لأنه جان والحالة هذه، وإن لم يتعد ولم يفرط لم يضمن؛ لأن ما ترتب على المأذون غير مضمون، وهذه قاعدة فقهية. والله أعلم.

الفرع الأول في أجرة الخاتن الاستئجار على الختان جائز. قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنه فعل يحتاج إليه، مأذون فيه شرعاً، فجاز الاستئجار عليه، كسائر الأفعال المباحة (¬1). وأجرة الختان في مال الصبي، فإن لم يكن له مال، فالأجرة تكون على أبيه، أو على من تجب عليه نفقته (¬2). وقال القاضي حسين والبغوي: يجب على السيد أن يختن عبده، أو يخلي بينه وبين كسبه ليختن نفسه. قال القاضي: فإن كان العبد زمناً فأجرة ختانه في بيت المال. قال النووي: وهذا الذي قاله فيه نظر، وينبغي أن يجب على السيد كالنفقة (¬3). ¬

_ (¬1) المغني (5/ 313). (¬2) قال في العقود الدرية من الحنفية (2/ 141): " وأجرة الأديب والختان في مال الصبي إن كان له مال، وإلا فعلى أبيه " اهـ. وقال ابن عابدين في حاشيته (6/ 751،752): " وأجرة ختان الصبي على أبيه، إن لم يكن له مال، والعبد على سيده ". اهـ وانظر الفتاوى الهندية (4/ 527). وقال النووي في المجموع (1/ 351): " وأجرة ختان الطفل في ماله، فإن لم يكن له مال فعلى من عليه نفقته. والله أعلم اهـ. (¬3) المجموع (1/ 351).

الفصل الحادي عشر في فوائد الختان

الفصل الحادي عشر في فوائد الختان ذكر الطبيب محمد علي البار في كتابه الختان فصلاً مهماً في ذكر فوائد الختان، وقد نقل بحثه من مقالات، وبحوث غربية عن أضرار ترك الختان، وسوف أنقل لك هذا الفصل لأهميته. نقل الطبيب من مقابلة للدكتور البرفيسور Te Wiseewell نشرته المجلة الأمريكية لطبيب الأسرة، وقد استعرض المكاسب الصحية الهامة للختان من أهمها ما يلي: الأول: الوقاية من الالتهابات الموضعية، في القضيب الناتجة عن وجود القلفة، ويسمى ضيق القلفة (phimosis) ويؤدي إلى حقب البول، والتهابات حشفة القضيب (Glans penis) ويدعى (Balanitis) ، أما التهابات الحشفة والقلفة معاً فيدعى (palani psthitis) وهذه كلها تستدعي إجراء الختان لعلاجها، أما إذا أزمنت فإنها تعرض الطفل المصاب لأمراض عديدة في المستقبل من أخطرها سرطان القضيب. الثاني: التهابات المجاري البولية. وقد أثبتت الأبحاث العديدة أن الأطفال غير المختونين يتعرضون لزيادة كبيرة في التهابات المجاري البوليه، وفي بعض الدراسات بلغت النسبة 39 ضعف ما هي عليه عند الأطفال غير المختونين، وفي دراسات أخرى كانت النسبة عشرة أضعاف، وفي دراسة أخرى تبين أن 95 % من الأطفال الذين يعانون من التهابات المجاري البوليه هم من غير المختونين، بينما كانت نسبة الأطفال المختونين لا تتعدى 5 %.

الثالث

والتهابات المجاري البوليه عند الأطفال خطيرة في بعض الأحيان، ففي دراسة ويزويل على 88 طفلاً أصيبوا بالتهابات المجاري البوليه كان لدى 36 % منهم نفس البكتريا الممرضة في الدم، وعانى ثلاثة من هؤلاء من التهابات السحايا، وأصيب اثنان منهم بالفشل الكلوي، ومات اثنان آخران بسبب انتشار الميكروبات الممرضة في الجسم. الثالث: الوقاية من سرطان القضيب قد أجمعت الدراسات على أن سرطان القضيب يكاد يكون معدوماً لدى المختونين، بينما نسبته لدى غير المختونين ليست قليلة، ففي الولايات المتحدة بلغت نسبة الإصابة بسرطان القضيب لدى المختونين صفر، بينما هي 2.2 من كل مائة ألف من السكان غير المختونين، وبما أن أغلبية السكان في الولايات المتحدة هم من المختونين فإن حالات السرطان هناك في حدود 750 إلى ألف حالة في كل سنة، ولو كان السكان غير مختونين لتضاعف العدد إلى ثلاثة آلاف حالة. وفي البلاد التي لا يختن فيها إلا الأقليات المسلمة مثل الصين ويوغندا فإن سرطان القضيب يشكل ما بين 12 إلى 22 % من مجموع السرطانات التي تصيب الرجال، وهي نسبة عالية جداً. الرابع: الأمراض الجنسية. فقد وجد الباحثون أن الأمراض الجنسية التي تنتقل عبر الاتصال الجنسي (غالباً بسبب الزنا واللواط) تنتشر بصورة أكبر وأخطر لدى غير المختونين، وخاصة الهربس والقرحة الرخوة (Chancroid) والزهري، والكانديدا (فطر المبيضة) والسيلان والثآليل الجنسية. وهناك أبحاث عدة تؤكد أن الختان يقلل من احتمال الإصابة بالإيدز،

الخامس

وأن غير المختونين يصابون بالإيدز بنسبة أعلى من قرنائهم من غير المختونين، ولكن ذلك لا ينفي أن المختون إذا تعرض للعدوى نتيجة اتصال جنسي بشخص مصاب بالإيدز قد يصاب بهذا المرض الخطير، وليس الختان واقياً منه، وليست هناك وسيلة حقيقية للوقاية من هذه الأمراض الجنسية العديدة سوى الابتعاد عن الزنا والخنا واللواط، وغيرها من القاذورات. الخامس: وقاية الزوجة من سرطان عنق الرحم. يرتبط سرطان عنق الرحم بعوامل عديدة أهمها: عدد المخاللين لهذه المرأة، وكلما زاد الزنا، وزاد عدد المخللين والمتصلين بها كلما زادت احتمالات الإصابة بهذا المرض الخبيث .. وهذا هو أهم العوامل. وهناك عامل الزمن، فكلما كان التعرض للاتصال الجنسي مبكراً في حياة المرأة كلما كان احتمال الإصابة بهذا المرض أكثر. وقد لاحظ الباحثون أيضاً أن زوجات المختونين أقل تعرضاً للإصابة بسرطان عنق الرحم من غير المختونين. وقد تبين أن سرطان القضيب، وسرطان عنق الرحم كلاهما مرتبط بفيروسات الثآليل الإنساني (Human Papilloma Viruses) وخاصة المجموعة رقم 16، ورقم 18. وبما أن هذه الثآليل الجنسية معدية، وبما أن غير المختونين أكثر تعرضاً لهذا، فإن احتمال إصابة زوجة غير المختون أكبر بكثير مما هي عليه عند المختون. السادس: إن عملية الختان بسيطة وسهلة، وغير مكلفة إذا تم إجراؤها في الطفل المولود. ففي الولايات المتحدة تتم ولادة 1.8 مليون طفل ذكر سنوياً، وتبلغ كلفة العملية مائة دولار لكل طفل مولود. أما إذا ترك هؤلاء

السابع

الأطفال دون ختان فإن 10 إلى 15 % منهم سيحتاجون للختان في سن متقدمة بسبب ضيق القلفة، وحقب البول، والتهابات الحشفة، والتهابات الحشفة والقلفة، وذلك يحتاج إلى إدخال المريض المستشفى، وإجراء العملية تحت التخدير العام، وتصل كلفة العملية ما بين 2000 إلى 5000 دولار بالإضافة إلى التغيب عن الدراسة أو العمل. ومعنى ذلك ببساطة أن إجراء عملية الختان لليافعين والمراهقين سيكلف مابين 360 و 900 مليون دولار. هذا إذا لم نحسب الأمراض التي يصاب بها غير المختونين، وكلفتها الباهظة .. ولهذا فإن عملية الختان في أثناء الطفولة الباكرة هو عمل اقتصادي كبير. السابع: إن مضاعفات عملية الختان في الطفولة إذا تم إجراؤها بيد طبيب مجرب ضئيلة جداً، وهي لا تتعدى اثنين من كل ألف طفل، وأغلبها من النوع البسيط مثل النزف الذي يمكن التحكم فيه بسرعة. وقد أظهرت الدراسات التي شملت أكثر من مليوني طفل مختون حدوث وفاة واحدة بسبب الختان، وكان الطفل مصاباً بالناعور (الهيموفيليا) والذي أجرى عملية الختان غير طبيب. الثامن: إن عملية تنظيف القلفة لدى غير المختونين التي يدعو لها بعض الأطباء في الغرب غير مجدية كما يقول البرفيسور ويزويل في مقاله الذي نشرته مجلة طبيب الأسرة الأمريكية، وقد أثبتت الأبحاث العديدة التي أجريت على الأطفال غير المختونين في الولايات المتحدة وأوربا صعوبة تنظيف القلفة (الغرلة) وما تحتها بانتظام، ولا يوجد أي دليل على أن عملية التنظيف ستقي من السرطان والمضاعفات الأخرى المرتبطة بعدم الختان، بل إن الأطباء أنفسهم لا يعرفون كيف يتم تنظيف القلفة بالطريقة المثلى، إذ لا توجد هذه

الطريقة مما حدى بجمعية الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية إن تنصح بترك قضيب الطفل دون محاولات التنظيف، وشد القلفة التي قد تنتهي بنزف. والحل الصحيح هو إجراء عملية الختان في وقت مبكر (¬1). هذه بعض الفوائد لعملية الختان، والتي ننهي بها بحث الختان، والذي أرجو أن أكون قد أتيت فيه على جل مباحث الختان. والله الموفق والهادي سواء السبيل. ¬

_ (¬1) الختان. د. محمد البار (ص: 75).

الباب الثاني في الاستحداد

الباب الثاني في الاستحداد ويشتمل على تمهيد وخمسة فصول. التمهيد: في تعريفه. الفصل الأول: حكم الاستحداد. الفصل الثاني: وقت الاستحداد. الفصل الثالث: في كيفية الاستحداد. الفصل الرابع: في حلق شعر الدبر. الفصل الخامس: الاستحداد للميت.

تمهيد في تعريف الاستحداد

تمهيد في تعريف الاستحداد تعريف الاستحداد: لغة واصطلاحاً الاستحداد لغة: مأخوذ من الحديدة، يقال: استحد إذا حلق عانته قال أبو عبيدة كما في تاج العروس: الاستحداد استفعال من الحديدة يعني الاحتلاق بالحديد، استعمله على طريق الكناية والتورية (¬1). الاستحداد اصطلاحاً: لا يفترق المعنى اللغوي عن المعنى الاصطلاحي، حيث عرفه الفقهاء بقولهم: الاستحداد حلق العانة (¬2). وقال النووي: الاستحداد: إزالة شعر العانة: هو الذي حول الفرج، سواء إزالته بنتف أو نورة أو حلق، مأخوذ من الحديدة: وهي الموسى التي يحلق بها (¬3). وعرفه النفراوي من المالكية، فقال: حلق العانة: هي ما فوق العسيب والفرج، وما بين الدبر والأنثيين (¬4). (487 - 51) وقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا محمد بن ¬

_ (¬1) تاج العروس (4/ 412). (¬2) نيل الأوطار (1/ 141). (¬3) تحرير الفاظ التنبيه (ص: 253). (¬4) الفواكه الدواني (2/ 306).

الوليد، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سيار، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فعليك بالكيس الكيس (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5246) ومسلم (715).

الفصل الأول حكم الاستحداد

الفصل الأول حكم الاستحداد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الاستحداد سنة (¬1). وقيل: الاستحداد واجب، اختاره ابن العربي والشوكاني دليل الجمهور على الاستحباب. (488 - 52) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬2). قال ابن قدامة: وهو ـ يعني الاستحداد ـ مستحب؛ لأنه من الفطرة، ويفحش بتركه (¬3). وقال النووي: معظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء، وفي ¬

_ (¬1) انظر في المذهب الحنفي كتاب البحر الرائق (1/ 50)، معالم القربة في طلب الحسبة (ص: 199)، وفي المذهب المالكي، قال في التمهيد (21/ 61): " قال مالك: وأحب للنساء من قص الأظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال ". وانظر التمهيد (21/ 68)، والثمر الدواني شرح رسالة القيرواني (ص: 682)، الفواكه الداوني (2/ 306)، وحاشية العدوي (2/ 577)، كفاية الطالب (2/ 579). وفي المذهب الشافعي انظر المجموع (1/ 342)، وأسنى المطالب (1/ 550)، وإعانة الطالبين (2/ 85). وفي فقه الحنابلة انظر الكافي (1/ 22)، المغني (1/ 64)، كشاف القناع (1/ 76)، شرح منتهى الإرادات (1/ 45)، مطالب أولي النهى (1/ 85). (¬2) صحيح البخاري (5891)، ومسلم (257). (¬3) المغني (1/ 64).

دليل القائلين بالوجوب

بعضها خلاف في وجوبه كالختان، والمضمضة والاستنشاق (¬1)، ولا يمتنع قرن الواجب بغيره، كما قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} (¬2)، والإيتاء واجب، والأكل ليس بواجب (¬3). دليل القائلين بالوجوب. الدليل الأول: قال ابن العربي: " والذي عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة؛ فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين" (¬4). الدليل الثاني: (489 - 53) ومما يدل على الوجوب ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى، عن يوسف بن صهيب (ح) ووكيع، ثنا يوسف، عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يأخذ من شاربه فليس منا (¬5). [إسناده صحيح] (¬6). ¬

_ (¬1) جاء ذكر المضمضة والاستنشاق في حديث عائشة عند مسلم "عشر من الفطرة .. وقد سبق الكلام عليه. (¬2) الأنعام: 141. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 148). (¬4) نقله عنه الصنعاني في العدة شرح العمدة (1/ 351). (¬5) مسند أحمد (4/ 366،368). (¬6) رجاله كلهم ثقات، وسبق الكلام عليه.

الراجح من الخلاف

فهذا الحديث يدل على أن الأخذ من الشارب واجب، بل لو قيل: إن تاركه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب لم يكن بعيداً لهذا العقاب. فهذا الحديث، والحديث الذي قبله يدلان أن سنن الفطرة ليست مستحبة، وإنما هي واجبة. والاستحداد من سنن الفطرة. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بوجوب سنن الفطرة هو ما تميل إليه نفسي، والله أعلم بالصواب.

فرع إذا قلنا بأن الاستحداد سنة فهل له أن يجبر زوجته على الاستحداد

فرع إذا قلنا بأن الاستحداد سنة فهل له أن يجبر زوجته على الاستحداد قيل: له أن يجبرها إذا طال، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬1)، وقولاً واحداً في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: ليس له إجبارها حتى يفحش بحيث ينفر التواق (¬3) والراجح أن لكل الزوجين أن يجبر الآخر على التنظف له، وهو من العشرة بالمعروف المأمور بها الزوج بقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} (¬4). وكما أنه يجب للزوج على الزوجه، يجب على الزوج أيضاً قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن} (¬5). ¬

_ (¬1) قال الشافعي في الأم (5/ 8): وله - يعني الزوج - أن يجبرها -يعني زوجته الذمية - على النظافة بالاستحداد. اهـ وإذا كان هذا في حق الزوجة الذمية التي لم تلتزم بالإسلام، فما بالك بالمرأة المسلمة التي قد التزمت أحكامه. وفي المجموع (1/ 342) قال النووي: " فيه قولان مشهوران، أصحهما الوجوب، وهذا إذا لم يفحش بحيث ينفر التواق، فإن فحش بحيث نفره وجب قطعاً. (¬2) قال ابن قدامة في المغني (7/ 225): " وله إجبارها على إزالة شعر العانة إذا خرج عن العادة، رواية واحدة ذكره القاضي. وانظر الإنصاف (8/ 351). والمقصود بالتواق: أي الذي يتوق إلى الجماع. (¬3) المجموع (1/ 342). (¬4) النساء: 19. (¬5) البقرة: 228.

الفصل الثاني في وقت الاستحداد

الفصل الثاني في وقت الاستحداد قيل: يستحب أن يحلق عانته كل جمعة، وبعضهم قال في كل أسبوع مرة. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: لا وقت له، ويقدر بالحاجة، وهو يختلف من شخص إلى آخر، والمعتبر طولها، فمتى طالت حلقها، وهو مذهب الشافعية (¬4)،وقال ¬

_ (¬1) قال في الفتاوى الهندية (1/ 357): " يحلق عانته في كل أسبوع مرة، فإن لم يفعل ففي كل خمسة عشر يوماً، ولا يعذر في تركه وراء الأربعين، فالأسبوع هو الأفضل، والخمسة عشر الأوسط، والأربعون الأبعد، ولا عذر فيما وراء الأربعين، ويستحق الوعيد كذا في القنية". اهـ وقال مثله في مجمع الأنهر (2/ 556)، وفي بريقة محمودية (4/ 90). (¬2) قال القرطبي في المفهم (1/ 515): " قوله في حديث أنس: " وقت لنا في قص الشارب ... الخ هذا تحديد أكثر المدة، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وإلا فلا تحديد فيه للعلماء إلا أنه إذا كثر ذلك أزيل " اهـ. (¬3) قال في الفروع (1/ 131): " ويفعله ـ يعني: حلق العانة ـ كل أسبوع، ولا يتركه فوق الأربعين " اهـ. وانظر الإنصاف (1/ 123). (¬4) وقال النووي في المجموع (1/ 339): " وأما التوقيت في تقليم الأظفار فهو معتبر بطولها، فمتى طالت قلمها، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال، وكذا الضابط في قص الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه قال: وقت لنا في قص الشارب .. وذكر الحديث. ثم معنى هذا الحديث أنهم لا يؤخرون فعل هذه الأشياء عن وقتها، فإن أخروها فلا يؤخرونها أكثر من أربعين يوماً، وليس معناه الإذن في التأخير أربعين مطلقاً، وقد نص الشافعي والأصحاب ـ رحمهم الله ـ على أنه يستحب تقليم الأظفار، والأخذ من هذه الشعور يوم الجمعة، والله أعلم. وقال الدمياطي في إعانة الطالبين (2/ 85): " والمعتبر في ذلك أنه مؤقت بطولها عادة، ويختلف حينئذ باختلاف الأشخاص والأحوال " اهـ.

دليل من وقت بالأربعين

ابن عبد البر إنه قول الأكثر (¬1). وأما ترك الاستحداد أكثر من أربعين يوماً فقيل: يحرم. وهو مذهب الحنفية (¬2)، ورجحه الشوكاني (¬3). وقيل: يكره كراهية شديدة، وهو مذهب الشافعية (¬4)، والمشهور عند الحنابلة (¬5). دليل من وقت بالأربعين. (490 - 54) سلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما، عن جعفر - قال يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان - عن أبي عمران الجوني، ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد (21/ 68): " ومن أهل العلم من وقت في في حلق العانة أربعين يوماً، وأكثرهم على أن لا توقيت في شيء من ذلك ". اهـ (¬2) قال ابن عابدين في حاشيته (6/ 407): " وكره تركه تحريماً لقول المجتبى، ولا عذر فيما وراء الأربعين، ويستحق الوعيد ". وانظر الفتاوى الهندية (1/ 357). (¬3) نيل الأوطار (1/ 169). (¬4) وقال في روضة الطالبين (3/ 234): " ولا يؤخرها عن وقت الحاجة، ويكره كراهة شديدة تأخيرها عن أربعين يوماً " اهـ. وقال الهيتمي في المنهج القويم (2/ 25): " وأن يزيل شعر العانة، والأولى للذكر حلقه، وللمرأة نتفه، ولا يؤخر ما ذكر عن وقت الحاجة، ويكره كراهة شديدة تأخيرها عن أربعين يوماً " اهـ. وقال مثله في روض الطالب (1/ 551). (¬5) قال في كشاف القناع (1/ 77): " ويكره تركه فوق أربعين يوماً " اهـ. وقال في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/ 440): " نعم إنما يكره تركه فوق أربعين لحديث أنس عند مسلم، قال: " وقت لنا في قص الشارب ... وذكر الحديث. وانظر مطالب أولي النهى (1/ 87).

وأجاب القائلون بعدم التوقيب عن هذا الحديث

عن أنس بن مالك قال: قال أنس: وقت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة (¬1). وقول الصحابي: " وقت لنا " على البناء للمجهول له حكم الرفع، كقول الصحابي: " أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا ". قال الشوكاني: المختار أنه يضبط بالأربعين التي ضبط بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز تجاوزها (¬2). وأجاب القائلون بعدم التوقيب عن هذا الحديث. قال النووي: معنى هذا الحديث أنهم لا يؤخرون فعل هذه الأشياء عن وقتها، فإن أخروها فلا يؤخرونها أكثر من أربعين يوماً، وليس معناه الإذن في التأخير أربعين مطلقاً، وقد نص الشافعي والأصحاب ـ رحمهم الله ـ على أنه يستحب تقليم الأظفار، والأخذ من هذه الشعور يوم الجمعة، والله أعلم. وقال القرطبي: هذا تحديد أكثر المدة، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وإلا فلا تحديد فيه للعلماء إلا أنه إذا كثر ذلك أزيل. اهـ والراجح أنه لا يجوز تجاوز ما وقت لنا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن قبل الأربعين من ترك ذلك لا يعتبر مخالفاً للسنة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (258). وقد سبق تخريجه. (¬2) نيل الأوطار (1/ 169).

الفصل الثالث في كيفية الاستحداد

الفصل الثالث في كيفية الاستحداد اختلف العلماء في كيفية الاستحداد، فقيل: السنة في الرجل حلق العانة، فلو نتفها أو قصها أو أزلها جاز، وكان تاركاً للأفضل وهو الحلق، والسنة في المرأة نتف العانة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: السنة الحلق مطلقاً للجنسين، ويكره إزلة شعر العانة بالنتف للرجال والنساء. وهو مذهب المالكية (¬3). وقيل: إن كانت شابة فالنتف في حقها أولى، وإن كانت كهلة فالأفضل في حقها الحلق، اختاره ابن العربي (¬4). وقيل: بأي شيء أزاله صاحبه فلا بأس، وهو مذهب الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) غمز عيون البصائر (3/ 381)، حاشية ابن عابدين (6/ 406). (¬2) تحفة المحتاج (9/ 375)، الأشباه والنظائر (ص: 237). قال في مغني المحتاج (6/ 144): " والسنة في الرجل حلق العانة، وفي المرأة نتفها، والخنثى مثلها " اهـ. وانظر أسنى المطالب (1/ 550)، تحفة الحبيب (1/ 256). (¬3) الثمر الدواني (ص: 682)، كفاية الطالب (2/ 579)، حاشية العدوي (2/ 443)، تفسير القرطبي (5/ 392) (¬4) تحفة الحبيب (1/ 256). (¬5) المغني (1/ 64)، الإنصاف (1/ 122)، كشاف القناع (1/ 76)، مطالب أولي النهى (1/ 85).

دليل من قال السنة الحلق ويكره النتف للجنسين

دليل من قال السنة الحلق ويكره النتف للجنسين. الدليل الأول: (491 - 55) أخرجه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬1). (492 - 56) وروى البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت حنظلة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب (¬2). (493 - 57) ومنها حديث عائشة، في مسلم، قال رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله ابن الزبير، عن عائشة قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -:عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5891)، ومسلم (257). (¬2) صحيح البخاري (5890).

الدليل الثاني

زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء. [المحفوظ أنه من قول طلق، وسيأتي تخريجه في كتاب السواك] (¬1). وجه الاستدلال: قوله في حديث أبي هريرة: " الاستحداد " فالمقصود: استعمال الحديدة في حلق العانة. وأما حديث ابن عمر وعائشة فصريحان في حلق العانة. الدليل الثاني: (494 - 58) روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا محمد بن الوليد، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سيار، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فعليك بالكيس الكيس (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تستحد المغيبة " فالاستحداد، هو استعمال الحديدة بالحلق، كما قدمنا. الدليل الثالث: قال العراقي: الحكمة في تخصيص الإبط بالنتف، والعانة بالحلق على وجه الأفضلية أن الإبط محل الرائحة الكريهة، والنتف يضعف الشعر فتخف الرائحة الكريهة،، والحلق يكثف الشعر، فتكثر فيه الرائحة (¬3). وقال ابن دقيق العيد: " والأولى في إزالة الشعر هنا الحلق اتباعاً، ويجوز ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (261). (¬2) صحيح البخاري (5246) ومسلم (715). (¬3) طرح التثريب (2/ 80).

دليل من قال يزيل الشعر بأي شيء

النتف بخلاف الإبط، فإنه بالعكس؛ لأنه تحتبس تحته الأبخرة بخلاف العانة. والشعر من الإبط بالنتف يضعف، وبالحلق يقوى، فجاء الحكم في كل من الموضعين بالمناسب " (¬1). وأما التعليل على كراهة النتف، فقالوا: إن النتف يرخي المحل بالنسبة للمرأة، ويؤذي الرجل، كما أخبر بذلك بعض الأطباء (¬2). دليل من قال يزيل الشعر بأي شيء. قالوا: إن المقصود هو إزالة الشعر، فبأي شيء زال فقد حصل المقصود (¬3). دليل من قال الحلق للرجل والنتف للمرأة. قالوا: الحكمة إن النتف يضعف الشهوة، والحلق يقويها (¬4). ولو قيل: إن النتف يضعف الشعر، والحلق يقويه، والنتف يؤخر نموه، بخلاف الحلق لكان أوجه. الراجح: الأحاديث لم تفرق بين المرأة والرجل، وكلاهما الوارد في حقه الحلق، وإزالتها بأي مزيل مباح إذا كان لا ضرر فيه. لكن السنة الحلق؛ لأنه المنصوص عليه، وغيره لم ينه عنه. ¬

_ (¬1) فتح الباري (10/ 344). (¬2) حاشية العدوي (2/ 443)، تفسير القرطبي (5/ 392)، انظر الثمر الدواني (ص: 682)، كفاية الطالب (2/ 579). (¬3) تحفة الحبيب (1/ 256). (¬4) حاشية البجيرمي على الخطيب (2/ 207،208).

الفصل الرابع في حلق شعر الدبر

الفصل الرابع في حلق شعر الدبر اختلف العلماء في حلق شعر الدبر. فقيل: يستحب حلق شعر الدبر، اختاره بعض الحنفية (¬1). وقيل: لا يشرع. اختاره ابن العربي، والفاكهي (¬2). وقيل: يباح. وهو الصواب، وهو مذهب المالكية (¬3)، واختاره النووي من الشافعية (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 481)، حاشية الطحطاوي (2/ 342). (¬2) جاء في فتح الباري (10/ 343): " قال أبو بكر بن العربي: شعر العانة أولى الشعور بالإزالة؛ لأنه يتكثف ويتلبد فيه الوسخ، بخلاف شعر الإبط، قال: وأما حلق ما حول الدبر فلا يشرع، وكذا قال الفاكهي في شرح العمدة: إنه لا يجوز، كذا قال. قال الحافظ: ولم يذكر للمنع مستنداً " اهـ (¬3) قال في الثمر الداني شرح رسالة القيرواني: " ولا بأس بحلاق غير العانة من شعر الجسد، كشعر اليدين والرجلين، وشعر حلقة الدبر ". اهـ وقال مثله في الفواكه الدواني (2/ 306)، وانظر حاشية العدوي (2/ 579). (¬4) قال النووي (1/ 341): " وأما حقيقة العانة التي يستحب حلقها فالمشهور أنها الشعر النابت حوالي ذكر الرجل وقبل المرأة وفوقهما، ورأيت في كتاب الودائع المنسوب إلى أبي العباس بن سريج، وما أظنه يصح عنه، قال: العانة: الشعر المستدير حول حلقة الدبر، وهذا الذي قاله غريب، ولكن لا مانع من حلق شعر الدبر، وأما استحبابه فلم أر فيه شيئاً لمن يعتمد غير هذا، فإن قصد به التنظف وسهولة الاستنجاء فهو حسن مندوب، والله أعلم. وقال الخطيب في مغني المحتاج (1/ 564): " والعانة الشعر النابت حوالي ذكر الرجل وقبل المرأة. وقيل: ما حول الدبر. قال المصنف: والأولى حلق الجميع. وانظر أسنى المطالب (1/ 550)، وحواشي الشرواني على تحفة المنهاج (2/ 476).

دليل من قال بالاستحباب

دليل من قال بالاستحباب. قال ابن عابدين: " والعانة: الشعر القريب من فرج الرجل والمرأة، ومثلها شعر الدبر، بل هو أولى بالإزالة، لئلا يتعلق به شيء من الخارج عند الاستنجاء بالحجر (¬1). وقال ابن دقيق العيد: كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر ذكره بطريق القياس (¬2). دليل من قال لا يشرع. قال: لم نقف في حلق شعر الدبر، لا من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا من فعله، ولا من فعل أصحابه، وعليه فلا يشرع. قال الشوكاني: الاستحداد إن كان في اللغة حلق العانة كما ذكره النووي، فلا دليل على سنية حلق الشعر النابت حول الدبر، وإن كان المعنى هو الاحتلاق بالحديد كما في القاموس، فلا شك أنه أعم من حلق العانة، ولكنه وقع في مسلم وغيره بدل الاستحداد في حديث: "عشر من الفطرة" حلق العانة، فيكون مبيناً لإطلاق الاستحداد في حديث: "خمس من الفطرة" فلا يتم دعوى سنية حلق شعر الدبر، أو استحبابه إلا بدليل، ولم نقف على حلق شعر الدبر من فعله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من فعل أحد من أصحابه (¬3). وهذا الكلام وإن سلم للشوكاني رحمه الله إلا أن نفي الاستحباب لا يدل على نفي الإباحة. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 481)، حاشية الطحطاوي (2/ 342). (¬2) فتح الباري (10/ 344)، وعون المعبود (1/ 54). (¬3) نيل الأوطار (1/ 141).

دليل من قال بالإباحة

دليل من قال بالإباحة. قالوا: إن الشعر ثلاثة أقسام: قسم نهينا عن حلقه، كشعر اللحية، وقسم أمرنا بحلقه، كشعر العانة والإبط، وقسم سكت عنه، فلم نؤمر بحلقه ولم ننه عنه، فهو على العفو والإباحة، كشعر الساق واليدين، وممكن أن ندخل في هذا شعر الدبر. الراجح أن حلق شعر الدبر على الإباحة، على أنه إن كان بقاؤه يؤثر في طهارة الاستنجاء كما لو كان كثيفاً وطويلاً، ولا يمكن تنظيفه إلا بالماء بحيث لا يطهره الاستجمار، فهنا لا شك أن القول باستحبابه قول قوي، أو الاقتصار على الاستنجاء، والله أعلم.

الفصل الخامس في حلق شعر عانة الميت

الفصل الخامس في حلق شعر عانة الميت اختلف الفقهاء في حلق عانة الميت إذا كانت طويلة: فقيل: يحرم حلق عانته، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يكره، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬3)،والشافعية (¬4). قال مالك: إن ذلك بدعة (¬5). وقيل: لا يكره، ولا يستحب، وهو قول عند الشافعية (¬6). ¬

_ (¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 301): " والسنة أن يدفن الميت بجميع أجزائه، ولهذا لا تقص أظفاره وشاربه ولحيته، ولا يختن، ولا نتف إبطه، ولا تحلق عانته " اهـ. وانظر فتح القدير (2/ 111)، والمبسوط (2/ 59)، الفتاوى الهندية (1/ 158). (¬2) قال في كشاف القناع (2/ 97): " ويحرم حلق شعر عانته - يعني الميت - لما فيه من لمس عورته " اهـ. ورجحه ابن قدامة في المغني (2/ 210) وقال في الإنصاف (2/ 494): على الصحيح من المذهب. اهـ وانظر شرح منتهى الإرادات (1/ 349). (¬3) المنتقى ـ الباجي (2/ 7)، التاج والإكليل (2/ 52)، وعبر الخرشي (2/ 136)، وعليش في منح الجليل (1/ 507) والعدوي في حاشية (1/ 412) والدسوقي في حاشيته: بالكراهية مع تنصيص بعضهم على أن ذلك بدعة. (¬4) المجموع (5/ 141)، أسنى المطالب (1/ 304)، الغرر البهية في شرح البهجة الوردية (2/ 86). وقال في تحفة المحتاج (3/ 113): الأظهر كراهته، وانظر حاشية الجمل (2/ 154)، حاشية البجيرمي على المنهج (1/ 462). (¬5) المدونة (1/ 156). (¬6) قال الشافعي في الأم (1/ 319): " فإن كان على يديه - يعني الميت - وفي عانته شعر فمن الناس من كره أخذه عنه، ومنهم من رخص فيه، فمن رخص فيه لم ير بأساً أن يحلقه بالنورة أو يجزه بالجلم " اهـ. وانظر المجموع (5/ 141)، المنثور في القواعد (3/ 147).

وقيل: إن كانت عانته طويلة استحب حلقها، وهو رأي الشافعي في الجديد (¬1)، ¬

_ (¬1) قال النووي في المجموع (5/ 141): " في قلم أظفار الميت، وأخذ شعر شاربه، وإبطه، وعانته قولان: الجديد أنها تفعل. والقديم أنها لا تفعل، وللأصحاب طريقان: أحدهما: أن القولين في الاستحباب والكراهة. أحدهما: يستحب. والثاني: يكره. وهذه طريقة المصنف هنا، وشيخه القاضي أبي الطيب في تعليقه، وصاحب الحاوي والغزالي في الوسيط والخلاصة، وصاحب التهذيب، والروياني في الحلية، وآخرين من الأصحاب. قال صاحب الحاوي: القول الجديد أنه مستحب، وتركه مكروه، وقطع المصنف في التنبيه، والجرجاني في التحرير باستحابه. والطريق الثاني: أن القولين في الكراهة وعدمها. أحدهما: يكره. والثاني: لا يكره ولا يستحب قطعاً، وبهذا الطريق قال الشيخ أبو حامد والبندنيجي وابن الصباغ والشاشي وآخرون، وهو ظاهر نص الشافعي في الأم، فإنه قال: من الناس من كره أخذه، ومنهم من رخص فيه. وأما قول الرافعي: لا خلاف أن هذه الأمور لا تستحب، وإنما القولان في الكراهة فمردود بما قدمته من إثبات الخلاف في الاستحباب مع جزم من جزم، وعجب قوله هذا مع شهرة هذه الكتب، لا سيما الوسيط والمهذب والتنبيه. وأما الأصح من القولين فصحح المحاملي أنه لا يكره، وقطع به في كتابه المقنع، وصحح غيره الكراهة، وهو المختار، ونقله البندنيجي عن نص الشافعي في عامة كتبه، منها الأم، ومختصر الجنائز، والقديم. وقد قال الشافعي في مختصر المزني: من أصحابنا من رأى حلق الشعر وتقليم الأظفار، ومنهم من لم يره. قال الشافعي: وتركه أعجب إلي. هذا نصه، وهو صريح في ترجيح تركه، ولم يصرح الشافعي في شيء من كتبه باستحبابه جزماً، إنما حكى اختلاف شيوخه في استحبابه وتركه، واختار هو تركه، فمذهبه تركه، وما سواه ليس مذهباً له، فيتعين ترجيح تركه، ويؤيده أيضاً أن الشافعي قال في المختصر والأم: ويتتبع الغاسل ما تحت أظافير الميت بعود حتى يخرج الوسخ. قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: قال أصحابنا: هذا تفريع من الشافعي على أنه يترك أظافيره، وأما إذا قلنا: تزال، فلا حاجة إلى العود، فحصل أن المذهب أو الصواب ترك هذه الشعور والأظفار؛ لأن أجزاء الميت محترمة، فلا تنتهك بهذا، ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضي الله عنهم في هذا شيء، فكره =

دليل من قال بالتحريم

وقول عند الحنابلة (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2). دليل من قال بالتحريم. قالوا: لأنه يحتاج في أخذها إلى كشف العورة ولمسها، وهتك الميت، وذلك محرم، ولا يرتكب المحرم لتحقيق سنة، تعليل آخر: قالوا: إن لم يأت فيه شيء من الشرع، ولذلك اعتبره مالك بدعة. وقال النووي: لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، فكره فعله (¬3)، بل ثبت الأمر بالإسراع بالجنازة المنافي لذلك. تعليل آخر: قالوا بأن العورة مستورة فيستغنى بسترها عن إزالتها تعليل آخر: قالوا: إذا كان الراجح أنه لا يختن، فكذلك لا تحلق عانته، ولأن شعر العانة جزء من الميت، وأجزاؤه محترمة. دليل من قال بالكراهة. استدل القائلون بالكراهة بما استدل به من قال بالتحريم، وقد سبق ذكر أدلة من قال بالتحريم. ¬

_ = فعله، وإذا جمع الطريقان حصل ثلاثة أقوال: المختار: يكره. والثاني: لا يكره، ولا يستحب. والثالث: يستحب. اهـ وقال في تحفة المحتاج (3/ 112): " والجديد أنه لا يكره في غير المحرم أخذ ظفره ـ يعني الميت - وشعر إبطه وعانته وشاربه، بل يستحب لما فيه من النظافة " اهـ. (¬1) قال ابن قدامة في المغني (2/ 210): " وروى عن أحمد أن أخذها مسنون " اهـ. وانظر الفروع (2/ 207). (¬2) المحلى (مسألة: 620). (¬3) المجموع (5/ 141).

دليل من قال بالجواز أو الاستحباب

دليل من قال بالجواز أو الاستحباب. التعليل الأول: قالوا: بأن حلق العانة من باب التنظيف، فيشرع حلقها كإزالة الوسخ. التعليل الثاني: قالوا: إذا كان حلق العانة من الفطرة، فلا يترك الميت من تحقيقها. قال ابن حزم: وإن كانت أظفار الميت وافرة، أو شاربه وافياً أو عانته أخذ كل ذلك؛ لأن النص قد ورد وصح بأن كل ذلك من الفطرة، فلا يجوز أن يجهز إلى ربه تعالى إلا على الفطرة التي مات عليها (¬1). الدليل الثالث: (495 - 59) روى عبد الرزاق في مصنفه، قال: عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، أن سعد بن مالك حلق عانة ميت (¬2). إسناده صحيح إن كان سمع أبو قلابة من أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهذا لا يعرف له مخالف من الصحابة، فيكون فعله حجة. الدليل الرابع: أن كشف العورة يجوز للحاجة، كالتداوي والختان، ونحوهما، فهذا منه، ويقتصر على قدر الحاجة، مع أنه قد يمكنه إزالة عانته بلا نظر إلى العورة، وبدون أن يباشر مسها، كما في النورة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة: 620). (¬2) مصنف عبد الرزاق (3/ 437) رقم 6235.

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف: الذي يظهر لي أن كشف العورة من الميت لا يجوز، لكن إن كان الذي يحلق عانته ممن يجوز له الاطلاع على عورته جاز له أخذه، وإلا حرم، لأن حرمة الميت كحرمة الحي، والله أعلم.

الفرع الأول إذا قيل بجواز حلق عانة الميت فكيف تؤخذ؟

الفرع الأول إذا قيل بجواز حلق عانة الميت فكيف تؤخذ؟ إذا قلنا تزال هذه الشعور، فللغاسل أن يأخذ شعر الإبط والعانة بالمقص أو الموسى أو النورة، وهو مذهب الشافعية قال النووي: هذا هو المذهب والمنصوص في الأم، وبه قطع الجمهور (¬1)، وهو مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يتعين إزالتها بالنورة في العانة لئلا ينظر إلى عورته، وهو وجه في مذهب الشافعية، قال النووي: وبهذا قطع البندنيجي والمحاملي في المجموع (¬3)، واختاره بعض الحنابلة (¬4). وقيل: يستحب النورة في العانة والإبط جميعاً، وهو وجه في مذهب الشافعية. قال النووي: وبه جزم صاحب الحاوي (¬5). قال المرداوي: وعلى كل قول، لا يباشر ذلك بيده، بل يكون عليها ¬

_ (¬1) قال النووي في المجموع (5/ 141): والمذهب التخيير، لكن لا يمس ولا ينظر من العورة إلا قد الضرورة. اهـ وانظر روضة الطالبين (2/ 108). (¬2) قال في الإنصاف (2/ 494،495): " وقيل: يؤخذ بحلق أو قص، قدمه ابن رزين في شرحه، وحواشي ابن مفلح، وقال: نص عليه. قال المرداوي: وهو المذهب، فإن أحمد نص عليه في رواية حنبل، وعليه المصنف والشارح ". الخ كلامه رحمه الله. (¬3) المجموع (5/ 141). (¬4) الإنصاف (2/ 494): " فعلى رواية جواز أخذه - يعني حلق شعر العانة للميت - يكون بنورة، لتحريم النظر. قال في الفصول: لأنها أسهل من الحلق بالحديد، واختاره القاضي. (¬5) المجموع (5/ 141).

حائل (¬1). وعلى كل إذا أمكن إزالتها بدون النظر إلى العورة، وبدون ملامسة البشرة تعين ذلك؛ لأنه المقصود هو إزالة شعر الميت، وهذا حاصل فلا يجوز كشف العورة مع عدم الحاجة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الإنصاف (2/ 495).

الفرع الثاني هل يدفن مع الميت ما أخذ من شعره وظفره

الفرع الثاني هل يدفن مع الميت ما أخذ من شعره وظفره قال النووي: في الشعور المأخوذة من شاربه وإبطه وعانته وأظفاره، وما انْتُتِف من تسريح شعره ولحيته، وجلدة الختان إذا قلنا: يختن، وجهان: أحدهما: يستحب أن يصر كل ذلك معه في كفنه، ويدفن، وبهذا قطع القاضي حسين، وصاحبه البغوي، والغزالي في الوسيط والخلاصة، وصاحب العدة، والرافعي، وغيرهم. وأشار إليه المصنف في كتابه في الخلاف. والثاني: يستحب أن لايدفن معه، بل يوارى في الأرض غير القبر، وهذا اختيار صاحبه، فإنه حكى عن الأوزاعي استحباب دفنها معه، ثم قال: والاختيار عندنا أنها لا تدفن معه؛ لأنه لم يرد فيه خبر، ولا أثر، والله أعلم (¬1). قلت: والقول بأنها تدفن معه، هو مذهب الحنابلة، فقد قال المرداوي: وكل ما أخذ، فإنه يجعل مع الميت، كما لو كان عضو سقط منه (¬2). والذي يظهر لي أنها لا تدفن معه، وليست كالعضو منه، لأنها في حكم المنفصل، ويكفي أنه لم يأت نص من كتاب أو سنة يأمر بذلك، والأصل عدم المشروعية حتى يرد دليل على ذلك. ¬

_ (¬1) المجموع (5/ 142). (¬2) الإنصاف (2/ 495).

الفرع الثالث لا يلي حلق العانة أجنبي

الفرع الثالث لا يلي حلق العانة أجنبي لا يجوز أن يلي حلق العانة أجنبي، فيطلع على العورة، وهذا مما لا خلاف فيه مع القدرة قال ابن قدامة في المغني: وإذا طلى بنورة فلا بأس، إلا أنه لا يدع أحداً يلي عورته، إلا من يحل له الاطلاع عليها من زوجة أو أمه (¬1). وقال ابن حجر عن كشف العورة من أجل حلق العانة: " وأما من لا يحسن الحلق، فقد يباح له إن لم تكن له زوجة تحسن الحلق أن يستعين بغيره بقدر الحاجة، لكن محل هذا إذا لم يجد ما يتنور به، فإنه يغني عن الحلق، ويحصل به المقصود، وكذا من لا يقوى على النتف، ولا يتمكن من الحلق إذا استعان بغيره في الحلق لم تهتك المروءة من أجل الضرورة " (¬2). قلت: الحاجة تبيح كشف العورة، كالتداوي ونحوه، والقاعدة: أن كل ما كان محرماً لغيره فإن الحاجة تبيحه، وكل ما كان محرماً لذاته لا تبيحه إلا الضروة. ولذلك أبيحت العرايا، مع أن فيها وقوعاً في ربا الفضل، قالوا: لأن ربا الفضل محرماً لغيره، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 64). (¬2) فتح الباري (10/ 348).

الفرع الرابع في استخدام النورة

الفرع الرابع في استخدام النورة التنور: الطلاء بالنورة، يقال: تنور: تطلى بالنورة ليزيل الشعر ولا أعلم خلافاً في جواز إزالة شعر العانة بالنورة (¬1). ويحصل أصل السنة بأي وجه كان من الحلق والقص والنتف واستعمال النورة؛ إذ المقصود حصول النظافة إلا أن الأفضل الحلق؛ لأنه المنصوص عليه. وهل ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنور؟ (496 - 60) الجواب، روى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا كامل بن العلاء، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنور، ويلى عانته بيده (¬2). ¬

_ (¬1) انظر البحر الرائق (3/ 11)، والفتاوى الهندية (5/ 358)، وحاشية ابن عابدين (2/ 481)، وفي مذهب المالكية انظر حاشية العدوي (2/ 444)، الثمر الدواني (ص:682)، كفاية الطالب (2/ 579)، وفي مذهب الشافعية، قال النووي في المجموع (1/ 342): "والسنة في العانة الحلق، ولو نتفها أو قصها، أو أزالها بالنورة جاز " اهـ.، طرح التثريب (2/ 76). وفي المذهب الحنبلي انظر الفروع (1/ 130،131)، الآداب الشرعية (3/ 331)، (¬2) مسند أبي داود الطيالسي (1610).

[إسناده منقطع، ورجح البيهقي إرساله] (¬1). ¬

_ (¬1) رجاله ثقات، إلا أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من أم سلمة، قاله أبو زرعة كما في المراسيل لابن أبي حاتم (47). والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 152) من طريق أبي داود الطيالسي به. ورواه ابن ماجه في سننه (3752) حدثنا علي بن محمد، حدثني إسحاق بن منصور، عن كامل أبي العلاء به. ورواه أبو نعيم في حلية الأوليا (5/ 67) من طريق عاصم بن علي، قال: ثنا كامل أبو العلاء به. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/ 326) حدثنا علي بن عبد العزير، ثنا أبو غسان ثنا كامل أبو العلاء، عن حبيب بن أبي ثابت، عن إنسان، عن أم سلمة به. فهنا واضح أن هناك واسطة بين حبيب، وبين أم سلمة رضي الله عنها، وهو مبهم لا تعلم درجته. ورواه ابن ماجه (3751) قال: حدثنا علي بن محمد ثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا حماد بن سلمة عن أبي هاشم الرماني عن حبيب بن أبي ثابت عن أم سلمة به. ورجاله ثقات إلا عبد الرحمن بن عبد الله أبو سعيد لقبه جردقه، صدوق ربما وهم. والحديث قد اختلف في وصله وإرساله، فرواه أبو العلاء وأبو هاشم الرماني كما سبق موصولاً. ورواه منصور، عن حبيب بن أبي ثابت مرسلاً فقد رواه عبد الرزاق (1127)، عن الثوري، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أطلى ولي عانته بيده. قال البيهقي: أسنده كامل أبو العلاء وأرسله من هو أوثق منه قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا هارون بن سليمان أنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن منصور عن حبيب بن أبي ثابت قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلي عانته بيده. ورواه البيهقي أيضاً (1/ 152) قال: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، ثنا أبو العباس =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، حدثنا ابن وهب أخبرنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تنور ولي عانته بيده. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 442) من طريق سفيان، أخبرنا منصور، عن حبيب به. ورواه أيضاً من طريقين عن معشر، وحبيب بن أبي ثابت، قالا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. ورواه من طريق حماد بن زيد، أخبرنا أبو هاشم، عن حبيب بن أبي ثابت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وروى ابن أبي شيبة (1/ 105) حدثنا هشيم وشريك، عن ليث أبي المشرفي، عن أبي معشر، عن إبراهيم، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أطلى ولي عانته. ورواه بحشل في تاريخ واسط (2/ 122) من طريق القاسم بن عيسى، ثنا هشيم به. وهذا سند ضعيف أيضاً أولاً: لكونه مرسلاً وثانياُ: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في العلل ومعرفة الرجال (2/ 276) حدثني أبي، قال: حدثنا هشيم، عن ليث أبي المشرفي، عن أبي معشر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اطلى ولي عانته بيده. سمعت أبي يقول: لم يسمع هشيم من ليث أبي المشرفي شيئاً. قلت: وهو مدلس مكثر من التدليس. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 442) أخبرنا الفضل بن دكين وموسى بن داود، قالا: أخبرنا شريك، عن ليث أبي المشرفي. قال الفضل: عن إبراهيم. وقال موسى: عن أبي معشر، عن إبراهيم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسم إذا أطلى بالنورة ولي عانته. وأخرج ابن عدي في الكامل (2/ 359) قال: حدثنا عبد الله بن خالد بن يزيد المؤذن وكان صالحاً، ثنا عمار بن رجاء، ثنا الحسين بن علوان، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: اطلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنورة، فلما فرغ منها، قال: يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنها طيبة وطهور، وإن الله يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم. وهذا حديث موضوع، فيه الحسين بن علوان. قال فيه ابن عدي: وللحسين بن عدي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أحاديث كثيرة، وعامتها موضوعة، وهو في عداد من يضع الحديث. الكامل (2/ 360). ونقل الشوكاني في النيل عن الحافظ ابن كثير في كتابه الذي ألفه في الحمام كلاماً طويلاً منه: " وأخرج أحمد، عن عائشة، قالت: " أطلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنورة، فلما فرغ منها قال: يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنه طلية وطهور، وإن الله يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم " وليس في المسند، ولم أقف عليه إلا في الكامل لابن عدي. والله أعلم. وأخرج أبو داود في المراسيل (ص: 327): حدثنا أبو كامل الفضيل بن الحسين الجحدري، حدثنا عبد الواحد، حدثنا صالح بن صالح، حدثنا أبو معشر، أن رجلاً نور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما بلغ العانة كف الرجل، ونور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه. وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن بين أبي معشر وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفاوز. وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 152) وابن عساكر في تاريخ دمشق (11/ 175) حدثني سليمان بن سلمة الحمصي، حدثنا بقية، حدثنا سليمان بن ناشرة الألهاني، قال: سمعت محمد بن زياد الألهاني يقول: كان ثوبان جاراً لنا، وكان يدخل الحمام، فقلت له، فقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل الحمام، قال: وكان يتنور. وهذا إسناد ضعيف جداً فيه سليمان بن سلمة الحمصي الخبائري. قال ابن أبي حاتم: سمع منه أبى ولم يحدث عنه، وسألته عنه، فقال: متروك الحديث، لا يشتغل به، فذكرت ذلك لابن الجنيد، فقال: صدق كان يكذب، ولا أحدث عنه بعد هذا. الجرح والتعديل (4/ 121) رقم 529. قال النسائي: ليس بشيء. الضعفاء والمتروكين (253). وله ترجمة مطولة في لسان الميزان (3/ 93) فارجع إليها إن شئت. وسليمان بن ناشرة. قال ابن حبان: يعتبر حديثه من غير رواية سليمان بن سلمة عنه. الثقات (6/ 381). وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. قال: سليمان بن ناشرة الألهاني، روى عن محمد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بن زياد الشامي، روى عنه سليمان بن سلمة الخبائري الذي هو متروك الحديث سمعت أبى يقول ذلك. الجرح والتعديل (4/ 147). وأما محمد بن زياد الألهاني، فهو ثقة. وبقية قد صرح في التحديث. وأخرج الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/ 374) أنا هلال بن محمد بن جعفر الحفار، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، نا محمد بن صالح الأنماطي، نا العباس بن عثمان المعلم، حدثني الوليد، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنور في كل شهر، ويقلم أظفاره في كل خمس عشرة. هلال بن محمد بن جعفر الحفار، شيخ الخطيب، قال: كتبنا عنه، وكان صدوقًا. تاريخ بغداد (14/ 75). إسماعيل بن محمد الصفار، ثقة. لسان الميزان (1/ 432). محمد بن صالح الأنماطي. قال الخطيب: كان حافظا متقنا ثقة. تاريخ بغداد (5/ 358). العباس بن عثمان المعلم، قال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ. الوليد هو: الوليد بن مسلم. قال الهيثم بن خارجة: قلت للوليد: قد أفسدت حديث الأوزاعي. قال: كيف؟ قلت: تروي عن الأوزاعي، عن نافع. وعن الأوزاعي، عن الزهري ويحيى بن سعيد. وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبد الله بن عامر، وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة وقره وغيرهما، فما يحملك على هذا؟ قال: أنبل الأوزاعي عن هؤلاء. قلت: فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء وهؤلاء، وهم ضعفاء أحاديث مناكير، فأسقطتهم أنت، وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات، ضعف الأوزاعي. قال: فلم يلتفت إلى قولي. تهذيب التهذيب (11/ 133). وقال الحافظ في التقريب: ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية، وهنا قد عنعن، فهي علة في الإسناد. عبد العزيز بن أبي رواد. قال ابن عدي: في بعض رواياته ما لا يتابع عليه. الكامل (5/ 290). وقال النسائي: لا بأس به. تهذيب الكمال (18/ 136). =

وقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتنور، وهو ضعيف أيضاً. (497 - 61) فقد روى أبو داود في المراسيل، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الوهاب - يعني ابن عطاء - عن سعيد، عن قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتنور، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان (¬1). ¬

_ = وقال أحمد بن حنبل: جل صالح الحديث، وكان مرجئا وليس هو في التثبت مثل غيره. المرجع السابق. وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. المرجع السابق. وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (2/ 96). وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه التقشف حتى كان لا يدري ما يحدث به، فروى عن نافع أشياء لا يشك من الحديث صناعته إذا سمعها أنها موضوعة، كان يحدث بها توهماً لا تعمداً، ومن حدث على الحسبان وروى على التوهم حتى كثر ذلك منه سقط الاحتجاج به وإن كان فاضلا في نفسه، وكيف يكون التقي في نفسه من كان شديد الصلابة في الإرجاء، كثير البغض لمن انتحل السنن، ثم قال ابن حبان: روى عبد العزيز، عن نافع، عن ابن عمر نسخة موضوعة، لا يحل ذكرها إلا على سبيل الاعتبار منها. المجروحين (2/ 136). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 6). وقال الحافظ في التقريب: صدوق عابد ربما وهم، ورمي بالإرجاء. فالإسناد ضعيف. والمتن منكر، ولو كان هذا من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل شهر لتوافرت الدواعي على نقله بالأحاديث الصحيحة، فعنعنة الوليد، وانفراد ابن أبي رواد عن نافع بهذه السنة المتكررة كل شهر يدل على نكارة المتن، مع ضعف الإسناد. (¬1) المراسيل (ص: 328). ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 152).

[إسناده حسن لولا أنه مرسل] (¬1). (498 - 62) وأخرج ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام، عن الحسن، قال: كان رسول الله صلى الله وأبو بكر وعمر لا يطلون (¬2). رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، ومرسلات الحسن من أضعف المراسيل. (499 - 63) وروى البيهقي، قال: أخبرنا أبو نصر بن قنادة، ثنا أبو علي الرفاء، ثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله الطائي ببغداد، ثنا أبو عمار الحسن بن حارث المروزي (¬3)، ثنا علي بن الحسن بن شقيق، عن أبي حمزة السكري، عن مسلم الملائي، عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتنور، فإذا كثر شعره حلقه. قال البيهقي: مسلم الملائي ضعيف في الحديث، فإن كان حفظه فيحتمل أن يكون قتادة أخذه أيضا عن أنس (¬4). ¬

_ (¬1) رجاله ثقات إلا عبد الوهاب بن عطاء فإنه صدوق، وهو من أصحاب سعيد القدماء، وقد روى عنه قبل الاختلاط على الصحيح. (¬2) المصنف (1/ 105) رقم 1186. (¬3) صوابه الحسين بن حريث المروزي، ذكره صاحب الجرح والتعديل في ترجمة على بن الحسن بن شقيق (6/ 180). (¬4) سنن البيهقي الكبرى (1/ 152). دراسة الإسناد: أبو نصر بن قتادة لم أقف على ترجمته. وأبو علي الرفاء، ثقة. انظر ترجمته في تاريخ بغداد (8/ 172 - 174)، وسير أعلام النبلاء (16/ 16، 17) =

وأما الصحابة رضي الله عنهم، فقد ورد عن ابن عمر، ويعلى بن مرة الثقفي، وغيرهما. (500 - 64) روى البخاري في الأدب المفرد، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا سكين بن عبد العزيز بن قيس، عن أبيه، قال: دخلت على عبد الله بن عمر وجارية تحلق الشعر وقال النورة ترق الجلد (¬1). ¬

_ = أبو العباس أحمد بن عبد الله الطائي، له ترجمة في تاريخ بغداد 4/ 220) وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. الحسين بن حريث، علي بن حسن بن شقيق، وأبو حمزة السكري محمد بن ميمون كلهم ثقات. أبو مسلم الملائي: قال البخاري: يتكلمون فيه. التاريخ الكبير (7/ 271)، الضعفاء الصغير (343). وقال في موضع آخر: ضعيف ذاهب الحديث، لا أروى عنه. تهذيب التهذيب (10/ 122). قال عمرو بن على: كان يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدى لا يحدثان عنه، وشعبة وسفيان يحدثان عنه، وهو منكر الحديث جداً. الجرح والتعديل (8/ 192). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن مسلم الأعور، فقال: يتكلمون فيه، وهو ضعيف الحديث، وسألت أبا زرعة عنه، فقال: كوفى ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان وكيع لا يسميه. قلت: لم؟ قال: لضعفه. وقال أيضا: سئل أبي عنه، فقال: هو دون ثور وليث بن أبي سليم ويزيد بن أبي زياد، وكان يضعف. المرجع السابق. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: لا شيء. وقال بن أبي خيثمة، عن ابن معين: يقال إنه اختلط. المرجع السابق. وقال ابن حجر في الفتح (10/ 344): " حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتنور، وكان إذا كثر شعره حلقه، سنده ضعيف جداً ". اهـ (¬1) الأدب المفرد (1291).

[إسناده ضعيف] (¬1). (501 - 65) وروى البيهقي في السنن الكبرى، قال: أخبرناه يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد الليثي، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يطلي فيأمرني أطليه حتى إذا بلغ سفلته وليها هو. وبهذا الإسناد قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الله بن عمر، عن نافع، أن بن عمر كان لا يدخل الحمام، وكان يتنور في البيت، ويلبس إزاراً، ويأمرني أطلي ما ظهر منه، ثم يأمرني أن أؤخر عنه فيلي فرجه (¬2). [حسن لغيره، أسامة وعبد الله بن عمر فيهما ضعف ويقوي أحدهما الآخر] (¬3). ¬

_ (¬1) فيه عبد العزيز بن قيس: قال أبو حاتم الرازي: مجهول. الجرح والتعديل (5/ 392). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 124). وفي التقريب: مقبول: يعني إن توبع. ورواه الطبراني في الكبير (12/ 266) رقم 13069، قال: حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، ثنا خالد بن خداش، ثنا سكين بن عبد العزيز، عن أبيه قال: دخلت على عبد الله بن عمر، وجارية تحلق عنه الشعر، فقال: إن النورة يرق الجلد. (¬2) السنن الكبرى (1/ 152). (¬3) دراسة الإسناد: يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى: هو أبو زكريا المزكى. ثقة حافظ. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 295)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1058). وأبو العباس: محمد بن يعقوب، هو الأصم، ثقة حافظ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/ 452)، وتذكرة الحفاظ (3/ 860).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وبحر بن نصر الخلاني المصري، قال ابن أبي حاتم: كتبنا عنه بمصر، وهو صدوق ثقة. الجرح والتعديل (2/ 419). أسامة بن زيد الليثي: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبى: روى أسامة بن زيد، عن نافع أحاديث مناكير. قلت له: إن أسامة حسن الحديث. فقال: إن تدبرت حديثه، فستعرف النكرة فيها. الجرح والتعديل (2/ 284). وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسْأَل عن أسامة بن زيد، فقال: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه، ولا يحتج به. الجرح والتعديل (2/ 284). وقال ابن عدي: أسامة بن زيد كما قال يحيى بن معين: ليس بحديثه، ولا برواياته باس، وهو خير من أسامة بن زيد بن أسلم بكثير. الكامل (1/ 394). وقال عمرو بن علي: حدثنا يحيى بن سعيد بأحاديث أسامة بن زيد، ثم تركه. الضعفاء الكبير للعقيلي (1/ 17). وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/ 217). قال يحيى بن معين: أسامة بن زيد الليثي، هو الذي روى عنه جعفر بن عون وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، ومعن بن عيسى، وهو ثقة كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (2/ 284). وقال عثمان الدارمي عنه: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (1/ 183). وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال الآجري، عن أبي داود: صالح إلا أن يحيى يعني ابن سعيد أمسك عنه بآخرة. المرجع السابق. وذكره ابن المديني في الطبقة الخامسة من أصحاب نافع. المرجع السابق. وقال الدارقطني: لما سمع يحيى القطان أنه حدث عن عطاء، عن جابر رفعه: أيام مني كلها منحر، قال: اشهدوا أني قد تركت حديثه. قال الدارقطني: فمن أجل هذا تركه البخاري. المرجع السابق. =

(502 - 66) أما ماورد عن يعلى بن مرة، فقد روى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، ثنا محمد بن المنهال - أخو حجاج - ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، حدثني عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفي، عن أبيه، قال: أطليت يوماً، ثم تخلقت، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فناولته يدي، فقلت: يا رسول الله صل علي، فقال: ما هذا الذي على يدك؟ ¬

_ = وقال الحاكم في المدخل: روى له مسلم واستدللت بكثرة روايته له على أنه عنده صحيح الكتاب، على أن أكثر تلك الأحاديث مستشهد بها، أو هو مقرون في الإسناد. المرجع السابق. وقال ابن القطان الفاسي: لم يحتج به مسلم، إنما أخرج له استشهاداً. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق يهم. وأما عبد الله بن عمر: قال عمرو بن على: كان يحيى لا يحدث عن عبد الله بن عمر وكان عبد الرحمن يحدث عنه. الجرح والتعديل (5/ 109). قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل، عن العمرى الصغير، فقال: صالح لا بأس به قد روي عنه، ولكن ليس مثل عبيد الله. المرجع السابق. قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين، قال: عبد الله بن عمر صويلح. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: سمعت أبى يقول: عبد الله العمرى أحب إلي من عبد الله بن نافع، يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق. وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه. التاريخ الكبير (5/ 145)، والضعفاء الصغير (188). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (325). وفي التقريب: ضعيف.

فقلت: إني تنورت، ثم تخلقت، فقال: ألك امرأة؟ قلت: لا. قال: ألك سرية؟ قلت: لا. قال: فانطلق فاغسله، ثم اغسله ثلاث مرات (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). فالراجح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما تنور قط، ولكن ابن عمر لا يبعد أن يكون قد تنور بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) المعجم الكبير (22/ 266) رقم 681. (¬2) فيه عبد الرحمن بن إسحاق: أبو شيبة الواسطي. قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل، عن أبى شيبة الواسطي عبد الرحمن بن إسحاق؟ فقال: ليس بشيء، منكر الحديث. الجرح والتعديل (5/ 213). وقال الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: ضعيف، ليس بشيء. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى، عن أبى شيبة عبد الرحمن بن إسحاق، فقال: هو ضعيف الحديث، منكر الحديث، يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق. وقال أيضاً: سئل أبو زرعة عن عبد الرحمن بن إسحاق الذي يروى عنه ابن أبى زائدة وأبو معاوية، فقال: ليس بقوي. المرجع السابق. وقال البخاري: فيه نظر. التاريخ الكبير (5/ 259). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (358). وفي التقريب: ضعفيف. وفيه أيضاً: عبد الله بن يعلى بن مرة: ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (5/ 204). وقال ابن حبان: لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد لكثرة المناكير في روايته، على أن ابنه واه أيضا، فلست أدري البلية فيها منه، أو من ابنه. المجروحين (2/ 25). وقال العقيلي: حدثني آدم بن موسى، قال: سمعت البخاري، قال: عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفى فيما روى ابنه عمر عنه فيه نظر، وروى عبد الرحمن بن إسحاق عنه فيه نظر. الضعفاء الكبير (2/ 318).

والنورة وإن كانت جائزة إلا أنها لا تخلو من مواد كيماوية قد تؤثر على الجلد، وبعض الناس يكون لديه حساسية منها، فلا يستطيع استعماله، وإذا استعمله التهب جلده، وكأنه أصابته نار، فالأفضل في إزالة شعر العانة ما أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو، والله أعلم.

الباب الثالث في تقليم الأظفار

الباب الثالث في تقليم الأظفار

[تمهيد]

[تمهيد] المبحث الأول تعريف تقليم الأظفار تعريف تقيلم الأظفار قلم: من باب ضرب. يقال: قَلَمَ الظفر والحافر والعود: يَقْلِمه قَلْماً، وقَلَّمَه تقليماً. وقلمت الظفر: إذا أخذت ما طال منه، فالقلم أخذ الظفر. وقلَّم أظفاره: شدد للكثرة. والقُلاَمة بالضم: ما سقط منها. وقيل: ما قطع منها. والأظفار: جاء في لسان العرب جمع: ومفرده: ظُفْر وظُفُر. ويجمع على أظفار وأُظْفور، وأظافير. ويكون للإنسان وغيره. وأما قراءة من قرأ: كل ذي ظِفْر بالكسر، فشاذ غير مأنوس به، إذ لا يعرف ظِفر بالكسر. وقالوا: الظفر لما لا يصيد. والمخلب لما يصيد. وكله مذكر، صرح به اللحياني.

المبحث الثاني الدليل على أن تقليم الأظفار من سنن الفطرة

المبحث الثاني الدليل على أن تقليم الأظفار من سنن الفطرة الدليل على ذلك: (503 - 67) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬1). الحديث الثاني: (504 - 68) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد ابن أبي رجاء، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت حنظلة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬2). الدليل الثالث: (505 - 69) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -:عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5891)، ومسلم (257). (¬2) صحيح البخاري (5890)، ومسلم (259).

اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء. [المحفوظ أنه من قول طلق، وقد سبق تخريجه في كتاب السواك] (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (261).

الفصل الأول في حكم تقليم الأظفار

الفصل الأول في حكم تقليم الأظفار الخلاف فيها كالخلاف في الاستحداد، وقد سقنا الخلاف فيها في ماسبق، والأئمة الأربعة يرون استحباب قص الأظفار (¬1). أما ابن العربي والشوكاني فيريان وجوب إزالتهما. وقد ذكرنا دليل كل قول في مسألة الخلاف في الاستحداد، فارجع إليها غير مأمور. قال النووي: " وأما تقليم الأظفار فمجمع على أنه سنة، وسواء فيه الرجل والمرأة، واليدان والرجلان ... الخ كلامه رحمه الله (¬2). والصحيح أن الخلاف في وجوب التقليم محفوظ، والقول بأن تقليم الأظفار سنة مطلقاً حتى ولو فحشت، ليس بالقوي، فإن ترك الأظفار حتى تطول فيه من القبح والتوحش وشناعة الصورة، ومخالفة الآدمية ما فيه، كما أنه قد يتعلق بتركها تقصير في تحصيل الطهارة الشرعية. قال ابن دقيق العيد: ¬

_ (¬1) وفي مذهب الحنفية الفتاوى الهندية (5/ 357)، مجمع الأنهر (2/ 556)، وفي مذهب الشافعية انظر المجموع (1/ 393)، طرح التثريب (2/ 77)، تحفة المحتاج (9/ 375)، مغني المحتاج (6/ 145)، معالم القربة في طلب الحسبة (ص: 199)، حاشية الجمل (5/ 267)، وفي مذهب الحنابلة انظر المغني (1/ 64)، الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 330)، كشاف القناع (1/ 75)، غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (1/ 437)، مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (1/ 86). (¬2) المجموع (1/ 393).

وفي ذلك - يعني: تقليم الأظفار - معنيان: أحدهما: تحسين الهيئة، والزينة، وإزالة القباحة من طول الأظفار. والثاني: أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه، لما عساه قد يحصل تحتها من الوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة، وهذا على قسمين: أحدهما: أن لا يخرج طولها عن العادة خروجاً بيناً، وهذا الذي أشرنا إلى أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه، فإنه إذا لم يخرج طولها على العادة يعفى عما يتعلق بها من يسير الوسخ، وأما إذا زاد على المعتاد فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة، وقد ورد في بعض الأحاديث الأشارة إلى هذا (¬1). اهـ (506 - 70) وأما ما رواه أحمد، قال: ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا يزيد بن عمرو المعافري، عن رجل من بنى غفار، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يحلق عانته، ويقلم أظفاره، ويجز شاربه فليس منا (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (1/ 124،125). (¬2) مسند أحمد (5/ 410). (¬3) في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. يزيد بن عمرو المعافري، قال أبو حاتم الرازي: لا بأس به. الجرح والتعديل (9/ 281). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 625). وقال الذهبي: صدوق. الكاشف (6344). وفي التقريب: صدوق. وباقي رجاله ثقات.

قال العراقي بعد أن ساق هذا الحديث: "رواه أحمد في مسنده، وهذا يدل على وجوب ذلك، والجواب عنه من وجهين: أحدهما: إن هذا لا يثبت؛ لأن في إسناده ابن لهيعة، والكلام فيه معروف، وإنما يثبت منه الأخذ من الشارب فقط، كما رواه الترمذي وصححه، والنسائي من حديث زيد بن أرقم (¬1)، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا". والثاني: أن المراد على تقدير ثبوته ليس على سنتنا وطريقتنا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن " (¬2). والصحيح أنه إذا ثبت في الشارب، ثبت في بقية خصال الفطرة، ولا فرق، وأن قوله: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " مثله كقوله - صلى الله عليه وسلم - لصاحب الصبرة من الطعام: " من غش فليس مني " فكما أن الغش حرام، فكذلك ترك الشارب وباقي سنن الفطرة. (507 - 71) والحديث رواه مسلم، قال: حدثني يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعا، عن إسماعيل بن جعفر - قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل - قال: أخبرني العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام، كي يراه الناس من غش فليس مني (¬3). ¬

_ (¬1) سبق الكلام على تخريجه، والكلام على دلالته. (¬2) طرح التثريب (2/ 82). (¬3) صحيح مسلم (102).

الفرع الأول هل يجبر الزوج زوجه على تقليم الأظفار

الفرع الأول هل يجبر الزوج زوجه على تقليم الأظفار إذا قيل بأن تقليم الأظفار سنة، فهل للزوج إجبار زوجه على تقليم الأظفار إذا طالت: فيه قولان، هما وجهان في مذهب الحنابلة. الأول: له إجبارها على ذلك، وهو رأي الشافعي (¬1). والثاني: ليس له إجبارها. والصحيح الأول: قال المرداوي في تصحيح الفروع: فيه وجهان: أحدهما: له إجبارها، وهو الصحيح في التصحيح، وقطع به في الوجيز والحاوي الصغير، وقدمه في الرعايتين. والوجه الثاني: ليس له إجبارها على أخذ ذلك. وقال في الرعاية الكبرى: وقيل: إن طال الشعر والظفر وجب إزالتهما، وإلا فلا (¬2). والراجح أن تقليم الأظفار من النظافة المأمور بها كل من الزوجين، وكما قلنا في الاستحداد في قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن} (¬3). ¬

_ (¬1) قال الشافعي في الأم (5/ 8): " وله - أي للزوج - عندي أن يجبرها على الغسل من الجنابة، وعلى النظافة والاستحداد وأخذ الأظفار والتنظف بالماء من غير جنابة " اهـ. وانظر تحفة المحتاج (7/ 325). (¬2) تصحيح الفروع المطبوع من الفروع (5/ 327)، الإنصاف (8/ 352). (¬3) البقرة: 228.

الفرع الثاني توفير الأظفار في الحرب

الفرع الثاني توفير الأظفار في الحرب استحسن الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2) توفير الأظفار في الحرب والسفر دليلهم على هذا الاستحباب. الدليل الأول: (508 - 72) ما رواه مسدد كما في المطالب العالية، قال: حدثنا عيسى - هو ابن يونس - عن أبي بكر بن أبي مريم، عن أشياخه، قال: إن عمر رضي الله عنه قال: وفروا أظفاركم في أرض العدو؛ فإنها سلاح (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). الدليل الثاني: (509 - 73) قال أبو بكر الجصاص، حدثنا عبد الباقي، قال: حدثنا جعفر بن أبي القتيل، قال: حدثنا يحيى بن جعفر، قال: حدثنا كثير بن هشام، ¬

_ (¬1) البحر الرائق (5/ 82)، وانظر الفتاوى الهندية (5/ 357). حاشية ابن عابدين (6/ 405). (¬2) انظر الفروع (1/ 130)، كشاف القناع (1/ 76). (¬3) المطالب العالية (2012). (¬4) فيه علتان: الأولى: ضعف أبي بكر بن أبي مريم. والثانية: الإبهام في الإسناد. تخريج الحديث: الحديث رواه ابن أبي شيبة كما في مشاريع الأشواق (1/ 499) عن عيسى بن يونس به. ولم أقف عليه في المطبوع.

قال: حدثنا عيسى بن إبراهيم، عن الحكم بن عمير الثمالي، قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نحفي الأظفار في الجهاد، وقال: إن القوة في الأظفار (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن (3/ 102). (¬2) فيه عبد الباقي، قال فيه البرقاني: في حديثه نكرة، وأما البغداديون يوثقونه، وهو عندنا ضعيف. فتعقبه الخطيب، فقال: لا أدري لأي شيء ضعفه البرقاني، وقد كان عبد الباقي من أهل العلم والدراية والفهم، ورأيت عامة شيوخنا يوثقونه، وقد كان تغير في آخر عمره، حدثني الأزهري، عن أبي الحسن بن الفرات، قال: كان عبد الباقي بن قانع قد حدث به اختلاط قبل أن يموت بمدة نحو سنتين، فتركنا السماع منه، وسمع منه قوم في اختلاطه. تاريخ بغداد (11/ 88) وقال الدارقطني: كان يحفظ، ولكنه يخطئ ويصر. المرجع السابق. وقال ابن حزم: اختلط ابن قانع قبل موته بسنة، وهو منكر الحديث تركه أصحاب الحديث جملة. فتعقبه الحافظ ابن حجر، فقال: ما أعلم أحداً تركه، وإنما صح أنه اختلط فتجنبوه. وقال ابن حزم أيضاً: ابن سفيان في المالكيين نظير بن قانع في الحنفيين، وجد في حديثهما الكذب البحت، والبلاء المبين، والوضع اللائح، فإما تغييراً وإما حملاً عمن لا خير فيه من كذاب ومغفل يقبل التلقين، وأما الثالثة وهي أن تكون البلاء من قبلهما وهي ثالثة الأثافي نسأل الله السلامة. لسان الميزان (3/ 383). وقال أبو بكر بن عبدان: ابن قانع لا يدخل في الصحيح. المرجع السابق. وفي إسناده جعفر بن أبي القتيل: لم أقف عليه. وفيه أيضاً: عيسى بن إبراهيم. لم أقف على روايته عن الحكم بن عمير مباشرة، بل يروي عنه بواسطة على ضعفه. فقد روى ابن عدي في الكامل جملة من أحاديثه، عن الحكم بن عمير، وبينه وبين الحكم راو. انظر الكامل (5/ 250). وقد جاء في ترجمته ما يلي: قال البخاري: عيسى بن إبراهيم الهاشمي، عن جعفر بن برقان، روى عنه كثير بن =

وقال ابن قدامة في المغني: قال أحمد: قال عمر: وفروا الأظفار في أرض العدو، فإنه سلاح. قال أحمد: يحتاج إليها في أرض العدو، ألا ترى أنه إذا أراد أن يحل الحبل أو الشيء، فإذا لم يكن له أظفار لم يستطع (¬1). وذكر ابن نجيم علة أخرى، فقال: " ويندب للمجاهد في دار الحرب توفير الأظفار، وإن كان قصها من الفطرة؛ لأنه إذا سقط السلاح من يده، ودنا منه العدو، ربما يتمكن من دفعه بأظافيره (¬2). قال في الآداب الشرعية بعد أن ذكر أنه يسن أن لا يحيف على الأظفار في الغزو والسفر، وذكر أثر عمر، وكلام أحمد، قال: وفي معناه السفر. يعني: إذا استحب هذا في الجهاد، فالسفر يستحب له أيضاً، لأنه بمعناه. قلت: أما استحسان مثل هذا فلا بأس، لكن التعبير بالسنية ينبغي أن يقتصر فيه على ما ورد فيه دليل شرعي، من كتاب أو سنة، أو إجماع، أو قياس صحيح، أو قول صحابي لا يعلم له مخالف، لأن التعبير بالسنية حكم شرعي، يفتقر إلى دليل شرعي. والله أعلم. ¬

_ = هشام، منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/ 407). وقال النسائي: مثله. الضعفاء والمتروكين (426). عباس بن محمد الدوري قال سمعت يحيى بن معين يقول عيسى بن إبراهيم الذي يروى عنه بقية وكثير بن هشام ليس بشيء. الجرح والتعديل (6/ 271). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن عيسى بن إبراهيم، فقال: متروك الحديث. المرجع السابق. (¬1) المغني (9/ 167). (¬2) البحر الرائق (5/ 82).

الفصل الثاني هل يستحب تقليم الأظفار يوما معينا

الفصل الثاني هل يستحب تقليم الأظفار يوماً معيناً قيل: يستحب تقليم الأظفار كل جمعة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)،وقول في مذهب الحنابلة، إلا أن الحنفية استحبوا أن يكون ذلك بعد صلاة الجمعة (¬3)، وأما الحنابلة فاستحبوا أن يكون ذلك قبل الزوال: أي قبل الصلاة (¬4). وقيل: كل خميس، وهو قول أيضاً في مذهب الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 322)، الفتاوى الهندية (5/ 358)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (2/ 556)، حاشية ابن عابدين (6/ 406). (¬2) قال في الفواكه الدواني (2/ 306): " قص الأظفار سنة للرجل والمرأة إلا في زمن الإحرام، وأقل زمن قصه الجمعة لطلبه كل يوم جمعة ". اهـ وقال في حاشية العدوي (2/ 579): " وليس للقص - يعني: قص الأظفار - ولا لغيره من أنواع الفطرة حد إلا بقدر ما يرى، إلا أنه ينبغي أن يكون من الجمعة إلى مثلها، كما يفيده التحقيق، وظاهره كظاهر تت، حيث قال: وينبغي أن يكون من يوم الجمعة إلى مثله، خصوص يوم الجمعة. قال ابن ناجي: وما يعتقده العوام عندنا من التحرج يوم الأربعاء، فلا يعول عليه ". اهـ وقال في كفاية الطالب (2/ 579): " قص الأظفار للرجال والنساء، وينبغي أن يكون من الجمعة للجمعة، ولا حد في البداءة في قص الأظفار ". اهـ (¬3) حاشية ابن عابدين (6/ 406) .. (¬4) الفروع (1/ 130)، الإنصاف (1/ 122)، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 86، 87) (¬5) انظر المصادر السابقة.

دليل من قال يستحب التقليم يوم الجمعة

وقيل: يخير، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). قال النووي: إن التوقيب في تقليم الأظفار معتبر بطولها، فمتى طالت قلمها، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال. وأخرج عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، أنه كان يقلم أظفاره يوم الخميس، فقيل له غداً يوم الجمعة، فقال: إن السنة لا تؤخر. دليل من قال يستحب التقليم يوم الجمعة. الدليل الأول (510 - 74) روى الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدثنا عتيق بن يعقوب الزبيري، قال: حدثنا إبراهيم بن قدامة، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقلم أظفاره، ويقص شاربه يوم الجمعة، قبل أن يروح إلى الصلاة (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 130) الإنصاف (1/ 122) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 86، 87). (¬2) المعجم الأوسط (846). (¬3) الحديث مداره على عتيق بن يعقوب، عن إبراهيم بن قدامة، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة. وعتيق بن يعقوب: ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه، وقال: سمعت أبا زرعة يقول: بلغني أن عتيق بن يعقوب حفظ الموطأ في حياة مالك. الجرح والتعديل (6/ 46). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن سعد: كان ملازماً لمالك بن أنس، قد كتب عنه كتبه الموطأ وغيره، وكان يلزم عبد الله بن عبد العزيز العمري العابد، ولم يزل عتيق من خيار المسلمين. الطبقات الكبرى (5/ 439). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 527). وثقه الدارقطني. لسان الميزان (4/ 129). وإبراهيم بن قدامة. ذكره ابن حبان في الثقات. (8/ 59). وقال الذهبي: مدني لا يعرف. الميزان (1/ 53). وقال البزار: ليس بحجة. كشف الأستار (1/ 299). وذكره ابن القطان، فقال: إبراهيم لا يعرف البتة. لسان الميزان (1/ 92). ومع ضعف إسناده، فقد اختلف على عتيق بن يعقوب. فرواه أحمد بن يحيى الحلواني، كما في الأوسط للطبراني، والعباس بن أبي طالب، كما في كشف الأستار (1/ 299)، كلاهما عن عتيق بن يعقوب، عن إبراهيم بن قدامة، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة مرفوعاً. ورواه بهلول الأنباري، كما في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه، لأبي الشيخ الأصبهاني (809) عن عتيق، عن إبراهيم بن قدامة، عن أبي عبد الله الأغر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقص شاربه ويأخذ من أظفاره قبل أن يروح إلى صلاة الجمعة. فأرسله. وأظن أن هذا التخليط من إبراهيم بن قدامة. والله أعلم. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 170): " رواه البزار والطبراني في الأوسط، وفيه إبراهيم بن قدامة. قال البزار: ليس بحجة إذا تفرد، وقد تفرد بهذا. قال الهيثمي: وذكره ابن حبان في الثقات. وضعفه الحافظ في الفتح (10/ 346) قال: " وأقرب ما وقفت عليه في ذلك ما أخرجه البيهقي من مرسل جعفر الباقر، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة وله شاهد موصول من حديث أبي هريرة، لكن سنده ضعيف". اهـ

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (511 - 75) روى أبو الشيخ، قال: حدثنا ابن أبي عاصم النبيل، نا الحسن بن علي الحلواني، نا عمرو بن محمد، نا محمد بن القاسم الأسدي، نا محمد بن سليمان المشمولي، نا عبيد الله بن سلمة بن وهرام، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ شاربه وأظفاره كل جمعة (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬

_ (¬1) أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه (810). (¬2) فيه ثلاث علل: العلة الأولى: في إسناده محمد بن القاسم. قال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (545). وقال أحمد بن حنبل: يكذب أحاديثه أحاديث سوء موضوعة، ليس بشيء. الضعفاء الكبير (4/ 126). وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، ويأتي عن الأثبات بما لم يحدثوا، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه بحال، وكان بن حنبل يكذبه. المجروحين (2/ 287). وقال ابن عدي بعد أن ساق جملة من أحاديثه: ولمحمد غير ما ذكرت وعامة أحاديثه لا يتابع عليه. الكامل (6/ 248). وقال العجلي: كان شيخاً صدوقاً عثمانياً. ثقات العجلي (2/ 250). وقال يحيى بن معين: ثقة قد كتبت عنه. الجرح والتعديل (8/ 65). وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي، لا يعجبني حديثه. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: شيخ. المرجع السابق. وقال الآجري، عن أبي داود: غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة. تهذيب التهذيب =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (512 - 76) روى أبو الشيخ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن داود بن منصور، نا عثمان بن خرزاذ، نا العباس بن عثمان الراهبي، نا الوليد بن مسلم، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، ¬

_ = (9/ 361). وقال الدارقطني: كذاب. المرجع السابق. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. المرجع السابق. العلة الثانية: محمد بن سليمان بن مشمول وقيل: مسمول. قال أبو حاتم الرازي: ليس بالقوي ضعيف الحديث كان الحميدي يتكلم فيه. الجرح والتعديل (7/ 267). وقال النسائي: ضعيف مكي. الضعفاء والمتروكين (517). وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه في إسناده ولا متنه. الكامل (6/ 207). وذكره العقيلي والساجي والدولابي وابن الجارود في الضعفاء، وقال ابن حزم: منكر الحديث. لسان الميزان (5/ 185). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 439). ذكره بن شاهين في الثقات، وزعم أن يحيى بن معين وثقه. المرجع السابق. وفيه أيضاً عبيد الله بن سلمة بن وهرام. قال الذهبي: روى الكتاني عن أبي حاتم تليينه. ميزان الاعتدال (3/ 9). وقال ابن المديني لا أعرفه. الجرح والتعديل (5/ 318). وقال الأزدي: منكر الحديث. لسان الميزان (4/ 105). العلة الثالثة: سلمة بن وهرام، مع كونه اختلف فيه. فلم أقف على سماعه من عبد الله بن عمرو. وفي التقريب: صدوق من السادسة، ومعنى ذلك أنه لم يلق أحداً من الصحابة، فيكون الإسناد فيه انقطاع.

الدليل الرابع

عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقص أظفاره يوم الجمعة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (513 - 77) روى أبو الشيخ، قال: علي بن الحسين الدوري، نا أبو مصعب، حدثني إبراهيم بن قدامة، عن عبد الله بن محمد بن حاطب، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من شاربه، أو ظفره يوم الجمعة (¬3). [ضعيف] (¬4). ¬

_ (¬1) أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه (4/ 107) رقم 811. (¬2) في إسناده الوليد بن مسلم، وقد عنعن، وهو متهم بتدليس التسوية. وفيه عبد العزيز بن أبي رواد، مختلف فيه. وقد سبق أن نقلت كلام أهل الجرح والتعديل عنه في مسألة هل ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنور؟ فارجع إليه غير مأمور. (¬3) أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه (4/ 109) رقم 812. (¬4) إسناده ضعيف فيه علتان: الأولى: فيه إبراهيم بن قدامة، وقد سبقت ترجمته قبل قليل. الثاني: الانقطاع، عبد الله بن محمد بن حاطب، من أتباع التابعين، لم يدرك الصحابة. وعبد الله هذا لم أعرفه. فإن كان هو عبد الله بن الحارث بن محمد بن حاطب، ونسب إلى جده، فإن عبد الله لم يدرك جده (الصحابي) لأن عبد الله من الطبقة الثامنة، أي من طبقة أتباع التابعين. فيكون الإسناد منقطعاً. ونسبه في تهذيب الكمال: عبد الله بن الحارث بن محمد بن عمر بن محمد بن حاطب، فيكون بينه وبين محمد بن حاطب مفاوز. والموجود في الجرح والتعديل (5/ 33) والتاريخ الكبير (5/ 67) والثقات لابن حبان (8/ 330): عبد الله بن الحارث بن محمد بن حاطب. وقد روى الطبراني في المعجم الكبير (19/ 239)، قال: حدثنا بشر بن موسى، ثنا =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (514 - 78) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سلم، قال: حدثنا أحمد بن ثابت فرخويه الرازي، قال: حدثنا العلاء بن هلال الرقي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قلم أظفاره يوم الجمعة ¬

_ = الحميدي، ثنا عبد الله بن الحارث بن محمد بن حاطب الجمحي، عن أبيه، عن جده محمد بن حاطب، قال: لما قدمت بي أمي من أرض الحبشة حين مات حاطب، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أصابت إحدى يدي حريق من نار، فقالت: يا رسول الله هذا محمد بن حاطب، وقد أصابه هذا الحرق من النار. قال محمد بن حاطب: فلا أكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا أدري أنفث أو مسح على رأسي، ودعا في بالبركة وفي ذريتي. قال الهميثمي في مجمع الزوائد (9/ 415): " الحارث بن محمد بن حاطب لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات" اهـ. وهذا توثيق من الهيثمي لعبد الله بن الحارث، والإسناد صريح أن أن عبد الله بن الحارث بن محمد بن حاطب الصحابي. وليس فيه محمد بن عمر. وأياً كان، فالإسناد منقطع، سواء كان إسناده عبد الله بن الحارث بن محمد بن حاطب. أو عبد الله بن الحارث بن محمد بن عمر بن محمد بن حاطب. على أن عمر بن محمد بن حاطب له ذكر في الجرج والتعديل (6/ 127)، والتاريخ الكبير (6/ 183)، والثقات لابن حبان (5/ 151) فيتأمل. وقد قال الحافظ في التهذيب: " لم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم ومن تبعهما في نسبه محمد بن عمر، بل قالوا: عبد الله بن الحارث بن محمد بن حاطب، وفي الطبراني الكبير من طريقه، عن أبيه، عن جده محمد بن حاطب قال: لما قدمت بي أمي ... وذكر الحديث الذي سقته قبل قليل. اهـ تهذيب التهذيب (5/ 157).

الدليل السادس

وقي من السوء مثلها (¬1). [موضوع] (¬2). الدليل السادس: (515 - 79) ما رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان، عن أبي داود، ثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعاً: من قلم أظافيره يوم الجمعة قبل الصلاة أخرج الله منه كل داء، وأدخل مكانه الشفاء والرحمة (¬3). ¬

_ (¬1) المعجم الأوسط (5/ 85) رقم 4746. (¬2) فيه أحمد بن ثابت بن عتاب الرازي فرخويه. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبا العباس بن أبي عبد الله الطهراني، يقول: كانوا لا يشكون أن فرخويه كذاب. الجرح والتعديل (2/ 44). وفيه العلاء بن هلال بن عمر الباهلي. قال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث، ضعيف الحديث، عنده عن يزيد بن زريع أحاديث موضوعة. الجرح والتعديل (6/ 361). وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد، ويغير الأسماء، لا يجوز الاحتجاج به بحال. روى عن يزيد بن زريع، عن أيوب، عن ابن مليكة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قلم أظفاره يوم الجمعة عافاه الله من السوء كله إلى يوم الجمعة الأخرى، رواه المنكدر عن هلال بن العلاء عن أبيه. المجروحين (2/ 184). وقال النسائي: هلال بن العلاء روى عن أبيه غير حديث منكر، فلا أدري منه أتى أو من أبيه. تهذيب التهذيب (8/ 172). وقال الخطيب: في بعض حديثه نكرة. المرجع السابق. (¬3) أخبار أصبهان (1/ 247).

الدليل السابع

[ضعيف جداً] (¬1). الدليل السابع: (516 - 80) وروى البيهقي في السنن الكبرى، قال: أخبرنا أبو بكر بن الحسن وأبو زكريا بن أبي إسحاق، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، هو الأصم، ثنا بحر بن نصر، قال: قرئ على ابن وهب، أخبرك حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقلم أظفاره، ويقص شاربه في كل جمعة (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). (517 - 81) وهو أصح مما رواه البخاري في الأدب المفرد، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني ابن أبي رواد قال أخبرني نافع، أن ابن عمر كان يقلم أظافيره في كل خمس عشرة ليلة ويستحد في ¬

_ (¬1) فيه طلحة بن عمرو، وهو متهم. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن طلحة بن عمرو، فقال: لا شيء، متروك الحديث. الجرح والتعديل (4/ 478). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (316). وفي التقريب: متروك. (¬2) سنن البيهقي (3/ 244). (¬3) رجاله ثقات. أبو بكر بن الحسن: هو أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ثقة، غزير العلم أكثر عنه البيهقي. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 356،358). وأبو زكريا بن أبي إسحاق هو المزكي، والأصم، كلاهما ثقة، وقد سبقت ترجمتهما. وبقية رجال الإسناد ثقات.

دليل من قال: يستحب تقليم الأظفار يوم الخميس

كل شهر (¬1). دليل من قال: يستحب تقليم الأظفار يوم الخميس. قال الحافظ في الفتح: " لم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وقد أخرجه جعفر المستغفري بسند مجهول، ورويناه في مسلسلات التيمي من طريقه. اهـ (¬2). (518 - 82) وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، عن أبي هريرة من أراد أن يأمن من الفقر وشكاية العمى والبرص والجنون، فليقلم أظفاره يوم الخميس بعد العصر (¬3). ولا أعلم له أصلاً (519 - 83) وروى ابن الجوزي في الموضوعات من من طريق هناد بن ¬

_ (¬1) الأدب المفرد (1258). ففي إسناده شيخ البخاري محمد بن عبد العزيز الرملي الواسطي، قال الحافظ في مقدمة فتح الباري (ص:441): وثقه العجلي. وقال يعقوب بن سفيان: كان حافظاً. وقال أبو حاتم: هو إلى الضعف ما هو. وقال ابن حبان: ربما خالف. قال الحافظ: روى له البخاري في صحيحه حديثين أحدهما في تفسير سورة النساء، عنه، عن حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، حديث الشفاعة. وأخرجه في التوحيد من وجه آخر، عن زيد بن أسلم. وثانهيما: في الاعتصام: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " الحديث وأخرجه في أحاديث الأنبياء من وجه آخر عن زيد بن أسلم. اهـ فالبخاري استشهد به فقط، ولم يحتج به. كما أن في إسناده ابن أبي رواد، مختلف فيه، وقد سبقت ترجمته. (¬2) فتح الباري (10/ 346). (¬3) الفردوس بمأثور الخطاب (5865).

إبراهيم، قال: أنبأنا إسماعيل بن محمد بن علي البخاري، قال: حدثنا محمد بن نصر بن خلف، قال: حدثنا سيف بن حفص السمرقندي، قال: حدثنا علي بن الحسين، قال: حدثنا الحسن بن شبل، قال: أنبأنا الفضل بن خالد النحوي، عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قلم أظفاره يوم السبت خرج منه الداء ودخل فيه الشفاء، ومن قلم أظفاره يوم الأحد خرجت منه الفاقة، ودخل فيه الغنى، ومن قلمها يوم الأثنين خرجت منه العلة، ودخلت فيه الصحة، ومن قلمها يوم الثلاثاء خرج منه البرص، ودخل فيه العافية، ومن قلمها يوم الأربعاء خرج منه الوسواس والخوف، ودخل فيه الأمن والصحة، ومن قلمها يوم الخميس خرج منه الجذام، ودخلت فيه العافية، ومن قلمها يوم الجمعة دخلت فيه الرحمة، وخرجت منه الذنوب (¬1). وهو حديث موضوع. قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من أقبح الموضوعات وأبردها، وفيه مجهولون وضعفاء، ففي أوله هناد، ولا يوثق به، وفي أخره نوح، قال يحيى: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه، وقال السعدي: سقط حديثه، وقال الدارقطني: متروك اهـ (¬2). وما نسب للحافظ ابن حجر من أبيات في تقليم الأظفار مكذوبة عليه. فقد ذكرها العجلوني، وقال السخاوي: وحاشاه من ذلك: ¬

_ (¬1) الموضوعات لابن الجوزي (1451) ونسبه صاحب كشف الخفاء (2/ 538) للديلمي في مسند الفردوس. (¬2) المرجع السابق.

دليل من قال لا توقيت في تقليم الأظفار والمعتبر طولها

في قص أظفارك يوم السبت آكلة ... تبدو وفيما يليه يذهب البركة وعالم فاضل يبدو بتلوهما ... وإن يكن في الثلاثاء فاحذر الهلكة ويورث السوء في الأخلاق رابعها ... وفي الخميس الغنى يأتي لمن سلكه والعلم والرزق زيدا في عروبتها ... عن النبي روينا فاقتفوا نسكه دليل من قال لا توقيت في تقليم الأظفار والمعتبر طولها. قالوا: إن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فبعض الناس يطول ظفره أسرع من بعض، فإذا طال الظفر شرع تقليمه، ولم يأت في الشرع وقت معين في تقليم الأظفار. (520 - 84) وأما مارواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما، عن جعفر - قال يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان - عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: قال أنس: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة (¬1). فمعنى هذا الحديث أنهم لا يؤخرون فعل هذه الأشياء عن وقتها، فإن أخروها فلا يؤخرونها أكثر من أربعين يوماً، وليس معناه الأذن في التأخير أربعين مطلقاً، وقد نص الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - على أنه يستحب تقليم الأظفار، والأخذ من هذه الشعور يوم الجمعة، والله أعلم. وقال القرطبي: هذا تحديد أكثر المدة، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وإلا فلا تحديد فيه للعلماء إلا أنه إذا كثر ذلك أزيل" اهـ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (258). وقد سبق تخريجه.

وقال العجلوني: قال في المقاصد: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، وما يعزى من النظم في ذلك لعلي رضي الله عنه، ثم لشيخنا - يعني الحافظ - فباطل عنهما، وقد أفردت لذلك مع بيان الآثار الواردة فيه جزءا. اهـ والراجح من هذه الأقوال أنه لا يجوز تجاوز ما وقت لنا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن قبل الأربعين من ترك ذلك لا يعتبر مخالفاً للسنة، والكلام في هذه المسألة هو عين الكلام في الاستحداد، والله أعلم

الفصل الثالث في كيفية تقليم الأظفار

الفصل الثالث في كيفية تقليم الأظفار اختلف العلماء في كيفية تقليم الأظفار: فقيل: يبدأ بخنصر اليمنى، ثم الوسطى، ثم الإبهام، ثم البنصر، ثم السباحة، ثم إبهام اليسرى، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم السباحة، ثم البنصر. وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬1). وقيل: يبدأ فيهما بالوسطى، ثم الخنصر، ثم الإبهام، ثم البنصر، ثم السباحة، وهو قول أيضاً في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يبدأ بإبهام اليمنى، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم السباحة، ثم البنصر، ثم كذلك اليسرى، اختاره الأمدي من الحنابلة (¬3). وقيل: يبدأ بسبابة يمناه بلا مخالفة إلى خنصرها، ثم بخنصر اليسرى إلى إبهامها، ويختم بإبهام اليمنى، ويبدأ بخنصر رجله اليمنى، ويختم بخنصر اليسرى، اختاره الغزالي من الشافعية (¬4)، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: أن يبدأ بمسبحة يمينه إلى خنصرها، ثم إبهامها، ثم بخنصر يسراه إلى إبهامها على التوالي، والرجلين أن يبدأ بخنصر اليمين إلى خنصر اليسار على التوالي، والفرق بينه وبين القول الذي قبله هو الختم بإبهام اليمنى، ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 75)، مطالب أولي النهى (1/ 86). (¬2) الأنصاف (1/ 122). (¬3) الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 330)، الأنصاف (1/ 122). (¬4) انظر طرح التثريب (2/ 78). (¬5) الإنصاف (1/ 122).

دليل الشافعية على تقديم المسبحة ثم الوسطى

وهو مذهب الحنفية (¬1)، والراجح في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لم يثبت عن الشارع كيفية معينة، فيقلمها كيف شاء، وهو مذهب المالكية (¬4)، وهو الراجح. دليل الشافعية على تقديم المسبحة ثم الوسطى. قالوا: قلنا يبدأ بالمسبحة من يده اليمنى؛ لأنها أشرف؛ إذ يشار إليها إلى التوحيد في التشهد، أما اتباعها بالوسطى، فلأن غالب من يقلم أظفاره يقلمها من قبل ظهر الكف، فتكون الوسطى جهة يمينه، فيستمر إلى أن يختم بالخنصر، ثم يكمل اليد بقص الأبهام، وأما في اليسرى فإذا بدأ بالخنصر لزم أن يستمر على جهة اليمين إلى الإبهام وأما دليلهم في تقديم اليدين على الرجلين، فيمكن أن يؤخذ ذلك في القياس على الوضوء، وأما دليلهم في تقديم اليمنى على اليسرى، فلحديث عائشة، كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله، وسبق تخريجه (¬5). ¬

_ (¬1) الفتاوى الهندية (5/ 358)، حاشية ابن عابدين (6/ 405). (¬2) اختاره النووي في الشافعية، انظر المجموع (1/ 339)، وانظر حاشية الجمل (2/ 48)، وطرح التثريب (2/ 78)، والغرر البهية شرح البهجةالوردية (2/ 28) مغني المحتاج (6/ 145)، حاشية البجيرمي على الخطيب (2/ 207)، أسنى المطالب (1/ 550). (¬3) الإنصاف (1/ 122). (¬4) حاشية العدوي (2/ 443). (¬5) انظر حديث رقم (182)، وانظر في مراجع الفقه: المجموع (1/ 339)، وانظر حاشية الجمل (2/ 48)، وطرح التثريب (2/ 78)، والغرر البهية شرح البهجة الوردية (2/ 28) مغني المحتاج (6/ 145)، حاشية البجيرمي على الخطيب (2/ 207)، أسنى المطالب (1/ 550).

دليل استحباب المخالفة بتقديم الخنصر ثم الوسطى ثم الإبهام

دليل استحباب المخالفة بتقديم الخنصر ثم الوسطى ثم الإبهام قال ابن تيمية: وروى عبيد الله بن بطة بإسناده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قص أظفاره مخالفاً لم ير في عينيه رمداً. قال ابن تيمية: وفسر أبو عبد الله بن بطة ذلك بأن يقص الخنصر من اليمنى، ثم الوسطى، ثم الإبهام، ثم البنصر، ثم السباحة، ويقص اليسرى الإبهام، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم السباحة، ثم البنصر، وذكر أن عمر بن رجاء فسره كذلك (¬1). [والصحيح أنه لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئ في ذلك] (¬2). قال العراقي: " قال الغزالي في إحياء علوم الدين: لم أر في الكتب خبراً مروياً في ترتيب قلم الأظفار، ولكن سمعت أنه روي أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بمسبحة اليمنى، وختم بإبهام اليمنى، وابتداء في اليسرى بالخنصر إلى الإبهام، وفي اليمنى من المسحبه إلى الخنصر، ويختم بإبهام اليمنى، ثم ذكر لذلك حكمة، وقد تعقبه الإمام أبو عبد الله المازري المالكي في كتاب وقفت عليه له في الرد عليه، وبالغ في هذا المكان في إنكار هذا عليه، وقال: إنه يريد أن يخلط ¬

_ (¬1) شرح العمدة (1/ 240). (¬2) قال في المقاصد الحسنة (163): " هو من كلام غير واحد من الأئمة منهم: ابن قدامة، والشيخ عبد القادر في الغنية، ولم أجده " اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 345): " وذكر الدمياطي أنه تلقى عن بعض المشايخ، من قص أظفاره مخالفاً لم يصبه رمد، وأنه جرب ذلك مدة طويلة، وقد نص أحمد على استحباب قصها مخالفاً، وبين ذلك أبو عبد الله بن بطة من أصحابهم، فقال: يبدأ بخنصر اليمنى، ثم الوسطى، وذكر الصفة. اهـ

الشريعة بالفلسفة، هذا حاصل كلامه، وبالغ في تقبيح ذلك (¬1). قال العراقي: لم يثبت في كيفية تقليم الأظفار حديث يعمل به (¬2). وقال ابن حجر: لم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث، ثم قال: وقد أنكر ابن دقيق العيد الهيئة التي ذكرها الغزالي ومن تبعه، وقال: كل ذلك لا أصل له، وإحداث استحباب لا دليل عليه، وهو قبيح عندي بالعالم، ولو تخيل متخيل أن البداءة بمسبحة اليمنى من أجل شرفها فبقية الهيئة لا يتخيل فيه ذلك، نعم البداءة بيمنى اليدين ويمنى الرجلين له أصل، وهو كان يعجبه التيامن. اهـ (¬3). والعجب من النووي رحمه الله، فقد صرح أن الحديث في صفة تقليم الأظفار باطل لا أصل له، ثم يقول مع ذلك عن الصفة التي ذكرها الغزالي بأنه لا بأس بها (¬4)، وهذا من غلبة طريقة الفقهاء على المحدث في استحسان ما لا أصل له، والله المستعان. وأما ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كيفية التقليم فهي موضوعة عليه. قال العجلوني: ومن هذا القسم الثاني، ما ذكره بعضهم، ونسبه إلى علي كرم الله وجهه، قال السخاوي: وكذب القائل: أبدأ بيمناك بالخنصر ... في قص أظفارك واستبصر ¬

_ (¬1) طرح التثريب (2/ 78). (¬2) طرح التثريب (2/ 78). (¬3) الفتح (10/ 345). (¬4) المجموع (1/ 339).

الخلاصة

وثن بالوسطى وثلث كما ... قد قيل بالإبهام والبنصر واختتم الكف بسبابة ... في اليد والرجل ولا تمتر وفي اليد اليسرى بإبهامها ... والأصبع الوسطى وبالخنصر وبعد سبابتها بنصر ... فإنها خاتمة الأيسر فذاك أمن خذ به يافتى ... من رمد العين فلا تزدر هذا حديث قد روي مسنداً ... عن الإمام المرتضى حيدر ونقل السيوطي عن الزركشي في شرح التنبيه أنه قال: وأصل هذا الأثر المشار إليه عند عبيد الله بن بطة: " من قص أظفاره مخالفاً لم ير في عينيه رمداً " ثم قال السيوطي: قد أنكر ابن دقيق هذه الأبيات، وقال: لا يعتبر هيئة مخصوصة، وما اشتهر من قصها على وجه مخصوص لا أصل له في الشريعة، ثم ذكر الأبيات، وقال: هذا لا يجوز اعتقاد استحبابه؛ لأن الاستحباب حكم شرعي، لا بد له من دليل، وليس استسهال ذلك بصواب. اهـ الخلاصة: الراجح أنه يقدم في تقليم الأصابع ما يشاء، ولا سنة في ذلك، حيث إن مثل هذا العمل كان يتكرر في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو قدم اليمنى على اليسرى مستدلاً بعموم حديث عائشة: " كان يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهور، في شأنه كله" فلا حرج إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

الفصل الرابع في إزلة الوسخ التي تحت الظفر

الفصل الرابع في إزلة الوسخ التي تحت الظفر إذا كان تحت الظفر وسخ يمنع وصول الماء، فهل يصح وضوءه؟ فقيل: تجب إزلته مطلقاً، ولا يصح الوضوء مع وجوده، اختاره المتولي من الشافعية (¬1)، وابن عقيل من الحنابلة (¬2). وقيل: لا تجب إزلته مطلقاً، ويعفى عنه، اختاره الغزالي من الشافعية (¬3)، ومال إليه ابن قدامة من الحنابلة (¬4). وقيل: إن كان يسيراً عفي عنه، وإن فحش وجبت إزالته، وهو مذهب المالكية (¬5)، وأومأ إليه ابن دقيق العيد (¬6)، ورجحه ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 340). (¬2) قال ابن قدامة في المغني (1/ 86): " وإذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته، فقال ابن عقيل: لا تصح طهارته حتى يزيله " اهـ. (¬3) تحفة المحتاج (1/ 187)، وقال النووي في المجموع (1/ 340): " ولو كان تحت الأظفار وسخ، فإن لم يمنع وصول الماء إلى ما تحته لقلته صح الوضوء. وإن منع، فقطع المتولي بأنه لا يجزيه، ولا يرتفع حدثه، كما لو كان الوسخ في موضع آخر من البدن. وقطع الغزالي في الإحياء بالإجزاء وصحة الوضوء والغسل، وأنه يعفى عنه للحاجة. اهـ (¬4) المغني (1/ 86). (¬5) قال في الفواكه الدواني (1/ 140): " ولا يلزمه إزالة ما تحت أظافره من الأوساخ إلا أن يخرج عن المعتاد، فيجب عليه إزالته، كما يجب عليه قلم ظفره الساتر لمحل الفرض. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 88). (¬6) قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (1/ 125): " إذا لم يخرج طول الأظفار عن =

دليل من قال تجب إزالته ولا يصح الوضوء معه

ابن تيمية (¬1). دليل من قال تجب إزالته ولا يصح الوضوء معه. الدليل الأول: قال ابن عقيل: لأنه محل من اليد استتر بما ليس من خلقة الأصل، ستراً منع إيصال الماء إليه، مع إمكان إيصاله، وعدم الضرر به، فأشبه ما لو كان عليه شمع أو غيره (¬2). الدليل الثاني: ولأن هذا الوسخ لو كان في موضع آخر من البدن لم تصح الطهارة، فكذلك إذا كان تحت الأظفار. الدليل الثالث: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على بقاء الجنابة تحت الأظفار، (521 - 85) فقد روى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا قريش ¬

_ = العادة يعفى عن يسير الوسخ، وأما إذا زاد على المعتاد، فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة، وقد ورد في بعض الأحاديث الإشارة إلى هذا المعنى. اهـ. وقد يعتبر هذا من ابن دقيق العيد قولاً رابعاً، وهو أن الأظفار إذا خرج طولها عن المعتاد أصبح ما يتعلق بها من الوسخ ما نعاً من حصول الطهارة، وإذا كان طولها معتاداً لم يمنع الوسخ. والله أعلم. (¬1) يرى ابن تيمية العفو عن كل يسير يمنع وصول الماء، ولم يخصصه في الأظفار، قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/ 303): " وإن منع يسير وسخ ظفر ونحوه وصول الماء صحت الطهارة، وهو وجه لأصحابنا، ومثله كل يسير منع وصول الماء حيث كان كدم وعجين الخ كلامه. اهـ (¬2) المغني (1/ 86).

بن حيان، عن واصل بن سليم (¬1)، قال: أتيت أبا أيوب الأزدي، فصافحته، فرأى أظفاري طوالا، فقال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله، فقال: يسألني أحدكم عن خبر السماء، ويدع أظافره كأظفار الطير، يجتمع فيها الجنابة والتفث. قال المسعودي: عن العقدي، عن قريش، عن سليمان بن فروخ، قال: لقيت أبا أيوب الأنصاري، ولم يقل: الأزدي، فذكر نحوه [رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، أبو أيوب هو العتكي وليس الأنصاري] (¬2). ¬

_ (¬1) الصواب: أبو واصل سليمان بن فروخ. قاله أبو حاتم في العلل (2/ 288)، وسوف أنقل كلامه تاماً بعد قليل. وانظر ما نقله أبو داود الطيالسي عن المسعودي في آخر الحديث. (¬2) مسند أبي داود الطياليس (596)، وانظر إتحاف الخيرة المهرة ـ البوصيري (1/ 378)، والمطالب العالية (69). قال الإمام أحمد بعد أن روى الحديث (5/ 417): " ولم يقل وكيع مرة: الأنصاري. قال غيره: أبو أيوب العتكي. قال أبو عبد الرحمن (عبد الله بن أحمد) قال أبي: يسبقه لسانه - يعنى وكيعاً - فقال: لقيت أبا أيوب الأنصاري، وإنما هو أبو أيوب العتكي. وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/ 288): سألت أبي عن حديث رواه أبو داود الطيالسي، عن قريش بن حبان، عن واصل بن سليم .. الحديث، فسمعت أبي يقول: هذا خطأ، ليس هو واصل بن سليم، إنما هو أبو واصل سليمان بن فروخ، عن أبي أيوب، وليس هو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، هو أبو أيوب: يحيى بن مالك العتكي من التابعين. قال ابن أبي حاتم: ولم يفهم يونس بن حبيب أن أبا أيوب الأزدي، هو العتكي، فأدخله في مسند أبي أيوب الأنصاري. اهـ. وقال البخاري: سليمان بن فروخ أبو واصل، قال: لقيني أبو أيوب، هو الأزدي، =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (522 - 86) وروى الطبراني في الكبير، قال: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا إبراهيم بن محمد المقدمي، ثنا عبد الله بن عثمان بن عطاء الخراساني، ثنا طلحة بن زيد، عن راشد بن أبي راشد، قال: سمعت وابصة بن معبد يقول: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل شيء، حتى سألته عن الوسخ الذي يكون في الأظفار، فقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (¬1). ¬

_ = مرسل. وقال البيهقي في السنن (1/ 176): وهذا مرسل، أبو أيوب الأزدي، غير أبي أيوب الأنصاري. اهـ [تخريج الحديث] الحديث أخرجه أحمد (5/ 417)، قال: ثنا وكيع، ثنا قريش بن حيان، عن أبي واصل، قال: لقيت أبا أيوب الأنصاري به. ثم بين خطأ وكيع في قوله: " أبا أيوب الأنصاري " وقد نقلته عنه فيما سبق. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 128)، قال: حدثني ابن سلام، نا وكيع به. قال البخاري: أدخله ابن سلام في المسند. ورواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 175)، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود به. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 128) من طريق أبي الوليد الطيالسي، ثنا قريش بن حيان، ثنا سليمان بن فروخ، قال: لقيت أبا أيوب به. ومن طريق أبي الوليد أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 220) رقم 4086 والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 175). (¬1) المعجم الكبير (22/ 147) رقم 399.

الدليل الخامس

[إسناده ضعيف جداً] (¬1). الدليل الخامس: قال ابن حجر: قد يعلق بالظفر إذا طال النجو لمن استنجى بالماء، ولم يمعن غسله فيكون إذا صلى حاملا للنجاسة (¬2). ¬

_ (¬1) فيه طلحة بن زيد الرقي، قال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث، ضعيف الحديث، لا يكتب حديثه. الجرح والتعديل (4/ 479). وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (4/ 351)، والضعفاء الصغير (177). قال المروذي، عن أحمد: ليس بذاك، قد حدث بأحاديث مناكير. وقال في موضع آخر عنه: ليس بشيء، كان يضع الحديث، وكذا قال بن المديني. تهذيب التهذيب (5/ 15). قال النسائي: منكر الحديث، وقال أيضا: ليس بثقة. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء الكبير (2/ 225). وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، يروي عن الثقات المقلوبات، لا يحل الاحتجاج بخبره. المجروحين (1/ 383). وفي التقريب: متروك، قال أحمد وعلي وأبو داود كان يضع. وفيه عبد الله بن عثمان بن عطاء الخرساني: قال ابن أبي حاتم: سمعت موسى بن سهل الرملي يقول: وروى عن عبد الله بن عثمان، فقال: هذا أصلح من أبى طاهر المقدسي موسى بن محمد قليلاً، وكان أبو طاهر يكذب. الجرح والتعديل (5/ 113). فإذا كان أصلح قليلاً من الكذاب، فهو قريب منه. وقال أبو حاتم الرازي: صالح. المرجع السابق. وقال الذهبي: ليس بذاك. الكاشف (2851). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يعتبر حديثه إذا روى عنه غير الضعفاء. (8/ 347). وفي التقريب: لين الحديث. (¬2) الفتح (10/ 345).

دليل من قال: لا تجب إزالته

دليل من قال: لا تجب إزالته. أولاً: لأنه تشق إزالته، ويشق الاحتراز منه. وثانياً: لو كان غسله واجباً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وثالثاً: غالب الأعراب في وقت الوحي كانوا لا يتعاهدون ذلك، ومع ذلك لم يرد في شيء من الآثار أمرهم بإعادة الصلاة. رابعاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أنكر عليهم طول الأظفار، لم يأمرهم بإعادة الصلاة (523 - 87) فقد روى البزار، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، ثنا عبد الملك بن مروان، ثنا الضحاك بن زيد، عن إسماعيل، عن قيس، عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لي لا إيهم (¬1)، ورفغ (¬2) أحدكم بين أنملته وظفره. قال البزار: لا نعلم أحداً أسنده إلا الضحاك، وروي عن قيس مسنداً ¬

_ (¬1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا أيهم " قال في المغرب (ص: 498): أوهمت: أخطأت أو نسيت، وفي حديث علي قال الشاهدان: أوهمنا، إنما السارق هذا، ويروى: "وهمنا " وأوهم من الحساب مائة: أي أسقط، وأوهم من صلاته ركعة، وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى، وأوهم في صلاته، فقيل له: كأنك أوهمت في صلاتك، فقال: وذكر الحديث. أي أخطأ، فأسقط ركعة. (¬2) قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (2/ 244): أراد بالرُّفغ ها هنا وَسَخ الظُّفُر كأنَّه قال ووسَخُ رُفْغ أحدِكم، والمعنى أنكم لا تُقَلِّمون أظفاركم ثم تَحُكُّون بها أرْفاغَكم فيعْلَق بها ما فيها من الوَسَخ، وفي حديث عمر رضي الله عنه: " إذا الْتَقى الرُّفْغان وجَبَ الغُسل. يريد الْتِقاء الخِتانَين، فكَنَىعنه بالْتِقاءِ اُصول الفَخِذين؛ لأنه لا يكون إلاَّ بعد الْتِقاء الخِتانَين.

ومرفوعاً (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) مختصر مسند البزار (170). (¬2) في إسناده الضحاك بن زيد الأهوازي قال ابن حبان: " كان ممن يرفع المراسيل، ويسند الموقوف، لا يجوز الاحتجاج به لما كثر منها. المجروحين (1/ 379). وقال العقيلي: يخالف في حديثه. الضعفاء الكبير (2/ 221)، لسان الميزان (3/ 200). تخريج الحديث: الحديث أخرجه الطبراني في الكبير (10401) حدثنا أحمد بن سهل الأهوازي، ثنا عبد الملك بن مروان به. وخالف سفيان بن عيينة الضحاك بن زيد، فرواه مرسلا، وهو الراجح، فقدر رواه العقيلي في الضعفاء الكبير (2/ 221)، قال: حدثنا بشر بن موسى، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا إسماعيل، عن قيس، قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة، فلما قضى صلاته، قالوا: يا رسول الله وهمت. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ومالى لا أيهم، ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته. قال العقيلي: وهذا أولى. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 24،25) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أسيد بن عاصم، ثنا الحسين بن حفص، عن سفيان به. قال ابن حجر في الفتح (10/ 345): " رجاله ثقات، مع إرساله، وقد وصله الطبراني من وجه آخر. والرفغ بضم الراء وبفتحها وسكون الفاء، بعدها غين معجمة يجمع على أرفاغ، وهي مغابن الجسد، كالإبط، وما بين الأنثيين، وكل شيء يجتمع فيه الوسخ، فهو من تسمية الشيء باسم ما جاوره، والتقدير: وسخ رفغ أحدكم، والمعنى: أنكم لا تقلمون أظفاركم، ثم تحكون بها أرفاغكم، فيتعلق بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة. قال أبو عبيد: أنكر عليهم طول الأظفار وترك قصها، وفيه إشارة إلى الندب إلى تنظيف المغابن كلها، ويستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حد لا يدخل منه ضرر على الأصبع. اهـ

دليل من قال يعفى عن يسير النجاسة في الظفر وغيره

وجه الاستدلال: قال ابن قدامة: عاب عليهم نتن ريح أظفارهم، لا بطلان طهارتهم، ولو كان مبطلاً للطهارة كان ذلك أهم من نتن الريح، فكان أحق بالبيان (¬1). خامساً: أن التشدد في ذلك ليس من هدي السلف، وقد يدخل المرء في الوسواس. قال البُرْزُلي: سئل السُّيُورِي هل يلزم زوال وسخ الأظفار في الوضوء؟ فأجاب: لا تُعَلق قلبك بهذا إن أطعتني، واترك الوسواس، واسلك ما عليه جمهور السلف الصالح تسلم (¬2). دليل من قال يعفى عن يسير النجاسة في الظفر وغيره. (524 - 88) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قال بريقها فقصعته بظفرها (¬3). وهذا دليل على أنه معفو عنه لأن الريق لا يطهره،، قال ابن حجر: يحمل حديث الباب على أن المراد: دم يسير يعفى عن مثله. اهـ وفعلها: إخبار عن دوام هذا الفعل منها، وهو في زمن التشريع، ومثل هذا لا يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفعل يتكرر في بيته - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يطلع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد اطلع ¬

_ (¬1) المغني (1/ 86). (¬2) مواهب الجليل (1/ 201). (¬3) صحيح البخاري (312).

الراجح

الله، ولو لم يكن صواباً لم يقره الله (¬1). الراجح أنه معفو عنه مطلقاً؛ إذ لو كان غسله وجباً لجاء الأمر بغسله، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/ 413): " ليس فيه أنها صلت فيه، فلا يكون فيه حجة لمن أجاز إزالة النجاسة بغير الماء، وإنما أزالت الدم بريقها، ليذهب أثره، ولم تقصد تطهيره، وقد مضى قبل باب عنها ذكر الغسل بعد القرص، قالت: ثم تصلي فيه - يعني حديث أسماء في الصحيحين فلتقرصه ثم لتنضحه بماء ثم لتصلي فيه - قال الحافظ: فدل على أنها عند إرادة الصلاة فيه كانت تغسله، ثم أورد الحافظ معنى آخر للحديث، فقال: وقد يحمل حديث الباب على أن المراد دم يسير يعفى عن مثله، والتوجيه الأول أقوى فائدة. اهـ

الفصل الخامس في دفن الظفر والشعر

الفصل الخامس في دفن الظفر والشعر استحب بعض الفقهاء دفن ما قلم من أظفاره أو أزال من شعره، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). دليلهم على هذا الاستحباب. (525 - 89) ما رواه الطبراني في الكبير، قال: حدثنا محمد بن محمد التمار البصري، ثنا يونس بن موسى الشامي (¬4) وسليمان بن داود الشاذكوني، قالا: ثنا محمد بن سليمان بن مسمول، حدثني عبيد الله بن سلمة بن وهرام، ¬

_ (¬1) قال في الفتاوى الهندية (5/ 358): " ينبغي أن يدفن ذلك الظفر والشعر المجزوز، فإن رمى به فلا بأس، وإن ألقاه في الكنيف أو في المغتسل يكره ذلك؛ لأن ذلك يورث داء كذا في فتاوى قاضي خان. يدفن أربعة: الظفر والشعر وخرقة الحيض والدم، كذا في الفتاوى العتابيه. اهـ وفي بريقة محمودية الغياثية (4/ 84). وانظر مجمع الأنهر (2/ 556)، ودرر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 323). (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 342): " يستحب دفن ما أخذ من هذه الشعور والأظفار، ومواراته في الأرض، نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، واتفق عليه أصحابنا ". وانظر حاشية البجيرمي على الخطيب (2/ 208). (¬3) قال ابن قدامة من الحنابلة في المغني (1/ 64): " ويستحب دفن ما قلم من أظفاره أو أزال من شعره. الخ كلامه رحمه الله. وانظر كشاف القناع (1/ 76)، ومطالب أولي النهى (1/ 87). (¬4) في المطبوع (السامي) والتصحيح من الأوسط.

عن ميل بنت مشرح (¬1) قالت: رأيت أبي قلم أظفاره، ثم دفنها، وقال: أي بنية هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

_ (¬1) في الطبراني هكذا: " مشرح "، وفي شعب الإيمان للبيهقي (5/ 232) رقم 6487: " مسرج " وفي الإمام لابن دقيق العيد: " مسرِّح " بالحاء. والصواب: " مشرح " وقد ضبطه ابن حجر في الإصابة، قال: " 6/ 122): مشرح بكسر أوله، وسكون المعجمة، وفتح الراء بعدها مهملة الأشعري. قال البغوي: ذكره البخاري في الصحابة، وأخرج ابن أبي عاصم وابن السكن وغيرهما، من طريق سلمة بن وهرام، حدثتني ميل بنت مشرح به، وذكر الحديث، وقال: وفي سنده محمد بن سليمان بن مسمول، وهو ضعيف جداً. الخ كلامه رحمه الله. (¬2) المعجم الكبير (20/ 322) ورواه في الأوسط (6/ 150) رقم 5938. (¬3) فيه محمد بن سليمان بن مسمول. ضعيف، وسبقت ترجمته. وفيه أيضاً: عبيد الله بن سلمة بن وهرام، ضعيف، وسبقت ترجمته. كما أن فيه اختلافاً في إسناده، فقيل: عن عبيد الله بن سلمة، عن ميل بنت بن مشرح، كما في إسناد الطبراني في الكبير (20/ 322) والأوسط (5938) من طريق يونس بن موسى الشامي، وسليمان الشاذكوني. بينما في إسناد البيهقي في شعب الإيمان (5/ 232) رقم 6487من طريق يزيد بن المبارك. والبزار كما في مختصر مسند البزار (1226) من طريق عمر بن مالك. وأبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (4/ 459) رقم 2513 من طريق محمد بن القاسم، ثلاثتهم، عن محمد بن سليمان بن مسمول، ثنا عبيد الله بن سلمة بن وهرام، عن أبيه، حدثتني ميل ابنة مشرح به. فزادوا في الإسناد (عن أبيه: سلمة بن وهرام). كما زاد كلمة أبيه ابن عبد البر في الاستيعاب (8/ 1473) عند ترجمة مشرح الأشعري، قال: لم يرو عنه غير ابنته، من حديثه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قص أظفاره، وجمعها، ثم دفنها، حديثه عند محمد بن سليمان بن مسمول المكي، عن عبيد الله بن سلمة بن =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (526 - 90) روى البيهقي في شعب الإيمان، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه، أنا أبو محمد بن حيان الأصبهاني، ثنا علي بن سعيد العسكري، ثنا عمر بن محمد بن الحسن، ثنا أبي، ثنا قيس بن الربيع، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بدفن الشعر والأظفار. قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف، وروى من أوجه كلها ضعيفة (¬1). [إسناده ضعيف، وفيه انقطاع] (¬2). ¬

_ = وهرام، عن أبيه، عن ميل بنت مسرح، عن أبيها، هكذا ذكره الدارقطني مسرح، وقال غيره: مشرح. ويحتمل أن يكون سقطت كلمة أبيه عند الطبراني. والحديث ضعفه الحافظ في تلخيص الحبير (2/ 113). (¬1) شعب الأيمان (5/ 232). (¬2) دراسة الإسناد: شيخ البيهقي: أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه. ثقة. انظر ترجمته في شذرات الذهب (3/ 245)، والعبر (3/ 170)، المنتخب من السياق (ص: 89،90). - وأبو محمد بن حيان الأصبهاني، ثقة أيضاً، انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ (3/ 945). - علي بن سعيد العسكري ثقة، انظر السير (14/ 463)، طبقات المحدثين بأصبهان (3/ 559). - عمر بن محمد بن الحسن. قال أبو حاتم: محله الصدق. الجرح والتعديل (6/ 132). وقال النسائي: صدوق. تهذيب الكمال (21/ 497). وقال الدارقطني: لا بأس به. المرجع السابق. وقال ابن حبان: يعتبر حديثه ما حدث من كتاب أبيه فان في روايته التي كان يرويها =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = من حفظه بعض المناكير. الثقات (8/ 447). - محمد بن الحسن بن التل. قال عباس بن محمد الدوري: سئل يحيى بن معين عن محمد بن الحسن الأسدي، فقال: ليس بشيء. الجرح والتعديل (7/ 225). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى، عن محمد بن الحسن المعروف بالتل، فقال: شيخ. المرجع السابق. وقال ابن عدي: وله غير ما ذكرت إفرادات، وحدث عنه الثقات من الناس، ولم أر بحديثه بأساً. الكامل (6/ 173). وقال أبو عبيد الآجري، عن أبي داود: صالح يكتب حديثه. تهذيب الكمال (25/ 67). وقال يعقوب بن سفيان: محمد بن الحسن الهمداني، ومحمد بن الحسن الأسدي ضعيفان. المرجع السابق. وقال الحاكم في الكنى: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (9/ 102). وقال الساجي: ضعيف. المرجع السابق. وقال البزار والدارقطني: ثقة. وفي التقريب: صدوق فيه لين. وفي الكاشف: ضعف قال ابن عدي: له أفراد ولا أرى بحديثه بأساً. (4795). قلت: روى البخاري عن ابنه عمر، عنه حديثين: أحدهما: في الزكاة عن إبراهيم بن طهمان، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة. الحديث. وهو عنده بمتابعة شعبة، عن محمد بن زياد. الحديث الثاني: في المناقب، عن حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة. وهو عنده بمتابعة حميد بن عبد الرحمن والليث وغيرهما، عن هشام. - قيس بن الربيع: مختلف فيه: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال عمرو بن على: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن قيس بن الربيع، وكان عبد الرحمن حدثنا عنه قبل ذلك، ثم تركه. الجرح والتعديل (7/ 96). وقال حرب بن إسماعيل الكرماني: قلت لأحمد بن حنبل: قيس بن الربيع أى شيء ضعفه؟ قال: روى أحاديث منكره. المرجع السابق. وقال أحمد بن حنبل: كان له ابن يأخذ حديث مسعر وسفيان الثوري والمتقدمين، فيدخلها في حديث أبيه، وهو لا يعلم. الكامل (6/ 39). قال ابن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: قيس بن الربيع ليس حديثه بشيء. وقال مرة أخرى: هو ضعيف الحديث لا يساوى شيئاً. الجرح والتعديل (7/ 96). وقال أبو حاتم الرازي: عهدي به، ولا ينشط الناس في الرواية عنه، واما الآن فأراه أحلى، ومحله الصدق، وليس بقوي، يكتب حديثه، ولا يحتج به، وهو أحب الى من محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى، ولا يحتج بحديثهما. وقال ابنه عبد الرحمن: سألت أبا زرعة عن قيس بن الربيع، فقال: فيه لين. وقال عبد الرحمن أيضاً: حدثني أبى، قال: كان عفان يروى عن قيس، ويتكلم فيه. فقيل له: تتكلم فيه؟ فقال: قدمت عليه، فقال: حدثنا الشيباني، عن الشعبي، فيقول له رجل: ومغيرة؟ فيقول: ومغيرة، فقال له: وأبو حصين؟ فقال: وأبو حصين. المرجع السابق. يشير إلى أنه كان يتلقن. وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (499). وقال ابن عدي: عامة رواياته مستقيمة، وقد حدث عنه شعبة وغيره من الكبار، وهو قد حدث عن شعبة، وعن ابن عيينة وغيرهما، ويدل ذلك على أنه صاحب حديث، والقول فيه ما قاله شعبة، وأنه لا بأس به. الكامل (6/ 39). وقال عفان: كان قيس ثقة، يوثقه الثوري وشعبة. تاريخ بغداد (12/ 456). وقال أبو داود: إنما أتى قيس من قبل ابنه، كان ابنه يأخذ حديث الناس فيدخلها في فرج كتاب قيس، ولا يعرف الشيخ ذلك. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق، تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، فحدث به. - عبد الجبار بن وائل: ثقة، لكن روايته عن أبيه مرسلة، فلم يسمع من أبيه شيئاً. الجرح والتعديل (6/ 30).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (527 - 91) روى ابن عدي، قال: ثنا محمد بن الحسن السكوني النابلسي بالرملة، قال: حدث أحمد بن سعيد البغدادي وأنا حاضر، ثنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد، حدثني أبي، عن نافع، عن ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادفنوا الأظفار والشعر والدم؛ فإنها ميتة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) الكامل (4/ 201)، ومن طريق ابن عدي أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 23)، وأخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير (2/ 279) من طريق أحمد بن محمد بن سعيد المروزي، قال: حدثنا نصر بن داود بن طوق، قال: حدثنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبى رواد به. (¬2) فيه عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد. قال أبو حاتم: كنا نأتي عفان، وكان بالقرب منه عبد الله بن عبد العزيز بن أبى رواد، فنظرت في بعض حديثه، فرأيت أحاديثه أحاديث منكرة، ولم اكتب عنه، ولم يكن محله عندي الصدق. الجرح والتعديل (5/ 104). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل على بن الحسين، عن عبد الله بن عبد العزيز بن أبى رواد، فقال: لا يسوى فلساً، يحدث بأحاديث كذب، روى عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في نعليه. المرجع السابق. وقال ابن عدي: وعبد الله بن عبد العزيز له غير ما ذكرت أحاديث لم يتابعه أحد عليه، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً، والمتقدمون قد تكلموا فيمن هو أصدق من عبد الله بن عبد العزيز، وإنما ذكرته لما شرطت في أول كتابي هذا. الكامل (4/ 201). وقال ابن الجنيد: لا يساوي شيئاً، يحدث بأحاديث كذب. لسان الميزان (3/ 310). وقال العقيلي: عبد الله بن عبد العزير بن أبي رواد، عن أبيه أحاديثه مناكير غير محفوظة، ليس ممن يقيم الحديث. الضعفاء الكبير (2/ 279). =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (528 - 92) قال العراقي في طرح التثريب: روى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من رواية عمر بن بلال، قال: سمعت عبد الله بن بسر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قصوا أظفاركم ودفنوا قلائمكم، وانقوا براجمكم. الحديث. قال العراقي: وعمر بن بلال ليس بالمعروف، قاله ابن عدي (¬1). قلت: والحكيم الترمذي ليس بالحكيم. الدليل الخامس: قال مهنا: سألت أحمد، عن الرجل يأخذ من شعره وظفره، أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه. قلت: بلغك فيه شيء؟ ¬

_ = وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يعتبر حديثه إذا روى عن غير أبيه، وفى روايته عن إبراهيم بن طهمان بعض المناكير. الثقات (8/ 347). وقال العقيلي: ليس له أصل عن ثقة. اهـ (¬1) طرح التثريب (2/ 84). قلت: عمر بن بلال: ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 148). وذكره البخاري وابن أبي حاتم، وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه شيئاً. التاريخ الكبير (6/ 144)، والجرح التعديل (6/ 100). وقال ابن عدي: عمر بن بلال هذا لا يعرف إلا بهذا الحديث ـ يعني حديث: كيف أنتم إذا جارت عليكم الولاة - عن عبد الله بن بسر، ولم نكتبه بعلو إلا عن أبي عقيل، ومحمد بن جعفر بن رزين، وهذا حديث غير محفوظ؛ لأن عمر بن بلال هذا ينفرد به، وعمر ليس بالمعروف. الكامل (5/ 56).

قال: كان ابن عمر يدفنه (¬1). ولم أقف على إسناد ابن عمر، وراجعت مصنف ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق وقد ذكر الأول جملة من الآثار عن التابعين، ولم يذكر أثر ابن عمر. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 64، 65).

الفصل السادس في من قلم أظفاره هل يعيد الوضوء

الفصل السادس في من قلم أظفاره هل يعيد الوضوء من توضأ، ثم قلم أظفاره بعد الوضوء أو حلق شعر رأسه، فهل يعيد غسل موضع الأظفار؟ فيه خلاف بين العلماء. فقيل: لا يعيد. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختاره ابن حزم (¬5). وقيل: عليه الوضوء، اختاره مجاهد (¬6)، وابن جرير (¬7). وقيل: يغسلها بالماء، اختاره عطاء (¬8)، إبراهيم ¬

_ (¬1) قال السرخسي في المبسوط (1/ 65): " ومن توضأ، ومسح رأسه، ثم جز شعره، أو نتف إبطيه، أو قلم أظفاره، أو أخذ من شاربه، لم يكن عليه أن يمس شيئاً من ذلك الماء، ولا أن يجدد وضوءه " اهـ. وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 101). (¬2) المنتقى شرح الموطأ (1/ 39)، وقاله مالك في المدونة، انظر مواهب الجليل (1/ 215)، والتاج والإكليل (1/ 310). (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 36): فمن توضأ، ثم أخذا من أظفاره ورأسه ولحيته وشاربه، لم يكن عليه إعادة وضوء، وهذا زيادة نظافة وطهارة، وكذلك إن استحد، ولو أمر الماء عليه لم يكن بذلك بأس. اهـ (¬4) الفروع (1/ 186،187). (¬5) المحلى (مسألة 169). (¬6) المصنف (1/ 56) بسند صحيح عنه. (¬7) المبسوط (1/ 65). (¬8) رواه عبد الرزاق في المصنف (1/ 126) رقم 462 بسند صحيح عنه.

دليل من قال ليس عليه شيء

النخعي (¬1)، وحماد (¬2)، وعبد العزيز بن أبي سلمة (¬3) دليل من قال ليس عليه شيء. (529 - 93) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن التيمي، عن أبي مجلز، قال: رأيت ابن عمر أخذ من أظفاره. فقلت له: أخذت من أظفارك ولا تتوضأ ‍؟ قال: ما أكيسك، أنت أكيس ممن سماه أهله كيساً (¬4). الدليل الثاني: (530 - 94) روى مسدد في مسنده، قال: حدثنا ابن داود، عن شيخ يكنى أبا عبد الله، عن عمر بن قيس، قال: إن علياً رضي الله عنه، قال: ما زاده إلا طهارة - يعني: الأخذ من الشعر والظفر - (¬5). [إسناد ضعيف] (¬6). الدليل الثالث: قالوا: إن من توضأ الوضوء الشرعي فإنه طاهر بالكتاب والسنة، ¬

_ (¬1) المبسوط (1/ 65). (¬2) المصنف لابن أبي شيبة (1/ 56) رقم 583 حدثنا غندر، عن شعبة، عن الهيثم، عن حماد في الرجل يقلم أظفاره، ويأخذ من لحيته، قال: يمسحه بالماء. (¬3) المنتقى شرح الموطأ (1/ 39) (¬4) المصنف (1/ 55) رقم 576. وإسناده صحيح، وأبو مجلز اسمه لاحق بن حميد. (¬5) المطالب العالية (72)، إتحاف الخيرة المهرة ـ البوصيري (1/ 379). (¬6) شيخ عبد الله بن داود، وشيخ شيخه لم أعرفهما.

دليل من قال عليه الوضوء أو مسحه بالماء

ولا تنتقض طهارته إلا بدليل شرعي، وليس قص الشعر والظفر حدثاً حتى ينتقض وضوءه. دليل من قال عليه الوضوء أو مسحه بالماء. لا أعلم له دليلاً من الكتاب أو السنة، أو من قول الصحابة، وقد يكون من رأى الوضوء أن الشعر والظفر إذا حلق، فقد زال الممسوح الذي تعلق به الفرض، وبالتالي فلا بد من إعادة الوضوء أو المسح. والله أعلم. الراجح أنه لا يشرع الوضوء ولا المسح بعد تقليم الأظفار أو حلق الشعر؛ لأن إيجاب ذلك أو استحبابه يحتاج إلى دليل ولا دليل.

فرع في غسل رؤوس الأصابع بعد القص

فرع في غسل رؤوس الأصابع بعد القص استحب الشافعية والحنابلة غسل رؤوس الأصابع بعد قص الأظفار قال ابن قدامة: قيل إن الحك قبل غسلها يضر بالجسد (¬1). وقال في حاشية الجمل: إن الحك بها قبل الغسل يورث البرص (¬2). ولا أعلم دليلاً على هذا الاستحباب، ولا يصح الضرر من جهة الطب. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 64)، غذاء الألباب (1/ 438)، الآداب الشرعية (3/ 331). (¬2) حاشية الجمل (2/ 47).

الباب الرابع في نتف الإبط

الباب الرابع في نتف الإبط

تعريف الإبط. الإبط: بالكسر باطن المنكب، وقيل: باطن الجناج. وهو مذكر، وقد يؤنث، قاله اللحياني، والتذكير أعلى. وحكى الفراء عن بعض العرب: فرفع السوط حتى برقت إبطه. والجمع: آباط. وتأبطه: وضعه تحت إبطه. ومنه تأبط شراً (¬1). ونتف الإبط: هو إزالة ما عليه من الشعر عن طريق النتف. ¬

_ (¬1) تاج العروس (10/ 183،184).

الفصل الأول حكم نتف الإبط والتوقيت فيه

الفصل الأول حكم نتف الإبط والتوقيت فيه الخلاف فيه كالخلاف في الاستحداد، وتقليم الأظفار فالجمهور على أنه سنة، حتى قال النووي: متفق على أنه سنة (¬1). واختار ابن العربي، والشوكاني أنه واجب. راجع أدلة كل قول في حكم الاستحداد وتقليم الأظفار. وأما التوقيت فيه، فالقول فيه كالقول في التوقيت في حلق العانة، وقد فصلنا الأقوال فيه والراجح، فارجع إليه غير مأمور. وملخص الأقوال فيه كالتالي: قيل: يستحب أن ينتف إبطه كل جمعة، وبعضهم قال في كل أسبوع مرة. وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 341). (¬2) قال في الفتاوى الهندية (1/ 357): " يحلق عانته في كل أسبوع مرة، فإن لم يفعل ففي كل خمسة عشر يوماً، ولا يعذر في تركه وراء الأربعين، فالأسبوع هو الأفضل، والخمسة عشر الأوسط، والأربعون الأبعد، ولا عذر فيما وراء الأربعين، ويستحق الوعيد كذا في القنية". اهـ وقال مثله في مجمع الأنهر (2/ 556)، وفي بريقة محمودية (4/ 90). (¬3) قال القرطبي في المفهم (1/ 515): " قوله في حديث أنس: " وقت لنا في قص الشارب ... الخ هذا تحديد أكثر المدة، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وإلا فلا تحديد فيه للعلماء إلا أنه إذا كثر ذلك أزيل " اهـ. (¬4) قال في الفروع (1/ 131): " ويفعله ـ يعني: حلق العانة ـ كل أسبوع، ولا يتركه فوق الأربعين " اهـ. وانظر الإنصاف (1/ 123).

وقيل: لا وقت له، ويقدر بالحاجة، وهو يختلف من شخص إلى آخر، والمعتبر طولها، فمتى طال الشعر نتفه. وهو مذهب الشافعية (¬1)، وقال ابن عبد البر إنه قول الأكثر (¬2). وأما ترك النتف أكثر من أربعين يوماً فقيل: يحرم. وهو مذهب الحنفية (¬3)، ورجحه الشوكاني (¬4). وقيل: يكره كراهية شديدة، وهو مذهب الشافعية (¬5)،والمشهور عند ¬

_ (¬1) وقال النووي في المجموع (1/ 339): " وأما التوقيت في تقليم الأظفار فهو معتبر بطولها، فمتى طالت قلمها، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال، وكذا الضابط في قص الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه قال: وقت لنا في قص الشارب .. وذكر الحديث. ثم معنى هذا الحديث أنهم لا يؤخرون فعل هذه الأشياء عن وقتها، فإن أخروها فلا يؤخرونها أكثر من أربعين يوماً، وليس معناه الأذن في التأخير أربعين مطلقاً، وقد نص الشافعي والأصحاب ـ رحمهم الله ـ على أنه يستحب تقليم الأظفار، والأخذ من هذه الشعور يوم الجمعة، والله أعلم. وقال الدمياطي في إعانة الطالبين (2/ 85): " والمعتبر في ذلك أنه مؤقت بطولها عادة، ويختلف حينئذ باختلاف الأشخاص والأحوال " اهـ. (¬2) قال ابن عبد البر في التمهيد (21/ 68): " ومن أهل العلم من وقت في حلق العانة أربعين يوماً، وأكثرهم على أن لا توقيت في شيء من ذلك ". اهـ (¬3) قال ابن عابدين في حاشيته (6/ 407): " وكره تركه تحريماً لقول المجتبى، ولا عذر فيما وراء الأربعين، ويستحق الوعيد ". وانظر الفتاوى الهندية (1/ 357). (¬4) نيل الأوطار (1/ 169). (¬5) وقال في روضة الطالبين (3/ 234): " ولا يؤخرها عن وقت الحاجة، ويكره كراهة شديدة تأخيرها عن أربعين يوماً " اهـ. وقال الهيتمي في المنهج القويم (2/ 25): " وأن يزيل شعر العانة، والأولى للذكر حلقه، =

الحنابلة (¬1). ¬

_ = وللمرأة نتفه، ولا يؤخر ما ذكر عن وقت الحاجة، ويكره كراهة شديدة تأخيرها عن أربعين يوماً " اهـ. وقال مثله في روض الطالب (1/ 551). (¬1) قال في كشاف القناع (1/ 77): " ويكره تركه فوق أربعين يوماً " اهـ. وقال في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/ 440): " نعم إنما يكره تركه فوق أربعين لحديث أنس عند مسلم، قال: " وقت لنا في قص الشارب ... وذكر الحديث. وانظر مطالب أولي النهى (1/ 87).

الفصل الثاني في كيفية نتف الإبط

الفصل الثاني في كيفية نتف الإبط تكلم الفقهاء في كيفية نتف الإبط، فقيل: له إزالة الإبط بما شاء (¬1). وقيل: لا تحصل السنة إلا بالنتف، وإن كان غيره جائزاً، فالنتف أفضل (¬2). تعليل من أجازه بأي شيء، قال: إن المقصود النظافة، وهذا حاصل إذا زال بأي مزيل. دليل من قال بأن السنة النتف. (531 - 95) استدل بالخبر، فقد روى البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬3). قال ابن دقيق العيد: نتف الآباط: إزالة ما عليها من الشعر بهذا الوجه: أعني النتف، وقد يقوم مقامه ما يؤدي إلى المقصود، إلا أن استعمال مادلت عليه السنة أولى، وقد فرق لفظ الحديث بين إزالة شعر العانة، وإزالة شعر ¬

_ (¬1) قال في الإنصاف (1/ 122): " وينتف إبطه، ويحلق عانته، وله قصه وإزالته بما شاء ". اهـ (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 341): " ثم السنة النتف، كما صرح به الحديث، فلو حلقه جاز " اهـ وانظر المغني (1/ 64). (¬3) صحيح البخاري (5891)، ومسلم (257).

الإبط، فذكر في الأول (الاستحداد)، وفي الثاني: (النتف) وذلك مما يدل على رعاية هاتين الهيئتين في محلهما، ولعل السبب فيه أن الشعر بحلقه يقوي أصله، ويغلظ جرمه، ولهذا يصف الأطبار تكرار حلق الشعر في المواضع التي يراد قوته فيها، والإبط إذا قوي فيه الشعر وغلظ جرمه كان أفوح للرائحة الكريهة المؤذية لمن يقاربها، فناسب أن يسن فيه النتف المضعف لأصله، المقلل للرائحة الكريهة، وأما العانة فلا يظهر فيها من الرائحة الكريهة ما يظهر في الإبط، فزال المعنى المقتضي للنتف، فُرِجع إلى الاستحداد؛ لأنه أيسر وأخف على الإنسان من غير معارض (¬1). وقال ابن دقيق العيد أيضاً: " من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل، لكن بين أن النتف مقصود من جهة المعنى، فذكر نحو ما تقدم، ثم قال: وهو معنى ظاهر لا يهمل، فإن مورد النص إذا احتمل معنى مناسباً يحتمل أن يكون مقصوداً في الحكم لا يترك، والذي يقوم مقام النتف في ذلك التنور، لكنه يرق الجلد فقد يتأذى صاحبه به، ولا سيما إن كان جلده رقيقاً (¬2). وقد صرح الشافعي بأن السنة النتف فقط، فقد أخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي، عن يونس بن عبد الأعلى، قال: دخلت على الشافعي، ورجل يحلق إبطه، فقال: إني علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع. قال الغزالي: هو في الابتداء موجع، ولكن يسهل على من اعتاده (¬3). ¬

_ (¬1) إحكام الإحكام (1/ 125). (¬2) فتح الباري (10/ 344). (¬3) المرجع السابق.

الفصل الثالث الوضوء من نتف الإبط

الفصل الثالث الوضوء من نتف الإبط الخلاف في الوضوء من نتف الإبط كالخلاف فيه من تقليم الأظفار وحلق الشعر. وقد ذكرنا هناك ثلاثة أقوال: الأول: ليس عليه شيء، وهو الراجح. الثاني: عليه إعادة الوضوء. الثالث: عليه غسل موضعه فقط أو مسحه إن كان ممسوحاً. وقد نسبنا كل قول إلى قائله، وذكرنا أدلة كل قول، فارجع إليه غير مأمور. ونذكر من الآثار ما لم نذكره هناك، منها: (532 - 96) روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا ابن علية، عن عبيد الله بن العيزار، عن طلق بن حبيب، قال: رأى عمر بن الخطاب رجلا حك إبطه أو مسه، فقال: قم فاغسل يديك أو تطهر (¬1). [رجاله ثقات إلا أنه مرسل، طلق لم يدرك عمر] (¬2). ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 54) رقم 565. (¬2) قال أبو زرعة: طلق بن حبيب عن عمر مرسل، جامع التحصيل في أحكام المراسيل (315). ورواه ابن أبي شيبة أيضاً (1/ 126) رقم 1451حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، قال عمر: من نقَّى أنفه أو حك إبطه توضأ. وهذا إسناد ضعيف أيضاً، فيه علتان: ضعف ليث، والانقطاع، فإن مجاهداً لم يسمع من =

(533 - 97) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو أنه كان يغتسل من نتف الإبط (¬1). [إسناده صحيح والأعمش عده الحافظ ممن تقبل عنعنته] والاغتسال هنا كالاغتسال للتبرد، فلعله فعله طلباً للنظافة من أثر الشعر، كما يغتسل الإنسان بعد حلق شعره، وليس هذا كالاغتسال للجنابة أو للجمعة، إذ لو كان واجباً لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (534 - 98) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ليس عليه وضوء في نتف الإبط (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

_ = عمر، ولعله لو ثبت عن عمر، فإنه يقصد بالوضوء غسل اليد، لا أنه حدث ناقض للوضوء، كما في الأثر الأول، فإنه قال: قم فاغسل يديك أو تطهر. والله أعلم. ورواه الدارقطني (1/ 151) قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل، نا الحسن بن يحيى، نا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، عن عمر بن الخطاب، قال: إذا مس الرجل إبطه فليتوضأ. ورواه الدارقطني أيضاً (1/ 150) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار به. (¬1) المصنف (1/ 55) رقم 570. (¬2) المصنف (1/ 55) رقم 567. (¬3) خلف بن خليفة قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبى قال: رأيت خلف بن خليفة، وهو كبير، فوضعه إنسان من يده، فلما وضعه صاح - يعنى: من الكبر - فقال له انسان: يا أبا أحمد حدثكم محارب بن دثار، وقص الحديث، فتكلم بكلام خفي، وجعلت لا أفهم، فتركته، ولم أكتب =

(535 - 99) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن أنه سئل عن الرجل يمس إبطه، فلم ير به بأساً إلا أن يدميه (¬1). ¬

_ = عنه شيئاً. الضعفاء الكبير (2/ 22). وقال ابن سعد: كان ثقة، ثم أصابه الفالج قبل أن يموت، حتى ضعف، وتغير لونه واختلط. الطبقات الكبرى (7/ 313). قلت: روى له مسلم من حديث ابن أبي شيبة عنه، إلا أن الحاكم ذكر في المدخل أن مسلماً إنما أخرج له في الشواهد، وهو كما قال: فقد أخرج له مسلم ثلاثة أحاديث، وهي: الأول: حديث عمرو بن حريث، قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفجر، فسمعته يقرأ {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس} [التكوير: 15، 16] وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجداً. وقد أخرجه مسلم من حديث البراء من طريق آخر. الحديث الثاني: رواه مسلم من طريق خلف بن خليفة، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله. قال: وأنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما. ثم ذكر قصة طويلة. وقد أخرجه مسلم من طريق عبد الواحد بن زياد، حدثنا يزيد بن كيسان به. الحديث الثالث: رواه مسلم (2844) من طريق خلف بن خليفة، حدثنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع وجبة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تدرون ما هذا؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر رمى به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوى في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها. ورواه مسلم من طريق مروان، عن يزيد بن كيسان به. وفي الإسناد أيضاً: ليث بن أبي سليم، ضعيف. (¬1) المصنف (1/ 55) رقم 568.

[إسناده صحيح] (536 - 100) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن محمد، قال: هؤلاء يقولون: من مس إبطه أعاد الوضوء، وأنا لاأقول ذلك، ولا أدري ما هذا (¬1). [إسناده صحيح] قال ابن حزم: برهان إسقاطنا الوضوء من كل ما ذكرنا، هو أنه لم يأت قرآن ولا سنة ولا إجماع بإيجاب وضوء في شيء من ذلك، ولا شرع الله تعالى على أحد من الإنس والجن إلا من أحد هذه الوجوه، وما عداها فباطل، ولا شرع إلا ما أوجبه الله تبارك وتعالى، وأتانا به رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 55) 569. (¬2) المحلى (مسألة: 169).

الباب الخامس في الشارب

الباب الخامس في الشارب

تمهيد

تمهيد المسلم مطلوب منه التميز عن غيره من الكفار، ولهذا نهي أن يلبس لباسهم، وأن يوافقهم في الظاهر، لما في ذلك من التشبه فيهم، والتشبه في الظاهر يقود إلى التشبه بالباطن، وفي الحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 50،92) وابن أبي شيبة (6/ 471) رقم 33016،وعبد بن حميد (848)، وأبو داود (4031) والطبراني في مسند الشاميين (216)، والبيهقي في شعب الإيمان (1199) من طريق عبد الرحمن بن ثابت، عن حسان بن عطية، عن أبي منيب الجرشي، عن ابن عمر. قال الحافظ في الفتح (6/ 98): " أبو منيب لا يعرف اسمه، وعبد الرحمن بن ثابت مختلف في توثيقه ". اهـ بينما قال الحافظ في موضع آخر من الفتح (10/ 271): " أخرجه أبو داود بسند حسن ". وقال أيضاً (10/ 274): " وثبت أنه قال: من تشبه بقوم فهو منهم. كما تقدم معلقاً في كتاب الجهاد، من حديث ابن عمر، وصله أبو داود. اهـ قلت: عبد الرحمن بن ثابت مع كونه مختلفاً فيه، فقد تغير بآخرة، فإسناد حديثه هذا إلى الضعف أقرب. وله شاهد مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 470) رقم 33015، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 244) رقم 390 من طريق الأوزاعي، عن سعيد بن جبلة، عن طاووس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ في الفتح (6/ 98) وله شاهد مرسل بإسناد حسن. واختلف على الأوزاعي، فروي عنه مرسلاً كما سبق. ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (231) عن أبي أمية الطرسوسي، عن محمد بن وهب بن عطية، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي منيب الجرشي، عن ابن عمر. والأول أرجح، لأن الوليد بن مسلم مدلس، وقد عنعنه، وهو يدلس أحاديث الأوزاعي =

وفي قص الشارب وإحفاؤه تحقيق لجانب من جوانب التميز من جهة، وفيه أيضاً من النظافة ما فيه. قال ابن دقيق العيد: " في قص الشارب واحفائها وجهان: أحدهما: مخالفة زي الأعاجم، وقد وردت هذه العلة منصوصة في الصحيح، حيث قال: " خالفوا المجوس ". والثاني: أن زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في النظافة وأنزه من وضر الطعام (¬1). وقال الشيخ ولي الدين العراقي في شرح سنن أبي داود: " الحكمة في قص الشوارب أمر ديني، وهو مخالفة شعار المجوس في إعفائه، كما ثبت التعليل ¬

_ = خاصة. كما أن شيخ الطحاوي أبا أمية الطرسوسي له أوهام إذا حدث من حفظه، كما أن فيه اختلافاً آخر على الأوزاعي، فقد قال الزيلعي في نصب الراية (4/ 347): "أخرجه البزار أيضاً عن صدقة بن عبد الله، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. قال: ولم يتابع صدقة على روايته هذه، وغيره يرويه عن الأوزاعي مرسلا". اهـ كما رجح رواية الأوزاعي المرسلة أبو حاتم الرازي، كما في العلل لابنه (1/ 319). ورواه معمر بن راشد في كتاب الجامع (20986) عن قتادة، أن عمر رأى رجلاً قد حلق قفاه، ولبس حريراً، فقال: من تشبه بقوم فهو منهم. وهذا مع كونه موقوفاً على عمر، فإنه من رواية معمر، عن قتادة، وفيها كلام. كما أن في الباب حديث حذيفة مرفوعاً، رواه البزار في مسنده كما في كشف الأستار (144) والطبراني في الأوسط (8/ 179) رقم 8327 من طريق علي بن غراب، ثنا هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن أبيه مرفوعاً. قال البزار: لا نعلمه مسنداً إلا عن حذيفة إلا من هذا الوجه، وقد وقفه بعضهم على حذيفة. اهـ (¬1) إحكام الأحكام (1/ 124).

به في الصحيح، وأمر دنيوي: وهو تحسين الهيئة، والتنظف مما يعلق به من الدهن، والأشياء التي تلصق بالمحل كالعسل، والأشربة، ونحوها. وقد يرجع تحسين الهيئة إلى الدين؛ لأنه يؤدي إلى قبول قول صاحبه، وامتثال أمره من أرباب الأمر كالسلطان، والمفتي والخطيب، ونحوهم، ولعل في قوله تعالى: {وصوركم فأحسن صوركم} (¬1) إشارة إليها، فإنه يناسب الأمر بما يزيد في هذا، كأنه قال: قد أحسن صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، وكذا قوله تعالى حكاية عن إبليس {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} (¬2) فإن إبقاء ما يشوه الخلقة تغيير لها، لكونه تغييراً لحسنها، ذكر ذلك كله تقي الدين السبكي (¬3). المقصود بالشارب: الشعر النابت على الشفة العليا، واختلف في جانبيه، وهما السبالان: فقيل: هما من الشارب، فيشرع قصهما. وقيل: هما من جملة شعر اللحية. ذكر ذلك الحافظ في الفتح، وسيأتي مزيد بحث إن شاء الله عن ذلك. وقص الشارب: هو الإطار، وهو طرف الشعر المستدير على الشفة (¬4). وقيل: الشارب: اسم لمحل الشعر، كما ذكره في التحقيق. ¬

_ (¬1) غافر: 64. (¬2) النساء: 119. (¬3) تنقيح الفتاوى الحامدية (2/ 330). (¬4) الفواكه الدواني (2/ 305).

الفصل الأول حكم قص الشارب

الفصل الأول حكم قص الشارب اختلف الفقهاء في قص الشارب فقيل: سنة، وهو مذهب جمهور الفقهاء (¬1). وقيل: فرض، وهو اختيار ابن حزم (¬2)، وابن العربي (¬3) والشوكاني دليل القائلين بالوجوب. الدليل الأول: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإحفاء الشوارب، والأصل في الأمر ¬

_ (¬1) انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر من الحنفية (2/ 556). وحكى الإجماع على أنه سنة ابن عابدين في حاشيته (6/ 407) وقال النووي الشافعي في المجموع (1/ 340): " وأما قص الشارب فمتفق على أنه سنة " اهـ. وقال العراقي في طرح التثريب (2/ 76): " فيه استحباب قص الشارب، وهو مجمع على استحبابه، وذهب بعض الظاهرية إلى وجوبه ". قلت: إذا كان بعض الظاهرية قد ذهبوا إلى الوجوب فكيف يقال: متفق عل استحبابه، إلا إذا كان على قول من لا يعتد بخلاف الظاهرية، وقد أجبت عن هذا القول، وبينت ضعفه. وانظر حاشية الجمل (5/ 267). وقال الشوكاني في نيل الأوطار (1/ 142): قص الشارب سنة بالاتفاق!! وهو ممن يعتد بخلاف الظاهرية، إلا أنه في بعض الأحيان يتابع النووي، عليهما رحمة الله. وقال ابن مفلح الحنبلي في الفروع (1/ 130): " أطلق أصحابنا وغيرهم الاستحباب " أي في قص الشارب. اهـ وانظر كشاف القناع (1/ 75)، ومطالب أولي النهى (1/ 85). (¬2) المحلى (1/ 423). وقال ابن مفلح في الفروع (1/ 130): وذكر ابن حزم الإجماع أن قص الشارب، وإعفاء اللحية فرض ". (¬3) نقله عنه الصنعاني في العدة شرح العمدة (1/ 351).

الوجوب، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم} (¬1). (537 - 101) فقد روى البخاري، قال: حدثنا محمد بن منهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خالفوا المشركين: وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب. وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر، قبض على لحيته فما فضل أخذه. وهو في مسلم دون الموقوف على ابن عمر (¬2). وفي رواية للبخاري: " أنهكوا الشوارب " (¬3). وفي رواية لمسلم: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " (¬4). (538 - 102) وروى مسلم، قال: حدثني أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (¬5). (539 - 103) وروى مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، ¬

_ (¬1) النور: 63 (¬2) صحيح البخاري (5892)، ومسلم (259). (¬3) صحيح البخاري (5893). (¬4) صحيح مسلم (259). (¬5) مسلم (260).

الدليل الثاني

عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية (¬1). وإذا كان إعفاء اللحية واجباً، كان قص الشارب كذلك. ووجه آخر دليل على الوجوب أن قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " خالفوا المشركين " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " خالفوا المجوس " هذه الصيغة تقتضي التحريم؛ لأن التشبه بالمشركين لا يجوز، فلما أمر بإحفاء الشارب، وقرن ذلك بمخالفة أهل الشرك والضلال تأكد الوجوب. الدليل الثاني: (540 - 104) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى، عن يوسف بن صهيب (ح) ووكيع، ثنا يوسف، عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يأخذ من شاربه فليس منا (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). فهذا الحديث يدل على أن الأخذ من الشارب واجب، بل لو قيل: إن تاركه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب لم يكن بعيداً لهذا الوعيد. دليل القائلين بأن قص الشارب سنة. حملوا الأمر في الأحاديث على الاستحباب، ولا أعلم لهم صارفاً مقبولاً. وحملوا حديث: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " حملوه على ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (259). (¬2) مسند أحمد (4/ 366،368). (¬3) رجاله كلهم ثقات، وسبق الكلام عليه.

حديث: " من لم يتغن بالقرآن فليس منا " أي ليس على طريقتنا، وسنتنا. وقد أجبت عن ذلك فيما سبق في باب الاستحداد.

الفصل الثاني هل يقص الشارب أو يحلق؟

الفصل الثاني هل يقص الشارب أو يحلق؟ اختلف الفقهاء في قص الشارب وحلقه. فقيل: يقص، ولا يحلق، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب أحمد (¬3). قال مالك: أرى أن يؤدب من حلق شاربه، وقال أيضاً: حلقه من البدع، وكان يرى أن حلقه مثلة (¬4). وقيل: الحف أولى من القص، قال الطحاوي: وهو مذهب أبي حنيفة، ¬

_ (¬1) الفواكه الدواني (2/ 305)، وفي المنتقى للباجي (7/ 232): " قال مالك: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وهو الإطار، ولا يجزه فيمثل بنفسه " اهـ، وانظر حاشية العدوي (2/ 442). (¬2) وانظر طرح التثريب (2/ 76)، وتحفة المحتاج (9/ 375)، مغني المحتاج (6/ 144)، حاشية الجمل (2/ 48)، نهاية المحتاج (8/ 148). قال النووي في المجموع (1/ 340): " ثم ضابط قص الشارب أن يقص حتى يبدو طرف الشفة، ولا يحفه من أصله. هذا مذهبنا " اهـ. قال الطحاوي: لم أر عن الشافعي شيئاً منصوصاً، وأصحابه الذين رأيناهم كالمزني والربيع كانوا يحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلا عنه، وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون الإحفاء أفضل من التقصير، ثم قال الحافظ ابن حجر: وأغرب ابن العربي، فنقل عن الشافعي أنه يستحب حلق الشارب، وليس ذلك معروفاً عند أصحابه. اهـ نقلاً من فتح الباري (10/ 347). (¬3) الإنصاف (1/ 121،122). (¬4) المنتقى (7/ 266).

دليل من قال: السنة قص الشارب

وأبي يوسف (¬1)، وهو رواية عن أحمد (¬2). وقيل: يخير بين القص والإحفاء، وهو مذهب الإمام الطبري (¬3). دليل من قال: السنة قص الشارب. الدليل الأول: (541 - 105) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬4). الدليل الثاني: (542 - 106) روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما، عن جعفر - قال يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان - عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة (¬5). ¬

_ (¬1) قال الطحاوي بعد أن ذكر الآثار في الموضوع (4/ 230): " فثبتت الآثار كلها التي رويناها في هذا الباب، ولا تضاد، ويجب بثبوتها أن الإحفاء أفضل من القص، ثم قال: " حكم الشارب، قصه حسن، وإحفاؤه أحسن وأفضل. وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف، ومحمد " وانظر الفتاوى الهندية (4/ 230، 231)، وددر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 323). (¬2) الإنصاف (1/ 121،122)، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 85). (¬3) فتح الباري (10/ 347). (¬4) صحيح البخاري (5891)، ومسلم (257). (¬5) صحيح مسلم (258). وقد سبق تخريجه.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (543 - 107) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى، عن يوسف بن صهيب (ح) ووكيع، ثنا يوسف، عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يأخذ من شاربه فليس منا (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الرابع: (544 - 108) روى أبو داود الطيالسي، قال: قال حدثنا المسعودي، قال: أخبرني أبو عون الثقفي محمد بن عبد الله (¬3)، عن المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا طويل الشارب، فدعا بسواك وشفرة، فوضع السواك تحت الشارب فقص عليه (¬4). [لم أقف على سماع أبي عون من المغيرة، فإن ثبت فالحديث صحيح، وقد تابع أبا دواد عمرو بن مرزوق، وهو ممن سمع من المسعودي قبل أختلاطه، والله أعلم] (¬5). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (4/ 366،368). (¬2) رجاله كلهم ثقات، وسبق الكلام عليه. (¬3) الصواب: محمد بن عبيد الله أبو عون الثقفي. (¬4) مسند أبي داود الطيالسي (698)، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 150). (¬5) وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 229) من طريق عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا المسعودي به. والمسعودي قد اختلط، وأبو داود الطيالسي ممن سمع منه بعد الاختلاط، وتابعه هاشم بن القاسم وهو ممن سمع منه بعد الاختلاط، لكن رواه عنه عمرو =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بن مرزوق البصري، وهو ممن سمع منه قبل الاختلاط.، انظر الكواكب النيرات رقم: 35. فقد أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 222) قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنا أبو جعفر محمد بن عمرو الرزاز، ثنا أحمد بن الخليل البرجلاني، ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، ثنا المسعودي. وأنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقرئ، أنا الحسن بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب القاضي، ثنا عمرو بن مرزوق، أنا المسعودي به. - وأبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران قال الخطيب: كتبنا عنه، وكان صدوقاً حسن الأخلاق، تام المروءة، ظاهر الديانة. تاريخ بغداد (12/ 98،99). - أبو جعفر الرزاز، ثقة. انظر تاريخ بغداد (3/ 132)، السير (15/ 385). - أحمد بن الخليل البرجلاني: قال الخطيب: كان ثقة. تاريخ بغداد (4/ 133). - أبو النضر هاشم بن القاسم من رجال الجماعة، ثقة ثبت، فالإسناد الأول إلى المسعودي حسن لذاته. وبقية رجال الإسناد ثقات. وأما تراجم إسناد الطريق الثاني عند البيهقي، فإليك هو: - أبو الحسن المقري هو علي بن محمد بن علي بن حسين بن السقا الإسفراييني. قال الذهبي: هو الإمام الحافظ الناقد من أولاد أئمة الحديث، سمع الكتب الكبار، وأملى وصنف. سير أعلام النبلاء (17/ 305). - الحسن بن محمد بن إسحاق: ثقة، روى عنه الحاكم، وقال: كان محدث عصره، ومن أجود الناس أصولاً. انظر سير أعلام النبلاء (15/ 535) و (16/ 50). - يوسف بن يعقوب القاضي. قال الذهبي: هو الإمام الحافظ الفقيه الكبير الثقة القاضي، أبو محمد البصري، من أحفاد حماد بن زيد، صاحب التصانيف، ولي قضاء البصرة وواسط. سير أعلام النبلاء (14/ 85) وتذكرة الحفاظ (2/ 660)، وتاريخ بغداد (4/ 310). - عمرو بن مرزوق: قال الحافظ: ثقة، فاضل، له أوهام. قلت: قد تابعه أكثر من واحد. فالإسناد هذا صحيح إلى المسعودي. =

الدليل الخامس

الدليل الخامس (545 - 109) روى أحمد، قال: ثنا هشيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، يعني: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصوا الشوارب واعفوا اللحى (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله] (¬2). ¬

_ = وروى البيهقي في الشعب أيضاً (5/ 222) رقم 6447 قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنا أبو جعفر الرزاز، ثنا يحيى بن جعفر، ثنا إسحاق بن منصور، ثنا غالب بن نجيح، عن جامع بن شداد، عن المغيرة بن عبد الله، عن المغيرة بن شعبة، قال: تسحرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان لحم، وكان يقطعه بالعنزة، فقال: لقد وفي شاربك يا مغيرة فَقَصَ لي منه على سواك. والحديث رجاله ثقات إلا غالب بن نجيح، لم يوثقه إلا ابن حبان. الثقات (7/ 309). وفي التقريب: مقبول. يعني إن توبع، وإلا فلين. ثم وجدته قد أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 230) من طريقين عن سفيان، عن مسعر، عن أبي صخرة جامع بن شداد المحاربي به. وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات. (¬1) المسند (2/ 229). (¬2) فيه عمر بن أبي سلمة، قال الحافظ: صدوق يخطئ. وأخرجه أحمد (2/ 356) حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة به. بلفظ: أعفوا اللحى، وخذوا من الشوارب، وغيروا شيبكم، ولا تشبهوا باليهود والنصارى. وقد أخرجه الطحاوي (4/ 230) وابن عدي في الكامل (5/ 41) من طريق هشيم به. وقد توبع عمر بن أبي سلمة، فزال ما يخشى من خطئه، فقد روى مسلم، قال: حدثني أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني العلاء بن =

الدليل السادس

الدليل السادس: (546 - 110) روى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا عبدان بن أحمد، ثنا الفضل بن سهل الأعرج، ثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا الحسن بن صالح عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقص شاربه، وأن إبراهيم الخليل كان يقص شاربه (¬1). [إسناده ضعيف، واختلف في رفعه ووقفه] (¬2). ¬

_ = عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس. وأخرجه الطبراني في الصغير (2/ 75) من طريق سليمان بن داود اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى. قال الطبراني: لم يروه عن يحيى بن أبي كثير إلا سليمان. اهـ قلت: هو إسناد ضعيف جداً، فيه سليمان بن داود اليمامي. قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (4/ 11). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، منكر الحديث، ما أعلم له حديث صحيحاً. الجرح والتعديل (4/ 110). (¬1) المعجم الكبير (11725). (¬2) الحديث مداره على يحيى بن أبي بكير، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 230) من طريق محمد بن علي بن محرز، عن يحيى بن أبي بكير به، إلا أنه قال: يجز شاربه، بدلا من يقص شاربه. وقال ابن عبد البر في التمهيد (21/ 63): روى الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص شاربه، ويذكر أن إبراهيم كان =

الدليل السابع

الدليل السابع: (547 - 111) روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو زكريا العنبري، ثنا: محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا عبد الرزاق، ثنا: معمر عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} (¬1)، قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء. [وإسناده صحيح] (¬2) ¬

_ = يقص شاربه. وروته طائفة منهم زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفاً. قلت: قد توبع الحسن بن صالح في رفعه، فقد روى الطبراني (11724) في المعجم الكبير، قال: حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، ثنا إسماعيل بن عمرو البجلي، ثنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوفوا اللحى وقصوا الشوارب، قال: وكان إبراهيم خليل الرحمن يوفي لحيته ويقص شاربه. ولعل التخليط من سماك، فإن روايته عن عكرمة مضطربة. والله أعلم. وروى عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس بلفظ أخر، فقد قال ابن أبي حاتم في العلل (2/ 272): سألت أبي عن حديث رواه بعض أصحاب زائدة، عن زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قص الشارب من الدين. قال أبي: حدثناه أحمد بن يونس، عن زائدة موقوف بهذا الإسناد، وهو أصح ممن يرفعه. (¬1) البقرة: 124. (¬2) سنن البيهقي (1/ 149). وسبق تخريجه.

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (548 - 112) روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع، عن زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة، قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، زاد قتيبة: قال وكيع انتقاص الماء يعني الاستنجاء. [المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ] (¬1). الدليل التاسع (549 - 113) روى ابن أبي شيبة قال: نا ابن نمير، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس قال: التفث: الرمي والذبح والحلق والتقصير والأخذ من الشارب والأظفار واللحية. [رجاله ثقات] (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم (261) وسبق تخريجه في كتاب السواك. (¬2) المصنف (3/ 429) رقم 15673. ورواه المحاملي في الأمالي (ص: 163) رقم 135 ثنا الحسين بن محمود بن خداش، قال: حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس، أنه قال في قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} قال: التفث: حلق الرأس وأخذ الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة وقص الأظفار، والأخذ من العارضين ورمي الجمار، =

الدليل العاشر

الدليل العاشر (550 - 114) روى مالك في الموطأ، قال: عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أول الناس ضيف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص الشارب، وأول الناس رأى الشيب، فقال: يا رب ما هذا؟ فقال: الله تبارك وتعالى: وقاراً ياإبراهيم فقال: رب زدني وقاراً. قال يحيى: وسمعت مالكا يقول: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وهو الإطار، ولا يجزه فيمثل بنفسه (¬1). [رجاله ثقات، إلا أنه موقوف على سعيد] (¬2). الدليل الحادي عشر: (551 - 115) روى الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا هيثم بن خلف، ثنا الحسن بن حماد الوراق، ثنا أبو يحيى الحماني، عن يوسف بن ميمون، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، قال: إن الله ورسوله حرم عليكم شرب الخمر، وثمنها، وحرم عليكم أكل الميتة، وثمنها، وحرم عليكم الخنازير وأكلها وثمنها، وقال: قصوا الشوارب، وأعفوا اللحى، ولا تمشوا في الأسواق إلا وعليكم الأزر، إنه ليس منا من ¬

_ = والموقف بعرفة ومزدلفة. وعبد الملك: هو ابن أبي سليمان ثقة، وهشيم وإن كان قد عنعن إلا أنه توبع. والله أعلم. (¬1) الموطأ (2/ 922). (¬2) سبق تخريجه في باب الختان. وقد روى مرفوعاً، ولا أظنه محفوظاً.

الدليل الثاني عشر

عمل سنة غيرنا (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثاني عشر: (552 - 116) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائد بن حبيب، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا نؤمر أن نوفي السبال، ونأخذ من الشوارب (¬3). ¬

_ (¬1) الأوسط (9/ 162)، ورواه الطبراني في الكبر (11/ 152) حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا الحسن بن حماد به. (¬2) فيه يوسف بن ميمون. قال البخاري: منكر الحديث جداً. التاريخ الكبير (8/ 384). وقال أبو طالب: قال أحمد بن حنبل: يوسف بن ميمون الصباغ ضعيف، ليس بشيء. الجرح والتعديل (9/ 230). وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن يوسف بن ميمون الصباغ، فقال: ليس بالقوي منكر الحديث جدا ضعيف. المرجع السابق. وقال ابن عدي بعد أن ساق جملة من أحاديثه، قال: وهذه الأحاديث مع ما لم اذكرها ليوسف الصباغ ما أرى بها بأساً. الكامل (7/ 165). وقال أبو زرعة: واهي الحديث. تهذيب الكمال (32/ 468). وقال الدارقطني: ضعيف. المرجع السابق. وفي التقريب: ضعيف. وفيه أبو يحيى الحماني: مختلف فيه. وفي التقريب: صدوق يخطئ. قال الهميثمي في مجمع الزوائد (5/ 91) رواه الطبراني في الأوسط بطوله، وفي الكبير باختصار، وفيه يوسف بن ميمون، وثقه ابن حبان، وضعفه الأئمة أحمد وغيره. (¬3) المصنف (5/ 227) رقم 25504.

الدليل الثالث عشر

[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثالث عشر: (553 - 117) روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبيد بن شريك، ثنا عبد الوهاب بن نجدة، ثنا إسماعيل بن عياش، ثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، قال: رأيت خمسة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصون شواربهم، ويعفون لحاهم، ويصفرونها: أبو أمامة الباهلي وعبد الله بن بسر وعتبة بن عبد السلمي والحجاج بن عامر الثمالي والمقدام بن معد يكرب الكندي، كانوا يقصون شواربهم مع طرف الشفة (¬2). [إسناده حسن، وابن عياش روايته عن أهل بلده حسنة] (¬3). ¬

_ (¬1) فيه أشعب بن سوار الكندي، وهو ضعيف، كما أن فيه عنعنة أبي الزبير لمن عده مدلساً. (¬2) سنن البيهقي الكبرى (1/ 151). (¬3) دراسة الإسناد: - أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان ثقة، انظر تاريخ بغداد (11/ 329). - أحمد بن عبيد الصفار. ثقة. انظر السير (15/ 441)، تاريخ بغداد (4/ 261). - عبيد بن شريك، هو عبيد بن عبد الوحد بن شريك: قال الذهبي: كان ثقة صدوقاً. سير أعلام النبلاء (13/ 358)، وتاريخ بغداد (11/ 99،100). - عبد الوهاب بن نجدة، قال الحافظ في التقريب: ثقة من العاشرة. - إسماعيل بن عياش، صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم. قلت: هذا الحديث من روايته عن أهل بلده، فإن شرحبيل بن مسلم شامي. وبناء عليه يكون الإسناد حسناً إن شاء الله تعالى. والله أعلم.

الدليل الرابع عشر

الدليل الرابع عشر: (554 - 118) روى الطبراني، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا إسحاق بن عيسى الطباع، قال: رأيت مالك بن أنس وافر الشارب، فسألته عن ذلك، فقال: حدثني زيد بن أسلم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أن عمر بن الخطاب كان إذا غضب فتل شاربه ونفخ (¬1). [رجاله ثقات إلا إسحاق بن عيسى فإنه صدوق، ولكن إسناده منقطع، عامر بن عبد الله لم يدرك عمر] (¬2). دليل من قال: السنة الحلق. الدليل الأول: (555 - 119) روى البخاري، قال: حدثنا محمد بن منهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خالفوا المشركين: وفروا اللحى، واحفوا الشوارب. وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر، قبض على لحيته فما فضل أخذه، وهو في مسلم دون الموقوف (¬3). وفي رواية للبخاري: " أنهكوا الشوارب " (¬4). وفي رواية لمسلم: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " (¬5). ¬

_ (¬1) المعجم الكبير (1/ 66) رقم 54. (¬2) قال الهيثمي (5/ 166): " رجاله رجال الصحيح خلا عبد الله بن أحمد وهو ثقة مأمون إلا أن عامر بن عبد الله بن الزبير لم يدرك عمر. اهـ (¬3) صحيح البخاري (5892). (¬4) صحيح البخاري (5893). (¬5) صحيح مسلم (259).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (556 - 120) وروى مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية (¬1). الدليل الثالث: (557 - 121) روى مسلم، قال: حدثني أبو بكر بن إسحاق أخبرنا بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (¬2). قوله: " جزوا " محتمل للحف، وللقص. قال الطحاوي: يحتمل أن يكون جزاً معه الإحفاء، ويحتمل أن يكون ما دون ذلك (¬3). الدليل الرابع: (558 - 122) سروى ابن حبان في صحيحه، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا ابن أبي أويس، حدثنا أخي، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن فطرة الإسلام الغسل يوم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (259). (¬2) صحيح مسلم (260). (¬3) شرح معاني الآثار (4/ 230).

الدليل الخامس

الجمعة، والاستنان، وأخذ الشارب وإعفاء اللحى، فإن المجوس تعفي شواربها وتحفي لحاها، فخالفوهم، حدوا شواربكم واعفوا لحاكم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال منه قوله: " حدوا شواربكم ". الدليل الخامس: (559 - 123) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن عثمان الحاطبي، قال: رأيت ابن عمر يحفي شاربه. [إسناده فيه لين، وهو ثابت عنه من فعله رضي الله عنه] (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (1221). (¬2) فيه إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس، روى عنه الشيخان جاء في التهذيب: قال أبو طالب، عن أحمد: لا بأس به، وكذا قال عثمان الدارمي، عن ابن معين. وقال ابن أبي خيثمة عنه: صدوق، ضعيف العقل، ليس بذاك - يعني أنه لا يحسن الحديث ولا يعرف أن يؤديه أو يقرأ من غير كتابه. وقال معاوية بن صالح عنه: هو وأبوه ضعيفان. وقال إبراهيم بن الجنيد، عن يحيى: مخلط يكذب ليس بشيء. وقال أبو حاتم: محله الصدق، وكان مغفلاً. وقال النسائي: ضعيف. وقال في موضع آخر: غير ثقة. وقال اللالكائي: بالغ النسائي في الكلام عليه إلى أن يؤدي إلى تركه، ولعله بان له ما لم يبن لغيره؛ لأن كلام هؤلاء كلهم يؤول إلى أنه ضعيف. وقال ابن عدي: روى عن خاله أحاديث غرائب لا يتابعه عليها أحد. انظر تهذيب التهذيب (1/ 271). (¬3) المصنف (5/ 226) رقم 25494. فيه عثمان بن إبرهيم الحاطبي، لم يرو عنه أحد =

الدليل السادس

الدليل السادس: (560 - 124) روى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن حبيب، قال: رأيت ابن عمر قد جز شاربه كأنه قد حلقه (¬1). [إسناده حسن إن ثبت سماع حبيب بن أبي مرزوق من ابن عمر] الدليل السابع: (561 - 125) روى الطبراني في الكبير، قال: حدثنا يحيى بن أيوب العلاف المصري، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا إبراهيم بن سويد، حدثني عثمان بن عبيد الله بن رافع، أنه رأى أبا سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وسلمة بن الأكوع، وأبا أسيد البدري، ورافع بن خديج، وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم يأخذون من الشوارب كأخذ الحلق، ويعفون اللحى وينتفون الآباط (¬2). ¬

_ = من أصحاب الكتب الستة. قال ابن أبي حاتم: سألت أبى عنه، فقال: روى ابنه عبد الرحمن أحاديث منكرة. قلت: فما حاله؟ قال: يكتب حديثه، وهو شيخ. الجرح والتعديل (6/ 144). ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 154). روى البخاري معلقا بصيغة الجزم، فهو صحيح عنده: قال: وكان ابن عمر يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد، ويأخذ هذين: يعني: بين الشارب واللحية.: باب قص الشارب. وانظر إلى الأثر التالي. (¬1) المصنف رقم 25495، وقد قال هنا: رأيت ابن عمر، ولم يذكر المزي في تهذيبه ابن عمر، وإنما ذكر نافعاً فقط، فيتأمل. والله أعلم. (¬2) المعجم الكبير (1/ 241) 668.

[شيخ الطبراني صدوق، وعثمان بن عبيد الله بن رافع لم يذكر فيه شيء، وبقية رجاله ثقات] (¬1). ¬

_ (¬1) دراسة الإسناد: يحيى بن أيوب العلاف روى عنه النسائي والطبراني والطحاوي، وقال النسائي: صالح. تهذيب الكمال (31/ 230). وقال الذهبي: صدوق. الكاشف (6135). وكذا قال الحافظ في التقريب. - سعيد بن أبي مريم: قال حسين بن الحسن الرازي: سألت أحمد بن حنبل عمن اكتب بمصر، فقال: عن ابن أبى مريم. الجرح والتعديل (4/ 13). وقال ابن أبي حاتم: سئل أبى عنه، فقال: ثقة. المرجع السابق. قال أبو داود: ابن أبي مريم عندي حجة. تهذيب الكمال (4/ 16). - إبراهيم بن سويد: قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. الجرح والتعديل (2/ 104). وسئل أبو زرعة عن إبراهيم بن سويد، فقال: ليس به بأس. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أتى بمناكير. الثقات (6/ 12). وفي التقريب: ثقة يغرب. - عثمان بن عبيد الله بن رافع: ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/ 156)، وانظر التاريخ الكبير (6/ 232). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 190). قال الهيثمي في المجمع (5/ 166): " عثمان هذا لم أعرفه، وبقية أحد الأسنادين رجاله رجال الصحيح. والحديث أخرجه الطبراني أيضاً (6217) قال: حدثنا الحسن بن علي المعمري، ثنا إسحاق بن موسى الأنصاري، ثنا عاصم بن عبد العزيز الأشجعي، ثنا عثمان بن عبد الله بن رافع، أنه رأى عبد الله بن عمر وأبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأبا أسيد الساعدي وأنس بن مالك ورافع بن خديج وسلمة بن الأكوع يحفون الشوارب حفا، وينتفون الآباط =

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (562 - 126) روى الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن أبان، نا أحمد بن علي بن شوذب، ثنا أبو المسيب سلام بن مسلم، نا ليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أظنه مرفوعاً: " قال: ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وإن تسليم النصارى بالأكف، ولا تقصوا النواصي، وأحفوا الشوارب، ولا تمشوا في المساجد والأسواق، وعليكم القمص إلا وتحتها الأزر (¬1). [سلام بن مسلم إن كان الطويل فهو متروك] (¬2). ¬

_ = ويقصون الأظفار. فالحديث رواه إبراهيم بن سويد وعاصم بن عبد العزيز الأشجعي عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، وقيل: عثمان بن عبد الله بن رافع. وخالفهم محمد بن عجلان، فقد رواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 151) قال: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أخبرنا أبو بكر القطان، ثنا أحمد بن يونس، ثنا الفريابي، ثنا سفيان، عن محمد بن عجلان، عن عبيد الله بن أبي رافع، قال: رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاري وابن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم حتى الحلق. قال الإمام أحمد: كذا وجدته، وقال غيره: عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، وقيل: ابن رافع. (¬1) الأوسط (7/ 238). (¬2) لم أقف على كنية سلام بن مسلم حتى أجزم باسمه، وقد وقفت على رجل اسمه سلم بن سلام، وكنيته أبو المسيب كهذا، فإن كان انقلب اسمه فإن سلم بن سلام فيه لين، وهو من رجال التهذيب، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (4/ 268). =

دليل من قال بالتخيير بين الحلق والقص

دليل من قال بالتخيير بين الحلق والقص استدل بأدلة الفريقين، وأعمل أدلة كل قول، فرأى أن الأمر واسع إن شاء قصر، وإن شاء حلق. جواب القائلين بأن السنة القص. قال ابن عبد البر: في هذا الباب أصلان: أحدهما: أحفوا الشوارب، وهو لفظ مجمل، محتمل للتأويل. والثاني: قص الشارب، وهو مفسر، والمفسر يقضي على المجمل مع ما روي فيه أن إبراهيم أول من قص شاربه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قص الشارب من الفطرة: يعني: فطرة الإسلام، وهو عمل أهل المدينة، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب. والله الموفق للصواب. وأجابوا عن الإحفاء الوادر في الحديث: روى ابن القاسم عن مالك، أن تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحفاء الشوارب إنما هو أن يبدو الإطار، وهو ما احمر من طرف الشفة والإطار جوانب الفم المحدقة به. اهـ وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " انهكوا الشوارب " لا حجة فيه؛ لأن إنهاك الشيء لا ¬

_ = ولا أعلم أحداً وثقه، وفي التقريب: مقبول. فالإسناد ضعيف. وقال الهيثمي في المجمع (8/ 39): رواه الطبراني في الأوسط، وفيه من لم أعرفه. - أحمد بن علي بن شوذب الواسطي، له ذكر في تاريخ واسط ـ بحشل (2/ 250). وذكره المزي من تلاميذ الحارث بن منصور. تهذيب الكمال (5/ 287). ومن تلاميذ يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي أبو يوسف المدني. تهذيب الكمال (32/ 367).

جواب القائلين بالحلق

يقتضي إزالة جميعه، وإنما يقتضي إزالة بعضه. قال: صاحب الأفعال: نهكته الحمى نهكاً: أثرت فيه، وكذلك العبادة (¬1). جواب القائلين بالحلق. قال الطحاوي: رأينا الحلق قد أمر به في الإحرام، ورخص في التقصير فكان الحلق أفضل من التقصير، وكان التقصير من شاء فعله ومن شاء زاد عليه، إلا أنه يكون بزيادته عليه أعظم أجرا ممن قص، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك حكم الشارب، قصه حسن وإحفاؤه أحسن وأفضل (¬2). وقال أيضاً: وما احتج به مالك أن عمر كان يفتل شاربه إذا غضب أو اهتم، فجائز أن يكون كان يتركه حتى يمكن فتله، ثم يحلقه كما ترى كثيراً من الناس يفعله (¬3). وقال أيضاً: " وأما حديث المغيرة، فليس فيه دليل على شيء؛ لأنه يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، ولم يكن بحضرته مقراض يقدر على إحفاء الشارب. وقال أيضاً: " فهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كانوا يحفون شواربهم، وفيهم أبو هريرة، وهو ممن روينا عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من الفطرة قص الشارب ". ويحتمل أن حديث: " من الفطرة قص الشارب " يحتمل أن تكون الفطرة هي التي لا بد منها، وهي قص الشارب، وما سوى ذلك فضل ¬

_ (¬1) المنتقى شرح الموطأ (7/ 264). (¬2) شرح معاني الآثار (4/ 231). (¬3) نقله عنه ابن عبد البر في التمهيد (21/ 66).

الراجح

حسن، وأن مابعد ذلك من الإحفاء هو أفضل، وفيه من إصابة الخير ما ليس في القص (¬1). الراجح والله أعلم جواز الحلق والتقصير، وإن كان التقصير عندي أولى، لأن أحاديثه أكثر وأصح، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - فعله كما في حديث المغيرة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستطيع أن ينهكه أكثر مما فعل مما يدل على أن التقصير حتى تظهر الشفة أفضل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار (4/ 233) ببعض التصرف اليسير.

فرع كلام أهل العلم في السبالين

فرع كلام أهل العلم في السبالين اختلف أهل العلم في السبال (¬1)، فقيل: يكره بقاء السبال، وهو الراجح في مذهب الحنفية، واختاره العراقي من الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة أنه يسن قصهما (¬2). وقيل: لا بأس بترك سباليه، اختاره الغزالي وعليه أكثر الشافعية (¬3)، سبب الخلاف اختلافهم هل السبالان من اللحية أو الشارب. فمن قال: هما من الشارب استحب قصهما إسوة بالشارب. ومن قال: هما من اللحية: قال بتركهما. دليل من قال [بترك] (*) بقص السبالين. الدليل الأول: (563 - 127) روى أبو داود، قال: حدثنا ابن نفيل، ثنا زهير، قرأت على عبد الملك بن أبي سليمان، وقرأه عبد الملك على أبي الزبير، ورواه أبو الزبير، عن جابر قال كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة (¬4). ¬

_ (¬1) السبالان: تثنية سبال، بكسر السين، بمعنى المسبول: وهما طرفا الشارب، وقيل: السبال: هي اللحية. وقيل: مشترك بينهما، وسيأتي تعريفه مفصلاً في الفصل الخاص بالأخذ من اللحية. (¬2) مطالب أولي النهى (1/ 86). (¬3) مغني المحتاج (1/ 144)، تحفة المحتاج (9/ 375)، حاشية الجمل (5/ 267)، تحفة الحبيب (4/ 345). (¬4) سنن أبي داود (4201). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوع [بقص]، وهو سبق قلم أو خطأ طباعي، والله أعلم

الدليل الثاني

[إسناده حسن] (¬1). الدليل الثاني: قالوا من النظر: لا بأس بترك السبال؛ لأن ذلك لا يستر الفم، ولا يبقي فيه غمرة الطعام؛ إذ لا يصل إليه. قال العراقي: اختلفوا في كيفية قص الشارب، هل يقص طرفاه أيضاً، وهما المسميان: بالسبالين، أم يترك السبالان كما يفعله كثير من الناس؟ فقال الغزالي في إحياء علوم الدين: لا بأس بترك سباليه، وهما طرفا الشارب. فعل ذلك عمر رضي الله عنه وغيره؛ لأن ذلك لا يستر الفم، ولا يبقي فيه غمرة الطعام؛ إذ لا يصل إليه. اهـ (¬2). دليل من قال بقص السبالين. الدليل الأول: (564 - 128) روى الطبراني، قال: حدثنا أحمد قال حدثنا النفيلي قال ¬

_ (¬1) وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/ 350)، إلا أن من يرى أبا الزبير مدلساً قد يعله بالعنعنة. والله أعلم. والحديث رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 227) رقم 25504، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر: قال كنا نؤمر أن نوفي السبال ونأخذ من الشوارب. وهذا إسناد فيه ضعف من أجل أشعث، وقد خالف فيه أشعث عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي في متنه، وعبد الملك أرجح منه. ورواه البيهقي في السنن (5/ 33) من طريق محمد بن إسماعيل الأحمسي، عن المحاربي، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا نؤمر أن نوفر السبال في الحج والعمرة ". ولعله سقطت أداة الاستثناء (إلا). والمحاربي مدلس، وقد عنعنه، والله أعلم. (¬2) طرح التثريب (2/ 77).

قرأت على معقل بن عبيد الله عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال ذكر رسول الله المجوس فقال إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). ¬

_ (¬1) المعجم الأوسط (2/ 8) 1055. (¬2) رجاله ثقات إلا معقل بن عبد الله الجزري، وهو صدوق، جاء في ترجمته: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبى عن معقل بن عبيد الله، فقال: صالح الحديث، وقال مرة: ثقة، قال: وسألت يحيى بن معين عنه، فقال: ليس به بأس. الجرح والتعديل (8/ 286). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: ذكره أبى، عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: معقل بن عبيد الله الجزري ثقة. المرجع السابق. وقال معاوية: سمعت يحيى قال: معقل بن عبيد الله ضعيف. الضعفاء الكبير (4/ 221)، الكامل (6/ 452). وقال ابن عدي: ومعقل هذا هو حسن الحديث، ولم أجد في أحاديثه حديثاً منكراً فأذكره إلا حسب ما وجدت في حديث غيره ممن يصدق في غلط حديث أو حديثين. الكامل (6/ 452). وقال ابن حبان: وكان يخطىء، ولم يفحش خطؤه فيستحق الترك، وإنما كان ذلك منه على حسب ما لا ينفك منه البشر، ولو ترك حديث من أخطأ من غير أن يفحش ذلك منه لوجب ترك حديث كل محدث في الدنيا؛ لأنهم كانوا يخطؤن ولم يكونوا بمعصومين بل يحتج بخبر من يخطىء ما لم يفحش ذلك منه، فإذا فحش حتى غلب على صوابه ترك حينئذ، ومتى ما علم الخطأ بعينه وأنه خالف فيه الثقات ترك ذلك الحديث بعينه، واحتج بما سواه، هذا حكم المحدثين الذين كانوا يخطؤن، ولم يفحش ذلك منهم. الثقات (7/ 491). وفي التقريب: صدوق يخطئ. [تخريج الحديث] =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (565 - 129) روى أحمد في مسنده، قال: ثنا زيد بن يحيى، ثنا عبد الله بن العلاء بن زبر، حدثني القاسم، قال: سمعت أبا أمامة يقول: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال: يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب. قال: فقلنا يا رسول الله: إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب (¬1). ¬

_ = الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه (12/ 289، 290) رقم 5476 من طريق الحسن بن محمد بن أعين، قال: حدثنا معقل بن عبيد الله به. ورواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 151)، وفي شعب الإيمان (5/ 222). 6448 من طريق أبي عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي ثنا النفيلي به. وأخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (6/ 453) من طريق الفريابي، ثنا أبوجعفر النفيلي به. وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 94) من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن عقال الحراني، ثنا أبو جعفر النفيلي به. (¬1) المسند (5/ 264)، الحديث أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 236) رقم 7924، والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 214) من طريق زيد بن يحيى بن عبيد الدمشقي به .. وفي الإسناد القاسم بن عبد الرحمن مولى يزيد بن معاوية، مختلف فيه: =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: كره بعضهم بقاء السبال لما فيه من التشبه بالعجم، بل بالمجوس وأهل ¬

_ = قال أبو بكر الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل ذكر حديثا عن القاسم الشامي، عن أبى أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن الدباغ طهوره، فأنكره، وحمل على القاسم، وقال: يروى على بن يزيد عنه أعاجيب، وتكلم فيهما، وقال: ما أرى هذا إلا من قبل القاسم. الجرح والتعديل (7/ 113). وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعضلات، ويأتي عن الثقات بالأشياء المقلوبات حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها. المجروحين (2/ 211). وقال أيضاً: إذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم. المجروحين (2/ 62). وهذا كثير من ابن حبان في حق القاسم، فقد وثقه جماعة: قال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: القاسم ثقة، والثقات يروون عنه هذه الأحاديث ولا يرفعونها، ثم قال: يجيء من المشائخ الضعفاء ما يدل حديثهم على ضعفه. وقال ابن معين في موضع آخر: إذا روى عنه الثقات أرسلوا ما رفع هؤلاء. تهذيب التهذيب (8/ 289). وقال يعقوب بن سفيان والترمذي: ثقة. المرجع السابق. وقال الجوزجاني: كان خياراً فاضلاً أدرك أربعين رجلا من المهاجرين والأنصار. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق يغرب كثيراً. وبقية رجال الإسناد ثقات. وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/ 239) سألت أبي عن حديث رواه زيد بن يحيى بن عبيد، عن عبد الله بن العلاء بن زبر، قال: حدثنا القاسم مولى يزيد، قال: حدثنا أبو أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على شيوخ من الأنصار بيض لحاهم، فقال: يا معشر الانصار حمروا وصفروا وخالفوا اهل الكتاب وذكر الحديث. قال أبي: سألت شعيب بن شعيب وكان ختن زيد بن يحيى على ابنته، فسألته أن يخرج إلي كتاب عبد الله بن العلا، فأخرج إلي الكتاب، فطلبت هذا الحديث وحديثا آخر عن أبي عبيد الله ومسلم بن مشكم، عن أبي ثعلبة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سأله عن الاثم والبر، فلم أجد لهما أصلاً في كتابه، وليس هما منكرين يحتمل. اهـ

الكتاب، قال العراقي: وهذا أولى بالصواب، لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر، قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجوس، فقيل: إنهم يوفرون سبالهم، ويحلقون لحاهم، فخالفوهم " فكان ابن عمر يجز سباله كما تجز الشاة أو البعير. اهـ كلام العراقي (¬1)، وحديث ابن عمر سبق تخريجه (¬2). ¬

_ (¬1) طرح التثريب (2/ 77). (¬2) انظر ح 564، 582.

الفصل الثالث في التوقيت في قص الشارب

الفصل الثالث في التوقيت في قص الشارب لا يترك الشارب أكثر من أربعين يوماً، والخلاف في المسألة كالخلاف في تقليم الأظفار، ونتف الإبط وحلق العانة، وقد سبق ذكر الخلاف في تلك المسائل، والأقول فيها لا تخرج عن ثلاثة أقوال: قول: يقول بعدم التوقيت مطلقاً، فمتى طال الشارب عن المعتاد قصه. وقول: يقول لا يجوز تركه أكثر من أربعين يوماً. وقول: يقول يكره تركه أكثر من أربعين يوماً. وارجع إلى أدلة كل قول في مسألة التوقيت في الاستحداد إن شئت.

الباب السادس في أحكام اللحية

الباب السادس في أحكام اللحية

تمهيد

تمهيد تعريف اللحية. اللحية: بالكسر هذا هو المشهور المعروف. حكى الزمخشري فيه الفتح، وقال: إنه قرئ به قوله تعالى: {لا تأخذ بلحيتي} (¬1)، قال: وهو غريب. وقال الجوهري: اللحية معروف، جمع لِحَي بالكسر، ولُحَى أيضاً بالضم، مثل ذروة، وذرى. واللحية: اسم يجمع من الشعر ما نبت على الخدين والذقن (¬2). وقال في المصباح: الشعر النازل على الذقن (¬3). هذا كلام أهل اللغة، فتبين أن في اللحية عند أهل اللغة قولين: الأول: قيل: اللحية ما نبت من الشعر على الخدين والذقن. وقيل: هي الشعر النازل على الذقن. والأول عندي أصح؛ لأن اللحية إنما سميت لحية؛ لأنها والله أعلم تنبت على اللحى، واللحى: هو عظم الحنك، وهو الذي عليه الأسنان، وهو منبت اللحية من الإنسان وغيره، والله أعلم. هذا فيما يتعلق بتعريف اللحية لغة، وأما تعريفها عند الفقهاء. قال ابن نجيم من الحنفية: اللحية الشعر النابت بمجتمع اللحيين والعارض ¬

_ (¬1) طه: 94. (¬2) لسان العرب (15/ 243)، مختار الصحاح (ص: 248). (¬3) المصباح المنير (2/ 551).

وما بينهما وبين العذار (¬1)، وهو القدر المحاذي للأذن يتصل من الأعلى بالصدغ، ومن الأسفل بالعارض (¬2). ونقله ابن عابدين في حاشيته (¬3). وقال الدسوقي من المالكية: لحية بكسر اللام وفتحها: وهي الشعر النابت على اللحيين، تثنية لحى بفتح اللام، وحكي كسرها في المفرد: وهو فك الحنك الأسفل (¬4). وقال في الشرح الصغير من المالكية: الذقن: بفتح الذال المعجمة والقاف: مجمع اللحيين بفتح اللام: تثنية لحى: وهو فك الحنك الأسفل. واللحية: بفتح اللام: هي الشعر النابت على ذلك (¬5). وقال الخرشي: اللحية: هي ما ينبت من الشعر على ظاهر اللحى، بفتح اللام، وحكي كسرها في المفرد والتثنية، وهو فك الحنك الأسفل (¬6). وقال في حاشية العدوي: واختار ابن عرفة: جواز إزالة شعر الخد (¬7). ¬

_ (¬1) العذار عند أهل اللغة والفقه: هو الشعر النابت المحاذي للأذنين بين الصدغ والعارض، وهو أول ما ينبت للأمرد غالباً. (¬2) البحر الرائق (1/ 16). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 100). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 86). (¬5) الشرح الصغير (1/ 105). (¬6) شرح مختصر خليل (1/ 121). (¬7) حاشية العدوي (2/ 446).

فظاهره أنه لا يرى أن شعر الخد من اللحية. وقال النووي: اللحية: هي الشعر النابت على الذقن، قاله المتولي والغزالي في البسيط، وغيرهما، وهو ظاهر معروف لكن يحتاج إلى بيانه بسبب الكلام في العارضين كما سنوضحه إن شاء الله تعالى. ثم وضحه بقوله: " وأما شعر العارضين: فهو ما تحت العذار، كذا ضبطه المحاملي، وإمام الحرمين، ابن الصباغ والرافعي وغيرهم، وفيه وجهان: الصحيح الذي قطع به الجمهور أن له حكم اللحية، فيفرق بين الخفيف والكثيف، كما سبق الخ كلامه (¬1). فقوله: " له حكم اللحية " لو كان عندهم من اللحية لم يقل فيه: له حكم اللحية، وهذا ظاهر وقال في تحفة المحتاج: " واللحية بكسر اللام أفصح من فتحها: وهي الشعر النابت على الذقن التي هي مجتمع اللحيين، ومثلها العارض (¬2). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 408، 413). (¬2) تحفة المحتاج (1/ 204).

الفصل الأول ما جاء في أن إعفاء اللحية من الفطرة

الفصل الأول ما جاء في أن إعفاء اللحية من الفطرة الدليل على ذلك. (566 - 130) روى الإمام أحمد، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن ابن الزبير، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق بالماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء: يعني الاستنجاء. قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. [المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ] (¬1). ولم أقف على حديث يذكر أن إعفاء اللحية من الفطرة سوى هذا الحديث، والله أعلم. ¬

_ (¬1) وسيأتي تخريجه في كتاب السواك.

الفصل الثاني في حكم إعفاء اللحية

الفصل الثاني في حكم إعفاء اللحية

المبحث الأول في تحريم حلق اللحية

المبحث الأول في تحريم حلق اللحية يحرم حلق اللحية (¬1). وقيل: يجوز إزالة شعر الخدين دون الذقن، اختاره ابن عرفة من المالكية (¬2). وقيل: حلق اللحية مكروه، وليس بمحرم، وهو وجه ضعيف عند الشافعية (¬3). ¬

_ (¬1) قال في مواهب الجليل (1/ 216): " وحلق اللحية لا يجوز، وكذلك الشارب، وهو مثلة وبدعة، ويؤدب من حلق لحيته أو شاربه " اهـ. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 90). وجاء في غذاء الألباب (1/ 433): " والمعتمد في المذهب حرمة حلق اللحية. قال في الإقناع: ويحرم حلقها، وكذا في شرح المنتهى وغيرهما ". وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: " ويحرم حلق اللحية (5/ 302). (¬2) حاشية العدوي (2/ 446)، وهو ظاهر مذهب من يرى أن اللحية: هي شعر الذقن خاصة. قال النووي: اللحية: هي الشعر النابت على الذقن، قاله المتولي، والغزالي في البسيط وغيرهما. المجموع (1/ 408،413). (¬3) قال الأنصاري في أسنى المطالب (1/ 551): قول الحليمي في منهاجه لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه ضعيف. وقال في تحفة المحتاج: ذكروا هنا في اللحية ونحوها خصالاً مكروهة، منها نتفها وحلقها، وكذا الحاجبان، ولا ينافيه قول الحليمي لا يحل ذلك لإمكان حمله على أن المراد نفي الحل المستوي الطرفين. وذكر ابن حجر الهيتمي: أن في شرح العباب فائدة، قال الشيخان: يكره حلق اللحية، ثم قال واعترضه ابن الرفعة في حاشية الكافية بأن الشافعي رضي الله عنه نص في الأم على =

دليل تحريم حلق اللحية

دليل تحريم حلق اللحية. الدليل الأول: الإجماع فقد نقل ابن حزم الإجماع على أن إعفاء اللحية فرض (¬1). قال في مراتب الإجماع: اتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز (¬2). وقال ابن عابدين: الأخذ من اللحية دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال لم يبحه أحد (¬3). الدليل الثاني: من السنة فقد ورد عدة أحاديث تأمر بإعفاء اللحية، والأصل في الأمر الوجوب، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبهم عذاب أليم} (¬4). ومن هذه الأحاديث ما يلي: الحديث الأول: حديث ابن عمر. (567 - 131) رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن منهال، حدثنا يزيد ¬

_ = التحريم. قال الزركشي: وكذا الحليمي في شعب الإيمان، وأستاذه القفال الشاشي في محاسن الشريعة. وقال الأذرعي: الصواب تحريم حلقها لغير علة بها كما يفعله القاندرية. اهـ (¬1) انظر الفروع لابن مفلح (1/ 130). (¬2) مراتب الإجماع (ص: 182). (¬3) تنقيح الفتاوى الحامدية (1/ 329)، وابن عابدين لم يقصد أن يقول: إن الذي يأخذ من القبضة هم مخنثة الرجال، وإنما هذا الفعل صدر من صنفين من الناس، بعض المغاربة، وبعض مخنثة الرجال، ولو كان وصفاً لقال: فعله بعض مخنثة الرجال من المغاربة. (¬4) النور: 63.

الحديث الثاني

بن زريع، حدثنا عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه (¬1). الحديث الثاني: (568 - 132) ما رواه مسلم، قال: حدثني أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (¬2). الحديث الثالث: (569 - 133) ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا زيد بن يحيى، ثنا عبد الله بن العلاء بن زبر، حدثني القاسم، قال: سمعت أبا أمامة يقول: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال: يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب. قال: فقلنا يا رسول الله: إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5892). (¬2) صحيح مسلم (260).

الحديث الرابع

الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب (¬1). [إسناده فيه لين، وقال الهيمثي في المجمع (¬2) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح خلا القاسم، وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر] (¬3). الحديث الرابع: (570 - 134) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا هيثم بن خلف، ثنا الحسن بن حماد الوراق، ثنا أبو يحيى الحماني، عن يوسف بن ميمون، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، قال: إن الله ورسوله حرم عليكم شرب الخمر وثمنها، وحرم عليكم أكل الميتة وثمنها، وحرم عليكم الخنازير وأكلها وثمنها، وقال: قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، ولا تمشوا في الأسواق إلا وعليكم الأزر، إنه ليس منا من عمل سنة غيرنا (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (5/ 264). (¬2) مجمع الزوائد (5/ 160)، وتعقب بأن زيد بن يحيى إنما هو من رجال أصحاب السنن عدا الترمذي، وليس من رجال الصحيح. (¬3) سبق تخريجه في فرع: " كلام أهل العلم في السبالين " (¬4) الطبراني في الأوسط (9/ 162) رقم 9426، ورواه الطبراني في الكبير (11/ 152) رقم 11335 قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا الحسن بن حماد ثنا به. (¬5) فيه يوسف بن ميمون. =

دليل من قال بجواز حلق شعر الخدين

دليل من قال بجواز حلق شعر الخدين. الظاهر أن قوله يرجع إلى أن شعر الخد ليس داخلاً في حد اللحية لغة، وقد قدمت في تعريف اللحية أن أهل اللغة ومثلهم الفقهاء قد اختلفوا في حد اللحية: فقيل: الشعر النابت على الخد والذقن. وقيل: شعر الذقن خاصة. فمن رأى أن اللحية: شعر الذقن خاصة، لم يمنع من حلق شعر الخد، والله أعلم. والراجح والله أعلم شمول اللحية للشعر النابت على الذقن وعلى الخدين، وأما من قال: إن اللحية هي شعر الذقن خاصة، فلا يعني هذا والله أعلم أنهم أرادوا أن شعر الخد يجوز حلقه، وإنما أرادوا هل يدخل في مسمى اللحية حقيقة، أو يدخل حكماً، ولم أقف على أحد من السلف كان يحلق شعر خديه، بل لم أقف على فقيه يرى جواز حلق شعر الخدين إلا ما نقلته ¬

_ = قال أبو طالب: قال أحمد بن حنبل يوسف بن ميمون الصباغ ضعيف، ليس بشيء. الجرح والتعديل (9/ 230). وقال ابن أبي حاتم: سئل أبى عن يوسف بن ميمون الصباغ، فقال: ليس بالقوي منكر الحديث جدا ضعيف. المرجع السابق. قال البخاري: منكر الحديث جداً. التاريخ الكبير (8/ 384)، الضعفاء الصغير (408). وقال أبو زرعة: واهي الحديث. تهذيب التهذيب (11/ 375). وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال الدارقطني: ضعيف. المرجع السابق. وفي التقريب: ضعيف.

دليل من قال: حلق اللحية مكروه

عن ابن عرفة من المالكية، وهو رأي مرجوح مخالف لما عليه الأكثر، والله أعلم. دليل من قال: حلق اللحية مكروه. قالو: إن كل حكم كانت علته: مخالفة المشركين، وعدم التشبه بهم، فإنه لا يصل إلى التحريم، غاية ما يقال فيه: إنه مكروه (¬1). والجواب على هذا: أولاً: يقال: إن كل حكم كانت علته مخالفة المشركين لو قيل: إنه كبيرة من كبائر الذنوب لم يكن بعيداً؛ لأن التشبه بالكفار لا يكفي فيه التحريم بل يقال فيه: إنه كبيرة من كبائر الذنوب. ثانياً: لا يعلم القول بالكراهة إلا وجه عند الشافعية، وهو وجه ضعيف عندهم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) وابن حجر يعلل دائماً بهذا، ولهذا لما تكلم في العلة في آنية الذهب والفضة، وأن العلة فيها التشبه بالأعاجم، قال في الفتح (10/ 98): وفي ذلك نظر؛ لثبوت الوعيد على لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. اهـ وكذلك يذهب حرملة إلى أن التشبه لا يصل إلا التحريم في غير مسألتنا، انظر الفتح (10/ 94).

المبحث الثاني حكم الأخذ من اللحية

المبحث الثاني حكم الأخذ من اللحية اختلفوا في حكم الأخذ من اللحية من غير حلق، فقيل: يكره أن يأخذ منها في غير النسك، وهو مذهب الشافعية (¬1). ¬

_ (¬1) قال النووي في المجموع (1/ 344): والصحيح كراهة الأخذ منها مطلقاً، بل يتركها على حالها كيف كانت للحديث الصحيح: " وأعفوا اللحى "، وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها، فرواه الترمذي بإسناد ضعيف. اهـ وقال أيضاً في شرحه لصحيح مسلم (3/ 151): " والمختار ترك اللحية على حالها، وأن لا يتعرض لها بتقصير شيء أصلاً. اهـ وقال العراقي في طرح التثريب (2/ 83): " واستدل الجمهور على أن الأولى ترك اللحية على حالها، وأن لا يقطع منها شيئاً، وهو قول الشافعي وأصحابه ". فالنووي عبر بالكراهة في غير النسك، والعراقي عبر بقوله: إنه خلاف الأولى، هذا أشد ما نقل من الأقوال في الأخذ من اللحية، وأما أن يقول أحد: إنه يحرم الأخذ منها في غير النسك، فهذا ينبغي أن يعترف صاحبه بأنه قال به تفقهاً دون أن يدعي أنه أخذه عن إمام واحد من السلف، فضلاً أن يزعم صاحبه أنه قول استقرت عليه الشريعة من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا، ولو لم يكن في هذا القول إلا اتباع السلف لكان خيراً لي من أن أقلد الخلف في تشدد ليس عليه أثارة من علم، فالله المستعان. على أن الأخذ منها كونه خلاف الأولى في مذهب الشافعية ينبغي أن يقيد هذا في غير النسك، فإن مذهب الشافعية استحباب الأخذ من اللحية في النسك، وسوف يأتي النقل عن إمامهم رحمه الله بعد قليل. وقد جاء في المجموع (1/ 342) كراهيته عن الحسن وقتادة، والمنقول عنهما خلاف هذا، فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن أبي هلال، قال: سألت الحسن وابن سيرين فقالا: لا بأس أن تأخذ من طول لحيتك. =

وقيل: له الأخذ منها، وهو مذهب كثير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، والحسن وابن سيرين (¬2)، وقتادة (¬3)، وعطاء (¬4)، والشعبي (¬5)، والقاسم بن محمد (¬6)، وطاووس (¬7)، وإبراهيم النخعي (¬8)، ومذهب الحنفية والمالكية ¬

_ = وفي إسناده أبو هلال الراسبي صدوق فيه لين إلا أنه هنا يحكي شيئاً وقع له، فالأقرب صحته، ويختلف هذا عن شيء سمعه فرواه لأن هذا قد يدخله الوهم، وقد يعتريه سوء الحفظ، والله أعلم. وروى ابن أبي شيبة أيضاً (5/ 225)، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن أشعث، عن الحسن، قال: كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها. وهذا إسناد ضعيف فيه أشعث بن سوار الكندي، وهذه المتابعة تقوي الطريق الأول. وانظر مذهب قتادة في التمهيد (24/ 146). (¬1) ذكر ذلك عنهم جابر بن عبد الله بسند حسن، وسيأتي تخريجه، والكلام عليه. (¬2) مصنف بن أبي شيبة (5/ 225) بسند حسن، وسبق أن نقلت إسناده، وفيه أبو هلال الراسبي، صدوق فيه لين، راجع كلامي على الإسناد، وجاء من طريق أشعث، عن الحسن، وفيه ضعف، وانظر التمهيد (24/ 146). (¬3) التمهيد (24/ 146). (¬4) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 225) رقم 25482 بسند على شرط الشيخين، وانظر فتح الباري (10/ 350). (¬5) المجموع (1/ 342). (¬6) روى ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 225): حدثنا أبو عامر العقدي، عن أفلح، قال: كان القاسم إذا حلق رأسه أخذ من لحيته وشاربه. وسنده صحيح، وأفلح هو ابن حميد بن نافع، ثقة من رجال الشيخين بل روى له الجماعة سوى الترمذي. (¬7) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 225) حدثنا أبو خالد، عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه كان يأخذ من لحيته ولا يوجبه، ورجاله ثقات. (¬8) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 225) حدثنا غندر، عن شعبة، عن منصور: =

والحنابلة (¬1)، واستحبه الشافعي في النسك (¬2)، واختاره الطبري (¬3)، ورجحه ابن عبد البر (¬4)،والقاضي عياض (¬5)، والغزالي من الشافعية (¬6)، والحافظ ابن حجر (¬7)، وغيرهم. والقائلون بالأخذ منها اختلفوا في المقدار على قولين: الأول: أنه لا حد لمقدار ما يؤخذ منها، إلا أنه لا يتركها لحد الشهرة، وهو مذهب المالكية (¬8). ¬

_ = كان إبراهيم يأخذ من عارض لحيته. وسنده صحيح. (¬1) سيأتي العزو إلى كتبهم قريباً إن شاء الله تعالى. (¬2) قال في الأم (2/ 232): " وأحب إلي لو أخذ من لحيته وشاربه، حتى يضع من شعره شيئاً لله، وإن لم يفعل فلا شيء عليه؛ لأن النسك إنما هو في الرأس لا في اللحية". اهـ (¬3) قال الحافظ في الفتح (10/ 350): " واختار - يعني الطبري - قول عطاء، وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به. (¬4) التمهيد (24/ 145). (¬5) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 64). (¬6) المجموع (1/ 344). (¬7) فتح الباري (10/ 350). (¬8) قال الباجي في المنتقى (7/ 266):" روى ابن القاسم عن مالك لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية. قيل لمالك: فإذا طالت جداً. قال: أرى أن يؤخذ منها، وتقص ". اهـ وقول الإمام مالك: " لا بأس " لا يعني التخيير، فقد جاء في الفواكه الدواني (2/ 307): "وحكم الأخذ الندب، (فلا بأس) هنا هو خير من غيره، والمعروف لا حد للمأخوذ، وينبغي الاقتصار على ما تحسن به الهيئة " وقال القرطبي في المفهم (1/ 512): " لا يجوز حلق اللحية، ولا نتفها، ولا قص الكثير =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = منها، فأما أخذ ما تطاير منها، وما يشوه ويدعو إلى الشهرة طولاً وعرضاً فحسن عند مالك وغيره من السلف ". وقال القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم (2/ 64): " وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، ويكره الشهرة في تعظيمها وتحليتها كما تكره في قصها وجزها، وقد اختلف السلف هل لذلك حد، فمنهم من لم يحدد إلا أنه لم يتركها لحد الشهرة، ويأخذ منها، وكره مالك طولها جداً، ومنهم من حدد، فما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة ". وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/ 145): " اختلف أهل العلم في الأخذ من اللحية، فكره ذلك قوم، وأجازه آخرون. ثم ساق بسنده عن ابن القاسم، قال: سمعت مالكاً يقول: لا بأس أن يؤخذ ما تطايل من اللحية وشذ. قال: فقيل لمالك: فإذا طالت جداً فإن من اللحى ما تطول، قال: أرى أن يؤخذ منها وتقصر. وقد روى سفيان، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة. وذكر الساجي: حدثنا بندار وابن المثنى، قالا: حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا قصر من لحيته في حج أوعمرة كان يقبض عليها، ويأخذ من طرفها ما خرج من القبضة. قال ابن عبد البر: هذا ابن عمر روى " أعفوا اللحى " وفهم المعنى، فكان يفعل ما وصفنا، وقال به جماعة من العلماء في الحج وغير الحج. وروى ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب، في قوله: {ثم ليقضوا تفثهم} قال: رمي الجمار، وذبح الذبيحة، وحلق الرأس، والأخذ من الشارب واللحية والأظفار، والطواف بالبيت، وبالصفا والمروة. وكان قتادة يكره أن يأخذ من لحيته إلا في حج أو عمرة، وكان يأخذ من عارضيه، وكان الحسن يأخذ من طول لحيته، وكان ابن سيرين لا يرى بذلك بأساً، وروى الثوري، عن منصور، عن عطاء أنه كان يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة. قال منصور: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: كانوا يأخذون من جوانب اللحية. اهـ كلام ابن عبد البر نقلته بطوله ليعلم أن من يرى جواز الأخذ من اللحية هم السواد الأعظم من العلماء.

والقول الثاني: أنه يؤخذ منها ما زاد على القبضة، وهو فعل ابن عمر (¬1). ثم اختلفوا في حكم أخذ ما زاد على القبضة على خمسة أقوال: فقيل: يجب أخذ ما زاد على القبضة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، واختاره الطبري رحمه الله (¬3). وقيل: إنه سنة، وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬4)، واستحسنه الشعبي وابن سيرين (¬5). وقيل: إنه بالخيار، فله أخذ ما زاد على القبضة وله تركه، نص عليه أحمد (¬6)، وظاهر هذا القول أنه يرى أن الأخذ من اللحية وتركها على الإباحة. وقيل: الترك أولى، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬7). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريج الأثر المنسوب إليه إن شاء الله في أدلة الأقوال. (¬2) الدر المختار (2/ 44). (¬3) عمدة القارئ (22/ 46،47). (¬4) قال في البحر الرائق (3/ 12): " قال أصحابنا: الإعفاء تركها حتى تكث وتكثر، والقص سنة فيها، وهو أن يقبض الرجل لحيته فما زاد منها على قبضة قطعها، كذلك ذكر محمد في كتاب الآثار عن أبي حنيفة، قال: وبه نأخذ " اهـ. ونقل نحوه في الفتاوى الهندية (5/ 358). وانظر حاشية ابن عابدين (6/ 407). (¬5) المجموع (1/ 342). (¬6) الفروع (3/ 329)، ويعبر بعض الأصحاب بقوله، ولا يكره أخذ ما زاد على القبضه انظر مطالب أولي النهى (1/ 85). (¬7) قال في المستوعب (1/ 260): " ولا يقص من لحيته إلا ما زاد على القبضة إن أحب، والأولى أن لا يفعله ". وانظر الإنصاف (1/ 121).

دليل من كره أن يأخذ من اللحية شيئا إلا في النسك

وقيل: يكره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة (¬1). دليل من كره أن يأخذ من اللحية شيئاً إلا في النسك. الدليل الأول: (571 - 135) روى البخاري، قال: حدثني محمد، أخبرنا عبدة، أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى (¬2). وفي رواية لمسلم: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " (¬3). (572 - 136) وروى مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية (¬4). (573 - 137) وروى مسلم، قال: حدثني أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جزوا الشوارب، وأرخوا ¬

_ (¬1) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 64). (¬2) صحيح البخاري (5893). (¬3) صحيح مسلم (259). (¬4) صحيح مسلم (259).

اللحى، خالفوا المجوس (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " أعفوا اللحى ". وأجيب بأجوبة منها: الأول: إذا كان لفظ أعفوا: هو التكثير، كما يفهم من قوله تعالى: {حتى عفوا} أي حتى كثروا، فمن أعفى لحيته بمقدار القبضة، فقد كثرت لحيته، وصدق على لحيته أنها قد عفت، وأن صاحبها قد أعفاها، وهذا ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم. جاء في المصباح المنير: " عفا الشيء: كثر، وفي التنزيل: {حتى عفوا} (¬2): أي حتى كثروا. ومنه عفا بنو فلان إذا كثروا. وعفوت الشعر: أي تركته حتى يكثر ويطول، ومنه: "أحفوا الشوار وأعفوا اللحى" (¬3). وجاء في إكمال المعلم في شرح فوائد مسلم: " قوله: " وأعفوا اللحى " وفي رواية: " أوفوا اللحى "، وهما بمعنى: أي اتركوها حتى تكثر وتطول. ثم قال: وقال أبو عبيد: في إعفاء اللحى: هو أن توفر، وتكثر، يقال: عفا الشيء: إذا كثر وزاد، وأعفيته أنا. وعفا: إذا درس، وهو من الأضداد، ومنه الحديث: " فعلى الدنيا العفا" ¬

_ (¬1) مسلم (260). (¬2) الأعراف: 95. (¬3) المصباح المنير (ص: 217).

أي الدروس (¬1). وجاء في فتح الباري: ذهب الأكثرون إلى أنه بمعنى وفروا أو كثروا، وهو الصواب. قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحداً فهم من الأمر في قوله:" أعفوا اللحى " تجويز معالجتها بما يغزرها كما يفعله بعض الناس (¬2). الثاني: قال: معنى أعفوا اللحى: أي أعفوها من الإحفاء. قال القاضي أبو الوليد: ويحتمل عندي أنه يريد أن تعفى من الإحفاء؛ لأن كثرتها ليس بمأمور بتركه (¬3). وقال السندي: المنهي قصها كصنع الأعاجم، وشعار كثير من الكفرة، فلا ينافيه ما جاء من أخذها طولاً ولا عرضاً للاصلاح (¬4). الجواب الثالث: وهذا قوي قال: إن اللفظ المطلق أو العام يقيد ويخصص بعمل الصحابة، أو بعضهم، وهي مسألة خلافية بعد الاتفاق على ¬

_ (¬1) إكمال المعلم في شرح فوائد مسلم (2/ 63). (¬2) فتح الباري (10/ 351). (¬3) المنتقى للباجي (7/ 266)، وقال ابن حجر في الفتح (10/ 350): " حكى الطبري اختلافاً فيما يؤخذ من اللحية، هل له حد أم لا؟ فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف، وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش. وعن عطاء نحوه. قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها. قال: وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة. وأسند عن جماعة، واختار قول عطاء، وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به. (¬4) حاشية السندي على النسائي (1/ 18).

أن الصحابي إذا وجد من يخالفه فلا يخص به النص العام، ولا يقيد به المطلق (¬1). قال بعض العلماء المعاصرين: إذا كان عمل الصحابة خلاف العام أو خلاف المطلق، يكون العام والمطلق غير مراد، أو بعبارة أخرى، إذا كان فرد من أفراد العموم أو المطلق لم ¬

_ (¬1) فعل الصحابي الموقوف عليه له حالتان: الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه. الثانية: أن يكون مما له فيه مجال. فإن كان مما لا مجال للرأي فيه، فهو في حكم المرفوع، كما تقرر في علم الحديث، فيقدم على القياس، ويخص به النص إن لم يعرف الصحابي بالأخذ من الإسرائيليات، وإن كان مما للرأي فيه مجال، فإن انتشر في الصحابة، ولم يظهر له مخالف، فهو الإجماع السكوتي، وهو حجة عند الأكثر، وإن علم له مخالف من الصحابة، فلا يجوز العمل بقول أحدهما إلا بترجيح بالنظر في الأدلة. وإن لم ينتشر، فقيل: حجة على التابعي ومن بعده؛ لأن الصحابي حضر التنزيل، فعرف التأويل لمشاهدته لقرائن الأحوال. وقيل: ليس بحجة على المجتهد التابعي مثلاً؛ لأن كليهما مجتهد، يجوز في حقه أن يخطئ وأن يصيب، والأول أظهر ... الخ انظر أصول الفقه للشنقيطي (ص: 165،166). فإذا تبين هذا، فالمسألة التي معنا قد نقل عن الصحابة عموم الصحابة أنهم كانوا يأخذون من اللحية في النسك، وتعليق الأخذ في النسك دليل على جوازه في غيره؛ لأن اللحية لا تعلق لها بالنسك، وحجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نقلها لنا الصحابة جابر وغيره، ولم يذكروا أن الأخذ من اللحية من المناسك، فيكون قيد النسك قيداً غير مؤثر، كما لو فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلاً، وصادف أن ذلك الفعل كان في السفر، لا يقال: لا يفعل إلا في السفر، وإذا كان الأخذ منها في النسك لا ينافي أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعفاء، فكذلك لا ينافيه خارج النسك. ولا يقال: إن الصحابة لا يعفون لحاهم في النسك.

أدلة القائلين بالأخذ من اللحية

يجر العمل به، كان هذا الفرد غير مراد، وعليه فالمطلق في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعفوا اللحى" غير مراد، لعدم جريان العمل به، فقد ثبت عن السلف الأخذ من اللحية، وكان معروفاً عندهم، وفيهم من روى العموم المذكور، كابن عمر، وحديثه في الصحيحين، وأبي هريرة وحديثه في مسلم وغيرهما. اهـ وسوف أسوق الآثار عن الصحابة في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. ولا يقال: إن فعل الصحابة يعارض النص، نعم يعارض النص لو أن ما جاء عن الصحابة يقتضي حلق اللحية، والنص يأمر بإعفاء اللحية، فحينئذ يقال: بينهما تعارض؛ لأنه يلزم من فعل هذا إبطال ذاك، أما الإعفاء فحقيقته لفظ مجمل، يصدق عليه إذا ترك اللحية حتى تكثر، فإذا أخذ ما زاد على القبضة لا يقال: إن هذا لم يعف لحيته، والله أعلم. الدليل الثاني على كراهة الأخذ من اللحية خارج النسك: أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعفوا اللحى " حيث لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا قولاً ولا فعلاً أنه أخذ من لحيته، فيكون فعله مبيناً للمجمل في أمره - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحية، وقول الشارع لا يقيده إلا نص منه، فالمطلق باق على إطلاقه، وكذا العام، وفعل الراوي ليس بحجة، لأن الحجة فيما روى، لا فيما رأى، خاصة أن فعله لم ينسبه للشرع، وقد يفهم الراوي خلاف المراد، وإن كان هذا نادراً، وقد ينسى، ويبقى الشأن ليس للرواي عصمة، وإنما العصمة للنص، والله أعلم. أدلة القائلين بالأخذ من اللحية. الدليل الأول: (574 - 138) روى البخاري في صحيحه، قال: قال: حدثنا محمد

الدليل الثاني

بن منهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خالفوا المشركين: وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب. وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر، قبض على لحيته فما فضل أخذه (¬1). قال الكرماني: لعل ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك، فحلق رأسه كله، وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى: {محلقين رؤسكم ومقصرين} (¬2) وخص ذلك من عموم قوله: " وفروا اللحى " فتعقبه الحافظ، فقال: " والذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه (¬3). قلت: هذا محتمل ويؤيده أن المنقول عن أبي هريرة أن كان يأخذ منها مطلقاً، ولم يقيد بحج أو عمرة، ويحتمل أن ابن عمر يراه من قضاء التفث، كما نقل عن ابن عباس وجماعة من التابعين كما سيأتي إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: (575 - 139) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن عمرو بن أيوب من ولد جرير، عن أبي زرعة، قال: كان أبو هريرة يقبض على لحيته ثم يأخذ ما فضل منها (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5892). (*) (¬2) الفتح: 27. (¬3) فتح الباري (10/ 350). (¬4) المصنف (5/ 225) رقم 25481. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في بعض المصادر، عقب هذا الهامش، مبحث للمؤلف - حفظه الله - لم يرد في المطبوع، وهذا نصه كاملا، قال المؤلف - حفظه الله -: [جاء التصريح عن ابن عمر بأنه كان يأخذ من لحيته من ثلاثة طرق، أو أكثر: الأول: عن نافع، رواه عنه جماعة: منهم: عمر بن محمد بن زيد، كما في حديث الباب من صحيح البخاري. ومنهم: مالك، عن نافع. رواه مالك في الموطأ (1/ 396) عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه. ورجاله في أعلى درجات الصحة. وفي رواية لمالك (1/ 396) عن نافع: أن ابن عمر كان إذا أفطر من رمضان، وهو يريد الحج لم يأخذ من رأسه، ولا من لحيته شيئاً حتى يحج. وقد يقول قائل: مفهوم هذا الرواية " كان إذا أفطر من رمضان، وهو يريد الحج لم يأخذ من لحيته ولا من رأسه، مفهمومه أنه إذا لم يرد الحج أخذ، ولو كان في غير نسك. ومنها: طريق ابن أبي ليلى، عن نافع. رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 225) رقم 25486 قال: حدثنا علي بن هاشم ووكيع، عن ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يأخذ ما فوق القبضة، وقال وكيع: ما جاوز القبضة. وابن أبي ليلى ضعيف الحفظ، لكنه قد توبع، كما سبق. ومنها: طريق محمد بن عجلان، عن نافع. رواها ابن سعد في الطبقات (4/ 181) قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي، حدثنا سفيان، عن محمد بن عجلان، عن نافع قال: كان ابن عمر يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة. وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات لولا أن محمد بن عبد الله الأسدي، ضعيف في الثوري. قال حنبل بن إسحاق، عن أحمد بن حنبل: كان كثير الخطأ في حديث سفيان. تهذيب التهذيب (9/ 227). وفي التقريب: ثقة ثبت إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري. ويغتفر له هذا لموافقته الثقات في روايتهم لهذا الحديث. ومنها: طريق ابن جريج عن نافع. أخرجها ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 181) قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء العجلي، قال: حدثنا ابن جريج، عن نافع، قال: ترك ابن عمر الحلق مرة أو مرتين، فقصر نواحي مؤخرة رأسه، قال: وكان أصلع، قال: قلت: لنافع: أمن لحيته؟ قال: كان يأخذ من أطرافها. وفيه عنعنة ابن جريج، وهو مدلس. وقد تفرد عبد الوهاب بذكر الصلع في الأثر، ولم يذكره غيره. ومنها: طريق عبد الله بن عمر المكبر، عن نافع. رواه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 223)، وسنده ضعيف. ومنها عيسى بن جعفر وحفص بن غياث، عن نافع، كما في طبقات ابن سعد (4/ 134) وفيه الواقدي، وهو متروك. ولفظه: كان يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة. ومنها: عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع. أخرجها البيهقي في شعب الإيمان (5/ 220) رقم 6435 من طريق حبان، ثنا عبد الله، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع به أنه كان إذا حلق في الحج أو العمرة قبض على لحيته، ثم أمر فسوى بين أطراف لحيته. وعبد العزيز بن أبي رواد متكلم فيه، ولكن حديثه هذا قد وافق فيه الثقات، وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى. الطريق الثاني: مروان بن سالم بن المقفع، عن ابن عمر. رواه أبو داود في سننه (2357) قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى أبو محمد، ثنا علي بن الحسن، أخبرني الحسين بن واقد، ثنا مروان - يعني ابن سالم المقفع - قال: رأيت ابن عمر يقبض على لحيته، فيقطع ما زاد على الكف. والحديث أخرجه النسائي في السنن الكبرى (3329)، قال: أخبرني قريش بن عبد الرحمن، قال: أنبأ علي بن الحسن، قال: أنبأ الحسين بن واقد به. وأعاده في رقم (10131). ومن طريق علي بن الحسن بن شقيق أخرجه كل من الدارقطني (2/ 185)، والحاكم (1/ 422)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 239). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، والصحيح أنه ليس على شرط واحد منهما، فإن مروان بن سالم لم يحتج به أحد منهما. إسناده فيه لين، فيه مروان بن سالم المقفع، ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 424). وحسن الدارقطني حديثه، فقال في سننه (2/ 185): تفرد به الحسين بن واقد، وإسناده حسن. اهـ وقال الحافظ في التقريب: مروان بن سالم مقبول. يعني إن توبع، وقد توبع في كون ابن عمر كان يأخذ من اللحية مطلقاً، في غير الحج. فقد روى أبو يوسف في كتاب الآثار (2/ 234)، قال: حدثنا أبوحنيفة، عن الهيثم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقبض على لحيته، فيأخذ منها ما جاوز القبضة. والله أعلم. والهيثم لم ينسب، فإن كان الهيثم بن أبي سنان، فإنه يروى عن ابن عمر، فهو ثقة، وإن كان غيره فالله أعلم، وقد وقفت على نصب الراية (2/ 458) قال: " الهيثم بن أبي الهيثم " ولم أقف على سماعه من ابن عمر، والله أعلم، وعلى كل فهذا إسناد صالح في المتابعات، وفيه أبو حنيفة، وهو إمام في الفقه والنظر. ووراه ابن أبي شيبة أيضاً، ولم يذكر حجاً أو عمرة، (5/ 225) رقم 25486 حدثنا علي بن هاشم ووكيع، عن ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يأخذ ما فوق القبضة. وقال وكيع: ما جاوز القبضة. وهذا الأسناد فيه ابن أبي ليلى، وفي حفظه شيء، ولكنه قد توبع كما قرأت، وسبقت الإشارة إليه. وقد يقال: إن هذه الطرق الثلاث، والتي تذكر عن ابن عمر أنه أخذ من اللحية خارج النسك، مخالفة لرواية الأحفظ من أصحاب نافع كمالك رحمه الله وغيره، فلا تكون محفوظة، والله أعلم. الطريق الثالث: مجاهد، عن ابن عمر. رواه ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 117) قال: أخبرنا عبد الوارث، قال: حدثنى قاسم، قال: حدثنا الخشني، حدثني محمد بن أبي عمر العدني، قال: حدثني سفيان، قال: حدثني ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: رأيت ابن عمر قبض على لحيته يوم النحر، ثم قال للحجام: خذ ما تحت القبضة. وعنعنة ابن أبي نجيح قد زالت بالمتابعة، والله أعلم.] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: انتهى المبحث المشار إليه

الدليل الثالث

[ضعيف] (¬1). الدليل الثالث: (576 - 140) ما رواه ابن أبي شيبة قال: نا ابن نمير، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس قال: التفث: الرمي والذبح والحلق والتقصير والأخذ من الشارب والأظفار واللحية. ¬

_ (¬1) فيه عمرو بن أيوب بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي: ذكره ابن حبان في الثقات. (7/ 224) وقال أبو حاتم الرزاي: شيخ كوفي. الجرح والتعديل (6/ 98)، وبقية رجاله ثقات. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 324)، قال: قال أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا شيخ أظنه من أهل المدينة، قال: رأيت أبا هريرة يحفي عارضيه يأخذ منهما قال ورأيته أصفر اللحية. وهذا إسناد ضعيف، لإبهام في إسناده، وفيه متابعة لرواية عمرو بن أيوب. فهل يكون الأثر ثابتاً بمجموع الطريقين عن أبي هريرة؟ ويكون ما ثبت عن ابن عباس، وابن عمر وجابر شاهداً له؟ أو يقال: إن عمرو بن أيوب هذا بعد البحث ليس له في الكتب إلا هذا الحديث، ولم يذكره غير ابن حبان، فتفرده بمثل هذا عن أبي زرعة لا يقبل مع جهالته، ولا يتقوى الإسناد بمثل الإسناد الثاني، خصوصاً مثل أبي هريرة رضي الله عنه في كثرة الأصحاب، فقد ذكر أنه أخذ عنه أكثر من ثمانمائة راو من الصحابة والتابعين، فأين روايتهم مثل هذا، وهو يشتهر، ويرى بالعين، كما أن في المتابعة علة أخرى، فإن متنها منكر، وهو كون أبي هريرة يحفي عارضيه، والإحفاء في اللغة: المبالغة في القص كما في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 410) فلا يمكن أن يقال: إن أبا هريرة كان يبالغ في قص عارضيه، خاصة أنه لم يرد عنه إلا في هذا الطريق الضعيف.

[سنده صحيح] (¬1) وقد فسر الآية بمثل ما فسرها ابن عباس تابعيان جليلان: مجاهد، ومحمد بن كعب القرضي. أما تفسير مجاهد، فقد أخرجه الطبري، قال: ثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى (ح) (577 - 141) وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ثم ليقضوا تفثهم. قال: حلق الرأس وحلق العانة وقص الأظفار وقص الشارب، ورمي الجمار، وقص اللحية (¬2). ¬

_ (¬1) المصنف (3/ 429) رقم 15673. وسبق تخريجه. (¬2) سنده صحيح إن شاء الله تعالى. ابن أبي نجيح مدلس، ولم يسمع من مجاهد التفسير، لكن قد عرف الواسطة، وهو ثقة، فقد أخذه من كتاب القاسم بن أبي بزة، والقاسم بن أبي بزة قد قال فيه ابن حبان: لم يسمع التفسير أحد من مجاهد غير القاسم بن أبي بزة، وأخذ الحكم وليث بن أبى سليم وابن أبى نجيح وابن جريج وابن عيينة من كتابه، ولم يسمعوا من مجاهد. الثقات (7/ 330). - محمد بن عمرو فيه أكثر من راو يروي عنه الطبري اسممه محمد بن عمرو: فمنهم: محمد بن عمرو الباهلي، وهو من شيوخ الطبري الثقات، أكثر من الرواية عنه، إلا أنه لم يذكر من شيوخه أبو عاصم الضحاك بن مخلد. وفيه محمد بن عمرو بن تمام الكلبي، مترجم له في الجرح والتعديل، ولم أقف على أنه من تلاميذ أبي عاصم، وهذا أبعد من الأول. وأغلب ظني أنه محمد بن عمرو بن عباد، فإنه يروي عن أبي عاصم، كما ذكره المزي، وهو في سن شيوخ الطبري إلا أن المزي لم يذكر الطبري من تلاميذه، فأظنه يستدرك عليه فيه.، وباقي رجال الإسناد الأول ثقات. =

الدليل الرابع

(578 - 142) وأما تفسير محمد القرظي، فهو عند الطبراني أيضاً: قال: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية: ثم ليقضوا تفثهم: رمي الجمار، وذبح الذبيحة، وأخذ من الشاربين واللحية، والأظفار، والطواف بالبيت وبالصفا والمروة (¬1). الدليل الرابع: (579 - 143) روى أبو داود، قال: حدثنا ابن نفيل، ثنا زهير، قرأت على عبد الملك بن أبي سليمان، وقرأه عبد الملك على أبي الزبير، ورواه أبو الزبير عن جابر قال: كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬

_ = - وأما الحارث شيخ الطبري في الإسناد الثاني، فهو الحارث بن محمد بن أبي أسامة. قال الحافظ الذهبي: وثقه إبراهيم الحربي مع علمه بأنه يأخذ الدراهم، وأبو حاتم بن حبان. وقال الدارقطني: صدوق. قال الذهبي: وأما أخذ الدراهم على الرواية فكان فقيرا كثير البنات. وقال أبو الفتح الأزدي وابن حزم: ضعيف! تاريخ بغداد (8/ 218) وتذكرة الحفاظ (2/ 619). والحسن: هو الحسن بن موسى، ثقة. وبقية رجال الإسناد ثقات. (¬1) تفسير الطبري (17/ 149)، ورجاله كلهم ثقات إلا أبا صخر حميد بن زياد، وحديثه حسن إن شاء الله. (¬2) سنن أبي داود (4201). (¬3) وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/ 350)، إلا أن من يرى أبا الزبير مدلساً قد يعله بالعنعنة. والله أعلم. والحديث سبق تخريجه.

قال الحافظ في الفتح: قوله: " نعفي " بضم أوله وتشديد الفاء أي نتركه وافراً، وهذا يؤيد ما نقل عن ابن عمر، فإن السبال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة: جمع سبلة بفتحتين: وهي ما طال من شعر اللحية، فأشار جابر إلى أنهم يقصرون منها في النسك (¬1). وقوله: " كنا نعفي " حكاية عن الصحابة، كلهم أو أكثرهم، وهذا يؤيد أن الأخذ من اللحية لم يكن من فعل ابن عمر وحده، ولكن من فعل غالب الصحابة، وهذا الاستدلال يسلم إن كان يطلق السبال على اللحية. والحق أن السبال فيه سبعة أقوال، كلها تدور حول الشارب واللحية، فقيل: السبلة: مقدم اللحية، وما أسبل منها على الصدر، وهذا نص الأزهري. وقيل: ما على الذقن إلى طرف اللحية كلها أو مقدمها خاصة. وقيل: السبلة: هي الدائرة في وسط الشفة العليا. وقيل: ما على الشارب من الشعر. وقيل: مجتمع الشاربين. وقيل: طرف الشارب (¬2). (580 - 144) وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا نؤمر أن نوفي السبال، ونأخذ من الشارب (¬3). ¬

_ (¬1) الفتح (10/ 350). (¬2) تاج العروس (14/ 327). (¬3) المصنف (5/ 227) رقم 25504، وسنده ضعيف؛ لأن فيه أشعث، وعنعنة أبي =

(581 - 145) وروى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا أحمد بن داود المكي، ثنا قيس بن حفص الدارمي، ثنا سليمان بن الحارث (¬1)، ثنا جهضم بن الضحاك، قال: مررت بالنرجيج، فرأيت به شيخاً، قالوا: هذا العداء بن خالد بن هوذة، فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: صفه لي، قال: كان حسن السبلة. وكانت العرب تسمي اللحية السبلة [إسناده ضعيف] (¬2). (582 - 146) وجاء إطلاق السبال على الشارب في السنة الصحيحة، فقد روى ابن حبان في صحيحه من طريق معقل بن عبيد الله، عن ميمون ¬

_ = الزبير عند من عده مدلساً. وقد سبق تخريجه، وقد ترجم ابن أبي شيبة في هذا الباب، فقال: باب ما يؤمر به الرجل من إعفاء اللحية، والأخذ من الشارب، فلما أمر بإعفاء السبال، والأخذ من الشارب كان مقتضى ذلك أن السبال ليس من الشارب، لا لفظاً؛ لأنه عطفه عليه، والعطف يقتضي المغايرة، ولا حكماً، فإن السبال لا يؤخذ منها شيء بخلاف الشارب، والله أعلم. (¬1) الصواب سليم بن الحارث، انظر التاريخ الكبير (4/ 123)، والثقات لابن حبان (6/ 414). (¬2) المعجم الكبير (18/ 14) رقم 19، ورواه ابن حبان في الثقات (4/ 113)، قال: ثنا قيس بن حفص الدارمي به. وذكره البخاري في التاريخ الكبير (2/ 246)، (4/ 123). وجهضم: ذكره ابن حبان في الثقات (4/ 113)، ولم أقف على توثيق غيره. وسليم بن الحارث، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه في الجرح والتعديل (4/ 215).، ولم أقف على توثيق أحد غير ابن حبان في الثقات (6/ 414). وقيس بن حفص الدارمي أبو محمد ثقة. وهذا الإسناد على ضعفه إلا أن الشاهد منه لغوي، وليس حكماً شرعياً، ومثل هذا قد يستاهل فيه.

بن مهران، عن ابن عمر، قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجوس، فقال: إنهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم، فكان ابن عمر يجز سباله، كما يجز الشاة والبعير (¬1). والذي يظهر أن السبال على القول بأنه يطلق على اللحية والشارب، فإن المراد منه بحديث جابر: " كنا نعفي السبال " اللحية خاصة، لأن قص الشارب غير موقت بالحج أو العمرة، بل مطلوب أن لا يتركه أكثر من أربعين يوماً، فليس متوقعاً من الصحابة أنهم يعفون شواربهم إلا في الحج أو العمرة، فهذا قرينة أن المراد به شعر اللحية، وعلى هذا التفسير يطابق ما كان يفعله ابن عمر رضي الله عنه، وبه يصح أن الصحابة كلهم أو غالبهم كانوا يأخذون من شعر اللحية في النسك، والله أعلم. وإذا ثبت أن الصحابة يأخذون من اللحية في النسك، فإن هناك مقدمتين ونتيجة: المقدمة الأولى: هل كان الصحابة يجهلون الأمر بإعفاء اللحية، هذا الحكم الذي يعرفه آحاد المسلمين في بلادنا؟ المقدمة الثانية: إذا كانوا لا يجهلون الأمر بإعفاء اللحية، فإن السؤال، هل كان الصحابة لا يعرفون لغة مدلول كلمة الإعفاء في الأمر النبوي، وهذا أيضاً لا يمكن أن يقال: إن الصحابة، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل التشريع، لا يمكن أن يقال: لا يعرفون مدلول كلمة الإعفاء. فبقي أن نقول بعد التسليم بالمقدمتين: وهو كون الأمر بإعفاء اللحية معلوماً لدى الصحابة، ومعنى ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (5476).

الإعفاء معلوم أيضاً، فيبقى التسليم لفهم الصحابة أولى من التسليم لفهم من دونهم. فإن قيل: إن الصحابة لم يأخذوا إلا في النسك. قيل: ثبوته في النسك دليل على جوازه خارج النسك؛ ولأن النسك قيد غير مؤثر، كما لو قرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - سورة في صلاة، وكانت الصلاة في السفر، لايقال: إن ذكر السفر قيد في استحباب قراءة هذه السورة، والدليل على هذا: أولاً: اللحية لا تعلق لها بالنسك، وإنما النسك في شعر الرأس خاصة، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - النسك من قوله، ومن فعله، وقال: خذوا عني مناسككم، ولم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان النسك أن اللحية لها تعلق به، فبطل اعتقاد أن الأخذ منها خاص بالنسك. وثانياً: أن السلف فهموا جواز الأخذ منها ملطقاً، ولم يقيدوه في النسك فيما أعلم إلا الشافعية فإنه كرهوه خارج النسك، ولم يحرموه، وعبر بعضهم بالأولى كما هي عبارة العراقي، وقد سقتها عند عرض الأقوال. ثالثاً: ولأني لا أعرف أحداً من السلف حرم الأخذ من اللحية مطلقاً، فمن ادعى تحريم أخذ ما زاد من القبضة من فهم السلف فليأت به، ولا أعلم أحداً قال به إلا من بعض المعاصرين في البلاد النجدية، قاله الشيخ تفقهاً، وقلده طلابه من غير بحث، وهو فهم لم يسبق إليه، ولم يوافق عليه من سائر البلاد الإسلامية، ومن ادعى فهماً من النص لم يسبق إليه فهو رد عليه، وإني أدعو القوم إلى ترك أقوالهم إلى أقوال السلف، ومن دعانا إلى تقليده تاركين مذهب السلف فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

الدليل الرابع

رابعاً: ولأن أحداً لا يستطيع أن يقول إن الصحابة الذين أخذوا من اللحية في النسك لم يعفوا لحاهم حينئذ، وقد تشبهوا في المشركين في ترك الإعفاء. أو يقول: إن التشبه بالمشركين في ترك إعفاء اللحية داخل النسك مباح، وإذا كان خارج النسك كان محرماً، فلابد من القول بأن الصحابة، وإن أخذوا من لحاهم داخل النسك لم يخرجوا عن حد الإعفاء، وإذا كانوا لم يخرجوا عنه داخل النسك، لم يخرجوا عنه خارج النسك، والعجب أن قوماً من الحنابلة ينقمون علينا اتباع الدليل وتعظيم الآثار في مسائل كثيرة يكون فيها المذهب الحنبلي خلاف القول الراجح، ويدعوننا إلى التقليد واتباع الرجال، وترك الاجتهاد، وفي هذه المسألة التي وافقت مذهب أحمد من قوله وفعله لم تعجبهم، فخالفوا منهجهم في اتباع التقليد، فإن كان التقليد لمذهب الحنابلة هو الراجح عندهم فلما الغضب والمسألة لم تخرج عن مذهب الحنابلة؟ وإن كان التقليد باطلاً والمسألة من باب تعظيم الدليل، فلماذا ينقمون علينا في هذه المسألة وفي غيرها حرصنا على اتباع الدليل ومخالفة المذهب، ولكن كما يقال: لهوى النفوس سريرة لا تعلم. الدليل الرابع: (583 - 147) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن منصور، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح قال: كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة (¬1). ¬

_ (¬1) المصنف (5/ 225) رقم 25482.

الدليل الخامس

وهذا إسناد صحيح، وظاهره أنه يحكي فعل من شاهد من الصحابة، وعلى أسوأ الأحوال أن يكون هذا فعل غالب التابعين، وإنما أخذوا مثل ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. الدليل الخامس: (584 - 148) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن أشعث، عن الحسن، قال: كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها (¬1). [وسنده ضعيف، ولكن يشهد له ما حكاه عطاء بسند صحيح]. وهل هذا خاص في النسك، فيه احتمال، وسبق الإشارة إليه، وقد روي عن ابن عمر الأخذ من اللحية بدون فعل الحج أو العمرة، كما سبق نقاشه، وعلى فرض أن هذا خاص في النسك، فإن فيه دلالة على أن الأخذ منها في النسك لا ينافي الإعفاء المأمور به في حديث ابن عمر وأبي هريرة، وإذا كان لا ينافي الإعفاء جاز أخذه في غير النسك، ولكن يكون أخذه في النسك من العبادة، وأخذه في غيره من الأمور الجائزة، والله أعلم. الدليل السادس: (585 - 149) ما وراه الترمذي، قال: حدثنا هناد، حدثنا عمر بن هارون، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من لحيته، من عرضها وطولها. [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

_ (¬1) المصنف (5/ 225). (¬2) سنن الترمذي (2762) وفي إسناده عمر بن هارون، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث غريب، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول عمر بن هارون مقارب الحديث، لا أعرف له حديثاً ليس له أصل، أو قال ينفرد به إلا هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من حديث عمر بن هارون، ورأيته حسن الرأي في عمر. قال أبوعيسى: وسمعت قتيبة يقول: عمر بن هارون كان صاحب حديث، وكان يقول الإيمان قول وعمل. سنن الترمذي (2762). قال العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين: ليس بشيء. الجرح والتعديل (6/ 140). وقال ابن معين كما في رواية ابن الجنيد: كذاب قدم مكة، وقد مات جعفر بن محمد، فحدث عنه. المرجع السابق. قال ابن أبي حاتم: سألت أبى عن عمر بن هارون، فقال: تكلم ابن المبارك فيه، فذهب حديثه. قلت لأبى: إن أبا سعيد الأشج حدثنا عن عمر بن هارون البلخي، فقال: هو ضعيف الحديث، نخسه ابن المبارك نخسه، فقال: إن عمر بن هارون يروى عن جعفر بن محمد، وقدمت قبل قدومه، وكان قد توفى جعفر بن محمد. المرجع السابق. وقال إبراهيم بن موسى، وقد قيل له: لم لا تحدث عن عمر بن هارون؟ فقال: الناس تركوا حديثه. المرجع السابق. وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (475). وقال أبو طالب، عن أحمد: لا أروي عنه شيئاً، وقد أكثرت عنه، ولكن كان ابن مهدي يقول: لم يكن له عندي قيمة، وبلغني أنه قال: حدثني بأحاديث فلما قدم مرة أخرى حدث بها عن ابن عباس، عن أولئك فتركت حديثه. تهذيب التهذيب (7/ 441). وقال أبو داود: غير ثقة. المرجع السابق. وقال ابن المديني: ضعيف جداً. المرجع السابق. وفي التقريب: متروك، وكان حافظاً. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 686) من طريق الترمذي. ورواه العقيلي في الضعفاء (3/ 194) من طريق هناد السري، قال: حدثنا عمر بن هارون به. =

الدليل السابع

الدليل السابع: (586 - 150) ما رواه البيهقي في شعب الإيمان، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن موسى بن الفضل، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا شبابة، أنا أبو مالك النخعي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً مجفل الرأس واللحية، فقال: على ما شوه أحدكم أمس، قال: وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى لحيته ورأسه يقول: خذ من لحيتك ورأسك (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ = وأخرجه أبو الشيخ في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - (885) قال عبدان، نا أبو كامل، نا عمر بن هارون به. ومن طريق أبي كامل أخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 30) والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 220). (¬1) شعب الإيمان (5/ 221) رقم 6440. (¬2) فيه عبد الملك بن الحسين النخعي: قال البيهقي: أبو مالك عبد الملك بن الحسين النخعي: غير قوي. وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم. التاريخ الكبير (5/ 411). وقال ابن حبان: كان ممن يروي المقلوبات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به فيما وافق الثقات، ولا الاعتبار فيما لم يخالف الأثبات. المجروحين (2/ 134). قال الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: أبو مالك النخعي ليس بشيء. الجرح والتعديل (5/ 347). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى عن أبى مالك النخعي، فقال: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال أيضاً: سألت أبا زرعة عن أبى مالك النخعي، فقال: ضعيف الحديث. المرجع =

وله شاهدان مرسلان صحيحا الإسناد: (587 - 151) فقد روى أبو داود في المراسيل، قال: حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا مروان - يعني ابن معاوية - عن عثمان بن الأسود، سمع مجاهداً يقول: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً طويل اللحية، فقال: لم يشوه أحدكم نفسه (¬1). وأما الشاهد الثاني: (588 - 152) فقد رواه مالك في الموطأ، قال: عن زيد بن أسلم، أن عطاء بن يسار أخبره، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده أن اخرج، كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل، ثم رجع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس، كأنه شيطان (¬2). [ورجاله ثقات إلا أنه مرسل، وليس صريحاً في الأخذ من اللحية] (¬3). ¬

_ = السابق. وقال النسائي ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (12/ 240). وقال الأزدي والنسائي أيضا: متروك الحديث. المرجع السابق. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. المرجع السابق. كما أن في الإسناد يحيى بن أبي طالب مختلف فيه، وقد حررته في كتاب الحيض والنفاس. (¬1) المراسيل (448)، ورجاله ثقات، وما نسب إلى مروان بن معاوية من التدليس وجدته في تدليس الشيوخ، وهذا لا تضر عنعنته، والله أعلم. (¬2) الموطأ (2/ 949). (¬3) ورواه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 225) من طريق مالك به.

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (589 - 153) ما ررواه الخطيب في تاريخه، قال: أخبرنا علي بن المحسن المعدل، حدثنا أبو غانم محمد بن يوسف الأزرق، حدثنا محمد بن مخلد العطار، حدثنا أحمد بن الوليد وإبراهيم بن الهيثم البلدي، قالا: حدثنا أبو اليمان، حدثنا عفير بن معدان، عن عطاء، عن أبي سعيد، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يأخذ أحدكم من طول لحيته، ولكن من الصدغين. قال أبو عبد الله: ابن مخلد هذا أحمد بن الوليد المخرمي لا يسوى فلساً (¬1). [ضعيف أو ضعيف جداً] (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد (5/ 187). (¬2) قلت: تابع ابن مخلد إبراهيم بن الهيثم، وهو ثقة، لكن علته عفير بن معدان،: قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: عفير بن معدان لا شيء. الجرح والتعديل (7/ 36). وقال عباس: سمعت يحيى، قال: عفير بن معدان ليس بثقة. الضعفاء الكبير (3/ 430). وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبى، قال: سمعت دحيماً يقول: عفير بن معدان ليس بشيء، لزم الرواية عن سليم بن عامر وشبهه بجعفر بن الزبير وبشر بن نمير. الجرح والتعديل (7/ 36). وقال عبد الرحمن: سألت أبى عن عفير بن معدان، فقال: هو ضعيف الحديث يكثر الرواية عن سليم بن عامر، عن أبى أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمناكير ما لا أصل له، لا يشتغل بروايته. المرجع السابق. وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عن عفير بن معدان، فقال: شيخ صالح ضعيف =

الدليل التاسع

الدليل التاسع: (590 - 154) روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن زمعة، عن ابن طاوس، عن سماك بن يزيد قال كان علي يأخذ من لحيته مما يلي وجهه (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل العاشر: (591 - 155) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن أبي هلال، عن قتادة، قال: قال جابر: لا نأخذ من طولها إلا في حج أو عمرة (¬3). [حسن لغيره] (¬4). الراجح من الأقوال: أرى أن القول بأن الأخذ من اللحية بما زاد على القبضة جائز، ¬

_ = الحديث. تهذيب الكمال (20/ 176). وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال أبو أحمد بن عدي: وعامة رواياته غير محفوظة. الكامل (5/ 379). (¬1) المصنف (5/ 225) رقم 25480. (¬2) سماك بن يزيد، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (4/ 280). وفيه زمعة بن صالح، قال عنه الحافظ في التقريب: ضعيف، وحديثه عند مسلم مقرون. (¬3) المصنف برقم (25478). (¬4) أبو هلال الراسبي تقدمت ترجمته، وهو حسن الحديث إن شاء الله، لكن قد تكلم في روايته عن قتادة، قال ابن عدي: أحاديثه عن قتادة كلها أو عامتها غير محفوظة. الكامل (6/ 212)، لكن قد توبع أبو هلال من رواية أبي الزبير عن جابر، وقد تقدمت. كما أن فيه علة أخرى، وهو أن قتادة لم يسمع من جابر رضي الله عنه.

الأدلة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان كثيف اللحية

ولا يجب، (592 - 156) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو خالد، عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه كان يأخذ من لحيته، ولا يوجبه (¬1). ولم أقل بوجوبه، لأن الأمر لم يثبت فيه قول أو فعل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غاية ما فيه النقل عن بعض الصحابة، وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تدل على الوجوب، فكذلك أفعال غيره من باب أولى، ولو كان مستحباً أو واجباً لجاء الأمر به من الشارع، وما كان ربك نسياً، ولا يقال: إن هذا الفعل بيان للمجمل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعفوا " فيأخذ حكمه؛ لأن فعل بعض الصحابة لا يعطى حكم فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع إمكان الفعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت له لحية كبيرة إلا أنها لم تبلغ ما يدعو إلى الأخذ منها، فلم تتجاوز القبضة، وهذا هو المنصوص عليه كما سيأتي. وإما أن يقال: عدم النقل ليس نقلاً للعدم، وهذا مسلم في ظاهره، لكن يبعد أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفعله، ولا ينقل بالوقت الذي نقل فيه فعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم. والأدلة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان كثيف اللحية، (593 - 157) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، قال: قلنا لخباب: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر، قال: نعم. قلنا: بم كنتم تعرفون ذاك؟ قال: باضطراب لحيته (¬2). ¬

_ (¬1) المصنف (5/ 225) رقم 25483. ورجاله ثقات. (¬2) صحيح البخاري (746).

(594 - 158) وروى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا أدهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية. الحديث (¬1). والله أعلم. (595 - 159) وروى النسائي، قال: أخبرنا علي بن الحسين، عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً مربوعاً، عريض ما بين المنكبين، كث اللحية، تعلوه حمرة، جمته إلى شحمتي أذنيه، لقد رأيته في حلة حمراء، ما رأيت أحسن منه (¬2). [رجاله ثقات، والحديث في الصحيحين وليس فيه كث اللحية] (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2344). (¬2) سنن النسائي الصغرى (5232). (¬3) الحديث رواه البخاري (3551) من طريق حفص بن عمر، ورواه البخاري أيضاً (3549) من طريق أبي الوليد، ورواه مسلم (2337) من طريق محمد بن جعفر ورواه النسائي (5314) من طريق هشيم، أربعتهم، عن شعبة به، بدون ذكر كث اللحية. ورواه البخاري (5901) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق به، بدون ذكر كث اللحية. ورواه مسلم (2337) من طريق سفيان الثوري، عن أبي إسحاق به بدون ذكر قوله: " كث اللحية ". ورواه النسائي (5062) من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه به، وليس فيه هذه الزيادة، ولم أستقص كل الطرق. المهم أن زيادة كث اللحية تفرد بها أمية =

وله شاهد من حديث علي عند أحمد، وفيه ابن عقيل (¬1)، ومن حديث هند بن أبي هالة وهو ضعيف (¬2). وكونه - صلى الله عليه وسلم - كث اللحية لا يلزم منه أنها طويلة؛ فقد فسر أهل اللغة من اللغويين والفقهاء أن كلمة كث تعني الشعر الكثير غير الطويل. جاء في تاج العروس: " كث اللحية وكثيثها، أراد كثرة أصولها ¬

_ = بن خالد، وهو صدوق، وقد خالفه من هو أحفظ منه. وله شاهد من حديث علي في المسند (¬1) رواه أحمد في المسند (1/ 89)، قال: حدثنا يونس، حدثنا حماد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضخم الرأس، عظيم العينين، هدب الأشفار، مشرب العين بحمرة، كث اللحية، أزهر اللون، إذا مشى تكفأ كانما يمشي في صعد، وإذا التفت التفت جميعاً، شثن الكفين والقدمين. وفي الإسناد ابن عقيل، مختلف فيه، والأكثر على ضعفه. والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد (1315)، والبزار (660)، والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 210) من طريق حماد بن سلمة به. (¬2) رواه الطبراني في المعجم (22/ 155) من طريق جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي، قال: حدثني رجل بمكة، عن ابن لأبي هالة التميمي، عن الحسن بن علي، قال: سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي - وكان وصافاً - عن حلية النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر من صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيه " كث اللحية " وفي إسناده مبهم. وفي إسناده أيضاً: جميع بن عمر قال أبو نعيم الفضل بن دكين: كان فاسقاً. تهذيب التهذيب (2/ 95). وقال الآجري، عن أبي داود: جميع بن عمر، راوي حديث هند بن أبي هالة، أخشى أن يكون كذاباً. المرجع السابق. وقال العجلي: جميع لا بأس به، يكتب حديثه، وليس بالقوي. المرجع السابق. وذكره بن حبان في الثقات (8/ 166). والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 154) من طريق جيمع بن عمير به.

وشعرها، وأنها ليست بدقيقة، ولا طويلة، ولكن فيها كثافة. وجاء في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، وهو من أهل اللغة والفقه، قال: كث اللحية: الكثاثة في اللحية: أن تكون غير رقيقة ولا طويلة، ولكن فيها كثافة (¬1). فهذا تفسير أهل اللغة والفقه: أن لحية الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيرة الشعر، ليست بالطويلة، وإذا لم تكن طويلة لم يستدل على كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ من لحيته على تحريم الأخذ من اللحية الطويلة. وكذلك جاء في مسلم: " كان كثير شعر اللحية " لا يلزم منه أن تكون طويلة إلى حد تتجاوز القبضة، والله أعلم. والأخذ من اللحية ليس واجباً؛ لكون النصوص عن الصحابة مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، وفي دلالته على الاستحباب نظر، فإن كان من أمور العبادات كان مستحباً، وإن كان من قبيل العادات كان مباحاً. والقول بتحريم أخذ ما زاد على القبضة قول شاذ، لا أعلم أحداً من السلف قال به، فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، يحكى عن غالبهم كما في أثر جابر وعطاء بن أبي رباح، ومن فعل ابن عمر، ولم ينقل إنكار الصحابة رضوان الله عليهم. أيظن بالصحابة أنهم يجهلون الأمر بإعفاء اللحية الذي يعرفه عوام المسلمين في بلادنا، خاصة وفيهم ممن روى أحاديث الإعفاء. أو يظن بهم أنهم لا يعرفون مدلول كلمة (أعفوا) وهم أهل اللسان، وبلسانهم نزل القرآن، أو يظن أننا أشد غيرة من الصحابة، حيث ننكر على ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث (4/ 152).

من أخذ من لحيته، وقصر في هذا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أنصح الناس. وهؤلاء أئمة التابعين، عطاء في مكة، والقاسم في المدينة، وقتادة، والحسن وابن سيرين في البصرة (¬1)، والشعبي (¬2)، وإبراهيم النخعي في الكوفة (¬3)، وطاوس في اليمن، وغيرهم من أئمة الفقه والدين يرون جواز الأخذ من اللحية، فهذه بلاد المسلمين في زمن التابعين لا تكاد ترى بلداً إلا وفيه من العلماء من يذهب إلى جواز الأخذ من اللحية، ولا يعلم لهم مخالف، أيظن بهم أنهم قد ظلوا في هذه المسألة؟ قد ظللت إذاً، وما أنا من المهتدين. وهؤلاء الأئمة الأربعة يذهبون إلى جواز الأخذ منها وأضيق المذاهب مذهب الشافعي رضي الله عنه فإنه قيد جواز الأخذ في النسك (¬4)، وإذا كان الأخذ ¬

_ (¬1) سبق لي أن نقلت عنهم نصوصهم فيما سبق. (¬2) المجموع (1/ 342). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 225) رقم 25482 قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن منصور، قال: كان إبراهيم يأخذ من عارض لحيته. وسنده على شرط الشيخين. وروى ابن عبد البر في التمهيد (24/ 146) قال: وروى الثوري، عن منصور، عن عطاء، أنه كان يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة. قال منصور: فذكرت ذلك لإبرهيم، فقال: كانوا يأخذون من جوانب اللحية. وانظر الفتح (10/ 350). (¬4) الشافعي نص على إستحبابه في النسك، وليس له نص في حكم الأخذ منها خارج النسك، وكنت فهمت من نصه أن يقصر الإستحباب على النسك، وليس فهمي هذا صحيحاً، وإنما الصحيح أن يقال: نص الشافعي على إستحباب الأخذ في النسك، وليس له نص في الأخذ منها خارج النسك، فقد يكون مباحاً عنده، وقد يكون مكروهاً، وإنما أصحابه المتأخرين فرقوا بين النسك وبين غيره، فقال العراقي الأخذ منها خلاف الأولى خارج النسك، وبالغ النووي فأوصل الحكم للكراهة فقط، والله أعلم.

منها في النسك لا ينافي الإعفاء، فكذلك الأخذ منها في غير النسك (¬1). ¬

_ (¬1) وقولي: إن الأئمة يرون جواز الأخذ هذا في الجملة، بل منهم من استحبه، ومنهم من أوجبه، ومنهم من أباحه، وإليك النقول: فالحنفية لهم قولان: أحدهما: وجوب الأخذ من اللحية، انظر الدر المختار (2/ 44)، والثاني: أن الأخذ منها من السنة، فليس الأخذ عندهم مباحاً فقط. قال في البحر الرائق (3/ 12): " قال أصحابنا: الإعفاء تركها حتى تكث وتكثر، والقص سنة فيها، وهو أن يقبض الرجل لحيته فما زاد منها على قبضة قطعها، كذلك ذكر محمد في كتاب الآثار عن أبي حنيفة، قال: وبه نأخذ " اهـ. ونقل نحوه في الفتاوى الهندية. (5/ 358). وانظر حاشية ابن عابدين (6/ 407). وأما مذهب الإمام مالك، فقد جاء في المدونة (1/ 430): " قلت لابن القاسم: هل كان مالك يوجب على المحرم إذا حل من إحرامه أن يأخذ من لحيته وشاربه وأظفاره؟ قال: لم يكن يوجبه، ولكن كان يستحب إذا حلق أن يقلم، وأن يأخذ من شاربه ولحيته، وذكر مالك أن ابن عمر كان يفعله. واستحباب مالك الأخذ منها ليس مقيداً في النسك، ومع أنه يستحب الأخذ منها، فهو يكره أن تطول جداً، وإليك النقول في ذلك: قال الباجي في المنتقى (7/ 266):" روى ابن القاسم عن مالك لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية. قيل لمالك: فإذا طالت جداً. قال: أرى أن يؤخذ منها، وتقص ". اهـ وقول الإمام مالك: " لا بأس " لا يعني التخيير، فقد جاء في الفواكه الدواني (2/ 307): " وحكم الأخذ الندب، (فلا بأس) هنا هو خير من غيره، والمعروف لا حد للمأخوذ، وينبغي الاقتصار على ما تحسن به الهيئة ". وقال القرطبي في المفهم (1/ 512): " لا يجوز حلق اللحية، ولا نتفها، ولا قص الكثير منها، فأما أخذ ما تطاير منها، وما يشوه ويدعو إلى الشهرة طولاً وعرضاً فحسن عند مالك وغيره من السلف ". وقال القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم (2/ 64): " وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، ويكره الشهرة في تعظيمها وتحليتها كما تكره في قصها وجزها، وقد اختلف السلف هل لذلك حد، فمنهم من لم يحدد إلا أنه لم يتركها لحد الشهرة، ويأخذ منها، وكره =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مالك طولها جداً، ومنهم من حدد، فما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة ". فهنا النص عن مالك أنه كان يكره طولها جداً. وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/ 145): " اختلف أهل العلم في الأخذ من اللحية، فكره ذلك قوم، وأجازه آخرون. ثم ساق بسنده عن ابن القاسم، قال: سمعت مالكاً يقول: لا بأس أن يؤخذ ما تطايل من اللحية وشذ. قال: فقيل لمالك: فإذا طالت جداً فإن من اللحى ما تطول، قال: أرى أن يؤخذ منها وتقصر ". اهـ وأما النقل عن الشافعي رحمه الله، فقد قال في الأم (2/ 232): " وأحب إلي لو أخذ من لحيته وشاربه، حتى يضع من شعره شيئاً لله، وإن لم يفعل فلا شيء عليه؛ لأن النسك إنما هو في الرأس لا في اللحية". اهـ وأما النقول عن الإمام أحمد رحمه الله، فإليك هي: جاء في كتاب الوقوف والترجل للخلال (ص: 129): " أخبرني حرب، قال: سئل أحمد عن الأخذ من اللحية؟ قال: كان ابن عمر يأخذ ما زاد عن القبضة. وكأنه ذهب إليه - قلت له: ما الإعفاء؟ قال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كأن هذا عنده الإعفاء. قلت: وعليه فالإمام أحمد يرى أن إعفاء اللحية، والأخذ ما زاد على القبضة لا يتنافيان، فليس المراد بالإعفاء إطالة اللحية إلى حد الشهرة. ثم قال موصولاً بالكلام السابق. " أخبرني محمد بن هارون أن إسحاق حدثهم، قال: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة. قلت: فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى؟ قال: يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه، ورأيت أبا عبد الله يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه. وهذا النص في أحكام أهل الملل للخلال (ص: 11). وجاء في مسائل أحمد رواية ابن هانئ (2/ 151): " سألت أبا عبد الله عن الرجل يأخذ من عارضيه؟؟ قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة. قلت: فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " قال: يأخذ من طولها ومن تحت حلقه، ورأيت أبا عبد الله يأخذ من عارضيه، ومن تحت حلقه.

وهذا ابن عبد البر (¬1)، والقاضي عياض (¬2)، وابن جرير الطبري (¬3)، ¬

_ (¬1) التمهيد (24/ 145): " واختلف أهل العلم في الأخذ من اللحية، فكره ذلك قوم وأجازه آخرون، ثم ساق بسنده عن ابن القاسم قال: سمعت مالكاً يقول: لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية وشذ، قال: فقيل لمالك: فإذا طالت جداً، فإن من اللحى ما تطول؟ قال: أرى أن يؤخذ منها وتقصر وقد روى سفيان، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة. وذكر الساجي، حدثنا بندار وابن المثنى، قالا: حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا قصر من لحيته في حج أو عمرة كان يقبض عليها، ويأخذ من طرفها ما خرج عن القبضة. قال ابن عبد البر: هذا ابن عمر روى:" أعفوا اللحى" وفهم المعنى، فكان يفعل ماوصفنا، وقال به جماعة من العلماء في الحج وغير الحج. وروى ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب في قوله: {ثم ليقضوا تفثهم} [الحج: 29] قال: رمي الجمار، وذبح الذبيحة، وحلق الرأس، والأخذ من الشارب واللحية والأظافر، والطواف بالبيت، وبالصفا والمروة ". وكان قتادة يكره أن يأخذ من لحيته إلا في حج أو عمرة، وكان يأخذ من عارضيه، وكان الحسن يأخذ من طول لحيته، وكان ابن سيرين لا يرى بذلك بأساً. وروى الثوري، عن منصور، عن عطاء أنه كان يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة. قال منصور: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: كانوا يأخذون من جوانب اللحية. اهـ (¬2) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 64). (¬3) نقل العيني في عمدة القاري (22/ 46،47): " وقال الطبري: فإن قلت ما وجه قوله: " أعفوا اللحى "، وقد علمت أن الإعفاء الإكثار، وأن من الناس من إذا ترك شعر لحيته اتباعاً منه لظاهر قوله: " أعفوا " فيتفاحش طولاً وعرضاً ويسمج حتى يصير للناس حديثاً ومثلاً؟ قيل: قد ثبتت الحجة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خصوص هذا الخبر، وأن اللحية محظور =

والطيبي (¬1) والغزالي من الشافعية (¬2)، والحافظ ابن حجر (¬3) يرون جواز الأخذ من اللحية. وقال ابن تيمية: وأما إعفاء اللحية فإنه يترك، ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره، نص عليه (¬4). فقل بالله عليك مَنِ العلماء غيرهم؟ أفيكون قول يراه كل هؤلاء من لدن الصحابة حتى عصر الإمام أحمد، أفيكون قولاً شاذاً مخالفاً لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد اعترض على أحمد ابن هانئ بأحاديث الأعفاء، فأخبربأن هذا من الإعفاء والله أعلم. ¬

_ = إعفاؤها، وواجب قصها على اختلاف من السلف في قدر ذلك وحده. فقال بعضهم: حد ذلك أن يزاد على قدر القبضة طولاً، وأن ينتشر عرضاً فيقبح ذلك، وروى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلاً قد ترك لحيته حتى كبرت، فأخذ يجذبها، ثم قال: ائتوني بجلمتين، ثم أمر رجلاً فجز ما تحت يده، ثم قال: اذهب فأصلح شعرك، أو أفسده، يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من السباع، ثم قال: وقال آخرون: يأخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش أخذه، ولم يحدوا في ذلك حداً. الخ كلامه رحمه الله، فهذا ابن جرير الطبري يرى وجوب الأخذ من اللحية. (¬1) قال الطيبي في شرح المشكاة (8/ 254): عن الأخذ من اللحية: " هذا لا ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعفوا اللحى "؛ لأن المنهي هو قصها، كفعل الأعاجم، أو جعلها كذنب الحمام، فالمراد بالإعفاء التوفير منه، كما في الرواية الأخرى، والأخذ من الأطراف قليلاً لا يكون من القص في شيء ". اهـ (¬2) المجموع (1/ 344). (¬3) فتح الباري (10/ 350). (¬4) شرح العمدة في الفقه (1/ 236).

الفصل الثالث حلق ما تحت الذقن

الفصل الثالث حلق ما تحت الذقن اختلف الفقهاء في حلق ما تحت الذقن. فقيل: يجوز حلق ما تحت الذقن، وهو مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره أبو يوسف من الحنفية (¬2). وقيل: يكره، وهو مذهب الحنفية (¬3)، ونقل عن مالك كراهة حلق ماتحت الحنك، حتى قال: إنه من فعل المجوس (¬4)، وهو مذهب الشافعية (¬5). فإن كان ما تحت الذقن من الشعر يعتبر من اللحية كان حلقه محرماً، وإن لم يكن من اللحية، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حلقه، ولا يدخل هذا في أخذ ما زاد على القبضة حتى يستدل بفعل الصحابة، ولم أقف على نص يبيح ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 130)، الإنصاف (1/ 121)، شرح منتهى الإرادات (1/ 44)، كشاف القناع (1/ 75). (¬2) الفتاوى الهندية (4/ 83)، وبريقة محمودية (4/ 83). (¬3) حاشية بن عابدين (2/ 418). وجاء في حاشية الطحطاوي (2/ 342): " وفي المحيط لا يحلق شعر حلقه ". اهـ (¬4) جاء في حاشية العدوي (2/ 446): نقل عن مالك كراهة حلق ما تحت الحنك، حتى قال: إنه من فعل المجوس. وانظر القوانين الفقهية (ص:293). ونقل عن بعضٍ: أن حلقه من الزينة، فتكون إزالته من الفطرة، قال العدوي: ويجمع كلام الإمام على من لم يلزم على بقائه تضرر الشخص، ولا تشويه خلقته، وكلام غيره على ما يلزم على بقائه واحد من الأمرين، ويحرم. إزالة شعر العنفقة كما يحرم إزالة شعر اللحية. (¬5) الفتاوى الفقهية الكبرى - ابن حجر الهيتمي (4/ 256).

أخذه. وتعريف اللحية في الفقه واللغة لم يتناوله، فقد سبق لنا في تعريف اللحية قولان: فقيل: اللحية: شعر الخدين والذقن. وقيل: الشعر النازل على الذقن. فليس داخلاً في مسمى اللحية على كلا القولين، وما تحت الذقن من الشعر ليس له حكم شعر الوجه في وجوب غسله في الوضوء. فهل يعتبر ما تحت الذقن من الشعر من المسكوت عنه، فيكون الأصل جواز حلقه، أو يعتبر من اللحية فيحرم، فيه تأمل، وإن كنت أميل للأول، وأن كل شعر ليس على اللحيين فإنه غير داخلا في شعر اللحية، والله أعلم.

الفصل الرابع في نتف الشيب

الفصل الرابع في نتف الشيب فقيل: يكره نتف الشيب، وهو مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره ابن تيمية (¬4). وقيل: لا بأس بنتف الشيب، اختاره بعض الحنفية (¬5). وقيل: يتوجه احتمال أنه يحرم، قاله ابن مفلح (¬6)، ولم يستبعده ¬

_ (¬1) قال في المنتقى للباجي (7/ 270): " سئل مالك عن نتف الشيب، فقال: ما علمته حراماً، وتركه أحب إلي ". اهـ وقال في الفواكه الدواني (2/ 307): " لم يتكلم المصنف على نتف الشيب من اللحية، وقال مالك حين سئل عنه: لا أعلمه حراماً، وتركه أحب إلى، أي إزالته مكروهة على الصواب، كما يكره تخفيف اللحية والشارب بالموسى " اهـ. وقال في حاشية العدوي (1/ 446): " وإزالة الشيب مكروهة " (¬2) المجموع (1/ 344)، أسنى المطالب (1/ 173)، تحفة المحتاج (2/ 128)، روضة الطالبين (3/ 234). (¬3) المغني (1/ 66)، الإنصاف (1/ 123)، كشاف القناع (1/ 77). (¬4) الفتاوى الكبرى (1/ 53). (¬5) حاشية ابن عابدين (2/ 418) وقال أيضاً (6/ 407): " ولا بأس بنتف الشيب، قيده في البزازية بأن لا يكون على وجه التزين " اهـ. قلت: فإن كان على وجه التزين كره انظر الفتاوى الهندية (5/ 359). وقال في حاشية الطحطاوي (2/ 342): " كان أبو حنيفة لا يكره نتف الشيب إلا على وجه التزين " اهـ (¬6) الفروع (1/ 131).

دليل من قال بالكراهة

النووي (¬1)، وحكى ابن الرفعة تحريمه عن نص الأم (¬2). دليل من قال بالكراهة. (596 - 160) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنتفوا الشيب؛ فإنه ما من عبد يشيب في الإسلام شيبة إلا كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 344). (¬2) انظر أسنى المطالب (1/ 173)، مغني المحتاج (1/ 407)، وقد راجعت الأم ولم أجد فيه هذا النص، ولا أظنه فيه، خاصة أن النووي قال: ولو قيل بتحريمه لم يبعد، فعلق التحريم على ما إذا وجد أحد قال به، ولو قال به الشافعي في الأم لم يخف على النووي. والله أعلم. (¬3) مسند أحمد (2/ 179). (¬4) الحديث مداره على عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهذا الإسناد الراجح فيه أنه حسن لذاته، وقد حررت الاختلاف فيه في كتاب الحيض والنفاس. وقد رواه عن عمرو بن شعيب جماعة: الأول: محمد بن عجلان، كما في رواية الباب، وهو حسن الحديث إلا في أحايثه عن سعيد المقبري، فقد اختلطت عليه، وقد توبع في هذا. رواها أحمد كما في إسناد الباب، وأخرجه أبو داود (4202) ومن طريقه البيهقي في الشعب (5/ 209) رقم 6386 حدثنا مسدد، حدثنا يحيى به. وأخرجه البيقهي في السنن (7/ 311) من طريق أبي المثنى، حدثنا مسدد به. وأخرجه أبو داود (4202)، ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 209) رقم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 3686 من طريق سفيان، عن محمد بن عجلان به. وأخرجه ابن عدي (3/ 204) من طريق زيد بن حبان، عن ابن عجلان به. الطريق الثاني: عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب. أخرجه أحمد (2/ 212) قال: ثنا إسحاق بن عيسى، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب إن شاء الله، عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نتف الشيب، وقال: إنه نور الإسلام. ورواه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 209) 6386 من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد الرحمن بن الحارث، به وإسماعيل في روايته عن غير أهل بلده فيها كلام، لكنه قد توبع كما سبق، وأيضاً أخرجه البيقهي في شعب الإيمان (5/ 209) 6387 من طريق الوليد بن كثير، عن عبد الرحمن بن الحارث به. وعبد الرحمن بن الحارث فيه كلام يسير، وفي التقريب: صدوق له أوهام. وما يخشى من وهمه قد زال بالمتابعة. الطريق الثالث: ليث بن أبي سليم، عن عمرو بن شعيب. رواه أحمد (2/ 179) حدثنا إسماعيل بن علية، حدثنا ليث، عن عمرو بن شعيب به. ورواه الطبراني في الأوسط (9/ 129) رقم 9326 من طريق عبد العزيز بن أبي رواد، عن ليث به. الطريق الرابع: عمارة بن غزية عن عمرو بن شعيب. أخرجه النسائي (5068)، قال: أخبرنا قتيبة، عن عبد العزيز، عن عمارة بن غزية، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نتف الشيب. وأخرجه النسائي أيضاً بإسناده في سننه الكبرى (5/ 414) رقم 9337. الطريق الخامس: محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب به. رواه أحمد (2/ 207) حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب به، بلفظ " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نتف الشيب، وقال: هو نور المؤمن، وقال: ما شاب رجل =

وله شواهد، منها. الشاهد الأول: حديث أبي هريرة (597 - 161) روى ابن حبان في صحيحه، قال: خبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور يوم القيامة، ومن شاب شيبة في الإسلام كتب له بها حسنة، وحط عنه بها ¬

_ = في الإسلام شيبة إلا رفعه الله بها درجة، ومحيت عنه بها سيئة، وكتبت له بها حسنة. رواه ابن أبي شيبة (5/ 266) رقم 25951 ومن طريقه أخرجه ابن ماجه. وأحمد (2/ 206) حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نتف الشيب، زاد ابن أبي شيبة: وقال: هو نور المؤمن. وأخرجه الترمذي (2821) حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق به. الطريق السادس: عبد الحميد بن جعفر، عن عمرو بن شعيب. أخرجه أحمد (2/ 110)، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور المسلم. من شاب شيبة في الإسلام كتب الله له بها حسنة، وكفر عنه بها خطيئة، ورفعه بها درجة. وسنده حسن. وأخرجه البغوي في شرح السنة (3181) من طريق أبي بكر الحنفي به. الطريق السابع: ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب. أخرجه البيهقي في السنن (7/ 311). الطريق الثامن: الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب. أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (4/ 57).

خطيئة، ورفع له بها درجة (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله] (¬2) ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (2985). (¬2) في إسناده محمد بن عمرو. جاء في ترجمته: قال ابن معين عنه: ما زال الناس يتقون حديثه. قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. الجرح والتعديل (8/ 30). وقال الجوزجاني: ليس بقوي الحديث، ويشتهى حديثه. تهذيب الكمال (26/ 212)، وتهذيب التهذيب (9/ 333). وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يكتب حديثه، هو شيخ. الجرح والتعديل (8/ 30). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطيء. الثقات (7/ 377). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، يستضعف. الطبقات الكبرى (5/ 433). وقال يعقوب بن شيبة: هو وسط، وإلى الضعف ما هو. تهذيب التهذيب (9/ 333). وقال ابن عدي: له حديث صالح، وقد حدث عنه جماعة من الثقات، كل واحد منهم ينفرد عنه بنسخة، ويغرب بعضهم على بعض، وروى عنه مالك غير حديث في الموطأ وغيره، وأرجو أنه لابأس به. الكامل ـ ابن عدي (6/ 224). وقال علي: قلت ليحيى - يعني ابن القطان -: محمد بن عمرو كيف هو؟ قال: تريد العفو أو تشدد؟ قلت: لا: بل أشدد. قال: ليس هو ممن تريد، كان يقول حدثنا أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب. قال يحيى: وسألت مالكاً عنه، فقال فيه نحو مما قلت لك. الكامل (6/ 224)، تهذيب الكمال (26/ 212). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (9/ 333) وقال في موضع آخر: ثقة. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق له أوهام. =

الشاهد الثاني: حديث فضالة بن عبيد. (598 - 162) رواه أحمد، قال: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد العزيز بن أبي الصعبة، عن حنش، عن فضالة بن عبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من شاب شيبة في سبيل الله كانت نوراً له يوم القيامة، فقال رجل عند ذلك: فإن رجالا ينتفون الشيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من شاء فلينتف نوره. [فيه ابن لهيعة، لكن الراوي عنه قتيبة بن سعيد، وروايته عنه أعدل من غيرها، وقد توبع فالحديث حسن] (¬1). ¬

_ = والحديث أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (457) من طريق عنبسة الحداد، عن مكحول، عن أبي هريرة. (¬1) وتابع ابن لهيعة يحيى بن أبي أيوب. فرواه ابن أبي عاصم في الجهاد (168)، قال: حدثنا أبو موسى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، عن يحي بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد العزيز بن أبي الصعبة، عن حنش، عن فضالة بن عبيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من شاب شيباً في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة. فقال رجل: إن رجالا ينتفون الشيب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من شاء أن ينتف شيبة، أو قال: نوره. قال ابن أبي عاصم: إسناده حسن، وهو كما قال. ورواه الطبراني في الكبير (18/ 304) رقم 782، قال: حدثنا معاذ بن المثنى ثنا، علي بن المديني ح. وحدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن معين، قالا ثنا: وهب بن جرير بن حازم به. ورواه الطبراني في الأوسط (5/ 341) رقم 5493، قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم به. ورواه البيهقي في شعب الإيمان بالإسنادين (5/ 210) رقم 6388، من طريق ابن لهيعة، ومن طريق يحيى بن أيوب الغافقي به.

الشاهد الثالث: (599 - 163) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن أبي نجيح السلمي، قال: حاصرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصن الطائف، فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر، فبلغت يومئذ بستة عشر سهماً، فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل فهو له درجة في الجنة، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت به نوراً يوم القيامة، وأيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلماً فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها محرراً من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت فان الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها محرراً من النار (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

_ (¬1) مسند أبي داود الطيالسي (1154). (¬2) ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن (10/ 272)، وفي شعب الإيمان (3/ 68) رقم 4341. وأخرجه أحمد (4/ 304)، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن هشام به. وأخرجه أبو داود (3965)، قال: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي به. وأخرجه الترمذي مختصراً (1638)، قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، عن أبيه به. قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وأبو نجيح هو عمرو بن عبسة السلمي. ووراه الحاكم (3/ 50) من طريق محمد بن منصور، عن معاذ بن هشام به. وأخرجه البيهقي (6/ 161)، من طريق يونس بن محمد، ثنا شيبان، عن قتادة به. =

الشاهد الرابع: عن أنس موقوفاً. ¬

_ = وهذه متابعة من شيبان لهشام. وررواه أحمد (4/ 113)، قال: ثنا الحكم بن نافع ثنا جرير عن سليم - يعني ابن عامر - أن شرحبيل بن السمط، قال: لعمرو بن عبسة حدثنا حديثاً ليس فيه ترديد ولا نسيان، قال: عمرو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار عضواً بعضو، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن رمى بسهم، فبلغ، فأصاب أو أخطأ كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل. وررواه عبد بن حميد (299) قال: أخبرنا يزيد بن هارون، أنا حريز بن عثمان، ثنا سليم بن عامر، أن عمرو بن عبسة كان عند شرحبيل بن السمط به. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1068) من طريق الوليد بن مسلم، عن حريز بن عثمان به. وفيه عنعنة الوليد بن مسلم، لكنه قد توبع. وأخرجه أبو داود (3966)، والنسائي (3142)، والطبراني في مسند الشاميين (958) من طريق بقية بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر، عن شرحبيل، عن عمرو بن عبسة. وبقية مدلس، وقد عنعن. وأخرجه عبد الرزاق (154،9544)، ومن طريقه عبد بن حميد كما في المنتخب (302)، أنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمرو بن عبسة به بنحوه. وأبو قلابة لم يسمع من عمرو. ورواه الترمذي (1635)، قال: حدثنا إسحاق بن منصور المروزي أخبرنا حيوة بن شريح الحمصي عن بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عمرو بن عبسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1162)، قال: حدثنا خير بن عرفة المصري، ثنا يزيد بن عبد ربه الجرجسي ح. وحدثنا محمد بن النضر الأزدي، ثنا أحمد بن عبد الملك بن واقد الحراني، قالا: ثنا بقية بن الوليد به. وهذه الطرق لا تخلو من مقال، لكنها متابعات صالحة.

دليل من قال بالتحريم

(600 - 164) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا أبي، حدثنا المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته (¬1). وفيه شواهد أخرى تركتها اقتصاراً واختصاراً، عن عمر بن الخطاب (¬2)، وعن كعب بن مرة (¬3)، وعن غيرهما. دليل من قال بالتحريم. حمل النهي عن نتف الشيب بأنه للتحريم، وحمله غيره بأنه للكراهة. دليل من قال بالجواز. بنى على الأصل، ولعله لم يثبت عنده هذا الحديث، أو لم يبلغه، ولذلك حين سئل الإمام مالك رحمه الله عن نتف الشيب، قال: ما علمته حراماً، وتركه أحب إلي " (¬4). وقال عمر بن بدر الموصلي: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2341). (¬2) عند ابن حبان (2983)، والطبراني في الكبير (58). (¬3) عند الطيالسي (1198)، ومصنف بن أبي شيبة (4/ 211) رقم 19386، وأحمد (4/ 235)، وأبو داود (3967)، والترمذي (1634)، والنسائي في الصغرى (3144)، والكبرى (4352)، الطبراني في الكبير (2. والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 172). (¬4) المنتقى للباجي (7/ 270). (¬5) المغني عن الحفظ والكتاب (ص: 469).

الفصل الخامس في تغيير الشيب

الفصل الخامس في تغيير الشيب

المبحث الأول تغيير الشيب بغير السواد

المبحث الأول تغيير الشيب بغير السواد اختلف العلماء في تغيير الشيب بغير السواد، فقيل: يسن خضاب الشيب بغير السواد من حمرة أو صفرة. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقيل: مباح تغيير الشيب، وهو ظاهر مذهب المالكية (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 422). (¬2) قاله النووي في المجموع (1/ 345). (¬3) الآداب الشرعية (3/ 336)، الإنصاف (1/ 123)، قال ابن قدامة في المغني (1/ 66): " قال أحمد: إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به. وذاكر رجلاً، فقال: لم لا تختضب؟ فقال: أستحي. قال: سبحان الله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬4) جاء في الموطأ (2/ 949) قال يحيى: سمعت مالكاً يقول في صبغ الشعر بالسواد: لم أسمع في ذلك شيئاً معلوماً، وغير ذلك من الصبغ أحب إلي قال: وترك الصبغ كله واسع إن شاء الله، ليس على الناس فيه ضيق. فقوله: ترك الصبغ كله واسع، يعني إن شاء صبغ، وإن شاء ترك، وهذا شأن المباح، والله أعلم. وعبارة بعض المتون المالكية: " لا بأس به، جائز " ونحوها. قال في حاشية العدوي (1/ 446): " وأما صبغه بغير السواد فلا بأس به بالحناء والكتم، ثم قال شارحه: وكلامه محتمل للندب والإباحة، وهي أقرب. وقال في الفواكه الدواني (2/ 307): " وجوازه - يعني الصبغ - للرجال في شعر الرأس واللحية دون اليدين والرجلين؛ لأن فيهما من زينة النساء .... الخ فعبر بالجواز الدال على الإباحة.

وقيل: لا يسن تغيير الشيب، وهذا القول مروي عن عمر (¬1)،وسعيد بن جبير (¬2). ¬

_ (¬1) روى الطبراني في الأوسط (1825) قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا الهيثم بن خارجة، قال: حدثنا محمد بن حمير، عن ثابت بن عجلان، عن سليم بن عامر، قال: رأيت أبا بكر الصديق يخضب بالحناء والكتم، وكان عمر لا يخضب، وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ثابت إلا محمد. [إسناده حسن، إلا أنه معلول] ورواه ابن حبان في صحيحه (2983) من طريق الهيثم بن خارجه به. واقتصر على المرفوع. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 185،159): " وعن ابن عمر أن عمر كان لايغير شيبه، فقيل له: يا أمير المؤمنين: ألا تغير فقد كان أبو بكر يغير؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شاب شيبة في الاسلام كأنت له نوراً يوم القيامة قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه طريف بن زيد قال العقيلي لا يتابع على هذا الحديث. وقد راجعت الأوسط ولم أجده بهذا اللفظ، وإنما وجدت فيه حديث ابن عمر دون قصة عمر، واقتصر على المرفوع، انظر الأوسط (1024). ويعكر على هذين الحديثين: ما رواه مسلم (2341) قال: حدثني أبو الربيع العتكي، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، قال: سئل أنس بن مالك عن خضاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه فعلت، وقال: لم يختضب، وقد اختضب أبوبكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتاً. وهذا أرجح من حديث الطبراني. والله أعلم. (¬2) روى ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 184) رقم 25032 قال: حدثنا يحيى بن آدم، =

دليل من قال بالسنية

وقيل: يجب تغيير الشيب، وهو رواية عن أحمد (¬1). دليل من قال بالسنية. الدليل الأول (601 - 165) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم. ورواه مسلم (¬2). فأمر بالصبغ مخالفة لليهود والنصارى، كما أمر بإعفاء اللحية مخالفة للمشركين. ¬

_ = قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: سمعت سعيد بن جبير، وسئل عن الخضاب بالوسمة؟ فكرهه، فقال: يكسو الله العبد في وجهه النور، ثم يطفئه بالسواد. وقد يقال: إن هذا بالنسبة للسواد، ولا يكرهه بغير السواد. (¬1) وهذا القول مروي عن أحمد، جاء في كتاب الترجل للخلال (ص: 132): " والخضاب عندي - أي عند أحمد - كأنه فرض، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم " وفيه أيضاً: " ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب، ولا يتشبه بأهل الكتاب، بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " غيروا الشيب، ولا تشبهوا بأهل الكتاب ". وفيه أيضاً (ص: 133) عن إسحاق، قال: سمعت أبا عبد الله يقول لأبي: يا أبا هاشم أخضب، ولو مرة واحدة أحب لك أن تخضب، ولا تشبه باليهود ". وانظر مسائل ابن هانئ (1835). (¬2) صحيح البخاري (3462)، مسلم (2103).

الدليل الثاني

قال أحمد: ما رأيت أحداً أكثر خضاباً من أهل الشام، ثم قال: الخضاب هو عندي كأنه فرض، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (¬1). الدليل الثاني: (602 - 166) حدثنا محمد بن بكار بن الريان، حدثنا إسمعيل بن زكرياء، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، قال: سألت أنس بن مالك هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خضب؟ فقال: لم يبلغ الخضاب كان في لحيته شعرات بيض. قال: قلت له: أكان أبو بكر يخضب؟ قال: فقال: نعم بالحناء والكتم (¬2). وأبو بكر له سنة متبعة. دليل من قال يباح تغيير الشيب وليس بسنة. قال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يصبغ كما في حديث أنس في الصحيح، وصبغ جمع من الصحابة، وترك جمع من الصحابة أيضاً، فدل على أن الأمر واسع. قال ابن عبد البر: جاء عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين أنهم خضبوا بالحمرة والصفرة، وجاء عن جماعة كثيرة منهم أنهم لم يخضبوا، وكل ذلك واسع كما قال مالك والحمد لله (¬3). وقال الحافظ: " ترك الخضاب علي وأبي بن كعب وسلمة بن الأكوع ¬

_ (¬1) مسائل ابن هانئ (1835). (¬2) صحيح مسلم (2341). (¬3) التمهيد (21/ 84).

وأنس وجماعة " (¬1). (603 - 167) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن الشعبي، قال: رأيت علياً أبيض الرأس واللحية، وقد ملأت ما بين منكبيه (¬2). [إسناده صحيح]. (604 - 168) روى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن يونس، عن الحسن، عن عيسى التيمي، قال: رأيت أبي أبيض الرأس واللحية (¬3). [إسناده صحيح، وعيسى هو ابن طلحة بن عبيد الله]. (605 - 169) ورواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا أبو عامر صالح بن رستم، قال: حدثنا حميد بن هلال، قال: حدثني الأحنف بن قيس، قال: قدمت المدينة، فدخلت مسجدها، فبينما أنا أصلي إذ دخل رجل طويل آدم، أبيض اللحية، والرأس محلوق يشبه بعضه بعضاً، فخرجت فاتبعته، فقلت: من هذا؟ قال: أبو ذر. [رجاله ثقات إلا صالح بن رستم صدوق كثير الخطأ] (¬4). وجمع الطبري، فقال: بأن من صبغ منهم كان اللائق به كمن يستشنع ¬

_ (¬1) فتح الباري (10/ 355). (¬2) المصنف (5/ 186) رقم 25055. (¬3) المصنف (5/ 186) رقم 25054. (¬4) المصنف (5/ 186) رقم 25056

دليل من قال لا يسن تغيير الشيب

شيبه، ومن ترك كان اللائق به كمن لا يستشنع شيبه، وعلى ذلك حمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر الذي أخرجه مسلم في قصة أبي قحافة حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: لما رأى رأسه كأنها الثغامة بياضاً: غيروا هذا وجنبوه السواد، ومثله حديث أنس الذي تقدمت الإشارة إليه ثم قال: فمن كان في مثل حال أبي قحافة استحب له الخضاب؛ لأنه لا يحصل به الغرور لأحد، ومن كان بخلافه فلا يستحب في حقه، ولكن الخضاب مطلقاً أولى؛ لأنه فيه إمتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب، وفيه صيانة للشعر عن تعلق الغبار وغيره به إلا إن كان من عادة أهل البلد ترك الصبغ، وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة فالترك في حقه أولى. الخ كلامه رحمه الله (¬1). دليل من قال لا يسن تغيير الشيب. الدليل الأول: (606 - 170) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا أبي، حدثنا المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته (¬2). الدليل الثاني: (607 - 171) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، ¬

_ (¬1) الفتح (10/ 355). (¬2) صحيح مسلم (2341).

الدليل الثالث

عن أبي نجيح السلمي، قال: حاصرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصن الطائف، فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر، فبلغت يومئذ بستة عشر سهماً، فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل فهو له درجة في الجنة، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت به نوراً يوم القيامة، وأيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلماً فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها محرراً من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت فان الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها محرراً من النار (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال قوله: " من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة " والصبغ يذهب الشيب. والله أعلم. الدليل الثالث: (608 - 172) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا قيس، عن الركين بن الربيع، عن القاسم بن حسان، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن عبد الله بن مسعود، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره عشرة: الصفرة - يعني الخلوق -والتختم بالذهب، والرقى إلا بالمعوذات، وعزل الماء عن محله، والتبرج بالزينة لغير محلها، وعقد التمائم، وجر الإزار، ¬

_ (¬1) مسند أبي داود الطيالسي (1154). (¬2) سبق تخريجه.

وإفساد الصبي غير محرمه، وتغيير الشيب، والضرب بالكعاب (¬1). [انفرد به عبد الرحمن بن حرملة دون سائر أصحاب ابن مسعود، وليس بالقوي، وفسر جرير تغيير الشيب بنتفه عند أحمد] (¬2). ¬

_ (¬1) مسند أبي داود الطيالسي (396). (¬2) عبد الرحمن بن حرملة: قال ابن المديني: لا أعلم أحداً روى عن عبد الرحمن بن حرملة هذا شيئاً إلا من هذا الطريق، ولا نعرفه في أصحاب عبد الله. العلل لابن المديني (170). وقال البخاري: لا يصح حديثه. التاريخ الكبير (5/ 270). وقال ابن عدي: وهذا الذي ذكره البخاري من قوله لم يصح أن عبد الرحمن بن حرملة لم يسمع بن مسعود، وأشار الى حديث واحد. الكامل (4/ 311). وقال العقيلي بعد أن روى هذا الحديث من طريقه: وبعض الألفاظ التي في هذا الحديث يروى بغير هذا الإسناد، وفيه ألفاظ ليس لها أصل. الضعفاء الكبير (2/ 329). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى عنه، فقال: ليس بحديثه بأس، وإنما روى حديثاً واحداً ما يمكن أن يعتبر به، ولم أسمع أحداً ينكره، ويطعن عليه وأدخله البخاري في كتاب الضعفاء، وقال: أبى يحول منه. الجرح والتعديل (5/ 222). وقال ابن أبي حاتم: وعبد الرحمن بن حرملة رجل من أصحاب بن مسعود، ولا نعلم سمع من عبد الله بن مسعود أم لا. الجرح والتعديل (7/ 108). وفي التقريب: مقبول: أي حيث يتابع، وإلا فلين الحديث. والله أعلم. وفي إسناده أيضاً: القاسم بن حسان، جاء في ترجمته: ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (7/ 108). قال أحمد بن صالح: ثقة. تهذيب التهذيب (8/ 279). وقال البخاري: حديثه منكر. ميزان الاعتدال، ولم أقف عليه في غيره. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات. (7/ 335). =

وأجيب: بأن هناك فرقاً بين تغيير الشيب، وبين نتفه، قال ابن العربي وإنما نهى عن النتف دون الخضب؛ لأن فيه تغيير الخلقة من أصلها بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة علىالناظر إليه والله أعلم (¬1). ¬

_ = وفي التقريب: مقبول. تخريج الحديث: الحديث أخرجه أحمد (1/ 380) حدثنا جرير، عن الركين، عن القاسم بن حسان به. قال جرير: وتغيير الشيب: إنما يعني بذلك نتفه. وأخرجه أبو يعلى (5151) والبيهقي في السنن (7/ 232) و (9/ 350) من طريق جرير بهذا الإسناد. وأخرجه أبو داود (4222) حدثنا مسدد، حدثنا معتمر، قال: سمعت الركين بن الربيع يحدث عن القاسم به. ومن طريق مسدد أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 216). وأخرجه النسائي في الكبرى (9363) وفي الصغرى (5088) قال: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، قال: سمعت الركين به. وأخرجه أبو يعلى (5074) قال: حدثنا عاصم بن النضر بن المنتشر الأحول حدثنا المعتمر بن سليمان به. وأخرجه ابن حبان (5682) قال: أخبرنا ابن قتيبة، حدثنا بن أبى السري، حدثنا: معتمر بن سليمان به. وأخرجه البيهقي في الكبرى (7/ 465) من طريق محمد بن أبي بكر، أنا المعتمر بن سليمان به. (¬1) فتح الباري (10/ 355).

المبحث الثاني تغيير الشيب بالسواد

المبحث الثاني تغيير الشيب بالسواد خضاب الشيب بالسواد اتفقوا على جوازه في الحرب (¬1)، واختلفوا في غير الحرب: فقيل: يحرم. وهو قول في مذهب الشافعية، اختاره جماعة منهم، ورجحه النووي (¬2). وقيل: يكره بالسواد لغير حرب، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، ومذهب المالكية (¬4)،وقول في مذهب ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (6/ 499): " ويستثنى من ذلك - يعني النهي عن الصبغ بالأسود - المجاهد اتفاقاً ". (¬2) أسنى المطالب (1/ 173)، وقال النووي في المجموع (1/ 345): " اتفقوا على ذم خضاب الرأس واللحية بالسواد، ثم قال الغزالي في الإحياء، والبغوي في التهذيب، وآخرون من الأصحاب: هو مكروه، وظاهر عباراتهم أنه كراهة تنزيه، والصحيح بل الصواب أنه حرام، وممن صرح بتحريمه صاحب الحاوي في باب الصلاة بالنجاسة، قال: إلا أن يكون في الجهاد، وقال في آخر كتابه (الأحكام السلطانية): يَمْنَع المحتسب الناس من خضاب الشيب بالسواد إلا المجاهد ". اهـ وانظر معالم القربة في معالم الحسبة (ص: 197،198)، وفتاوى الرملي (2/ 27). (¬3) حاشية ابن عابدين (6/ 422)، الجوهرة النيرة (2/ 282). (¬4) المنصوص عن مالك في الموطأ (2/ 949): " قال يحيى: سمعت مالكاً يقول في صبغ الشعر بالسواد: لم أسمع في ذلك شيئاً معلوماً، وغير ذلك من الصبغ أحب إلي. قال: وترك الصبغ كله واسع إن شاء الله، ليس على الناس فيه ضيق. " الخ كلامه رحمه الله. وقال محمد بن رشد في البيان والتحصيل (17/ 166 - 168): " أما صبغ الشعر بالحنا والكتم والصفرة، فلا اختلاف بين أهل العلم في أن ذلك جائز، ثم قال: وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من العلماء ثم ذكر حديث قصة مجيء أبي قحافة، =

الشافعية (¬1)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: جائز بلا كراهة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، واختيار أبي يوسف، (¬4) ومحمد بن الحسن (¬5)، ومذهب بعض الصحابة (¬6)، واختاره جماعة من التابعين منهم ابن سيرين (¬7)،وأبو سلمة (¬8)، ونافع ¬

_ = ثم قال: وقد صبغ بالسواد جماعة منهم: الحسن والحسين ومحمد بنو علي بن أبي طالب، وسرد جماعة من التابعين. وانظر الفواكه الدواني (2/ 307). (¬1) اختاره الغزالي والبغوي، انظر المجموع (1/ 345). (¬2) جاء في كتاب الوقوف والترجل (ص: 138): " أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم، أن إسحاق بن منصور حدثهم، أنه قال لأبي عبد الله: يكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله مكروه. ونقله ابن قدامة في المغني (1/ 67)، وانظر الإنصاف (1/ 123)، كشاف القناع (1/ 77). (¬3) قال ابن عابدين في حاشيته (6/ 756): " ومذهبنا أن الصبغ بالحناء والوسمة حسن كما في الخانية، وقال أيضاً: والأصح أنه لا بأس به في الحرب وغيره". وقال في الفتاوى الهندية: " وعن الإمام - يعني أبا حنيفة - أن الخضاب حسن بالحناء والكتم والوسمة. اهـ والوسمة السواد. (¬4) قال في حاشية ابن عابدين (6/ 422): " وبعضهم جوزه بلا كراهة - يعني الصبغ بالأسود - روي عن أبي يوسف أنه قال: كما يعجبني أن تتزين لي، يعجبها أن أتزين لها. (¬5) قال محمد بن الحسن: " لا نرى بالخضاب بالوسمة والحناء والصفرة بأساً، وإن تركه أبيض فلا بأس بذلك، كل ذلك حسن ". الموطأ لمالك رواية محمد بن الحسن (ص:331). (¬6) سيأتي النقول عنهم إن شاء الله تعالى في ثنايا البحث. (¬7) روى ابن أبي شيبة (5/ 183)، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، كانوا يسألون محمداً - يعني ابن سيرين - عن الخضاب بالسواد، فقال: لا أعلم له بأساً. [وسنده صحيح]. (¬8) روى ابن أبي شيبة (5/ 183) حدثنا وكيع وابن مهدي، عن سفيان، عن سعد ابن =

دليل القائلين بالتحريم

بن جبير (¬1)، وموسى بن طلحة (¬2)، وإبراهيم النخعي (¬3) وغيرهم. وقيل: يجوز للمرأة، ولا يجوز للرجل، وهو قول إسحاق (¬4)، واختاره الحليمي (¬5). دليل القائلين بالتحريم. الدليل الأول (609 - 173) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد (¬6). ¬

_ = إبراهيم، عن أبي سلمة أنه كان يخضب بالسواد. (¬1) روى ابن أبي شيبة (5/ 183) قال: حدثنا وكيع، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب، قال: رأيت نافع بن جبير يختضب بالسواد. (¬2) روى ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 183) حدثنا وكيع، عن عمرو بن عثمان، قال: رأيت موسى بن طلحة يختضب بالوسمة. وإسناده صحيح، وعمرو بن عثمان هو عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب ثقة. (¬3) روى ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 183) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: لا بأس بالوسمة، إنما هي بقلة. (¬4) جاء في كتاب الوقوف والترجل للخلال (ص: 139): " أخبرنا عبد الله بن العباس، حدثنا إسحاق بن منصور، قال: قلت لإسحاق، قال - يعني ابن راهوية - الخضاب بالسواد للمرأة؟ قال: لا بأس بذلك للزوج أن تتزين له. (¬5) فتح الباري (6/ 499). (¬6) صحيح مسلم (2102).

[الحديث صحيح، واختلف في قوله: وجنبوه السواد] (¬1). ¬

_ (¬1) هذا الحديث مداره على أبي الزبير، عن جابر. يرويه عن أبي الزبير زهير بن معاوية، وابن جريج، وليث بن أبي سليم، وعزرة بن ثابت، والأجلح، وأيوب السختياني. فرواه زهير بن معاوية، وعزرة بن ثابت عن أبي الزبير، عن جابر، ولم يقولوا: وجنبوه السواد، ورواية زهير صريحة أن أبا الزبير لم يذكرها أصلاً في الحديث. ورواه الباقون بذكرها، والحديث له شواهد سنأتي على ذكرها أثناء تخريج الحديث إن شاء الله تعالى. والحديث كما سبق مداره على أبي الزبير، عن جابر، ويرويه عنه جماعة كالآتي: الطريق الأول: زهير بن معاوية عن أبي الزبير. أخرجه الطيالسي (1753) حدثنا زهير، عن أبي الزبير، قال: قلت له: أحدثك جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي قحافة: غيروا، وجنبوه السواد؟ قال: لا. وهذه الرواية مختصرة، والنفي في الحديث المقصود به أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: وجنبوه السواد، وأما الأمر بالتغيير فهو ثابت من طريق زهير فقد أخرجه أحمد (3/ 338)، قال: ثنا حسن وأحمد بن عبد الملك، قالا: ثنا زهير، عن أبي الزبير، عن جابر، قال أحمد في حديثه: ثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي قحافة - أو جاء عام الفتح - ورأسه ولحيته مثل الثغام أو مثل الثغامة. قال حسن: فأمر به إلى نسائه، قال: غيروا هذا الشيب. قال حسن: قال زهير: قلت لأبي الزبير: أقال جنبوه السواد؟ قال: لا. وأخرجه مسلم (2102) حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتي بأبي قحافة أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح، ورأسه ولحيته مثل الثغام، أو الثغامة، فأمر أو فأمر به إلى نسائه قال: غيروا هذا بشيء. وأبو خيثمة: هو زهير بن معاوية. وأخرجه ابن الجعد في مسنده (2652) من طريق شبابة، نا أبو خيثمة به. وأخرجه الطبراني في الكبير (9/ 41) رقم 8327 من طريق عمرو بن خالد الحراني، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثنا زهير به. واختلف على زهير بن معاوية، فرواه عنه من سبق: 1 - يحيى بن يحيى عند مسلم. 2 - أبو داود الطياليسي في مسنده. 3 - حسن بن موسى عند أحمد. 4 - أحمد بن عبد الملك عند أحمد. 5 - شبابة كما في مسند ابن الجعد. 6 - عمرو بن خالد كما عند الطبراني، ستتهم رووه عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير عن جابر، وليس فيه ذكر السواد، بل في بعضها التصريح على أنها ليست في الحديث. وخالفهم إبراهيم بن إسحاق بن مهران، فرواه ابن عبد البر في الاستيعاب (1773) من طريق إبراهيم بن إسحاق بن مهران، عن شيخ مسلم يحيى بن يحيى، عن زهير بن معاوية به بذكر: " وجنبوه السواد "، ولا شك أن هذا وهم في رواية زهير بن معاوية، فلو خالف إبراهيم مسلماً وحده لكان ذلك علة، فكيف وقد خالف ستة رواة ممن رووه عن زهير بدونها. الطريق الثاني: عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير. أخرجه النسائي في الكبرى (5/ 416) وفي الصغرى (5242) قال: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد-وهو ابن الحارث - قال حدثنا عزرة - وهو ابن ثابت - عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي قحافة، ورأسه ولحيته كأنه ثغامة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: غيروا - أو اخضبوا. اهـ هذا لفظ الصغرى، ولفظ الكبرى: " غيروا هذا، خضبوا لحيته " ولم يقل: وجنبوه السواد. ورجاله إلى أبي الزبير كلهم ثقات أثبات. وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 173) من طريق خالد بن الحارث، ثنا عزرة بن ثابت به. فهنا ثقتان زهير بن معاوية، وعزرة بن ثابت يرويانه عن أبي الزبير، عن جابر بدون وجنبوه السواد. وفي طريق زهير ينقل عن أبي الزبير أنه يصرح أن قوله: " وجنبوه السواد" ليست في الحديث. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ويشهد له ما روه أحمد (6/ 349) وابن حبان (7208) والطبراني في الكبير (24/ 88) رقم 236 من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء وفيه: " غيروا هذا من شعره " ولم يقل: وجنبوه السواد، وسوف يأتي الكلام على هذا الطريق إن شاء الله تعالى. الطريق الثالث: ابن جريج، عن أبي الزبير. أخرجه مسلم (2102) قال: حدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد. وأخرجه أبو داود (4204)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 310) قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني، قالا: ثنا ابن وهب به. وأخرجه النسائي (5076) قال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب به. وأخرجه ابن حبان (12/ 285) رقم 5471 من طريق أبي الطاهر بن السرح، قال: حدثنا ابن وهب به. وأخرجه البيهقي في الكبرى (7/ 310) وفي شعب الإيمان (5/ 215) من طريق بحر بن نصر، وأبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب به. وأخرجه أبو عوانة (2/ 74) من طريق يونس بن عبد الأعلى وبحر بن نصر كلاهما، عن ابن وهب به. الطريق الرابع: ليث بن أبي سليم، عن جابر. أخرجه عبد الرزاق (11/ 154) قال: أخبرنا معمر، عن ليث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: أتي بأبي قحافه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح كأن رأسه ثغامة بيضاء، فقال: غيروه، وجنبوه السواد. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (3/ 322)، وأبو عوانة (5/ 514)، والطبراني في الكبير (9/ 40) رقم 8324. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 182) رقم 25000 ومن طريقه أخرجه ابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ماجه (3624) ثنا إسماعيل بن علية، عن ليث به. وأخرجه أحمد أيضاً (3/ 316) قال: ثنا إسماعيل - يعني ابن علية - به. الطريق الخامس: الأجلح، عن أبي الزبير. أخرجه أبو يعلى في مسنده (1819) قال: حدثنا أبو بكر، حدثنا شريك، عن الأجلح، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أتي بأبي قحافة، ورأسه ولحيته كأنهما ثغامة، فقال: غيروا الشيب، واجتنبوا السواد به. وهذا إسناد فيه ضعف من أجل شريك بن عبد الله. ومن طريق شريك أخرجه الطبراني في الأوسط (6/ 14) رقم 5658، وفي الصغير (483)، الطريق السادس: أيوب السختياني، عن أبي الزبير. أخرجه أبو عوانة في مسنده (5/ 513) حدثنا أحمد بن إبراهيم أبو علي القهستاني، قال: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، قال: ثنا عبد الوارث، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتي بأبي قحافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، وكان رأسه ولحيته مثل الثغامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابعثوا به إلى عند نسائه، فليغيرنه، وليجنبنه السواد. وهذا إسناد صحيح إلى أبي الزبير. أحمد بن إبراهيم أبو علي له ترجمة في تاريخ بغداد، قال عنه الخطيب: أحاديثه مستقيمة حسان تدل على حفظه وتثبته. تاريخ بغداد (4/ 9). وعبد الرحمن بن المبارك من رجال التهذيب، ثقة روى له البخاري. وبقية الإسناد مشهورون. وأخرجه الطبراني في الكبير (9/ 41) رقم 8326 ثنا يحيى بن معاذ التستري، ثنا يحيى بن غيلان، ثنا عبد الله بن بزيغ، عن روح بن القاسم، عن أيوب السختياني به. الطريق السابع: مطر بن طهمان الوراق، عن أبي الزبير. أخرجه الطبراني في الكبير (8325) حدثنا الحسن بن علوية القطان، ثنا إسماعيل بن عيسى العطار، ثنا داود بن الزبرقان، عن مطر الوراق وليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير به. =

فقيل: إنها ليست من الحديث، لأن أبا الزبير أنكرها من رواية زهير ابن معاوية عنه، ولم يذكرها عزرة بن ثابت عن أبي الزبير، وإذا اختلف في ثبوتها عن أبي الزبير فإن المرجع هو أبو الزبير، وقد صرح أنها ليست في الحديث. وثانياً: أن ابن جريج كان يصبغ بالسواد، وهو ممن روى الحديث عن أبي الزبير. وأجيب: أولاً: أنه قد رواه جملة من الرواة غير زهير بن معاوية بإثبات: "وجنبوه السواد " منهم ابن جريج وهو في مسلم، وأيوب السختياني عند أبي عوانة بسند صحيح. وليث بن أبي سليم، وأجلح وفي إسناديهما ضعف منجبر، فلا يتصور وقوع إدراج في الحديث؛ لأن الإدراج يحتمل وروده من الواحد، أما من الجماعة فبعيد وعليه فيكون نفي أبي الزبير محمولاً على نسيانه لها، وهذا قد يحدث ¬

_ = وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه داود بن الزبرقان، وهو متروك، وفيه مطر بن طهمان الوراق كثير الخطأ. وقد اختلف فيه على مطر بن طهمان. فرواه داود بن الزبرقان عنه كما سبق. وأخرجه الطبراني في الكبير (9/ 41) رقم 8328 قال: حدثنا خلف بن عمرو العكبري، ثنا الحسن بن الربيع البوراني، ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، عن مطر بن طهمان الوراق يكنى بأبي رجاء، عن أبي رجاء العطاري، عن جابر بن عبد الله قال: جيء بأبي قحافة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأسه ولحيته كأنها ثغامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا إلى بعض نسائه يغيرنه، قال: فذهبوا به فحمروها.

لبعض الحفاظ الكبار كما هو معروف. قلت: ليست العلة في الحديث إدراج لفظة: " وجنبوه السواد " إنما علته تردد أبي الزبير، فتارة يثبتها، وتارة ينفيها، ولو كان أبوالزبير يشك في ثبوتها أو يتردد لقيل: من حفظ مقدم على من لم يحفظ، وإذا اختلف على الراوي فتارة يذكرها، وتارة ينفيها كان هذا سبباً في إضعاف روايته، ولا أحمل على أحد من الرواة عن أبي الزبير، وإنما الحمل عليه هو. وأبو الزبير ليس بالمتقن (¬1). ¬

_ (¬1) قال الخطيب في الكفاية (ص: 138): " ما قولكم فيمن أنكر شيخه أن يكون حدثه بما رواه عنه؟ قيل: إن كان إنكاره لذلك إنكار شاك متوقف، وهو لا يدرى هل حدثه به أم لا فهو غير جارح لمن روى عنه، ولا مكذب له، ويجب قبول هذا الحديث والعمل به؛ لأنه قد يحدث الرجل بالحديث وينسى أنه حدث به، وهذا غير قاطع على تكذيب من روى عنه، وإن كان جحوده للرواية عنه جحود مصمم على تكذيب الراوي عنه، وقاطع على أنه لم يحدثه، ويقول: كذب على فذلك جرح منه له، فيجب أن لا يعمل بذلك الحديث وحده من حديث الراوي، ولا يكون هذا الإنكار جرحاً يبطل جميع ما يرويه الراوي؛ لأنه جرح غير ثابت بالواحد، ولأن الراوي العدل أيضا يجرح شيخه، ويقول: قد كذب في تكذيبه لي، وهو يعلم أنه قد حدثني، ولو قال: لا أدرى حدثته أولا؟ لوقفت في حاله، فأما قوله: أنا أعلم أنى ما حدثته، فقد كذب وليس جرح شيخه له أولى من قبول جرحه لشيخه، فيجب إيقاف العمل بهذا الخبر، ويرجع في الحكم إلى غيره، ويجعل بمثابة ما لم يرو ". وقال ابن كثير في مختصر علوم الحديث المطبوع مع الباعث الحثيث (1/ 310): " مسألة: وإذا حدث ثقة، عن ثقة بحديث، فأنكر الشيخ سماعه بالكلية: فاختار ابن الصلاح أنه لا تقبل روايته عنه لجزمه بإنكاره، ولا يقدح ذلك في عدالة الراوي عنه فيما عداه، بخلاف ما إذا قال: لا أعرف هذا الحديث من سماعي، فإنه تقبل روايته عنه، وأما إذا نسيه فإن الجمهور يقبلونه ". اهـ =

قالوا: وأما كون ابن جريج يصبغ، فليس بحجة في قوله ولا في فعله، فالحجة في روايته، فكيف تبطلون ما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفعل تابعي غير معصوم؟!!! ثانياً: أن الإمام أحمد قد جاء عنه ما يدل على تصحيحه لهذه اللفظة، (610 - 174) جاء في كتاب الترجل والوقوف: أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: وأكره السواد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: وجنبوه السواد " (¬1). وجَزْمُ إمام أهل السنة بنسبة الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدل على ثبوته عنده، فلو كان الاختلاف على أبي الزبير مؤثراً لأعله إمام أهل السنة، فإنه في العلل سل به خبيراً. قلت: فأما كراهيته للسواد فهذا ثابت عن أحمد، لا نزاع في ثبوته عنه، ولا يلزم من كراهيته له أن تكون زيادة: " وجنبوه السواد ثابتة "؛ لأن الإمام قد يأخذ به فقهاً لإمور ودواع أخرى مما يوافق أصوله، ولا يراه ثابتاً من ¬

_ = لكن يعكر عليه قوله في (ص: 283): " إن أهل العلم كافة اتفقوا على العمل باللفظ الزائد في الحديث إذا قال راويه: لا أحفظ هذه اللفظة، وأحفظ أني رويت ما عداها. الخ إلا أن يقال: إن قوله: " لا أحفظ ليس بمثابة قوله: أحفظ أني لم أروها، لأن هناك فرقاً بين النفي والإثبات، والله أعلم. وعلى كل حال قد يختلف الحال من راو لأخر، وقد يوجد إنكار لفظة من طريق تثبت من طريق آخر، فكل حالة لها حكم خاص أشبه بزيادة الثقة والشذوذ، ومنه يتبين هل يكون إنكار راويه يبطلها أو لا يبطلها، وقد يعرف من أين أتى الخطأ من الشيخ أو من التلميذ حال تتبع الحكم على الزيادة من جميع الطرق والشواهد، والله أعلم. (¬1) الوقوف والترجل (ص: 138).

ناحية الإسناد، فهذا حديث التسمية في الوضوء يرى الإمام أحمد أنه لا يصح في الباب شيء، ومع ذلك يراه فقهاً، وأمثلة هذا كثيرة. وأما نسبة الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجاء من طريق عصمة بن عصام، عن حنبل بن إسحاق، عن أحمد، فلا أظنها تثبت عنه (¬1). ثالثاً: أن الإمام مسلماً قد أخرجها في صحيحه، وهو أصح كتاب بعد البخاري، وقد تلقته الأمة بالقبول، وإخراجها في كتابه تصحيح لها، وهذا يدل على أن الحديث ثابت عنده، وكفى بذلك تصحيحاً. ¬

_ (¬1) عصمة بن عصام، له ترجمة في تاريخ بغداد وذكر عنه أنه يروى عن حنبل، ولم يذكر راوياً عنه سوى الخلال، ولم يذكر فيه شيئاً من جرج أو تعديل. تاريخ بغداد (12/ 288). وأما حنبل فهو وإن كان ثقة في نفسه، إلا أنه تكلم فيما ينفرد به عن أحمد، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (16/ 405): " وحنبل ينفرد بروايات يغلطه فيها طائفة كالخلال وصاحبه ". وقال ابن رجب عن رواية حنبل في شرحه للبخاري (2/ 367): " وهو ثقة، إلا أنه يهم أحياناً، وقد اختلف متقدموا الأصحاب فيما تفرد به حنبل عن أحمد، هل تثبت به رواية عنه أم لا؟ وقال أيضاً (7/ 229): " كان أبو بكر الخلال وصاحبه لا يثبتان بما تفرد به حنبل عن أحمد رواية ". اهـ ومن أخطائه ما نسبه إلى أحمد، وهو غير معروف عنه من مذهبه: من تأويل قوله تعالى: {وجاء ربك} الفجر، آية: 22، قال: وجاء أمر ربك، وهذا خلاف مذهب السلف. ونسب أيضاً للإما أحمد أن الإمام يتحمل عن المأموم تكبيرة الإحرام في حال السهو، قال ابن رجب: وهذه رواية غريبة عن أحمد، لم يذكرها الأصحاب، والمذهب عندهم أنها لا تجزئه، كما لا تجزئ عن الإمام والمنفرد، وقد نقله غير واحد عن أحمد. والله أعلم. وانظر زاد المعاد (5/ 392).

وأجيب: لا يلزم من إيراد مسلم له في صحيحه أن يكون قد صحح هذه الزيادة، فقد قال لي بعض الإخوة في المذاكرة: إذا ساق مسلم الحديث بلفظ، ثم أعقبه بلفظ آخر يخالفه كان ذلك منه تنبيهاً على علته، ولو لم يصرح، وقد أكثر من هذا أبو داود في سننه. وهذا يمكن أن يقبل لو نص عليه إمام، أوكان نتيجة للدارسة والسبر، فإن كان هذا مسلماً فذاك، وإن كان غير مسلم، فإنه قد انتقدت بعض الأحاديث في البخاري ومسلم، وسُلِّم للدارقطني وغيره بعض الإعتراضات على بعض الأحاديث، وما انتقده العلماء ليس داخلاً في تلقي الأمة له بالقبول، وهذا الحديث منها، والله أعلم. ثم وجدت من نص على هذه الحقيقة، وقد أثبت ذلك من خلال دراسته لصحيح مسلم (¬1). ¬

_ (¬1) وقد أجاد الدكتور حمزة بن عبد الله المليباري في كتابه القيم: عبقرية الإمام مسلم في ذكر هذه الخاصية للإمام مسلم، واستنبطها من مقدمة مسلم، فقد قال مسلم في كتابه: إنه قسم الأحاديث إلى ثلاثة أقسام: قال مسلم: " فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا، ولم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحديثن، وبان ذلك في حديثهم". فتبين أن مسلم يقدم الحديث الأنقى، ثم يعقبه بالحديث الذي أقل منه درجة، وقد يكون في الحديث الثاني علة، فيكون ذلك كالتنبيه عليها، فجزى الله الشيخ حمزة خيراً، وإني أنصح بقراءة كتب الشيخ لاهتمامه بطريقة المتقدمين من المحدثين، والله أعلم.

جواب آخر ذكره أبو حفص الموصلي: قال: والجواب عن حديث وجنبوه السواد من وجهين: الأول: أن أحاديث مسلم لا تقاوم أحاديث البخاري!! يقصد حديث أبي هريرة في الصحيحين: إن اليهود والنصارى لايصبغون فخالفوهم، فأمر بالصبغ وأطلق ولم يقيد بشيء. والجواب: أحاديث البخاري أقوى من أحاديث مسلم بالجملة هذا مسلم، ولا نحتاج إلى الترجيح إلا حيث يوجد التعارض بحيث لا يمكن العمل بكلا الدليلين، وحديث البخاري لا يعارض هنا حديث مسلم، لأن مطلق حديث أبي هريرة بالأمر بالصبغ مقيد بحديث جابر في تجنيب السواد، والمطلق لا يعارض المقيد، كما أن العام لا يعارض الخاص، وهذا الجواب قوي لو صح الحديثان، فالمقيد يقدم على المطلق إذا كانا صحيحين، وإلا فلايقيد الحديثَ الصحيحَ حديثُ ضعيفُ، والله أعلم. الوجه الثاني: قال: إن الحسن والحسين وسعد بن أبي وقاص قد صبغوا بالسواد، فلو كان حراماً لما فعلوه، وكذلك كانوا في زمان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فلو كان حراماً لأنكروا عليهم (¬1). وأجيب: بأن العصمة إنما هي للوحي، وكم من حديث صحيح ثابت خالفه أفراد من الصحابة، فنعتذر للصاحب بأنه لا يتعمد الخطأ، لكن لا نبطل النص الشرعي لمخالفة بعض الصحابة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب (ص: 477، 487).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (611 - 175) فقد روى أحمد بن حنبل، قال: ثنا محمد بن سلمة الحراني، عن هشام، عن محمد بن سيرين، قال: سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شاب إلا يسيراً، ولكن أبا بكر وعمر بعده خضبا بالحناء والكتم، قال: وجاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه مكرمة لأبي بكر، فأسلم، ولحيته ورأسه كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروهما، وجنبوه السواد (¬1). [لم يذكر قصة أبي قحافة في الحديث إلا محمد بن سلمة عن هشام، وقد رواه غيره عن هشام، ولم يذكرها، كما رواه جمع من الرواة عن أنس بدون ذكرها، والحديث في الصحيحين بدون ذكر قصة أبي قحافة فلا أظنها محفوظة من حديث أنس] (¬2). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3/ 160). (¬2) تخريج حديث الباب: الحديث أخرجه أبو يعلى (2831) حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا محمد بن سلمة به. ومن طريق الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أخرجه ابن حبان (5472). ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3686) حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا عبد الغفار بن داود الحراني، قال: حدثنا محمد بن سلمة به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = من طريق محمد بن سلمة الحراني وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 244) والبزار كما في كشف الأستار (2981). والحديث اختلف فيه على هشام بن حسان، فرواه محمد بن سلمة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أنس بذكر قصة أبي قحافة كما في حديث الباب. ورواه عبد الله بن إدريس، عن هشام به كما عند مسلم (2341) ولم يذكر قصة أبي قحافة. فقد أخرجه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وعمرو الناقد جميعاً، عن ابن إدريس، قال عمرو: حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سئل أنس بن مالك هل خضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إنه لم يكن رأى من الشيب إلا، قال ابن إدريس: كأنه يقلله، وقد خضب أبو بكر وعمر بالحناء والكتم. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3685). وعبد الله بن إدريس أحفظ من محمد بن سلمة، ولا مقارنة. ومع هذا فقد توبع عبد الله بن إدريس، تابعه ثقتان: هما روح، ووهب بن جرير. فقد رواه أحمد (3/ 206) قال: أحمد، ثنا روح، ثنا هشام، عن محمد قال: سألت أنس بن مالك هل خضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال لم يكن رأى من الشيب إلا - يعني يسيراً - وقد خضب أبو بكر وعمر أحسب بالحناء والكتم. ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3691) عن بكار بن قتيبة، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، قال: قلت لأنس: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخضب؟ فقال: إنه لم يكن رأى من الشيب إلا قليلاً، ولم يذكر سوى ذلك، ولكن قد خضب أبو بكر وعمر بالحناء والكتم. اهـ فهؤلاء ثلاثة حفاظ رووه عن هشام بن حسان، ولم يذكروا ما ذكره محمد بن سلمة. كما رواه غير هشام عن ابن سيرين، ورواه جمع عن أنس من غير طريق ابن سيرين، ولم يذكروا قصة أبي قحافة، وهذا يجعلني أجزم أن ذكر قصة أبي قحافة في حديث أنس ليست محفوظة. والله أعلم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أما من رواه عن ابن سيرين، فقد رواه البخاري من طريق أيوب، عن محمد بن سيرين. أخرجه البخاري (5894) حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، قال: سألت أنسا أخضب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لم يبلغ الشيب إلا قليلا. ومن طريق معلى بن أسد أخرجه مسلم (2341) والبيهقي (7/ 309). وأخرجه أبو داود الطيالسي (2100) قال: حدثنا هارون، قال: حدثنا محمد بن سيرين، قال: سألنا أنساً هل خضب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لم يبلغ ذلك - وذكر قلة من شيبة- ولكن أبو بكر رحمه الله خضب بالحناء والكتم. وأخرجه مسلم (2341) قال: حدثنا محمد بن بكار بن الريان، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، قال: سألت أنس بن مالك هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب؟ فقال: لم يبلغ الخضاب كان في لحيته شعرات بيض. قال: قلت له: أكان أبو بكر يخضب؟ قال: فقال: نعم بالحناء والكتم. وأخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده (2729) بإسناد مسلم. فهؤلاء أيوب وعاصم الأحول، وهارون رووه بما يوافق رواية عبد الله بن إدريس ووهب بن جرير وروح عن هشام عن ابن سيرين أفيكون محمد بن سلمة مقدماً على هؤلاء الستة!! لا شك أن طريقة جمهور المحدثين تأبى قبول زيادة الثقة مطلقاً، وإنما الترجيح للأكثر والأحفظ، وقد اجتمعا في روايتنا هذه. وأما من رواه عن أنس من غير طريق ابن سيرين، فإليك تخريج رواياتهم: الطريق الأول: قتادة، عن أنس. أخرجه أحمد (3/ 192) قال: ثنا بهز، ثنا همام، عن قتادة، قال: سألت أنس بن مالك أخضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنما كان شيء في صدغيه، ولكن أبو بكر رضي الله تعالى عنه خضب بالحناء والكتم. وأخرجه البخاري (3550) قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا همام به. وأخرجه الترمذي في الشمائل (36) حدثنا محمد بن بشار، أنا أبو داود، أنا همام به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه النسائي في المجتبى (5086) حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام به. وأخرجه مسلم (2341) والنسائي (5087) من طريق المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أنس. الطريق الثاني: ثابت، عن أنس. أخرجه أحمد (3/ 227) حدثنا يونس، حدثنا حماد - يعني ابن زيد - عن ثابت، أن أنساً سئل: خضب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لم يبلغ شيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يخضب، ولو شئت أن أعد شمطاتٍ كن في لحيته لفعلت، ولكنَّ أبا بكر كان يخضب بالحناء والكتم، وكان عمر يخضب بالحناء. ومن طريق حماد بن زيد أخرجه البخاري (5895)، ومسلم (2341)، وأبو داود (4209)، وأبو يعلى في مسنده (3364). وأخرجه عبد الرزاق (20178) (20185) من طريق معمر، عن ثابت، عن أنس. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الترمذي في الشمائل (37)، والبغوي (3653). الطريق الثالث: حميد، عن أنس. أخرجه أحمد (3/ 100) من طريق معتمر بسند صحيح. وأخرجه أيضاً (3/ 108) وابن ماجه (3629) من طريق ابن أبي عدي بسند صحيح، كلاهما، عن حميد، عن أنس. وأخرجه أحمد أيضاً (3/ 178) حدثنا سهل بن يوسف، عن حميد به. وسنده صحيح. وأخرجه أحمد (3/ 188) حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا حميد به. وسنده صحيح. وأخرجه أحمد (3/ 201) وعبد بن حميد (1414) عن يزيد بن هارون، عن حميد، وسنده صحيح. الطريق الرابع: أبو إياس معاوية بن قرة، عن أنس. أخرجه مسلم (2341). هذه بعض الطرق إلى أنس، وأعترف أنني لم أتقصاها كلها، ومع ذلك فقد وقفت على عشرة طرق في الحديث، لا يذكرون ما ذكره محمد بن سلمة. منها ثلاثة طرق يروونه عن هشام، عن ابن سيرين، عن أنس. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (612 - 176) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا فهد بن سليمان، قال: حدثنا أحمد ابن حميد ختن عبيد الله بن موسى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء قالت: لما كان يوم الفتح أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي قحافة، وكأنَّ رأسه ولحيته ثغامة، قال: غيروه، وجنبوه السواد (¬1). [إسناده ضعيف فيه المحاربي وقد عنعن، ورواه غيره لم يقل: وجنبوه السواد] (¬2). ¬

_ = ومنها ثلاثة طرق يروونه عن ابن سيرين، عن أنس. ومنها أربعة طرق عن أنس، فالباحث بهذا يستطيع أن يجزم بوهم محمد بن سلمة. (¬1) شرح مشكل الآثار (3684). (¬2) المحاربي مدلس، وقد ذكره الحافظ في المرتبة الثالثة ممن لا تقبل عنعنته، وقد يقال: إنه من أصحاب المرتبة الرابعة لكونه يدلس عن المجهولين والمتروكين. قال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: عرضت على أبى حديثاً حدثناه على بن الحسن أبو الشعثاء وأبو كريب، قالا: حدثنا المحاربي، عن معمر، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى سعيد الخدري، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التشبيه في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً، فأنكره أبى، واستفظعه، ثم قال لي: المحاربي عن معمر، قلت: نعم، فأنكره جداً. قال أبو عبد الله: ولم نعلم أن المحاربي سمع من معمر شيئاً، وبلغنا أن المحاربي كان يدلس. الضعفاء الكبير (2/ 347). وقال العقيلي أيضاً: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: قيل لأبى إن المحاربي حدث عن عاصم، عن أبى عثمان، عن جرير: تبنى مدينة بين دجلة ودجيل، فقال: كان المحاربي جليساً لسيف بن محمد بن أخت سفيان، وكان سيف كذاباً، وأظن المحاربي سمعه منه. المرجع =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = السابق. فانظر كيف يتهم بالتدليس عن الكذابين. ومع عنعنته، فقد رواه غيره بدون زيادة: وجنبوه السواد. أخرجه أحمد (6/ 349 - 350) قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا أبى، عن ابن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبى بكر، في حديث طويل، وفيه: قالت: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، ودخل المسجد أتاه أبو بكر بأبيه يعوده، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه. قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، قال: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: أسلم، فأسلم، ودخل به أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأسه كأنه ثغامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروا هذا من شعره. الحديث. وليس فيه ذكر السواد. فهذا إبراهيم بن سعد رواه عن ابن إسحاق، ولم يذكر ما ذكره المحاربي، والحديث في صحيح ابن حبان (7208) والطبراني في الكبير (24/ 88) رقم 236 من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد به، وليس فيه: " وجنبوه السواد "، فهذا الحديث يشهد لحديث زهير ابن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر أن الحديث ليس فيه: " وجنبوه السواد ". والطريق مختلف والقصة واحدة. كما رواه الطبراني في الكبير (24/ 89) من طريق جرير بن حازم، عن ابن إسحاق به. وقال: مثله، أي مثل رواية إبراهيم بن سعد. ومعنى ذلك عدم ورودها في رواية جرير بن حازم. ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 46) والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 95) من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وليس فيه: " وجنبوه السواد ". وجاء ذكر السواد من طريق آخر، فقد أخرجه أحمد (3/ 247) قال: حدثنا قتيبة، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروا الشيب، ولا تقربوه السواد. ورواه الطبراني في الأوسط (142) من طريق يحيى بن بكير، عن ابن لهيعة به، بنحوه. وفي هذا الإسناد ابن لهيعة، وقد رأى بعضهم تحسين حديثه إذا كان من طريق من روى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عنه قبل أن تحترق كتبه. والراجح أنه ضعيف مطلقاً، لكن رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها كما قال الحافظ، وهذه العبارة لا تقتضي تحسين حديثه، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه؟ فقال: آخره وأوله سواء إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه. الجرح والتعديل (5/ 145). فهذا نص على أنه ضعيف مطلقاً، وإن كان قد يتفاوت الضعف فرواية ابن المبارك أخف ضعفاً. وقال عمرو بن علي: عبد الله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل ابن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرى أصح من الذين كتبوا بعد ما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث. المرجع السابق. وهذا النص ليس فيه أن ما يرويه العبادلة صحيح مطلقاً، إنما كلمة أصح لا تعني الصحة كما هو معلوم، ولذلك قال: وهو ضعيف الحديث، هذا حاله قبل احتراق كتبه وبعدها. قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي إذا كان من يروى عن ابن لهيعة مثل بن المبارك وابن وهب يحتج به؟ قال: لا. الجرح والتعديل (5/ 145). وقال ابن حبان: قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجوداً، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيراً، فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، عن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فالتزقت تلك الموضوعات به. قال عبد الرحمن بن مهدي: لا أحمل عن ابن لهيعة قليلاً ولا كثيراً كتب إلي ابن لهيعة كتاباً فيه: حدثنا عمرو بن شعيب، قال عبد الرحمن: فقرأته على ابن المبارك، فأخرجه إلي ابن المبارك من كتابه، عن ابن لهيعة قال حدثني: إسحاق بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب. ثم قال ابن حبان: وأما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكير كثيرة، وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قراءة، سواء كان ذلك من حديثه أو غير حديثه، فوجب التنكب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه لما فيه مما ليس من حديثه. المجروحين (2/ 11). وهذا عين التحرير. أن رواية المتقدمين عنه فيها ما يدلسه عن الضعفاء، ورواية المتأخرين عنه فيها ما ليس من حديثه. وجاء في ضعفاء العقيلي (2/ 294): " حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا محمد بن على، قال سمعت: أبا عبد الله، وذكر ابن لهيعة، وقال: كان كتب عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وكان بعد يحدث بها عن عمرو بن شعيب نفسه. وهذا صريح بأن ابن لهيعة يدلس عن الضعفاء. وحديثنا هذا قد عنعنه ابن لهيعة وقد ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الخامسة، والمرتبة الخامسة قال فيها الحافظ: الخامسة: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس، فحديثهم مردود، إلا بما صرحوا فيه بالسماع إلا إن توبع من كان ضعفه منهم يسيراً كابن لهيعة. قلت: هذا الطريق بهذا الإسناد لا أعلم أحداً تابع فيه ابن لهيعة، فهو ضعيف، والله أعلم. وأما رواية قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، فهل تكون بمنزلة رواية العبادلة فتعتبر أعدل من غيرها أم لا؟ فالراجح فيه أن قتيبة بن سعيد سمع من ابن لهيعة بآخرة. أولاً: أن قتيبة بن سعيد صغير، فقد ولد كما قال هو سنة 150 هـ وخرج للرحلة من بغداد سنة 172 هـ، وكان عمره ثلاثاً وعشرين سنة، وكان احتراق كتب ابن لهيعة سنة 169 هـ وحضر قتيبة جنارة ابن لهيعة سنة ثلاث وسبعين أو أربع وسبعين ومائة، فمن أين له أن يكون سماعه قديماً، ولذلك قال أبو بكر الأثرم: وسمعت أباعبد الله أحمد بن حنبل وذكر قتيبة، فأثنى عليه، وقال: هو من آخر من سمع من ابن لهيعة. انظر الجرح والتعديل (7/ 140). وتهذيب الكمال (23/ 528). وأما ما رواه الذهبي في السير (8/ 17) قال: " قال جعفر الفريابي سمعت بعض أصحابنا يذكر، أنه سمع قتيبة يقول: قال لي أحمد بن حنبل: أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح؟ فقلت: =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (613 - 177) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا عبدان بن أحمد، قال: حدثنا محبوب بن عبد الله النميري أبو غسان، قال: حدثنا أبو سفيان المديني، عن داود بن فراهيج، عن أبى هريرة، قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، وأبو بكر قائم على رأسه، قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن أبا قحافة شيخ كبير، وإنه بناحية مكة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قم بنا إليه. فقال: يا رسول الله هو أحق أن يأتيك، فجيء بأبي قحافة كأن لحيته ورأسه ثغامة بيضاء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروه، وجنبوه السواد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ = لأنا كنا نكتب من كتاب ابن وهب، ثم نسمعه من ابن لهيعة. فهذه القصة إن لم يكن لها إلا هذا الإسناد فإنه ضعيف، لأن جعفر الفريابي لم يسمعها إنما قال: سمعت بعض أصحابنا يذكر ... وذكرها، فلم يذكر لنا من هم بعض أصحابه؟ هل ممن يعتد به في النقل والجرح أم لا؟ فلا تعارض الحقائق التاريخيه التي قدمتها، ولا تعارض ما رواه أبو بكر الأثرم سماعاً عن أحمد من أن قتيبة من آخر من سمع من ابن لهيعة، والله أعلم. ثم وقفت على إسناد آخر في تهذيب الكمال (15/ 487): " قال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: سمعت قتيبة يقول: كنا لا نكتب حديث ابن لهيعة إلا من كتب ابن أخيه، أو كتب ابن وهب إلا ما كان من حديث الأعرج ". وعلى كل حال الذي أراه أن العبادلة روايتهم عن ابن لهيعة ليست صحيحة، إنما هي أعدل من غيرها فحسب، ولا أزيد على هذا. والله أعلم. (¬1) المعجم الأوسط (5/ 23) رقم 4568. (¬2) في إسناده داود بن فراهيج.

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (183). قال يحيى بن سعيد القطان: كان شعبة يضعف حديث داود بن فراهيج. الجرح والتعديل (3/ 422). واختلف قول يحيى بن معين فيه: فقال: عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين، عن داود بن فراهيج كيف حديثه؟ فقال: ليس به بأس. وقال ابن أبي حاتم: قرئ على العباس بن محمد الدوري: سئل يحيى بن معين عن داود بن فراهيج، فقال: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء (2/ 40). وقال ابن عدي: لا أرى بمقدار ما يرويه بأساً. الكامل (3/ 81). وقال الساجي: كان أحمد يضعفه. تعجيل المنفعة (ص: 282). وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: مديني صالح الحديث. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: تغير حين كبر، وهو ثقة صدوق. انظر الكواكب النيرات (ص:162) رقم 21. وفيه أبو غسان محبوب بن عبد الله النميري لم أقف له على ترجمة، وقد ذكره المزي في تهذيب الكمال من تلاميذ محمد بن زياد اليشكري، انظر تهذيب الكمال (25/ 223). وشيخ الطبراني عبدان بن أحمد، جاء في تذكرة الحفاظ: الإمام رحلة الوقت صاحب التصانيف. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: رأيت من أئمة الحديث أربعة، فذكر عبدان، وقال: فأما عبدان فكان يحفظ مائة ألف حديث. وقال الذهبي: لعبدان غلط، ووهم يسير، وهو صدوق. التذكرة (2/ 688). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 161): رواه الطبراني في الأوسط، وفيه داود بن فراهيج، وثقه يحيى القطان وغيره، وضعفه جماعة، وفيه من لم أعرفهم. كما جاء حديث أبي هريرة من طرق أخرى، فإليك هي: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الطريق الأول: ما رواه ابن عدي في الكامل (5/ 219) والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 311) من طريق أبي حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، عن الحسن بن هارون، ثنا مكي بن إبراهيم، أنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود، واجتنبوا السواد. وهذا إسناد ضعيف: فيه الحسن بن هارون، وهو نيسابوري، وليس هو الحسن بن عفان، ولا ابن سليمان. قال ابن حبان: الحسن بن هارون من أهل نيسابور، يروى عن مكي بن إبراهيم، ثنا عنه أبو حامد الشرقى. الثقات (5/ 347). قلت: أبو حامد الشرقي: هو الحافظ أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن. وعليه فالرواي لم يرو عنه إلا أبو حامد الشرقي، ولم يوثقه إلا ابن حبان، فهو ضعيف. وفيه عبد العزيز بن أبي رواد: قال أحمد: عبد العزيز بن أبى رواد رجل صالح، وكان مرجئاً، وليس هو في التثبت مثل غيره. الجرح والتعديل (5/ 349). وقال يحيى بن معين: ثقة! المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء (3/ 6). وقال علي بن الجنيد: كان ضعيفاً، وأحاديثه منكرات. تهذيب التهذيب (6/ 301). وقال الدارقطني: هو متوسط في الحديث، وربما وهم في حديثه. المرجع السابق. وقال ابن عدي: ولعبد العزيز بن أبي رواد غير حديث وفي بعض رواياته ما لا يتابع عليه. الكامل (5/ 290). وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه التقشف، حتى كان لا يدري ما يحدث به، فروى عن نافع أشياء لا يشك من الحديث صناعته إذا سمعها أنها موضوعة، كان يحدث بها توهماً لا تعمداً، ومن حدث على الحسبان، وروى على التوهم حتى كثر ذلك منه سقط الاحتجاج به، وإن كان فاضلاً في نفسه، وكيف يكون التقي في نفسه من كان شديد الصلابة في الإرجاء، كثير البغض لمن انتحل السنن. المجروحين (2/ 136). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: ومن أوهامه ما رواه الخطيب في الجامع (1/ 347) من طريق حدثني الوليد، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنور في كل شهر، ويقلم أظفاره في كل خمس عشرة. إلا أن يكون الحمل فيه على الوليد. ومنها ما رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه (4/ 107) من طريق الوليد بن مسلم، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقص أظفاره يوم الجمعة. والله أعلم. طريق آخر لحديث أبي هريرة رواه الحارث في مسنده كما في إتحاف الخيرة المهرة (6/ 132) رقم 5625 قال: ثنا أبو الوليد خالد بن الوليد الجوهري - والصواب خلف بن الوليد كما في بغية الباحث - ثنا عباد بن عباد، عن معمر، عن الزهري أن أبا بكر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبيه يوم فتح مكة، وهو أبيض الرأس واللحية، كأن رأسه ولحيته ثغامة بيضاء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا تركت الشيخ حتى أكون أنا آتيه، ثم قال: اخضبوه وجنبوه السواد. وهو في بغية الباحث رقم (581). والحديث مرسل، والمرسل ضعيف. وانفرد بهذا عباد عن معمر، وعباد وإن كان ثقة إلا أن له أوهاماً، وأين أصحاب معمر عن هذا الحديث لو كان من حديث معمر. قال ابن جرير الطبري: وكان عباد بن عباد ثقة غير أنه كان يغلط أحيانا فيما يحدث. تاريخ بغداد (11/ 101). وقال ابن سعد: كان ثقة وربما غلط. الطبقات الكبرى (7/ 327). وقال أيضاً: كان معروفا بالطلب، حسن الهيئة، ولم يكن بالقوي في الحديث. المرجع السابق (7/ 290). ووثقه يعقوب بن شيبة، وأبو داود والنسائي وابن معين وغيرهم. انظر تهذيب التهذيب (5/ 83). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى رحمه الله عن عباد بن عباد المهلبي، فقال: =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (614 - 178) ما رواه أحمد، قال: ثنا حسين وأحمد بن عبد الملك، قالا: ثنا عبيد الله يعنى ابن عمرو، عن عبد الكريم، عن ابن جبير - قال أحمد: عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد. قال حسين: كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة (¬1). [رجاله ثقات إلا أنه اختلف في وقفه ورفعه] (¬2). ¬

_ = صدوق لا بأس به. قيل له: يحتج بحديثه؟ قال: لا. الجرح والتعديل (6/ 82)، وعلى كل حال، فعباد ثقة قد جاوز القنطرة، ولكن حديثه هذا مرسل، والله أعلم. (¬1) مسند أحمد (1/ 273). (¬2) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (6/ 499): " ولأبي داود، وصححه ابن حبان من حديث بن عباس مرفوعاً (يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام لا يجدون ريح الجنة) وإسناده قوي إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع. قلت: لم أقف على هذا الاختلاف في الحديث من مخرج واحد، فليتأمل. وهذا الإسناد مداره على عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. واختلف في عبد الكريم. فورد في أكثر الروايات غير منسوب. وورد في سنن أبي داود (4212) من طريق توبة وعند البيهقي في شعب الإيمان (5/ 215) رقم 6414 من طريق هلال بن العلاء الرقي، عن أبيه وعبد الله بن جعفر، ثلاثتهم عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن عبد الكريم الجزري مصرحاً بأنه الجزري. ورأى ابن الجوزي أنه ابن أبي المخارق، فذكره في الموضوعات، قال (1455): " هذا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمتهم به عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري " اهـ فتعقبه الحافظ ابن حجر في القول المسدد (ص: 48) فقال: " أخطأ ابن الجوزي فإن عبد الكريم الذي هو في الإسناد هو ابن مالك الجزري، الثقة المخرج له في الصحيح، ثم ذكر من خرج الحديث. اهـ وقال ابن عراق في التنزيه (2/ 275): وسبق الحافظَ ابن حجر إلى تخطئة ابن الجوزي في هذا الحديث الحافظُ العلائي ". والحق مع الحافظ للأسباب التالية. أولاً: أنه ذكر منسوباً عند أبي داود، وسنده صحيح، وعند البيهقي في شعب الإيمان، وسنده حسن. ثانياً: أن عبيد الله بن عمرو الرقي لا يروي عن ابن أبي المخارق فلم يذكر المزي في تهذيب الكمال أنه من تلاميذه، بينما معروف أن عبيد الله الرقي يروي عن الجزري، وهذه قرينة في أن عبد الكريم هو الجزري، بل ذكر الحديث في تحفة الأشراف (4/ 424) من مسند عبد الكريم الجزري، عن سعيد، عن ابن عباس. وعبيد الله بن عمرو راوية الجزري، لكن تفرد الجزري عن سعيد بن جبير بهذا الحديث، ولم يروه غيره من أصحاب سعيد بن جبير كأيوب والمنهال بن عمرو وغيرهما. وقد قال ابن حبان: كان صدوقاً، ولكنه كان ينفرد عن الثقات بالأشياء المناكير، فلا يعجبني الاحتجاج بما انفرد من الأخبار، وإن اعتبر معتبر بما وافق الثقات من حديثه فلا ضير، وهو ممن استخير الله فيه ". المجروحين (2/ 146). وقال يعقوب بن شيبة: هو إلى الضعف ما هو، وهو صدوق، وقد روى عنه مالك، وكان ممن ينقي الرجال. تهذيب التهذيب (6/ 333). والحق أن عبد الكريم ثقة، متفق على ثقته، وتعميم ابن حبان غير مرضي، ولم ينتقد حديث عبد الكريم إلا في روايته عن عطاء، وابن حبان إذا جرح عمَّم، لكن الأئمة قد يعلون الحديث إذا تفرد به ثقة عن أقرانه، وكان أصلاً في الباب، ولم يصححه معتبر، فكيف وقد اختلف في إسناده ومتنه، وإليك بيانه: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحديث رواه عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس كما سبق. ورواه الحكيم الترمذي في المنهيات (199) من طريق أبي حمزة السكري، عن عبد الكريم، عن مجاهد، أنه ذكر عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة. وعبد الكريم هذا هو الجزري، لأن أبا حمزة السكري لا يروي إلا عن الجزري، ومجاهد لم يصرح أنه سمعه من ابن عباس. والأول أقوى إسناداً، والحكيم الترمذي متكلم فيه، لكنه قد توبع على الأقل في ذكر مجاهد. فقد رواه الخلال في كتاب الترجل (ص:139) أخبرنا يحيى، قال: أخبرنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا هشام بن عبد الله، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن مجاهد، قال: يكون قوم في آخر الزمان يسودون شعورهم، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة. وهذا إسناد حسن إلى عبد الكريم بن أبي أمية، رجاله كلهم ثقات إلا عبد الوهاب، فإنه صدوق، وهنا صرح في الإسناد أن عبد الكريم هو ابن أبي أمية المتروك. كما أن فيه مخالفة أخرى، وهو أن المتن ليس فيه: " لا يريحون رائحة الجنة ". كما أن هشاماً توبع في كون الحديث من قول مجاهد، فقد روى عبد الرزاق في المصنف (20183) قال: أخبرنا معمر، عن خلاد بن عبد الرحمن، عن مجاهد، قال: يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد لا ينظر الله إليهم، أو قال: لا خلاق لهم. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات. وأما ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 148) رقم 25031 قال: حدثنا ملازم بن عمرو، عن موسى بن نجدة، عن جده زيد بن عبد الرحمن، قال: سألت أبا هريرة: ما ترى في الخضاب بالوسمة؟ فقال: لا يجد المختضب بها ريح الجنة. وهذا إسناد ضعيف، فيه موسى بن نجدة لم يرو عنه غير ملازم بن عمرو، ولم يوثقه أحد، ولذلك قال الحافظ: مجهول ورواه الخلال في الوقوف والترجل (ص: 139): أخبرنا محمد بن علي، حدثنا مهنا، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال: حدثني أبو عصام داود، حدثنا زهير بن محمد العنبري، عن الحسن، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون قوم يغيرون البياض بالسواد، قال مرة: يغيرون بياض اللحية والرأس بالسواد يسود الله وجهوهم يوم القيامة. وهذا مع كون إسناده ضعيفاً، فإنه من مراسيل الحسن، وهي من أضعف المراسيل، والله أعلم. وأما قول الحافظ ابن حجر في الفتح (6/ 499): " ولأبي داود، وصححه ابن حبان من حديث بن عباس مرفوعاً (يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام لا يجدون ريح الجنة) وإسناده قوي إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع. فإن كان يعني الحافظ أنه موقوف على صحابي فمسلم، ولم أقف عليه موقوفاً على ابن عباس. وإن كان يقصد الحافظ أنه موقوف على مجاهد فليس بجيد لأن قول التابعي قولاً لا مجال للرأي فيه كأن يكون من الغيبيات، هل يكون له حكم الرفع؟، بحيث يقال: إنه في حكم المرسل. أو يقال: إنه موقوف عليه، وفرق بينه وبين الصحابي من وجوه. الأول: أن الصحابي الغالب منه أنه يروى عن صحابي مثله، أو عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبالتالي الواسطة ثقة، فيكون له حكم الرفع، بينما التابعي قد يروي عن تابعي آخر، والتابعي الآخر قد يكون حافظاً، وقد لا يكون. الوجه الثاني: أنه على التسليم بأن له حكم المرسل، فمرسل التابعي ضعيف، بخلاف مرسل الصحابي رضي الله عنه. الوجه الثالث: إذا كنا نشترط في الصحابي ألا يكون ممن يروى عن الاسرائليات إذا أخبر بأمور غيبية من قوله، فما بالك بالتابعي. وعلى كل حال فهذا البحث من المباحث الأصولية الحديثية التي ينبغي أن تحرر من أقوال المجتهدين، وعمل المحدثين. فالشاهد هل هذا الاختلاف يؤثر في الحديث أم لا؟ قد يقال: لا يؤثر؛ لأن الإختلاف إذا اختلف مخرج الحديث لا يعل الموقوف المرفوع، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بل ربما يقويه. ووجهه: عندنا رواية مجاهد فيها اختلاف: فقيل: عن مجاهد يذكر عن ابن عباس. وقيل: عن مجاهد من قوله. والراجح من رواية مجاهد أنها من قوله؛ لأنها أقوى إسناداً. أما رواية عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فهي طريق آخر لم يأت من طريق مجاهد، فيكون الحديث من هذا الطريق محفوظاً. وهذا القول وجيه جداً. وأما حديث أبي هريرة فضعيف جداً؛ لأن في إسناده راوياً مجهولاً عيناً. وأما مرسل الحسن، فهو ضعيف أيضاً فيه علتان: كونه مرسلاً، وفي إسناده من تكلم فيه. وقد يقال: إن هذا الاختلاف مؤثر فيه: ذلك أن طريق مجاهد وطريق سعيد بن جبير، كلاهما قيل فيه عن ابن عباس. ومع ذلك ثبت عن مجاهد من قوله. وعبد الكريم تارة ينسب إلى الجزري الثقة في طريق عبيد الله بن عمرو الرقي. وتارة ينسب إلى ابن أبي أمية كما في طريق هشام الدستوائي. وتارة عن الحسن مرسلاً، وتارة من مسند أبي هريرة، ولا يكفي أن يكون طريق عبيد الله بن عمرو مستقلاً حتى يكون مقبولاً، فالعلماء يعلون الحديث للمخالفة، ولو كان الطريق مستقلاً، فإذا كان الأكثر أو الأحفظ على إرساله أو وقفه رجح على الموصول والمرفوع، وأقرب مثال على هذا ما رواه ابن أبي شيبة (1/ 171) رقم 1973، وأحمد وغيرهما ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين. فهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، وهو طريق مستقل كما أفصح عنه ابن دقيق العيد، فقال في نصب الراية (1/ 180): " ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قيس على كونه ليس مخالفاً لرواية الجمهور مخالفة معارضة، بل هو أمر زائد على ما رووه، ولا يعارضه، ولا سيما وهو طريق مستقل برواية هزيل عن المغيرة، لم يشارك المشهورات في سندها. اهـ وقال ابن التركماني في الجوهر النقي عن رواية هذيل عن أبي قيس (1/ 284): " ثم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = إنهما لم يخالفا مخالفة معارضة، بل روايا أمراً زائداً على ما رووه بطريق مستقل غير معارض، فيحمل على أنهما حديثان. اهـ ومع كونه طريقاً مستقلاً فقد أعله الأئمة بالمخالفة، وإليك النقول عنهم: قال أبو داود في السنن (159): كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين. وذكر البيهقي بسنده أن عبد الرحمن بن مهدي، قال لسفيان: لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هذيل ما قبلته منك. فقال سفيان: الحديث ضعيف، أو واه أو كلمة نحوها. وساق البيهقي بسنده عن محمد بن يعقوب، قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: حدثت أبي بهذا الحديث، فقال أبي: ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس، وقال أبي: إن عبد الرحمن بن مهدي أبى أن يحدث به، ويقول: هو منكر. وساق البيهقي أيضاً بسنده عن علي بن المديني أنه قال: حديث المغيرة بن شعبة في المسح، رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هذيل بن شرحبيل، عن المغيرة إلا أنه قال: ومسح على الجوربين، وخالف الناس. وروى البيهقي أيضاً من طريق المفضل بن غسان، قال: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فقال: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس. وقال النسائي في السنن الكبرى (1/ 83) قال أبو عبد الرحمن: ما نعلم أحداً تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين. فهذا عبد الرحمن بن مهدي وأحمد وابن معين ومسلم وأبو داود والنسائي رجحوا ضعفه للمخالفة مع اختلاف الطريق، ولم يخرجه البخاري مع أنه على شرطه، فيظهر أنه لعلة المخالفة. قال النووي في المجموع بعد أن نقل عن الأئمة المتقدم ذكرهم تضعيفهم للحديث (1/ 500): " هؤلاء هم أعلام أئمة الحديث، وإن كان الترمذي قال: حديث حسن فهؤلاء مقدمون عليه، بل كل واحد لو انفرد قدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة ... اهـ فلم يمنع من إعلال الحديث مع كونه طريقاً مستقلاً، ونرجع لحديثنا فمع هذا الاختلاف لايمكن للباحث أن يجزم بصحة إسناده، مع أن القول بالتحريم يفتقر إلى إسناد =

وأجيب بأجوبة: ¬

_ = صحيح خال من النزاع؛ لأن الأصل الحل، ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح خال من النزاع، وأما الذين يرون في مثل هذه المسائل أن الاحتياط التحريم فلم يحسنوا؛ لأن الاحتياط أن يتورع المجتهد عن الجزم بتحريم شيء على الناس بمجرد الشك ولكن لا بد في ما يختاره المجتهد لغيره من اليقين أو غلبة الظن بأن مثل هذا حرام، وأما ما يختار الإنسان لنفسه من باب الاحتياط فالباب واسع، وقد يلزم الإنسان نفسه ما لا يلزمه أهله وولده فضلاً عن الناس، والله أعلم. [تخريج الحديث] الحديث رواه أبو داود (4212) حدثنا أبو توبة، ثنا عبيد الله، عن عبد الكريم الجزري. وأخرجه النسائي في السنن الصغرى (5075) وفي الكبرى (9346) قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبيد الله الحلبي، عن عبيد الله، وهو ابن عمرو به. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (2603) حدثنا زهير، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا عبيد الله، يعني بن عمرو به. وأخرجه البيهقي في السنن (7/ 311) من طريق عمرو- يعني ابن خالد- أنا عبيد الله ابن عمرو به. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6414) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا عبد الرحمن بن حمدان الجلاب بهمدان، عن هلال بن العلاء الرقي، ثنا أبي وعبد الله بن جعفر، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري به. وأخرجه أبو عمر الداني في السنن الواردة في الفتن (319) من طريق أحمد بن زهير، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي به. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12254) حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، ثنا أبي ح وحدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا جندل بن والق، قالا: ثنا عبيد الله بن عمرو به. ومن طريق عبيد الله بن عمرو أخرجه البغوي في شرح السنة (3180).

الأول: ضعف الحديث لأن في إسناده اختلافاً، وقد ناقشت هذا في التخريج. قال أبو حفص الموصلي: قد ورد: " يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد، لا يريحون رائحة الجنة، ولا يصح في هذا الباب شيء غير قوله في حق أبي قحافة: " وجنبوه السواد " والجواب عنه من وجهين: ثم ذكرهما (¬1). الجواب الثاني: أن الوعيد الشديد ليس على الصبغ بالسواد، وإنما هو على معصية أخرى لم تذكر، كما قال الحافظ ابن أبي عاصم في كتاب الخضاب له (¬2)، وابن الجوزي كما سيأتي عنه، ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد، وقد عرفت وجود طائفة قد خضبوا بالسواد في أول الزمان وبعده من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم، فظهر أن الوعيد المذكور ليس على الخضاب بالسواد؛ إذ لو كان الوعيد على الخضب بالسواد لم يكن لذكر قوله في آخر الزمان فائدة، فالاستدلال بهذا الحديث على كراهة الخضب بالسواد ليس بصحيح. قلت: قد يكون فائدة ذكر آخر الزمان أنه يكثر فيه، وينتشر، بخلاف ما وجد في العصر الأول، فإن الصبغ من آحادهم، وعلى كل حال هذا تأويل للنص والذي ينبغي على طالب العلم أن يترك تأويل النصوص وحملها على خلاف الظاهر، وإذا كنا نعيب على أهل البدع تأويل نصوص الصفات، ¬

_ (¬1) جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب (ص: 477). (¬2) ذكره عنه ابن حجر في الفتح (10/ 354).

فكيف نسمح لأنفسنا أن نقبل به هنا، وما الفائدة من ذكر هذا الخبر إذا كان على معصية لم تعلم، ويكون الخبر لغواً لا فائدة فيه؛ لأننا لا نعلم جرمهم لنتقيه، غاية ما فيه أن في آخر الزمان قوماً لايريحون رائحة الجنة، ثم القاعدة الأصولية: أن الحكم إذا رتب على وصف فإنه يدل على أن الوصف علة في الحكم، فلو قال قائل: إن قوله تعالى: {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (¬1). لو قال: إن الجلد ليس على الزنا، وإنما هو على معصية أخرى لم تذكر هل يمكن أن يقبل ذلك منه؟ الثالث: أن المراد بالخضب بالسواد في هذا الحديث الخضب به لغرض التلبيس والخداع، لا مطلقا جمعاً بين الأحاديث المختلفة، وهو حرام بالاتفاق (¬2). قال ابن الجوزي: إنما كرهه - يعني الصبغ بالسواد - قوم لما فيه من التدليس، فأما أن يرتقي إلى درجة التحريم إذا لم يدلس، فيجب به هذا الوعيد، فلم يقل بذلك أحد، ثم نقول على تقدير الصحة يحتمل أن يكون المعنى: لا يريحون ريح الجنة لفعل صدر منهم أو اعتقاد، لا لعلة الخضاب، ويكون الخضاب سيماهم، فعرفهم بالسيما، كما قال في الخوارج: سيماهم التحليق، وإن كان تحليق الشعر ليس بحرام (¬3). ¬

_ (¬1) النور، آية: 2. (¬2) تحفة الأحوذي (5/ 359،360). (¬3) الموضوعات (3/ 230).

الجواب الرابع عن الحديث: لقد صبغ جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسواد، أيكون الصبغ متوعداً عليه بأنه لا يريح رائحة الجنة، ثم هؤلاء يصبغون؟!!، ولا ينقل إنكار من الصحابة رضوان عليهم، وهم أكمل الأمة في النصح والعلم والقيام بالواجب، لا يخافون في الله لومة لائم. وأجيب: بأننا إنما نحتاج إلى الرد إلى أقوال الصحابة وأفعالهم فيما لم يرد فيه نص، أما ما رود فيه نص فلا يحتاج الأمر إلى الرجوع إلى أفعال الصحابة، قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فروده إلى الله والرسول} (¬1)، فإذا كانت السنة واضحة صريحة فلا ترد إلى غيرها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك مسائل كثيرة خالف فيها بعض الصحابة النص المتفق عليه، ومع ذلك لم يقدح هذا في النص، أرأيت إلى لبس خاتم الذهب جاء فيه النص واضحاً بتحريمه، ومع ذلك جاء عن عدد من الصحابة كانوا يلبسون خاتم الذهب، فهل كان ذلك علة في رد النص؟ وقد يقال: إن الرجوع إلى فهم الصحابة يتعين لفهم النص، وفهمهم أولى من فهم غيرهم، فيحمل على أن النهي للكراهة لمخالفتهم النهي، لكن يشكل عليه قوله في الحديث: " لا يرح رائحة الجنة " لا يقال مثل هذا في المكروه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) النساء، آية: 59.

الجواب الخامس: أن العقوبة الواردة في الحديث مبالغ فيها، وقد يكون من أسباب ضعف الحديث أن يرتب على العمل اليسير ثواب عظيم، أو عقاب كبير كما ذكر ذلك العلماء، وهذا يقال هنا لأن الإسناد ليس من القوة (¬1)، فالتحريم نحتاج للقول به إلى إسناد صحيح خال من النزاع؛ لأن الأصل الحل، ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح خال من النزاع. وأجيب: بأن الشرع هو الذي يقدر أن الذنب يسير أو عظيم، ولذلك ورد وعيد ¬

_ (¬1) قال ابن القيم في المنار المنيف: سئلت هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟ فأجاب رحمه الله: هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه، ويحبه، ويكرهه، ويشرعه للأمة بحيث كأنه مخالط للرسول - صلى الله عليه وسلم - كواحد من أصحابه. فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهديه وكلامه، وما يجوز أن يخبر به، وما لا يجوز مما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبع مع متبوعه؛ فإن للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم، والله أعلم. المنار المنيف (ص: 43) فلا يقطع بضعف الحديث لمجرد عظم الثواب أوالعقاب إلا من الجهبذ البصير بالعلل من أئمة علل الحديث كأحمد بن حنبل رحمه الله، ويحيى بن معين، وابن المديني والبخاري ونحوهم.

الدليل السادس

شديد في المسبل إزاره، (615 - 179) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار، قالوا: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن علي بن مدرك، عن أبي زرعة، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (¬1). فلا يمكن أن نعل الحديث بأن ذنب الإسبال يسير فكيف يتوعد عليه بمثل هذه العقوبة، والله أعلم. الدليل السادس: (616 - 180) ما رواه ابن عدي في الكامل، قال: حدثنا صدقة بن منصور بحران، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عاصم بن سليمان التميمي، عن إسماعيل بن أمية، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جيء بأبي قحافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، ورأسه ولحيته كأنها ثغامة، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد (¬2). [موضوع بهذا الإسناد] (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (106). (¬2) الكامل (5/ 238). (¬3) فيه عاصم بن سليمان التميمي. قال عمرو بن على: كان كذاباً يحدث بأحاديث ليس لها أصول كذب عن رسول الله =

الدليل السابع

الدليل السابع: (617 - 181) قال ابن سعد: أخبرنا معن بن عيسى، قال: حدثني عبد الله بن المؤمل، عن عكرمة بن خالد، قال: أتي بأبي قحافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأن رأسه ثغامة، فبايعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: غيروا رأس الشيخ بحناء. [ضعيف وذكر الحناء فيه منكر] (¬1). ¬

_ = - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. الجرح والتعديل (6/ 344). وذكر في اللسان أحاديث وضعها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لسان الميزان (3/ 338). وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: غلب على حديثه الوهم. الضعفاء الكبير (3/ 337). وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبى يقول: ضعيف الحديث متروك الحديث. الجرح والتعديل (6/ 344). قال ابن عدي: كان يعد ممن يضع الحديث. لسان الميزان (3/ 218). قال النسائي: متروك. المرجع السابق. وقال الدارقطني: كذاب. المرجع السابق. (¬1) الطبقات الكبرى (5/ 451) وفيه ثلاث علل: الأول: في إسناده عبد الله بن المؤمل. قال أبو زرعة وأبو حاتم: ليس بقوي. الجرح والتعديل (5/ 175). وقال أحمد: ليس هو بذاك. المرجع السابق. وقال العقيلي: لا يتابع على كثير من حديثه. الضعفاء الكبير (2/ 302). وفي التقريب: ضعيف الحديث. الثاني: أن عكرمة تابعي، فهو مرسل. الثالث: أن قصة أبي قحافة من الأحاديث الصحيحة ليس فيها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: غيروه بحناء، وإنما الخلاف هل قال: وجنبوه السواد أم لا.

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (618 - 182) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الملك، قال: سئل عطاء عن الخضاب بالوسمة؟ فقال: هو مما أحدث الناس، وقد رأيت نفراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيت أحداً منهم يختضب بالوسمة، ما كانوا يخضبون إلا بالحناء والكتم وهذه الصفرة (¬1). [إسناده صحيح] وأجيب: أولاً: لا شك أنه ثبت عن بعض الصحابة الصبغ بالأسود، ثبت عن الحسن من طرق كثيرة وبعضها صحيح، وثبت عن عقبة بن عامر بسند صحيح، وسيأتي النقول عنهم إن شاء الله. (619 - 183) ثانياً: قد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، قال: سألت ابن الحنفية عن الخضاب بالوسمة؟ فقال: هي خضابنا أهل البيت (¬2). [وسنده حسن] ثالثاً: أن الصبغ بالأسود على فرض أن جميع الصحابة لم يصبغوا به، لم ينقل عن الصحابة أيضاً أنهم كرهوه أو منعوه، ولو نقل لكان صالحاً للحجة. وقال بعضهم: إن الوسمة صبغ ليس بالأسود، قيل: إن كان كذلك لم يكن قول عطاء بأن الصبغ به حدث دليل أن الصحابة لم يصبغوا بالأسود، ¬

_ (¬1) المصنف (5/ 148) رقم 25033. (¬2) المصنف (5/ 148) رقم 25023.

الدليل التاسع

فأما أن تعتبره أسود فالجواب عنه ما علمت، أو ليس بالأسود فلا تستدل به على أن الصحابة لم يصبغوا بالأسود. الدليل التاسع: (620 - 184) ما رواه ابن عدي من طريق رشدين بن سعد، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن قسيط، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله يبغض الشيخ الغربيب. قال أحمد: قال رشدين: الذي يخضب بالسواد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) الكامل (3/ 156). (¬2) فيه رشدين بن سعد، جاء في ترجمته. ضعفه أحمد بن حنبل، عن رشدين بن سعد، وقدم ابن لهيعة عليه. الجرح والتعديل (3/ 513). وقال يحيى بن معين، كما في رواية ابن أبي خيثمة عنه: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال على بن الحسين بن الجنيد: سمعت ابن نمير يقول: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: رشدين بن سعد منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث ما أقربه من داود بن المحبر، وابن لهيعة أستر، ورشدين أضعف. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال قتيبة: كان لا يبالي ما دفع إليه فيقرأ هـ. التاريخ الكبير (3/ 337). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (203). وقال ابن رشدين: كان ضعيفاً. الطبقات الكبرى (7/ 517). =

دليل القائلين بكراهة الخضاب بالسواد

دليل القائلين بكراهة الخضاب بالسواد. جمعوا بين النهي عن الخضاب بالسواد، وبين فعل الصحابة على أن النهي ليس للتحريم، ولو كان للتحريم لما خضب جمع من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال ابن القيم: " صح عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كان يخضبان بالسواد، ذكر ذلك عنهما ابن جرير في كتاب تهذيب الآثار، وذكره عن عثمان بن عفان، وعبد الله بن جعفر، وسعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وجرير بن عبد الله، وعمرو بن العاص، وحكاه عن جماعة من التابعين منهم عمرو بن عثمان، وعلي بن عبد الله بن عباس، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزهري، وأيوب، وإسماعيل بن معدي كرب، وحكاه ابن الجوزي عن محارب بن دثار، ويزيد، وابن جريج، وأبي يوسف، وأبي إسحاق، وابن أبي ليلى، وزياد بن علاقة، وغيلان بن جامع، ونافع بن جبير، وعمرو بن علي ¬

_ = وقال ابن عدي: ورشدين بن سعد له أحاديث كثيرة غير ما ذكرت، وعامة أحاديثه عن من يرويه عنه ما أقل فيها ممن يتابعه أحد عليه، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (3/ 149). وذكره العقيلي في الضعفاء. (2/ 66). وقال ابن حبان: كان ممن يجيب في كل ما يسأل، ويقرأ كل ما يدفع إليه، سواء كان ذلك حديثه أو من غير حديثه، ويقلب المناكير في أخباره على مستقيم حديثه. المجروحين (1/ 303). وفي إسناده أيضاً أبو حميد صخر بن زياد، مختلف فيه.

المقدمي، والقاسم بن سلام (¬1). فذكر ابن القيم ثمانية من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبغون بالسواد، أيكون الصبغ متوعداً عليه بأنه لا يريح رائحة الجنة، ثم هؤلاء يصبغون!! ولا ينقل إنكار من الصحابة رضوان عليهم، وهم أكمل الأمة في النصح والعلم والقيام بالواجب، لا يخافون في الله لومة لائم، فإما أن نقول: إن فعل مثل هؤلاء يقدح في المنقول من النهي، وهذا غير جيد، أو نقول: إن فعل هؤلاء يبين أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، فيكون من أجازه لم يعارض من كرهه، والجواز لا ينافي الكراهة كما هو معروف، ومن خضب بالسواد فهم أن الأمر على التخيير. والله أعلم. قال ابن القيم: وأما الخضاب بالسواد، فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب (¬2). وسوف أحاول تخريج بعض الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، لأن أقوالهم ليست كأقوال غيرهم. (621 - 185) فقد روى عبد الرزاق في المصنف، قال: عن معمر، عن الزهري، قال: إن الحسين بن علي يخضب بالسواد. قال معمر: رأيت الزهري يغلف بالسواد وكان قصيراً (¬3). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (4/ 369)، وذكر نحواً من ذلك القاضي عياض، فقال في شرحه لصحيح مسلم (6/ 625): " وكان منهم من يخضب بالسواد، وذكر ذلك عن عمر وعثمان والحسن والحسين وعقبة بن عامر، ومحمد بن علي وعلي بن عبد الله بن عباس، وعروة وابن سيرين، وأبي بردة في آخرين ". اهـ (¬2) تهذيب السنن (6/ 104). (¬3) المصنف (20184).

(622 - 186) وروى عبد الرزاق أيضاً، قال: عن معمر، عن الزهري قال: كان الحسن بن علي يخضب بالسواد (¬1). ¬

_ (¬1) المصنف (20190). رجاله ثقات إن كان الزهري سمع من الحسين بن علي، وقد جاء في العلل لابن أبي حاتم (2/ 302): " سألت أبي عن حديث رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: رأيت علي بن الحسين يخضب بالسواد، وأخبرني أن أباه كان يخضب به. قال أبي: هذا الحديث منكر " اهـ. فهنا الزهري يروي عن الحسين بن علي بواسطة ابنه علي. لكن روى الطبراني في المعجم الكبير (3/ 98) حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى، ثنا حسين بن محمد، ثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس، أن الحسين بن علي كان يخضب بالوسمة. وسنده صحيح. والوسمة: جاء في المصباح المنير (ص:): " الوَسِمة بكسر السين العظلم يختضب به " والعظلم جاء في لسان العرب: " عن الزهري أَنه ذُكِرَ عنده الخِضابُ الأَسْودُ فقال: وما بأْسٌ بهِ؟ هأَنذا أَخْضِبُ بالعِظْلِمِ " والعظلم من تَعَظْلَمَ الليلُ: أظْلَمَ , واسْوَدَّ جِدّاً. والعَظْلَمَةُ: الظُّلْمَةُ. والله أعلم. وقال ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 184) باب من كره الخضاب بالسواد. ثم ساق بسنده أن عطاء سئل عن الخضاب بالوسمة، فقال: هو مما أحدث الناس، فهذا صريح من ابن أبي شيبة أن الوسمة هي السواد. فتبين منه أن الوسمة: هو الخضاب بالأسود. ويؤيد هذا التفسير ما قاله ابن عبد البر في التمهيد (21/ 86) قال: وذكر أبو بكر قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: سمعت سعيد بن جبير سئل عن الخضاب بالوسمة، فقال: يكسو الله العبد في وجهه النور فيطفئه بالسواد. ورجاله ثقات. فظهر أن الوسمة هو السواد. وروى الطبراني في الكبير (3/ 99)، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا أحمد بن جواس الحنفي ثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث قال رأيت الحسين بن علي يخضب بالسواد. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورجاله ثقات، وبالنسبة لتغير أبي إسحاق، فالجواب: قد روى الشيخان من رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق في صحيحيهما، والعنعنة قد زالت بالمتابعة، والله أعلم. وقد توبع أبو الأحوص، فقد رواه الدولابي في الذرية الطيبة (174) حدثنا إبراهيم بن مرزوق حدثنا عبد الله بن داود عن يونس بن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن الحسين أنه كان يخضب بالوسمة. وروى ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 183) رقم 25017 حدثنا أبو بكر بن عياش عن عبد العزيز بن رفيع عن قيس مولى خباب قال دخلت على الحسن والحسين وهما يخضبان بالسواد. وهذا سند صالح في المتابعات، وأبو بكر بن عياش قد توبع فيه فقد أخرجه الطبراني (3/ 98) قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن قيس مولى خباب به. وقيس مولى خباب، له ترجمة في الجرح والتعديل، قال ابن أبي حاتم: روى عن الحسن والحسين ابنى على وابن عمر، روى عنه عبد العزيز بن رفيع وابن جريج سمعت أبى يقول ذلك. ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً (7/ 106). وقد يقوى قيس باعتباره قد توبع فيه، فإذا روى الراوي ما يتابع عليه، ولم نجد جرحاً كان هذا دليلاً على حفظه، والله أعلم. وأخرج ابن الجعد في مسنده (2126)، قال: أنا شريك، عن فراس، عن عامر قال: رأيت الحسين بن علي يخضب بالسواد. روى الطبراني في المعجم الكبير (3/ 21) رقم 2531 حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا عبادة بن زياد، ثنا شريك، عن عبد الله بن أبي زهير مولى الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، قال: رأيت الحسن بن علي رضي الله عنه يخضب بالوسمة. قال الحضرمي: هكذا قال عبادة مولى الحسن، وإنما هو مولى الحسين. وروى الطبراني في الكبير (2535)، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أبو كريب، ثنا معاوية بن هشام، عن محمد بن إسماعيل بن رجاء، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه كان يخضب بالسواد. قال الهيثمي في المجمع (5/ 162) رجاله رجال الصحيح، خلا محمد بن إسماعيل بن رجاء، وهو ثقة. =

الأثر الثاني: (623 - 187) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ليث بن سعد، قال: حدثنا أبو عشانة المعافري، قال: رأيت عقبة بن عامر يخضب بالسواد ويقول: نسود أعلاها وتأبى أصولها ......... (¬1). الأثر الثالث: (624 - 188) روى ابن أبي الدنيا في العمر والشيب، قال: حدثنا أبو كريب، حدثنا زكريا بن عدي، عن زاجر بن الصلت، عن الحارث بن عمرو، عن البحتري بن عبد الحميد، أن عمر بن الخطاب قال: نعم الخضاب ¬

_ = روى الطبراني (3/ 22) رقم 2536حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، ثنا أبي، ثنا محتسب أبو عائذ، حدثني شجاع بن عبد الرحمن، أنه رأى الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه مخضوبا بالسواد على فرس ذنوب. وسنده ضعيف. وروى الطبراني في الكبير (2534)، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني، حدثني أبي، عن جدي عامر، عن يعقوب القمي، عن عنبسة بن سعيد، عن إبراهيم بن مهاجر، عن الشعبي، أن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه كان يخضب بالسواد. وروى الطبراني في الكبير (3/ 99) قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا كامل ابن طلحة الجحدري، ثنا ابن لهيعة، عن عبد الرحمن بن بزرج قال: رأيت الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما ابني فاطمة رضي الله تعالى عنها يخضبان بالسواد، وكان الحسين يدع العنفقة. وفيه ابن لهيعة. (¬1) المصنف (5/ 184) رقم 25025. وسنده صحيح، وقد أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (3/ 204) من طريق الليث به.

السواد هيبة للعدو ومسكنة للزوجة (¬1). [سنده ضعيف] (¬2). الأثر الرابع: (625 - 189) روى الطبراني في الكبير، قال: حدثنا أحمد بن رشدين المصري، ثنا نعيم بن حماد، ثنا رشدين بن سعد، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن سعد بن أبي وقاص كان يخضب بالسواد. [سنده ضعيف] (¬3). ¬

_ (¬1) العمر والشيب (4). (¬2) فيه البحتري بن عبد الحميد لم أقف عليه، والحارث بن عمرو لم ينسب فيتبين لي من هو. وأخرجه ابن قتيبة (2/ 53) من طريق زكريا بن يحيى بن نا فع الأزدي، عن أبيه، عن عمر. ولم أعرفهم. (¬3) المعجم الكبير (1/ 138) رقم 295، وسنده ضعيف، فيه نعيم بن حماد، ورشدين، وكلاهما ضعيف، ورواه الطبراني (1/ 138) رقم 296 حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا عبد الله بن عمر بن أبان، ثنا سليم بن مسلم، عن معمر، عن الزهري، عن عامر بن سعد أن سعدا كان يخضب بالسواد. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 162): " سليم بن مسلم لا أعرفه ". قلت: سليم بن مسلم هو الخشاب معروف، وترجمته في كتب الرجال مشهورة. قال أحمد بن حنبل: قد رأيته بمكة، ليس يسوى حديثه شيئاً. الجرح والتعديل (4/ 314). وقال يحيى بن معين: ليس بثقة، كما في رواية الدوري عنه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، منكر الحديث. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: ليس بقوي. المرجع السابق. وقال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين (244). =

الأثر الخامس: (626 - 190) روى الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا محمد بن منصور الكلبي قال حدثني سليم أبو الهذيل قال: رأيت جرير بن عبد الله يخضب رأسه ولحيته بالسواد (¬1). الأثر السادس: (627 - 191) قال الهيثمي في المجمع: وعن عبد الله بن عمرو، أن عمر بن الخطاب رأى عمرو بن العاص وقد سود شيبه فهو مثل جناح الغراب، فقال: ما هذا يا أبا عبد الله؟ فقال: يا أمير المؤمنين أحب أن يرى في بقية، فلم ينهه عن ذلك ولم يعبه عليه. قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه راو لم يسم، قال سعيد بن أبي مريم: حدثني من أثق به، وعبد الرحمن بن أبي الزناد وبقية رجاله ثقات (¬2). أما الآثار عن التابعين فهي كثيرة جداً، ولكن لما كانت المسألة فيها أحاديث أكتفيت بها، لأن الاستدلال بأقوال التابعين إنما يستأنس به إذا لم يكن في المسألة سنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه، فإننا نرجع إلى آثار السلف من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين ¬

_ = وقال يحيى بن معين: كان ينزل مكة وكان جهمياً خبيثاً. الضعفاء الكبير (2/ 164). وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات، الذي يتخايل إلى المستمع لها وإن لم يكن الحديث صناعته أنها موضوعة. المجروحين (1/ 354). (¬1) المعجم الكبير (2/ 291) رقم 2209، قال الهيثمي في المجمع (5/ 162): " سليم والراوي عنه لم أعرفهما ". (¬2) مجمع الزوائد (5/ 162،163)، ولم أقف عليه في المعاجم الثلاثة.

دليل من قال يجوز تغيير الشيب بالسواد

دليل من قال يجوز تغيير الشيب بالسواد. الدليل الأول: لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهي في التحريم، والأصل في الأشياء الإباحة. قال يحيى: سمعت مالكاً يقول في صبغ الشعر بالسواد: لم أسمع في ذلك شيئاً معلوماً، وغير ذلك من الصبغ أحب إلي. قال: وترك الصبغ كله واسع إن شاء الله، ليس على الناس فيه ضيق (¬1). وإمام بمثل مالك، وهو في المدينة قد رأى فقهاء التابعين وأخذ منهم يرى أنه لم يسمع في الصبغ بالسواد شيئاً دليل على أن أحاديث النهي في الباب لاتصح. الدليل الثاني: (628 - 192) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن، إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: أن الحديث يقتضي الأمر بالصبغ، ولم يقيد صبغاً دون صبغ، فبأي شيء صبغ الرجل فقد امتثل الأمر ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 949). (¬2) صحيح البخاري (3462)، مسلم (2103).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (629 - 193) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد وابن نمير قالا ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بتغيير الشيب، فله أن يغيره بأي شيء؛ لأن الحديث مطلق لم يقيد بشيء. الدليل الرابع: (630 - 194) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتي بأبي قحافة - أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح- ورأسه ولحيته مثل الثغام أو الثغامة، فأمر أو فأمر به إلى نسائه، قال: غيروا ¬

_ (¬1) مسند أحمد (2/ 261). (¬2) الحديث أخرجه أحمد (2/ 499) عن يزيد بن هارون وحده به. وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 439) عن يزيد بن هارون وابن نمير به. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (5977)، قال: حدثنا وهب أخبرنا خالد عن محمد به. وأخرجه ابن حبان (5473) قال: أخبرنا أبو يعلى قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا بن إدريس، عن محمد به. وأخرجه أحمد (2/ 356) والترمذي (1752)، وأبو يعلى (6021) من طريق عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة. وهذا سند صالح في المتابعات والشواهد.

الدليل الخامس

هذا بشيء (¬1). وجه الاستدلال من الحديث كالاستدلال بالحديثين السابقين. وأجيب عن هذا: بأن الأمر المطلق بتغيير الشيب مقيد بالأحاديث الأخرى، وهو النهي عن الأسود، كما في حديث جابر وأنس وغيرهما. الدليل الخامس: (631 - 195) ما رواه ابن ماجه قال: حدثنا أبو هريرة الصيرفي محمد بن فراس، نا عمر بن الخطاب بن زكريا الراسبي، ثنا دفاع بن دغفل السدوسي، عن عبد الحميد ابن صيفي، عن أبيه، عن جده صهيب الخير قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أحسن ما اختضبتم به لهذا السواد؛ أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم. [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم (2102). (¬2) فيه عمر بن الخطاب بن زكريا روى عنه اثنان منهم يحيى بن حكيم المقوم، وأثنى عليه خيرا. تهذيب الكمال (21/ 315). ولم أقف له على توثيق، وفي التقريب مقبول: يعني إن توبع. دفاع بن دغفل السدوسي: قال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (3/ 445). وفي التقريب: مخضرم، ويقال له صحبة ولم يصح، نزل البصرة، غرق بفارس في قتال الخوارج قبل سنة ستين. =

الدليل السادس

الدليل السادس: أن أبا بكر صبغ بالحناء والكتم، والحناء والكتم يعطي نوعاً من اللون الأسود، وذلك لأن الأسود درجات، منه: الأسود الداكن، ومنه الأسود الفاتح، وبينهما درجات، يسميه بعضهم باللغة المعاصرة البني الغامق، وهي لون من درجات اللون الأسود، فلما أذن في الحناء والكتم دل على إذنه بالأسود، لكن قد يكون الحناء له نفع للبشرة والشعر، فخص بالنص، وهو دليل على جوازه بغير الحناء والكتم مما يعطي لونهما. والله أعلم. دليل القائلين بأنه يجوز للمرأة دون الرجل. قالوا: إن الزينة للمرأة مطلوبة، ولذلك جاز لها خضاب اليدين والرجلين، ولا يجوز ذلك في حق الرجل، وجاز لها لبس الذهب دون الرجل، والأحاديث الواردة إنما ثبتت في حق الرجل، كحديث: "وجنبوه السواد " وحديث يكون قوم آخر الزمان يخضبون بهذا السواد، قد جاء في بعض الفاظه: " يخضبون لحاهم بالسواد. والله أعلم. هذا بعض ما وقفت عليه من أدلة الفريقين، والقول بالتحريم قول قوي، والقول بالكراهة أقوى، وهو قول السواد الأعظم من الأمة، بل إن التحريم إنما هو وجه عند بعض أصحاب الشافعي فقط، والوجه الآخر مكروه فحسب. وما عداهم من المذاهب الأربعة بين مجيز وكاره، ¬

_ = وقال في مصباح الزجاجة (4/ 93): " هذا إسناد حس‍ن، ‍‍‍‍‍وقال في الهامش: هذا الحديث معارض لحديث النهي عن السواد، وهو أقوى إسناداً، وأيضا النهي يقدم عند المعارضة. اهـ والصواب أن الحديث ليس بحسن كما عرفت من رجاله. والله أعلم.

فهذا أبو يوسف ومحمد بن الحسن يريان الجواز، وقال ابن عابدين: ومذهبنا أن الصبغ بالحناء والوسمة حسن كما في الخانية. وهذا مالك يقول: لا أعلم فيه شيئاً. وهذا الإمام أحمد يكره الصبغ، ويفسرها أكثر أصحابه بأنها كراهة تنزيه. والصواب أن كل ما قيل: مكروه في كتب المذاهب الفقهية، ولم نعلم أنهم يريدون به كراهة التحريم، فإنه يحمل على كراهة التنزيه: أولاً: لأن اصطلاح الكراهة عند الفقهاء يختلف اصطلاحه في نص الشارع، وإنما اشتهر هذا المصطلح أعني إطلاق الكراهة على كراهة التنزيه عند الفقهاء. ثانياً: أنهم صرحوا بالمقصود به، فلا نتكلف في صرفه (¬1). ¬

_ (¬1) قال في الفتاوى الهندية: " وعن الإمام - يعني أبا حنيفة - أن الخضاب حسن بالحناء والكتم والوسمة. وسبق لنا معنى الوسمة أنها الصبغ بالسواد. والخلاف بين أصحاب أبي حنيفة دائر بين الجواز، وبين الكراهة كراهة تنزيه فقط. فأبو يوسف ومحمد بن الحسن على الجواز، وصححه ابن عابدين، وهو ظاهر عبارة الإمام في وصفه الصبغ بالوسمة أنه حسن. وقال مالك عن الصبغ بالأسود: لم أسمع فيه شيئاً معلوماً، وغيره ذلك من الصبغ أحب إلي. وقال في حاشية العدوي (2/ 445): " ويكره صباغ الشعر الأبيض وما في معناه من الشقرة بالسواد من غير تحريم. وقول مالك: وغيره من الصبغ أحب إلي علله الباجي بقوله: لأنه صبغ لم يصبغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهم أصحابه من هذه اللفظة كراهة التنزيه، واللفظة لا تقتضيه؛ لأن الكراهة حكم شرعي، وما دام لم يسمع فيه شيئاً فينبغي أن تفسر أن غيره من =

وقد حاولت قدر الإمكان عرض أدلة الفريقين بكل حياد؛ لأن نصوص المعرفة حق للقارئ، لا يجوز إذا رجحت قولاً أن أغمط أدلة القول الآخر؛ ولأن فهم النص قد اُوافَق عليه وقد أُخَالف، وفرق بين رأي العالم واجتهاده وبين النص؛ لأن لو جعلنا فهم النص بمنزلة النص ألغينا الاجتهاد، والعصمة ¬

_ = الصبغ مستحب، وأما هو فلم يصل إلى درجة الاستحباب، وذلك لأنه لم يسمع فيه شيئاً. وبدليل أن أشهب روى عنه في العتبية: ما علمت أن فيه النهي، وإذا كان لم يعلم فيه نهياً كيف يكون مكروهاً في المذهب، والله أعلم. وقال في الفواكه الدواني (2/ 307): " ويكره صباغ الشعر بالسواد من غير تحريم ". وقال في الرسالة: ويكره صبغ الشعر بالسواد من غير تحريم، انظر أسهل المدارك (3/ 364). وإذا نص على أنه من غير تحريم، كيف تحمل الكراهة عند أصحاب مالك على كراهة التحريم. وقال ابن مفلح في الفروع (1/ 131): " ويكره بسواد، وفاقاً للأئمة، نص عليه، وفي المستوعب والتلخيص والغنية في غير حرب، ولا يحرم ": أي أن هذه الكتب الثلاثة نصت على أنه لا يحرم، ولذلك قال في الإنصاف: وقال في المستوعب والغنية والتلخيص: يكره بسواد في غير حرب، ولا يحرم. انظر الإنصاف (1/ 123). وقال في الآداب الشرعية (3/ 337): ويكره بالسواد نص عليه، ثم قال: ويحرم بالسواد على الأصح عند الشافعية. فهنا فرق بين المكروه في مذهب الحنابلة وبين الحرام في مذهب الشافعية. وقال أيضاً: والكراهة في كلام أحمد هل هي للتحريم أو التنزيه؟ على وجهين. يقصد أن لفظ الكراهة إذا جاء عند أحمد فأصحابه مختلفون في تفسيرها على وجهين. وقال في مطالب أولي النهى (1/ 89): وكره تغيير الشيب بسواد في غير حرب، وحرم لتدليس. وقال مثله في كشاف القناع (1/ 77). فهنا واضح أن الكراهة كراهة تنزيه لاختلاف الحكم بين فعله من غير تدليس فيكره، أو يفعل للتدليس فيحرم.

إنما هي للنص، وليست لفهم النص، فلا يخلط بينهما، فيبقى على طالب العلم أن يذكر النصوص، والقارئ يرجح ما يراه، ولا ينبغي أن نصادر حق القارئ بالترجيح، فأتحامل فأسوق كل دليل أراه يؤيد رأيي، ولو كان بتأويل سائغ أو غير سائغ، وأغض الطرف عن أدلة القول الآخر بسبب أنه لم يترجح لي، وأتكلف التأويل، ورحم الله ابن القيم فإنك حين تقرأ له مسألة خلافيه، يجمع لكل قول ما يمكن أن يكون مؤيداً له، ويسوق له الأدلة من هنا وهناك حتى تظن أنه يرى هذا القول، ثم في آخر الأمر يتبين لك أنه لا يراه، ولكن فرق بين أن أعطي كل قول حقه من الأدلة، وبين أن أغمط أدلته خشية أن يترجح لغيري خلاف ما ترجح لي. وأحكام الإسلام منها ما هو واضح بين، ومنها ما هو خفي، وهو ما عناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات " فبعض المسائل من الأمور المتشابهة، والذي ينبغي على طالب العلم أن يستفرغ وسعه في فهم النص ودلالته، وليست كل مسألة يكون الفرق بين القولين فيهما كما بين السماء والأرض، ففي أحيان كثيرة يكون الترجيح هو اطمئنان النفس وميلها إلى أحد القولين، وهذا الميل يكفي في ترجيح أحد القولين؛ ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولكن إذا كانت المسألة كذلك ينبغي أن يتورع الإنسان من الطعن في أي من الأقوال المحتملة، والله أعلم. وإني حين أرجح كراهية تغيير الشيب بالسواد، ذلك لأن ما يختاره الإنسان للناس غير ما يختاره الإنسان لنفسه، فإن على الباحث أن لا يوقِّع بتحريم شيء إلا وقد ظهر له ظهوراً جلياً من نص صريح لا خلاف في ثبوته، وذلك لأنه يخبر عن حكم الشرع، لا عن سلوك يرتضيه لنفسه، والاحتياط

ليس في جانب المنع، بل الاحتياط هو أن لا يتجرأ أحد على التحريم إلا بدليل صريح صحيح، فمن ظهر له هذا، فهو وذاك، ومن لم يظهر له، فمن أين يقوله، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (¬1) بل إن التحريم أشد من الإباحة، وذلك أن الإباحة لا تحتاج إلى دليل، لأنها الأصل بخلاف التحريم. ¬

_ (¬1) الأنعام، آية: 116.

الباب السابع في شعر الرأس

الباب السابع في شعر الرأس وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في حلق شعر الرأس. الفصل الثاني: في النهي عن القزع. الفصل الثالث: في الترجل وصفته

الفصل الأول في حلق شعر الرأس

الفصل الأول في حلق شعر الرأس اختلف العلماء في حلق شعر الرأس. فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يكره حلق شعر الرأس لغير نسك ولا حاجة، وهو مذهب المالكية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). ¬

(¬1) قال في حاشية ابن عابدين (6/ 407): " السنة في شعر الرأس إما الفرق أو الحلق، وذكر الطحاوي أن الحلق سنة، ونسب ذلك إلى العلماء الثلاثة " اهـ يعني: أبا حنيفة وصاحبيه. وذكر مثله في الفتاوى الهندية (5/ 357). (¬2) حاشية العدوي (2/ 444)، الفواكه الدواني (2/ 306) وقد نصا على أن حلق الرأس بدعة. (¬3) جاء في كتاب الترجل للخلال (ص: 120): " أخبرنا أبو بكر المروزي، قال: سألت أبا عبد الله عن حلق الرأس؟ فكرهه كراهية شديدة. قلت: تكرهه؟ قال: أشد الكراهة. وأراه ذهب إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سيماهم التحليق "، واحتج بحديث عمر بن الخطاب أنه قال لرجل: لو وجدناك محلوقاً - يعني لصبيغ - لَضُرِبَ الذي فيه عيناك. وغلظ به أبو عبد الله. وقال: ورأيت رجلاً من أصحابنا قد استأصل شعره، فظن أبو عبد الله أنه محلوق، وكان رآه بالليل، فقال لي: تعرفه؟ قلت: نعم. قال: قد أردت أن أغلظ له في حلق رأسه. وانظر الفروع (1/ 132)، والآداب الشرعية (3/ 334). وأخرج ابن هانئ في مسائله (ص: 149،150): قال: سمعت أبا عبد الله يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: كان معمر يكره حلق الرأس، ويقول: هو التسبيت ". اهـ ونقل نحوه أبو داود في مسائله (ص: 352) رقم 1692. =

دليل من قال: تركه أفضل إذا كان قادرا على تعهده وتنظيفه

وقيل: لا يكره حلقه، وتركه أفضل إلا إن شق تعهده فالحلق أفضل، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يباح حلقه، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة عند المتأخرين (¬2). دليل من قال: تركه أفضل إذا كان قادراً على تعهده وتنظيفه. الدليل الأول: قال النووي: لم يصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلقه إلا في الحج أو العمرة (¬3). ¬

= وجاء أيضاً في كتاب الترجل للخلال (ص: 120): أخبرنا محمد بن علي السمسار، قال: حدثنا مهنا، قال: سألت أبا عبد الله عن الحلق: حلق الرأس بالموسى في غير الحج قال: مكروه حلق النواصي إلا في حج أو عمرة، وقال: كان سفيان بن عيينة لا يحلق رأسه في غير الحج والعمرة إلا بالمقراض. (¬1) قاله الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى (4/ 359،360)، وقال النووي في المجموع (1/ 347): " أما حلق جميع الرأس، فقال الغزالي: لا بأس به لمن أراد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن أراد دهنه وترجيله، هذا كلام الغزالي، ثم قال: والمختار أن لا كراهة فيه، ولكن السنة تركه، فلم يصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلقه إلا في الحج والعمرة، ولم يصح تصريح بالنهي عنه ". وانظر أسنى المطالب (1/ 552). (¬2) الإنصاف (1/ 122)، كشاف القناع (1/ 79)، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 86)، وجاء في كتاب الترجل للخلال (ص: 119): " أخبرني عبيد الله بن حنبل، قال: حدثني أبي أنه قال لأبي عبد الله: الحلق في غير حج ولا عمرة؟ قال: لا بأس، وقال: كنت أنا وأبي نحلق في حياة أبي عبد الله فيرانا ونحن نحلق، فلا ينهانا عن ذلك، وكان هو يأخذ شعره بالجملين، ولا يحفيه، ويأخذه وسطاً. اهـ. ورواية الكراهة عنه أقوى وأشهر، وقد تكلمت في رواية حنبل، ومن قدح فيها من أصحاب أحمد ولا يعتبرون ما انفرد به رواية، فارجع إليه إن شئت. (¬3) المجموع (1/ 347).

الدليل الثاني

قلت: والتأسي بتركه - صلى الله عليه وسلم - كالتأسي بفعله - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء عليهم السلام لهم شعر كثير، وهذا دليل على أن تركه أفضل، وإليك النصوص في صفاتهم: ما ورد في صفة شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (639 - 203) روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مربوعاً بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه. قال يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه إلى منكبيه، هذا لفظ البخاري، وقد رواه مسلم (¬1). وفي رواية لمسلم: " عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه " (¬2). والجمة، جاء في القاموس: الجَمُّ: الكثيرُ من كلِ شيءٍ. وأما ماورد في صفة شعر الأنبياء عليهم السلام، فقد جاء في الصحيحين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإسراء، قال: "ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه، وأنا أشبه ولده به " (¬3). وقد سبق لنا صفة شعر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) صحيح البخاري (3358)، ومسلم (2337). (¬2) صحيح مسلم (2337). (¬3) صحيح البخاري (3254)، ومسلم (168).

وأما ما جاء في صفة شعر موسى عليه الصلاة والسلام، (640 - 204) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - رأيت عيسى وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم، جسيم، سبط كأنه من رجال الزط (¬1). فقوله: " سبط " قال الحافظ في الفتح: " السبط بفتح المهملة، وكسر الموحدة: أي ليس بجعد، وهذا نعت لشعر رأسه " (¬2). وأما ما جاء في صفة شعر عيسى عليه الصلاة والسلام، (641 - 205) فقد روى البخاري، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أبو ضمرة، حدثنا موسى، عن نافع، قال عبد الله: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً بين ظهري الناس المسيح الدجال، فقال: إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من آدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء واضعاً يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا المسيح بن مريم، ثم رأيت رجلاً وراءه جعداً، قططاً، أعور العين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قطن واضعاً يديه على منكبي رجل ¬

(¬1) صحيح البخاري (3255). (¬2) فتح الباري (6/ 485).

دليل من قال حلق الرأس بدعة

يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح الدجال (¬1). الشاهد منه: قوله - صلى الله عليه وسلم - عن عيسى: " تضرب لمته بين منكبيه ". فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء عليهم السلام كان لهم شعر كثير، وهذا يدل على أن تركه أفضل من حلقه، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬2). دليل من قال حلق الرأس بدعة. الدليل الأول: كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله إلا في النسك، دليل على أنه لا يتعبد بحلقه. قال ابن القيم: " لم يحفظ عنه حلقه إلا في نسك " (¬3). الدليل الثاني: (642 - 206) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا مهدي بن ميمون، سمعت محمد بن سيرين، يحدث عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه. قيل: ما سيماهم؟ قال: سيماهم التحليق. أو قال ¬

(¬1) صحيح البخاري (3256)، مسلم (169). (¬2) الأحزاب: 21. (¬3) زاد المعاد (1/ 174).

الدليل الثالث

التسبيد (¬1). وإذا كان الحلق سيما أهل البدع كالخوارج وغيرهم كان تركه شعاراً لأهل السنة. الدليل الثالث: (643 - 207) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، حدثني أبي، ثنا محمد بن سليمان بن مسمول، حدثني عمر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا توضع النواصي إلا في حج أوعمرة (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). الدليل الرابع: أن الشرع أمرنا بحلق العانة، ونتف الإبط، وجعل ذلك من الفطرة، كما ¬

(¬1) صحيح البخاري (7123)، والحديث أخرجه أحمد (3/ 64) وأبو يعلى (1193) والبغوي في شرح السنة (2558) من طريق مهدي بن ميمون به. ... (¬2) الأوسط (9/ 180) رقم 9475. (¬3) فيه محمد بن سليمان بن مسمول، وقيل: مشمول، ضعيف، وقد سبق نقل كلام أهل العلم فيه في باب هل يستحب تقليم الأظفار في يوم معين. وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 261). وقد خالف سفيان محمد بن سليمان، فرواه موقوفاً على ابن المنكدر، فقد رواه ابن الجعد في مسنده (1677) قال: حدثنا ابن عباد، أخبرنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن أبيه، قال: لا توضع النواصي إلا لله عز وجل في حج أو عمرة، وهذا أرجح.

دليل من قال يباح الحلق

سبق من حديث أبي هريرة في الصحيحين، وأما شعر الرأس فلم نؤمر بحلقه، فتكون الفطرة في إبقائه. دليل من قال يباح الحلق. الدليل الأول: (644 - 208) عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى غلاماً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: احلقوا كله أو ذروا كله (¬1). [تفرد بقوله: " احلقوه كله " معمر، عن أيوب، وقد رواه غيره عن أيوب بدون هذه الزيادة، كما رواه أيضاً غير أيوب عن نافع، وليس فيه هذه الزيادة] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (19564). (¬2) الحديث أخرجه عبد الرزاق كما في حديث الباب، ومن طريق عبد الزراق أخرجه أحمد (2/ 88)، وأبو داود (4195)، والنسائي في الكبرى (5/ 407)، والصغرى (5048)، وابن حبان في صحيحه (5508)، والبيهقي في شعب الإيمان (6480). وقد رواه حماد بن سلمة، عن أيوب به، ولم يذكر ما ذكره معمر من قوله: " احلقوا كله ... " كما في مسند أحمد (2/ 101)، وقد يقال: إن معمر أحفظ من حماد بن سلمة، خاصة أن حماد قد تغير، لكن يقال: أولاً: الراوي عن حماد عفان، وهو من أثبت أصحابه. ثانياً: الحديث في الصحيحين من رواية عمر بن نافع، عن نافع به، وليس فيه ما ذكره معمر، فيكون حماد قد توبع. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (645 - 209) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عقبة بن مكرم وابن المثنى، قالا: ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، قال: سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم، فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ادعوا لي بني أخي، فجيء بنا كأنا أفراخ، فقال: ادعوا لي الحلاق فأمره فحلق رؤوسنا (¬1) [إسناده صحيح] (¬2). وقد أجيب عن هذا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حلق رؤوسهم، مع أن إبقاء الشعر أفضل إلا في النسك لما رأى من اشتغال أمهم أسماء بنت عميس عن ترجيل شعورهم بما أصابها من قتل زوجها في سبيل الله، فأشفق عليهم من الوسخ والقمل (¬3). ¬

= ثالثاً: الحديث في صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب به، وأحال على لفظ سابق، وليس فيه: " احلقوا كله أو اتركوا كله "، وسبق الكلام على بقية طرق الحديث عند تخريج حديث ابن عمر في النهي عن القزع. (¬1) سنن أبي داود (4192). (¬2) رجاله كلهم ثقات، والحديث أخرجه أحمد (2/ 104) وابن سعد في الطبقات (4/ 36،37) والنسائي في الكبرى (8604) بأطول من هذا وفيه قصة اسشهاد زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، رووها من طرق وهب بن جرير به بهذا الإسناد. ورواه مختصراً كرواية أبي داود ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (434)، والنسائي في الكبرى (8160،9295)، وفي الصغرى (5227) من طريق وهب بن جرير به. (¬3) المرقاة (8/ 242).

دليل من قال السنة حلق الشعر

وإذا كان هناك حاجة للحلق فلا مانع منه، لكن إذا لم يكن هناك حاجة فلا شك أن الأفضل ما كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم من إبقاء الشعر، وقد سئل الإمام أحمد عن الرجل يتخذ شعراً؟ فقال: سنة حسنة، ثم قال أبو عبد الله: لو أمكنا اتخذناه. وفي لفظ آخر عنه: لو كنا نقوى عليه، له كلفة ومؤنة. فيؤخذ من هذا أن من يستطيع أن يقوم بغسله وترجيله فالأفضل في حقه أن يتخذه، والله أعلم. دليل من قال السنة حلق الشعر. لا أعلم لهذا القول دليلاً من الأثر، ولا من النظر، ولقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: " لا نزاع بين علماء المسلمين وأئمة الدين أن ذلك لا يشرع، ولا يستحب، ولا هو من سبيل الله وطريقه، ولا من الزهد المشروع للمسلمين، ولا مما أثنى الله به على أحد من الفقراء، ومع هذا فقد اتخذه طوائف من النساك الفقراء والصوفية ديناً حتى جعلوه شعاراً وعلامة على أهل الدين والنسك والخير والتوبة والسلوك إلى الله المشير إلى الفقر والصوفية، حتى إن من لم يفعل ذلك يكون منقوصاً عندهم، خارجاً عن الطريقة المفضلة المحمودة عندهم، ومن فعل ذلك دخل في هديهم وطريقتهم، وهذا ضلال عن طريق الله وسبيله باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك ديناً وشعاراً لأهل الدين من أسباب تبديل الدين، بل جعله علامة على المروق من الدين أقرب (¬1). وما تكلم عليه ابن تيمية يقرب مما يراه بعض الزهاد والوعاظ وبعض ¬

(¬1) الاستقامة (1/ 256).

وممكن أن يستدل لمن يرى الحلق بالأدلة التالية

الصالحين عندنا من اعتبار إطالة الشعر يدخل في الشهرة، ولا ينكر على من حلق رأسه دون أن يكون هناك حاجة من نسك وغيره، بل قد يرى حلق الرأس علامة على الصلاح. وممكن أن يستدل لمن يرى الحلق بالأدلة التالية: الدليل الأول: (646 - 210) حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام وسفيان بن عقبة السوائي، هو أخو قبيصة، وحميد بن خوار، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولي شعر طويل، فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ذباب ذباب، قال: فرجعت فجززته، ثم أتيته من الغد، فقال: إني لم أعنك، وهذا أحسن (¬1). [وإسناده حسن] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (4190). (¬2) الحديث مداره على سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، وعاصم وأبوه صدوقان. [تخريج الحديث] الحديث رواه النسائي أيضاً (5052) أخبرنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا سفيان أخو قبيصة، ومعاوية بن هشام، قالا: حدثنا سفيان به. ورواه ابن ماجه (3636) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا معاوية بن هشام، وسفيان بن عقبة، عن سفيان به. وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3367) والبيهقي في شعب الإيمان (6474) من طريق أبي حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا سفيان الثوري به. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان أيضاً (6475) من طريق أبي عقبة الأزرق، عن سفيان به.

قال الطحاوي: فكان في هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد دل على أن جز الشعر أحسن من تربيته، وما جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأحسن، كان لا شيء أحسن منه، ووجب لزوم ذلك الأحسن، وترك ما يخالفه، ومقبول منه - صلى الله عليه وسلم - إذا كان هذا عنه، وإذا كان أولى بالمحاسن كلها من جميع الناس سواه، أنه قد كان صار بعد هذا القول إلى هذا الأحسن، وترك ما كان عليه قبل ذلك مما يخالفه، والله نسأله التوفيق (¬1). وهذا الكلام مدخول من وجهين: الأول: القطع بأن هذه القصة متأخرة عن إعفاء الشعر، وإكرامه، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صار إليه بعد أن كان له شعر كثير، وأن الرسول ترك إعفاء الشعر لإجل هذه القصة لا شك أن هذا من الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وقد عقدت فصلاً مستقلاً في إكرام الشعر وتسريحه ودهنه، مما يجعل الباحث يقطع أن السنة إعفاء شعر الرأس وإكرامه. الثاني: الاعتقاد بأن هذا القصة تعارض الأحاديث الكثيرة في إكرام الشعر غير صحيح، والجواب عن هذا، أن يقال: إن هذا الرجل كان شعره طويلاً كثيراً إلى حد الشهرة، فكان الأحسن تخفيفه عن حد الشهرة، ولذا ليس في الحديث أنه حلقه، وإنما جزه، ولا يصلح دليلاً للحلق إلا لو جاء في الحديث أن الرجل حلق رأسه، وربما حسن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جز شعره وتخفيفه نظراً لأنه لم يقم بحقه من تعهده وتنظيفه، ¬

(¬1) شرح مشكل الآثار (8/ 436،437).

الدليل الثاني

وقد سبق أن قلت: إن ترك الشعر سنة لمن كان قادراً على القيام بمؤنته من تسريحه وتنظيفه، أما من لا يقدر على ذلك فالأفضل في حقه تخفيف الشعر وجزه بدون حلق إلا في نسك، والحامل على هذا التأويل الأحاديث الكثيرة في صفة شعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل والأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والله أعلم. الدليل الثاني: (647 - 211) روى أحمد، قال: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن أبي إسحاق، عن شمر، عن خريم رجل من بنى أسد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن فيك اثنتين كنت أنت، قال: إن واحدة تكفيني. قال: تسبل إزارك وتوفر شعرك. قال: لا جرم والله لا أفعل (¬1). [إسناده منقطع شمر لم يدرك خريم، والحديث محتمل للتحسين بالمتابعات] (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (4/ 321). (¬2) في إسناده أبو إسحاق السبيعي، وقد تغير في آخرة، ولم أقف على معمر هل روى عن أبي إسحاق بآخرة أم لا، ولكن يغلب على ظني أن معمراً كان صغيراً، فإذا كان سماعه من قتادة كان صغيراً حين ذاك فما بالك بأبي إسحاق، فالراجح عندي أن معمر ممن سمع من أبي إسحاق بآخرة، وإن كان لم ينص عليه في الرواة عن أبي إسحاق، ولذا تجنب البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي أحاديث أبي إسحاق من طريق معمر، ولم يرو له النسائي إلا حديثاً واحداً حديث سعد: " قتال المسلم كفر وسبابه فسوق " وقد توبع عليه. ومع ذلك فقد تابعه جماعة: الأول: أبو بكر بن عياش، كما عند أحمد (4/ 322) قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر، عن أبي إسحاق به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأبو بكر بن عياش، قد صرح أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/ 35): أن سماع أبي بكر بن عياش من أبي إسحاق ليس بالقوي. قلت: لكن لعله يتقوى بالمتابعة. الثاني: عمار بن زريق، كما في شعب الإيمان للبيهقي (5/ 228) رقم 6473 أخبرناه أبو الحسين بن بشران، أنا أبو عمرو بن السماك وأبو الحسن المقرئ، ثنا محمد بن أحمد بن أبي العوام الرياحي ثنا أبو الجواب ثنا عمار بن زريق عن أبي إسحاق به. وأبو الحسين بن بشران، قال عنه الخطيب: " كتبنا عنه، وكان صدوقاً حسن الأخلاق، تام المروءة ظاهر الديانة " تاريخ بغداد (12/ 98) السير (17/ 311) .. - أبو عمر بن السماك، ثقة حافظ، انظر تاريخ بغداد (11/ 302)، والأنساب (7/ 127). - تابعه أبو الحسن المقرئ: وهو الإمام الحافظ الناقد، علي بن محمد بن علي السقاء الإسفراييني من أولاد أئمة الحديث سمع الكتب الكبار، وأملى وصنف، انظر سير أعلام النبلاء (17/ 305). - محمد بن أحمد بن أبي العوام الرياحي. قال الدارقطني: صدوق. تاريخ بغداد (1/ 372). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: صدوق ما علمت إلا خيراً. المرجع السابق. وذ ... كره ابن حبان في الثقات (3/ 134). وانظر سير أعلام النبلاء (13/ 7). - أبو الجواب: قال ابن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: أبو الجواب: الأحوص بن جواب ثقة، قال: وسئل يحيى مرة أخرى، فقال: ليس بذلك القوى. الجرح والتعديل (2/ 328). وقال يعقوب بن شيبة عن يحيى: ثقة. تهذيب الكمال (2/ 288). قال ابن أبي حاتم: سمعت أبى يقول: أبو الجواب صدوق. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان متقنا وربما وهم. الثقات (6/ 89). وفي التقريب: صدوق ربما وهم. عمار بن زريق: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال أبو حاتم: لا بأس به. الجرح والتعديل (6/ 392). وقال عثمان بن سعيد: سألت يحيى بن معين عن عمار بن زريق، فقال: ثقة. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: ثقة. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (7/ 350). وقال الإمام أحمد: كان من الأثبات. المرجع السابق. وقال ابن شاهين في الثقات: قال ابن المديني ثقة. المرجع السابق. وقال أبو بكر البزار: ليس به بأس. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 286). وفي التقريب: لا بأس به. فالإسناد حسن إلى أبي إسحاق لولا أن عمار بن رزيق روى عن أبي إسحاق بآخرة كما أفاده أبو حاتم الرازي في العلل لابنه (2/ 166). وقد روى مسلم لأبي إسحاق السبيعي من رواية عمار بن زريق ثلاثة أحاديث: حديث عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل حتى يكون آخر صلاته الوتر. وحديث فاطمة بنت قيس في قصة طلاقها، وقد توبع عليه في نفس الصحيح. وحديث البراء: إن آخر سورة أنزلت تامة سورة التوبة. وقد توبع فيه داخل الصحيح. الثالث: إسرائيل، عن أبي إسحاق. رواه أحمد بن عمرو بن الضحاك كما في الآحاد والمثاني (1044) حدثني عبد الرحيم بن مطرف نا عمرو بن محمد العنقزي عن إسرائيل عن أبي إسحاق به. وهذا إسناد إلى إسرائيل إسناد صحيح، إلا أن سماع إسرائيل من أبي إسحاق بآخرة، انظر الكواكب النيرات (ص: 350). ورواه الطبراني كما في المعجم الكبير (4/ 207) رقم 4156 قال: حدثنا محمد بن العباس المؤدب، ثنا عبد الله بن صالح العجلي، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق به. فصار أربعة يروونه عن أبي إسحاق: معمر، وأبو بكر بن عياش، وعمار بن رزيق، وإسرائيل، فتبقى علة الحديث الانقطاع بين شمر بن عطية، وبين خريم، إلا أن الحديث ورد له =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = متابع، منها ما رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 208) رقم 4161. حدثنا حاجب بن أركين الفرغاني، ثنا أحمد بن عبد الرحمن بن مفضل الحراني، ثنا يونس بن بكير، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن أيمن بن خريم بن فاتك، عن أبيه قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم الفتى خريم لو قصر من شعره ورفع من إزاره، قال: فقال خريم: لا يجاوز شعري أذني، ولا إزاري عقبي. والله أعلم. في إسناده عبد الملك بن عمير، وقد روى له الجماعة. وعن أحمد: أنه ضعيف جداً، كما في رواية إسحاق بن منصور. الجرح والتعديل (5/ 360). وقال أيضاً: مضطرب الحديث جداً مع قلة روايته، ما أرى له خمسمائة حديث. تهذيب الكمال (18/ 370). وقال ابن معين: مخلط. كما في رواية إسحاق بن منصور عنه، يشير إلى أنه اختلط في آخر عمره، وإلا فقد قال: ثقة، إلا أنه أخطأ في حديث أو حديثين. كما في رواية ابن البرقي عنه. تهذيب التهذيب (6/ 364). وقال أبو حاتم: ليس بحافظ، وهو صالح الحديث. تغير حفظه قبل موته. الجرح والتعديل (5/ 360). وقال مرة: لم يوصف بالحفظ. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (18/ 370). وقال ابن نمير: كان ثقة ثبتاً. التهذيب (6/ 364). وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. ثقات العجلي (2/ 104). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 116). وفي التقريب: ثقة فصيح، عالم تغير حفظه، وربما دلس. قلت: لعل من ضعفه إنما ضعفه بسبب تغيره، ولذلك قال الحافظ في هدي الساري (ص592) أخرج له الشيخان من رواية القدماء عنه في الاحتجاج، ومن رواية بعض المتأخرين عنه في المتابعات، وإنما عيب عليه أنه تغير حفظه لكبر سنه، لأنه عاش 103 سنين، ولم يذكره =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن عدي في الكامل، ولا ابن حبان. اهـ. قلت: لم أجعله ثقة، بل هو أدنى مرتبة، إعمالاً لجرح الإمام أحمد، وقول أبي حاتم: ليس بالحافظ ". اهـ. لكنه ليس ضعيفاً، وقد احتجا به في الصحيح، فتوسطت وجعلته في مرتبة الحسن. كما أن في إسناده المسعودي قد اختلط قبل موته، ولكن الراوي عنه يونس بن بكير كوفي، فلعله ممن سمع منه قبل اختلاطه، وقد قال الإمام أحمد: ذكر أنه اختلط ببغداد وأن سماع من سمع منه هناك ليس بشيء، قال: ومن سمع منه بالكوفة فسماعه جيد. وقال أحمد أيضاً: سماع وكيع من المسعودي بالكوفة قديم، وأبو نعيم أيضا: قال أنه اختلط ببغداد، وعلى هذا تقبل رواية كل من سمع منه بالكوفة والبصرة قبل أن يقدم بغداد، والله أعلم. انظر الكواكب النيرات (ص: 286 وما بعدها)، وعلى كل حال فإنه سند صالح في المتابعات، وهو يقوي طريق شمر، عن خريم. كما أن له شاهداً آخر، رواه ابن عمرو في الآحاد والمثاني (1045) حدثنا يعقوب بن حميد، نا إسماعيل بن داود، عن هشام بن سعد، عن قيس بن بشر، عن أبيه أنه سمع بن الحنظلية يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره، فبلغ ذلك خريماً رضي الله تعالى عنه، فأخذ شفرة وقطع بها شعره إلى أذنيه، وإزاره إلى أنصاف ساقيه. قال بشر: رأيت خريماً عند معاوية رضي الله تعالى عنهما وشعره جمة إلى أذنيه. وفيه إسماعيل بن داود بن مخراق. قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (1/ 374). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/ 93). وقال أبو حاتم الرازي: هو ضعيف الحديث جداً. الجرح والتعديل (2/ 167). وقال الخليلي: ينفرد عن مالك بأحاديث، وقد روى عن الأكابر ولا يرضى حفظه. الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1/ 234). وقال الدارقطني في غرائب مالك: ليس بالقوي. لسان الميزان (1/ 403). وقال الآجري: عن أبي داود لا يساوي شيئاً. المرجع السابق. =

والجواب عن هذا الدليل كالجواب عما سبق، إضافة إلى أن هذا الحديث صريح بأنه ليس فيه حلق، حيث ورد في بعض الروايات أن شعره إلى أذنيه. الراجح من الأقوال: الأصل أن ترك الشعر أفضل من حلقه إذا كان قادراً على القيام بمؤنته وتعهده وتنظيفه كما بينا من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل ومن فعل الأنبياء، وقد يختلف حكم حلق الرأس من حال إلى آخر، فأما حلقه في النسك فإنه أفضل من التقصير، وهو مشروع في الكتاب والسنة، أما الكتاب، فقال تعالى {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين} (¬1). (648 - 212) وأما السنة فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين. وقال الليث: حدثني نافع: رحم الله المحلقين مرة أو مرتين. قال: وقال عبيد الله: حدثني نافع، وقال في الرابعة: والمقصرين (¬2). (649 - 213) وأما حلقه للتداوي، فهذا أيضاً جائز، فقد روى البخاري قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن حميد بن قيس، ¬

= [تخريج الحديث]. (¬1) سورة الفتح آية (27). (¬2) صحيح البخاري (1727)، ورواه مسلم (1301).

عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لعلك آذاك هوامك. قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة (¬1). وأما حلقه على وجه التعبد، فقد قال ابن تيمية: وأما حلقه على وجه التعبد والتدين والزهد من غير حج ولا عمرة، مثل ما يأمر بعض الناس التائب إذا تاب يحلق رأسه، ومثل أن يجعل حلق الرأس شعار أهل النسك والدين، أو من تمام الزهد والعبادة، أو من يجعل من يحلق رأسه أفضل ممن لم يحلقه أو أدين أو أزهد، أو من يقصر من شعر التائب، كما يفعل بعض المنتسبين إلى المشيخة إذا توب أحداً أن يقص بعض شعره، ويعين الشيخ صاحب مقص وسجادة، فيجعل صلاته على السجادة، وقصه رؤوس الناس من تمام المشيخة التي يصلح بها أن يكون قدوة يتوب التائبين فهذا بدعة لم يأمر الله بها، ولا رسوله، وليست واجبة، ولا مستحبة عند أحد من أئمة الدين، ولا فعلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا شيوخ المسلمين المشهورين بالزهد والعبادة، لا من الصحابة ولا من التابعين، ولا تابعيهم، ومن يعدهم مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، وأحمد بن أبي الحواري، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثال هؤلاء لم يكن هؤلاء يقصون شعر أحد إذا تاب، ولا يأمرون التائب أن يحلق رأسه (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1814)، مسلم (1201). (¬2) الفتاوى (21/ 118).

وبقي أن يحلق رأسه لا على وجه التعبد، ولا من باب التداوي، وفي غير النسك، فإن كان قادراً على القيام بمؤنته وتنظيفه، وتعهده بالترجل والدهن ونحوه فإن الأفضل تركه، وإلا كان ممكناً قصه برقم واحد، وهو قريب جداً من الحلق، ويخرج به عن الحلق، فإن أصر إلا الحلق فأرجو أنه لا بأس به، والله أعلم. وقد نقل عن بعض الصحابة أن لهم شعراً كثيراً، (650 - 214) فقد أخرج ابن أبي شيبة، قال: حدثنا، وكيع، عن هشام قال: رأيت ابن عمر وجابراً ولكل واحد منهما جمة (¬1). (651 - 215) وروى أيضاً، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، قال: رأيت لابن عمر جمة مفروقة تضرب منكبيه (¬2). (652 - 216) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن هبيرة قال: كان لعبد الله شعر يصفه على أذنيه (¬3). (653 - 217) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا الفضل، عن عبد الواحد بن أيمن، قال: رأيت ابن الزبير، وله جمة إلى العنق، وكان يفرق (¬4). (654 - 218) وروى أيضاً قال: حدثنا وكيع، عن عبد الواحد بن أيمن قال: رأيت عبيد بن عمير وابن الحنفية لكل واحد منهما جمة (¬5). ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 187) رقم 25067 وسنده صحيح. (¬2) المصنف (5/ 189) رقم 25086، وسنده صحيح. (¬3) المصنف (5/ 187) رقم 25068، وسنده لا بأس به. (¬4) المصنف (5/ 188)، وسنده لا بأس به. (¬5) المرجع السابق، ونفس الصفحة، وسنده حسن.

وقال أحمد بن حنبل: أحصيت على ثلاثة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لهم شعر، فذكر أبا عبيدة بن الجرح، وعمار بن ياسر، والحسن والحسين. وقال أحمد أيضاً حين سئل عن تطويل الشعر: تدبرت مرة، فإذا هو عن بضعة عشر رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

(¬1) كتاب الوقوف والترجل من الجامع لمسائل الإمام أحمد - أبو بكر الخلال (ص:117،118).

الفصل الثاني في النهي عن القزع

الفصل الثاني في النهي عن القزع ويشتمل على مبحثان: المبحث الأول: في تعريف القزع. المبحث الثاني: في حكم القزع.

المبحث الأول في تعريف القزع

المبحث الأول في تعريف القزع تعريف القزع: قال في تاج العروس: القزع، محركة قطع من السحاب رقاق، كأنها ظل، إذا مرت من تحت السحابة الكبيرة. الواحدة: قزعة، ومنه حديث الاستسقاء: "وما في السماء قزعة " أي قطعة من الغيم. وقيل: القزع، السحاب المتفرق، وما في السماء قزعة: أي لطخة غيم. ثم قال: ومن المجاز: القزع: أن يحلق رأس الصبي، ويترك مواضع منه غير محلوقة، تشبيهاً بقزع السحاب، ومنه الحديث: " نهى عن القزع " يعني: أخذ بعض الشعر وترك بعضه (¬1). واختلف في القزع: فقيل: أن يحلق رأس الصبي في مواضع، ويترك الشعر متفرقاً. وهذا يؤيده معنى القزع في اللغة، وعليه فلا يشمل ما إذا حلق جميع الرأس وترك موضعاً واحداً كشعر الناصية (¬2). وقيل: القزع حلق بعض الرأس مطلقاً، قال الطيبي: وهو الأصح؛ لأنه ¬

(¬1) تاج العروس (11/ 379،380). (¬2) قال القرطبي في المفهم (5/ 441): " لا خلاف أنه إذا حلق من الرأس مواضع، وأبقيت مواضع أنه القزع المنهي عنه، لما عرف من اللغة كما نقلناه، ولتفسير نافع له بذلك، واختلف فيما إذا حلق جميع الرأس، وترك منه مواضع كشعر الناصية، أو فيما إذا حُلِق موضع وحده، وبقي أكثر الرأس، فمنع من ذلك مالك، ورآه من القزع المنهي عنه ".

تفسير الراوي، وهو غير مخالف للظاهر، فوجب العمل به (¬1). ولعل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " اتركوه كله أو احلقوه كله " (¬2) يشمل ما إذا حلق موضعاً وترك الباقي، والله أعلم (¬3). وقد ورد تفسير القزع من بعض الرواة. (636 - 200) فروى البخاري في صحيحه، قال: حدثني محمد، قال: أخبرني مخلد، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني عبيد الله بن حفص، أن عمر بن نافع أخبره، عن نافع مولى عبد الله، أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن القزع. قال عبيد الله: قلت: وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله، قال: إذا حلق الصبي، وترك ها هنا شعرة، وها هنا وها هنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته، وجانبي رأسه. قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام؟ قال: لا أدري هكذا قال الصبي. قال عبيد الله: وعاودته، فقال: أما القصة والقفا للغلام فلا بأس بهما، ولكن القزع أن يترك بناصيته شعراً، وليس في ¬

(¬1) شرح الطيبي (8/ 249). (¬2) سوف يأتي الكلام على هذه اللفظة في باب حلق الرأس. (¬3) قال القرطبي في المفهم (5/ 441): " اختلف في المعنى الذي لأجله كره، فقيل: لأنه من زي أهل الدعارة والفساد، وفي سنن أبي داود أنه زي اليهود. وقيل: لأنه تشويه، وكأن هذه العلة أشبه؛ بدليل ما رواه النسائي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى صبياً حلق بعض شعره، وترك بعضه، فنهى عن ذلك، وقال: " اتركوه كله، أو احلقوه كله " اهـ. وقد سبق الكلام على هذه الزيادة قبل قليل.

رأسه غيره، وكذلك شق رأسه هذا وهذا (¬1). (637 - 201) وروى مسلم، قال: حدثني زهير بن حرب، حدثني يحيى - يعني ابن سعيد- عن عبيد الله، أخبرني عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع. قال: قلت لنافع: وما القزع؟ قال: يحلق بعض رأس الصبي، ويترك بعض (¬2). قال المازري في المعلم: إذا كان ذلك - يعني القزع - في مواضع كثيرة فمنهي عنه بلا خلاف، وإن لم يكن كذلك كالناصية وشبهها فاختلف في جوازه (¬3). وكذا نقله الطيبي في شرح المشكاة (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري (5920). (¬2) صحيح مسلم (2120). (¬3) المعلم بفوائد مسلم (3/ 81). (¬4) شرح الطيبي (8/ 249،250).

المبحث الثاني حكم القزع

المبحث الثاني حكم القزع يكره القزع، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل الكراهة. الدليل الأول: (638 - 202) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 407)، وقال في الفتاوى الهندية (5/ 357): " يكره القزع: وهو أن يحلق البعض، ويترك البعض قطعاً مقدار ثلاثة أصابع. كذا في الغرائب. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: يكره أن يحلق قفاه إلا عند الحجامة، كذا في الينابيع". اهـ (¬2) قال الباجي في المنتقى (7/ 267): " ونهي عن القزع، وهو أن يحلق بعض الرأس، ويبقى مواضع، ثم قال: ومن ذلك القصة والقفا، وهو أن يحلق رأس الصبي، فيترك منه مقدمه، وشعر القفا. قال مالك: لا يعجبي ذلك في الجواري ولا الغلمان، ووجه ذلك أنه من ناحية القزع. قال مالك: وليحلقوا جميعه أو يتركوا جميعه. اهـ وانظر المفهم للقرطبي (5/ 441)، والفواكه الدواني (2/ 306). (¬3) المجموع (1/ 346)، أسنى المطالب (1/ 551)، الفتاوى الفقهية الكبرى - الهيتمي (4/ 360)، تحفة المحتاج (9/ 375). (¬4) المغني (1/ 66)، الفروع (1/ 132)، الآداب الشرعية (3/ 334)، الإنصاف، (1/ 127)، كشاف القناع (1/ 75،79)، مطالب أولي النهى (1/ 88)، شرح العمدة - ابن تيمية (1/ 231)، أحكام أهل الذمة - ابن القيم (1/ 751)، تحفة المودود (1/ 64)، فتاوى ورسائل ابن إبراهيم (2/ 42).

عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (5921). والحديث يرويه عبد الله بن دينار، ونافع. أما طريق عبد الله بن دينار، فقد أخرجه أحمد (2/ 82،154) قال: ثنا عبد الصمد وأبو سعيد، قالا: ثنا عبد الله بن المثنى، ثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القزع. قال عبد الصمد: وهو الرقعة في الرأس. وأخرجه البخاري كما في حديث الباب، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6479)، والبغوي في شرح السنة (3185) من طريق عبد الله بن المثنى به. وأخرجه أحمد أيضاً (2/ 67) حدثنا علي بن حفص، أخبرنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر به. وهذا إسناد حسن، وورقاء إنما ضعف في منصور، وأخرجه ابن أبي شيبة (8/ 501) ومن طريقه ابن ماجه (3638) قال أخبرنا شبابة، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار به. وهذا إسناد صحيح. وروى أحمد في مسنده (2/ 118) قال: حدثنا أبو جعفر المدائني، أخبرنا مبارك بن فضالة، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر حدثه به. واختلف فيه على مبارك بن فضالة، فروي عنه كما سبق. وروى عبد الله بن أحمد في المسند (2/ 118) قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثني حسين، قال: حدثنا المبارك، عن عبيد الله بن عمر، أن عبد الله بن دينار حدثه، أن عبد الله بن عمر حدثه، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القزع. فجعل بينه وبين ابن دينار عبيد الله بن عمر، وقد انفرد مبارك بذكر رواية عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار، والمحفوظ أن عبيد الله يرويه عن عمر بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر. كما أن المبارك مدلس، وقد عنعن في الطريقين. والله أعلم. وأما رواية نافع، عن ابن عمر، فيرويه عن نافع جماعة منهم: الأول: عمر بن نافع، عن نافع. أخرجه أحمد (2/ 39) قال: حدثنا محمد بن بشر، عن عبيد الله، عن عمر بن نافع، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القزع. قال عبيد الله: والقزع =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الترقيع في الرأس. وأخرجه النسائي (8/ 182) من طريق محمد بن بشر به. ولم يذكر تفسير عبيد الله. وأخرجه البخاري (5920) قال: قال: حدثني محمد، قال: أخبرني مخلد، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني عبيد الله بن حفص، أن عمر بن نافع أخبره، عن نافع مولى عبد الله، أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن القزع. قال عبيد الله: قلت: وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله، قال: إذا حلق الصبي، وترك ها هنا شعرة، وها هنا وها هنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته، وجانبي رأسه. قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام؟ قال: لا أدري هكذا قال الصبي. قال عبيد الله: وعاودته، فقال: أما القصة والقفا للغلام فلا بأس بهما، ولكن القزع أن يترك بناصيته شعر، وليس في رأسه غيره، وكذلك شق رأسه هذا وهذا. ومن طريق ابن جريج أخرجه ابن حبان في صحيحه (5506). وأخرجه أحمد (2/ 55) حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال أخبرني عمر بن نافع، به. ومن طريق يحيى أخرجه مسلم (2120) قال: حدثني زهير بن حرب، حدثني يحيى -يعني ابن سعيد- عن عبيد الله، أخبرني عمر بن نافع به، بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع. قال: قلت لنافع: وما القزع؟ قال يحلق بعض رأس الصبي، ويترك بعض. وأخرجه النسائي في الصغرى (8/ 182،183)، والبيهقي في السنن (9/ 305) من طريق يحيى بن سعيد به. وأخرجه مسلم أيضاً (2120) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة ح وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي، قالا: حدثنا عبيد الله بهذا الإسناد، وجعل التفسير في حديث أبي أسامة من قول عبيد الله. وأخرجه البيهقي (9/ 305) من طريق شجاع بن الوليد، عن عبيد الله بن عمر به. واختلف على عبيد الله، فرواه عنه محمد بن بشر، وابن جريج، ويحيى بن سعيد، وأبو أسامة، وعبد الله بن نمير كما سبق، عن عبيد الله بن عمر، عن عمر بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر. وخالفهم سفيان، فرواه عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، فأسقط عمر بن نافع، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كما عند النسائي (5051) أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نهى رسول - صلى الله عليه وسلم - عن القزع. قال النسائي رحمه الله: حديث يحيى بن سعيد ومحمد بن بشر أولى بالصواب. وقال الحافظ في الفتح (10/ 364): " قد أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم، من طرق متعددة، عن عبيد الله بن عمر بإثبات عمر بن نافع، ورواه سفيان بن عيينة، ومعتمر بن سليمان، ومحمد بن عبيد، عن عبيد الله بن عمر، بإسقاطه، وكأنهم سلكوا الجادة؛ لأن عبيد الله بن عمر معروف بالرواية عن نافع، مكثر عنه، والعمدة على من زاد عمر بن نافع بينهما؛ لأنهم حفاظ، ولا سيما أن فيهم من سمع من نافع نفسه كابن جريج، والله أعلم. اهـ قلت: أيضاً مما يرجح زيادة عمر بن نافع أن جماعة غير عبيد الله، ذكروا نافعاً. الأول: رواية عثمان بن عثمان، عن عمر بن نافع، أخرجه أحمد (2/ 4) حدثنا عثمان بن عثمان - يعني الغطفاني - أخبرنا عمر بن نافع به. ومن طريق أحمد أخرجه أبو داود (4193). وأبو نعيم في الحلية (9/ 231). وأخرجه مسلم (2120) حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عثمان بن عثمان به. الثاني: روح بن القاسم. أخرجه مسلم (2120) حدثني أمية بن بسطام، حدثنا يزيد - يعني ابن زريع - حدثنا روح، عن عمر بن نافع به. ومن طريق روح أخرجه ابن حبان (5507) الثالث: ابن أبي الرجال، عن عمر بن نافع. أخرجه النسائي في الكبرى (9298) وفي الصغرى (8/ 130) من طريق ابن أبي الرجال، عن عمر بن نافع به، بلفظ: " نهاني الله عز وجل عن القزع " وهذا سند مقبول في المتابعات، إلا أن انفراده بهذا اللفظ يجعله منكراً ". الرابع: زهير، عن عمر بن نافع. أخرجه أحمد (2/ 137) حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا زهير، حدثنا عمر بن نافع، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر به. وفيه تفسير القزع. وإسناده صحيح. هذا فيما يتعلق بطريق عمر بن نافع، عن نافع. الطريق الثاني: أيوب، عن نافع. =

الدليل الثاني على الكراهة: الإجماع، فقد نقله أكثر من واحد. قال النووي: " أجمع العلماء على كراهية القزع إذا كان في مواضع متفرقة إلا أن يكون لمداواة ونحوها، وهي كراهة تنزيه (¬1). وكذا نقله الطيبي في شرح المشكاة (¬2). ¬

= وهذا الطريق سيأتي الكلام عليه عند الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم -: " احلقوه كله، أو اتركوه كله " مسألة حلق الرأس. الطريق الثالث: عبد الله بن عمر العمري، عن نافع. أخرجه أحمد (2/ 156) حدثنا حماد، قال: عبد الله: حدثنا نافع به. هذا بعض ما وقفت عليه من طرق حديث نافع، عن ابن عمر، وربما لو تقصيت لوقفت على أكثر من ذلك. وروى الحديث من طريق صفية بنت أبي عبيد، عن ابن عمر، وفيه عبد الله بن نافع، وهو ضعيف، أخرجه أحمد (2/ 106) حدثنا وكيع، حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن صفية ابنة أبي عبيد، قالت: رأى ابن عمر صبياً في رأسه قنازع، فقال: أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق الصبيان القزع. وذكر صفية في الحديث منكر، انفرد به عبد الله بن نافع، وليس بالقوي. (¬1) شرح النووي لصحيح مسلم (14/ 100). (¬2) شرح الطيبي (8/ 249، 250).

الفصل الثالث في الترجل وصفته

الفصل الثالث في الترجل وصفته يستحب الترجل في الشعر، وأما صفته، فقيل: يستحب أن يكون غباً. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3) وقيل: يرجله ما شاء، ولو في اليوم مرتين (¬4). الأدلة على ترجيل الشعر. الحديث الأول: (655 - 219) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام بن يوسف، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت ترجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي حائض، وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها يناولها رأسه (¬5). الحديث الثاني: (656 - 220) ما رواه البخاري، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا بن أبي ذئب، عن الزهري، ¬

(¬1) بريقة محمودية (4/ 202). (¬2) المجموع (1/ 344)، نهاية المحتاج (8/ 148). (¬3) كشاف القناع (1/ 74)، مطالب أولي النهى (1/ 86). (¬4) مختصر المنذري (6/ 86) والمنتقى - الباجي (7/ 269). (¬5) صحيح البخاري (2046)، وهو في مسلم بنحوه (316).

الحديث الثالث

عن سهل بن سعد، أن رجلا اطلع من جحر في دار النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - يحك رأسه بالمدري، فقال: لو علمت أنك تنظر لطعنت بها في عينك؛ إنما جعل الإذن من قبل الأبصار (¬1). وفي رواية لمسلم:" ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يرجل به رأسه" (¬2). الحديث الثالث: (657 - 221) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، ¬

(¬1) صحيح البخاري (5924)، ورواه مسلم (2156). (¬2) قال الحافظ ابن حجر: المدرى بكسر الميم، وسكون المهملة: عود تدخل المرأة في رأسها، لتضم بعض شعرها إلى بعض، وهو يشبه المسلة، يقال: مدرت المرأة رأسها: سرحت شعرها. وقيل: مشط له أسنان يسيرة. وقال الأصمعي وأبو عبيد: هو المشط. وقال الجوهري: أصل المدرى القرن، وكذلك المدراة، وقيل: هو عود أو حديدة كالخلال لها رأس محدد، وقيل: خشبة على شكل شيء من أسنان المشط، ولها ساعد، جرت عادة الكبير أن يحك بها ما لا تصل إليه يده من جسده، ويسرح بها الشعر الملبد من لا يحضره المشط. وقرأت بخط الحافظ اليعمري عن علماء الحجاز: المدري تطلق على نوعين: أحدهما صغير يتخذ من آبنوس أو عاج أو حديد يكون طول المسلة يتخذ لفرق الشعر فقط، وهو مستدير الرأس على هيئة نصل السيف بقبضة، وهذه صفته: ثانيهما: كبير، وهو عود مخروط من أبنوس أو غيره، وفي رأسه قطعة منحوتة في قدر الكف، ولها مثل الأصابع، أولاهن معوجة، مثل حلقة الإبهام المستعمل للتسريح، ويحك بها الرأس والجسد، وهذه صفته، قال الحافظ: اهـ ملخصاً.

دليل من قال الترجل غبا

عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله (¬1). فكل هذه الأحاديث تدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرجل شعره، وأنه كان يحرص على ذلك حتى وهو في معتكفه عليه الصلاة والسلام. دليل من قال الترجل غباً. الدليل الأول: (658 - 222) روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله، وأن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). الدليل الثاني: (659 - 223) ما رواه أحمد، قال: قال حدثنا يحيى، عن هشام قال: سمعت الحسن، عن عبد الله بن مغفل المزني، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الترجل ¬

(¬1) صحيح البخاري (168)، هذا لفظ البخاري، ورواه مسلم بنحوه، وانظر حديث 181 من كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية، فقد تكلمت على ألفاظه ومعانيه. (¬2) مسند أحمد (4/ 111). (¬3) وسبق الكلام عليه في باب المياه.

إلا غباً (¬1). [فيه هشام بن حسان، وروايته عن الحسن فيها كلام، وانفرد برفعه، وقد روي موقوفاً على الحسن، ومرسلاً، كما أن الحسن البصري قد عنعن، فمن كان يعد تدليس الحسن من قبيل الإرسال، فإنه متصل؛ لأن الحسن قد سمع من عبد الله بن مغفل، ومن كان يعده من قبيل التدليس فقد عنعن، وعلى كل حال فالحديث ضعيف الإسناد] (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (4/ 86). (¬2) الحديث له ثلاث علل، الأولى: تكلم في رواية هشام بن حسان عن الحسن البصري، فقال علي بن المديني: أما أحاديث هشام عن محمد - يعني ابن سيرين - فصحاح وحديثه عن الحسن عامتها يدور على حوشب. الجرح والتعديل (9/ 54). وقال ابن عيينة: أتى هشام بن حسان عظيماً بروايته عن الحسن، قيل لنعيم: لم؟ قال: لأنه كان صغيراً. المرجع السابق. وقال إسماعيل بن علية: كنا لانعد هشام بن حسان في الحسن شيئا. المرجع السابق. وقد قال عباد بن منصور وجرير بن حازم وعمرو بن عبيد لم نره عند الحسن قط. الضعفاء الكبير (4/ 334). وقال معاذ بن معاذ: كان شعبة يتقي حديث هشام عن الحسن وعطاء. تهذيب التهذيب (11/ 32). وقال أبو داود: إنما تكلموا في حديثه عن الحسن وعطاء؛ لأنه كان يرسل، وكانوا يرون أنه أخذ كتب حوشب. المرجع السابق. قلت: أخرج له البخاري ثلاثة أحاديث قد توبع عليها، فأخرج الشيخان له حديث عبد الرحمن بن سمرة: " لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ". وقد روياه من طريق جرير بن حازم ويونس بن عبيد، عن الحسن. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه البخاري من طريق عبد الله بن عون، ومنصور بن المعتمر، والربيع بن صبيح، وسماك بن حرب، عن الحسن. وأخرجه مسلم من طريق سماك بن عطية ومنصور بن زاذان وحميد بن أبي حميد، وقتادة بن دعامة، وسليمان بن طرخان، عن الحسن. الحديث الثاني: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار. رواه البخاري ومسلم، من طريق أيوب بن تميمة، عن الحسن. ورواه مسلم من طريق معلى بن زياد، ويونس بن عبيد، عن الحسن. الحديث الثالث: ما من عبد استرعاه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته الحديث. رواه الشيخان من طريق جعفر بن حيان، عن الحسن. ورواه مسلم من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن. وتابع عامر بن أسامة الحسن البصري، عن معقل بن يسار عند مسلم. هذه أحاديثه بالبخاري. وأما ما انفرد مسلم من أحاديثه، فروى له حديث: إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون ... الحديث. رواه مسلم أيضاً من طريق قتادة بن دعامة، ومعلى بن زياد، عن الحسن. وروى له مسلم أيضاً: حديث لا تحلفوا بالطواغي، ولا بآبائكم. ولم أقف له على متابع، لا في الصحيح، ولا في غيره، ولكن النهي عن الحلف بالآباء له شواهد كثيرة، منها حديث ابن عمر في الصحيحين، ومنها حديث أبي هريرة في غيرهما، وهو حديث صحيح. وعلى هذا لا يمكن أن نحتج بتخريج حديث هشام، عن الحسن في الصحيحين، لأن الشيخين قد حرصا على أن لا يخرجا له حديثاً إلا حديثاً له متابع في الصحيح، أو قد صح من حديث آخر، والله أعلم. هذا فيما يتعلق بالعلة الأولى. العلة الثانية: عنعنة الحسن البصري، وهو مدلس، لكني سمعت من يقول: إن عنعنة الحسن البصري من قبيل الإرسال، والعلماء قد يطلقون التدليس على الإرسال، فإن كان ذلك كذلك، لم تعتبر العنعة علة؛ لأن الحسن قد سمع من عبد الله بن مغفل. العلة الثالثة: الاختلاف في وصله وإرساله. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقد رواه يونس بن عبيد، موقوفاً على الحسن البصري ومحمد بن سيرين، من قولهما. ويونس بن عبيد في الحسن أرجح من هشام بن حسان، فقد أخرجه النسائي في السنن الكبرى (9317)، والصغرى (5057) قال: أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن يونس بن عبيد، عن الحسن ومحمد قالا: الترجل غب ورواه قتادة بن دعامة وأبو خزيمة، عن الحسن مرسلاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقد رواه ابن أبي شيبة (5/ 231) حدثنا وكيع، عن أبي خزيمة، عن الحسن قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الترجل إلا غباً. ورواه أيضاً (5/ 231) حدثنا ابن نمير، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الترجل إلا غباً. ورواه النسائي (5056) أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الترجل إلا غباً. ولهذا الاختلاف حكم الشوكاني عليه بالاضطراب كما في نيل الأوطار (1/ 152). [تخريج الحديث] الحديث أخرجه أبو داود (4159) حدثنا مسدد، ثنا يحيى، عن هشام بن حسان به. وأخرجه الترمذي (1756)، قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد به. وأخرجه ابن حبان (5484)، قال: أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان، قال: حدثنا سهل بن صالح قال: حدثنا يحيى بن القطان به. ومن طريق يحيى بن سعيد القطان أخرجه الترمذي في الشمائل (34)، والحربي في غريب الحديث (ص: 415)، والبغوي في شرح السنة (3165). وأخرجه الترمذي (1756) قال: حدثنا علي بن خشرم، أخبرنا عيسى بن يونس، عن هشام به. وأخرجه النسائي (5055)، قال: أخبرنا علي بن حجر قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن هشام به. وأخرجه الطبراني في الأوسط (2436) قال: حدثنا أبو مسلم قال حدثنا محمد قال حدثنا هشام بن حسان به. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (660 - 224) ما أخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير، قال: حدثناه إبراهيم بن محمد، حدثنا محمد بن موسى الجريري، حدثنا ابن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الترجل إلا غباً (¬1). الدليل الرابع: (661 - 225) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا إسمعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد بن الحارث، عن كهمس، عن عبد الله بن شقيق، قال: كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملاً بمصر، فأتاه رجل من أصحابه، فإذا هو شعث الرأس مشعان، قال: ما لي أراك مشعانا، وأنت أمير؟ قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن الإرفاه، قلنا: وما الإرفاه؟ قال: الترجل كل يوم (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

= وأخرجه الطبراني في الأوسط (7557) قال: حدثنا محمد بن عاصم، ثنا حماد بن الحسن بن عنبسة الوراق، نا حبان بن هلال، ثنا مجاعة بن الزبير، عن الحسن، عن عبد الله ابن مغفل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يترجل الرجل إلا غباً أربعاً، أو خمساً. (¬1) ضعفاء العقيلي (4/ 137)، وقال عن محمد بن موسى: لا يتابع عليه، ثم قال: وقد روى هذا من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا. (¬2) سنن النسائي (5058). (¬3) رجاله ثقات، والصحابي العامل بمصر هو فضالة بن عبيد، كما عند أحمد (6/ 22) قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرني الجريري، عن عبد الله بن بريدة، أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رحل إلى فضالة بن عبيد، وهو بمصر، فقدم عليه وهو يمد ناقة له، فقال: إني لم آتك زائراً، إنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجوت أن يكون =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عندك منه علم، فرآه شعثاً، فقال: ما لي أراك شعثا، وأنت أمير البلد؟ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، ورآه حافيا، فقال: ما لي أراك حافياً؟ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نحتفي أحيانا. وهذا إسناد صحيح، والجريري، هو سعيد بن إياس، كان قد تغير قبل موته، قال أحمد: سألت ابن عليه عن الجريري كان اختلط؟ قال: لا، كبر الشيخ فرق. الجرح والتعديل (4/ 1). وفي التقريب: ثقة من الخامسة، اختلط قبل موته بثلاث سنين. والراوي عنه يزيد بن هارون، وقد سمع منه بعد تغيره، قال يزيد: سمعت منه سنة 142، وهي أول سنة دخلت البصرة، ولم ننكر منه شيئاً، وكان قيل لنا: إنه اختلط. تهذيب التهذيب (4/ 6). وهذا يدل على أن وقت سماع يزيد بن هارون كان اختلاطه يسيراً، وقد أخرج مسلم حديث سعيد بن إياس، من طريق يزيد بن هارون، لكنه قد توبع، وعلى كل فقد روى هذا الحديث عنه إسماعيل بن عليه، وهو ممن روى عنه قبل اختلاطه، انظر الكواكب النيرات (ص: 43)، فيكون الحديث صحيحاً. والحديث أخرجه الدارمي (571) أخبرنا يزيد بن هارون به، وأخرجه أبو داود (4160) حدثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد المازني به. والمازني هو ابن هارون. وأخرجه النسائي في الكبرى (9319) والصغرى (5239) أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن عبد الله بن بريدة، أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له عبيد، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن كثير من الإرفاه. وسئل ابن بريدة عن الإرفاه، قال: منه الترجل. الإرفاه: قال في النهاية: كثرة التدهن والتنعم. وقيل: التوسع في المشرب والمطعم، أراد ترك التنعم والدعة ولين العيش؛ لأنه من زي العجم، وأرباب الدنيا. قال بعض العلماء الأفاضل: " والحديث يرد ذلك التفسير، ولهذا قال أبو الحسن السندي: في حاشيته على النسائي: " وتفسير الصحابي يغني عما ذكروا، فهو أعلم بالمراد". =

دليل من قال له أن يترجل ما شاء

دليل من قال له أن يترجل ما شاء. الدليل الأول: (662 - 226) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا عمرو بن علي، قال حدثنا عمر بن علي بن مقدم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن أبي قتادة قال: كانت له جمة ضخمة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يحسن إليها، وأن يترجل كل يوم (¬1). [ضعيف سنداً ومتناً، والمعروف أنه مرسل] (¬2). ¬

= وترجيحه هذا حمله عليه تعظيمه لتفسير السلف على الخلف وفقه الله، ولكن عندي أن التفسير من التفسير بالمثال، ولذلك قال عبد الله بن بريدة في رواية النسائي: " منه الترجل " وكلمة (منه) للتبعيض، ولا شك أن دخول ما ذكره السلف في الإرفاه يكون أولى من غيره، لكن مدلول الكلمة أعم من مثال واحد، والله أعلم. (¬1) سنن النسائي (5237). (¬2) ورواه مالك في الموطأ (2/ 949) عن يحيى بن سعيد، أن أبا قتادة الأنصاري قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لي جمة أفأرجلها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم وأكرمها، فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين لما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأكرمها. الحديث له أكثر من علة، وفيه اختلاف في إسناده ومتنه، ومنها: أولاً: الانقطاع، فمحمد بن المنكدر لم يسمع من أبي قتادة، قال الحافظ: قال البخاري، عن هارون بن محمد الفروي: مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقال ابن المديني، عن أبيه، بلغ ستا وسبعين سنة، قال الحافظ: فيكون روايته عن عائشة وأبي هريرة وعن أبي أيوب الأنصاري وأبي قتادة وسفينة ونحوهم مرسلة. تهذيب التهذيب (9/ 417). وبهذا التحقيق من الحافظ يتبين أن ابن عبد البر رحمه الله تعالى لم يصب حين قال في التمهيد (24/ 9): لا أعلم بين رواة الموطأ اختلاف في إسناد هذا الحديث، وهو عند جميعهم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = هكذا مرسل منقطع، وقد روي عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن أبي قتادة وهذا لا يدفع أن يكون مسنداً، ولا ينكر سماع ابن المنكدر من أبي قتادة والله أعلم. العلة الثانية: أنه اختلف في وصله وإرساله، فرواه عمر بن علي بن مقدم، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المنكدر، عن أبي قتادة، موصولاً. وخالفه حماد بن زيد، فرواه مرسلاً، كما عند البيهقي في شعب الإيمان (5/ 225) رقم 6458، قال: أخبرنا أبو الحسن المقرئ، أنا الحسن بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا حماد بن زيد، ثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، أن أبا قتادة اتخذ شعراً، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أكرمه أكرمه، أو افعل به، قال: فكان يترجل كل يوم. كذا قال. اهـ وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، إلا أنه مرسل. أبو الحسن المقري: هو الإمام الحافظ الناقد، علي بن محمد بن علي السقاء الإسفراييني من أولاد أئمة الحديث سمع الكتب الكبار، وأملى وصنف، انظر سير أعلام النبلاء (17/ 305). الحسن بن محمد بن إسحاق ثقة، انظر السير (15/ 535) (16/ 50). يوسف بن يعقوب، هو أبو محمد البصري، من أحفاد حماد بن زيد، ثقة، انظر السير (14/ 85) تاريخ بغداد (4/ 310). محمد بن أبي المقدمي، ثقة، من رجال الشيخين. وبقية رجاله ثقات مشهورون. وتابع سفيان حماداً عند البيهقي في الشعب، فرواه عن محمد بن المنكدر مرسلاً، ورجاله ثقات، وسيأتي ذكره قريباً عند ذكر الاختلاف في المتن. ورواه البيهقي أيضاً (5/ 225) من طريق إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المنكدر، عن جابر موصولاً، ورواه أيضاً عن إسماعيل بن عياش، عن هشام بن عروة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، وهذان الاسنادان ضعيفان، إسماعيل بن عياش روايته عن غير أهل بلده فيها تخليط، وهذان منها. قال البيهقي: إرساله أصح، ووصله ضعيف. هذا من ناحية الاختلاف في سنده. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (663 - 227) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، حدثني ابن أبي الزناد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان له شعر فليكرمه (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬

= العلة الثالثة: الاختلاف في متنه، فقد روي كما سبق أنه كان يرجله كل يوم مرة أو مرتين، وروى أنه كان يرجله يوماً بعد يوم، فقد رواه البيقهي مرسلا في شعب الإيمان (5/ 225) قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، أنا أبو القاسم الطبراني، ثنا معاذ هو ابن المثنى، ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، قال: كان لأبي قتادة شعر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحسن إليه، فكان يدهنه يوماً ويدعه يوماً. اهـ وهذا يوافق حديث النهي عن الترجل إلا غباً، ورجاله ثقات إلا أنه مرسل، وهو المعروف في هذا الحديث. وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف في موضعين منه (6/ 198) قال: حدثنا ابن إدريس، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، قال: مازح النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا قتادة، فقال: لأجزن جمتك، فقال له: ولك مكانها أسر، فقال له بعد ذلك: أكرمها فكان يتخذ لها السُّد. ورجاله ثقات إلا أنه مرسل. ورواه في موضع سابق (5/ 187) بنفس الإسناد إلا أنه قال: عن يحيى بن عبد الله، عن أبي قتادة، والأول أصح. (¬1) سنن أبي داود (4163). (¬2) رجاله كلهم ثقات إلا عبد الرحمن بن أبي الزناد، قال ابن المديني: ما حدث بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون ورأيت عبد الرحمن بن مهدي يخط على أحاديثه، وكان يقول في حديثه عن مشيختهم فلان وفلان وفلان، قال: ولقنه البغداديون عن فقهائهم. تهذيب التهذيب (6/ 155). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن المديني: كان عند أصحابنا ضعيفاً. تاريخ بغداد (10/ 228). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (367). وقال ابن عدي: وبعض ما يرويه لا يتابع عليه، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (4/ 274). وقال عمرو بن على: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن عبد الرحمن بن أبى الزناد. الضعفاء الكبير (2/ 340). وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبى عن ابن أبى الزناد، فقال: كذا وكذا - يعنى ضعيف - المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان ممن ينفرد بالمقلوبات عن الأثبات، وكان ذلك من سوء حفظه وكثرة خطئه، فلا يجوزالاحتجاج بخبره إذا انفرد، فأما فيما وافق الثقات فهو صادق في الروايات يحتج به. المجروحين (2/ 56). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث وكان يضعف لروايته عن أبيه. الطبقات الكبرى (7/ 324). وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، وفي حديثه ضعف. تهذيب التهذيب (6/ 155). ولخص حاله الذهبي، فقال: من أوعية العلم، لكنه ليس بالثبت جداً مع أنه حجة في هشام بن عروة. تذكرة الحفاظ (1/ 247). وفي التقريب: صدوق، تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً من السابعة، ولي خراج المدينة فحمد. وقد توبع ابن أبي الزناد، فقد رواه أبو نعيم في كتابه " تسمية ما انتهى إلينا من الرواة (2/ 58) رقم 22 قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا ابن أبي ذئب، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان له شعر فليكرمه. وهذا سند صحيح. تخريج الحديث: الحديث أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3365) حدثنا محمد بن الورد البغدادي، قال: حدثنا داود بن عمرو الضبي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد به. =

(664 - 228) ما رواه أحمد، قال: حدثنا مسكين بن بكير، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرا في منزلنا فرأى رجلا شعثا فقال أما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه ورأى رجلا عليه ثياب وسخة فقال أما كان يجد هذا ما يغسل به ثيابه (¬1). ¬

= وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 224) رقم 6455 والطبراني في الأوسط (8/ 299) رقم 8485 من طريق سعيد بن منصور وداود بن عمر، عن ابن أبي الزناد به. وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (24/ 10) من طريق سحنون، حدثنا ابن وهب به. وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/ 368). وللحديث شواهد منها: الأول: حديث عائشة. رواه الطحاوي في مشكل الآثار (3360) حدثنا ابن أبي داود، حدثنا عياش بن الوليد الرقام، قال: حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن عمارة بن غزية، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان لأحدكم شعر فليكرمه. ورواه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 224) رقم 6456 أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد، ثنا ابن أبي قماش، عن عياش الرقام به. وسنده حسن في الشواهد، فيه ابن إسحاق، وقد عنعن، وباقي رجاله ثقات. وحسن الحافظ إسناده في الفتح (10/ 368). الشاهد الثاني: حديث ابن عباس. رواه الخطيب في الموضح (2/ 67) عن سليمان بن أرقم، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. وفيه سليمان بن أرقم. (¬1) مسند أحمد (3/ 357).

[إسناده حسن والحديث صحيح] (¬1). ¬

(¬1) رجاله ثقات إلا مسكين بن بكير، قال ابن معين: لا بأس به. الجرح والتعديل (8/ 329) وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى عن مسكين بن بكير، فقال: لا بأس به كان صحيح الحديث يحفظ الحديث. المرجع السابق. قال الحافظ: قال أبو أحمد الحاكم: له مناكير كثيرة، كذا نقلته من خط الذهبي، والذي في الكنى لأبي أحمد، كان كثير الوهم والخطأ. تهذيب التهذيب (10/ 109). قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: لا بأس به، ولكن في حديثه خطأ. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (9/ 194). وفي التقريب: صدوق يخطىء، وكان صاحب حديث. قلت: وجدت في أطراف المسند بدلاً من مسكين بن بكير، محمد بن كثير، وهو من شيوخ أحمد، وأشار المحقق إلى أن اسمه كتب مقطعاً في نسخة (م) هكذا (ك ث ي ر) خشية التصحيف، وكتب في حاشية (هـ) وفي نسخة من المسند (مسكين بن بكير)، ومحمد بن كثير ثقة. فالحديث إن كان في إسناده مسكين بن بكير فهو إسناد حسن إن شاء الله تعالى، وقد توبع، تابعه وكيع وغيره كما سيأتي في تخريجه، فالحديث صحيح. [تخريج الحديث] الحديث رواه أبو يعلى في مسنده (2026) حدثنا إسحاق وزهير، قالا: حدثنا وكيع، عن الأوزاعي به. وأخرجه ابو داود (2062) قال: حدثنا النفيلي، ثنا مسكين، عن الأوزاعي ح، وثنا عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن الأوزاعي به. وأخرجه النسائي في الكبرى (9312) وفي الصغرى (5236) أخبرنا علي بن خشرم، قال: أنا عيسى، عن الأوزاعي به. وأخرجه ابن حبان كما في الموارد (1438) من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني حسان بن عطية به. =

جاء في عون المعبود: من كان له شعر فليكرمه: أي فليزينه ولينظفه بالغسل والتدهين والترجيل، ولا يتركه متفرقاً؛ فإن النظافة وحسن المنظر محبوب. قال المنذري: يعارضه ظاهر حديث الترجل إلا غباً، وحديث البذاذة على تقدير صحتهما، فجمع بينهما بأنه يحتمل أن يكون النهي عن الترجل إلا غباً محمولا على من يتأذى بإدمان ذلك لمرض، أو شدة برد، فنهاه عن تكلف ما يضره. ويحتمل أنه نهى عن أن يعتقد أن ما كان يفعله أبو قتادة من دهنه مرتين أنه لازم، فأعلمه أن السنة من ذلك الإغباب به لا سيما لمن يمنعه ذلك من تصرفه وشغله، وأن ما زاد على ذلك ليس بلازم، وإنما يعتقد أنه مباح من شاء فعله ومن شاء تركه، انتهى كلام المنذري قال ابن القيم في تهذيب السنن: وهذا لا نحتاج إليه، والصواب أنه لا تعارض بينهما بحال؛ فإن العبد مأمور بإكرام شعره، ومنهى عن المبالغة والزيادة في الرفاهية والتنعم، فيكرم شعره ولا يتخذ الرفاهية والتنعم ديدنه بل يترجل غباً (¬1). ¬

= وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 206) من طريق بشر بن بكر، ثنا الأوزاعي به. وأخرجه البغوي في شرح السنة (3119) من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزعي به. (¬1) عون المعبود (11/ 147).

الباب الثامن في غسل البراجم

الباب الثامن في غسل البراجم تعريف البراجم: البراجم لغة: جمع برجمة، وهي المفاصل والعقد التي تكون في ظهور الأصابع، ويجتمع فيها الوسخ (¬1). وقال بعضهم: ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ. وأما حكم غسل البراجم، فهو مستحب، وحكي الاتفاق على استحبابه (¬2). قال النووي: وهي سنة مستقلة، ليست مختصة في الوضوء (¬3). وقيل: المراد تنظيفها بالوضوء (¬4). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 50)، حاشية ابن عابدين (5/ 258)، مواهب الجليل (1/ 196)، أسنى المطالب (1/ 155)، المجموع (1/ 337،338). وقال في المصباح المنير (ص: 42): " والبراجم: رؤوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض الشخص كفه نشزت وارتفعت. وقال في الكفاية: البراجم رؤوس السلاميات، والرواجم: بطونها وظهورها الواحدة برجمة. مثل بندقة. (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 341): " وأما غسل البراجم فمتفق على استحبابه ". (¬3) المجموع (1/ 341). (¬4) طرح التثريب (2/ 84)، وقال السندي في حاشيته على النسائي (8/ 127): " وغسل البراجم تنظيف المواضع التي يجتمع فيها الوسخ والمراد الاعتناء بها في الاغتسال". اهـ.

الدليل على استحباب غسل البراجم

الدليل على استحباب غسل البراجم. (632 - 196) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع، عن زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء (¬1). وسبق الحكم عليه، وأن الراجح فيه وقفه على طلق (¬2). الدليل الثاني: (633 - 197) رواه أحمد، قال: ثنا عفان، ثنا: حماد، ثنا علي بن زيد، عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من الفطرة - أو الفطرة - المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وتقليم الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط والاستحداد والاختتان والانتضاح. [ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) مسلم (261). (¬2) انظره في كتاب السواك. (¬3) المسند (4/ 264) وسيأتي تخريجه في كتاب السواك.

الدليل الثالث: (634 - 198) ما رواه أحمد، قال: ثنا أبو اليمان، ثنا إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي، عن أبي بن كعب مولى بن عباس، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له: يا رسول الله لقد أبطأ عنك جبريل عليه السلام؟ فقال: ولم لا يبطئ عنى، وأنتم حولي لا تستنون، ولا تقلمون أظافركم ولا تقصون شواربكم ولا تنقون رواجبكم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (1/ 243)، والراوجب قال الحافظ في الفتح: الرواجب جمع راجبة بجيم موحدة. قال أبو عبيد: البراجم والرواجب مفاصل الأصابع كلها. وقال ابن سيده: البرجمة المفصل الباطن عند بعضهم، والرواجب بواطن مفاصل أصول الأصابع. وقيل: قصب الأصابع. وقيل: هي ظهور السلاميات. وقيل: ما بين البراجم من السلامات. وقال ابن الأعرابي: الراجبة البقعة الملساء التي بين البراجم، والبراجم المسبحات من مفاصل الأصابع، وفي كل إصبع ثلاث برجمات إلا الإبهام فلها برجمتان. وقال الجوهري: الرواجب مفاصل الأصابع اللاتي تلي الأنامل، ثم البراجم، ثم الأشاجع اللاتي على الكف، وقال أيضا: الرواجب رؤوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض القابض كفه نشزت وارتفعت، والأشاجع أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف، واحدها أشجع. وقيل: هي عروق ظاهر الكف. اهـ نقلاً من الفتح (10/ 338). (¬2) دراسة الإسناد: - الحكم بن نافع. من رجال الجماعة، ثقة ثبت، وهو كاتب إسماعيل بن عياش، كما =

الدليل الرابع: قال الحافظ: وللترمذي الحكيم من حديث عبد الله بن بشر رفعه: قصوا أظفاركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقوا براجمكم. وفي سنده راو مجهول (¬1). وظاهر الأحاديث أن غسل البراجم غير مختص بالوضوء، فتغسل في الوضوء وفي الغسل وفي التنظيف. ¬

= كان يسمى عبد الله بن صالح كاتب الليث. - إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، وثعلبة بن مسلم شامي، فرواية إسماعيل عنه حسنة. - ثعلبة بن مسلم. ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/ 464). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 157)، ولم يوثقه أحد غيره. وفي التقريب: مستور. - أبو كعب مولى ابن عباس: قال أبو زرعة: لا يسمى ولا يعرف إلا في هذا الحديث. تعجيل المنفعة (1384). وقال الحافظ: فيه جهالة. المرجع السابق. والحديث أخرجه الطبراني في الشاميين (1525) حدثنا أبو زرعة الدمشقي، ثنا أبو اليمان به. وأخرجه أيضاً في المعجم الكبير (11/ 431) رقم 12224 قال: حدثنا أبو عامر النحوي محمد بن إبراهيم الصوري، ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا إسماعيل بن عياش به. وقال الهيثمي في المجمع (5/ 167) رواه أحمد والطبراني، وفيه أبو كعب مولى ابن عباس، قال أبو حاتم: لا يعرف إلا في هذا الحديث. اهـ. (¬1) فتح الباري (10/ 338).

وأما دليل من استدل على كون غسل البراجم في الوضوء، (635 - 199) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا الحسين بن حسن بن سفيان الفارسي ببخارى، أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله، حدثنا أبو خالد إبراهيم بن سالم، حدثنا عبد الله بن عمران، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق الرجل عانته كل أربعين يوماً، وأن ينتف إبطه كلما طلع، ولا يدع شاربيه يطولان، وأن يقلم أظفاره من الجمعة إلى الجمعة، وأن يتعاهد البراجم إذا توضأ؛ فإن الوسخ إليها سريع، واعلم أن لنفسك عليك حقاً، وأن لرأسك عليك حقاً، وأن لجسدك عليك حقاً، وأن لزوجك عليك حقاً، وأما النساء فليس ينبغي إلا أن يتعاهدن أنفسهن ولأزواجهن، وأن الله عز وجل جميل يحب الجمال وأن لكم حفظة يحبون الريح الطيب كما تحبونها، ويكرهون الريح المنتنة كما تكرهونها (¬1). [إسناده ضعيف، ومتنه منكر] (¬2). خلصت من البحث أن غسل البراجم ليس فيه حديث صحيح، وأصح ما ورد فيه حديث عائشة عند مسلم، وقد أعله الإمام أحمد والنسائي ¬

(¬1) الكامل (1/ 261). (¬2) فيه إبراهيم بن سالم بن خالد، وعبد الله بن عمران. قال ابن عدي: إبراهيم بن سالم بن خالد نيسابوري يروي عن عبد الله بن عمران بأحاديث مسنده عداد مناكير، وعبد الله بن عمران بصري لا أعرف له عند البصريين الا حديثاً واحداً يحدثه عنه نوح بن قيس. الكامل (1/ 261). وقال الحافظ: هذا حديث منكر، وسئل أبو حاتم عن عبد الله بن عمران، فقال: شيخ. اللسان (1/ 62).

وغيرهما. ومع ذلك فنحن مأمورن بالنظافة، وديننا دين الطهارة، وإذا كان هناك وسخ في البراجم كان المسلم مأموراً بالنظافة في أحاديث أخرى، وإذا كان الوسخ يسيراً لا يمنع وصول الماء صحت الطهارة، وإذا كان مانعاً من وصول الماء، فهل يعفى عنه؟ أو لا يصح الوضوء معه، فإن كان كثيراً عرفاً لم تصح الطهارة، وإلا صحت. والله أعلم.

كتاب السواك

كتاب السواك مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آلة وصحبه أجمعين. أما بعد فإن دين الإسلام دين الطهارة والنظافة، والطهور من الإسلام شطر الإيمان، (665 - 1) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن زيدا حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها (¬1). والعناية بالسواك، هي عناية بنظافة جزء من البدن، ولقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالعناية بالبدن، كالعناية بالشعر، والأظفار، والإبط، وشعر العانة، والاغتسال للجمعة، ومن الجنابة، ونحوها، وقد تعرضنا لأكثرها في بحث سنن الفطرة. ¬

(¬1) صحيح مسلم (223).

ولقد كان اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السواك اهتماماً عظيماً في سائر أحواله من ليل أو نهار، حتى أنه كان يرأى في منامه أنه يتسوك، كما في صحيح البخاري، وسوف يأتي تخريجه في ثنايا البحث، ويكفي أن السواك كان آخر فعل فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته، فقد رَغِبَ في السواك، وهو في سكرات الموت - صلى الله عليه وسلم -، كما في صحيح البخاري، وسوف يأتي تخريجه إن شاء الله. ويكفي أن تعرف أن الإسلام جعل تطهير الفم -وهي منفعة دنيوية خالصة- سبباً في مرضاة الله سبحانه وتعالى، فهل بعد هذا الترغيب في النظافة من ترغيب؟ وما اجتهد المجتهدون، وما تقرب الصالحون، بشيء إلا طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، ونيل رضاه. وجاء في حديث عائشة عند مسلم ذكر السواك من سنن الفطرة، وهو كذلك من سنن الوضوء، ويتعلق به عبادات مختلفة في أوقات مختلفة، ولكثرة أحكامه أفردته في خطة مستقلة حتى نستوفي أكثر أبوابه، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

التمهيد

التمهيد ويشتمل على خمسة مباحث المبحث الأول: في تعريف السواك. المبحث الثاني: في فضل السواك. المبحث الثالث: بيان أن السواك من سنن الفطرة. المبحث الرابع: ما ورد في كون الصلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك. المبحث الخامس: هل السواك في شريعة من قبلنا.

المبحث الأول تعريف السواك

المبحث الأول تعريف السواك تعريف السواك. جاء في اللسان: " سوك السَّوْكُ فِعْلُك بالسِّواك المِسْواكِ. ساك الشيءَ سَوْكاً: دَلَكه. ساك فَمَه بالعُود يَسُوكه سَوْكاً. قال عدِيُّ بن الرِّقاع: وكأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبيلِ وَلَذَّةً ... صَهْباءَ ساكَ بها المُسَحِّرُ فاها سَاكَ سَوَّكَ واحدٌ والمُسَحِّرُ الذي يَأْتيها بسَحُورها اسْتاكَ: مشتق من ساكَ. وإِذا قلت: اسْتاك أَو تَسَوَّك فلا تذكر الفَم. واسمُ العُود المِسْواكُ يذكر ويؤَنث. وقيل: السِّواك تؤَنثه العرب. وفي الحديث " السِّواكُ مَطْهَرَة ... " للفم بالكسر أَي يُطَهِّرُ الفمَ. قال أَبو منصور: ما سمعت أَن السواك يؤَنث، قال: وهو عندي من غُدَدِ الليث، السواك مذكر، وقوله مَطْهَرة كقولهم: " الولدُ مَجْبَنة مَجْهَلَة مَبْخَلة " وقوله الكفر مَخْبَثَة قال: السِّواك ما يُدْلَكُ به الفَمُ من العيدان السِّواكُ كالمِسْواك والجمع سُوُكٌ. وأَخرجه الشاعر على الأَصل فقال عبد الرحمن بن حسان: أَغَرُّ الثَّنايا أَحَمُّ اللِّثا ... تِ تَمْنَحُه سُوُك الإِسْحِلِ

وقال أَبو حنيفة: ربما همز فقيل سُؤُك. وقال أَبو زيد: يجمع السِّواكَ سُوُكٌ على فُعُلٍ مثل كتاب وكتب. وسَوَّك فاه تَسْويكاً. السِّواكُ: التَّسَاوُكُ السير الضعيف. وقيل: رَداءة المشيء من إِبطاء أَو عَجَفٍ قال عبيد اللَّه بن الحُرِّ الجُعْفِي: إِلى اللَّه أَشْكُو ما أَرَى بجيادِنا ... تَسَاوَكُ هَزْلَى مُخُّهُنَّ قلِيلُ. قال الأَزهري: تقول العرب: جاءَت الغنم هَزْلَى تَساوَكُ: أَي تَتمايل من الهزال والضعف في مشيها. قال: وهكذا رواه ابن جَبَلة عن أَبي عبيد، وفي حديث أُم معبد أَن النبي لما ارتحل عنها جاء زوجها أَبو معبد يَسُوق أَعْنُزاً عِجافاً ما تَساوَكُ هُزالاً. اهـ ويقال تَساوكَت الإِبل: إِذا اضطربت أَعناقها من الهُزال ; أَراد أَنها تتمايل من ضعفها السواك اصطلاحاً: لا يخرج السواك في الاصطلاح، عن معناه اللغوي. قال النووي: وهو في اصطلاح الفقهاء استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإذهاب التغير ونحوه والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) المجموع (1/ 326).

المبحث الثاني في فضل السواك

المبحث الثاني في فضل السواك ورد في فضل السواك أحاديث كثيرة، نذكر منها: الدليل الأول: (666 - 2) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا عبد الرحمن بن أبي عتيق، عن أبيه، أنه سمع عائشة تحدثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. [إسناده حسن إن شاء الله] (¬1). ¬

(¬1) في الإسناد: عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عتيق. ذكره البخاري في التاريخ الكبير، وسكت عليه. (5/ 302). وقال أحمد بن حنبل: لا أعلم إلا خيراً. الجرح والتعديل (5/ 255)، ثقات ابن شاهين (809)، تهذيب الكمال (17/ 227)، تهذيب التهذيب (6/ 192). وقال الأزدي: كان صاحب نوادر وسمر، ليس من أهل الحديث. المرجع السابق. قال الحافظ: كذا قال، والموصوف بالنوادر والده عبد الله بن أبي عتيق. وقال ابن حبان: كان ثبتاً إلا أنه ربما وهم في الأحايين. مشاهير علماء الأمصار. (1/ 144). وذكر ابن حبان أيضاً في الثقات (7/ 65). وقال الذهبي: وثق. الكاشف (3404). وفي التقريب: مقبول. وفي هذا تليين لحديثه إذا انفرد، مع أنه أكبر من ذلك فحديثه حسن إن شاء الله مع كلام الإمام أحمد، وتوثيق ابن حبان وابن شاهين له. وأما والده عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. ذكره ابن حبان في الثقات. (5/ 41). وقال العجلي: مدني ثقة. ثقات العجلي (2/ 57). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (5/ 154). وقال مصعب الزبيري: كان امرؤاً. تهذيب التهذيب (6/ 10). وفي التقريب: صدوق فيه مزاح. اهـ روى له البخاري ومسلم وغيرهما. وقد تجنبت عمداً ما يروى من مزاحه. فالإسناد حسن إن شاء الله. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه النسائي (5) أخبرنا حميد بن مسعدة ومحمد بن عبد الأعلى، عن يزيد بن زريع به. وأخرجه النسائي في الكبرى (1/ 64) بالإسناد نفسه. وأخرجه ابن حبان (1607) من طريق روح بن عبد المؤمن المقرئ، حدثنا يزيد بن زريع به. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 34) من طريق محمد بن أبي بكر، ثنا يزيد بن زريع به. وتابع ابن زريع الدراوردي عند أبي يعلى (8/ 315) ح 4916، قال: حدثنا عبد الأعلى، حدثنا الدراوردي عبد العزيز بن محمد، عن ابن أبي عتيق، عن أبيه به. وأخرجه الطبراني في الأوسط (278) من طريق سعيد بن أبي أيوب، عن محمد بن عبد الله بن أبي عتيق، عن أبيه، عن عائشة. وقوله: محمد خطأ، والصواب: عبد الرحمن. واختلف على عبد الرحمن بن أبي عتيق. فقيل: عنه، عن أبيه، عن عائشة، كما في رواية الباب. وقيل: عنه عن القاسم بن محمد عن عائشة. وقيل: عنه، عن أبيه، عن أبي بكر الصديق. أما روايته عن أبيه، عن عائشة فقد خرجتها كما سبق. وأما روايته عن القاسم، عن عائشة، فأخرجها البيهقي (1/ 34) حدثنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الربيع بن سليمان، ثنا عبد الله بن وهب، عن سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عتيق، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. وهذا إسناد صحيح إلى عبد الرحمن بن أبي عتيق. فشيخ البيهقي هو الإمام الحافظ الحاكم صاحب المستدرك، غني عن التعريف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وشيخه أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ثقة. انظر سير أعلام النبلاء (15/ 452)، وتذكرة الحفاظ (3/ 860). والربيع بن سليمان هو المؤذن. ذكره ابن حبان في الثقات (8/ 240). وقال ابن أبي حاتم: سمعنا منه، وهو صدوق ثقة، سئل أبي عنه، فقال: صدوق. الجرح والتعديل (3/ 464). وقال النسائي: لا بأس به. تهذيب التهذيب (3/ 213). وقال ابن يونس: كان ثقة. المرجع السابق. وقال الخطيب: كان ثقة. تهذيب الكمال (9/ 87). وقال مسلمة: كان من كبار أصحاب الشافعي، وكان يوصف بغفلة شديدة، وهو ثقة. تهذيب التهذيب (3/ 213). وتعقب ذلك التاج السبكي، فقال: إلا أنها لم تنته به إلى التوقف في قبول روايته، بل هو ثقة ثبت خرج له إمام الأئمة ابن خزيمة في صحيحه، وكذلك ابن حبان والحاكم. انظر حاشية تهذيب الكمال (9/ 89). وعبد الله بن وهب، وسليمان بن بلال ثقتان من رجال الجماعة، وباقي الإسناد سبقت ترجمته. فعلى هذا يكون الإسناد إلى عبد الرحمن بن أبي عتيق إسناداً صحيحاً. فالذي يظهر لي أن عبد الرحمن قد سمعه من أبيه، ومن القاسم؛ لأنه قد توبع في كل منهما. فأما في الرواية عن أبيه فقد تابعه محمد بن إسحاق، رواه الشافعي في مسنده (ص:14) أخبرنا ابن عيينة، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي عتيق، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال السواك: مطهرة للفم مرضاة للرب. وأخرجه الحميدي (162) ثنا سفيان به. وأخرجه أحمد (6/ 47) ثنا إسماعيل، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن عائشة به. وهنا صرح ابن إسحاق بالتحديث. وأخرجه أحمد أيضاً (6/ 238) ثنا يزيد، ثنا محمد بن إسحاق به. وأخرجه أحمد أيضاً (6/ 62) ثنا عبدة بن سليمان الكلابي، ثنا محمد بن إسحاق به. وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (2/ 533) ح 1116 أخبرنا عيسى بن يونس، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن محمد بن إسحاق به. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (8/ 73) ح 4598 حدثنا محمد بن صباح، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن محمد بن أبي عتيق به. وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 34)، والبغوي في شرح السنة (199،200) من طريق محمد بن إسحاق به. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 159) من طريق شعبة، عن محمد بن إسحاق به. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 382) من طريق شعبة، عن محمد بن إسحاق به. وأما المتابعة لابن أبي عتيق في روايته عن القاسم، وهي وإن كانت ضعيفة إلا أنها صالحة إن شاء الله في المتابعات. فقد أخرجه أحمد (6/ 146) ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك الديلي، أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي، عن داود بن الحصين، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب، وفي الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السّام. قالوا يا رسول الله: وما السام؟ قال: الموت. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 156) حدثنا خالد بن مخلد، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة به. وليس فيه ذكر للحبة السوداء. ومن طريق خالد بن مخلد أخرجه الدارمي (684). وأخرجه إسحاق بن راهوية (2/ 385) ح 936 أخبرنا أبو عامر العقدي، نا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة به. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (8/ 51) ح 4569 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن إبراهيم بن إسماعيل به. وفيه إبراهيم بن إسماعيل: قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (1/ 271)، الضعفاء الصغير (2). وقال النسائي: ضعيف مدني. الضعفاء والمتروكين (2). وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (1/ 90). وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل: ثقة. الجرح والتعديل (2/ 83)، تهذيب الكمال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (2/ 42). وقال ابن سعد: كان مصلياً عابداً صام ستين سنة، وكان قليل الحديث. الطبقات الكبرى (5/ 412). وقال يحيى بن معين: صالح كما في رواية الدارمي عنه. الجرح والتعديل. زاد في تهذيب الكمال: يكتب حديثه، ولا يحتج به. تهذيب الكمال (2/ 42). وذكره العقيلي في الضعفاء (1/ 43). وقال أبو حاتم الرازي: شيخ، ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، منكر الحديث دون إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وأحب إلي من إبراهيم بن الفضل. فهذا الإسناد ضعيف، لأن مداره على إبراهيم بن إسماعيل إلا أنه صالح في المتابعات إن شاء الله، وقد رواه عبد الرحمن بن أبي عتيق عن القاسم، والسند إليه صحيح، فلعل عبد الرحمن بن أبي عتيق سمعه منهما. قال البيهقي في السنن (1/ 34) فكأنه سمعه منهما. وأما رواية ابن أبي عتيق، عن أبيه، عن أبي بكر. فأخرجه الإمام أحمد (1/ 3) ثنا أبو كامل، ثنا حماد ـ يعني ابن سلمة ـ عن أبي عتيق، عن أبيه، عن أبي بكر الصديق، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. ورواه أيضاً (1/ 10) حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، به. وأخرجه أبو يعلى (104) حدثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي، حدثنا: قال: وسألت عنه فقال: هذا خطأ، ثم حدثني به، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ابن أبي عتيق، عن أبيه، عن أبي بكر الصديق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكره. ورواه أبو يعلى (105) حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن سلمة به. ورواه المروزي في مسند أبي بكر الصديق (ص: 174) من طريق عبد الأعلى النرسي وأخرجه (ص: 176) من طريق يونس بن محمد كلاهما عن حماد بن سلمة به. ورواه تمام الرازي في الفوائد (1/ 59) من طريق محمد بن عبيد الغساني، ثنا حماد بن سلمة به. وانفرد حماد بن سلمة بجعله من مسند أبي بكر، وكل من رواه عن ابن عتيق جعله من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مسند عائشة، ولذلك جزم بخطأ حماد كل من أبي زرعة وأبي حاتم، والدارقطني. قال أبو زرعة وأبو حاتم كما في العلل لابن أبي حاتم (1/ 12): " وهذا خطأ إنما هو ابن أبي عتيق، عن أبيه عن عائشة. قال أبو زرعة: أخطأ فيه حماد. قال أبي ـ يعني أبا حاتم ـ الخطأ من حماد، أو من ابن أبي عتيق. وقال الدارقطني في العلل (1/ 277) عن هذا الحديث: " هو حديث يرويه حماد بن سلمة، عن أبي عتيق، عن أبيه، عن أبي بكر. وخالفه جماعة من أهل الحجاز وغيرهم، فرووه عن ابن أبي عتيق، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصواب ". اهـ ورواه ابن عدي في الكامل (2/ 261) من طريقين عن حماد بن سلمة به. وقال: يقال إن هذا الحديث أخطأ فيه حماد بن سلمة حيث قال: عن ابن أبي عتيق، عن أبيه، عن أبي بكر الصديق، وإنما رواه غيره عن ابن أبي عتيق، عن أبيه، عن عائشة. ورواه ابن عدي في الكامل (1/ 299) من طريق إسماعيل بن عياش، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. وهذا حديث ضعيف، فيه ابن عياش، وروايته عن الحجازيين فيها كلام. ورواه ابن حبان (1070) من طريق حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، مرفوعاً: عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب. وسوف يأتي الكلام عليه وبيان أنه شاذ، فقد رواه ثمانية حفاظ عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة بلفظ: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء. ورواه ابن خزيمة في صحيحه (135) قال: أخرنا الحسن بن قزعة بن عبيد الهاشمي، نا سفيان ابن حبيب، عن ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، عن عبيد بن عمير، عن عائشة به. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا الحسن بن قزعة فإنه صدوق. قال فيه أبو حاتم الرازي: صدوق. الجرح والتعديل (3/ 34). وكذا قال يعقوب بن شيبة. تهذيب الكمال (6/ 303). وقال النسائي: لا بأس به. تهذيب التهذيب (2/ 273). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 176). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، قال البخاري في صحيحه، في كتاب الصوم، باب: السواك الرطب واليابس للصائم: وقالت عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. اهـ والحديث له شواهد. الشاهد الأول: حديث ابن عمر أخرجه أحمد (2/ 108) حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عليكم بالسواك؛ فإنه مطهرة للفم ومرضاة للرب. وهذا الإسناد إسناد صالح في المتابعات. وهناك طريق آخر عن ابن عمر إلا أن ضعفه شديد، فقد روى ابن عدي في الكامل (6/ 277) من طريق محمد بن معاوية النيسابوري، ثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر مولى عمر بن الخطاب، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. قال ابن عدي: وهذا لا أعرفه إلا من رواية محمد بن معاوية عن الليث. اهـ وفيه: محمد بن معاوية. قال فيه أحمد بن حنبل: رأيت أحاديثه أحاديث موضوعة. الجرح والتعديل (8/ 103). قال فيه البخاري: روى أحاديث لا يتابع عليها. التاريخ الكبير (1/ 245). وقال: يحيى بن معين: كذاب. الجرح والتعديل (8/ 103). وقال أبو زرعة: كان شيخاً صالحاً إلا أنه كلما لقن يلقن، وكلما قيل: إن هذا من حديثك حدث به، يجيئه الرجل فيقول: هذا من حديث معلى الرازي وكنت أنت معه فيحدث بها على التوهم. قال ابن أبي حاتم: وترك أبو زرعة الرواية عنه ولم يقرأ علينا حديثه. المرجع السابق. وقال مسلم: متروك الحديث. تهذيب التهذيب (9/ 409). وقال أبو داود: ليس بشيء، كتبت عنه. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بثقة، متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (539). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال فيه ابن حبان: كان ممن ينفرد بالمناكير عن المشاهير، ويأتي عن الثقات بما لا يتابع عليه، فاستحق الترك إلا عند الاعتبار فيما وافق الثقات؛ لأنه كان صاحب حفظ وإتقان قبل أن يظهر منه ما ظهر. المجروحين (2/ 298). وقال ابن عدي: بين الضعف، يتبين على رواياته. الكامل (6/ 277). الشاهد الثاني: حديث أنس. رواه أبو نعيم كما في البدر المنير (3/ 71) من طريق هشام بن سلميان، ثنا يزيد الرقاشي، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستاك وهو صائم، ويقول: هو مرضاة للرب، مطهرة للفم. اهـ وفيه: يزيد الرقاشي. قال فيه النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين (642). وقال ابن سعد: كان ضعيفاً قدرياً. الطبقات الكبرى (7/ 245). قال ابن حبان: غفل عن صناعة الحديث وحفظها، واشتغل بالعبادة وأسبابها حتى كان يقلب كلام الحسن فيجعله عن أنس عن النبي، وهو لا يعلم، فلما كثر في روايته ما ليس من حديث أنس وغيره من الثقات بطل الاحتجاج به، فلا تحل الرواية عنه إلا على سبيل التعجب، وكان قاصاً يقص بالبصرة، ويبكي الناس. المجروحين (3/ 98). وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة عن أنس وغيره ونرجو أنه لا بأس به برواية الثقات عنه من البصريين والكوفيين وغيرهم. الكامل (7/ 257). وقال أبو حاتم الرازي: كان واعظاً، بكاءً، كثيرَ الرواية عن أنس بما فيه نظر، صاحب عبادة، وفي حديثه صنعة. الجرح والتعديل (9/ 251). الشاهد الثالث: حديث أبي أمامة. فقد روى ابن ماجه (289)، حدثنا هشام بن عمار، ثنا محمد بن شعيب، ثنا عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب، ما جاءني جبريل إلا وأوصاني بالسواك حتى لقد خشيت أن يفرض علي وعلى أمتي، ولولا أني أخاف أن أشق على أمتي لفرضته لهم، وإني لأستاك حتى خشيت أن أحفي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مقادم فمي ". في الإسناد: عثمان بن أبي العاتكة. قال يحيى بن معين: ليس بشيء. الجرح والتعديل (6/ 163). وقال دحيم: لا بأس به، كان قاص الجند يعنى البلد، فلم ينكر حديثه من غير علىبن يزيد، والأمر من علي بن يزيد. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (416). وذكره ابن حبان في الثقات. (7/ 202). وقال ابن عدي: عامة ما يرويه بهذا الإسناد عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (5/ 164). وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال ميمون الأصبغ: سألت أبا مسهر عنه، فقال: كان قاصاً، فإن كان وهم فهو منه. الضعفاء الكبير (3/ 221). وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث. تهذيب الكمال (19/ 397). وفي التقريب: صدوق، ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني. بينما قال الحافظ في التلخيص: رواه ابن ماجه، وفيه عثمان بن أبي العاتكة، وهو متروك، ولم يذكر فيه علي بن يزيد الألهاني، وهو أولى بالضعف من عثمان. والله أعلم. وإليك ترجمة علي بن يزيد الألهاني. قال البخاري: منكر الحديث، عن القاسم بن عبد الرحمن، روى عنه عبيد الله بن زحر، ومطرح. التاريخ الكبير (6/ 301)، الضعفاء الصغير (255). وقال أيضاً: ذاهب الحديث كما في علل الترمذي الكبير. انظر حاشية تهذيب الكمال (21/ 182). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، حديثه منكر، فإن كان ما روى علي بن يزيد، عن القاسم على الصحة فيحتاج أن ننظر في أمر علي بن يزيد. الجرح والتعديل (6/ 208). وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال يعقوب: علي بن يزيد واهي الحديث، كثير المنكرات. تهذيب التهذيب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (7/ 346). وقال الجوزجاني: رأيت غير واحد من الأئمة ينكر أحاديثه. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال أيضاً: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (432). وقال ابن عدي: هو في نفسه صالح إلا أن يروي عنه ضعيف فيؤتى من قبل ذلك الضعيف. الكامل (5/ 178). وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (7/ 346). وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. المرجع السابق. وقال الساجي: اتفق أهل العلم على ضعفه. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء (3/ 254). وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً فلا أدري التخليط في روايته ممن؟ في إسناده ثلاثة ضعفاء، وأكثر روايته عن القاسم أبي عبد الرحمن، وهو ضعيف في الحديث جداً، وأكثر من روى عنه عبيد الله بن زحر، ومطرح بن يزيد، وهما ضعيفان واهيان، فلا يتهيأ إلزاق الجرح من علي بن يزيد وحده. الخ كلامه رحمه الله. المجروحين (2/ 110). وأخرجه الطبراني في الكبير أيضاً (8/ 262) ح 7876 من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد به. وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه عبيد الله بن زحر. قال يحيى بن معين: ليس بشيء. كما في رواية أبي بكر بن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (5/ 315). وقال أيضاً كل حديثه عندي ضعيف، كما في رواية عثمان بن سعيد. الضعفاء الكبير (3/ 120). وقال علي بن المديني: منكر الحديث. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: لين الحديث. المرجع السابق. وقال العجلي: يكتب حديثه، وليس بالقوي. ثقات العجلي (2/ 110). وذكره العقيلي في الضعفاء (3/ 120). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (19/ 36). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أبو زرعة: لا بأس به صدوق. الجرح والتعديل (5/ 315). وقال الحاكم: لين الحديث. تهذيب التهذيب (7/ 12). قال ابن حبان: منكر الحديث جداً، يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في الإسناد خبر عبيد الله بن زحر، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم .. الخ كلامه. المجروحين (2/ 62). وهذا خسف من ابن حبان، وعبيد الله بن زحر وثقه البخاري، وقال مرة مقارب الحديث، وقال النسائي ليس به بأس، وقال نحوه أبو زرعة، فكيف يتهم، وهذا كلام الأئمة فيه من أهل العدل والإنصاف. وقد تعقبه الحافظ، فقال: ليس في الثلاثة من اتهم إلا علي بن يزيد، وأما الآخران فهما في الأصل صدوقان، وإن كانا يخطئان. تهذيب التهذيب (7/ 12). وفي إسناده أيضاً القاسم أبو عبد الرحمن مختلف فيه: قال أحمد بن حنبل: يروى عنه يعلى بن زيد أعاجيب، وتكلم فيها، وقال: ما أرى هذا إلا من القاسم. تهذيب التهذيب (8/ 289). وقال الغلابي: منكر الحديث. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء (3/ 476). وقال يحيى بن معين: القاسم ثقة، والثقات يروون عنه هذه الأحاديث ولا يرفعونها، ثم قال: يجيء من المشايخ الضعفاء ما يدل حديثهم على ضعفه. وقال أيضاً: إذا روى عنه الثقات أرسلوا ما رفع هؤلاء. تهذيب التهذيب (8/ 289). وقال العجلي: شامي تابعي ثقة، يكتب حديثه، وليس بالقوي. معرفة الثقات (2/ 213). وأخرجه الطبراني في الكبير (7744)، وفي مسند الشاميين (888)، قال: حدثنا واثلة بن الحسين العرقي، ثنا كثير بن عبيد الحذاء، ثنا بقية عن إسحاق بن مالك الحضرمي، عن يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: السواك مطيبة للفم مرضاة للرب. وفي إسناده إسحاق بن مالك الحضرمي، تجنبه أصحاب الكتب الستة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الأزدي: ضعيف. وذكر حديثه هذا، وقال: لا يصح. قال الحافظ: يعني بهذا الإسناد. لسان الميزان (1/ 370). وفيه عنعنة بقية، وهو مدلس، بل تدليسه من شر التدليس. الشاهد الرابع: حديث ابن عباس. أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (8/ 396) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن حنين، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: السواك يطيب الفم، ويرضي الرب. في الإسناد يعقوب بن إبراهيم بن عبد الله بن حنين روى عنه اثنان كما في الجرح والتعديل (9/ 201). وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. وذكره ابن حبان في الثقات. (7/ 643). وأما أبوه وجده فهما ثقتان. فهذا إسناد صالح في الشواهد. ورواه الطبراني في الكبير (11/ 428) ح 12215 من طريق يعقوب بن إبراهيم به. ورواه الطبراني في الأوسط (7496) من طريق بحر السقاء، عن جويبر، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب، ومجلاة للبصر. وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه بحر السقاء. قال ابن سعد: كان ضعيفاً. الطبقات الكبرى (7/ 284). وقال ابن حبان: كان ممن فحش خطؤه، وكثر وهمه حتى استحق الترك، وكان الثوري إذا روى عنه يقول: حدثني أبو الفضل حتى لا يعرف. المجروحين (1/ 192) رقم 140. وقال ابن عدي: كل ما يحدث به، وما يروون أصحاب النسخ عنه فعامة أسانيدها ومتونها لا يتابعه عليه أحد، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى غيره. الكامل (2/ 50). وقال يزيد بن زريع: بحر السقاء كان لا شيء. الجرح والتعديل (2/ 418). وقال يحيى بن معين: لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف. المرجع السابق. وروى البيهقي في شعب الإيمان (6/ 71) رقم 2521 من طريق إسحاق بن إبراهيم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الغزي، حدثنا محمد بن السري، حدثنا بقية، عن الخليل بن مرة، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، يزيد الحسنات، وهو من السنة، ويجلو البصر، ويذهب الحفر، ويشد اللثة، ويذهب البلغم، ويطيب الفم. قال البيهقي: ورواه غيره، وزاد فيه: " ويصلح المعدة " وهو مما تفرد به الخليل بن مرة، وليس بالقوي في الحديث. ورواه ابن عدى في الكامل (3/ 58) بالإسناد نفسه. وهذا الأثر موقوف، وإسناده ضعيف، فيه الخليل بن مرة. قال ابن عدي: أحاديثه غرائب، وهو شيخ بصري، وقد حدث عنه الليث، وأهل الفضل، ولم أر في حديثه حديثاً منكراً قد جاوز الحد، وهو من جملة من يكتب حديثه، وليس هو متروك الحديث. الكامل (3/ 58). وقال ابن حبان: منكر الحديث عن المشاهير، كثير الرواية عن المجاهيل. المجروحين (1/ 286). وقال يحيى بن معين: ضعيف. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (178). وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي في الحديث. الجرح والتعديل (3/ 379). وقال أبو زرعة: شيخ صالح. المرجع السابق. كما أن في إسناده بقية بن الوليد، مدلس وقد عنعن. كما أن في إسناده محمد بن أبي السري وهو محمد بن المتوكل. قال فيه أبو حاتم: لين الحديث. الجرح والتعديل (8/ 105). وقال يحيى بن معين: ثقة. تهذيب الكمال (26/ 355). وقال ابن عدي: كثير الغلط. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من الحفاظ. الثقات (9/ 88). وقال مسلمة بن قاسم: كان كثير الوهم، وكان لا بأس به. تهذيب التهذيب (9/ 376). =

الدليل الثاني

ومعناه، قال: عمر بن محمد النسفي: أي سبب للطهر، وسبب للرضاء، كما روي: " الولد مبخلة مجبنة مجهلة " أي سبب للبخل والجبن والجهل (¬1). اهـ الدليل الثاني: (667 - 3) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب، حدثنا أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكثرت عليكم في السواك (¬2). الدليل الثالث: (668 - 4) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال سألت ابن عباس عن السواك، فقال: ما زال النبي ¬

= وقال ابن وضاح: كان كثير الحفظ، كثير الغلط. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق عارف، له أوهام كثيرة. ورواه البزار في مسنده، كما في البدر المنير (3/ 74) من طريق الربيع بن بدر، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس. وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه الربيع بن بدر: قال ابن معين: ليس بشيء. ضعفاء العقيلي (2/ 53). وقال أيضاً: ضعيف. المرجع السابق. وقال أبو داود: ضعيف، وقال مرة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (3/ 207). وقال النسائي ويعقوب بن سفيان وابن خراش: متروك. المرجع السابق. وقال الجوزجاني: واهي الحديث. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد ويروي عن الثقات الموضوعات. المجروحين (1/ 297). (¬1) طلبة الطلبة (ص: 26). (¬2) صحيح البخاري (888).

يأمرنا به حتى خشينا أن ينزل عليه فيه. [الحديث حسن] (¬1). ¬

(¬1) مسند الطيالسي (2739) والحديث مداره على أبي إسحاق السبيعي، عن التميمي، عن ابن عباس. أما عنعنة أبي إسحاق فقد رواه عنه شعبة، وهو لا يحمل عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث. وأما تغيره، فإن شعبة وسفيان ممن روى عنه قبل تغيره. وفي الإسناد: التميمي أربدة. قال ابن البرقي: مجهول. تهذيب التهذيب (1/ 173). وذكره أبو العرب الصقلي القيرواني في الضعفاء. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (4/ 52). وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/ 446). وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وقال: روى عنه أبو إسحاق السبيعي، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (2/ 345). وكذلك ابن حبان لم يذكر راوياً عنه إلا أبا إسحاق كما في الثقات (4/ 52). وذكر الحافظ في التهذيب راوياً آخر، وهو المنهال بن عمرو، قال الحافظ: روى السندي بن عبدويه، عن عمرو بن أبي قيس، عن مطرف بن طريف، عن المنهال بن عمرو، عن التميمي، عن ابن عباس، قال: كنا نتحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى عليِّ سبعين عهداً لم يعهدها إلى غيره. قال الحافظ رواه الطبراني في معجمه ونقل عن الذهبي أنه قال: هذا حديث منكر. اهـ والحديث قد وقفت عليه في المعجم الصغير (956) حدثنا محمد بن سهل بن الصباح الصفار الأصبهاني، حدثنا أحمد بن الفرات الرازي، حدثنا سهل بن عبد ربه السندي الرازي به. قال الطبراني: لم يروه عن مطرف إلا عمرو بن قيس، ولا عن عمرو بن سهل، تفرد به أحمد بن الفرات، واسم التميمي أربدة. اهـ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 113): " فيه من لم أعرفهم " ورجال الإسناد معروفون: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فشيخ الطبراني محمد بن سهل بن الصباح الصفار الأصبهاني له ترجمة في طبقات المحدثين بأصبهان، قال: كان معدلاً، أروى الناس عن أبي مسعود (أحمد بن الفرات) عنده المسند والمصنفات (3/ 603). وأحمد بن الفرات الرازي قال الذهبي: الحافظ الحجة، محدث أصبهان وصاحب التصانيف. تذكرة الحفاظ (2/ 544). وقال ابن خراش: أحلف بالله أن أبا مسعود يكذب متعمداً. قال ابن عدي: هذا تحامل ولا أعرف لأبي مسعود رواية منكرة، وهو من أهل الصدق. الكامل (1/ 190). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أحفظ ما في الدنيا ثلاثة، فذكر أبا مسعود أحمد بن الفرات منهم. ثقات ابن حبان (8/ 36). ومطرف بن طريف. قال أحمد: ثقة. الجرح والتعديل (8/ 313). وقال علي بن المديني: حدثنا سفيان، قال: حدثنا مطرف، وكان ثقة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ثقة. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 493). ومع أن رجاله معروفون إلا أن متنه منكر، وأظن أن الذهبي عندما قال: هذا حديث منكر، كما نقلت عنه قبل قليل، قصد نكارة المتن، ولم يقصد نكارة الإسناد. والله أعلم. [تخريج حديث الباب] الحديث أخرجه البيهقي (1/ 35) من طريق الطيالسي، وأخرجه أحمد (1/ 339،340) حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة به. وأخرجه أحمد (1/ 285) حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق به، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر السواك حتى ظننا ـ أو رأينا ـ أنه سينزل عليه. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (2693) حدثنا موسى، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي- به. وأخرجه أحمد (1/ 237) حدثنا يزيد ـ يعني ابن هارون ـ أخبرنا شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق به. وشريك وإن كان سيئ الحفظ إلا أنه قد توبع، ولفظه: أمرت بالسواك حتى ظننت =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أو حسبت أنه سينزل عليّ فيه قرآن. وأخرجه أحمد (1/ 307) حدثنا أسود بن عامر ـ وأخرجه (1/ 315) حدثنا يحيى بن آدم ـ وأخرجه أيضاً (1/ 337) حدثنا حجاج ـ ثلاثتهم، عن شريك به. وأخرجه أبو يعلى (2326) حدثنا بشر بن الوليد، حدثنا شريك به. ورواه ابن أبي شيبة (1809) حدثنا وكيع، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق به. ورواه ابن أبي شيبة (1793)، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، قال: كنا نؤمر بالسواك حتى ظننا أنه سينزل فيه. وروى الطبراني في المعجم الأوسط (7/ 95) ح 6960 وفي الكبير (11/ 453) ح 12286، قال: حدثنا محمد بن علي المروزي، ثنا الحسين بن سعد بن علي بن الحسين بن واقد، حدثني جدي، عن علي بن الحسين، حدثني أبي، ثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرت بالسواك حتى خفت على أسناني. محمد بن علي المروزي، شيخ الطبراني: قال الخطيب البغدادي: كان ثقة. تاريخ بغداد (3/ 68). وأما الحسين بن سعد بن علي بن الحسين بن واقد، فقد ذكره المزي وغيره ممن روى عن جده علي بن الحسين، ولم أقف له على ترجمة. وأما جده علي بن الحسين بن واقد قال فيه أبو حاتم: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (6/ 179). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (7/ 271). وقال البخاري: كان أبو يعقوب ـ يعني إسحاق بن راهوية ـ سيئ الرأي فيه في حياته لعلة الإرجاء، فتركناه، ثم كتبت عن إسحاق عنه. الضعفاء الكبير (3/ 226). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 160). وفي التقريب: صدوق يهم. وأما الحسين بن واقد: فقال يحيى بن معين: ثقة. الجرح والتعديل (3/ 66). وقال أبو زرعة: ليس به بأس. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أحمد: لا بأس به، وأثنى عليه خيراً كما في رواية الأثرم عنه. المرجع السابق. وروى الأثرم عن أحمد أنه قال: في أحاديثه زيادة، ما أدري أي شيء هي؟ ونفض يده. تهذيب التهذيب (2/ 321). وقال الساجي: فيه نظر، وهو صدوق يهم. قال أحمد: أحاديثه ما أدري إيش هي. المرجع السابق. وقيل لابن المبارك: من الجماعة؟ قال: محمد بن ثابت، والحسين بن واقد، وأبو حمزة السكري. تهذيب التهذيب (2/ 321). وقال النسائي: ليس به بأس. المرجع السابق. وقال ابن حبان كلاماً فيه، منه: " كان من خيار الناس، وربما أخطأ. الثقات (6/ 209). وقال ابن سعد: كان حسن الحديث. الطبقات الكبرى (7/ 371). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/ 251) رقم 300. وفي التقريب: ثقة له أوهام. عطاء بن السائب. قال الحافظ في التقريب: صدوق اختلط. وقد اتفقوا على أن شعبة، وسفيان ممن سمع منه قديماً. قال يحيى بن سعيد القطان: ما حدث سفيان وشعبة عن عطاء بن السائب صحيح إلا حديثين، كان شعبة يقول: سمعتهما منه بآخرة عن زاذان. الجرح والتعديل (6/ 332)، الضعفاء الصغير (276)، والتاريخ الكبير (6/ 465). واستثنى بعض العلماء حماد بن زيد، وقال: إنه سمع منه قديماً، منهم يحيى بن سعيد القطان، والنسائي، وأبو حاتم. الضعفاء الكبير (3/ 398)، الكاشف ـ الذهبي (3798)، الكواكب النيرات (ص: 61). واختلفوا في سماع حماد بن سلمة: فقال ابن معين، وأبو داود، والطحاوي، وحمزة الكتاني، وابن الجارود، ويعقوب ابن سفيان وغيرهم: حماد بن سلمة قديم السماع عن عطاء. الكامل (5/ 361)، الكواكب النيرات (ص: 61). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وخالفهم عبد الحق في الأحكام، فقال: سمع منه بعد الاختلاط، واعتمد كلام العقيلي. ورجح الحافظ في التهذيب (7/ 183) أن حماداً سمع من عطاء قبل الاختلاط وبعده، إلا أنه في التلخيص (1/ 248) ح 190 رجح أن سماع حماد بن سلمة كان قبل الاختلاط. فالإسناد ضعيف، له علتان: الأولى: الحسين بن سعد، لم أقف له على ترجمة. الثاني: اختلاط عطاء بن السائب، ومع ضعفه إلا أنه صالح في المتابعات. والحديث له شواهد منها: الشاهد الأول: سهل بن سعد رواه الطبراني في الكبير (6/ 252) ح 6018 حدثنا عبدان بن أحمد، ثنا محمد بن مرزوق والجراح بن مخلد، قالا: ثنا عبيد بن واقد أبو عباد القيسي، ثنا أبو عبد الله الغفاري، قال: سمعت سهل بن سعد يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرني جبريل بالسواك حتى ظننت أني سَأدْرَد. وهذا سند ضعيف من أجل عبيد بن واقد قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، يكتب حديثه. الجرح والتعديل (6/ 5). وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. الكامل (5/ 352). وفي التقريب: ضعيف. وفيه أبو عبد الله الغفاري، ذكره ابن حجر من شيوخ عبيد بن واقد، وقال: صاحب سهل بن سعد. تهذيب التهذيب (7/ 71) رقم 116. ولم أقف على ترجمة له. والله أعلم. الشاهد الثاني: حديث أم سلمة. رواه البيهقي في السنن (7/ 49) من طريق خالد بن عبيد، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما زال جبريل يوصيني بالسواك حتى خشيت على أضراسي. وفيه: خالد بن عبيد ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/ 342). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن حبان: يروى عن أنس بن مالك نسخة موضوعة، لا تحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب. المجروحين (1/ 279). قال البخاري: فيه نظر. التاريخ الكبير (3/ 161) رقم 554. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 10) رقم 412. وقال أبو أحمد الحاكم: حديثه ليس بالقائم. تهذيب التهذيب (3/ 91). واختلف على أبي تميلة، فرواه البيهقي كما سبق من طريق أحمد بن عمر القاضي، ثنا أبو تميلة، ثنا خالد بن عبيد، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن أم سلمة، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (23/ 251) ح 510 من طريق محمد بن حميد، ثنا أبو تميلة، ثنا عبد المؤمن بن خالد، عن ابن بريدة، عن أبيه عن أم سلمة. فجعل بدلاً من خالد بن عبيد عبد المؤمن بن خالد وهذا إسناد ضعيف، فيه محمد بن حميد الرازي، قال البخاري: فيه نظر. التاريخ الكبير (1/ 69) رقم 167. وقال ابن معين: ثقة، ليس به بأس، رازي كيس. الجرح والتعديل (7/ 232) رقم 1275 وقال ابن حبان: كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات، ولا سيما إذا حدث عن شيوخ بلده. المجروحين (2/ 303) رقم 1009. وقال ابن وارة: يا أبا عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ رأيت محمد بن حميد؟ قال: نعم. قال: كيف رأيت حديثه؟ قال: إذا حدث عن العراقيين يأتي بأشياء مستقيمة، وإذا حدث عن أهل بلده مثل إبراهيم بن المختار وغيره أتى بأشياء لا تعرف، لا تدري ما هي. قال أبو زرعة وابن وارة: صح عندنا أنه يكذب. قال: فرأيت أحمد بن حنبل إذا ذكر ابن حميد نفض يده. المرجع السابق. فالطريق الأول أصح منه، وقد نقل البيهقي عن البخاري أنه قال عن الطريق الأول: هذا حديث حسن. السنن الكبرى (7/ 49). الشاهد الثالث: ما رواه أحمد (5/ 263) ثنا هارون بن معروف، ثنا عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن أبي أمامة أن رسول الله قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ما جاءني جبريل عليه السلام قط إلا أمرني بالسواك، لقد خشيت أن أحفي مقدم فمي. والحديث ضعيف جداً، وسبق الكلام عليه. الشاهد الرابع: رواه الطبراني في الأوسط (6/ 323) رقم 6526، قال: حدثنا محمد بن رزيق، ثنا أبو الطاهر، ثنا ابن وهب، نا يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لزمت السواك حتى خشيت أن يدردني. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن عائشة إلا بهذا الإسناد تفرد به أبن وهب. ترجمة الإسناد: - محمد بن رزيق، ذكره المزي ممن روى عن أبي طاهر، وسماه محمد بن رزيق بن جامع المصري. تهذيب الكمال (1/ 416). وذكره ابن زبر الربعي فيمن مات سنة ثمان وتسعين، ومائتين، ولم يذكره فيه شيئاً. مولد العلماء ووفياتهم. (2/ 628). ولم أقف له على ترجمة تبين حاله. - أبو طاهر: هو أحمد بن عمرو المصري: قال فيه أبو حاتم الرازي: لا بأس به. الجرح والتعديل (2/ 65). وقال النسائي: ثقة. تهذي الكمال (1/ 415) رقم 86. وقال أبو زرعة: لا بأس به. تهذيب التهذيب (1/ 55) رقم 112. وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (8/ 29) رقم 12110. وقد أخرج له مسلم في صحيحه، وأصحاب السنن إلا الترمذي. وفي التقريب: ثقة. - يحيى بن عبد الله بن سالم: ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وذكر جماعة ممن رووا عنه، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/ 162) رقم674. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أغرب. الثقات (9/ 249) رقم 16259. وقال النسائي: مستقيم الحديث. تهذيب التهذيب (11/ 210) رقم 391. وقال ابن معين: صدوق ضعيف الحديث. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الدارقطني: ثقة، حدث بمصر، ولا أعلم لأبيه حديثاً. المرجع السابق. - عمرو بن أبي عمرو، مولى المطلب. قال أحمد بن حنبل: ليس به بأس. الجرح والتعديل (6/ 252) رقم 1398. وقال ابن معين كما في رواية الدوري عنه: في حديثه ضعف، ليس بقوي، وليس بحجة، لم يرو عنه مالك، وكان يضعفه، وعلقمة بن أبي علقمة أوثق منه. المرج السابق. وقال أبو حاتم الرازي: لا بأس به روى عنه مالك. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: مدني ثقة. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 288) رقم 1289. وقال الآجري: سألت عنه أبا دواد، فقال: ليس هو بذاك، حدث عنه مالك بحديثين، روى عن عكرمة عن بن عباس: من أتى بهيمة فاقتلوه. وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/ 72) رقم 122. وقال ابن عدي: هو عندي لا بأس به؛ لأن مالكاً لا يروي إلا عن ثقة أو صدوق. الكامل (5/ 116) الرقم 1282. قلت: وهو مدني، وحسبك بمالك في معرفته لأهل المدينة. وقال ابن حبان: ثقة، ينكر عليه حديث البهيمة. الثقات (2/ 181) رقم 1389. وفي التقريب: ثقة، ربما وهم. وعمرو بن أبي عمرو لم يسمع من عائشة، ولم يذكر المزي في تهذيبه أنه روى عنها، وقال الحافظ في التقريب: إن وفاته بعد الخمسين. اهـ وعائشة رضي الله عنها ماتت سنة سبع وخمسين، فلم يكن من أهل الرواية حينئذ. والله أعلم. فالحديث إسناده ضعيف للانقطاع. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (2/ 99). وهذا لا ينفي انقطاعه كما هو معلوم. وعلى كل فهو صالح في الشواهد. الشاهد الخامس: رواه أحمد (3/ 490) ثنا إسماعيل، قال: حدثنا ليث، عن أبي بردة، عن أبي مليح بن أسامة، عن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/ 76) ح 189، 190 من طريق إسماعيل بن عليه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وجرير، عن ليث به. والحديث مداره على ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: سمعت أبى يقول: ليث بن أبى سليم مضطرب الحديث، ولكن حدث الناس عنه. الجرح والتعديل (7/ 177). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبى وأبا زرعة يقولان: ليث لا يشتغل به، وهو مضطرب الحديث. وقال أيضاً: سمعت أبا زرعة يقول: ليث بن أبى سليم لين الحديث لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث. المرجع السابق. قال معمر: قلت لأيوب: كيف لم تكثر عن طاوس؟ قال: وجدته بين ثقيلين عبد الكريم بن أمية وليث بن أبي سليم. الضعفاء الكبير (4/ 14). وقال ابن سعد: كان ليث رجلاً صالحاً عابداً، وكان ضعيفاً في الحديث، يقال: كان يسأل عطاء وطاووساً ومجاهداً عن الشيء فيختلفون فيه، فيروي أنهم اتفقوا من غير تعمد لذلك. الطبقات الكبرى (6/ 349). قال فيه النسائي: ضعيف كوفي. الضعفاء والمتروكين (511). قال ابن حبان: كان من العباد، ولكن اختلط في آخر عمره حتى كان لا يدري ما يحدث به، فكان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات بما ليس من أحاديثهم، كل ذلك كان منه في اختلاطه، تركه يحيى القطان وابن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين. المجروحين (2/ 231). وقال ابن عدي: له من الحديث أحاديث صالحة غير ما ذكرت، وقد روى عنه شعبة والثوري وغيرهما من ثقات الناس، ومع الضعف الذي فيه يكتب حديثه. الكامل (6/ 87). وقال يعقوب بن شيبة: هو صدوق ضعيف الحديث. تهذيب التهذيب (8/ 417). وقال ابن شاهين في الثقات، قال عثمان بن أبي شيبة: ليث صدوق ولكن ليس بحجة. =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: الإجماع. أجمعت الأمة على فضل السواك، لمن فعله بنية القربة. قال ابن عبد البر: وفضل السواك مجتمع عليه لا اختلاف فيه (¬1). ¬

= المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق اختلط جداً، ولم يتميز حديثه فترك. (¬1) التمهيد (7/ 200).

المبحث الثالث هل الصلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك

المبحث الثالث هل الصلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك وردت أحاديث في فضل الصلاة بالسواك عن الصلاة بغيره، وهي أحاديث كثيرة، وقد اختلف العلماء فيها، فقال بعضهم بها، وأن الركعة بسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك (¬1). وقال آخرون: السواك سنة للصلاة، ولكن لا تثبت المضاعفة لضعف الأدلة (¬2). أدلة القائلين بالمضاعفة. (669 - 5) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: وذكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: فضل الصلاة بسواك على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفاً. [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 25)، البحر الرائق (1/ 21)، مغني المحتاج (1/ 184)، نهاية المحتاج (1/ 181). (¬2) المجموع (1/ 326)، وطرح التثريب (2/ 66). (¬3) فيه عنعنة محمد بن إسحاق، وهو مدلس. تخريج الحديث الحديث أخرجه البزار (1/ 244) رقم 501 وابن خزيمة في صحيحه (1/ 71) والحاكم في المستدرك (1/ 146) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 38)، وفي شعب الإيمان (2518) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كلهم من طريق يعقوب بن إبراهيم به. قال أبو بكر ابن خزيمة: أنا استثنيت صحة هذا الخبر؛ لأني خائف أن يكون محمد بن إسحاق لم يسمع من محمد بن مسلم، وإنما دلسه عنه. وقال الحاكم (1/ 146): صحيح على شرط مسلم!! وأقره الذهبي. قلت: قوله على شرط مسلم فيه نظر، لأن مسلماً لم يرو لابن إسحاق شيئاً محتجاً به، وإنما روى له متابعة، هذا مع ما في الإسناد من عنعنة ابن إسحاق. وقال الدارقطني في علله: هذا الحديث رواه معاوية بن يحيى الصدفي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، ورواه محمد بن إسحاق، قال: قال الزهري، عن عروة، عن عائشة. قال الدارقطني، ويقال: إن محمد بن إسحاق أخذه من معاوية بن يحيى الصدفي؛ لأنه كان رسيله إلى الري في صحابة المهدي، ومعاوية ضعيف. اهـ وقال أبو زرعة عن علة هذا الحديث: إن محمد بن إسحاق اصطحب مع معاوية بن يحيى الصدفي من العراق، إلى الري، فسمع منه هذا الحديث في طريقه. الجرح والتعديل (1/ 330). وسيأتي الآن الكلام على طريق معاوية بن يحيى الصدفي. وقال يحيى بن معين: لا يصح حديث الصلاة بأثر السواك أفضل من الصلاة بغير سواك، وهو باطل. التمهيد ـ ابن عبد البر (7/ 200). وله طرق إلى عائشة: الطريق الأول: ما رواه أبو يعلى في مسنده (8/ 182) ح 4738 حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا إسحاق: قال: حدثنا معاوية ـ يعني ابن يحيى الصدفي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك سبعين ضعفاً. ورواه ابن عدي في الكامل (6/ 399)، من طريق محمد بن أسد، والبيهقي في شعب الإيمان (2519) من طريق إسحاق بن سليمان، كلاهما عن معاوية بن يحيى الصدفي به .. ورواه تمام في فوائده (1/ 106) رقم 248 من طريق مسلمة بن علي عن معاوية بن يحيى الصدفي عن ابن شهاب به. ومسلمة بن علي متروك. وقد رواه ابن حبان في المجروحين (3/ 34) عن مسلمة بن علي، عن الأوزاعي عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك. ورواه أسلم بن سهل الواسطي، في تاريخ واسط (2/ 179،180) من طريق محمد بن الحسن، قال: حدثنا معاوية بن يحيى به. ورواه أبو نعيم كما في البدر المنير (3/ 152) وتلخيص الحبير (1/ 111)، وذكره ابن حبان في المجروحين (2/ 309)، والدارقطني في علله، كما في حاشية البدر المنير (3/ 152)، من طريق معاوية بن يحيى الصدفي به. وفي الإسناد معاوية بن يحيى الصدفي: قال البخاري: كان على بيت مال بالري، عن الزهري، روى عنه هقل بن زياد أحاديث مستقيمة كأنها من كتاب، روى عنه عيسى بن يونس وإسحاق بن سليمان أحاديث مناكير، كأنها من حفظه. التاريخ الكبير (7/ 336) الرقم 1447، الضعفاء الصغير (ص: 108) رقم 350. وقال أبو حاتم الرازي مثله، وزاد: هو ضعيف الحديث، في حديثه إنكار. الجرح والتعديل (8/ 383). وقال يحيى بن معين: لا شيء، كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. المرجع السابق. وقال أيضاً: هالك، ليس بشيء. كما في رواية معاوية بن صالح. الضعفاء الكبير (4/ 182) رقم 1758. وقال: أبو داود: ضعيف. تهذيب التهذيب (10/ 197) الرقم 404. وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (ص: 97) رقم 561. وقال أيضاً: ليس بثقة. وقال أيضاً: ضعيف. وقال في موضع آخر: ليس بشيء. تهذيب التهذيب (10/ 197) رقم 404. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، كان يشتري الكتب، ويحدث بها، ثم تغير حفظه، فكان يحدث بالوهم، فيما سمع من الزهري وغيره، فجاء رواية الراوين عنه إسحاق بن سليمان، وذويه كأنها مقلوبة، وفي رواية الشاميين عند الهقل بن زياد وغيره أشياء مستقيمة، تشبه حديث الثقات. المجروحين (3/ 3) الرقم 1025. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن عدي: له عن الزهري وغيره، وعامة رواياتها فيها نظر. الكامل (6/ 399). وفي التقريب: ضعيف، وما حدث بالشام أحسن مما حدث بالري. الطريق الثاني: ما رواه أبو نعيم كما في البدر المنير (3/ 153) عن أبي بكر الطلحي، ثنا سهل بن المرزبان، عن محمد التميمي الفارسي، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ركعتان بالسواك أفضل من سبعين ركعة بلا سواك. قال ابن الملقن: وهذا الطريق أجود الطرق، فمن الحميدي إلى عائشة أئمة ثقات. اهـ وقال في تحفة المحتاج (1/ 176): " رواه أبو نعيم من حديث الحميدي، عن سفيان عن، منصور، عن الزهري، عن عروة عنها. وهذا إسناد كل رجاله ثقات ". اهـ وسكت ابن الملقن والحافظ على من دون الحميدي، بل قال الحافظ: فينظر في إسناده. اهـ ولم أقف على تراجم من دون الحميدي، إلا أن شيخ أبي نعيم أبا بكر الطلحي أكثر عنه أبو نعيم في الحلية وفي غيره، وقد روى عنه في كتابه المستخرج على صحيح البخاري كما في تغليق التعليق (2/ 383)، فهو ثقة عنده. وبناء عليه لا يمكن الجزم بأن هذا الطريق أقوى من طريق ابن إسحاق حتى نقف على تراجم هؤلاء. الطريق الثالث: ما رواه الحافظ أبو بكر الخطيب، في كتابه المتفق والمفترق، كما في البدر المنير (3/ 154)، وتلخيص الحبير (1/ 112) من طريق سعيد بن عفير، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ركعتان على أثر السواك أفضل من سبعين ركعة. وهذا إسناد ضعيف، فيه ابن لهيعة. رواه الحارث في مسنده، كما في بغية الباحث (1/ 277) حدثنا محمد بن عمر، ثنا عبد الله بن أبي يحيى، عن أبي الأسود به. وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه محمد بن عمر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الواقدي، وهو متروك. الطريق الرابع: ما رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده كما في البدر المنير (3/ 155) والبيهقي في سننه (1/ 38) من طريق الواقدي، ثنا عبد الله بن أبي يحيى الأسلمي، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: الركعتان بعد السواك أحب إلي من سبعين ركعة قبل السواك. قال البيهقي: الواقدي لا يحتج به، وروي عن عائشة من غير هذا الطريق. اهـ والواقدي: يقبل منه التاريخ، أما الحديث فلا، وقد وثقه جماعة، وكذبه آخرون منهم أحمد والشافعي وبندار، وفي التقريب: متروك. فالإسناد ضعيف جداً. الطريق الخامس: ما رواه البيهقي (1/ 38)، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي، أنا أبوالفضل العباسي بن محمد بن وهبان، ثنا محمد بن يزيد السلمي، ثنا حماد بن قيراط، ثنا فرج بن فضالة، عن عروة بن رويم، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة سواك خير من سبعين صلاة بغير سواك. قال البيهقي: فهذا إسناد غير قوي. اهـ وقد اختلف على فرج بن فضالة، فرواه حماد بن قيراط، كما سبق. ورواه عيسى بن يونس، عن فرج بن فضالة، عن عروة بن رويم، عن عائشة، ولم يذكر بينهما عمرة، وعروة بن رويم لم يسمع من عائشة. وعيسى بن يونس أرجح من حمادبن قيراط. فقد جاء في ترجمة حماد ما يلي: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. الثقات (8/ 206). ثم ذكره في المجروحين، وقال: يقلب الأخبار على الثقات، ويجئ عن الأثبات بالطامات، لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار. المجروحين (1/ 254). وقال ابن عدي: عامة ما يرويه فيه نظر. الكامل (2/ 250) رقم 426. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أبو حاتم الرازي: مضطرب الحديث، يكتب حديثه، ولا يحتج به. الجرح والتعديل (3/ 145). وقال أبو زرعة: كان صدوقاً. المرجع السابق. وجاء في اللسان: كان أبو زرعة يمرض القول فيه. اللسان (2/ 352) رقم 1423. هذه الطرق التي وقفت عليها من حديث عائشة، وقد تبين أن أكثر هذه الطرق ضعفها ليس شديداً، فالذين يحسنون بالمتابعات والشواهد مطلقاً، ينبغي أن يحسنوا مثل هذا الحديث، فطريق ابن إسحاق ضعيف، ولا يمكن أن نجعله ضعيفاً جداً؛ لأن غاية ما فيه عنعنة مدلس، وعلى فرض أن يكون سمعه من معاوية بن يحيى الصدفي، فهو ضعيف أيضاً، وطريق ابن لهيعة ضعيف أيضاً، وطريق الحميدي قد حكم ابن الملقن أن رجاله كلهم ثقات، وعلى فرض أنه ضعيف، فضعفه غير شديد، وطريق عمرة عن عائشة ضعيف أيضاً. فمثل هذه الطرق على قواعد من يحسِّن بالمتابعات والشواهد مطلقاً ينبغي أن يكون الحديث حسناً. وحديث عائشة له شواهد: الشاهد الأول: حديث ابن عباس رواه أبو نعيم كما في البدر المنير (3/ 158) عن محمد بن حبان، عن أبي بكر بن أبي عاصم، عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن يزيد بن عبد الله، ثنا عبد الله بن أبي الحوراء، أنه سمع سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لأن أصلي ركعتين بسواك أحب إلي من أن أصلي سبعين ركعة بغير سواك. وفي رواية زاد: إن العبد إذا تسوك، ثم قام إلى الصلاة أتاه الملك حتى يضع فاه على فيه. ففي الإسناد: محمد بن حبان قال ابن مندة: ليس بذاك. اللسان (5/ 115). وقال عبد الغني بن سعيد الحافظ: يحدث بمناكير. تاريخ بغداد (5/ 231) رقم 2715، وانظر ميزان الاعتدال (3/ 508). وقال البرقاني: سمعت أبا القاسم الأسدوقي يقول: كان لا بأس به إن شاء الله. اللسان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (5/ 115). أبو بكر بن أبي عاصم: قال ابن أبي حاتم: سمعت منه وكان صدوقا. الجرح والتعديل (2/ 67). وقال الذهبي: الحافظ الكبير، له الرحلة الواسعة والتصانيف النافعة. تذكرة الحفاظ (2/ 640) رقم 663. جاء في طبقات المحدثين بأصبهان: قال أبو عبد الله: سمعت ابن أبي عاصم يقول: لما كان من أمر العلوي بالبصرة ما كان، ذهبت كتبي فلم يبق منها شيء، فأعدت من ظهر قلبي خمسين ألف حديث، كنت أمر إلى دكان بقال، فكنت أكتب بضوء سراجه فتذكرت بعد ذلك في نفسي أني لم أستأذن صاحب السراج، فذهبت إلى البحر فغسلته ثم أعدته ثانياً. طبقات المحدثين بأصبهان (3/ 380) رقم 420. وفيه أبو خالد البصري: قال ابن عدي: ليس هو بمنكر الحديث. الكامل (7/ 280) رقم 2176. وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/ 276) رقم 1161. وقال ابن حبان: يروى عن سفيان الثوري روى عنه محمد بن أبى بكر المقدمي مستقيم الحديث أصله من السند. الثقات (9/ 274) رقم 16405. قال الذهبي: أورده ابن عدي، ومشاه، وقال: ليس هو بمنكر الحديث. الميزان (4/ 432). ومعنى مشاه: فيه إشعار بتوثيق خفيف يسير، وقد تقال الكلمة في مقابلة تضعيف الغير. وفي الإسناد: عبد الله بن أبي الحوراء. لم أقف على ترجمته. فهذا الإسناد ضعيف. قال في كشف الخفاء (2/ 34): " وعند أبي نعيم بسند جيد!! عن ابن عباس: " لأن أصلى ركعتين أحب إلى من أن أصلي سبعين ركعة بغير سواك ". الشاهد الثاني: حديث جابر رواه أبو نعيم أيضاً كما في البدر المنير (3/ 159)، عن أحمد بن بندار، عن عبد الله بن محمد بن زكريا، عن جعفر بن أحمد، عن أحمد بن صالح، عن طارق بن عبد الرحمن، عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = محمد بن عجلان، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك. دراسة الإسناد: أحمد بن بندار، ذكره ابن نقطة في تكملة الإكمال، وقال: أحمد بن بندار بن إسحاق أبو عبد لله الشعار، ظاهري المذهب. (4/ 84). وأورده ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة حديثاً من طريق أبي نعيم، عن أحمد بن بندار، وقال: إسناده صحيح. الأحاديث المختارة (2/ 267). وأطلق الحافظ أبو نعيم عليه في إسناد حديث رواه عنه، لقب الفقيه. تاريخ بغداد (8/ 244)، وتهذيب الكمال (24/ 373). - عبد الله بن محمد بن زكريا: له ترجمة في طبقات المحدثين بأصبهان، وقال: كان مقبولاً ثقة. طبقات المحدثين (3/ 373) رقم 417. وكذلك جعفر بن أحمد لم ينسب فلم أعرفه. وفيه عنعنة أبي الزبير لمن عده مدلساً. الشاهد الثالث: حديث ابن عمر. قال ابن الملقن، كما في البدر المنير (3/ 157) رواه أبو نعيم بإسناده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة بسواك أفضل من خمس وسبعين صلاة بغير سواك. وفيه سعيد بن سنان أبو مهدي الحمصي: قال أحمد: كان رجلاً صالحاً، ولم يكن يقيم الحديث. الميزان (2/ 143). وقال صدقة بن خالد: حدثني أبو مهدي سعيد بن سنان مؤذن أهل حمص، وكان ثقة مرضياً. الجرح والتعديل (4/ 28) رقم 114 وقال أبو حاتم الرازي: سمعت دحيماً يقول: أبو المهدي ليس بشيء لزم أبا الزاهرية، وشبهه دحيم بجعفر بن الزبير وبشر بن نمير، وقال: بشر بن نمير أحسن حالا منه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم أيضاً: سعيد بن سنان الحمصي ضعيف الحديث منكر الحديث، يروى عن أبى الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من ثلاثين حديثاً =

قالوا: إن كان ضعفه من قبل الإسناد، فإن الحديث له طرق كثيرة، يرقى بها إلى الحسن، وإن كان ضعفه لأنه رتب عليه أجر عظيم فإن السواك وإن كان عمله يسيراً فإن فيه مرضاة للرب، والتفضيل والمفاضلة تارة ترجع إلى الزمان كالعمل في عشر ذي الحجة أفضل من الجهاد في سبيل الله، مع أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وقد تكون المضاعفة راجعة إلى المكان، كصلاة في المسجد الحرام عن مائة ألف صلاة فيما سواه. وتارة ترجع المفاضلة إلى الإخلاص والمتابعة، ولذلك قد تصل مضاعفة الحسنة بدلاً من عشر أمثالها، قد ¬

_ = أحاديث منكرة. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن سعيد بن سنان أبى مهدي، فأومأ بيده أنه ضعيف. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين، كما في رواية عثمان بن سعيد: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (3/ 477) رقم 1598. وقال ابن حبان: منكر الحديث، لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد. المجروحين (1/ 322) رقم 397. وقال ابن المديني: لا أعرفه. تهذيب الكمال (10/ 495) رقم 2295. وقال ابن عدي: كان من صالحي أهل الشام وأفضلهم، إلا أن في بعض رواياته ما فيه. الكامل (3/ 359) رقم 801. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 107) رقم 578. وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (268). وفي التقريب: متروك، ورماه الدارقطني وغيره بالوضع. الشاهد الرابع: حديث أم الدرداء. جاء في كشف الخفاء ومزيل الإلباس (1/ 524): روى الدارقطني في الأفراد، عن أم الدرداء، بلفظ: ركعتان بسواك خير من سبعين ركعة بغير سواك " قال العجلوني: ورجاله موثوقون. اهـ ولم أقف على سنده لأنظر فيه.

أدلة القائلين لا تثبت المضاعفة

تصل إلى سبعمائة ضعف، وقد تصل إلى أكثر من ذلك. فلا يمنع أن تكون المضاعفة من أجل السواك لما في ذلك من تطييب الفم لمناجاة الله سبحانه وتعالى، كما أن الرائحة الكريهة من أكل الكراث والبصل قد تكون عذراً في إسقاط واجب عن المكلف، كإسقاط حضور صلاة الجماعة في المسجد، مع أن الأدلة الصحيحة على وجوبها. أدلة القائلين لا تثبت المضاعفة. قالوا: إن السواك سنة للصلاة كما سيأتي في فصل خاص، ولا تثبت المضاعفة، ولا يرون تحسين هذا الحديث الضعيف بشواهده. وقد ضعف يحيى بن معين هذا الحديث، وقال: إنه باطل (¬1). وقال النووي: " وأما حديث عائشة: " صلاة بسواك خير من سبعين بغير سواك فضعيف، رواه البيهقي من طرق، وضعفها كلها، وكذا ضعفه غيره " (¬2). وقد ذكره أكثر من صنف في الأحاديث الضعيفة (¬3). ¬

(¬1) طرح التثريب (2/ 66). (¬2) النووي في المجموع (1/ 326). (¬3) انظر أسنى المطالب ـ الحوت (1/ 819)، والأسرار المرفوعة ـ ملا علي القاري (1/ 267)، تمييز الطيب من الخبيث ـ عبد الرحمن الزبيدي (1/ 97)، التنزيه ـ الكناني (2/ 115) الشذرة في الأحاديث المشتهرة ـ محمد بن علي الدمشقي (1/ 544)، الغماز ـ السمهودي (1/ 141)، الفوائد المجموعة ـ الشوكاني (1/ 22)، الكشف الإلهي ـ الطرابلسي (1/ 613)، المقاصد الحسنة (1/ 625)، النوافح العطرة ـ محمد بن أحمد الصنعاني (1/ 820)، تحذير المسلمين (1/ 145) تذكرة الموضوعات (1/ 31)، ذيل اللآلي المصنوعة ـ السيوطي (1/ 102)، السلسلة الضعيفة الألباني (1503).

والسواك أمر مندوب لا إشكال فيه، ولكن ترتيب هذا الفضل الكبير على أمر مندوب، وليس على أمر واجب أو ركن يجعل في النفس شيئاً من قبوله، إذ كيف يكون المندوب أفضل من الواجب، فأفعال الصلاة الواجبة لا تكون سبباً بالمضاعفة، والسواك المندوب يجعل للصلاة مثل هذا الثواب، فمثل هذا يجعل الباحث لا يجزم بصحة الأحاديث الواردة، خاصة أن أسانيدها ليست قوية. والله أعلم.

المبحث الرابع في كون السواك من سنن الفطرة

المبحث الرابع في كون السواك من سنن الفطرة (670 - 6) روى الإمام أحمد، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن ابن الزبير، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق بالماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء: يعني الاستنجاء. قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. [المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ] (¬1). ¬

(¬1) الحديث رواه إسحاق بن راهوية (2/ 79) عن وكيع به. ومن طريق إسحاق رواه أبو يعلى (4517). والنسائي في المجتبى (5040)، والكبرى (9286). ورواه مسلم (56 - 261) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع به. ومن طريق أبي بكر أخرجه ابن ماجه (293)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 36). وأخرجه مسلم (56 - 261) والترمذي (2757) حدثنا قتيبة، حدثنا وكيع به. وأخرجه مسلم (56 - 261) زهير بن حرب، حدثنا وكيع به. وأخرجه أبو داود (53) حدثنا يحيى بن معين، حدثنا وكيع به. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 52). وأخرجه الترمذي (2757) حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع به. وأخرجه ابن خزيمة (88) من طريق يوسف بن موسى، حدثنا وكيع به. وأخرجه الدارقطني (1/ 94) من طريق محمد بن إسماعيل الحساني، نا وكيع به. الحديث اختلف فيه على طلق بن حبيب: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فرواه مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن ابن الزبير، عن عائشة مرفوعاً، كما سبق في التخريج. ورواه سليمان التيمي، وأبو بشر، عن طلق من قوله. أخرجه النسائي في الصغرى (5041)، قال: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه، قال: سمعت طلقاً يذكر عشرة من الفطرة: السواك وقص الشارب وتقليم الأظفار وغسل البراجم وحلق العانة والإستنشاق، وأنا شككت في المضمضة. وفي الكبرى (9287) بالإسناد نفسه. ورواه أيضاً في الصغرى (5042) أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن طلق بن حبيب، قال: عشرة من السنة السواك وقص الشارب وذكر الحديث. ورواه النسائي في الكبرى (9288). قال الإمام أحمد: الوضوء من الحجامة حديث منكر، رواه مصعب بن شيبة وأحاديثه مناكير منها هذا الحديث، وعشرة من الفطرة. الضعفاء الكبير (4/ 197). وقال النسائي: حديث سليمان التيمي، وجعفر بن إياس أولى بالصواب من حديث مصعب بن شيبة، ومصعب بن شيبة منكر الحديث. المجتبى (5042). وقال الدارقطني: تفرد به مصعب بن شيبة، وخالفه أبو بشر وسليمان التيمي، فروياه عن طلق بن حبيب قوله غير مرفوع، وسليمان وجعفر أثبت من مصعب، وأصح حديثاً. سنن الدارقطني (1/ 94). والنكت الظراف (11/ 436). وخالفهم الحافظ، فقال: " والذي يظهر لي أنها ليست بعلة قادحة فإن راويها مصعب بن شيبة وثقه يحيى بن معين، والعجلي وغيرهما، ولينه أحمد وأبو حاتم وغيرهما، فحديثه حسن، وله شواهد من حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ، وقول سليمان التيمي سمعت طلق بن حبيب يذكر عشراً من الفطرة: يحتمل أنه يريد أنه سمعه يذكرها من قبل نفسه على ظاهر ما فهمه النسائي، ويحتمل أنه يريد أنه سمعه يذكرها وسندها!! فحذف سليمان السند وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة، من حديث عمار بن ياسر مرفوعاً نحو حديث عائشة، قال: من الفطرة المضمضة والإستنشاق والسواك وغسل البراجم والإنتضاح، وذكر الخمس التي في حديث أبي هريرة. ساقه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن ماجة، وأما أبو داود فأحال به على حديث عائشة، ثم قال: وروى نحوه عن ابن عباس -يعني موقوفاً عليه- قال: خمس في الرأس وذكر منها الفرق ولم يذكر إعفاء اللحية. اهـ قال الحافظ: كأنه يشير -يعني أبا داود- إلى ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره، والطبري من طريقه بسند صحيح عن طاووس، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. قال الحافظ: فذكر مثل حديث عائشة ... الخ كلامه رحمه الله. فتح الباري (10/ 337). والراجح والله أعلم ما قاله أحمد والنسائي والدارقطني، وما ذكره الحافظ من احتمال أن يكون الراوي سليمان حذف السند، ذكره الحافظ على سبيل الإحتمال، ولا دليل عليه، ومثل هذا قد يتجوز في وقوعه من راو واحد، وأما أن يقع من أكثر من راو فهو بعيد. وحديث عمار بن ياسر الذي أشار إليه الحافظ رواه أحمد (4/ 264) ثنا عفان، ثنا: حماد، ثنا علي بن زيد، عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من الفطرة -أو الفطرة- المضمضة والإستنشاق وقص الشارب والسواك وتقليم الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط والإستحداد والإختتان والإنتضاح. وهذا حديث ضعيف: أولاً: ضعف علي بن زيد. وثانياً: سلمة بن محمد لم يسمع من عمار. قال ابن حبان عنه: منكر الحديث، يروي عن جده عمار بن ياسر، ولم يره، وليس ممن يحتج به إذا وافق الثقات لإرساله الخبر، فكيف إذا انفرد، ثم ذكر عن يحيى بن معين أنه قال عن حديث الفطرة المضمضة: أنه مرسل. المجروحين (1/ 337). ثم إن سلمة هذا لم يرو عنه أحد إلا علي بن زيد بن جدعان، ولم يوثقه أحد، ولذا قال الحافظ في التقريب: مجهول. ثالثاً: أنه قد اختلف على حماد بن سلمة: فقيل: عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سلمة بن محمد بن عمار، عن عمار. وقيل: عن حماد، عن علي بن زيد، عن سلمة بن محمد، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مرسل. فقد رواه أبو داود الطيالسي (641) حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سلمة بن محمد عن عمار بن ياسر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (1627) حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا حماد به. وأخرجه داود (54) حدثنا داود بن شبيب، قال: حدثنا حماد به. ورواه ابن ماجه (294) عن سهل بن أبي سهيل، ومحمد بن يحيى، كلاهما، عن أبي الوليد، عن حماد به. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 229) من طريق عبد الرحمن وعفان، كلاهما، عن حماد به. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 53) من طريق يزيد بن هارون، أنا حماد به. ورواه موسى بن إسماعيل فخالف فيه، رواه أبو داود (54) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن سلمة بن محمد، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: عن أبيه، إن كان يقصد محمد بن عمار بن ياسر، فهذا اختلاف في الحديث، ومحمد لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإن كان يقصد بأبيه: عمار بن ياسر، فهو وإن لم يخالف، إلا أن سلمة لم يدرك عماراً. والله أعلم. فالحديث ضعيف لا تقوم به حجة. ولذلك قال الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 132) صححه ابن السكن، وهو معلول. اهـ وأما أثر ابن عباس الذي ذكره الحافظ، فقد أخرجه الحاكم (2/ 266) والبيهقي من طريقه (1/ 149)، قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو زكريا العنبري، ثنا: محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا عبد الرزاق، ثنا: معمر عن عبد الله ابن طاووس، عن أبيه عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: في الرأس قص الشارب والمضمضة والإستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء. وسقط إسناد الحاكم من بداية السند إلى ابن طاووس، ونقلته من سند البيهقي حيث =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رواه من طريق الحاكم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. دراسة الإسناد: أبو زكريا العنبري: ثقة. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/ 533). ومحمد بن عبد السلام بن بشار النيسابوري، قال الذهبي الوراق الزاهد سمع الكتب من يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري، والتفسير من إسحاق وكان ينسخ التفسير ويتقوت. سير أعلام النبلاء (13/ 460). وباقي إسناده على شرط الشيخين. إلا أن هذا الأثر ليس فيه موضع الشاهد، وهو كون السواك من سنن الفطرة. وأما حديث أبي هريرة، فقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1257)، قال: سعيد بن محمد الجرمي قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس من الفطرة: قص الشارب، وتقليم الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط والسواك. وهذا إسناد ضعيف، فيه عنعنة ابن إسحاق، وساقه البخاري عن شيخه معلقاً، فلعله سمعه منه في المذاكرة، كما أن ذكر السواك فيه منكر، والحديث في الصحيحين من طرق كثيرة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وليس فيه ذكر السواك، ورواه مالك وغيره عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، وليس فيه ذكر السواك. وأخرجه الطبراني في الأوسط (357) حدثنا أحمد بن رشدين، قال: حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الفطرة خمس: الإختتان، والإستحداد، والسواك، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عروة، عن أبي هريرة إلا أبو الأسود، تفرد به ابن لهيعة. وهذا سند ضعيف، فيه ابن رشدين، وابن لهيعة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أما ابن رشدين، فقد قال فيه ابن عدي: وابن رشدين هذا صاحب حديث كثير يحدث عن الحفاظ بحديث مصر أنكرت عليه أشياء مما رواه، وهو ممن يكتب حديثه مع ضعفه. الكامل (1/ 198). وقال ابن أبي حاتم: سمعت منه بمصر، ولم أحدث عنه لما تكلموا فيه. الجرح والتعديل (2/ 75). وله ترجمة مطولة في لسان الميزان (2/ 257) حتى لقد رمي بالكذب. وأما ابن لهيعة فضعفه مشهور.

المبحث الخامس هل السواك في شريعة من قبلنا

المبحث الخامس هل السواك في شريعة من قبلنا سبق لنا بحث، هل السواك من سنن الفطرة، في الكلام على حديث عائشة في مسلم، وذكرت اختلاف العلماء، ولو ثبت الحديث، لكان دليلاً على كونه في جميع الشرائع، ولكن الحديث لا يثبت. ولكن ثبت أيضاً من قول ابن عباس، بسند صحيح أن السواك كان في شريعة أبينا إبراهيم عليه السلام. (671 - 7) فقد روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو زكريا العنبري، ثنا: محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا عبد الرزاق، ثنا: معمر عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء. [وإسناده صحيح] (¬1). ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 149)، وهو في مستدرك الحاكم (2/ 266) إلا أنه سقط من إسناد الحاكم من بداية السند إلى ابن طاووس، وقد رواه البيهقي عن الحاكم كما ترى. دراسة الإسناد: أبو زكريا العنبري: ثقة. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/ 533). ومحمد بن عبد السلام بن بشار النيسابوري، قال الذهبي الوراق الزاهد سمع الكتب من =

وقد قيل في تفسير الآية غير ذلك. (672 - 8) وأما ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، ومحمد بن يزيد، أنا الحجاج بن أرطاة، عن مكحول، قال: قال أبو أيوب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربع من سنن المرسلين التعطر والنكاح والسواك والحياء. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬

= يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري، والتفسير من إسحاق وكان ينسخ التفسير ويتقوت. سير أعلام النبلاء (13/ 460). وباقي إسناده على شرط الشيخين. ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 524) قال: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال ابتلاه الله بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء. ولم أقف عليه في مصنف عبد الرزاق. وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/ 166): قال عبد الرزاق أيضا: أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} قال: ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد، وذكر الأثر. ثم قال ابن كثير: قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وأبي صالح، وأبي الجلد نحو ذلك. (¬1) وفيه علل: الأولى: حجاج بن أرطاة، ضعيف، ومدلس، وقد عنعن. الثاني: الاختلاف على حجاج. الثالث: مكحول مدلس، ولم يلق أبا أيوب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أما ضعف حجاج، فإليك ترجمته. قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: الحجاج بن أرطأة كوفي، صدوق، ليس بالقوي يدلس عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن عمرو بن شعيب. الجرح والتعديل (3/ 154) رقم 673. وقال ابن معين أيضاً كما في رواية إسحاق بن منصور عنه: الحجاج بن أرطأة ليس بذاك القوي، وهو مثل ابن أبي ليلى ومجالد. المرجع السابق. وقال أيضاً في رواية العباس بن محمد الدوري: لا يحتج بحديثه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: صدوق يدلس عن الضعفاء، يكتب حديثه، وإذا قال: حدثنا فهو صالح لا يرتاب في صدقه وحفظه إذا بين السماع، ولا يحتج بحديثه لم يسمع من الزهري ولا من هشام بن عروة ولا من عكرمة. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: صدوق مدلس. المرجع السابق. وقال عبد الله بن المبارك: كان حجاج بن أرطاة يدلس، وكان يحدثنا بالحديث عن عمرو بن شعيب مما يحدثه محمد العرزمي، والعرزمي متروك لا نقربه. الضعفاء الصغير (ص:75)، ضعفاء العقيلي (1/ 277) رقم 342. وقال الثوري: عليكم به فإنه ما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه. تهذيب التهذيب (2/ 172). وقال أبو طالب، عن أحمد: كان من الحفاظ. قيل: فلم ليس هو عند الناس بذاك؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، ليس يكاد له حديث إلا فيه زيادة. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال يعقوب بن شيبة: واهي الحديث في حديثه اضطراب كثير، وهو صدوق، وكان أحد الفقهاء تهذيب الكمال (5/ 420). وقال عيسى بن يونس: كان لا يحضر الجماعة. فقيل له في ذلك، فقال: احضر مسجدكم حتى يزاحمني فيه الحمالون والبقالون!! تهذيب التهذيب (2/ 172). وقال ابن عدي: إنما عاب الناس عليه تدليسه عن الزهري وعن غيره، وربما أخطأ في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بعض الروايات، فأما أن يتعمد الكذب فلا، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (2/ 223). وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. الطبقات الكبرى (6/ 359). وقال ابن حبان: تركه بن المبارك ويحيى القطان وابن مهدي ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل رحمهم الله أجمعين. المجروحين (1/ 225). وتعقبه الذهبي، فقال: هذا القول فيه مجازفة، وأكثر ما نقم عليه التدليس، وكان فيه تيه لا يليق بأهل العلم. الميزان (1/ 460). وفي التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس. وأما الاختلاف على حجاج، فقد رواه يزيد بن هارون، كما عند أحمد، وابن أبي شيبة (1/ 156)، ومحمد بن يزيد كما عند أحمد، كما في إسناد الباب، وعبد بن حميد كما في المنتخب من مسنده (ص: 103) رقم 220. وأبو معاوية كما في كتاب الزهد ـ هناد بن السري (2/ 625) رقم 1348، عن حجاج، عن مكحول، عن أبي أيوب مرفوعاً. إلا أن أبا معاوية وقفه على أبي أيوب. ورواه الترمذي (1080) حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن مكحول، عن أبي الشمال، عن أبي أيوب به. والطبراني في المعجم الكبير (3/ 183) 4085. فزاد حفص أبا الشمال. وأخرجه الترمذي أيضاً، والمحاملي أيضاً في أماليه (ص: 385) رقم 444، قالا: حدثنا محمود بن خداش البغدادي، حدثنا ابن العوام، عن مكحول، عن أبي الشمال به. إلا أن المحاملي قال: الختان بدلاً من الحياء. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 183) رقم 4085 من طريق عباد بن العوام فزاد عباد أيضاً في الإسناد أبا الشمال. قال أبو زرعة عن أبي الشمال: لا أعرفه إلا في هذا الحديث، ولا أعرف اسمه. الجرح والتعديل (9/ 390). وقال الذهبي: مجهول. الكاشف (6677). وقال الحافظ في التقريب: مجهول. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال أبو عيسى الترمذي: وروى هذا الحديث هشيم ومحمد بن يزيد الواسطي وأبومعاوية وغير واحد، عن الحجاج، عن مكحول، عن أبي أيوب ولم يذكروا فيه عن أبي الشمال. وحديث حفص بن غياث وعباد بن العوام أصح. وقال الدارقطني في علله (6/ 123) يرويه حجاج بن أرطاة، عن مكحول، عن أبي الشمال. واختلف عنه: فرواه عباد بن العوام، وحفص بن غياث، عن حجاج هكذا. وخالفهم عبد الله بن نمير، وأبو معاوية الضرير، ويزيد بن هارون، فرووه عن حجاج، عن مكحول، عن أبي أيوب، لم يذكروا بينهما أحداً إلا أن أبا معاوية من بينهم وقفه. والاختلاف فيه من حجاج بن أرطاة؛ لأنه كثير الوهم. اهـ وورد بلفظ: " الحياء " وقيل بدلاً منها: " الحناء " وقيل بدلاً منها: " الختان ". قال ابن القيم في تحفة المودود (ص: 111): واختلف في ضبطه، فقال بعضهم: الحياء بالياء والمد. وقال بعضهم: الحناء بالنون. وسمعت شيخنا أبا الحجاج المزي يقول: وكلاهما غلط، وإنما هو الختان، فوقعت النون في الهامش فذهبت، فاختلف في اللفظة، وكذلك رواه المحاملي عن الشيخ الذي روى عنه الترمذي بعينه، فقال: الختان. قال: وهذا أولى من الحياء والحناء؛ فإن الحياء خلق، والحناء ليست من السنن، ولا ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - من خصال الفطرة، ولا ندب إليه بخلاف الختان." اهـ ونقل مثله في المنار المنيف (ص: 131)، وفي نقد المنقول (ص: 121). وقد رواه الدارقطني في العلل (6/ 123) بلفظ: " الحناء ". ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 183) رقم 4085 بلفظ الحياء. وله شواهد: الشاهد الأول: حديث ابن عباس رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 186) رقم 11445 حدثنا علي بن المبارك، ثنا زيد بن المبارك، ثنا قدامة بن محمد، ثنا إسماعيل بن شيبة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس من سنن المرسلين، الحياء والحلم، والحجامة والتعطر، والنكاح. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه ابن عدي في الكامل (6/ 51)، حدثنا أحمد بن علي المدائني، ثنا سعد بن عبد الله، ثنا قدامة به. وفي الإسناد: إسماعيل بن شبيب، وقيل شيبة: قال ابن حبان: يتقى حديثه من رواية قدامة عنه. الثقات (8/ 93) رقم 12395. قلت: وهذا منها. وقال النسائي: منكر الحديث. الضعفاء والمتروكين (38). وقال العقيلي: أحاديثه مناكير، ليس منها شيء محفوظ. الضعفاء الكبير (1/ 83) رقم 93. وله ترجمة مطولة في لسان الميزان (1/ 410). وقال ابن عدي: ولقدامة بن محمد، عن إسماعيل، عن ابن جريج غير ما ذكرت من الحديث، وكل هذه الأحاديث في هذا الإسناد غير محفوظة. الكامل قال أبو زرعة: كما في العلل لابن أبي حاتم (2/ 338): " منكر " الشاهد الثاني: حديث مليح بن عبد الله الخطمي، عن أبيه عن جده: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (8/ 10) 1955، قال: نا ابن أبي الفديك، قال: حدثني عمر بن محمد الأسلمي، عن مليح بن عبد الله الخطمي، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: خمس من سنن المرسلين الحياء، والحلم والحجامة والسواك، والتعطر. ورواه أحمد بن عمرو الضحاك، في الآحاد والمثاني (4/ 223) 2208 حدثنا الحوطي ودحيم، قالا: حدثنا ابن أبي فديك به. ورواه الطبراني (22/ 293) رقم 749 حدثنا إسماعيل بن الحسن الخفاف المصري، ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن أبي فديك، به. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/ 137) رقم 7717 من طريق محمد بن إسماعيل (ابن أبي فديك) عن عمرو بن محمد السلمي، عن فليح به. قال ابن حجر في النكت الظراف (3/ 107): " رواه البزار في مسنده، وأبو القاسم البغوي في معجمه، وابن أبي خيثمة في تاريخه، وابن مندة في المعرفة، والبخاري في تاريخه الكبير، من طريق ابن أبي فديك، عن عمرو بن محمد الأسلمي، وذكر إسناده ". اهـ =

وقد ذكره جملة ممن صنف في الأحاديث الضعيفة (¬1). فالدليل الصحيح على أن السواك في شرع من قبلنا ما ثبت عن ابن عباس أن السواك كان مما أمر به إبراهيم الخليل عليه السلام. وأما كون السواك من سنن الفطرة فسبق أن حديث عائشة غير محفوظ. وأما حديث السواك من سنن المرسلين فأحسنها حديث أبي أيوب، وهو ضعيف، وشواهده ضعيفة جداً لا ترقى إلى الاعتبار. والله أعلم. ¬

= وفيه عمرو بن محمد الأسلمي. جاء في الجرح والتعديل: روى عن مليح بن عبد الله الخطمي، وروى عنه ابن أبي فديك، سمعت أبي يقول ذلك، وسمعته يقول: هو مجهول. الجرح والتعديل (6/ 132). ومليح بن عبد الله الخطمي، له ترجمة في الجرح والتعديل، ولم يذكر راوياً عنه سوى عمرو بن محمد الأسلمي، وسكت عليه هو والبخاري فلم يذكرا فيه شيئاً. عن أبيه: عبد الله الخطمي، لم أقف على من ترجم له. فالإسناد ضعيف جداً. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 99): رواه البزار، ومليح، وأبوه، وجده لم أجد من ترجمهم. اهـ قلت: أما جده فله ترجمة في الإصابة (1/ 171). الشاهد الثالث: حديث جابر رواه ابن عدي في الكامل (4/ 191) أخبرنا أحمد بن الحسين الصوفي، ثنا زياد بن يحيى، ثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا المنكدر، عن أبي، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من سنن المرسلين الحياء والتعطر والنكاح. وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري. قال عنه الحافظ في التقريب: متروك، ونسبه ابن حبان إلى الوضع. (¬1) الأسرار المرفوعة - ملا علي قاري (1/ 464). والمنار المنيف - ابن القيم (1/ 295)، النوافح العطرة - الصنعاني (1935)، تحذير المسلمين - المدني (1/ 145).

الباب الأول في ذكر جنس ما يتوسك به

الباب الأول في ذكر جنس ما يتوسك به ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: في التسوك بالعود وبيان الأفضل منه. الفصل الثاني: لا يتسوك بعود يضر اللثة. الفصل الثالث: التسوك بما له رائحة ذكية. الفصل الرابع: التسوك بالأصبع والخرقة. الفصل الخامس: معجون الأسنان هل يحصل به إصابة السنة.

الفصل الأول في التسوك بالعود وأي السواك به أفضل

الفصل الأول في التسوك بالعود وأي السواك به أفضل لا يختلف الفقهاء بأن المستحب أن يكون السواك عوداً ليناً ينقي الفم، ولا يجرحه، ولا يضره، ولا يتفتت فيه، واختلفوا في أي الأعواد أفضل. فقيل: أفضل السواك الأراك. وهو مذهب الجمهور (¬1). ¬

(¬1) جاء في الفتاوى الهندية (1/ 8): " السواك، ينبغي أن يكون من أشجار مرة؛ لأنه يطيب نكهة الفم، ويشد الأسنان، ويقوي المعدة، وليكن رطباً في غلظ الخنصر، وطول الشبر ". اهـ وانظر بريقة محمودية (4/ 188) قال: " وأما نفسه، فأي شجر كان، أراكاً أو غيره، وإن كان الأولى الأراك " اهـ. وفي المذهب المالكي، قال الخرشي (1/ 139): " وأفضل السواك الأراك، أخضر أو يابساً". اهـ وانظر حاشية العدوي (1/ 232). وقال في التاج والإكليل (1/ 380): " قال السواك فضيلة، بقضيب الشجر، وأفضلها الأراك". وقال في مواهب الجليل (1/ 265): " وأما آلته فهي عيدان الأشجار؛ لأنه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسنة الصالحين ". اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/ 102)، والشرح الصغير (1/ 124). وقال في التمهيد (7/ 201): " والسواك المندوب إليه هو المعروف عند العرب، وفي عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الأراك، والبشام، وكل ما يجلو الأسنان إذا لم يكن فيه صبغ ولون فهو مثل ذلك ". اهـ وقال أيضاً (11/ 213): " سواك القوم كان من الأراك والبشام. قال ابن عبد البر: وكل ما جلا الأسنان ولم يؤذها، ولا كان من زينة النساء فجائز الاستنان به ". وفي المذهب الشافعي، قال النووي في المجموع (1/ 336): " قال أصحابنا: يستحب أن يكون السواك بعود، وأن يكون العود من أراك. قال الشيخ نصر المقدسي: الأراك أولى من غيره، ثم بعده النخيل أولى من غيره ". اهـ وقال الرملي من الشافعية (1/ 179): " ويحصل السواك بكل خشن مزيل، لكن العود =

(673 - 9) واستدلوا بما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد وحسن بن موسى، قالا: ثنا حماد، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد. [إسناده حسن، والحديث صحيح] (¬1). ¬

= أولى، والأراك منه أولى ". حاشية البيجرمي على الخطيب (1/ 123). وقال الشوكاني: ويستحب أن يستاك بعود من أراك. اهـ نيل الأوطار (1/ 133). (¬1) فيه عاصم بن أبي النجود، حسن الحديث، إلا أن رواية أحمد كما ذكر الحافظ في التلخيص (1/ 120): موقوفة على ابن مسعود أنه كان يجتني سواكاً من أراك، ولم يقل: إنه كان يجتنيه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف رواية غيره. والحديث أخرجه الطيالسي (355) حدثنا حماد بن سلمة به. ورواه أبو يعلى الموصلي (5310) من طريق روح بن عبادة. ورواه أيضاً (5365) من طريق عفان، كلاهما عن حماد به. وعفان من أثبت أصحاب حماد. ورواه الشاشي (661) من طريق موسى بن إسماعيل، عن حماد به. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 127) من طريق الحجاج بن منهال وعفان، كلاهما، عن حماد به. وأخرجه الطبراني في الكبير (9/ 78) ح 8452 من طريق حجاج بن منهال به. وأخرجه ابن حبان (7069) من طريق عفان به. وتابع زائدة حماد بن سلمة، وأخرجه ابن أبي شيبة (6/ 384) رقم 32229 حدثنا أبو أسامة، قال: حدثني زائدة، عن عاصم به. وللحديث شواهد: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الشاهد الأول: حديث قرة بن إياس. أخرجه الطبراني في الكبير (19/ 28) رقم 59، قال: حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا علي بن المديني، ثنا سهل بن حماد أبو عتاب الدلال، ثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قال: كان بن مسعود على شجرة يجني لهم منها، فهبت الريح، فكشفت عن ساقيه، فضحكوا من دقة ساقيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد. وأخرجه الصيداوي في معجم الشيوخ (ص: 135) حدثنا أبو عتاب، حدثنا شعبة به. وأخرجه ابن الجعد في مسنده (ص: 168) رقم 1092 حدثنا عباس بن محمد، نا أبوعتاب الدلال به. وأخرجه الدوري في تاريخ ابن معين من روايته (3/ 59) رقم 225 نا أبو عتاب الدلال سهل بن حماد به. وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات إلا أبا عتاب، وهو صدوق. وأخرجه الحاكم (3/ 317) والخطيب في تاريخ بغداد (1/ 148) من طريق عبد الملك بن محمد الرقاشي، ثنا أبو عتاب به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (9/ 289) " رواه البزار والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح". اهـ الشاهد الثاني: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه رواه أحمد في مسنده (1/ 114)، قال: ثنا محمد بن فضيل، ثنا مغيرة، عن أم موسى، قالت: سمعت علياً رضي الله تعالى عنه يقول: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود، فصعد علي شجرة، أمره أن يأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة فضحكوا من حموشة ساقيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تضحكون؟ لَرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، إلا أم موسى لم يرو عنها إلا مغيرة بن مقسم الضبي، قال: الدارقطني حديثها مستقيم يخرج حديثها اعتباراً. اهـ روى لها البخاري في الأدب وأبو داود والنسائي وابن ماجه. تهذيب الكمال (35/ 388). وذكرها ابن سعد في الطبقات الكبرى، ولم يذكر فيها شيئاً. الطبقات (8/ 485). =

الدليل الثاني: (674 - 10) روى أحمد بن عمرو بن الضحاك، قال: حدثنا خليفة بن خياط، ثنا عون بن كهمس بن الحسن، عن داود بن المساور، ثنا مقاتل بن همام، عن أبي خيرة الصنابحي، قال: كنا في الوفد الذين أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من عبد القيس، فزودنا الأراك نستاك به. فقلنا يا رسول الله عندنا الجريد، ولكن نقبل كرامتك وعطيتك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم غفر لعبد القيس إذ أسلموا طائعين غير خزايا ولا موتورين (¬1). وفي رواية للطبراني، وفيه: " ثم أمر لنا بأراك فقال: استاكوا بهذا ". [إسناده ضعيف جداً، ومتنه منكر، وقصة وفد عبد القيس في ¬

= وقال الهيثمي: رجالهم رجال الصحيح، غير أم موسى، وهي ثقة. اهـ مجمع الزوائد (9/ 288،289). تخريج رواية أم موسى أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 384) رقم 32232 حدثنا محمد بن فضيل به، ومن طريق محمد بن فضيل أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 155)، والبخاري في الأدب المفرد (237) وأبو يعلى (539). وأخرجه أبو يعلى الموصلي (595) والطبراني (9/ 95) رقم 8516 من طريق جرير، عن مغيرة به. وأظن أن مغيرة لم يسمعه من أم موسى، وإنما سمعه من إبراهيم النخعي، فقد أخرج الخطيب البغدادي (7/ 191) من طريق هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن أم موسى، عن علي. وعلى كل سواء كان سمعه من مغيرة، أو من أم موسى، فالساقط مقبول. (¬1) الآحاد والمثاني (3/ 258) رقم 1625.

الصحيحين، وليس فيها ذكر السواك] (¬1). ¬

(¬1) في الإسناد عون بن كهمس. ذكره البخاري وابن أبي حاتم، وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه شيئاً. التاريخ الكبير (7/ 18)، والجرح والتعديل (6/ 388). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 515). وقال الذهبي: ثقة. الكاشف (2/ 102)، ولا أعلم أحداً سبق الذهبي غير ابن حبان، ومذهب ابن حبان معروف. وقال الحافظ في التقريب: مقبول: أي في المتابعات، وإلا فلين، ولا أعلم أحداً تابعه على هذا الحديث، بل متنه مخالف لما في الصحيحين من قصة وفد عبد القيس. والله أعلم. وفيه أيضاً داود بن المساور: ذكره البخاري في التاريخ الكبير (3/ 237)، وسكت عليه. وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه شيئاً، ولم يذكر راوياً عنه إلا عون بن كهمس. وذكره ابن حبان في الثقات. (8/ 234)، ولا أعلم أحداً وثقه غيره، فهو مجهول. ومقاتل بن همام: ذكره البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه شيئاً، وما ذكرا راوياً عنه إلا داود بن المساور. التاريخ الكبير (8/ 13)، الجرح والتعديل (8/ 353). ولم يوثقه أحد. وقال الهيثمي: إسناده حسن!! مجمع الزوائد (2/ 100). تخريج الحديث: ذكره البخاري في الكنى (1/ 28)، قال خليفة بن خياط، حدثنا عون به. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/ 368) رقم 924. من طريق شباب العصفري، ثنا عون بن كهمس به. ورواه أيضاً (22/ 368) رقم 923، من طريق محمد بن حمران بن عبد العزيز القيسي، ثنا داود بن المساور به. وذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/ 87) أخبرت عن خليفة بن خياط، قال: حدثنا عون بن كهمس به. وذكر الحديث ابن عبد البر في الاستيعاب (8/ 1643). =

القول الثاني: قالوا: لا فرق بين الأراك، والعرجون والزيتون، وهو مذهب الحنابلة. قال في الإنصاف: " التساوي بين جميع ما يستاك به، وهو المذهب وعليه الأصحاب (¬1). وقال البهوتي: " السواك من أراك أو عرجون أو زيتون أو غيرها، واقتصر كثير من الأصحاب على الثلاثة، وذكر الأزجي لا يعدل عن الأراك والزيتون والعرجون إلا لتعذره " (¬2). هذا الاختلاف فيما يتعلق بتقديم الأراك على غيره. وأما غير الأراك كالنخيل والزيتون، ونحوهما، فأيهما أفضل؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: قيل: يأتي بعد الأراك في الأفضلية جريد النخل، ثم الزيتون، وبه قالت ¬

= وقال الحافظ في الإصابة (7/ 111) أخرج البخاري في التاريخ مختصراً، وخليفة الدولابي، والطبراني، وأبو أحمد الحاكم من طريق داود بن المساور، عن مقاتل بن همام، عن أبي خيرة الصنابحي، وذكر الحديث. وسكت عليه الحافظ هنا، كما سكت عليه في التلخيص (1/ 71). (¬1) الإنصاف (1/ 119). (¬2) قال في المحرر (1/ 10): ويستاك عرضا بعود أراك أو زيتون أو عرجون لا يجرح الفم ولا يتفتت ". اهـ وانظر كشاف القناع (1/ 73)، والإنصاف (1/ 119)، إلا أن ابن مفلح قال في الفروع (1/ 126):" ويتوجه احتمال أن الأراك أولى لفعله عليه السلام ". اهـ وانظر الكافي (1/ 22).

المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). (675 - 11) واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري، قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، ومر عبد الرحمن بن أبي بكر، وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها، فمضغت رأسها، ونفضتها، فدفعتها إليه فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها، فسقطت يده، أو سقطت من يده فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة (¬3). الشاهد من الحديث: قولها رضي الله عنها، وفي يده جريدة رطبة، ثم قالت: " فاستن بها تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ". ¬

(¬1) قال الخرشي بعد أن ساق مذهب الشافعية (1/ 139): " والظاهر أن مذهبنا لا يخالف في ذلك ". وانظر الشرح الصغير (1/ 124). (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 336): " قال أصحابنا يستحب أن يكون السواك بعود، وأن يكون بعود أراك، قال الشيخ نصر المقدسي: الأراك أولى من غيره، ثم بعده النخل أولى من غيره ". اهـ وقال في أسنى المطالب (1/ 37): " وأولاه ـ يعني السواك ـ الأراك اتباعاً، ثم بعده النخل من غير الأراك ". اهـ الغرر البهية شرح البهجة الوردية ـ زكريا الأنصاري (1/ 108)، تحفة المحتاج ـ الهيتمي (1/ 215)، مغني المحتاج (1/ 55). (¬3) صحيح البخاري (4296).

الدليل على كون السواك من الزيتون

قال في تحفة المحتاج: " ثم بعده ـ أي بعد الأراك ـ النخل؛ لأنه آخر سواك استاك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). القول الثاني: قيل: يأتي بعد الأراك الزيتون، وما ذكروا جريد النخل. وهو مذهب الحنفية (¬2). وأما الحنابلة فتقدم مذهبهم، وأن الأراك والزيتون والعرجون سواء عندهم في المشهور من مذهبهم. الدليل على كون السواك من الزيتون. (676 - 12) روى الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن علي الأبار ثنا معلل ابن نفيل ثنا محمد بن محصن عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة يطيب الفم ويذهب بالحفر، وهو سواكي ¬

(¬1) تحفة المحتاج (1/ 215). (¬2) قال ابن عابدين في حاشيته (1/ 115): " وأفضله الأراك، ثم الزيتون ". اهـ وأما الحنابلة فقد تقدم أنهم يسوون بين الأراك والنخيل والعرجون. قال في الإنصاف (1/ 119): " التساوي بين جميع ما يستاك به، وهو المذهب وعليه الأصحاب. وقال في الفروع: ويتوجه احتمال أن الأراك أولى. انتهى قال المرداوي: ويتوجه أن أراك البر. وذكر الأزجي: أنه لا يعدل عن الأراك والزيتون والعرجون إلا لتعذره. قال في الرعاية الكبرى: من أراك وزيتون أو عرجون. وقيل: أو قتاد، واقتصر كثير من الأصحاب على هذه الثلاثة.

وسواك الأنبياء قبلي. [موضوع] (¬1). ¬

(¬1) مسند الشاميين (1/ 50) رقم 46، وفي الأوسط بالإسناد نفسه (1/ 210) رقم 682. فيه محمد بن محصن: اسمه محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن عكاشة. قال ابن معين: كذاب. الضعفاء الكبير (4/ 29). وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه. المجروحين (2/ 277). وقال الدارقطني: يضع الحديث. الكشف الحثيث (621). وقال الذهبي: تالف. سير أعلام النبلاء (4/ 27)، وفي الكاشف (2/ 214): ساقط. وفي التقريب: كذبوه. وقال الحافظ في التلخيص: وروى أبو نعيم في معرفة الصحابة، في ترجمة أبي زيد الغافقي رفعه، الأسوكة ثلاثة: أراك فإن لم يكن أراك فعنم أو بطم. قال راويه العنم الزيتون. ولم أقف على إسناده لأنظر في رجاله. اهـ

مبحث هل يتعين السواك بالثلاثة الأراك والجريد والزيتون؟

مبحث هل يتعين السواك بالثلاثة الأراك والجريد والزيتون؟ قال النووي: "وبأي شيء استاك مما يزيل التغير والقلح أجزأه. كذا قال أصحابنا واتفقوا عليه. قال القاضي أبو الطيب، وآخرون: فيجوز الاستياك بالسُّعْد (¬1)، والأشنان (¬2)، ¬

(¬1) وصف ابن سينا في القانون نبات السعد، وقال: " إن فيه منفعة عجيبة في القروح التي عسر اندمالها. والسعد: من الطيب نبت له أصل تحت الأرض (وهو الدرنة) أسود طيب الريح، وله ساق طولها ذراع أو أكثر، وعلى طرفه أوراق صغار نابية وبزر، وأصوله كأنها زيتون ... منه طوال، ومنه مرور مشبك بعضه مع بعض .. طيب الرائحة فيه مرارة، وأجوده الكثيف الوزن العطر الذي حشيشته قصيرة، وحرافته شديدة، يدخل في المراهم، يحسن اللون، ويطيب النكهة، وينفع من عفن الفم، والأنف والقلاع، واسترخاء اللثة، ويزيد في الحفظ جداً، وينفع من قروح الفم المتآكلة، ويخرج الحصاة، ويدرها، وينفع من تقطير البول، وضعف المثانة جداً ... وينفع من البواسير، والاستسقاء ولحميات العتيقة .. وهو نافع من لسعة العقرب، والحشرات جداً .. الخ كلامه. نقله الدكتور محمد البار من كتاب القانون في الطب لابن سينا (الأدوية المفردة والنباتات) شرح جبران جبور، وتعليق أحمد الشطي، مؤسسة المعارف، بيروت 1986 (ص: 217). وذكر عبد الرحمن العقيل وزملاؤه في كتاب النباتات السعودية المستعملة في الطب الشعبي: أن موطنه جنوبي الحجاز، وشماليه. (¬2) قال أبو القاسم الغساني المعروف بالوزير في كتابه حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار (ص: 32)، قال في وصف الأشنان: " أنواعه كثيرة، وكلها يطلق عليها الحمضي: وهو نبات أشهب اللون أغبر ما ئل إلى الحمرة، رقيق الساق، دقيق الورق، وزهره أبيض مائل إلى الحمرة، يعلو من الأرض نحو الشبر، وأغصانه كثيرة، وهو مشهور معروف عندنا بالمغرب، كثيراً ما ينبت بناحية مراكش، ويسمى عندهم بالغاسول، وعندنا بفاس يقولون: الغاسول =

وشبههما (¬1). وقال العراقي: " أصل السنة تتأدى بكل خشن يصلح لإزالة القلح كالخرقة، والخشبة، ونحوها .. " اهـ (¬2). ¬

= العشبي، وإنما سمي بالغاسول؛ لأنه يغسل به الثياب، فينقيها من درنها، ويبيضها، وله رغوة كرغوة الصابون، ويسمى بالعربية الفصيحة (الحمض)، ويقال له: أشنان القصارين، لتبييضه الثياب، ويعرف أيضاً بخرد العصافير " اهـ تعليق وتحقيق محمد العربي الخطابي. إصدار دار الغرب الإسلامي. (¬1) المجموع (1/ 335). وقول النووي: " وشبههما " يدخل فيه أشياء كثيرة، منها شجرة النيم. قال الدكتور البار، في كتابه السواك: " تستخدم أعواد النيم في بعض المناطق، مثل باكستان، والهند لتنظيف الأسنان، وتتخذ منها المساويك، وهي شجرة واسعة الانتشار في المناطق الحارة، وشبه الحارة، وأوراقها مرة، وتستخدم لعلاج القروح والالتهابات، ولعلاج اللثة، وقد قام (راثجي rathje) في الولايات المتحدة باستخدام النيم لعلاج اللثة الملتهبة، ونشر بحثه في ذلك، في المجلة المعروفة باسم (Quintessence) الخلاصة الجوهر) عام 1971. وفي الهند قامت شركة في كالكتا باستخراج معجون الأسنان من شجرة النيم، واسمته معجون نيم (neem) وقد لاقى نجاحاً طبياً. واسم الشركة المنتجة (M/s Calcutta chemical) . الخ كلامه وفقه الله. (¬2) طرح التثريب (2/ 68).

الفصل الثاني لا يتسوك بعود يضر اللثة

الفصل الثاني لا يتسوك بعود يضر اللثة اتفقت عبارات الفقهاء في النهي عن التسوك بعود يضر اللثة. كالريحان والرمان، واختلفوا في النهي. فقيل: يكره، وهو المشهور من مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يحرم، وهو قول عند الحنابلة (¬2). دليل الكراهة أو التحريم. الدليل الأول: (677 - 13) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن ¬

(¬1) قال في حاشية ابن عابدين (1/ 115): " ويكره بمؤذ. قال في الحلية: وقال غير واحد: من العلماء: كراهته بقضبان الرمان والريحان. وفي شرح الهداية للعيني: روى الحارث في مسنده عن ضمير بن حبيب، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السواك بعود الريحان، وقال: إنه يحرك عرق الجذام، وفي النهر: ويستاك بكل عود إلا الرمان والقصب". اهـ وفي المذهب المالكي جاء في مواهب الجليل (1/ 265): " ويتجنب من السواك ما فيه أذى للفم، كالقصب؛ فإنه يجرح اللثة ويفسدها، وكالريحان ونحوه مما يقول الأطباء فيه فساد، وقد نص على ذلك جماعة من العلماء ". اهـ وانظر التاج والأكليل (1/ 380)، والخرشي (1/ 139)، والفواكة الدواني (1/ 136)، حاشية الدسوقي (1/ 102)، والشرح الصغير (1/ 125). وفي المذهب الشافعي تحفة المحتاج بشرح المنهاج (1/ 215)، مغني المحتاج (1/ 183)، حاشية البجيرمي على المنهج (1/ 73). وفي المذهب الحنبلي انظر كشاف القناع (1/ 74)، الفروع (1/ 128)، المغني (1/ 118)، والإنصاف (1/ 119)، مطالب أولى النهى (1/ 80). (¬2) الفروع (128). طرح التثريب (2/ 66).

أبي بكر الشيباني، عن ضمرة بن حبيب، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السواك بعود الريحان والرمان، وقال: يحرك عرق الجذام. [إسناده ضعيف لإرساله، وضعف أبي بكر] (¬1). ¬

(¬1) المصنف (6/ 244)، وفيه أبو بكر بن أبي مريم قال عباس ومعاوية، عن يحيى يعني ابن معين: قال: أبو بكر بن أبي مريم الغساني شامي، ضعيف الحديث، ليس بشيء، وهذا مثل الأحوص بن حكيم ليس بشيء. الكامل (2/ 36) رقم 277. وقال حرب بن إسماعيل، عن أحمد: ضعيف، كان عيسى لا يرضاه. وقال الآجري، عن أبي داود: قال أحمد ليس بشيء. قال أبو داود: سرق له حلى فأنكر عقله. تهذيب التهذيب (12/ 33) وقال إسحاق بن راهويه: يذكر عن عيسى بن يونس، قال: لو أردت أبا بكر بن أبي مريم على أن يجمع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً لفعل، يعني: راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، وحبيب بن عبيد. المرجع السابق. وقال ابن عدي: الغالب على حديثه الغرائب، وقل ما يوافقه عليه الثقات، وأحاديثه صالحة، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولكن يكتب حديثه. المرجع السابق. قال الجوزجاني: ليس بالقوي في الحديث، وهو متماسك. أحوال الرجال (ص:172). وقال الذهبي: ضعفوه، له علم وديانة. الكاشف (2/ 411) وفي التقريب: ضعيف، وكان قد سرق بيته، فاختلط من السابعة. وقد ترجم له الذهبي في السير (7/ 65). كما أن ضمرة بن حبيب، تابعي، وقد رفع الحديث. تخريج الحديث: رواه الحارث في مسنده، كما في المطالب العالية (68)، قال: حدثنا الحكم بن موسى، ثنا عيسى بن يونس به. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: من النظر، إن تعاطي ما فيه ضرر لا يجوز، بل ولو كان فيه نفع، وكان ضرره أكثر من نفعه، فهو محرم، قال تعالى: {ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير، ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} (¬1). فما كان ضرره أكثر من نفعه غلب جانب التحريم، وهذه قاعدة شرعية. ومنها نستدل على تحريم الدخان؛ حيث لا نفع فيه البتة، بل لو قال أحد: إنه أولى بالتحريم من الخمر لم يكن بعيداً؛ لأن الخمر فيه نفع، ولو مطلق النفع، بخلاف الدخان. والله أعلم. ¬

= وعزاه ابن الملقن في البدر المنير (3/ 220)، والمناوي في الفيض القدير (6/ 315) إلى أبي نعيم في كتاب الطب. (¬1) البقرة: 219.

الفصل الثالث التسوك بما له رائحة ذكية

الفصل الثالث التسوك بما له رائحة ذكية قيل: يستاك بقضبان الأشجار الناعمة التي لا تضر , ولها رائحة طيبة تزيل القلح (¬1)، كالقتادة والسعد. وهو مذهب ¬

(¬1) يقول الدكتور البار، في كتابه السواك (ص: 88): " يتكون القلح نتيجة عدم تنظيف السن، مثل اللويحة السنية من ترسب الأملاح في اللعاب فوق حافة اللثة، وفي اللثم اللثوي، وعلى الجذور، وأعناق الأسنان. والقلح (calculus) عبارة عن رواسب مواد عضوية، وغير عضوية، مثل كربونات، وفوسفات الكالسيوم، وفوسفات الماغنيسيوم والمخاط اللعابي، وفضلات الأكل والبكتريا .. وبمرور الزمن تتصلب، وخاصة إذا أهمل الشخص تنظيف أسنانه. ومن المعلوم أن الأسنان واللثة والميزاب (الثلم) اللثوي تكون مغطاة باللعاب الخفيف اللزج الذي سرعان ما يرسب المواد الكلسية عند تشبعه، وتوضح المعادلة التالية أن كربونات الكالسيوم المذابة تتشبع في الميزاب اللثوي فترسب كربونات الكالسيوم، وغاز ثاني أكسيد الكربون والماء. ثم قال: وينقسم القلح إلى نوعين: الأول: القلح اللعابي: وهو ماسبق شرحه من القلح، ويترسب على الأسنان الطبيعية، وعلى الأطعمة الصناعية، ويوجد بغزارة مقابل فتحات الغدد اللعابية بالفم، ويترسب القلح بغزارة إذا كانت الأسنان غير منتظمة ومعوجة لصعوبة تنظيفها، ويكون القلح طرياً أول الأمر، تسهل إزالته بالسواك، ولونه ضارب إلى الصفرة. ومع مرور الزمن يصلب، ويغدو بنياً داكناً، وخاصة لدى المدخنين. الثاني: القلح المصلي. ويتكون في الميزاب اللثوية، وعلى جذور الأسنان، وبخاصة إذا كان الشخص يعاني من التهاب محيط الأسنان (البيوريا، النساع، الرعال) وتصعب رؤيته لأنه يوجد عادة تحت حافة اللثة، ويتكون ببطء، وهو صلب جداً، وملتصق بالأسنان، ولونه بني مخضر، وذلك لوجود أصباغ الدم المتغيرة فيه، ولذا يضرب إلى اللون الأخضر الداكن. =

المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقال الحنابلة: يكره بكل ذي رائحة ذكية (¬3). وتعليل المالكية والشافعية بأنه أقوى في إزالة القلح. ¬

= ويتشرب القلح المواد الصديدية الناتجة عن التهاب اللثة، والتهاب ما حول السن (الحفر، البيوريا، النَّساع، الرعال). وأهم العوامل التي تؤدي إلى القلح هي: 1 ـ عدم تنظيف الأسنان بانتظام عدة مرات في اليوم والليلة. 2 ـ عدم مضغ الطعام جيداً. 3 ـ التدخين. 4 ـ خشونة أسطح بعض الأسنان. 5 ـ اعوجاج الأسنان، وعدم انتظامها. 6 ـ زيادة لزوجة اللعاب، وقلة مائيته عند بعض المرضى. 7 ـ ضمور وتراجع اللثة هن أعناق الأسنان. 8 ـ الاستعمال الخاطئ للسواك (فرشاة الأسنان). 9 ـ الطعام الرخو، والسكريات. ويؤدي القلح إلى (1) نخر الأسنان. (2) التهاب اللثة. (3) التهاب ما حول الأسنان المعروف بالحفر (البيوريا، الرعال، النساع). (¬1) قال الصاوي في الشرح الصغير (1/ 124): " الأفضل الأراك، ثم جريد النخل، ثم عود الزيتون، ثم ما له رائحة ذكية " فنص على الرائحة الذكية. (¬2) قال في شرح البهجة الدرية (1/ 108): " وأولى السواك ذو الريح الطيب "، وانظر حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 158)، حاشية البجيرمي (1/ 73) .. اهـ (¬3) قال في كشاف القناع (1/ 74): " ويكره السواك بريحان، وهو الآس، قيل: إنه يضر بلحم الفم، وبرمان، وبعود ذكي الرائحة ... " الخ. وانظر الإنصاف (1/ 119)، ومطالب أولى النهى (1/ 80).

وتعليل الحنابلة بأنه يضر باللثة. والمرجع في ذلك إلى الطب فإن ثبت الضرر بها طبياً، كان منهياً عنها. وإن لم يثبت فالأصل الإباحة. والله أعلم.

الفصل الرابع التسوك بالأصبع والخرقة

الفصل الرابع التسوك بالأصبع والخرقة اختلف الفقهاء في الرجل يشوص فاه بأصبعه، هل يصيب السنة في ذلك أم لا؟ فقيل: إذا تسوك بالأصبع والخرقة لا يصيب السنة مطلقاً، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يصيب السنة مطلقاً. اختاره بعض المالكية (¬3)، ووجه في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: إن لم يقدر على عود أصاب السنة، وإلا فلا، وهو مذهب ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (2/ 335): " وأما الأصبع فإن كانت لينة لم يحصل بها السواك بلا خلاف، وإن كانت خشنة ففيها أوجه: الصحيح المشهور لا يحصل؛ لأنها لا تسمى سواكاً. اهـ وانظر حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 58)، تحفة المحتاج (1/ 216)، مغني المحتاج (1/ 183)، وطرح التثريب (2/ 66). (¬2) قال في كشاف القناع (1/ 74):" وإن استاك بغير عود، كأصبع وخرقة لم يصب السنة". اهـ (¬3) قال في أقرب المسالك (1/ 124) ويكفي الأصبع عند عدمه. وقيل: يكفي ولو وجد العود. اهـ وقال في الفواكه الدواني (1/ 136): " وإن استاك بأصبعه فحسن مرغب فيه، أي مستحب، وإنما قلنا مع عدم وجود شيء ... الخ إشارة إلى أن الأفضل الاستياك بغير الأصبع عند وجود الغير ". (¬4) المجموع (2/ 335). (¬5) كشاف القناع (1/ 74)، المغني (1/ 118).

دليل من قال: لا يتسوك بالأصبع

الحنفية (¬1)، وعليه أكثر المالكية (¬2). وقيل: يجزئ إن كان خشناً، وكان الأصبع من يد غيره، وإن كان أصبعه هو لم يحصِّل بها السنة. اختاره النووي (¬3). دليل من قال: لا يتسوك بالأصبع. التعليل الأول: أن الأصبع لا تسمى سواكاً، ولا هي في معناه. التعليل الثاني: أن الشرع لم يرد بالتسوك بالأصبع. التعليل الثالث: أن التسوك تارة يكون للنظافة، وتارة لتحصيل السنة ولو كان الفم نظيفاً، كالتسوك للصلاة، وعند الوضوء، فلا تحصل السنة بأمر لم يرد به الشرع. دليل من قال السواك بأصبع الغير يصيب السنة دون أصبعه. قال النووي بعد أن ذكر أوجه الخلاف في السواك بالأصبع، قال: "ثم الخلاف إنما هو في إصبعه، أما أصبع غيره الخشنة فتجزئ قطعاً؛ لأنها ليست جزءاً منه، فهي كالأشنان ". اهـ (¬4). ¬

(¬1) فتح القدير (1/ 24،25)، الجوهرة النيرة (1/ 6)، الفتاوى الهندية (1/ 7). (¬2) قدمه في الشرح الصغير (1/ 124)، قال الخرشي (1/ 139): " ومن لم يجد سواكاً فأصبعه تجزئه " وعلق علي ذلك العدوي في حاشيته قائلاً: " وظاهر كلام المؤلف سواء كانت أصبعه لينة أو خشنة ". اهـ، وقال في حاشية الدسوقي (1/ 102): يكفي في الاستياك الأصبع عند عدم غيره. وقال في مواهب الجليل (1/ 265): " وأما آلته ـ يعني السواك ـ فهي عيدان الأشجار، ثم قال: أو بأصبعه إن لم يجد ". اهـ وانظر التاج والإكليل (1/ 380). (¬3) المجموع (1/ 335). (¬4) المجموع (1/ 335).

أدلة القائلين بجواز التسوك بالأصبع

قلت: هذه ظاهرية واضحة، ودليل على ضعف منع التسوك بالأصبع. قال العراقي في طرح التثريب: " لا أدري ما وجه التفريق بين أصبعه وأصبع غيره، وكونه جزءاً منه لا يظهر منه ما يقتضي منعه، بل كونها أصبعه أبلغ في الإزالة؛ لأنه يتمكن بها أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه". ثم قال: والحديث الذي ورد في السواك بالأصبع أعم من أصبعه وأصبع غيره، بل في بعضها التصريح بأصبع المستاك، كما رواه البيهقي في سننه من حديث أنس، أن رجلاً من الأنصار من بني عمرو بن عوف، قال: يا رسول الله إنك رغبتنا في السواك، فهل دون ذلك من شيء؟ قال: إصبعاك سواك عند وضوئك، تمرهما على أسنانك .. الحديث، ورجاله ثقات (¬1) إلا أن الراوي عن أنس بعض أهله غير مسمى، وقد ورد في بعض طرقه بأنه النضر بن أنس، وهو ثقة، ولفظه: " يجزئ من السواك الأصابع " وفيه عيسى بن شعيب البصري. قال فيه عمرو بن علي الفلاس: إنه صدوق. وقال ابن حبان: كان ممن يخطئ حتى فحش خطؤه، فاستحق الترك. وبالجملة فلا يظهر معنى التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره، فالمختار كما قال النووي: تؤدى به السنة مطلقاً ما لم تكن ناعمة لا تزيل القلح. والله أعلم. (¬2). أدلة القائلين بجواز التسوك بالأصبع. الدليل الأول: (678 - 14) ما رواه أحمد، قال ثنا محمد بن عبيد، ثنا مختار، ¬

(¬1) إسناده ضعيف، وفيه اختلاف كثير، وسيأتي بحثه إن شاء الله في أدلة القول التالي لهذا القول. والله أعلم. (¬2) طرح التثريب (2/ 67،68).

عن أبي مطر، قال: بينا نحن جلوس مع أمير المؤمنين على في المسجد على باب الرحبة، جاء رجل فقال: أرني وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عند الزوال فدعا قنبر، فقال: ائتني بكوز من ماء فغسل كفيه ووجهه ثلاثا، وتمضمض ثلاثا فأدخل بعض أصابعه في فيه، واستنشق ثلاثاً، وغسل ذراعية ثلاثا، ومسح رأسه واحدة، فقال: داخلهما من الوجه وخارجهما من الرأس، ورجليه إلى الكعبين ثلاثا، ولحيته تهطل على صدره، ثم حسا حسوة بعد الوضوء، ثم قال: أين السائل عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ كذا كان وضوء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [إسناده ضعيف جداً، وذكر إدخال الأصبعين في فيه منكر] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 158). (¬2) في الإسناد: مختار بن نافع التيمي. قال أبو حاتم الرازي: شيخ منكر الحديث. الجرح والتعديل (8/ 311) رقم 1440. وقال البخاري: مختار بن نافع التيمي، عن ابن مطر، منكر الحديث. الضعفاء الصغير (ص:110) رقم 357. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 210) رقم 1797. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا كان يأتي بالمناكير عن المشاهير حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلك. المجروحين (3/ 9) 1038. وقال أبو زرعة واهي الحديث. تهذيب الكمال (27/ 321). وقال النسائي: منكر الحديث، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. المرجع السابق. وفي الإسناد أيضاً أبو مطر قال أبو زرعة: ما أعرف اسمه. الجرح والتعديل (9/ 455) الرقم 2251. وقال عمر بن حفص بن غياث: ترك أبي حديث أبي مطر. المرجع السابق. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (679 - 15) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا الساجي، قال: حدثني محمد بن موسى، ثنا عيسى بن شعيب، عن عبد الحكم، عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: يجزئ من السواك الأصابع. [إسناده ضعيف جداً] (¬1). ¬

= وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن أبى مطر، فقال: مجهول لا يعرف. وقد نقل ما تقدم الحسيني في الإكمال (1172)، وابن حجر في تعجيل المنفعة (ص: 520) 1398. وقال الحافظ في اللسان: مجهول. لسان الميزان (7/ 107) 1150. والحديث أخرجه عبد بن حميد، كما في المنتخب (95) عن محمد بن عبيد به. والحديث قد رواه محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن عباس، عن علي كما في المسند (1/ 82، 83)، وسنن أبي داود (117)، والبزار (464، 463)، وأبو يعلى (600)، وابن خزيمة (153)، وابن حبان (1080)، والبيهقي (1/ 53،54)، من طرق كثيرة، عن ابن إسحاق به، ولم يذكر ما ذكره مختار بن نافع، وسوف يأتي الكلام على حديث ابن عباس عن علي في المسح على الخفين إن شاء الله بمزيد من التفصيل عن متنه. والله أعلم. (¬1) الكامل (5/ 334)، ومن طريق ابن عدي رواه البيهقي (1/ 40). وفي الإسناد: عبد الحكم القسملي، قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/ 129) رقم 1928، الضعفاء الصغير (ص: 79) رقم 242. وقال أبو نعيم الأصبهاني: روى عن أنس نسخة منكرة لا شيء. ضعفاء الأصبهاني (134). وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن أنس ما ليس من حديثه، ولا أعلم له معه مشافهة، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب. المجروحين (2/ 143) رقم 750. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مما لا يتابع عليه، وبعض متون ما يرويه مشاهير إلا أنه بالإسناد الذي يذكره عبد الحكم لعله لا يروى ذاك. الكامل (5/ 334) 1489. والعبارة التي نقلها الحافظ في التهذيب: إلا أنه بإسناد لا يذكره غيره. وقال أبو حاتم الرازي: هو منكر الحديث ضعيف الحديث. قلت: يكتب حديثه قال زحفاً. الجرح والتعديل (6/ 35) رقم 189. وفي الإسناد أيضاً محمد بن موسى بن نفيع الخرشي. قال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عنه فوهاه وضعفه. تهذيب الكمال (26/ 528). وقال أبو حاتم: شيخ. الجرح والتعديل (8/ 84) رقم 354. وقال النسائي في مشيخته: صالح، أرجو أن يكون صدوقاً. تهذيب التهذيب (9/ 425). وفي التقريب: لين. وأما عيسى بن شعيب النحوي: قال ابن حبان: كان ممن يخطئ حتى فحش خطؤه، فلما غلب الأوهام على حديثه استحق الترك. المجروحين (2/ 120) رقم 707. قال في لسان الميزان: لين (7/ 331) رقم 4327. وقال عمرو بن علي: بصري صدوق. تهذيب التهذيب (8/ 191) رقم 396. وذكره ابن الجوزي في الضعفاء. ومع ضعف إسناده، فقد اختلف فيه: فرواه الساجي، كما سبق، عن محمد بن موسى، عن عيسى بن شعيب، عن عبد الحكم، عن أنس. ورواه البيهقي (1/ 40) من طريق أبي عاصم النبيل، عن محمد بن موسى، عن عيسى بن شعيب، ثنا عبد الله بن المثنى، عن النضر بن أنس، عن أبيه. وتابع عبد الرحمن بن صادر المدايني أبا عاصم النبيل في هذا الطريق فرواه البيهقي (1/ 41) من طريق عبد الرحمن، ثنا عيسى بن شعيب، ثنا عبد الله =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بن المثنى، عن النضر بن أنس، عن أنس. وأخرجه الضياء المقدسي في المختارة، من طريق أبي محمد الدقيقي: هو عبد الله بن محمد بن يزيد، ثنا محمد بن المثنى ـ أبو موسى الزمن ـ ثنا عيسى بن شعيب، عن عبد الله بن المثنى الأنصاري، عن النضر بن أنس، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يجزئ من السواك الأصابع. قال المقدسي: إسناد حسن. ورواه خالد بن خداش، فخالف فيه عيسى بن شعيب. فرواه البيهقي (1/ 41) أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنا أبو جعفر الرزاز، ثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، ثنا خالد بن خداش، ثنا عبد الله بن المثنى الأنصاري، حدثني بعض أهل بيتي، عن أنس بن مالك أن رجلاً من الأنصار ومن بني عمرو بن عوف، قال: يا رسول الله إنك رغبتنا في السواك، فهل دون ذلك من شيء. قال: أصبعاك سواك عند وضوئك، تمرهما على أسنانك. إنه لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له. قال البيهقي: وهذا هو المحفوظ من حديث ابن المثنى. دارسة الإسناد: أبو الحسين بن بشران، هو علي بن محمد بن عبد الله بن بشران العدل، قال الخطيب في تاريخ بغداد (12/ 98): " كتبنا عنه، وكان صدوقاً حسن الأخلاق، تام المرؤة، ظاهر الديانة ". اهـ أبو جعفر الرزاز، واسم أبي جعفر محمد بن عمرو الرزاز. قال الخطيب: كان ثقة ثبتاً. تاريخ بغداد (3/ 132). وقال الحاكم: كان ثقة مأموناً. سير أعلام النبلاء (15/ 385). - أحمد بن إسحاق بن صالح بن عطاء الوزان. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق. الجرح والتعديل (2/ 41). وقال الدارقطني: لا بأس به. تاريخ بغداد (4/ 28). - خالد بن خداش. قال محمد بن سعد: كان ثقة. الطبقات الكبرى (7/ 347). وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة صدوقاً. تهذيب التهذيب (3/ 74) رقم 162. وقال سليمان بن حرب: صدوق لا بأس به، وكان يختلف معنا إلى حماد بن زيد، وأثنى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عليه خيراً، وقال: كان كثير الاختلاف إلى حماد بن زيد، أو كثير اللزوم له. الجرح والتعديل (3/ 327) رقم 1468. وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 225) رقم 13135. وقال الدارقطني: ثقة، ربما وهم. العلل (11/ 204). وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. الجرح والتعديل (3/ 327) رقم 1468. وقال يحيى بن معين، وصالح بن محمد البغدادي: صدوق. تهذيب الكمال (8/ 45) رقم 1602. وقال الساجي: فيه ضعف. وقال ابن المديني: ضعيف. تهذيب التهذيب (3/ 74) رقم 162. وفي التقريب: صدوق يخطئ. قلت: لو قال: صدوق ربما وهم لكان أقرب لأنه قد وثقه جماعة، وأنكروا عليه حديث الغار، وأن النبي صلى على قبر. قال الخطيب: هذه الأحاديث لها أصول عمن رواها عنه. فحديث الغار رواه صالح بن كيسان، وموسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، وحديث أبي قتادة رواه جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، وحديث الصلاة على القبر، قد رواه حبيب بن الشهيد، وأبو عامر الخراز، عن ثابت، عن أنس. وقال أيضاً: لم يورد زكريا الساجي في تضعيفه حجة سوى الحكاية عن ابن معين أنه تفرد بأحاديث، ومثل ذلك موجود في حديث مالك والثوري وشعبة وغيرهم، ومع هذا فإن يحيى بن معين وجماعة قد وصفوه بالصدق، وغير واحد من الأئمة قد احتج بحديثه. اهـ تاريخ بغداد (8/ 304) رقم 4405. - عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد الله بن المثنى، فقال: صالح، ثم نظر إلي وقال: شيخ. وسئل أبو زرعة عنه، فقال: صالح. الجرح والتعديل (5/ 177) رقم 830. وقال يحيى بن معين كما في رواية إسحاق بن منصور: صالح. المرجع السابق. وقال أيضاً في رواية ابن أبي خيثمة: ليس بشيء. تهذيب التهذيب (5/ 338) رقم 659. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. المرجع السابق. وقال أبو داود: لا أخرج حديثه. تهذيب التهذيب (5/ 338) رقم 659. ووثقه الترمذي في السنن (46). وقال العجلي: ثقه. معرفة الثقات (2/ 57) رقم 960. وقال الدارقطني: ثقة، وقال مرة: ضعيف. تهذيب التهذيب (5/ 338) رقم 659. وفي التقريب: صدوق كثير الغلط. وقال ابن حجر: رواه ابن عدي والبيهقي والدارقطني، من حديث عبد الله بن المثنى، عن النضر بن أنس، عن أنس، وفي إسناده نظر. وقال في تخريج الهداية: ذكره البيهقي من طرق، أوهاها، وقد صحح بعض طرقه. اهـ قلت: إن كان فهم من قوله: " وهذا المحفوظ من حديث ابن المثنى " يعني: عن بعض أهل بيته، عن أنس أنه صحيح من هذا الطريق. فقد لا يسلم له هذا الفهم، لأنه قد يقصد بالمحفوظ الراجح من الاختلاف، ولا يعني كون الراجح صحيحاً في نفسه، خاصة أن في الإسناد ضعف على كل وجه. والله أعلم. ورواه البيهقي أيضاً (1/ 41) حدثنا إسماعيل بن أبي نصر الصابوني، ثنا أبو محمد الحسن بن محمد المخلدي، ثنا محمد بن حمدون بن خالد، ثنا أبو أمية الطرسوسي، ثنا عبد الله ابن عمر الحمال، ثنا عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الإصبع تجزي من السواك. قال البيهقي: حديث ضعيف. قال ابن نقطة: الحسن بن أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن مخلد بن شيبان أبومحمد المخلدي العدل، ذكره أبو عبد الله في تاريخ نيسابور، وقال: هو شيخ العدالة، وبقية أهل البيوتات، صحيح الكتب والسماع، متقن في الرواية. التقييد (ص: 230). - محمد بن حمدون بن خالد قال الحاكم: كان من الثقات الأثبات، والجوالين في الأقطار. وقال الخليلي: الحافظ الكبير. انظر السير (15/ 60،61)، تذكرة الحفاظ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (3/ 807،808). - أبو أمية الطرسوسي. في التقريب: صدوق صاحب حديث يهم. قال ابن حبان: كان من الثقات، دَخَلَ مصر، فحدثهم من حفظه من غير كتاب بأشياء أخطأ فيها، فلا يعجبني الاحتجاج بخبره إلا ما حدث من كتابه. الثقات (9/ 173) 15624. قال الآجري عن أبي داود ثقة. وقال أبو بكر الخلال: أبو أمية رفيع القدر جداً، كان إماماً في الحديث مقدماً في زمانه. تاريخ بغداد (1/ 394) رقم 365. وقال الحاكم: صدوق كثير الوهم. تهذيب الكمال (24/ 327). وقال ابن يونس: كان من أهل الرحلة فهماً بالحديث، وكان حسن الحديث. تهذيب التهذيب (9/ 14). وقال بن أبي حاتم: كُتِب إلى ببعض فوائده، وأدركته، ولم أكتب عنه. الجرح والتعديل (7/ 187) رقم 1061. وقال مسلمة بن قاسم: أنكرت عليه أحاديث ولج فيها وحدث، فتكلم الناس فيه وقال في موضوع آخر: روى عنه غير واحد وهو ثقة. تهذيب التهذيب (9/ 14). - عن عبد الله بن عمر الحمال لعله خطأ في الاسم، واسمه عبد لله بن عمرو الحمال. جاء في تاريخ بغداد (10/ 23): عبد الله بن عمرو الحمال أحسبه من أهل المعرفة، قدم بغداد سنة 213 ... الخ وسكت عليه فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. - عبد الله بن المثنى سبقت ترجمته، وأنه كثير الغلط. عن ثمامة. قال الحافظ: وثقه أحمد والنسائي، والعجلي. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وروى عن أبي يعلى أن ابن معين أشار إلى لينه. قال الحافظ: قد بين غيره السبب في ذلك، وهو من أجل حديث أنس في الصدقات، وقد قيل: إنه لم يأخذه عن أنس سماعاً. وقد بينا أن ذلك لا يقدح في صحته، احتج به الجماعة. انظر هدي الساري (ص:394) وفي التقريب: صدوق. فالإسناد هذا ضعيف أيضاً: فيه الحمال لم أقف على من وثقه، وفيه عبد الله بن المثنى كثير الغلط، فحديث أنس فيه اختلاف كثير في إسناده، وفي كل طرقه لا تخلو من ضعف.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (680 - 16) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس، ثنا هارون بن موسى الفروي، ثنا أبو غزية محمد بن موسى، حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأصابع تجري مجرى السواك إذا لم يكن سواك. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن كثير بن عبد الله المزني إلا أبو غزية تفرد به هارون الفروي. [الحديث ضعيف جداً] (¬1). ¬

(¬1) معجم الأوسط للطبراني (6437). فيه أبو غزية: محمد بن موسى ضعفه أبو حاتم، وغيره، ووثقه الحاكم، واتهمه الدارقطني بالوضع. انظر الميزان (4/ 49)، واللسان (5/ 398). وفيه: كثير بن عبد الله عمرو بن عوف المزني: في التقريب ضعيف أفرط من نسبه إلى الكذب. قلت قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: حسين بن عبد الله بن ضميرة، وكثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، لا يساويان شيئا، جميعاً متقاربين ليس بشيء. وضرب أبي على أحاديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف فلم يحدثنا بها. ضعفاء العقيلي (4/ 4) رقم 1555. قال أحمد: منكر الحديث، ليس بشيء. الجرح والتعديل (7/ 154) رقم 858. وقال أبو زرعة: واهي الحديث، ليس بقوي. المرجع السابق. وقال أبو داود: كان أحد الكذابين. تهذيب التهذيب (8/ 377). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (ص: 89) رقم 504 وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، يروي عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، لا يحل =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: قال الحافظ في التلخيص: روى أبو نعيم (¬1)،وابن عدي (¬2) والطبراني (¬3) من حديث عائشة يعنى ـ نحو حديث أنس المتقدم. قال الحافظ: وفيه المثنى بن الصباح. اهـ (¬4). ¬

= ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب، وكان الشافعي رحمه الله، يقول: كثير بن عبد الله المزني ركن من أركان الكذب. المجروحين (2/ 221) رقم 893. فاقتصار الحافظ على قوله: ضعيف قول ضعيف، ولو قال: متروك، وتوسط كعادته في أقوال الرجال، لكان أقرب من قوله: ضعيف. - عبد الله بن عمرو بن عوف المزني لم يرو عنه إلا كثير بن عبد الله، ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان، وفي التقريب: مقبول. يعني: إن توبع. (¬1) لم أقف عليه في الكتب المطبوعة لأبي نعيم. (¬2) لم أقف عليه في الكامل في الضعفاء، ولعله في كتاب آخر غير مطبوع. (¬3) لم أقف عليه في المعاجم الثلاثة. والله أعلم. (¬4) تلخيص الحبير (1/ 118). قال العلماء في ترجمة المثنى بن الصباح. كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن المثنى بن الصباح. الجرح والتعديل (8/ 324) 1494. قال أحمد بن محمد بن حنبل: مثنى بن الصباح لا يساوى حديثه شيئاً، مضطرب الحديث. المرجع السابق. قال يحيى بن معين كما في رواية إسحاق بن منصور: ضعيف. المرجع السابق. وقال أيضاً: ضعيف، ليس بشيء، كما في رواية ابن أبي مريم. الكامل (6/ 423). وقال ابن عدي: له حديث صالح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ويروي عن عطاء بن أبي رباح عداد، وقد ضعفه الأئمة المتقدمون، والضعف على حديثه بين. المرجع السابق. =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (681 - 17) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن الحسن ثنا محمد بن أبي السري، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا عيسى بن عبد الله الأنصاري، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة، قالت: قلت: يارسول الله الرجل يذهب فوه يستاك؟ قال: نعم. قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه. قال الطبراني لم يرو هذا الحديث عن عطاء إلا عيسى بن عبد الله تفرد به الوليد، ولا يروى عن عائشة إلا بهذا الإسناد. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬

= وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (576). وذكره البخاري في الضعفاء الصغير، ونقل عن يحيى بن سعيد القطان قوله: لم نتركه من أجل عمرو بن شعيب، ولكن كان منه اختلاط في عقله. الضعفاء الصغير (ص: 367). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى وأبا زرعة عن المثنى بن الصباح، فقالا: لين الحديث. قال أبى: يروى عن عطاء ما لم يرو عنه أحد، وهو ضعيف. الجرح والتعديل (8/ 324) 1494. (¬1) الأوسط (6/ 381) رقم 6678. في الإسناد: محمد بن أبي السري: وهو محمد بن المتوكل، كثير الغلط، وسبقت ترجمته، في تخريج الحديث الثاني. كما أن في الإسناد: عيسى بن عبد الله بن عبد الحكم الأنصاري: ورواه ابن عدي في الكامل (5/ 253) قال: ثنا أحمد بن محمد بن زنجويه، قال: ثنا محمد بن أبي السري به. قال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. الكامل (5/ 253) 1397. اهـ وقال ابن حبان: شيخ يروي عن نافع ما لا يتابع عليه، لا ينبغي أن يحتج بما انفرد =

الدليل السادس

الدليل السادس: (682 - 18) ما رواه أبو عبيد في كتاب الطهور، قال: حدثنا حماد بن خالد، عن الزبير بن عبد الله مولى آل عمر، عن جدته رهيمة خادم عثمان، قالت: كان عثمان إذا توضأ يسوك فاه بأصبعه. [ضعيف] (¬1). وأحاديث الوضوء المرفوعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأت في شيء منها التسوك بالأصابع. والذي يظهر لي أن المسألة ليس فيها سنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهل مثل هذا يدخل التسوك بالأصبع في حد البدعة؟ الجواب: لا، فالسواك مطهرة للفم مرضاة للرب، فيه جانب تعبدي، ¬

= لمخالفته الأثبات في الروايات. المجروحين (2/ 122) 709. وانظر الميزان (3/ 316). كما أن فيه الوليد بن مسلم مدلس، وهو وإن كان صرح بالتحديث من شيخه، فلا يكفي؛ لأنه متهم بتدليس التسوية. (¬1) كتاب الطهور (298)، وفي الإسناد الزبير بن عبد الله. قال ابن عدي: أحاديث زبير هذا منكرة المتن والإسناد. الكامل (3/ 227) رقم 721. وقال أبو حاتم الرازي: صالح. الجرح والتعديل (3/ 581) رقم 2642. وقال ابن معين: يكتب حديثه. الكامل (3/ 227). وقال الذهبي: ليس بحجة. المغني (1/ 237). وفي التقريب: مقبول: أي إن توبع. ولا أعلم أنه توبع في هذا الإسناد. والله أعلم. وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (6/ 332) رقم 7979. كما أن رهيمة لم يوثقها أحد سوى ابن حبان، ولم يذكر راوياً عنها إلا ابنها عبد الله. الثقات (4/ 245) رقم 2731. فالإسناد ضعيف.

وفيه جانب معقول المعنى، وهو كونه شرع لتطهير الفم، وتنظيفة، والذي ينظف فاه بأصبعه خير من الذي لا ينظف فاه أبداً، ولكن لا يحصل له الثواب المترتب على السواك؛ لأنه دونه في التطهير، لكن يحصل له من الأجر بقدر ما يحصل له من الإنقاء، والتسوك بالأصبع يناسب إذا كان مع المضمضة؛ فإنه لا شك أنه مع الماء يحصل به قدر من نظافة الفم وتطهيره، واعتبره بعض المالكية من الدلك المشروع في الوضوء. والله أعلم.

الفصل الخامس هل يحصل بالمعجون إصابة السنة

الفصل الخامس هل يحصل بالمعجون إصابة السنة لا شك أن السواك أفضل من معجون الأسنان بكل حال. أولاً: خفيف الحمل. وثانياً: يفعل في كل وقت، وفي كل مكان. وثالثاً: المعجون يحتاج إلى الماء، كما يحتاج إلى فرشة خاصة، بخلاف السواك. ورابعاً: لا يمكن تحقيق السنة بها عند كل صلاة، وفي كل مرة يدخل الرجل بيته بخلاف السواك. وخامساً: بعض الناس يكون عنده حساسية من المعجون، أو من الفرشة، وقد يكون عنده نفس الشيء من السواك. سادساً: لا بد أن يتعلم الإنسان كيف يستعمل الفرشة، وإلا تسببت له بضرر في اللثة. كل هذا وغيره يجعل السواك أفضل من المعجون، ولكن، هل يصيب السنة لو فعل ذلك بالمعجون؟ وللجواب على ذلك، سبق أن ذكرت في آخر الفصل السابق أن السواك فيه مرضاة للرب، وفيه مطهرة للفم. فالجانب الثاني، وهو جانب تطهير الفم لا شك أن المعجون يقوم بذلك، فتحصل به السنة من هذا الوجه، ولكن فعله تعبداً عند الصلاة مثلاً ولو كان الفم نظيفاً لا يحصل إلا بالسواك؛ لأنه المنصوص عليه، والله أعلم. وقد وقفت على كلام لبعض الأطباء في تفضيل السواك على المعجون

من الناحية الطبية، أنقل لك ما جاء فيه. قال الطبيب: " إن المسواك يفوق جميع الوسائل والطرق المستعملة لتنظيف الأسنان، فالمسواك منظف آلي يقوم مقام الفرشاة لاحتوائه على ألياف سيليولوزية طبيعية خير من ألياف الفرشاة، ويقوم مقام معجون الأسنان، أو المسحوق المنظف، بل أفضل منه، لما يحتويه من مواد مطهرة مثل: العفص، والسنجرين، وبيكربونات الصوديوم، ومواد تشبه البنسلين، بتأثيرها اكتشفها الدكتور: "رودات " وهي مواد مبيدة للجراثيم، مجهولة التركيب، كذلك يوجد بالسواك مواد زالقة منظفة فتدعك وتدلك الأسنان، وتجعلها بيضاء لامعة، ولا تخدش أنسجة السن، وهي خير من المواد الرغوية التجارية التي توجد بالمعاجين، فقد أعلنت مجلة أطباء الأسنان الأمريكية (¬1). أن أغلبية المعاجين المستعملة في الولايات المتحدة غير صحية أو طبية، وبالمسواك كميات من بلورات السيليس الصلبة التي تفيد كمادة منظفة تحك القلح عن الأسنان، وموجودة بالمسواك بنسبة عالية، تبلغ حوالي 4 % وكذلك أملاح أخرى لها فعاليتها في البوتاسيوم، وأكسالات الجير، وبالمسواك مواد عطرية زيتية، وهذه هي عوامل التطيب، والتنكه والشذا؛ لأنها تكسب الفم رائحة طيبة، وبه مادة قابضة كالعفص، التي توقف النزيف، وتقوي اللثة، وتساعد على تقرنها، وجريان الدم فيها، ويساعد العفص على تكوين الليفين من مولد الليفين، الذي له أهمية في عملية تكوين الجلطة، وأما النشاء والصموغ فتساعد على جعل قوام اللعاب لزجاً، فيساعد على التنظيف. ثم قال بعد ذلك: " مما تقدم نرى أن المسواك يحتوي على مواد عديدة مفيدة لا توجد بأي ¬

(¬1) the journal of american dental association ougust 1960

معجون أو منظف أسنان. والمواد التي ثبت وجودها بالسواك وهي: 1 - العفص، 2 - السنجرين، 3 - مادة مبيدة للجراثيم اكتشفها الدكتور رودات تشبه البنسلين بتأثيرها على الجراثيم، 4 - ألياف سيليولوزية، 5 - كلوريد الصوديوم، 6 - بيكربونات الصوديوم، 7 - كلوريد البوتاسيوم، 8 - أكسالات الكالسيوم، 9 - زيوت عطرية 10 - أملاح معدنية، 11 - بلورات السيليس، 12 - مواد سكرية مختلفة مثل الجالاكتوز، والنشاء، والمواد الصمغية، 13 - مواد غير معروفة، 14 - شاردة الكالسيوم، 15 - شاردة الحديد، 16 - شاردة الفحمات، 19 - شاردة الكلور، 20 - شاردة الكبريتات، 21 - أملاح نشادرية، 22 - أعلن الدكتور كينيث كيوديل أن السواك يحتوي على مادة تمنع النخر السني، وقد أعلن ذلك أمام المؤتمر الثاني والخمسين للجمعية الدولية لأبحاث الأسنان في اتلانتا بأمريكا. أما ألياف السواك فهي أفضل من شعيرات الفرشاة، وتعتبر مثالية للأسباب التالية: 1 - إن ألياف المسواك قوية، لينة، متينة، سيليولوزية غير قاسية، كألياف الفرشاة التي تخدش، وتسحل أنسجة السن بفعالية أكثر من ألياف السواك الطبيعية. 2 - ألياف المسواك تحتوي على مواد كيماوية ذات فائدة عظيمة للأسنان تفوق جميع المنظفات السنية، سواء كانت محاليل، أو مساحيق، أو معاجين، وأما ألياف وشعيرات الفرشاة لا تحتوي شيئاً من ذلك. فالمسواك بمفرده يقوم مقام الفرشاة والمعجون معاً 3 - ألياف السواك دقيقة، ورقيقة، وطبيعية لا تؤذي أنسجة اللثة، بل

تزيد من تقرنها، وذلك بتدليكها تدليكاً لطيفاً، فيزداد وارد الدم لأنسجتها، فترتفع مقاومتها للأمراض، ولقد ثبت بالتجارب التي أجرتها جمعية أطباء أسنان الجيش الأمريكي أن ألياف الأعواد الخشبية لها فائدة للثة أعظم من شعيرات الفرشاة، وأن الإصابات والتغيرات اللثوية عند استعمال النكشات الخشبية ـ التي مضغ أحد أطرافها فأصبح كالفرشاة بعد أن تفرقت أليافه الخشبية، لتنظيف الأسطح السنية، وظل الطرف الآخر للنكشات الخشبية مدبباً لتنظيف المسافات التي بين الأسنان_ أثبتت تلك النكشات الخشبية بأنها تنقص نسبة الإصابات اللثوية بينما ازدادت عند الذين يستعملون الفرشاة، والمسواك أفضل بكثير من الأعواد الخشبية، لذلك فإن المسواك بأليافه الطبيعية يزيد من تقرن الأنسجة اللثوية، ويدلكها فيزداد من واردها الدموي، فتزداد حيويتها، ومقاومتها للأمراض. وخصوصاً لاحتوائه على مواد مطهرة، وقابضة ومفيدة للأنسجة والأسنان. 4 - وفي نفس التجارب السابقة وجد أن النكشات الخشبية ذات فعالية بتقليل كميات الترسبات القلحية على الأسنان إذا قورنت عندما تستعمل الفرشاة، فالمسواك ذو فعالية أفضل بتقليل الترسبات القلحية على الأسنان. 5 - إن ألياف المسواك بتغير مستمر وتقطع عادة بعد أن تصبح طرية، وطعمها الحراق اللاذع يصبح معدوماً، فتظهر ألياف جديدة غير ملوثة بالجراثيم وغبار الجو، وبإزالة وبتر الجزء المستعمل يزول أي احتمال للتلوث بعكس الفرشاة فشعيراتها لا تتغير، ومعرضة للتلوث، وتكون سبباً في نقل أمراض عدة إن لم نعتن بها جيداً بعد التنظيف. 6 - الألياف الظاهرة بالمسواك غير قابلة للتلوث لوجود مطهرات فيها

مثل السنجرين، والعفص، وبيكربونات الصوديوم، والمادة المبيدة للجراثيم، التي اكتشفها الدكتور رودات، أما شعيرات الفرشاة فلا يوجد فيها مطهرات. 7 - الألياف الغير مستعملة في المسواك مغطاة بطبقة فلينية، وتحتها طبقة قشرية، وهاتان الطبقتان والمواد المطهرة الموجودة بألياف المسواك تحميها من التلوث بالجراثيم، بعكس الفرشاة التي لا يحميها أي شيء. 8 - ألياف المسواك ملأى بالنسيج المتخشب، بينما الفرشاة المصنوعة من الشعر الطبيعي الحيواني تكون مجمعاً للأوساخ والجراثيم؛ لأن شعرة الحيوانات جوفاء من الداخل، فتمتلئ القناة الداخلية للشعرة بالجراثيم والأوساخ، وتكون سبباً لنقل الأمراض. 9 - ألياف المسواك نستطيع أن نتحكم في صلابتها وطراوتها، وذلك بتقليل عدد أليافها، أو دقها فتتناثر منها بعض البلورات الصلبة فتقل صلابتها، ولذلك فألياف المسواك تناسب جميع حالات اللثة الطرية والقوية بعكس الفرشاة فإنها ثابتة الصلابة والطراوة. 10 - إن ألياف المسواك لا يستطيع أحد أن يغشها، فهي مواد طبيعية، أما شعيرات الفرشاة ومواد المنظفات السنية فمن السهل أن تغش، وعود المسواك معروف لدى الذين يستعملونه (¬1). ¬

(¬1) السواك، والعناية بالأسنان ـ الدكتور عبد الله عبد الرزاق السعيد ـ الدار السعودية للنشر والتوزيع ـ (ص: 208ـ 215). ط ـ اـ 1402 هـ

الباب الثاني في صفة السواك

الباب الثاني في صفة السواك ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: هل الأفض اليابس من السواك أو الرطب؟ الفصل الثاني: الكلام في طول السواك وعرضه. الفصل الثالث: التسوك بعود لا يعرفه.

الفصل الأول هل الأفضل اليابس من السواك أو الرطب؟

الباب الثاني صفة السواك علمنا في بحث سابق مادة السواك، وأن الأفضل عند الفقهاء أن يكون من الأراك، ثم النخيل، ثم الزيتون، ثم بكل عود ينظف الفم، ويزيل القلح، ولا يضر باللثة. ونريد أن نبحث في هذا الفصل في صفة السواك. الفصل الأول هل الأفضل اليابس من السواك أو الرطب؟ فقيل: يستحب أن يكون السواك رطباً (¬1). وقيل: يستحب أن يكون يابساً ندي بالماء (¬2)؛ لأن اليابس يجرح اللثة، والرطب لا يزيل ما يراد إزالته (¬3). دليل من استحب أن يكون السواك رطباً. (683 - 19) ما رواه البخاري، قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا ¬

(¬1) إحكام الأحكام (2/ 110)، وقال الخرشي (1/ 139): " الأخضر الذي يجد له طعماً أفضل للمفطر ". وقال: في حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 58): " ورطب كل نوع أولى من يابسه ". ... (¬2) وقال العراقي: والأحب أن يكون يابساً لين بالماء. طرح التثريب (2/ 67). وقال في تحفة المحتاج: واليابس المندى أولى من الرطب. تحفة المحتاج (1/ 216). وقال في مغني المحتاج: " واليابس المندى أولى من الرطب، ومن اليابس الذي لم يند (1/ 183). وانظر نهاية المحتاج (1/ 181). (¬3) قال في حاشية العدوي (1/ 184): " والمستحب أن يستاك بعود متوسط، لا شديد اليبس فيجرح، ولا رطب لا يزيل ".

دليل من استحب كون السواك يابسا قد ندي بالماء

حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى. ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها، ونفضتها، فدفعتها إليه، فاستن بها كأحسن ما كان مستناً، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة. دليل من استحب كون السواك يابساً قد ندي بالماء. قال: إن اليابس المندى بالماء أقوى في طهارة الفم، وإزالة القلح. والراجح أن كل ما كان أقوى في نظافة الفم وتطهيره، كل ما كان مطلوباً؛ لأن السواك شرع من أجل طهارة الفم، وحتى نجمع بين قوة التطهير، وسلامة الفم واللثة ينبغي أن يكون السواك متوسطاً، لا رطباً جداً فلا ينظف، ولا يابساً فيضر بالفم. والله أعلم.

الفصل الثاني الكلام في طول السواك وعرضه

الفصل الثاني الكلام في طول السواك وعرضه استحب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2)، وبعض الشافعية (¬3) .. أن يكون السواك طوله شبر. واستحب الحنفية أن يكون عرضه بمقدار الأصبع (¬4). وهذا الاستحسان من الرأي المحض، والكلام في هذا ليس فيه نص من كتاب أو سنة، وإنما أمر يستحسنه الفقهاء، ويلتمسون له تعليلات، قد تصيب، وقد تخطئ. والاستحباب حكم شرعي لابد فيه من دليل شرعي، ولا دليل، ولا أظن الأئمة يستحبون ذلك، ولكن أتباعهم قد يستحسنون شيئاً لا أصل له، وكثير ما يقلد بعض الفقهاء بعضاً، ولا يكون هناك نص من إمامهم. ورحم الله الشوكاني حين قال: وللفقهاء في السواك آداب وهيئات لا ينبغي للفطن الاغترار بشيء منها، إلا أن يكون موافقاً لما ورد عن الشارع، ولقد كرهوه في أوقات وعلى حالات حتى يكاد يفضي ذلك إلى ترك هذه ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 114)، فتح القدير (1/ 25)، درر الحكام شرح غرر الأحكام، البحر الرائق (1/ 21). (¬2) قال في حاشية الدسوقي: ولا ينبغي أن يزيد على شبر (1/ 102)، وفي الشرح الصغير، ولا ينبغي أن يزيد في طوله على شبر. (1/ 125)، (¬3) حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 59) مغني المحتاج (1/ 185)، حاشية الجمل (1/ 117)، تحفة الحبيب على شرح الخطيب (1/ 122). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 114)، فتح القدير (1/ 25)، درر الحكام شرح غرر الأحكام، البحر الرائق (1/ 21).

السنة الجليلة وإطراحها، وهي أمر من أمور الشريعة ظهر ظهور النهار، وقبله من سكان البسيطة من أهل الأنجاد والأغوار (¬1). ¬

(¬1) نيل الأوطار (1/ 134).

الفصل الثالث التسوك بعود لا يعرفه

الفصل الثالث التسوك بعود لا يعرفه كره بعض الفقهاء التسوك بعود يجهله، وعللوا ذلك بأنه يخشى أن يكون من الأعواد الضارة باللثة كريحان ورمان ونحوهما (¬1). والراجح أن المسألة معلقة بغلبة الظن، فإن كان يغلب على ظنه أنه ضار لم يتسوك به، وإلا فله التسوك به. وغلبة الظن طريق شرعي كل ما تعذر اليقين، في جميع أمور الشريعة كالصلاة، والإمساك والإفطار بالصيام، ودخول وقت الصلاة، ونحوهم. ¬

(¬1) قال: قال في الفروع (1/ 128): "ولا يستاك بما يجهله "، وانظر كشاف القناع (1/ 74)، ودقائق أولي النهى (1/ 42).

الباب الثالث في حكم السواك

الباب الثالث في حكم السواك ويشتمل على سبعة فصول ومبحث واحد الفصل الأول: حكم السوك وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم السواك للصائم. المبحث الثاني: هل خلوف الصائم أطيب عند الله من رائحة المسح في الدنيا والآخرة أم في الآخرة فقط؟ الفصل الثاني: حكم السواك للصائم. الفصل الثالث: حكم التسوك في المسجد. الفصل الرابع: حكم السواك بحضرة الناس. الفصل الخامس: التسواك في الخلاء. الفصل السادس: إمكانية ترتيب الأجر على التسوك بما يضر. الفصل السابع: في التسمية للسواك.

الفصل الأول في حكم السواك

الفصل الأول في حكم السواك قيل: السواك ليس بواجب على خلاف بينهم هل يكون سنة أو مستحباً عند من يفرق بين اللفظين، وهو مذهب جمهور الفقهاء والمحدثين (¬1). ¬

(¬1) وفي مذهب الحنفية قولان. قال ابن عابدين: قيل: إنه مستحب؛ لأنه ليس من خصائص الوضوء، وصححه الزيلعي وغيره. وقال في فتح القدير: إنه الحق. قال ابن عابدين: لكن في شرح المنية الصغير: وقد عده القدوري والأكثرون من السنن. وهو الأصح. قال ابن عابدين: وعليه المتون. حاشية ابن عابدين (1/ 113)، وانظر البحر الرائق (1/ 1/21)، وتبيين الحقائق (1/ 4)، العناية شرح الهداية (1/ 25)، الجوهرة النيرة (1/ 6)، شرح فتح القدير (1/ 24،25). وفي مذهب المالكي أيضاً قولان: المشهور أنه مستحب. واختار ابن عرفة أنه سنة. انظر: التاج والإكليل (1/ 380)، وعده فضيلة (أي من المستحبات)، وكذلك اعتبره الخرشي (1/ 138) من الفضائل. وقال في مواهب الجليل (1/ 264): " أما حكمه فالمعروف في المذهب أنه مستحب. قال ابن عرفة: والأظهر أنه سنة لدلالة الأحاديث على مثابرته - صلى الله عليه وسلم - عليه ". وقال الصاوي في الشرح الصغير (1/ 125): " استحباب السواك هو المشهور. وقال ابن عرفة: إنه سنة لحثه عليه السلام بقوله ... إلى أن قال: وأجاب الجمهور: بأن المراد بالسنة الطريقة المندوبة ". وقال ابن العربي في أحكام القرآن (2/ 79): " السواك مندوب إليه، ومن سنن الوضوء لا من فضائله ". وانظر الفواكه الدواني (1/ 265). وقال العدوي في حاشيته (1/ 183): " حكم الاستياك في الأصل الندب .... الخ كلامه ". وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/ 37)، المجموع (1/ 327)، أسنى المطالب (1/ 35)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 57)، تحفة المحتاج (1/ 213،214)، مغني المحتاج (1/ 182)، نهاية المحتاج (1/ 187)، حاشية الجمل (1/ 117)، حاشية البجيرمي على =

الأدلة على استحباب السواك

وقيل: يجب، ولا تبطل الصلاة بتركه، وهو مذهب داود الظاهري (¬1). وقيل: يجب، وإن تركه عمداً بطلت صلاته. وهذا القول منسوب إلى إسحاق بن راهوية (¬2). وقيل: إن السواك واجب في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، سنة في حق أمته. الأدلة على استحباب السواك. الدليل الأول: (684 - 20) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك. ¬

= الخطيب (1/ 120)، التجريد لنفع العبيد (1/ 1/72). وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/ 117)، كشاف القناع (1/ 71)، مطالب أولى النهى (1/ 80)، المغني ـ ابن قدامة (1/ 69). (¬1) المنتقى شرح الموطأ (1/ 130)، مواهب الجليل (1/ 264)، المغني ـ ابن قدامة (1/ 69) قال: ولا نعلم أحداً قال بوجوبه إلا إسحاق وداود ".وقال النووي في المجموع (1/ 327): " السواك سنة، وليس بواجب. هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة إلا ما حكى الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا عن داود أنه أوجبه. وحكى صاحب الحاوي أن داود أوجبه، ولم يبطل الصلاة بتركه،. قال: وقال إسحاق بن راهوية: هو واجب، فإن تركه عمداً بطلت صلاته. وهذا النقل عن إسحاق غير معروف، ولا يصح عنه، وقال القاضي أبو الطيب والعبدري: غلط الشيخ أبو حامد في حكايته وجوبه عن داود، بل مذهب داود أنه سنة؛ لأن أصحابنا نصوا أنه سنة، وأنكروا وجوبه، ولا يلزم من هذا الرد على أبي حامد ". اهـ (¬2) المجموع (1/ 327)، المغني ـ ابن قدامة (1/ 69).

[وهذا إسناد في غاية الصحة] (¬1). ¬

(¬1) مدار هذا الإسناد على أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وله طرق كثيرة إلى أبي الزناد. الأول: منها طريق مالك هذا، أخرجه البخاري (887) حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك به. وزاد: " مع كل صلاة ". وأخرجه النسائي (7) أخبرنا قتيبة بن سعيد، عن مالك به. وأخرجه في الكبرى أيضاً (1/ 64) بالإسناد واللفظ موافقاً للفظ البخاري. وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 37) من طريق يحيى بن بكير، حدثنا مالك به. وأخرجه ابن حبان (1068) من طريق أحمد بن أبي بكر، عن مالك به. الطريق الثاني: عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد به. أخرجه أحمد (2/ 245) حدثنا سفيان، عن أبي الزناد به، وزاد في آخره: " وتأخير العشاء". ثم أعاد الحديث بنفس الإسناد (2/ 245) بلفظ: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، والسواك مع الصلاة ". وأخرجه مسلم (42) حدثنا قتيبة بن سعيد، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، به بلفظ: لولا أن أشق على المؤمنين ـ وفي زهير: على أمتي ـ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ". وأخرجه أبو داود (46) حدثنا قتيبة بن سعيد، عن سفيان به. وزاد في أوله: "لأمرتهم بتأخير العشاء ". وأخرجه الطحاوي (1/ 44) من طريق الفريابي، عن سفيان بن عيينة، به. وأخرجه الدارمي (683) أخبرنا محمد بن أحمد، ثنا سفيان به. وأخرجه البيهقي (1/ 35) والبغوي (197) من طريق الشافعي، أنا سفيان به. الطريق الثالث: عن ورقاء، عن أبي الزناد به. أخرجه أحمد (2/ 530،531) حدثنا علي، أنا ورقاء، عن أبي الزناد به. وعلي: هو ابن حفص المدائني، قال محمد بن عبيد الله بن المنادى حدثنا علي بن حفص وكان أحمد يحبه حباً شديداً. تهذيب الكمال (20/ 408). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال ابن المديني: ثقة. الجرح والتعديل (6/ 182) رقم 998. وقال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين، على بن حفص؟ فقال المدائني ليس به بأس. المرجع السابق. وذكره بن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. الثقات (8/ 465) رقم 14452 وقال الآجري: سئل أبو داود عن علي بن حفص، فقال: ثقة. تاريخ بغداد (11/ 415) رقم 6292. وقال النسائي: ليس به بأس. المرجع السابق. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثقة. تهذيب التهذيب (7/ 272). وفي التقريب: صدوق. وورقاء: صدوق، وإنما ضعف حديثه عن منصور. وتابع أبا الزناد جعفر بن ربيعة، عند البخاري (7240) قال حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن ـ يعنى الأعرج به، بلفظ الموطأ قال لولا أن أشق على أمتي ـ أو على الناس ـ لأمرتهم بالسواك. ولم يقل: مع كل صلاة. ورواه عن أبي هريرة غير الأعرج، منهم أبو سلمة، عن أبي هريرة، أخرجه أحمد (2/ 287) حدثنا عبدة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة. دراسة الإسناد: عبدة بن سليمان: ثقة .. قلت: وقد توبع، تابعه زائدة بن قدامة عند أحمد (3/ 399) حدثنا معاوية، قال: حدثنا زائدة، عن محمد ـ يعني ابن عمرو ـ عن أبي سلمة به. وهذا السند إلى محمد بن عمرو صحيح. وتابعه يحيى بن سعيد القطان. أخرجه أحمد (3/ 429) حدثنا يحيى، ثنا محمد بن عمرو به. ومن طريق يحيى أخرجه البيهقي (1/ 37). تابعه أيضاً: أبو عبيدة الحداد عند أحمد (2/ 258)، قال: ثنا أبو عبيدة الحداد كوفي ثقة، عن محمد بن عمرو به. إلا أنه خالف في لفظه، فقال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، أو مع كل وضوء سواك، ولأخرت عشاء الآخرة إلى ثلث الليل. ومحمد بن عمرو: قدمه القطان ويحيى بن معين على سهيل بن أبي صالح. ووثقه يحيى بن معين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال مرة: ما زال الناس يتقون حديثه. قيل: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث الناس مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال في موضع آخر: ثقة. وقال الذهبي في الميزان: شيخ مشهور، حسن الحديث، وفي التقريب: صدوق له أوهام. - أبو سلمة روى له الجماعة، وفي التقريب: ثقة مكثر. فالحديث إسناده حسن. وأخرجه الترمذي (22) حدثنا أبو كريب، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو به. وأخرجه النسائي في الكبرى (3042)، قال أنبأ علي بن حجر: قال أنبأ إسماعيل، عن محمد به. وأخرجه الطحاوي (1/ 44) من طريق أنس بن عياض، عن محمد بن عمرو به. واختلف على أبي سلمة، فرواه محمد بن عمرو عنه، عن أبي هريرة، كما سبق. ورواه جماعة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد الجهني. فجعله من مسند زيد بن خالد. أخرجه أحمد (4/ 114) حدثنا يعلى، ومحمد ابنا عبيد، قال: حدثنا محمد بن إسحاق به. بلفظ: " لولا أن أشق ـ وقال محمد: " لولا أن يشق على أمتي لأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل، ولأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ". ومن طريق يعلى بن عبيد أخرجه البغوي في شرح السنة (198)، والطبراني في المعجم الكبير (5/ 244) رقم 5224. وأخرجه أحمد (4/ 116) والطبراني في المعجم الكبير (5/ 244) رقم 5224 عن محمد بن فضيل. وأخرجه أحمد أيضاً (5/ 193) عن علي بن ثابت كلاهما، عن محمد بن إسحاق به. بنحوه. وأخرجه أبو داود (47)، ومن طريقه البيهقي (1/ 37) حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا عيسى بن يونس، حدثنا محمد بن إسحاق به. وزاد في آخره: " قال أبو سلمة: رأيت زيداً يجلس في المسجد، وإن السواك في أذنه موضع القلم من أذن الكاتب. فكلما قام إلى الصلاة استاك. وأخرجه الترمذي (23) حدثنا هناد، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه النسائي (2/ 197) رقم 3041 أخبرني عمرو بن هشام الحراني، عن محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (5/ 243) رقم 5223 من طريق أحمد بن خالد الوهبي ثنا محمد بن إسحاق به. وقد توبع محمد بن إسحاق فذهب ما يخشى من عنعنته، فقد أخرجه أحمد (4/ 116) حدثنا عبد الصمد، حدثنا حرب _ يعني ابن شداد _، عن يحيى، ثنا أبو سلمة به. إلا أني أخشى أن يكون اللفظ لفظ محمد بن إسحاق لأن أحمد رواه مقروناً بحديث محمد بن فضيل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة به. فتكون زيادة: وضع السواك موضع القلم، تفرد بها محمد بن إسحاق، وقد عنعن. وتكون المتابعة تقوي حديث: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسوك عند كل صلاة " فحسب. وإذا تبين الاختلاف على أبي سلمة، فأيهما أرجح رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة؟ أو رواية محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد؟ أما النسائي فقد رجح رواية محمد بن عمرو، فقال كما في تحفة الأشراف (3/ 244): " محمد بن عمرو أصح من رواية ابن إسحاق في الحديث. رواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ". ورجح البخاري حديث محمد بن إسحاق. انظر تحفة الأشراف (11/ 12). ورجح الترمذي كلا الحديثين (1/ 34)، فقال: حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، وزيد بن خالد كلاهما عندي صحيح؛ لأنه قد روي من غير وجه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". اهـ قلت: إن كان هناك ترجيح فرواية محمد بن عمرو عندي أرجح؛ لأنه قد اختلف على محمد بن إسحاق، فرواه أحمد (1/ 120) والطحاوي (1/ 43) من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، عن عمه عبد الرحمن بن يسار، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن علي. ورواه أحمد (2/ 509) عن ابن أبي عدي، وأخرجه الدارمي (1484)، والدارقطني (ص: 126) من طريق أحمد بن خالد الوهبي، =

وجه الاستدلال: قال البيضاوي: كلمة " لولا " تدل على انتفاء الشيء لثبوت غيره، والحق أنها مركبة من " لو " الدالة على انتفاء الشيء، لا انتفاء غيره، ومن " لا " النافية، فدل الحديث على انتفاء الأمر، لثبوت المشقة، وفيه دليل على أن الأمر للوجوب من وجهين: أحدهما: أنه نفى الأمر مع ثبوت الندبية، ولو كان للندب، لما جاء النفي. ثانيهما: أنه جعل الأمر مشقة عليهم، وذلك إنما يتحقق إذا كان الأمر ¬

_ = وأخرجه النسائي في الكبرى (3040) من طريق محمد بن مسلمة، وأخرجه الطحاوي (1/ 43) من طريق إبراهيم بن سعد كلهم، عن ابن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن عطاء مولى أم صبية، عن أبي هريرة. وقد خالف ابن إسحاق جماعة من الحفاظ، منهم: ابن المبارك، ويحيى بن سعيد، والحمادان، وإسامة، وعبد الله بن نمير، وهشام بن حسان، وخالد بن الحارث، كلهم يروونه عن عبيد لله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. لا يذكرون عطاء في الإسناد، ولفظه: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء. وسوف يأتي تخريج هذه الرواية إن شاء الله. فهذه ثلاث اختلافات على محمد بن إسحاق، تجعل روايته ضعيفة. فتارة ابن إسحاق يجعل الحديث من رواية زيد بن خالد. وتارة يجعله من حديث أبي هريرة. وحديث أبي هريرة تارة يرويه ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وتارة. يرويه عن سعيد المقبري، عن عطاء مولى أم صبية، عن أبي هريرة. وقد يقول قائل: بأن الاختلاف على ابن إسحاق لا شك أنه يضعف روايته، لكن روايته عن زيد بن خالد لا سبيل إلى تضعيفها، وقد توبع: تابعه يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد، فيكون رأي الترمذي له وجه. والله أعلم. والرأي الأول أرجح عندي. ورأي النسائي أقوى.

الدليل الثاني

للوجوب؛ إذ الندب لا مشقة فيه. اهـ (¬1). قال الشافعي: لو كان واجباً لأمرهم، شق أو لم يشق. الدليل الثاني: (685 - 21) ما رواه مالك في الموطأ، قال:، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة أنه قال: لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء. [إسناده صحيح، ورفعه محفوظ] (¬2). ¬

(¬1) شرح السيوطي على سنن النسائي (1/ 12). (¬2) الموطأ (1/ 66). الحديث في الموطأ من قول أبي هريرة. وقد أخرجه أحمد (2/ 460) قرأت على عبد الرحمن، مالك، عن ابن شهاب به. إلا أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء. وأخرجه أحمد أيضاً مرفوعاً (2/ 517) حدثنا روح، حدثنا مالك به. وأخرجه النسائي في الكبرى (3043) نبأ محمد بن يحيى، قال: حدثنا بشر بن عمر، قال: حدثنا مالك به. وأخرجه البيهقي (1/ 35) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك به. ورواه ابن خزيمة (140) من طريق روح بن عبادة، عن مالك به. وأخرجه الطحاوي (1/ 43) من طريق بشر بن عمر، قال: حدثنا مالك به. وأخرجه البخاري تعليقاً في كتاب الصيام، باب السواك الرطب واليابس للصائم (4/ 158). واختلف على مالك فيه: فرواه عنه من سبق: عبد الرحمن بن مهدي، وروح بن عبادة، وإسحاق بن عيسى الطباع، كما في أطراف المسند (7/ 160)، وإسماعيل بن أبي أويس، وبشر بن عمر، خمستهم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رووه عن مالك مرفوعاً بلفظ: (مع كل وضوء). وخالفهم ابن وهب عند الطحاوي (1/ 43) فرواه، عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة بلفظ: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة" فاختلط عليه هذا الحديث بحديث مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة المتقدم. وأخرجه النسائي في الكبرى (3045) بالشك، قال: أنبأ محمد بن سلمة، قال: حدثنا ابن القاسم، عن مالك: قال: حدثني ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أنه كان يقول: لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل صلاة أو كل وضوء. ورواه النسائي أيضاً في السنن الكبرى (3037) من طريق خالد بن الحارث. ورواه النسائي أيضاً (3034) من طريق عبد الله بن المبارك. ورواه (3035) من طريق يحيى بن سعيد. ورواه النسائي أيضاً (3036) من طريق هشام بن حسان. ورواه النسائي (3032) من طريق عبد الرحمن السراج. خمستهم، رووه، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة بلفظ: " مع كل وضوء ". ورواه ابن أبي شيبة (1/ 155) رقم 1787، ومن طريقه ابن ماجه (287) عن أبي أسامة وعبد الله بن نمير، كلاهما، عن عبيد الله بن عمر به. إلا أنهما خالفا في لفظه الجماعة، فقالا: " عند كل صلاة " بدلاً من قوله: " مع كل وضوء " ورواية الجماعة أولى. ورواه النسائي في الكبرى (3038)، قال: أنبأ عمرو بن عثمان، قال: حدثنا بقية، عن عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع الضوء. وتابع أبو معشر بقية بذكر أبي سعيد المقبري إلا أنه جمع بين ذكر السواك مع الوضوء والصلاة، رواه النسائي (3039)، نبأ قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا الليث، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لولا أن أشق على الناس لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع الوضوء بالسواك. =

دليل من قال بوجوب السواك

دليل من قال بوجوب السواك. الدليل الأول: (686 - 22) ما رواه مسلم، قال: حدثنا عمرو بن سواد العامري، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حدثاه، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه. قال مسلم: إلا أن بكيراً لم يذكر عبد الرحمن وقال في الطيب ولو من طيب المرأة (¬1). ¬

= فخالف بقية وأبو معشر سبعة حفاظ رووه كلهم، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد، عن أبي هريرة، ولم يقولوا: عن أبيه. وكثير منهم لو انفرد لقدم على بقية وأبي معشر، فكيف وقد اتفقوا. ورواه حجاج بن منهال، واختلف عليه فيه. فرواه الطحاوي (1/ 44) حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة بلفظ: " عند كل صلاة ". وتابع أسد بن موسى حجاجاً، فرواه عن حماد به. ورواه عبد القدوس بن محمد بن عبد الكبير، عند ابن حبان (1070)، قال: حدثنا حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة به. بلفظ: " عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم، مرضاة للرب " وهذه الرواية شاذة، وحكم بشذوذها الحافظ ابن حجر كما في التلخيص (1/ 100)، ولم يتابع أحد حماداً بذكر هذا الحديث بهذا الإسناد. والله أعلم. (¬1) صحيح مسلم (846)، وهو في البخاري (880) بغير هذا اللفظ.

وجه الاستدلال: قوله: " على كل محتلم " ظاهرة في الوجوب. وأجيب: بأن الدليل أخص من المدلول، فأنتم تقولون بوجوبه لكل صلاة، والحديث إن سلم الاستدلال به فهو خاص في يوم الجمعة، إن حملنا اليوم على أن المراد به قبل الصلاة. ثم إذا سلمنا أن الحديث ظاهره الوجوب في الغسل والسواك، فهذا الظاهر ليس صريحاً، فلا يقدم على الصريح، وهو حديث ثابت في الصحيحين: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ". أما قول الزيلعي رحمه الله: أن غسل الجمعة ليس بواجب؛ لأنه قرنه بما لا يجب اتفاقاً ـ يعني السواك والطيب ـ وكأنه لم يعتمد خلاف داود وإسحاق في وجوب السواك خلافاً معتبراً؛ لأنه حكى الاتفاق بأنه لا يجب في السواك (¬1). وقال النووي، كما في نيل الأوطار: " لو صح إيجابه عن داود لم يضر مخالفه في انعقاد الإجماع، على المختار الذي عليه المحققون، والأكثرون، قال: أما إسحاق فلم يصح هذا المحكي عنه" (¬2). اهـ وقال الشوكاني رحمه الله متعقباً كلام النووي في عدم الاعتداد بخلاف داود مع علمه وورعه، وأخذ جماعة من الأئمة الأكابر بمذهبه من التعصبات التي لا مستدل لها إلا مجرد الهوى والعصبية، وقد كثر هذا الجنس في أهل ¬

(¬1) نصب الراية (1/ 88). (¬2) نيل الأوطار (1/ 134).

المذاهب، وما أدري ما هو البرهان الذي قام لهؤلاء المحققين حتى أخرجوه من دائرة علماء المسلمين. فإن كان لما وقع منه من المقالات المستبعدة، فهي بالنسبة لمقالات غيره المؤسسة على محض الرأي المضادة لصريح الرواية في حيز القلة المتبادلة؛ فإن التعويل على الرأي، وعدم الاعتناء بعلم الأدلة، قد أفضى بقوم إلى التمذهب بمذاهب لا يوافق الشريعة منها إلا القليل النادر. وأما داود فما في مذهبه من البدع التي أوقعه فيها تمسكه بالظاهر، وجموده عليه في غاية الندرة، ولكن: لهوى النفوس سريرة لا تعلم (¬1). قال الذهبي في السير: " للعلماء قولان في الاعتداء بخلاف داود وأتباعه - فمن اعتد بخلافهم، قال: ما اعتدادنا بخلافهم؛ لأن مفرداتهم حجة، بل لتحكى في الجملة. وبعضها سائغ، وبعضها قوي، وبعضها ساقط. ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني، وتندر مخالفتهم لإجماع قطعي. - ومن اهدرهم، ولم يعتد بهم لم يعدهم في مسائلهم المفردة خارجين بها من الدين، ولا كفرهم بها، بل يقول هؤلاء في حيز العوام، أو هم كالشيعة في الفروع، ولا نلتفت إلى أقوالهم، ولا ننصب معهم الخلاف، ولا يعتنى بتحصيل كتبهم، ولا ندل مستفتياً من العامة عليهم، وإذا تظاهروا بمسالة معلومة البطلان، كمسح الرجلين، أدبناهم وعزرناهم وألزمناهم بالغسل جزماً. قال الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: قال الجمهور إنهم _ يعني نفاة القياس _ لا يبلغون رتبة الاجتهاد ولا يجوز تقليدهم القضاء!! ¬

(¬1) المرجع السابق.

ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي، عن أبي علي بن أبي هريرة، وطائفة من الشافعية أنه لا اعتبار بخلاف داود، وسائر نفاة القياس في الفروع دون الأصول. وقال إمام الحرمين أبو المعالي: الذي ذهب إليه أهل التحقيق أن منكري القياس لا يعدون من علماء الأمة، ولا من حملة الشريعة؛ لأنهم معاندون مباهتون فيما ثبت استفاضةً وتواتراً؛ لأن معظم الشريعة صادر عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها، وهؤلاء ملتحقون بالعوام. قال الذهبي: هذا القول من أبي المعالي أداه إليه اجتهاده، وهم أداهم اجتهادهم إلى نفي القول بالقياس، فكيف يرد الاجتهاد بمثله. وندري بالضرورة أن داود كان يقرئ مذهبه ويناظر عليه، ويفتي به في مثل بغداد وكثرة الأئمة بها وبغيرها، فلم نرهم قاموا عليه، ولا أنكروا فتاويه، ولا تدريسه ولا سعوا في منعه من بثه، وبالحضرة مثل إسماعيل القاضي، شيخ المالكية، وعثمان بن بشار الأنماطي، شيخ الشافعية، والمروذي شيخ الحنبلية، وابني الإمام أحمد، وأبي العباس أحمد بن محمد البرتي شيخ الحنفية، وأحمد بن أبي عمران القاضي، ومثل عالم بغداد إبراهيم الحربي. بل سكتوا له حتى لقد قال قاسم بن أصبغ: ذاكرت الطبري ـ يعني ابن جرير ـ وابن سريج، فقلت لهما: كتاب ابن قتيبة في الفقه أين هو عندكما؟ قالا: ليس بشيء، ولا كتاب أبي عبيد. فإذا أردت الفقه فكتب الشافعي وداود ونظرائهما. ثم كان بعده ابنه أبو بكر وابن المغلس، وعدة من تلامذة داود، وعلى أكتافهم مثل ابن سريج شيخ الشافعية، وأبي بكر الخلال شيخ الحنبلية، وأبي الحسن الكرخي شيخ الحنفية، وكان أبو جعفر الطحاوي بمصر. بل كانوا

يتجالسون ويتناظرون ويبرز كل منهم بحججه، ولا يسعون بالداودية إلى السلطان. بل أبلغ من ذلك ينصبون معهم الخلاف في تصانيفهم قديماً وحديثاً، وبكل حال فلهم أشياء أحسنوا فيها، ولهم مسائل مستهجنة يشغب عليهم بها، وإلى ذلك يشير الإمام أبو عمرو بن الصلاح، حيث يقول: الذي اختاره الأستاذ أبو منصور، وذكر أنه الصحيح من المذهب أنه يعتبر خلاف داود، ثم قال ابن الصلاح: وهذا الذي استقر عليه الأمر آخراً، كما هو الأغلب الأعرف من صفو الأئمة المتاخرين الذين أوردوا مذهب داود في مصنفاتهم المشهورة، كالشيخ أبي حامد الاسفراييني، والماوردي، والقاضي أبي الطيب فلولا اعتدادهم به لما ذكروا مذهبه في مصنفاتهم المشهورة. ... قال وأرى أن يعتبر قوله إلا فيما خالف فيه القياس الجلي، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه، أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها، فاتفاق من سواه إجماع منعقد، كقوله في التغوط في الماء الراكد وتلك المسائل الشنيعة، وقوله: لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها، فخلافه في هذا أو نحوه غير معتد به؛ لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه. قلت - القائل الذهبي -: لا ريب أن كل مسالة انفرد بها، وقطع ببطلان قوله فيها، فإنها هدر، وإنما نحكيها للتعجب، وكل مسألة له عضدها نص، وسبقه إليها صاحب، أو تابع فهي من مسائل الخلاف فلا تهدر. وفي الجملة، فداود بن علي بصير بالفقه، عالم بالقرآن، حافظ للأثر، رأس في معرفة الخلاف من أوعية العلم، له ذكاء خارق، وفيه دين متين، وكذلك في فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر، وذكاء قوي، فالكمال عزيز والله الموفق.

الدليل الثاني

ونحن نحكي قول ابن عباس في المتعة، وفي الصرف، وفي إنكار العول، وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج، وأشباه ذلك، ولا نجوز لأحد تقليدهم في ذلك " اهـ كلام الذهبي رحمه الله (¬1). وقد نقلت كلامه رغم طوله لفائدته، فينبغي احترام المخالف، إذا كان من أهل الاجتهاد، وقد قال سبحانه وتعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} (¬2)، وداود وابن حزم وغيرهما من علماء المسلمين من المؤمنين الذي يعتبر إتباعهما بالدليل إتباعاً لسبيل المؤمنين. والله أعلم. الدليل الثاني: (687 - 23) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان يحدث عن رجل من الأنصار، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ثلاث حق على كل مسلم، الغسل يوم الجمعة، والسواك، ويمس من طيب إن كان (¬3). [إسناده ضعيف؛ لإبهام راويه] (¬4). ¬

(¬1) السير (13/ 104 - 108). (¬2) النساء: 115. (¬3) المصنف (1/ 434) رقم 4997. (¬4) رجاله ثقات، لولا أن فيه راوياً مبهماً. ومداره على سعد بن إبراهيم، واختلف عليه. =

الدليل الثالث

وجه الاستدلال من الحديث كالاستدلال بالحديث السابق، والجواب عنه كالجواب عن الحديث السابق. الدليل الثالث: (688 - 24) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن العلوي، وأبو علي الحسين بن محمد الروذباري، قالا: أنا أبو طاهر محمد بن الحسين المجد أباذي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا عمرو بن عون الواسطي، ثنا خالد بن عبد الله، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيده، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: أمرنا بالسواك، وقال: إن العبد ¬

_ = فرواه شعبة، فجعل بين محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وبين الصحابي راوياً مبهماً. أخرجه أحمد (4/ 34) ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن، سعد بن إبراهيم به. بإسناد ابن أبي شيبة. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (13/ 110) رقم 7168، من طريق الجدي، أخبرنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم به. وخالف سفيان شعبة، فرواه عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجل من الأنصار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل المبهم فقط هو الصحابي، وصار الإسناد ظاهره رجاله كلهم ثقات. ورواية شعبة عندي هي المحفوظة. وقد أخرج رواية سفيان أحمد رحمه الله (4/ 34)، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجل من الأنصار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حق على كل مسلم يغتسل يوم الجمعة، يتسوك ويمس من طيب إن كان لأهله. وأخرجه أحمد (5/ 363)، قال: ثنا وكيع عن سفيان به. وأخرجه الطحاوي (1/ 116) من طريق أبي نعيم، عن سفيان به.

إذا قام يصلي أتاه الملك، فقام خلفه يستمع القرآن، ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو، حتى يضع فاه على فيه فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك. [إسناده صحيح] (¬1). ¬

(¬1) دراسة الإسناد: أبو الحسن العلوي، هو السيد الإمام، المحدث الصدوق، مسند خرسان، محمد بن الحسين بن داود بن الحسيني، النيسابوري. سير أعلام النبلاء (17/ 98). تابعه أبو علي الحسين بن محمد الروذباري، وهو حافظ مسند، روى سنن أبي داود عن أبي بكر بن داسة، وقد أكثر عنه البيهقي. سير أعلام النبلاء (17/ 219)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1078). وقد تابع بعضهما البعض. أبو طاهر هو محمد بن الحسن بن محمد النيسابوري المحمد أباذي. وقوله ابن الحسين المجد خطأ. وهو ثقة، وإمام في النحو، كان ابن خزيمة إذا شك في اللغة لا يرجع فيها إلا إلى أبي طاهر، وكان من أعيان الثقات العالمين بمعاني التنزيل. له ترجمة في سير أعلام النبلاء (15/ 304،329). - عثمان بن سعيد الدارمي: هو الإمام الحافظ، صاحب المسند الكبير، والرد على بشر المريسي والجهمية. انظر السير (13/ 319)، وتذكرة الحفاظ (2/ 621). - عمرو بن عون الواسطي قال عباس بن محمد الدوري: سمعت يزيد بن هارون يقول: كان عمرو بن عون ممن يزداد كل يوم خيراً. الجرح والتعديل (6/ 252) رقم 1393. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبى عن عمرو بن عون فقال ثقة حجة وكان يحفظ حديثه. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (8/ 485) وقال يزيد بن هارون: عليكم بعمرو بن عون. الجرح والتعديل. (6/ 252) رقم 1393. وقال أبو زرعة: قل من رأيت أثبت من عمرو بن عون. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد سمعت يحيى بن معين يقول حدثنا عمرو بن عون وأطنب في الثناء. تهذيب الكمال (22/ 177). - خالد بن عبد الله الواسطي قال أحمد: كان ثقة صالحاً في دينه، بلغني انه اشترى نفسه من الله عز وجل ثلاث مرات وخالد أحب إلينا من هشيم. الجرح والتعديل (3/ 340) 1536. وقال أبو حاتم الرازي: خالد بن عبد الله الواسطي ثقة صحيح الحديث. المرجع السابق وقال أبو زرعة: ثقة. المرجع السابق. - عن الحسن بن عبيد الله، وفي المطبوع عبد الله، وهو خطأ. قال يحيى بن معين كما في رواية إسحاق بن منصور: ثقة صالح. الجرح والتعديل (3/ 23) وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن الحسن بن عبيد الله النخعي، فقال: ثقة. المرجع السابق. وهو من رجال مسلم، وفي التقريب: ثقة، فاضل. - سعد بن عبيدة السلمي: قال يحيى بن معين: ثقة. الجرح والتعديل (4/ 89). وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (10/ 290). قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. الطبقات الكبرى (6/ 298). وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه وكان يرى رأى الخوارج ثم تركه. الجرح والتعديل (4/ 89). - أبو عبد الرحمن السلمي. اختلف في سماعه من علي: فقال شعبة: لم يسمع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان، ولا من عبد الله بن مسعود، ولكنه قد سمع من علي رضي الله عنهم. وقال أبو حاتم الرازي: ليس تثبت روايته عن علي. المراسيل (ص: 107) رقم 382. ولم يذكر هذا في الجرح والتعديل، بل قال (5/ 37): روى عن عثمان وعلى وابن مسعود، وروى عن عمر مرسلا. ولم ينص على الإرسال إلا عن عمر، ففهم أنه يراه متصلاً عن غير عمر. والله أعلم. وقال البخاري رحمه الله: سمع عليا وعثمان وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم. =

وجه الاستدلال: قوله أمرنا بالسواك، والأصل في الأمر الوجوب. ويجاب عن هذا: بأن الأمر صحيح أن الأصل فيه للوجوب، ولكن يستعمل الأمر، ويقصد به الاستحباب، وهذا كثير لقرينة تصرفه عن الوجوب، والقرينة الصارفة، قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المتفق عليه: "لولا أن أشق على آمتي لأمرتهم بالسواك ". وحديث علي، ظاهره أنه موقوف، لكن مثله لا يمكن أن يقال بالرأي، فيكون له حكم الرفع؛ لأنه أمر غيبي لا بد فيه من توقيف. ويحتمل أن يكون مرفوعاً؛ لأن قول علي: " أمرنا بالسواك " وقال: إن العبد ... الخ كأنه بيان علة الأمر بالسواك؛ فكأنهم أمروا، ثم بين لهم العلة في الأمر. (689 - 25) وقد روي مرفوعاً صريحا عند البزار، قال: حدثنا أحمد، قال: سمعت محمد بن زياد يحدث، عن فضيل بن سليمان، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه، أنه أمر بالسواك، وقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ¬

_ = التاريخ الكبير (5/ 72). وأبو عبد الرحمن السلمي من رجال الجماعة، قال الحافظ في التقريب: ثقة، ثبت. تخريج الحديث: ورواه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 381) قال: أخبرنا أبو علي الروذباري أنا أبو طاهر المحمد أبادي به. ورواه المقدسي في الأحاديث المختارة (2/ 197) رقم 580 من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم المزكي، أنا أبو طاهر محمد بن الحسن المحمد أباذي به، وقال: إسناده صحيح.

العبد إذا تسوك، ثم قام يصلي قام الملك خلفه، فتسمع لقراءته، فيدنو منه أو كلمة نحوها حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهروا أفواهكم للقرآن. [إسناده ضعيف، وله شاهد من حديث جابر] (¬1). ¬

(¬1) مسند البزار (2/ 214) رقم 603. قال الهيثمي في المجمع (2/ 99) رجاله ثقات. وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 67): " إسناده جيد لا بأس به ". وقال العراقي: رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه فضيل بن سليمان النمري، وهو وإن أخرج له البخاري، ووثقه ابن حبان، فقد ضعفه الجمهور " اهـ قلت: أخرج له البخاري ستة أو سبعة أحاديث كلها قد توبع عليها. قال ابن حجر في هدي الساري (ص: 435): فضيل بن سليمان النميري أبو سليمان البصري. قال الساجي: كان صدوقا، وعنده مناكير. وقال عباس الدوري، عن ابن معين: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: لين الحديث. روى عنه علي بن المديني وكان من المتشددين. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه وليس بالقوي. وقال النسائي ليس بالقوي ". اهـ وله شاهد من حديث جابر أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 381) رقم 2117، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن الحسين بن محمد لفظا، ثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا أبي، ثنا شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك؛ فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيء إلا دخل فم الملك. ورواه أبو نعيم، كما في البدر المنير (3/ 163). قال الشيخ تقي الدين في الإمام: إسناد رواية جابر كلهم موثوقون. - أبو عمر محمد بن الحسين بن محمد قال الخطيب: الواعظ، الفقيه على مذهب الشافعي، ولى قضاء نيسابور وقدم بغداد وحدث بها، حدثني عنه الحسن بن محمد الخلال، وذكر لي أنه قدم بغداد في حياة أبي حامد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الإسفرائيني، قال: وكان إماما نظاراً، وكان أبو حامد يعظمه ويجله. تاريخ بغداد (2/ 247) رقم 716. أبو القاسم سليمان بن أحمد، وهو الطبراني، حافظ، مشهور، غني عن التعريف. - محمد بن عثمان بن أبي شيبة: قال فيه ابن عدي: كان محمد بن عبد الله الحضرمي مطين يسيء الرأي فيه، ويقول عصا موسى تلقف ما يأفكون. وسألت عبدان عنه، فقال: كان يخرج إلينا كتب أبيه المسند بخطه في أيام أبيه وعمه، فيسمعه من أبيه. قلت له: وكان إذ ذاك رجلا؟ قال: نعم. قال ابن عدي: ومحمد بن عثمان هذا على ما وصفه عبدان لا بأس به، وابتلى مطين بالبلدية؛ لأنهما كوفيان جميعاً قال فيه ما قال، وتحول محمد بن عثمان بن أبي شيبة إلى بغداد، وترك الكوفة ولم أر له حديثاً منكراً فأذكره. الكامل (6/ 295) 1782. وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (9/ 155). وقال الخطيب: كان كثير الحديث واسع الرواية ذا معرفة وفهم وله تاريخ كبير. تاريخ بغداد (3/ 42) رقم 979. سئل عبدان عن بن عثمان بن أبى شيبة، فقال: ما علمنا إلا خيراً، كتبنا عن أبيه المسند، بخط ابنه الكتاب الذي يقرأ علينا. المرجع السابق. قال أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدى بعد أن اختبر ما بين مطين وابن أبي شيبة: ظهر أن الصواب الإمساك عن القبول عن كل واحد منهما في صاحبه. المرجع السابق. ذكر ابن المنادى وفاته، ثم قال: كنا نسمع شيوخ أهل الحديث وكهولهم يقولون: مات حديث الكوفة بموت موسى بن إسحاق، ومحمد بن عثمان، وأبى جعفر الحضرمي، وعبيد بن غنام. قال الخطيب: وكانت وفاة هؤلاء الأربعة في سنة واحدة. المرجع السابق. وقال صالح جزرة ثقة. تذكرة الحفاظ (2/ 661) رقم 681 وقال عبد الله بن أحمد: كذاب. المرجع السابق. وقال البرقاني: لم أزل أسمع أنه مقدوح فيه. المرجع السابق. قال الذهبي: الحافظ البارع محدث الكوفة. المرجع السابق. من الطائفة التي حكى بن عقدة عنهم أنهم كذبوا محمد بن أبي شيبة: جعفر الطيالسي وعبد الله بن إبراهيم بن قتيبة، وجعفر بن هذيل، ومحمد بن أحمد العدوي. اللسان =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (690 - 26) ما رواه أحمد، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عليكم بالسواك فإنه مطيبة للفم، ومرضاة للرب (¬1). ¬

= (5/ 280). وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به كتب الناس عنه، ولا أعلم أحداً تركه. المرجع السابق. - أبو سفيان: هو طلحة بن نافع. قال سفيان ابن عيينة: حديث أبى سفيان عن جابر إنما هي صحيفة. الجرح والتعديل (4/ 475). وقال شعبة: مثله. الضعفاء الكبير (2/ 224). وقال أحمد بن حنبل: ليس به بأس. المرجع السابق. قال ابن أبى خيثمة: سئل يحيى بن معين عن أبى سفيان فقال لا شيء. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق. قلت: قد عنعن، وقد قال شعبة: أبو سفيان لم يسمع من جابر إلا أربعة أحاديث. وقال: علي بن المديني: مثله. وقال ابن حجر: لم يخرج البخاري له سوى أربعة أحاديث، وأظنها التي عناها شيخه علي بن المديني. وعده ابن حجر في المرتبة الثالثة، أي من المكثرين. وعلى كل حال فالحديث شاهد صالح لحديث فضيل بن سليمان، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي مرفوعاً. (¬1) مسند أحمد (2/ 108)، وسبق أن خرجت الحديث، من طرق، كثيرة، وكلها لم تذكر ما ذكره ابن لهيعة رحمه الله. ورواه ابن حبان (1070) من طريق حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن =

دليل من قال السواك واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة

وجه الاستدلال: قوله: " عليكم بالسواك ": أي إلزموا، والتعبير بها ظاهر بالوجوب. وأجيب: بأن زيادة عليكم بالسواك غير محفوظة، تفرد بها ابن لهيعة. دليل من قال السواك واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. الدليل الأول: (691 - 27) استدلوا بما رواه أبو داود أحمد، قال: ثنا يعقوب، ثنا أبى، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازني مازن بنى النجار، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: قلت له: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر عم هو؟ فقال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبى عامر ابن الغسيل حدثها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. قال: فكان عبد الله يرى أن به قوة ¬

_ = المقبري، عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عليكم بالسواك؛ فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب عز وجل. وهذا أيضاً شاذ، وقد رواه جمع من الحفاظ، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة بلفظ: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك " وقد تكلمت على طرقه في أدلة القول الأول، فلا داعي لإعادته. ولو كانت الزيادة محفوظة، لكان الجواب عنها ظاهراً، وإن الأمر فيها للاستحباب، والصارف عن الوجوب الأحاديث الصحيحة التي خرجناها في أدلة الجمهور على الاستحباب. والله أعلم.

على ذلك فكان يفعله حتى مات (¬1). [في إسناده اختلاف وحسن إسناده الحافظ] (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (5/ 225) (¬2) اختلف في إسناده: فقيل: عن أحمد بن خالد الوهبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر. صحيح البخاري (888). ورواه إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق به، إلا أنه قال: عن عبيد الله بدلاً من عبد الله. وهنا الاختلاف لا يضر إن شاء الله؛ لأن مداره على ثقة. لكن قال الحافظ ابن عساكر، كما في تحفة الأشراف (4/ 315): " رواه علي بن المجاهد، وسلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن محمد بن يحيى بن حبان. ولولا أن ابن إسحاق قد صرح في التحديث في رواية إبراهيم بن سعد لقلنا: إنه عنعن، فيحتمل وجود واسطة بين محمد بن إسحاق، وبين محمد بن يحيى بن حبان. وعلي بن مجاهد متروك، وسلمة بن الفضل كثير الخطأ. فالراجح أن الاختلاف إما بذكر عبد الله أو بذكر عبيد الله. وكلاهما ثقة. وهناك اختلاف رابع على محمد بن إسحاق، فقد رواه الترمذي (58)، قال: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن حميد، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة طاهراً أو غير طاهر. قال: قلت لأنس فكيف كنتم تصنعون أنتم؟ قال: كنا نتوضأ وضوءاً واحداً. قال أبو عيسى: وحديث حميد عن أنس حديث حسن غريب من هذا الوجه، والمشهور عند أهل الحديث حديث عمرو بن عامر الأنصاري عن أنس. وسلمة بن الفضل كما قلت: كثير الخطأ، فهو بهذا الإسناد منكر. هذا ملخص الاختلاف فيه على ابن إسحاق. قال العلائي: في إسناده اختلاف. جامع التحصيل (ص: 209). وقال ابن حجر في التخليص (3/ 120): إسناده حسن. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه المقدسي في الأحاديث المختارة (9/ 265). وقال ابن كثير بعد أن ساق الاختلاف في إسناده على عبد الله وعبيد الله، قال (2/ 23): وأياً ما كان فهو إسناد صحيح، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حبان، فزال محذور التدليس. لكن قال الحافظ ابن عساكر رواه سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد، عن ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن محمد بن يحيى بن حبان به. والله أعلم. اهـ وكون مدار هذا الإسناد على محمد بن إسحاق، وقد تفرد بمثل هذا، ولم يسلم من الاختلاف عليه في إسناده، فأخشى ألا يكون محفوظاً. تخريج الحديث: الحديث مداره على ابن إسحاق، وله ثلاثة طرق: الطريق الأول: إبراهيم ين سعد، عن ابن إسحاق بذكر عبيد الله. الحديث رواه أحمد، كما في متن الباب، ومن طريق أحمد أخرجه ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة (9/ 266). وأخرجه ابن خزيمة (1/ 11) 15 من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد به. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 285) من طريق إبراهيم بن سعد به. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. الطريق الثاني: أحمد بن خالد الوهبي، عن ابن إسحاق بذكر عبد الله. رواه أبو داود (48) قال: حدثنا محمد بن عوف الطائي، ثنا أحمد بن خالد، ثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، قال: قلت: أرأيت توضؤ ابن عمر لكل صلاة طاهراً أو غير طاهر، عم ذاك؟ فقال: حدثتنيه أسماء بنت زيد بن الخطاب، أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدثها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً وغير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة، فكان ابن عمر يرى أن به قوة، فكان لا يدع الوضوء لكل صلاة. قال أبو داود إبراهيم بن سعد رواه عن محمد بن إسحاق قال: عبيد الله بن عبد الله. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 37). =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (692 - 28) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا بكر، قال: نا عبد الغني بن سعيد الثقفي، قال: نا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث هن علي فريضة وهو لكم سنة: الوتر، والسواك،، وقيام الليل. [إسناده ضعيف جداً] (¬1). ¬

= وتابع أحمد بن عمرو بن الضحاك أبا دواد، فأخرجه في الآحاد والمثاني (4/ 244)، قال: حدثنا محمد بن عوف ثنا أحمد بن خالد به. ومن طريق أحمد بن خالد الوهبي أخرجه كل من الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 42) وضياء الدين المقدسي في المختارة (9/ 265) رقم 227. وتهذيب الكمال (14/ 438). ورواه الدارمي، عن أحمد بن خالد الوهبي، إلا أنه خالف غيره، فقال: عبيد الله بدلاً من عبد الله، والمحفوظ أن عبيد الله لم يُذْكر إلا في طريق إبراهيم بن سعد، أما أحمد بن خالد الوهبي فقال: عبد الله، فلعله اشتبه عليه رواية إبراهيم بن سعد، برواية أحمد بن خالد. والله أعلم، فقد أخرجه الدارمي (658)، قال: أخبرنا أحمد بن خالد، ثنا محمد هو بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: قلت: أرأيت توضأ بن عمر لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر عم ذلك؟ وذكر الحديث. (¬1) المعجم الأوسط للطبراني (3/ 315) رقم 3266. ورواه البيهقي (7/ 39)، قال: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قراءة عليه وعبد الله بن يوسف الأصبهاني إملاء، قالا: ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا بكر بن سهل ثنا عبد الغني بن سعيد الثقفي، ثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني به. قال البيهقي: موسى بن عبد الرحمن هذا ضعيف جداً، ولم يثبت في هذا إسناد والله أعلم. وقال ابن حبان في موسى بن عبد الرحمن: شيخ دجال، يضع الحديث، روى عنه =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (693 - 29) وروى الطبراني في المعجم الأوسط (¬1) وفي الكبير (¬2)، قال: حدثنا محمد بن علي المروزي، ثنا الحسين بن سعد بن علي بن الحسين بن واقد، حدثني جدي، عن علي بن الحسين، حدثني أبي، ثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أمرت بالسواك حتى خفت على أسناني. [حسن بالمجموع، وقد سبق بحثه] (¬3). والجواب عنه كالجواب عما سبقه من الأحاديث. ¬

= عبد الغني بن سعيد الثقفي، وضع على ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس كتاباً في التفسير، جمعه من كلام الكلبي، ومقاتل بن سليمان وألزقه بابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس، ولم يحدث به ابن عباس، ولا عطاء سمعه، ولا ابن جريج سمع من عطاء، وإنما سمع ابن جريج من عطاء الخراساني، عن ابن عباس في التفسير أحرفاً شبيهاً بجزء. وعطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس شيئاً، ولا رآه. لا تحل الرواية عن هذا الشيخ، ولا النظر في كتابه إلا على سبيل الاعتبار. المجروحين (2/ 242) رقم 918. قال ابن عدي: منكر الحديث، ثم ذكر له أحاديث وقال في آخرها: هذه الأحاديث بواطيل. الكامل (6/ 349). وقال سبط بن العجمي: معروف، وليس بثقة. الكشف الحثيث. (794). (¬1) المعجم الأوسط (7/ 95) ح 6960. (¬2) (11/ 453) ح 12286. (¬3) انظر حاشية ح 668.

الفصل الثاني حكم السواك للصائم

الفصل الثاني حكم السواك للصائم اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا يكره مطلقاً قبل الزوال، وبعده. وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يكره بعد الزوال، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يكره السواك الرطب مطلقاً، قبل الزوال وبعده، ويجوز باليابس مطلقاً، قبل الزوال، وبعده، وهو مذهب مالك (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). دليل القائلين بالكراهة. الدليل الأول: (694 - 30) ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا، معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، ¬

(¬1) الأصل (2/ 244). (¬2) الأم (2/ 101)، المجموع (1/ 332)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 58)، مغني المحتاج (1/ 185)، حاشية الجمل (1/ 119)، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 121)، مطالب أولي النهى (1/ 81). (¬3) الفروع (1/ 125)، أسنى المطالب (1/ 35). (¬4) قال ابن عبد البر في التمهيد (19/ 58): " وأما السواك الرطب فيكرهه مالك وأصحابه وبه قال أحمد وإسحاق وهو قول زياد بن حدير وأبي ميسرة والشعبي والحكم بن عتيبة وقتادة. (¬5) الإنصاف (1/ 117)، الفروع (1/ 125).

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. والحديث في مسلم (¬1). ¬

(¬1) وهذا لفظ البخاري. وأخرجه البخاري (1904) ومسلم (1151)، من طريق ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن أبي صالح الزيات، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله ـ زاد مسلم: يوم القيامة ـ من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه. وحديث خلوف فم الصائم جاء من حديث أبي هريرة كما سبق. ومن حديث أبي سعيد، وابن مسعود، والحارث الأشعري، وعلي بن أبي طالب، وجابر. وإليك بيانها. أما حديث أبي سعيد، فأخرجه مسلم (1151ـ 165)، قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي سنان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله عز وجل يقول: إن الصوم لي وأنا أجزي به، إن للصائم فرحتين إذا أفطر فرح وإذا لقي الله فرح والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأما حديث ابن مسعود، فقد رواه أحمد (1/ 446) قال عبد الله بن أحمد بن حنبل قرأت على أبي، حدثكم عمرو بن مجمع أبو المنذر الكندي، قال: أخبرنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله عز وجل جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ريح المسك. [وإسناده ضعيف] فيه: عمرو بن مجمع. قال الحافظ: قال ابن معين، وآخرون منهم الدارقطني: ضعيف. تعجيل المنفعة (804). وقال ابن معين أيضاً: ليس حديثه بشيء. تاريخ بغداد (12/ 194) رقم6657. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (6/ 265) رقم 1461. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، إما إسناداً، وإما متناً. الكامل (5/ 131). وصحح ابن خزيمة حديثه لكن في المتابعات. تعجيل المنفعة (804). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. الثقات (7/ 230). وفيه أيضاً إبراهيم الهجري: قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (6). وقال البخاري: كان ابن عيينة يضعفه. الضعفاء الصغير (10). وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. الطبقات الكبرى (6/ 341). قال ابن حبان: كان ممن يخطئ. المجروحين (1/ 99). قال سفيان بن عيينة: أتيت إبراهيم الهجري فدفع إلي عامة حديثه، فرحمت الشيخ، فأصلحت له كتابه، فقلت: هذا عن عبد الله، وهذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا عن عمر. الكامل (1/ 211). وعلى هذا فيكون حديث سفيان بن عيينة، عن إبراهيم الهجري مقبولاً. قال يحيى بن معين: إبراهيم الهجري، ليس بشيء. الجرح والتعديل (2/ 131). وقال ابن عدي: إبراهيم الهجري هذا حدث عنه شعبة والثوري وغيرهما، وأحاديثه عامتها مستقيمة المتن، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص عن عبد الله، وهو عندي ممن يكتب حديثه. المرجع السابق. قال أبو حاتم الرازي: إبراهيم الهجري ليس بقوي لين الحديث. الجرح والتعديل (2/ 131) رقم 417. وقال الحميدي: قال سفيان: كان الهجري رفاعاً، وكان يرفع عامة هذه الأحاديث. الضعفاء الكبير (1/ 65). فالحديث ضعيف، ولكنه صالح في الشواهد. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه شعبة عن أبي الأحوص، واختلف عليه فيه. فرواه الطيالسي، عن شعبة مرفوعاً. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 98) رقم: 10078، من طريق الطيالسي ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن بن مسعود يرفعه قال الله عز وجل الصوم لي وأنا أجزي به وللصائم فرحتان فرحة حين يفطر وفرحة حين يلقى ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 173) من طريق أبي الوليد الطيالسي ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله رفعه، قال: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وخالف غندر أبا الوليد الطيالسي، فرواه عن شعبة موقوفاً. أخرجه النسائي (2212) وفي الكبرى (2/ 90) رقم 2522: أخبرنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، قال عبد الله: قال الله عز وجل الصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة حين يلقى ربه، وفرحة عند إفطاره ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وغندر من أثبت أصحاب شعبة. ولذا قال النسائي في التحفة (7/ 398): " هذا هو الصواب عندنا ". اهـ فصوب وقفه. ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق به مرفوعاً وموقوفاً. أما المرفوع فأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 97) رقم 10077، قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود بلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة حين يلقى ربه وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأما الموقوف، فأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 308) رقم 7898 عن معمر به. قلت: الموقوف له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي، وقد روي مرفوعاً من غير طريق أبي إسحاق، أخرجه الطبراني في الكبير (10198) من طريق عبد الحميد بن الحسن الهلالي، عن الأعمش، عن الأسود، عن ابن مسعود ببعضه. وعبد الحميد روى له الترمذي، وفي التقريب: صدوق يخطئ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وكما اختلف على شعبة في وقفه ورفعه، اختلف عليه في إسناده. فرواه أبو الوليد الطيالسي كما عند الطبراني، وغندر كما عند النسائي، وروح كما في النكت الظراف (7/ 398)، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود. على خلاف بينهم في وقفه ورفعه، كما سبق بيانه. وتابع معمر بن راشد شعبة، فرواه عن أبي إسحاق به مرفوعاً، وموقوفاً. ورواه البزار، كما في كشف الأستار (964) من طريق عمر بن عبد المجيد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن عبد الله رفعه، قال: الصوم جنة، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وعمر بن عبد المجيد لم أقف عليه. وأما أبو هبيرة، فقد قال أحمد: أبو هبيرة بن يريم أحب إلينا من الحارث الأعور ولا أعلم حدث عنه غير أبى إسحاق. الجرح والتعديل (9/ 109). وقال أيضاً: لا بأس بحديثه، هو أحسن استقامة من غيره، يعنى الذين روى عنهم أبو إسحاق وتفرد بالرواية عنهم. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن هبيرة بن يريم، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: لا هو شبيه بالمجهولين. المرجع السابق. وقال ابن عدي: يحدث عنه أبو إسحاق بأحاديث، وهذه الأحاديث التي ذكرتها هي مستقيمة، ورواه عن أبى إسحاق الثوري وشعبة ونظرائهما، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (7/ 133) رقم 2049. وقال ابن سعد: كان معروفاً، وليس بذاك. الطبقات الكبرى (6/ 170). وقال الساجي: قال يحيى بن معين: هو مجهول. تهذيب التهذيب (11/ 23). وقال النسائي في الجرح والتعديل: أرجو أن لا يكون به بأس، ويحيى وعبد الرحمن لم يتركا حديثه، وقد روى غير حديث منكر. المرجع السابق. وفي التقريب: لا بأس به. وقد عيب في التشيع. ورواية الجماعة عن شعبة هي المحفوظة، والله أعلم. وأما حديث الحارث الأشعري: فقد أخرجه أحمد (4/ 130، 202)، قال: ثنا عفان، ثنا أبو خلف موسى بن خلف ـ كان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يعد في البدلاء ـ ثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الأشعري أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، قال إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليهما السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وكاد أن يبطئ، فقال له عيسى: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن. فقال: يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب، أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن: أولهن أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك، مثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم سره أن يكون عبده كذلك، وان الله عز وجل خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وآمركم بالصلاة؛ فإن الله عز وجل ينصب وجهه لوجه عبده، ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وآمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك، في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك. وآمركم بالصدقة؛ فان مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوه. فقال: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم، فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرا، وأن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتي حصناً حصيناً، فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله؛ فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم. قالوا: يا رسول الله وإن صام وإن صلى. قال: وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل. وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات إلا أبا خلف موسى بن خلف، فإنه صدوق، وقد تابعه ثقة، والحديث صحيح. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال بن معين: لم يلق يحيى بن أبي كثير زيد بن سلام، وقدم معاوية بن سلام عليهم فأخذ كتابه عن أخيه، ولم يسمعه، فدلسه عنه. تاريخ ابن معين (4/ 207). وقال أبو حاتم قد سمع منه. المراسيل لابنه (ص: 241)، تهذيب التهذيب (11/ 235). وقال أبو بكر الأثرم: قلت: لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يحيى بن أبي كثير سمع من زيد بن سلام؟ فقال: ما أشبهه. قلت له: إنهم يقولون سمعها من معاوية بن سلام. فقال لو سمعها من معاوية لذكر معاوية، هو يبين في أبي سلام، يقول: حدث أبو سلام. ويقول: عن زيد، أما أبو سلام فلم يسمع منه، ثم أثنى أبو عبد الله على يحيى بن أبي كثير. تهذيب الكمال (10/ 77). قلت: رواية أبي يعلى صريحة في أنه حدثه، فيكون الحق ما ذكره أحمد، وقد أخرج مسلم من رواية يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام. تخريج الحديث: الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3/ 285) رقم 3427، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز نا خلف بن موسى به. ومن طريق خلف بن موسى أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/ 179)، وابن قانع في معجم الصحابة (1/ 167) وأخرجه أبو داود الطيالسي بسند صحيح (1161،1162) ومن طريق أبي داود أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/ 177)، وابن خزيمة (3/ 195)، والحاكم (1/ 421) حدثنا أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير به. وقال: الحديث على شرط الأئمة صحيح محفوظ. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (1568) حدثنا هدبة بن خالد، ومن طريق هدبة أخرجه الحاكم (1/ 204) حدثنا أبان بن يزيد به. وهذا سند صحيح. وأخرجه الترمذي (2863) حدثنا محمد بن إسماعيل ـ يعني البخاري ـ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان بن يزيد به. وأخرجه الطبراني في الكبير (3/ 285) رقم 3428، قال: أحمد بن داود المكي، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبان بن يزيد به. وأخرجه ابن حبان في صحيحه كما في الموارد (ص: 298،372) من طريق أبان بن يزيد به. وتابع يحيى بن أبي كثير معاوية بن سلام، ببعضه " من دعا بدعوة الجاهلية .. الخ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أخرجه النسائي في الكبرى (5/ 272) (6/ 412)، قال: أخبرنا هشام بن عمار قال حدثنا محمد بن شعيب قال أخبرني معاوية بن سلام، أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن جده أبي سلام أنه أخبره، قال: أخبرني الحارث الأشعري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من دعا بدعوى جاهلية، فإنه من جثي جهنم، فقال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى. قال: نعم، وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم الله بها المسلمين المؤمنين عباد الله. وأخرجه ابن خزيمة (1/ 244)، قال: نا أبو محمد فهد بن سليمان المصري، نا أبو توبة يعني الربيع بن نافع، نا معاوية بن سلام به بلفظ: إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يفعل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يفعلوا بهن. وذكر الحديث مختصراً. ومن طريق أبي توبة أخرجه الطبراني في الكبير (3/ 287) وذكره بطوله. كما أخرجه من طريق الطبراني المزي في تهذيب الكمال (5/ 217،218). وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 282) من طريق مروان بن محمد ثنا معاوية بن سلام به. وأما حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد أخرجه النسائي (2211)، قال: أخبرني هلال بن العلاء، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبيد الله، عن زيد، عن أبي إسحق، عن عبد الله بن الحارث، عن علي بن أبي طالب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: الصوم لي، وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان حين يفطر وحين يلقى ربه، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. في إسناده العلاء بن هلال بن عمر: والد هلال. قال النسائي: العلاء بن هلال يروي عنه ابنه هلال بن العلاء غير حديث منكر، فلا أدري منه أتي، أو من أبيه. الكامل (5/ 223). وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث، ضعيف الحديث، عنده عن يزيد بن زريع أحاديث موضوعة. الجرح والتعديل (6/ 361). وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد، ويغير الأسماء، لا يجوز الاحتجاج به بحال، روى عن يزيد بن زريع، عن أيوب، عن ابن مليكة، =

وجه الاستدلال: أن الخلوف، وهو الرائحة الكريهة، التي تكون بالفم عند خلو المعدة من الطعام، والخلوف لايظهر غالباً إلا في آخر النهار، ولذا حدوه بالزوال، وإذا كان ناشئاً عن طاعة وعبادة، فلا ينبغي إزالته قياساً على دم الشهيد، فإنه لما كان أثر عبادة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يغسل، وأن يدفن الشهيد بدمه، (695 - 31) كما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، ¬

_ = عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال من قلم أظفاره يوم الجمعة عافاه الله من السوء كله إلى يوم الجمعة الأخرى، رواه المنكدر، عن هلال بن العلاء، عن أبيه. المجروحين (2/ 184). وفي التقريب: فيه لين. ورواه البزار في مسنده (3/ 129) رقم 915 حدثنا هلال بن العلاء، نا أبي به. ثم قال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه. تفرد به علي. وأما حديث جابر، فرواه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 303) رقم 3603، قال: أخبرنا أبو محمد بن يوسف الأصبهاني، ثنا أبو سعيد بن الأعرابي، ثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، ثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاق، ثنا الهيثم بن الحواري، عن زيد العمي، عن أبي نضرة قال سمعت جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبي قبلي، قال: وأما الثانية: فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك. وذكر الباقي. وهذا إسناد ضعيف. الهيثم بن الحواري لم أقف على ترجمته، وقد ذكره المزي في تلاميذ زيد العمي. وزيد العمي: ضعيف. وقد عزاه ابن الملقن في البدر المنير (1/ 83) والحافظ في تلخيص الحبير (1/ 101) إلى مسند الحسن بن سفيان، ونسبه النووي في المجموع (1/ 330) إلى مسند الحسن بن سفيان، وقال أيضاً: رواه أبو بكر الإسماعيلي في أماليه، وقال: هو حديث حسن. والله أعلم.

أدلة القول الثاني

حدثنا الليث، قال: حدثني ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم (¬1). أدلة القول الثاني. استدل القائلون بأن السواك مشروع مطلقاً للصائم وغيره، قبل الزوال وبعده بأدلة منها: الدليل الأول: (696 - 32) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أعد وما لا أحصى يستاك وهو صائم. وقال عبد الرحمن: ما لا أحصى يتسوك وهو صائم. [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1343). (¬2) في الإسناد: عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب. كان ابن عيينة لا يحمد حفظ عاصم بن عبيد الله. الجرح والتعديل (6/ 347). قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: سئل أبى عن عاصم بن عبيد الله وعبد الله بن محمد بن عقيل؟ فقال: ما أقربهما كان ابن عيينة يقول: كان الأشياخ يتقون حديث =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عاصم بن عبيد الله. قال: وسمعته يعنى أحمد أباه يقول: عاصم بن عبيد الله ليس بذاك. الجرح والتعديل (6/ 347). قرئ على العباس بن محمد الدوري، قال: سئل يحيى بن معين عن عاصم بن عبيد الله فقال ضعيف لا يحتج بحديثه، وهو أضعف من سهيل والعلاء بن عبد الرحمن. الجرح والتعديل (6/ 347). وقال ابن حبان: كان سيء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ فترك من أجل كثرة خطئه. المجروحين (2/ 127). وكان عبد الرحمن بن مهدي ينكر حديث عاصم بن عبيد الله أشد الإنكار. الكامل (5/ 225). وقال ابن عدي: روى عنه سفيان الثوري وابن عيينة وشعبة وغيرهم من ثقات الناس وقد احتمله الناس وهو مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (5/ 225). وسئل أبو زرعة عن عاصم بن عبيد الله، فقال: قال لي محمد بن عبد الله بن نمير عاصم بن عبيد الله أحب إليك أم بن عقيل؟ فقلت: ابن عقيل يختلف عليه في الأسانيد، وعاصم منكر الحديث في الأصل، وهو مضطرب الحديث. الجرح والتعديل (6/ 347). وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث مضطرب الحديث ليس له حديث يعتمد عليه وما أقربه من ابن عقيل. الجرح والتعديل (6/ 347). وقال ابن خزيمة: كنت لا أخرج حديث عاصم بن عبيد الله في هذا الكتاب، ثم نظرت فإذا شعبة والثوري قد رويا عنه، ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وهما إماما أهل زمانهما قد رويا عن الثوري عنه، وقد روى عنه مالك خبرا في غير الموطأ. قلت: رواية شعبة ومالك ليست تعديلاً. أما شعبة فقد قال عنه: عاصم بن عبيد الله لو قلت له: من بنى مسجد النبي؟ لقال: حدثني فلان، عن فلان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بناه. الضعفاء الكبير (3/ 333). وأما مالك فقد قال علي بن المديني: حدثني شيخ لنا، قال: قال لي مالك: شعبتكم هذا يشدد في الرجال ويروي عن عاصم بن عبيد الله!! الكامل (5/ 225). الحديث مداره على عاصم بن عبيد الله، ويرويه عن عاصم اثنان: الطريق الأول: سفيان، عن عاصم. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (697 - 33) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا عثمان بن محمد بن أبي شيبة، ثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خير خصال الصائم ¬

_ = أخرجه أحمد كما في الباب، وأخرجه أبو داود الطيالسي (1144) حدثنا سفيان الثوري به. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (7479، 7484)، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب (318) عن الثوري به. ورواه أحمد (3/ 446) حدثنا يحيى، ومن طريق يحيى بن سعيد القطان أخرجه أبو داود (2364)، عن سفيان به. ورواه أبو يعلى (7139) من طريق ابن المبارك، عن سفيان به. وأخرجه أحمد كما في الباب عن ابن مهدي، ومن طريق ابن مهدي أخرجه الترمذي (725)، والدارقطني (2/ 202)، عن الثوري به. قال الدارقطني: عاصم بن عبيد الله غيره أثبت منه ". اهـ وأخرجه الحميدي (141) حدثنا سفيان ـ يعني ابن عيينة ـ ومن طريق ابن عيينة أخرجه ابن خزيمة (2007)، عن الثوري به. وأخرجه المقدسي في الأحاديث المختارة (8/ 183)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 333) من طريق أبي نعيم، عن سفيان به. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 272) من طريق ابن وهب، عن الثوري به. ورواه البخاري معلقاً بصيغة التمريض، باب الصيام، باب السواك الرطب واليابس للصائم. الطريق الثاني: شريك بن عبد الله، عن عاصم بن عبيد الله. رواه ابن أبي شيبة (2/ 294) رقم: ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الدارقطني (2/ 202)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (8/ 183)، قال: حدثنا شريك عن عاصم به. والحديث بالجملة ضعيف، لضعف عاصم. والله أعلم.

السواك. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (1677). هذا إسناد حسن لولا مجالد بن سعيد. قال النسائي: كوفي ضعيف. الضعفاء والمتروكين (552). وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. الطبقات الكبرى (6/ 349). وقال يحيى بن سعيد القطان: ما كنت أشاء أن يقول لي مجالد من حديث من رأى الشعبي عن مسروق إلا فعل. المرجع السابق. وقال أيضاً لعبد الله أين تذهب؟ قال: أذهب إلى وهب بن جرير اكتب السيرة _ يعنى عن مجالد _ قال: تكتب كذباً كثيراً، لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلها، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله فعل. الجرح والتعديل (8/ 361). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبى عن مجالد بن سعيد يحتج بحديثه؟ قال: لا، وهو أحب إلي من بشر بن حرب وأبى هارون العبدي وشهر بن حوشب، وأحب إلي من داود الأودي وعيسى الحناط، وليس مجالد بقوي الحديث. المرجع السابق. قال أحمد: مجاهد ليس بشيء. الضعفاء الصغير (ص: 112) رقم 368. قال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه، وهو صدوق. تهذيب التهذيب (10/ 36). وقال الدارقطني: يزيد بن أبي زياد أرجح منه ومجالد لا يعتبر به. المرجع السابق. وقال البخاري صدوق. المرجع السابق. ولم أقف على كلام البخاري، بل ذكره البخاري في الضعفاء الصغير، وذكر في التاريخ الكبير (8/ 9) 1950 تضعيف ابن مهدي وابن القطان، ولم يتعقبه. قال ابن أبي حاتم: قال عبد الرحمن بن مهدي: حديث مجالد عند الأحداث يحيى بن سعيد، وأبى أسامة ليس بشيء، ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد وهشيم وهؤلاء القدماء. قال أبو محمد: يعنى: إنه تغير حفظه في آخر عمره. الجرح والتعديل (8/ 361). قلت: روى مسلم من رواية أصحابه القدماء كهشيم بن بشير عنه. وأبو إسماعيل المؤدب يعتبر من صغار أصحابه؛ لأن شعبة وهشيماً من الطبقة السابعة، بينما إسماعيل من الطبقة التاسعة، وعليه تكون رواية مجالد بعد ما تغير. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = تخريج الحديث: الحديث رواه الطبراني في الأوسط (8/ 244) رقم 8626 حدثنا معاذ، ومن طريق معاذ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 272) نا يحيى بن معين، ثنا إسماعيل المؤدب، عن مجالد به. وأخرجه الدارقطني (2/ 203) من طريق الحسن بن عرفة، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن مجالد به. قال الدارقطني: مجالد غيره أثبت منه. وضعف الحديث البيهقي في السنن (4/ 272)، والبوصيري في الزوائد (2/ 66) والحافظ بن حجر في التلخيص (1/ 114). ورواه الطبراني في الأوسط (8/ 209) رقم 8420 حدثنا موسى بن عيسى الجزري، قال: أخبرنا صهيب بن محمد بن عباد بن صهيب، قال: أخبرنا عباد بن صهيب، عن السري، عن إسماعيل، عن الشعبي به. ورواه أبو نعيم كما في البدر المنير (3/ 179)، وتلخيص الحبير (1/ 114) من طريق السري بن إسماعيل به. وفيه السري بن إسماعيل: قال البخاري: قال يحيى بن القطان استبان له كذبه في مجلس. التاريخ الكبير (4/ 176)، الضعفاء الصغير (ص:56) رقم 156. وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (262). وقال في موضع آخر ليس بثقة. تهذيب التهذيب (3/ 399). وقال ابن عدي: أحاديثه التي يرويها لا يتابعه أحد عليها وخاصة عن الشعبي فإن أحاديثه عنه منكرات لا يرويها عن الشعبي غيره، وهو إلى الضعف أقرب. الكامل (3/ 456). وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل. المجروحين (1/ 355). وقال أبو طالب عن أحمد: ترك الناس حديثه. تهذيب التهذيب (3/ 399). وقال الدوري: عن ابن معين ليس بشيء. المرجع السابق. وقال الآجري عن أبي داود: ضعيف متروك الحديث يجيء عن الشعبي بأوابد. المرجع السابق. وقال في البدر المنير (3/ 180): " وفي رواية لأبي نعيم، عن عائشة، قالت: يا رسول الله إنك تديم السواك. قال: يا عائشة لو استطعت أن أستاك مع كل شفع لفعلت. فإن خير =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (698 - 34) ما رواه الدارقطني، قال حدثني أبو بكر محمد بن عثمان بن ثابت الصيدلاني، ثنا أبو محمد حامد بن الشاذي الكجي، ثنا إبراهيم بن يوسف البلخي أخو عصام بن يوسف، ثنا أبو إسحاق الخوارزمي، قال: سألت عاصم الأحول أيستاك الصائم؟ قال نعم: قلت: برطب السواك ويابسه؟ قال: نعم. قلت: أول النهار وآخره. قال: نعم. قلت: عن من؟ قال: عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الدارقطني: أبو إسحاق الخوارزمي ضعيف. ورواه ابن عدي (¬1)، وابن حبان (¬2)، والعقيلي (¬3)، والبيهقي (¬4)، في السنن ¬

= خصال الصائم السواك. وسكت عليه ابن الملقن، والحافظ في تلخيص الحبير (1/ 114). ولم أقف على إسناده. وقال الحافظ: " رواه أبو نعيم من طريقين عنها. وصنيع ابن الملقن لا يوهم أنهما طريقان مختلفان عند أبي نعيم، بل قال: " وفي رواية لأبي نعيم. وذكر الحديث. ثم تبين لي أنه طريق واحد إلا أنه بلفظين فقد أخرجه أبو يعلى (4883) حدثنا سري بن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كنا نضع سواك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع طهوره. قالت: قلت يا رسول الله ما تدع السواك؟ قال: أجل لو أن أقدر على أن يكون ذلك مني عند كل شفع من صلاتي لفعلت. ولم يذكر فإن خير خصال الصائم السواك. ومداره على السري بن إسماعيل، وهو متروك. (¬1) الكامل (1/ 260). (¬2) المجروحين (1/ 102،103). (¬3) الضعفاء الكبير (1/ 56). (¬4) السنن الكبرى (4/ 272).

الدليل الرابع

من طريق إبراهيم بن بيطار الخوارزمي (أبو إسحاق)، عن عاصم الأحول به. [إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الرابع: (699 - 35) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي، ثنا هارون بن معروف، ثنا محمد بن سلمة الحراني، انبأ بكر بن خنيس، عن أبي عبد الرحمن، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: سألت معاذ بن جبل، أتتسوك وأنت صائم؟ قال: نعم. قلت: أي النهار أتسوك؟ قال: أي النهار شئت، إن شئت غدوة، وإن شئت عشية. قلت: فإن الناس يكرهونه عشية. قال: ولم؟ قلت: يقولون: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فقال: سبحان الله، لقد أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) فيه إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي. قال ابن عدي: ليس بمعروف وأحاديثه عن كل من روى ليست بمستقيمة. وقال أيضاً: وعامة أحاديثه غير محفوظة. الكامل (1/ 260) 93. وقال البيهقي (4/ 272): هذا ينفرد بها أبو إسحاق إبراهيم بن بيطار، ويقال إبراهيم بن عبد الرحمن، قاضي خوارزم، حدث ببلخ، عن عاصم الأحول بالمناكير. لا يحتج به. قال ابن حبان: يروى عن عاصم الأحول المناكير التي لا يجوز الاحتجاج بما يرويها على قلة شهرته بالعدالة وكتابة الحديث. المجروحين (1/ 102). وقد ضعف الحديث ابن حبان، قال: لا أصل له من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من حديث أنس. المجروحين (1/ 102). وقال العقيلي: ليس بمعروف في النقل، والحديث غير محفوظ. الضعفاء الكبير (1/ 56،57). وقال الذهبي: وهذا لا أصل له من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الميزان (1/ 25).

الدليل الرابع

بالسواك حين أمرهم وهو يعلم أنه لا بد أن يكون بفم الصائم خلوف، وإن استاك، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً، ما في ذلك من الخير شيء، بل فيه شر إلا من ابتلى ببلاء لا يجد منه بداً. قلت: والغبار في سبيل الله أيضا كذلك إنما يؤجر فيه من اضطر إليه ولم يجد عنه محيصا؟ قال: نعم وأما من ألقى نفسه في البلاء عمداً فما له من ذلك من أجر (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (700 - 36) ما رواه ابن منيع في مسنده، قال: حدثنا الهيثم ¬

(¬1) المعجم الكبير (20/ 70) رقم 133. (¬2) فيه بكر بن خنيس: قال فيه ابن معين: صالح لا بأس به، إلا أنه يروي عن ضعفاء، يكتب من حديثه الرقاق. وقال أيضاً: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: سألت علي بن المديني، فقال: للحديث رجال. وقال ابن عمار الموصلي: ليس بمتروك، وهو شيخ صاحب غزو. وقال الدارقطني: متروك. وقال عمرو بن علي، ويعقوب بن شيبة، والنسائي: ضعيف. وقال النسائي في موضع آخر: ليس بالقوي. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: كان رجلاً صالحاً غزاء، وليس بقوي في الحديث. قيل: هو متروك الحديث؟. قال: لا يبلغ به الترك. وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث. وقال الذهبي: واهـ. وفي التقريب: صدوق له أغلاط. أفرط فيه ابن حبان. قلت: لم يبلغ مرتبة الصدق، ولم يصل مرحلة الترك، فالتوسط فيه: أنه ضعيف.

بن خارجة، ثنا يحيى بن حمزة، عن النعمان بن المنذر، عن عطاء وطاووس، ومجاهد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسوك، وهو صائم (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬

(¬1) المطالب العالية (1089). (¬2) دراسة الإسناد: الهيثم بن خارجة. قال عبد الله بن أحمد: كان أبي إذا رضي عن إنسان، وكان عنده ثقة حدث عنه، وهو حي، فحدثنا عن الهيثم بن خارجة. ووثقه يحيى بن معين، والخليلي، وابن قانع، وروى له البخاري. وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وفي التقريب: صدوق. قلت: أكثر العلماء على توثيقه، ومنهم ابن معين، وأحمد والخليلي والذهبي وابن قانع، وأما أبو حاتم فقال: صدوق إلا أنه يقول هذا في كثير من الثقات المتفق على توثيقهم، ومثله النسائي. يحيى بن حمزة الحضرمي: قال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل: قال أبى: يحيى بن حمزة ليس به بأس. الجرح والتعديل (9/ 136). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث صالحه. الطبقات الكبرى (7/ 469). وذكره ابن حبان في الثقات (9/ 249). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عنه، فقال: صدوق. الجرح والتعديل (9/ 136). وقال عبد الله بن شعيب الصابوني والغلاني عن يحيى بن معين ثقة. تهذيب الكمال =

الدليل الخامس

الدليل الخامس والسادس: حديثا أبي هريرة مرفوعاً: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ". والحديث الآخر: " مع كل وضوء " [والحديثان صحيحان، وسبق تخريجهما]. ¬

_ = (31/ 278). وقال عباس الدوري، عن يحيى بن معين: كان قدرياً، وكان صدقة أحب إليهم من يحيى بن حمزة. المرجع السابق. وقال عثمان بن سعيد الدارمي، عن دحيم: ثقة لا أشك. المرجع السابق. وقال أبو عبيد الآجري، عن أبي داود: ثقة. قلت: كان قدرياً؟ قال: نعم وقال النسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (11/ 176). وقال عمرو بن دحيم: أعلم أهل دمشق بحديث مكحول وأجمعه لأصحابه الهيثم بن حميد ويحيى بن حمزة. المرجع السابق. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة مشهور. المرجع السابق. النعمان بن المنذر: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن النعمان بن المنذر فقال: دمشقي ثقة. الجرح والتعديل (8/ 447). وقال دحيم: ثقة إلا أنه يرمي بالقدر. كما في تهذيب التهذيب. وقال الآجري، عن أبي داود: ضرب أبو مسهر على حديث النعمان بن المنذر فقال له يحيى بن معين: وفقك الله تعالى. قال أبو داود: كان داعية في القدر وضع كتاباً يدعو فيه إلى القدر. وقال النسائي عقب حديثه في الحيض: ليس بذاك القوي. وقال الذهبي والحافظ: صدوق. زاد الحافظ: رمي بالقدر. فهذا إسناد حسن.

الدليل السادس

وجه الاستدلال: ترجم النسائي في السنن الصغرى للحديث الأول، فقال: " باب الرخصة في السواك بالعشي للصائم ". فقال السندي: " وجه الاستدلال: أنه لا مانع من إيجاب السواك عند كل صلاة إلا خوف لزوم المشقة، ويلزم منه كون الصوم غير مانع منه، وهذا استنباط دقيق، وتيقظ عجيب، فلله دره ما أدق وأحد فهمه ". اهـ قلت: ويمكن أن يستدل به على المسألة من وجه آخر، فإن قوله: «عند كل صلاة» وقوله: «مع كل وضوء» فالصلاة تشرع في كل الأوقات .. بالعشي، والهجير، والغدو، والوضوء يشرع للإنسان أن يكون على طهارة دائماً، ولم يستثن الشرع شيئاً في استحبابه، فهو مطلق للصائم والمفطر، بالحضر والسفر، وبالليل والنهار، وبالغدو والعشي. الدليل السادس: (701 - 37) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا عبد الرحمن ابن أبي عتيق، عن أبيه، أنه سمع عائشة تحدثه، عن النبي قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬1). وجه الاستدلال: إذا كان السواك مرضاة للرب، فمرضاة الله مطلوبة دائماً، وفي كل وقت دون استثناء، وإذا كان السواك مطهرة للفم، فإنه يتأكد في حق الصائم ¬

(¬1) انظر ح 666.

الدليل السابع

أكثر من غيره، لحاجته إلى تطهير الفم، وتخفيف أثر الخلوف؛ لأن من أسباب مشروعية السواك تطهير الفم. الدليل السابع: من الآثار (702 - 38) روى ابن أبي شيبة حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه لم يكن يرى به باساً بالسواك للصائم. [إسناده صحيح] (¬1). (703 - 39) ومن الآثار ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن مسعر وسفيان، عن أبي نهيك، عن زياد بن حدير، قال: ما رأيت أحدا أدوم سواكاً، وهو صائم من عمر بن الخطاب. [فيه أبو نهيك، لم يتبين لي اسمه] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (2/ 295). رجاله كلهم ثقات، وقد رواه البخاري تعليقاً جازماً به، في كتاب الصيام: باب السواك الرطب واليابس للصائم. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 213) قال: خبرنا أبو الحسين بن بشران، أنا إسماعيل الصفار، ثنا سعدان بن نصر، ثنا وكيع، عن عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر أنه كان يستاك، وهو صائم، وينظر في المرآة، وهو محرم. قال: وقال: يحك المحرم رأسه ما لم يقتل دابة أو جلدة رأسه أن يدميه. ورواه عبد الرزاق في المصنف (4/ 202) 7488 عن عبد الله بن عمر، عن نافع، أن ابن عمر كان يستاك وهو صائم، إذا راح إلى صلاة الظهر. (¬2) مدار الإسناد على أبي نهيك. وثقه ابن حبان. الثقات (6/ 107)، وسماه بكير ورواه أحمد كما في العلل لابنه عبد الله (2/ 171) رقم 1903، حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا شعبة عن أبي بكير، عن زياد بن حدير، قال: ما رأيت أحداً أكثر يستاك وهو صائم من عمر. قال أبي: وإنما هو أبو نهيك فأخطأ شعبة فيه فقال أبو بكير. =

الجواب عن أدلة القول الأول: ¬

_ = وقال يحيى بن معين: أبو نهيك الكوفي روى عنه سفيان الثوري، وشريك، ومنصور بن المعتمر، وجرير، وهو ثقة. واسم أبي نهيك القاسم بن محمد. تاريخ بن معين رواية الدوري. (3/ 510). وفات الحافظ أن يذكر توثيق يحيى بن معين في ترجمة أبي نهيك في التهذيب. واختلف في اسم أبي نهيك: فقيل: هو القاسم بن محمد، كما ذكر ذلك يحيى بن معين. وكذلك ابن حزم في المحلى، فقد روى من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي نهيك قال سألت طاووسا عن امرأة ماتت وقد بقي عليها من نسكها فقال يقضي عنها وليها. قال ابن حزم: أبو نهيك: هو القاسم بن محمد الأسدي، روى عنه سفيان ومنصور وجرير بن عبد الحميد. المحلى (7/ 64). وكذلك سماه عبد لله بن أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة. (1/ 297). وذكر ابن حبان اثنين كنيتهما أبو نهيك: الأول: وسماه ابن حبان بكير، فقال: بكير أبو نهيك، يروى عن زياد بن حدير، عن ابن عمر، روى عنه منصور بن المعتمر وشعبة بن الحجاج. الثقات (6/ 107). ولعل هذا هو الذي جعل شعبة يخطئ باسمه، يقول: أبو بكير. فجعله كنية بدلاً من قوله بكير. والثاني، وسماه ابن حبان القاسم بن محمد أبو نهيك الأسدي، قال: يروي عن أنس بن مالك روى عنه منصور والثوري. الثقات (5/ 305). وكلاهما يروي عن زياد بن حدير. فابن حبان نص على أن بكيراً يروى عن زياد بن حدير. والحافظ في التهذيب نص على أن القاسم بن محمد أبا نهيك يروى عن زياد بن حدير. فإن كانا شخصين، فإن ابن معين لم يوثق إلا أبا نهيك المسمى القاسم بن محمد. ويبقى الثاني بكير لم يوثقه إلا ابن حبان، وقد ذكر ابن حبان أن الثوري يروي عن أبي نهيك: القاسم بن محمد، فيكون هو الثقة الذي في إسناد أثر عمر بن الخطاب، إضافة إلى ما سبق ذكره عن الأئمة. وإن كانا شخصاً واحداً، وإنما الاختلاف في اسمه، فهو ثقة.

أولاً: القياس على دم الشهيد فإن العلة في ترك دم الشهيد ليس لأنه أثر عن عبادة، وإنما لأنه يبعث يوم القيامة، وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك. (704 - 40) فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك. هذا لفظ البخاري ورواه مسلم (¬1). ولذلك لا يكره لو قام بتنشيف بلل الوضوء، ولا يكره غسل ما يصيب ثوب العالم من الحبر، وإن كان أثراً ناشئاً عن عبادة (¬2). ثانياً: ربط الحكم بالزوال منتقض؛ لأن هذه الرائحة قد تحصل قبله، وقد تحصل بعده، وقد لا تحصل، فلو أن الإنسان تسحر مبكراً، أو لم يتسحر، فإن معدته ستخلو مبكرة. ومن الناس من لا تحصل عنده هذه الرائحة، إما لصفاء معدته، أو لأن معدته لا تهضم الطعام بسرعة، وإذا انتقضت العلة انتقض المعلول. ثالثاً: الأحاديث التي تنهى الصائم عن السواك بعد العشي لا تقوم بها ¬

(¬1) صحيح البخاري (2803)، ومسلم (1876). (¬2) حاول النووي في المجموع الجواب عن هذا، فقال: " السوك أثر عبادة مشهود له بالطيب، فكره إزالته فقوله: " مشهود له بالطيب احتراز مما يصيب ثوب العالم من الحبر، فإنه وإن كان أثر عبادة، لكنه مشهود له بالفضل، لا بالطيب. ودم الشهداء مشهود له بالطيب لقوله في الحديث: " اللون لون الدم، والريح ريح المسك ".

حجة، كحديث خباب وعلي بن أبي طالب. والكراهة حكم شرعي، مفتقر إلى دليل شرعي. رابعاً: لو سلم أن فضيلة الخلوف تزاحمت مع فضيلة السواك، ولا يمكن الجمع بينهما، فلا شك أن فضيلة السواك تربو على فضيلة الخلوف، وكون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك لا يكفي في تقديم مصلحة الخلوف على مصلحة السواك.، قال الشوكاني: السواك نوع من التطهير المشروع لأجل مخاطبة الرب سبحانه وتعالى؛ لأن مخاطبة العظماء مع تطهير الأفواه تعظيم لا شك فيه، ولأجله شرع السواك، وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، فكيف يقال: إن فضيلة الخلوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه له ". خامساً: ذكر بعضهم: أن السواك لا يزيل الخلوف؛ لأن الخلوف من المعدة والحلق، لا من محل السواك، (¬1)، ولذلك إذا أكل الإنسان ثوماً أو بصلاً لم تذهب الرائحة بتطهير الفم بالسواك؛ لأن مبعث ذلك المعدة. فالراجح عندي والله أعلم أن السواك مشروع مطلقاً، وفي كل وقت. ¬

(¬1) طرح التثريب (4/ 101).

دليل من قال: ذلك خاص في الآخرة

المبحث الأول هل طيب الخلوف في الدنيا والآخرة أم في الآخرة فقط؟ قال بعضهم: إن ذلك عام في الدنيا والآخرة. وقال بعضهم: إن ذلك خاص بالآخرة (¬1). دليل من قال: ذلك خاص في الآخرة. (705 - 41) استدل بما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء، عن أبي صالح الزيات، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ، ولا يسخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه (¬2). ¬

(¬1) قال النووي في المجموع: " وقع نزاع بين الشيخ أبي عمرو بن الصلاح، والشيخ أبي محمد بن عبد السلام رضي الله عنهما في أن هذا الطيب في الدنيا والآخرة أم في الآخرة؟ فقال أبو محمد: في الآخرة خاصة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية مسلم: «والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة. وقال أبو عمرو: هو عام في الدنيا والآخرة، واستدل بأشياء كثيرة» اهـ ثم ذكر أدلته على ذلك (¬2) حديث أبي هريرة، رواه عنه جماعة، ولم يذكروا: يوم القيامة. منهم الأول: الأعرج، كما في موطأ مالك (1/ 310)، والبخاري (1894)، والبيهقي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (4/ 304)، والبغوي (1712). الثاني: سعيد بن المسيب كما عند عبد الرزاق (7891)، وأحمد (2/ 281)، والبخاري (5927)، ومسلم (161ـ1151)، والترمذي (764)، والنسائي في الصغرى (2218)، وفي الكبرى (3261)، والبيهقي (4/ 304). الثالث: همام بن منبه، كما عند عبد الرزاق (4/ 306) رقم 7892، وأحمد (2/ 313). الرابع: محمد بن زياد، كما في مسند أبي داود الطيالسي (2485)، وأحمد (2/ 457،467،504)، والبخاري في الصحيح (7538) وفي خلق أفعال العباد (1/ 95)، والمعجم الأوسط للطبراني (9040)، وابن الجعد في مسنده (ص: 174). الخامس: محمد بن سيرين، كما عند أحمد (2/ 234،395،410،516). السادس: أبو سلمة كما عند أحمد (2/ 475،501) والدارمي (2/ 39) 1769، ومسند الحارث كما في بغية الباحث (1/ 410) من طريقين، عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. السابع: جابر بن زيد، كما في مسند الربيع بن حبيب (ص: 133) رقم 327 الثامن: قيس بن أبي حازم، كما في الفوائد لابن منده (ص: 69) رقم 46، ومسند إسحاق بن راهوية (1/ 266). التاسع: موسى بن يسار. كما عند أحمد (2/ 257) من طريق محمد بن إسحاق، وأخرجه أيضاً (2/ 485) ثنا عبد الرحمن، عن داود بن قيس، عن موسى به. واختلف عليه. وسيأتي بيانه إن شاء الله. العاشر: سلمان الأشجعي: أبو حازم. كما عند أحمد (2/ 347). إلا أنه موقوف. الحادي عشر: داود بن فراهيج. كما عند أحمد (2/ 458) وسنده صحيح. الثاني عشر: عجلان مولى المشمعل، وقيل: مولى حكيم. وقيل: مولى حماس. كما في مسند أبي داود الطيالسي (2367)، والمسند لأحمد (2/ 505) وسنده حسن. ومسند ابن الجعد (ص: 410). الثالث عشر: مجاهد، كما في معجم الأوسط للطبراني (4869) من طريق ليث، عنه. وفيه ضعف. فهؤلاء اثنا عشر راوياً رووه عن أبي هريرة، مرفوعاً، ولم يذكروا: " يوم القيامة ". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه أبو صالح الزيات، عن أبي هريرة، واختلف على أبي صالح. فرواه الأعمش، وروايته في الصحيحين، وسيأتي بيان من رواه في تحقيق لفظة: "حين يخلف" في أدلة القول الثاني إن شاء الله، فراجعها مشكوراً. وأبو سنان، كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 272) رقم 8893، ومسند أبي يعلى (1005)، ومسند أحمد (2/ 232) (3/ 5)، وصحيح مسلم (1151) وسنن النسائي الصغرى (2213)، وفي الكبرى (2/ 90) رقم 2523، والمنتخب من مسند عبد بن حميد (ص: 288)، والمعجم الأوسط للطبراني (4892)، وابن خزيمة (1900). وسهيل بن أبي صالح، كما عند ابن خزيمة (1897) مطولاً. ورواه أحمد (2/ 419)، والترمذي (766)، إلا أنهما اختصراه. والمنذر بن عبيد، كما في سنن النسائي الصغرى (2214)، والكبرى (2524) أربعتهم رووه عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بدون قوله: " يوم القيامة " موافقين لرواية الجماعة، عن أبي هريرة. ورواه ابن جريج، عن أبي صالح، واختلف على ابن جريج. فرواه هشام بن يوسف، كما في صحيح البخاري (1904)، عن ابن جريج، عن أبي صالح، عن أبي هريرة بدون ذكر: " يوم القيامة ". ورواه عبد الرزاق كما في مسند أحمد (2/ 273)، وصحيح مسلم (1151). ومحمد بن حجاج المصيصي، كما في سنن النسائي الصغرى (2216)، والكبرى (2526). وروح بن عبادة، كما عند أحمد (2/ 516)، وسنن البيهقي (4/ 170). ومحمد بن بكر البرساني، كما في صحيح ابن خزيمة (1896) وابن حبان (3423)، وفي مسند أحمد مقروناً بعبد الرزاق (2/ 273). أربعتهم رووه عن ابن جريج، عن أبي صالح، عن أبي هريرة بذكر يوم القيامة. ورواه عنه ابن المبارك، كما في سنن النسائي الصغرى (2217)، والكبرى (2527)، عن ابن جريج ولم يذكر يوم القيامة إلا أنه خالف في إسناده، فقال، عن ابن جريج قراءة عن عطاء الزيات أنه سمع أبا هريرة. فجعل بدلاً من أبي صالح عطاء الزيات. ورواه سعيد بن ميناء، كما في مسند أحمد بسند صحيح واختلف عليه فيه: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فرواه أحمد (2/ 461) قال: ثنا عبد الرحمن ـ يعني ابن مهدي ـ قال: ثني سليم بن حيان، عن سعيد، قال: سمعت أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وليس فيه يوم القيامة. ورواه بهز، كما في مسند أحمد (2/ 306) وعفان في المسند أيضاً (2/ 407) كلاهما، عن سليم بن حيان به. بذكر يوم القيامة. ورواه موسى بن يسار، عن أبي هريرة، واختلف على موسى أيضاً: فرواه أحمد (2/ 532)، وإسحاق بن راهوية في مسنده (1/ 455) قالا: ثنا عبد الله بن الحرث ثنا داود بن قيس عن موسى بن يسار عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال خلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك وخالفه عبد الرحمن بن مهدي فأخرجه أحمد (2/ 485) عنه، عن داود بن قيس به بدون ذكر يوم القيامة. وتابعه محمد بن إسحاق، فأخرجه أحمد (2/ 257) حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن موسى بن يسار به بدون ذكر يوم القيامة. ورواه بشير بن نهيك، رواه أحمد (2/ 306) قال: ثنا بهز، ثنا، همام، ثنا قتادة، عن بشير بن نهيك، ولا أظنه إلا عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: خلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك. هذا ما وقفت عليه ممن ذكر يوم القيامة، وممن لم يذكرها، فتبين لي أن أكثر الرواة على عدم ذكرها، وقد وقفت على اثني عشر راوياً روى الحديث عن أبي هريرة بدون ذكرها. منهم أخص أصحاب أبي هريرة كالأعرج، وسعيد بن المسيب وغيرهما. وأما أبو صالح السمان، فاختلف عليه، فرواه أربعة عنه بدون ذكرها، ورغم أنه لم يخالفهم إلا ابن جريج فقد اختلف على ابن جريج، وحديثه في البخاري بدونها. وما عداهم، فهناك ثلاثة، موسى بن يسار، واختلف عليه. وسعيد بن ميناء، واختلف عليه أيضاً. وبشير بن نهيك. ولذا أرى أن الراجح أن قوله: " يوم القيامة " ليست محفوظة. والله أعلم.

الشاهد قوله: " أطيب عند الله يوم القيامة " فجعل ذلك يوم القيامة. وتعليل آخر: أن يوم القيامة هو يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك. الدليل الثاني: (706 - 42) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك. هذا لفظ البخاري، ورواه مسلم (¬1). فأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن رائحة المكلوم في سبيل الله عز وجل بأنه كريح المسك يوم القيامة، وهو نظير إخباره عن خلوف فم الصائم؛ فإن الحس يدل على أن هذا دم في الدنيا، وهذا خلوف له، ولكن يجعل الله رائحة هذا وهذا مسكاً في يوم القيامة (¬2). والذين قالوا بأنه عام في الدنيا والآخرة لا يعارضون هذا الاستدلال، بل يقولون به، ولكنهم لا يخصون هذا في الآخرة، بل يجعلونه عاماً. ¬

(¬1) صحيح البخاري (2803)، ومسلم (1876). (¬2) الوابل الصيب (ص: 58).

دليل من قال: ذلك عام في الدنيا والآخرة

دليل من قال: ذلك عام في الدنيا والآخرة. الدليل الأول: (707 - 43) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كل حسنة يعملها بن آدم عشر حسنات إلى سبعمائة حسنة، يقول الله عز وجل: إلا الصوم هو لي وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلي والشراب من أجلي وشهوته من أجلي، فهو لي، وأنا أجزي به. والصوم جنة. وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك (¬1). ¬

(¬1) مسند أحمد (2/ 480). وقوله: " حين يخلف ". انفرد بذلك شعبة، وقد رواه جمع عن الأعمش، ولم يقولوا: " حين يخلف ". وإليك بيانهم: الأول: أبو معاوية، وهو أثبت أصحاب الأعمش على الإطلاق. وروايته في مسلم رقم (1151)، وابن ماجه (1638). الثاني: سفيان الثوري، كما في مصنف عبد الرزاق (4/ 306) رقم 7893، ومسند أحمد (2/ 266،477). الثالث: وكيع كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 273) رقم 8894، ومسند أحمد (2/ 443،477)، وصحيح مسلم (1151)، سنن ابن ماجه (1638)، سنن البيهقي (4/ 273،304). الرابع: أبو نعيم الفضل بن دكين، كما في مسند أحمد (2/ 393)، وصحيح البخاري (7492)، وسنن البيهقي (4/ 235،273). الخامس: جرير كما في صحيح مسلم (1151)، وسنن النسائي الصغرى (2215)، والكبرى (2525)، وصحيح ابن حبان (8/ 210) رقم 3422، =

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: قوله: " حين يخلف " وقد ترجم ابن حبان في صحيحه لهذا الحديث بقوله: " ذكر البيان بأن خلوف فم الصائم قد يكون أيضا أطيب من ريح المسك في الدنيا" (¬1). الدليل الثاني: (708 - 44) ما رواه النسوي في كتاب الأربعين، قال: أخبرنا الحسن، ثنا محمد بن عبد الله الأرزي ببغداد، ثقة مأمون، ثنا عبد الوهاب بن عطاء، ثنا الهيثم بن أبي الحواري، عن زيد العمي، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبي قبلي أما واحدة فإذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم ومن نظر الله إليه لم يعذبه ¬

= السادس: ابن نمير، كما في مسند أحمد (2/ 477). كما أن شعبة خالف جميع من رواه عن أبي هريرة، وهم جمع كثير، كلهم لم يذكروا هذه اللفظة، منهم: الأعرج، وسعيد بن المسيب، وهمام بن منبه، ومحمد بن زياد، ومحمد بن سيرين، وأبو سلمة، وأبو صالح السمان، وجابر بن زيد، وقيس بن أبي حازم، وموسى بن يسار. وسلمان الأشجعي: أبو حازم. وداود بن فراهيج. وعجلان مولى المشمعل، ومجاهد. وغيرهم. راجع تخريج هذه الطرق في أدلة القول الأول. فهذا العدد الكثير يجعل الباحث يجزم بشذوذ لفظة: " حين يخلف ". كما اختلف على شعبة، فرواه أبو داود الطيالسي (2413) عن شعبة، عن الأعمش بدون قوله: " حين يخلف ". كما هي رواية الجمهور. والله أعلم. (¬1) صحيح ابن حبان (8/ 211).

أبدا وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك. [الحديث ضعيف] (¬1). الراجح: المحفوظ أن حديث الخلوف مطلق، " ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " وإذا كان مطلقاً فتقييده بالآخرة يحتاج إلى دليل، وما دام أن لفظة: " يوم القيامة " غير محفوظة بموجب القواعد الحديثية، وكذلك لفظة: " حين يخلف " فالذي يترجح عندي أن ذلك عام في الدنيا والآخرة. وقد رجح أن ذلك عام ابن القيم في الوابل الصيب، حيث قال: " وفصل النزاع في المسألة أن يقال: حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك الطيب يكون يوم القيامة؛ فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال من الخير والشر، فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك، وكما تظهر فيه السرائر، وتبدو على الوجه، وتصير علانية، ويظهر فيه قبح رائحة الكفار، وسواد وجوههم. وحيث أخبر بأن ذلك حين يخلف، وحين يمسون؛ فلأنه وقت ظهور أثر العبادة، ويكون حينئذ طيبها على ريح المسك عند الله تعالى وعند ملائكته، وإن كانت تلك الرائحة كريهة للعباد، فرب مكروه عند الناس محبوب عند الله تعالى، وبالعكس، فإن الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم، والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته أمره ورضاه ومحبته، فيكون عنده أطيب من ريح ¬

(¬1) كتاب الأربعين ـ النسوي (ص: 77). وسبق الكلام فيه.

المسك عندنا، فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد، وصار علانية. وهكذا سائر الأعمال من الخير والشر، وإنما يكمل ظهورها علانية في الآخرة، وقد يقوى العمل ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعض أثره على العبد في الدنيا في الخير والشر، كما هو مشاهد بالبصر والبصيرة" اهـ (¬1). ¬

(¬1) الوابل الصيب (ص: 61ـ62).

الفصل الثالث حكم التسوك في المسجد

الفصل الثالث حكم التسوك في المسجد قيل: يكره السواك في المسجد، وهو قول بعض الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2). وقيل: لا يكره، وهو مذهب الجمهور (¬3). دليل الكراهة. (709 - 45) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك، وهو عم إسحق، قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. قال: قال رسول الله ¬

(¬1) بريقة محمودية (1/ 188)، (¬2) جاء في المفهم للقرطبي (1/ 544) تعليقاً على حديث: " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ..... وفي الفواكة الدواني (1/ 265): " ولا يستاك في المسجد، ولا بحضرة الناس "، وانظر التاج والإكليل (1/ 618). وقال في مواهب الجليل (1/) تعليقاً على حديث عائشة وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك " قال: وخص بذلك دخوله بيته؛ لأنه مما لا يفعله ذوو المروءة بحضرة الجماعة، ولا يجب عمله في المسجد، ولا في المجالس الحافلة ". وقال في منح الجليل (8/ 89): " يكره السواك في المسجد ". (¬3) تحفة المحتاج (1/ 219)، كشاف القناع (1/ 74،374)، مطالب أولى النهى (2/ 263)، غذاء الألباب (2/ 323).

دليل من قال: لا يكره

- صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول أو القذر". قال القرطبي في المفهم: " فيه حجة لمالك، في منع إدخال الميت المسجد، وتنزيهها عن الأقذار جملة، فلا يقص فيها شعر، ولا ظفر، ولا يتسوك فيها؛ لأنه من باب إزلة القذر، ولا يتوضأ فيها، ولا يؤكل فيها طعام منتن الرائحة إلى غير ذلك مما في هذا المعنى ". (¬1). فلما كان السواك عندهم من باب إزالة الأذى، والمساجد يجب صيانتها، وقد يخرج قذر من أسنانه مع التسوك، فيقع في المسجد، لذلك منعوا التسوك في المسجد. دليل من قال: لا يكره. (710 - 46) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل ¬

(¬1) المفهم (1/ 544).

صلاة (¬1). فهذا دليل على استحباب السواك عند كل صلاة، وكل ما كان السواك مقارناً لفعل الصلاة كانت العندية أكثر تحققاً، وأحاديث السواك عند كل صلاة في الصحيحين، فلا سبيل إلى الطعن فيها. وثانياً: لا نسلم أن السواك من باب إزالة المستقذرات، ولو سلم لم يلزم منه تلويث المسجد حتى يمنع منه، ثم إننا نقول: بمشروعية السواك للصلاة، ولو كان الفم نظيفاً تحقيقاً للسنة، كما نقول: بغسل اليدين ثلاثاً عند الوضوء، ولو تحققنا من نظافة اليد. قال ابن تيمية: السواك في المسجد ما علمت أحداً من العلماء كرهه، بل الآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون في المسجد، ويجوز أن يبصق الرجل في ثيابه في المسجد، ويمتخط في ثيابه باتفاق الأئمة، وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه، بل يجوز التوضؤ في المسجد بلا كراهة عند جمهور العلماء، فإذ جاز الوضوء فيه مع أن الوضوء يكون فيه السواك، وتجوز الصلاة فيه، والصلاة يستاك عندها، فكيف يكره السواك؟ وإذا جاز البصاق والامتخاط فيه، فكيف يكره السواك؟ (¬2). وقال العراقي في طرح التثريب: " ولو سلم أن السواك من باب إزالة القاذورات، فهو لا يلقيه في المسجد، وإنما يزيله في السواك، فإذا كان السواك محفوظاً معه فلا بأس، وقد ندب إلى السواك لكل صلاة، فيؤمر حاضر المسجد أن يخرج حتى يستاك خارج المسجد؟ ‍هذا مما لا يعقل معناه. والله أعلم. اهـ (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (887). (¬2) الفتاوى الكبرى (1/ 272،302). (¬3) طرح التثريب (2/ 141).

الفصل الرابع حكم السواك بحضرة الناس

الفصل الرابع حكم السواك بحضرة الناس قيل: يكره السواك بحضرة الناس، اختاره بعض المالكية (¬1). وقيل: لا يكره، وهو الصواب (¬2). تعليل من قال بالكراهة. قال القرطبي: يتجنب استعمال السواك في المساجد والمحافل، وحضرة الناس، ولم يرو أنه تسوك في المسجد ولا في محفل من الناس لأنه من باب إزالة القذر والوسخ، ولا يليق بالمساجد، ولا محاضر الناس، ولا يليق بذوي المروءات فعل ذلك في الملأ من الناس ". (¬3). دليل من قال: لا يكره. (711 - 47) استدل بما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يستن بسواك بيده، يقول: أع أع والسواك في فيه كأنه يتهوع (¬4). ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أنه يؤخذ من الحديث أن ¬

(¬1) الفواكه الدواني (1/ 265)، حاشية العدوي (1/ 183). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 169)، (¬3) المفهم (1/ 509). (¬4) صحيح البخاري (244).

السواك من باب التنظيف والتطيب، لا من باب إزالة القاذورات، لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يختف به، وبوبوا عليه " استياك الإمام بحضرة رعيته" (¬1). ¬

(¬1) فتح الباري، شرح حديث (244). وقد ذكر ذلك ابن دقيق العيد، حيث رد القول بأنه لا يتسوك بحضرة الناس مستدلاً بحديث أبي موسى الذي ذكرناه، ثم قال: إن بعضهم ترجم على هذا الحديث: استياك الإمام بحضرة رعيته. انظر مواهب الجليل (1/ 266).

الفصل الخامس التسوك في الخلاء

الفصل الخامس التسوك في الخلاء كره بعض فقهاء الحنفية السواك في الخلاء (¬1). والصحيح عدم الكراهة. تعليل الكراهة. لعلهم رأوا أن السواك من باب التطيب، ولم يعتبروه من باب إزالة القاذورات، وأنه عبادة، فيه مرضاة للرب. والصحيح عدم الكراهة، والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، ولا دليل في المسألة. والسواك فيه جانب تطهير للفم، فلا يصح التعليل أنه من باب التطيب فقط. ¬

(¬1) درر الحكام (1/ 10)، بريقة محمودية (4/ 188)

الفصل السادس لو تسوك بمضر هل يحصل له أجر السواك

الفصل السادس لو تسوك بمضر هل يحصل له أجر السواك قيل: يحرم التسوك بضار، ويجزئ (¬1). وقيل: لا يجزئ. تعليل من قال: يجزئ. قال: لأن المقصود قد حصل به، وهو إزالة القلح، وتطهير الفم. تعليل من قال لا يجزئ. قالوا: إن هذا العمل محرم، ولا يمكن أن يقع قربة، لأنه مضاد لأمر الله ورسوله، من تحريم تعاطي المضر. ولو قلنا: يحصل به إصابة السنة، لكنا رتبنا على فعل محرم أثراً شرعياً، وهذا غير جائز. (712 - 48) وقد روى مسلم رحمه الله قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعا، عن أبي عامر، قال عبد بن حميد: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، عن القاسم بن محمد، قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. الرد: هو المردود، وإذا كان مردوداً فكيف تحصل به السنة، ويصيب الأجر؟ والله أعلم. ¬

(¬1) نهاية المحتاج (1/ 179)، حاشية الجمل (1/ 117).

الفصل السابع هل تشرع التسمية للسواك

الفصل السابع هل تشرع التسمية للسواك استحب بعض المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، التسمية للسواك. دليلهم: (713 - 49) حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع (¬3). [إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب] (¬4). ¬

(¬1) الخرشي (1/ 140). (¬2) أسنى المطالب (1/ 36). (¬3) المسند (2/ 359). (¬4) أما ضعف إسناده ففيه قرة بن عبد الرحمن، وفي التقريب يقال: اسمه يحيى. قال أحمد: منكر الحديث جداً. الكامل (6/ 53)، لسان الميزان (7/ 492). وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، كما في رواية ابن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (7/ 131)، تهذيب التهذيب (8/ 333). وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال أبو زرعة: الأحاديث التي يرويها مناكير. الجرح والتعديل (7/ 131). وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/ 333). وذكره ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار (526). وذكره في الثقات. ثقات ابن حبان (7/ 382) ورد قول ابن السمط أن قرة بن عبد الرحمن أعلم الناس بالزهري، وقال: كيف يكون أعلم الناس بالزهري، وكل شيء روى عنه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لا يكون ستين حديثاً. قلت ما نسبه ابن حبان من قول ابن السمط إنما هو من قول الأوزاعي. انظر الجرح والتعديل (7/ 131)، وتهذيب التهذيب (8/ 333). وقال الآجري عن أبي داود: في حديثه نكارة. تهذيب التهذيب (8/ 333). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 485) وفي التقريب: صدوق له مناكير. وقد اضطرب إسناده ومتنه. أما اضطراب الإسناد فقيل فيه كما في إسناد الباب: الأوزاعي عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقيل: الأوزاعي، عن الزهري به، سقط منه قرة. وقيل: الأوزاعي، عن يحيى (قرة بن عبد الرحمن) عن أبي سلمة به، سقط منه الزهري. وقيل: عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وأما اضطراب المتن، فقيل: " كل أمر لا يفتح بذكر الله .. " وقيل: " لا يبدأ فيه بحمد الله .. ". وقيل: " لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وقيل: " لا يبدأ بحمد الله والصلاة عليَّ ـ أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - " فزاد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ? وإليك تفصيل ما أجمل من الإسناد والمتن: أما رواية: [لا يبدأ فيه بذكر الله]: فرواها ابن المبارك كما عند أحمد (2/ 359)، وموسى بن أعين كما في سنن الدارقطني (1/ 129) كلاهما عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأما رواية: [لا يبدأ فيه بحمد الله]: فرواها جماعة الأول: الوليد بن مسلم، كما في سنن أبي داود (4840)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (494)، والدارقطني (1/ 229). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثاني: عبيد الله بن موسى، كما في سنن ابن ماجه (1849). الثالث: عبد الحميد بن أبي العشرين، كما في صحيح أبن حبان رقم (1). الرابع: شعيب بن إسحاق، كما في صحيح ابن حبان رقم (2). الخامس: أبو المغيرة: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني كما في سنن البيهقي (3/ 208،209) خمستهم رووه عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة به، فتبين أن أكثر الرواة يروونه بلفظ " الحمد " وليس فيها شاهد على مسألتنا، ولذا قال الحافظ في الفتح (8/ 220) في تفسير قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} في الكلام على حديث هرقل، قال: " وصححه ابن حبان وفي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته، فالمشهور فيه بلفظ: حمد الله ". وأما الرواية بلفظ: [لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]. فقد رواه الخطيب في الجامع (1210) من طريق مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، عن الزهري به. وهذا الطريق كما أن فيه مخالفة في المتن، فيه مخالفة في الإسناد، حيث أسقط من سنده قرة بن عبد الرحمن. وأما رواية: [لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة عليَّ]: فقد أخرجها الخليلي في الإرشاد (1/ 449) من طريق إسماعيل بن أبي زياد الشامي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة به. قال المناوي في فيض القدير (5/ 14): " وقال الرهاوي غريب تفرد بذكر الصلاة. فيه إسماعيل بن أبي زياد، وهو ضعيف جداً، لا يعتبر بروايته ولا بزيادته ". قال الدارقطني: يضع الحديث، كذاب متروك. الضعفاء والمتروكين له (85). الكشف الحثيث (142)، اللسان (1/ 1/406). وقال الخليلي: ليس بالمشهور، كان يكون في دار المهدي. يقال: إنه كان يعلم ولد المهدي، وهو من جملة الحواشي، ويشحن هذا التفسير بأحاديث مسندة يرويها عن شيوخه عن ثور بن يزيد، وعن يونس الأيلي أحاديث لا يتابع عليها. الإرشاد (1/ 391). [وأما رواية الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً]. فأخرجها النسائي (496) في عمل اليوم والليلة عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن =

والراجح أن التسمية لا تشرع أولاً: الأصل في العبادات الحظر حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث السواك لم ينقل فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تسوك. واستحباب التسمية في كل شيء ليس على اطلاقه، فهناك أمور تكون التسمية فيها من البدع، كالتسمية للأذان، والتسمية للصلاة، والتسمية لرمي الجمرات، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسمي لهذه العبادات. ¬

_ = عقيل، عن الزهري مرسلاً، وأخرجه (495) عن محمود بن خالد، حدثنا الوليد، حدثنا سعيد ابن عبد العزيز، عن الزهري به.

الباب الرابع في ذكر المواضع التي يتأكد فيها السواك

الباب الرابع في ذكر المواضع التي يتأكد فيها السواك ويشتمل على عشرة فصول ومبحثين: الفصل الأول: السواك عند الصلاة. الفصل الثاني: السواك عند الوضوء. الفصل الثالث: في مشروعية السواك للغسل والتيمم. الفصل الرابع: يستحب السواك عند الانتباه من النوم. الفصل الخامس: يستحب السواك عند تغير الفم. الفصل السادس: استحباب السواك عند دخول البيت. الفصل السابع: حكم السواك عند دخول المسجد. الفصل الثامن: التسوك عند قراءة القرآن. المبحث الأول: حكم السواك لسجود التلاوة والشكر. المبحث الثاني: الاستياك للقراءة بعد السجود. الفصل التاسع: من المواضع التي يتأكد فيها السواك يوم الجمعة. الفصل العاشر: هل يستحب السواك عند الاحتضار.

الفصل الأول السواك عند الصلاة

الباب الرابع في ذكر المواضع التي يتأكد فيها السواك لا شك أن السواك مسنون كل وقت؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " مطلق. قال الشوكاني: " أطلق فيه السواك، ولم يخصه بوقت معين، ولا بحالة مخصوصة، فأشعر بمطلق شرعيته، وهو من السنن المؤكدة " اهـ (¬1). لكن هناك مواضع يكون استحباب السواك فيها آكد. وسوف نعرض لها مسألة مسألة، ونبين ما فيها من خلاف ووفاق. والله المستعان. الفصل الأول السواك عند الصلاة قيل: السواك واجب للصلاة. على خلاف هل تصح الصلاة إذا تركه أم لا؟ وهو مذهب داود (¬2)، وإسحاق بن راهوية (¬3). وقيل: السواك سنة عند الصلاة مطلقاً فرضاً كانت أو نفلاً، وسواء صلى بطهارة ماء أو تيمم، وسواء كان الفم متغيراً أو نظيفاً. وهو اختيار ¬

(¬1) نيل الأوطار (1/ 133،134). (¬2) المنتقى شرح الموطأ (1/ 130)، مواهب الجليل (1/ 264)، المغني - ابن قدامة (1/ 69) والمجموع (1/ 327). (¬3) المجموع (1/ 327)، المغني ـ ابن قدامة (1/ 69).

بعض الحنفية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختيار ابن حزم (¬4). وقيل: إن السواك من سنن الوضوء، لا من سنن الصلاة، اختاره أكثر الحنفية (¬5). ¬

(¬1) قال في حاشية ابن عابدين (1/ 114): " كيف لا يستحب للصلاة التي هي مناجاة الرب تعالى، مع أنه يستحب للاجتماع بالناس ". وقال في البحر الرائق (1/ 21): " يبعد عدم استحبابه في الصلاة التي هي مناجاة للرب تعالى، سيما عند بعد العهد من الوضوء مع ما فيها من قراءة القرآن التي يستحب استعماله عندها، وحضور الملائكة عندها مع أنهم استحبوه عند مجامع الناس، فبالأولى مع حضور الملائكة ". اهـ (¬2) المجموع (1/ 328)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 58)، وقال في تحفة المحتاج (1/ 216): " ويتأكد للصلاة فرضها ونفلها، وإن سَلَّمَ من كل ركعتين، وقرب الفصل". وانظر مغني المحتاج (1/ 184)، (¬3) المغني (1/ 116)، الإنصاف (1/ 118)، أسنى المطالب (1/ 36)، كشاف القناع (1/ 72)، (¬4) قال في المحلى (1/ 423): " والسواك مستحب، ولو أمكن لكل صلاة لكان أفضل ". (¬5) قال في مراقي الفلاح ص: 28): " وهو من سنن الوضوء عندنا، لا من سنن الصلاة، فتحصل فضيلته لكل صلاة أداها بوضوء استاك فيه ". اهـ وقال في الجوهرة النيرة (1/ 6): " السواك عندنا من سنن الوضوء، وعند الشافعية من سنن الصلاة ". اهـ والفرق بينه، وبين من استحب السواك للصلاة قال في البحر الرائق (1/ 21): تظهر فيمن صلى بوضوء واحد صلوات، فيكفيه السواك للوضوء عندنا، وعند الشافعي: يستاك لكل صلاة ". اهـ وقد قال الرملي من الشافعية في فتاويه في سؤال عمن تسوك عند وضوئه، ولم يتسوك =

دليل من قال: السواك واجب عند الصلاة

وقيل: إن صلى في المسجد فلا يستاك، وإن صلى بغير المسجد فيستاك. وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: يتأكد السواك عند صلاتي الصبح والظهر حكاه الأوزاعي عن بعض أهل العلم (¬2). دليل من قال: السواك واجب عند الصلاة. ذكرت دليله في حكم السواك، والجواب عنه فليراجع. ¬

= عند الصلاة، فأجاب بأنه لا يحصل له الثواب المترتب على الصلاة بالسواك، وإن أثيب على إتيانه عند الوضوء ". اهـ فتاوى الرملي (1/ 39). (¬1) سبق أن بينا في مسألة مستقلة أن القرطبي في المفهم ذكر أن مالكاً لا يرى السواك في المسجد، ولا يعني هذا أنه لا يرى السواك للصلاة، لأنه يمكن أن يتسوك عند قيامه إلى الصلاة. وقد قال صاحب مواهب الجليل (1/ 264): " السواك مستحب في جميع الأوقات، ولكنه في خمسة أوقات أشد استحباباً. أحدها عند الصلاة، سواء كان متطهراً بماء أو بتراب، أو غير متطهر، كمن لم يجد ماء ولا تراباً ". وقال ابن عبد البر في التمهيد (3/ 172): " فضل السواك مجمع عليه، لا اختلاف فيه، والصلاة عند الجميع بعد السواك أفضل منها قبله ". اهـ ولولا ما جاء في المفهم ـ للقرطبي (1/ 544)، والتاج والإكليل (1/ 618)، ومنح الجليل (8/ 89)، ومواهب الجليل (1/ 266) من كراهية السواك في المسجد. لولا هذه النقول لقلت: إن مذهب مالك لا يختلف عن مذهب الجمهور. وفي الفواكه الدواني (1/ 136): " وكما يطلب السواك عند الوضوء، يطلب عند الصلاة ". اهـ (¬2) طرح التثريب (2/ 65)، وجاء في التمهيد (3/ 172): " قال الأوزاعي رحمه الله: أدركت أهل العلم يحافظون على السواك مع وضوء الصبح والظهر، وكانوا يستحبونه مع كل وضوء، وكانوا أشد محافظة عليه عند هاتين الصلاتين ".

دليل الجمهوز على استحاب السواك عند الصلاة

دليل الجمهوز على استحاب السواك عند الصلاة. (714 - 50) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (¬1). دليل من قال يستحب للصلاة عند الوضوء لا عند الصلاة. قالوا: إذا استاك للصلاة ربما يخرج منه دم، وهو نجس بالإجماع (¬2)، كما أن خروج الدم ناقض للوضوء (¬3). ورده ابن عابدين، فقال: " هذا التعليل عليل، فقد رد بأن ذاك أمر متوهم، مع أنه لمن يثابر عليه لا يدمي" (¬4). وقال في تحفة الأحوذي: " نعم، من يخاف ذلك ـ يعني خروج الدم ـ فليستعمل بالرفق على نفس الأسنان واللسان دون اللثة، وذلك لا يخفى" (¬5). قلت: الراجح أن خروج الدم لا ينقض الوضوء، كما سأبينه إن شاء الله تعالى، في باب نواقض الوضوء. وحتى على القول بأنه ناقض فإن الدم ¬

(¬1) صحيح البخاري (887)، ورواه مسلم (252). (¬2) البحر الرائق (1/ 21)، وحكاية الإجماع غير صحيحة، كما سيأتي بيانه في باب نواقض الوضوء إن شاء الله تعالى. (¬3) تحفة الأحوذي (1/ 102). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 113). (¬5) تحفة الأحوذي (1/ 102).

دليل من كره السواك في المسجد

الخارج يسير عرفاً، وهم حدوه بالفاحش. دليل من كره السواك في المسجد. ذكرت أدلتهم في مسألة سابقة مستقلة، وأجبت عن أدلتهم، فارجع إليه غير مأمور.

الفصل الثاني السواك عند الوضوء

الفصل الثاني السواك عند الوضوء قيل: السواك مستحب في الوضوء. وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (¬1) والمشهور من مذهب المالكية (¬2)، وقيل: سنة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، ومذهب الشافعية (¬4)، ¬

(¬1) وفي مذهب الحنفية قولان. قال ابن عابدين: قيل: إنه مستحب؛ لأنه ليس من خصائص الوضوء، وصححه الزيلعي وغيره. وقال في فتح القدير: إنه الحق. قال ابن عابدين: لكن في شرح المنية الصغير: وقد عده القدوري والأكثرون من السنن. وهو الأصح. قال ابن عابدين: وعليه المتون. حاشية ابن عابدين (1/ 113)، وانظر البحر الرائق (1/ 1/21)، وتبيين الحقائق (1/ 4)، العناية شرح الهداية (1/ 25)، الجوهرة النيرة (1/ 6)، شرح فتح القدير (1/ 24،25)، وانظر بدائع الصنائع (1/ 19). (¬2) وفي مذهب المالكية أيضاً قولان: المشهور أنه مستحب. واختار ابن عرفة أنه سنة. انظر: التاج والإكليل (1/ 380)، وعده فضيلة (أي من المستحبات)، وكذلك اعتبره الخرشي (1/ 138) من الفضائل. وقال في مواهب الجليل (1/ 264): " أما حكمه فالمعروف في المذهب أنه مستحب. قال ابن عرفة: والأظهر أنه سنة لدلالة الأحاديث على مثابرته - صلى الله عليه وسلم - عليه " وانظر المنتقى شرح الموطأ (1/ 130). (¬3) البحر الرائق (1/ 1/21)، وتبيين الحقائق (1/ 4)، العناية شرح الهداية (1/ 25)، الجوهرة النيرة (1/ 6)، شرح فتح القدير (1/ 24،25). (¬4) قال النووي في المجموع (1/ 328): " الثالث ـ يعني من الأحوال التي يتأكد فيها استحباب السواك ـ عند الوضوء، اتفق عليه أصحابنا، ممن صرح به صاحبا الحاوي، والشامل، وإمام الحرمين، والغزالي، والروياني، ولا يخالف هذا اختلاف الأصحاب في أن السواك هل هو من سنن الوضوء أم لا؟ فإن ذلك الخلاف إنما هو في أنه يعد من سنن الوضوء أم سنة مستقلة عند الوضوء لا منه. وكذا اختلفوا في التسمية وغسل الكفين، ولا خلاف أنهما سنة، وإنما الخلاف في كونها من سنن الوضوء ". اهـ. وانظر أسنى المطالب (1/ 36)، حاشيتا قليوبي =

دليل من قال: السواك مستحب وليس بسنة

والحنابلة (¬1)، واختاره ابن عرفة (¬2)، وابن العربي من المالكية (¬3). دليل من قال: السواك مستحب وليس بسنة. فرق بعض الفقهاء بين المستحب والسنة فقالوا: السنة: ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمستحب: مافعله مرة أو مرتين. وألحق بعضهم به ما أمر به، ولم ينقل أنه فعله (¬4). وهذا التفريق بين السنة والمستحب لا دليل عليه،، والصحيح أن لفظ السنة والمندوب والمستحب ألفاظ مترادفة، في مقابل الواجب، ولو سلم هذا التفريق فإن السواك سنة أيضاً، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، حتى استاك - صلى الله عليه وسلم -، وهو في سكرات الموت. قال ابن العربي: " لا زم النبي - صلى الله عليه وسلم - السواك فعلاً، وندب إليه أمراً، حتى قال في الحديث الصحيح: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند ¬

= وعميرة (1/ 58)، وفتاوى الرملي (1/ 51)، تحفة المحتاج (1/ 213). نهاية المحتاج (1/ 177). (¬1) الإنصاف (1/ 118)، كشاف القناع (1/ 94).مطالب أولى النهى (1/ 92). (¬2) التاج والإكليل (1/ 380)، الشرح الصغير (1/ 125). (¬3) قال ابن العربي في أحكام القرآن (2/ 79) وقال: " السواك من سنن الوضوء، لا من فضائله ". (¬4) قال في البحر الرائق (1/ 29): " ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع تركٍ ما، بلا عذر سنة. وما لم يواظب عليه مندوب، ومستحب، وإن لم يفعله بعد ما رغب فيه". ثم قال: والاستحباب لا يلزم المواظبة؛ لأن جميع المستحبات محبوبة له، ومعلوم أنه لم يواظب على كلها، وإلا لم تكن مستحبة، بل مسنونة ". اهـ وانظر البحر المحيط (1/ 378)، شرح البهجة (1/ 388)، نهاية المحتاج (1/ 105).

دليل من قال: السواك سنة عند الوضوء

كل وضوء)) وما غفل عنه قط، بل كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، فهو مندوب إليه، ومن سنن الوضوء، لا من فضائله". اهـ كلام ابن العربي (¬1). وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على السواك منها: (715 - 51) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. ورواه مسلم أيضاً. وسبق تخريجه. فقوله: " إذا قام من الليل " دليل على تكرار ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - كلما قام من الليل. (716 - 52) ومنها حديث عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته بدأ بالسواك، وهو حديث صحيح (¬2). ولفظ: " كان " يدل على فعله دائماً أو غالباً. فكيف يقال بعد هذه الأحاديث الصحيحة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب عليه. دليل من قال: السواك سنة عند الوضوء. (717 - 53) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لولا أن أشق على أمتي ¬

(¬1) أحكام القرآن (2/ 79). (¬2) انظر تخريجه في ح 731.

لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (¬1). واختلف القائلون بأنه سنة: هل هو من سنن الوضوء، أو هو سنة مستقلة عند الوضوء فقيل: إنه سنة مستقلة، يسن عند الوضوء تعليلهم: أن السواك أولاً، ليس مختصاً بالوضوء. وثانياً: أنه ليس من جنس أفعال الوضوء، لأن الوضوء هو استعمال الماء بنية مخصوصة، والسواك ليس فيه استعمال ماء (¬2). وقيل: بل هو من سنن الوضوء.، قال إمام الحرمين: ليس شرط كون الشيء من الشيء أن يكون من خصائصه، فإن السجود ركن في الصلاة، ومشروع في غيرها لتلاوة، وشكر (¬3). وأرى أن الخلاف لفظي. ¬

(¬1) سبق تخريجه في مسألة: حكم السواك. (¬2) حاشية الجمل (1/ 123). (¬3) المجموع شرح المهذب (1/ 386).

مبحث في محل السواك من الوضوء فقيل: عند المضمضة. وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: قبل الوضوء. وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4). ¬

(¬1) قال في البحر الرائق (1/ 21): " واختلف في وقته: في النهاية وفتح القدير أنه عند المضمضة، وفي البدائع والمجتبى قبل الوضوء، والأكثر على الأول، وهو الأولى " وقال في العناية شرح الهداية (1/ 24): " ويستاك عرضاً لا طولاً عند المضمضة ". وقال في الجوهرة النيرة (1/ 5): " السواك: هو سنة مؤكدة، ووقته عند المضمضة". اهـ وانظر شرح فتح القدير (1/ 24)، بريقة محمودية (1/ 161). وفي مذهب المالكية قال في الفواكه الدواني: " ويسن الاستياك عند المضمضة (1/ 136). وقال في مواهب الجليل (1/ 265): " ويفعل ذلك مع المضمضة ". وقال في شرح مختصر خليل (1/ 138،139): " ويكون ـ يعني السواك ـ قبل الوضوء، ويتمضمض بعده ". اهـ وانظر الشرح الصغير (1/ 124). وفي مذهب الشافعية قال في حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 59) " ويستاك قبل المضمضة". وقال في تحفة المحتاج (1/ 214): " ومحله ـ يعني السواك ـ بين غسل الكفين والمضمضة ". اهـ وانظر نهاية المحتاج (1/ 178). وفي مذهب الحنابلة قال في كشاف القناع " ويسن تسوكه عند المضمضة (1/ 93). وانظر شرح منتهى الإرادات (1/ 46). (¬2) البحر الرائق (1/ 21)، حاشية ابن عابدين (1/ 113). (¬3) قال في حاشية العدوي (1/ 183): " في المسألة قولان، فقيل: يستاك عند المضمضة، لا قبل ولا بعد، وهل مع كل مرة أو مع البعض؟ وقيل: إنه يستاك قبل الوضوء، ويتمضمض بعده ليُخْرج الماء ما حصل بالسواك ". اهـ (¬4) قال الرملي في فتاويه (1/ 51): يبدأ بالسواك قبل التسمية وغيرها كما صرح به =

دليل من قال السواك قبل الوضوء

دليل من قال السواك قبل الوضوء. (718 - 54) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " عند كل وضوء " فالعندية لا تقتضي المصاحبة، كما في السواك عند كل صلاة، فمعلوم قطعاً أنه لم يرد المصاحبة، بل قبل الصلاة، فالوضوء كذلك، والله أعلم. دليل من قال السواك عند المضمضة. (719 - 55) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (¬2). ¬

= جماعة منهم القفال في محاسن الشريعة والماوردي في الإقناع، والغزالي في الوسيط، وصاحب البيان، ومال إليه الأذرعي ". اهـ وقال في تحفة المحتاج (1/ 214): " ومحله بين غسل الكفين على ما قاله ابن الصلاح وابن النقيب في عمدته، وكلام الإمام وغيره يميل إليه، وينبغي اعتماده. وقال الغزالي كالماوردي والقفال: محله قبل التسمية مغني، وجرى على ما قاله الغزالي والشهاب الرملي، والنهاية والزيادي ". (¬1) المصنف (1/ 155) رقم 1787. (¬2) سبق تخريجه في مسألة: حكم السواك.

فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مع كل وضوء " المعية هنا تقتضي المصاحبة، لأن من تسوك بعد غسل الكفين، وقبل المضمضة يصدق عليه أنه تسوك مع الوضوء، وليس قبله. والذي يظهر والله أعلم أن الحديثين حديث واحد، إحدى الروايتين تفسر الأخرى، فالعندية لا تعارض المعية هنا والله أعلم. والتسوك والمضمضة كلاهما متعلق بالفم دون سائر أعضاء الوضوء. والأفضل والله أعلم أن يكون تسوكه قبل المضمضة سواء كان بعد غسل الكفين أو قبل الشروع في الوضوء؛ وذلك لأن السواك إذا نظف الأسنان، ثم جاءت بعده المضمضة، ومج الماء يكون قد سقط كل أذى اقتلعه السواك من الأسنان أو اللثة. والله أعلم. وهناك تفسير آخر فيه بعد، ذكره بعض الفقهاء. قال الزرقاني: " قوله: " مع كل وضوء " أي مصاحباً له. كقوله في رواية: " عند كل وضوء ". ويحتمل أن معناه لأمرتهم به كما أمرتهم بالوضوء ". اهـ (¬1). ¬

(¬1) شرح الزرقاني لموطأ مالك (1/ 195).

الفصل الثالث هل يشرع السواك للغسل والتيمم

الفصل الثالث هل يشرع السواك للغسل والتيمم استحب بعض الفقهاء السواك للغسل والتيمم (¬1)، وقال بعضهم: حتى ولو استاك للوضوء قبل الغسل، فيشرع للغسل (¬2). وحجتهم والله أعلم أنها إذا كان السواك مشروعاً في الطهارة الصغرى، فالكبرى من باب أولى، وإذا كان السواك مشروعاً في الوضوء، كان مشروعاً في بدله، وهو التيمم. والذي أراه والله أعلم أنه إن توضأ قبل الغسل، شرع له السواك من أجل الوضوء، وإن لم يتوضأ لم يشرع، لعدم الدليل على مشروعيته للغسل لا من قوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من فعله، وما كان ربك نسياً. وكذلك لا يشرع السواك للتيمم لأنه لم ينقل، والعبادات مبناها على الحظر، حتى يرد دليل على المشروعية، وقد نقلت لنا صفة التيمم في السنة، ولم يرد فيها السواك، والقياس على طهاة الماء ضعيف. والله أعلم. ¬

(¬1) تحفة المحتاج (1/ 214)، مغني المحتاج (1/ 262)، نهاية المحتاج (1/ 302). (¬2) تحفة المحتاج (1/ 275).

الفصل الرابع يستحب السواك عند الانتباه من النوم

الفصل الرابع يستحب السواك عند الانتباه من النوم يستحب السواك عند الانتباه من النوم وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). الدليل على استحبابه. الدليل الأول: (720 - 56) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. ورواه مسلم أيضاً (¬5). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 25)، حاشية ابن عابدين (1/ 113)، البحر الرائق (1/ 21). (¬2) مواهب الجليل (1/ 264)، الفواكه الدواني (1/ 136)، حاشية الدسوقي (1/ 103)، الشرح الصغير (1/ 126). (¬3) الأم (1/ 94)، المجموع (1/ 329)، طرح التثريب (1/ 66)، أسنى المطالب (1/ 36)، تحفة المحتاج (1/ 219)، حاشية الجمل (1/ 121). (¬4) الإنصاف (1/ 118)، مطالب أولى النهى (1/ 82)، الفروع (1/ 126)، شرح منتهى الإرادات (1/ 42)، كشاف القناع (1/ 72،73). (¬5) مدار هذا الحديث على أبي وائل: شقيق بن سلمة، عن حذيفة مرفوعاً. رواه حصين، عن أبي وائل بزيادة: " إذا قام ليتهجد، ورواه منصور، والأعمش، عن أبي وائل بدون هذه الزيادة: إذا قام من الليل، واستغرب ابن مندة زيادة: ليتهجد، وذكر مسلم أن كلاً من منصور والأعمش لم يقولا: ليتهجد. وإليك تخريج رواياتهم: الطريق الأول: عن منصور وحصين، مجموعين كلاهما، عن أبي وائل به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أخرجه أحمد (5/ 402)، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن منصور وحصين به. بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل للتهجد يشوص فاه بالسواك. وهذا لفظ حصين، وذلك أن رواية منصور إذا جاءت وحدها، لم يذكر فيها لفظ: "التهجد " وكذلك إذا قرن منصور برواية الأعمش، عن أبي وائل، وإذا ذكرت رواية حصين منفردة جاء لفظ التهجد، ولم تتخلف رواية حصين عن ذكر هذه اللفظة في كل الروايات التي رويت عنه وحده. وقد صرح مسلم في صحيحه أن رواية منصور والأعمش عن حصين ليس فيها لفظ التهجد. وأخرجه ابن ماجه (286) عن علي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان، عن منصور وحصين به. وأخرجه ابن خزيمة (136) من طريق يوسف، عن موسى، أخبرنا وكيع به. وأخرجه ابن حبان (1072) من طريق إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور وحصين به. ولم يقل: " للتهجد ". وهذا واضح أنه قدم لفظ منصور. وتابع وكيعاً: عبد الرحمن بن مهدي، فأخرجه أحمد (5/ 402) حدثنا عبد الرحمن ـ يعني ابن مهدي ـ عن سفيان، عن منصور وحصين به، ولم يقل: " للتهجد ". وأخرجه مسلم (47ـ255) حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا عبد الرحمن به. وأخرجه النسائي في الصغرى (1321) وفي السنن الكبرى للنسائي (1321) وفي سنن البيهقي في السنن (1/ 38) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان به. وأخرجه ابن خزيمة (136) حدثنا أبو موسى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي به. كما رواه محمد بن كثير، عن سفيان به. أخرجه البخاري (889) حدثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن منصور وحصين به. ولم يذكر لفظة: " للتهجد ". وأخرجه أبو داود (55) حدثنا محمد بن كثير به. وأخرجه ابن حبان (1075) من طريق محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن منصور وحصين به. وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 38) من طريق أبي المثنى، حدثنا محمد بن كثير به. ولم يذكر في هذه الطرق لفظة: " التهجد ". وأخرجه الطبراني في الأوسط (5858) من طريق فضيل بن عياض، عن منصور =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وحصين به. وأما طريق منصور وحده، عن أبي وائل فأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 155) حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن منصور به وأخرجه أحمد (5/ 407) ثنا عبيدة بن حميد، ثنا منصور به. وأخرجه أحمد أيضاً (5/ 382) ثنا سفيان بن عيينة، عن منصور وحده. وأخرجه الحميدي (441) ثنا سفيان، ثنا منصور به. وأخرجه البخاري (245) حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور به. وأخرجه مسلم (255) حدثنا إسحاق بن إبراهيم وقتيبة بن سعيد، عن جرير به. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (2) وفي الصغرى (2) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم وقتيبة بن سعيد، عن جرير، عن منصور، عن أبي وائل به. وأخرجه ابن حبان (2591) من طريق قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان، عن منصور به. وأما طريق حصين بن عبد الرحمن السلمي وحده، عن أبي وائل. فأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 155)، ومن طريقه مسلم (46ـ255) والبيهقي في السنن (1/ 38) حدثنا هشيم، عن حصين به بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام ليتهجد". وفيه: ذكر التهجد. وأخرجه الطيالسي (409) عن شعبة به. ومن طريق الطيالسي أخرجه أبو عوانة (1/ 193). وأخرجه أحمد (5/ 390) ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حصين به، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى التهجد .. وذكر الحديث. وأخرجه أبو عوانة (1/ 193) من طريق محمد بن فضيل، عن حصين به. وأخرجه النسائي في الصغرى (1622) حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا شعبة به. وأخرجه الدارمي (685) أخبرنا سعيد بن الربيع، ثنا شعبة به. وأخرجه النسائي (1622) حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا شعبة به. وأخرجه أحمد (5/ 390) ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن حصين به. بذكر "التهجد " =

الدليل الثاني

قال ابن دقيق العيد: " فيه دليل على استحباب السواك في هذه الحالة الأخرى، وهي القيام من النوم، وعلته: أن النوم مقتض لتغير الفم، والسواك هو آلة التنظيف للفم، فيسن عند مقتضى التغير. وقوله: "يشوص " اختلفوا في تفسيره، فقيل: يدلك. وقيل: يغسل. وقيل: ينقي. والأول أقرب. وقوله: " إذا قام من الليل " ظاهره يقتضي تعليق الحكم بمجرد القيام. ويحتمل أن يراد: إذا قام من الليل للصلاة " اهـ (¬1). الدليل الثاني: (721 - 57) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسماعيل بن مسلم، حدثنا أبو المتوكل، أن ابن عباس حدثه، ¬

= وأخرجه البخاري (1136) حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا خالد بن عبد الله، عن حصين بذكر التهجد. فطريق حصين وحده يذكر فيه: " إذا قام ليتهجد .. " رواه أربعة حفاظ عنه: وتابع الأعمش منصوراً وحصيناً في أبي وائل، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 155) حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش به. وأخرجه أحمد (5/ 397) حدثنا أبو معاوية وابن نمير، عن الأعمش به: بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه ولم يقل: بالسواك. قال ابن نمير، فقلت للأعمش: بالسواك. قال: نعم. وأخرجه مسلم (255) وابن ماجه (286) من طريق ابن نمير وأبي معاوية به. وأشار مسلم إلى أنه لم يقل: "ليتهجد ". وأخرجه مسلم (255) من طريق سفيان، عن الأعمش به. مقروناً برواية منصور وحصين. وأخرجه ابن الجعد (ص: 380) من طريق زهير، عن الأعمش به. وأخرجه الطبراني في الأوسط (2927) من طريق أبي حفص الأبار، عن الأعمش به. (¬1) إحكام الأحكام (1/ 109).

أنه بات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل، فخرج فنظر في السماء، ثم تلا هذه الآية في آل عمران {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار} حتى بلغ {فقنا عذاب النار} ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ، ثم قام فصلى، ثم اضطجع، ثم قام فخرج فنظر إلى السماء فتلا هذه الآية، ثم رجع فتسوك فتوضأ، ثم قام فصلى (¬1). ¬

(¬1) صحيح مسلم (48 - 256). وفي رواية للبخاري قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة، ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فقال: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} ثم قام فتوضأ واستن فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح. وقد ذكر مسلم هذه الرواية واختصرها (763)، قال رحمه الله: حدثني أبو بكر بن إسحق، أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني شريك بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس أنه قال: رقدت في بيت ميمونة ليلة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها لأنظر كيف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، قال: فتحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة، ثم رقد. وساق الحديث، وفيه: ثم قام فتوضأ واستن. وفي رواية لمسلم (763)، قال: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن فضيل، عن حصين بن عبد الرحمن، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه، عن عبد الله بن عباس، أنه رقد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستيقظ، فتسوك، وتوضأ، وهو يقول: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة. الحديث. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه أبو داود (58)، قال: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا هشيم، أخبرنا حصين به. ولفظه: بت ليلة عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما استيقظ من منامه، أتي طهوره، فأخذ سواكه، فاستاك، ثم تلا هذه الآيات {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} حتى قارب أن يختم السورة أو ختمها، ثم توضأ فأتى مصلاه، فصلى ركعتين، ثم رجع إلى فراشه، فنام ما شاء الله، ثم استيقظ، ففعل مثل ذلك، ثم رجع إلى فراشه، فنام، ثم استيقظ، ففعل مثل ذلك ثم رجع إلى فراشه فنام، ثم استيقظ ففعل مثل ذلك كل ذلك يستاك، ويصلي ركعتين، ثم أوتر. قال أبو داود رواه ابن فضيل عن حصين قال فتسوك وتوضأ وهو يقول: {إن في خلق السموات والأرض} حتى ختم السورة. وهذا سند صحيح. محمد بن عيسى ثقة فقيه، كان من أعلم الناس بحديث هشيم. وهشيم ومن فوقه على شرط مسلم. وتابع الأعمش حصين بن عبد الرحمن. فأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 155) رقم 1789 حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن حبيب به. قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين، ثم يستاك. وهذا اللفظ شاذ، والله أعلم؛ لأن الحديث حديث ابن عباس في مبيته عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رواه مسلم من طريق حصين بن عبد الرحمن، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه، عن عبد الله بن عباس، أنه رقد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستيقظ، فتسوك، وتوضأ، وهو يقول: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} الحديث. ورواه سفيان، وزيد بن أبي أنيسه، عن حبيب، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن ابن عباس بنحو رواية مسلم، كما في سنن النسائي الكبرى (1/ 424) رقم 1344،1345 وانفرد عثام بن علي، عن الأعمش، عن حبيب بي أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه، عن عبد الله بن عباس، بذكر السواك بعد الصلاة. وجميع من رواه عن ابن عباس، في الصحيحين وغيرهما لم يذكروا أنه يصلي ركعتين =

الدليل الثالث

يحتمل أنه تسوك من أجل القيام من النوم، أو من أجل الوضوء، أو من أجل الصلاة، ولا يبعد أن يكون تسوك منها كلها، ولا يمنع أن يكون هناك أكثر من سبب للتسوك، ولو لم يثبت في التسوك من القيام من الليل حديث، لكان يكفي فيه حديث عائشة: " السواك مطهرة للفم " فإن النوم مظنة لتغير الفم، فيشرع تطهير الفم منه. والله أعلم. الدليل الثالث: (722 - 58) ما رواه أحمد، قال رحمه الله: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا محمد بن مسلم بن مهران مولى لقريش، سمعت جدي يحدث عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام إلا والسواك عنده فإذا استيقظ بدأ بالسواك. [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬1). ¬

= ثم يستاك، بل نصوا على أن التسوك قبل الصلاة. وعثام بن علي. قال فيه عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن عثام بن على، فقال: صدوق وهو أحب الي من يحيى بن عيسى بن يونس الرملي. الجرح والتعديل (7/ 44). وقال أبو زرعة: عثام بن على ثقة. المرجع السابق. وقال ابن سعد: كان ثقة. الطبقات الكبرى (6/ 392). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (7/ 305). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (19/ 335). قال الآجري، عن أبي داود: سمعت أحمد يقول: عثام رجل صالح. قال: وسألت أبا داود عنه فجعل يثني، ويقول قولا جميلا. تهذيب التهذيب (7/ 97). وفي التقريب: صدوق. (¬1) دراسة الإسناد: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سليمان بن داود: هو الطيالسي صاحب المسند، حافظ غني عن التعريف. ومحمد بن مسلم. هو محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطئ. الثقات (7/ 371) رقم 10487 قال البخاري: أكثر عليه أصحاب الحديث فحلف أن لا يسمي جده. التاريخ الكبير (1/ 23) رقم 20. قال الدارقطني بصري يحدث عن جده ولا بأس بهما. تهذيب التهذيب (9/ 15). وقال عباس الدوري، عن يحيى بن معين: ليس به بأس. تهذيب الكمال (24/ 331) وقال ابن عدي: ليس له من الحديث إلا اليسير، ومقدار ما له من الحديث لا يتبين صدقه من كذبه. الكامل (6/ 243) رقم 1720. وأما جده مسلم بن مهران، فقد قال فيه أبو زرعة: كوفى ثقة. الجرح والتعديل (8/ 195) رقم854. ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 392). رقم 5355. وفي التقريب: ثقة. فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى. [تخريج الحديث] الحديث رواه أبو يعلى (5749) حدثنا عبد الله بن الدورقي، حدثنا أبو داود به. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 24)، قال: حدثنا خليفة، قال: حدثنا أبوداود به. وأخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 243) من طريق إبراهيم بن محمد بن عرعرة، ثنا أبو داود به. وجاء عن ابن عمر من طريق آخر إلا أنه ضعيف. فقد أخرج أبو يعلى في مسنده (5661)، قال: حدثنا موسى بن محمد بن حيان، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد، حدثنا حسام بن مصك، حدثنا عطاء بن أبي رياح، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتعار من الليل ساعة إلا أجرى السواك على فيه. وهذا إسناد ضعيف، فيه: موسى بن محمد بن حيان. قال ابن أبي حاتم: ترك أبو زرعة حديثه ولم يقرأ علينا، كان قد أخرجه قديما في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فوائده. الجرح والتعديل (8/ 161) رقم 714. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما خالف. الثقات (9/ 161) رقم 15775. وفي الإسناد: حسام بن مصك. قال سفيان بن عبد الملك: سمعت ابن المبارك يقول حسام بن المصك ارم به. الضعفاء الكبير ـ العقيلي (1/ 299) رقم 374. وقال عمرو بن علي: كان عبد الرحمن لا يحدث عن حسام بن المصك بشيء. المرجع السابق. وقال ابن سعد: هو من الأزد، وهو ضعيف. الطبقات الكبرى (7/ 284). وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. كما في رواية ابن أبي مريم وعباس بن محمد الدوري، وعثمان بن سعيد. زاد ابن أبي مريم: ولا يكتب حديثه. الكامل (2/ 432) رقم 546. الجرح والتعديل (3/ 317). وقال ابن عدي: عامة أحاديثه إفرادات، وهو مع ضعفه حسن الحديث، وهو إلى الضعف أقرب منه الى الصدق. المرجع السابق. وقال محمد بن عوف الحمصي: سألت أحمد بن حنبل عن الحسام بن مصك، فقال: مطروح الحديث. الجرح والتعديل (3/ 317) رقم 1419. وقال أبو زرعة: واهي الحديث منكر الحديث. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالقوي يكتب حديثه. المرجع السابق. وفي التقريب: ضعيف، يكاد أن يترك. تخريج الحديث: الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (13598) حدثنا محمد بن قضاء الجوهري، ثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو علي الحنفي ثنا حسام بن مصك به. وأخرجه الطبراني في الكبير أيضاً (13593)، قال: حدثنا محمد بن يوسف التركي، ثنا عيسى بن إبراهيم البركي، ثنا سعيد بن راشد، عن عطاء عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقعد ساعة من الليل إلا مر السواك على فيه. وفيه سعيد بن راشد: قال يحيى بن معين: سعيد بن راشد السماك يروي من أذن فهو يقيم ليس حديثه =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (723 - 59) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي، ثنا إبراهيم بن ثابت من بني عبد الأول، حدثني عكرمة بن مصعب من بني عبد الدار، عن محرر بن أبي هريرة، عن أبيه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام ليلة ولا ينتبه إلا استن. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬

= بشيء. الضعفاء الكبير (2/ 105). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث منكر الحديث. الجرح والتعديل (4/ 19). وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (3/ 471) وقال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين (280). وقال ابن عدي: لسعيد بن راشد غير ما ذكرت من الحديث شيء يسير، ورواياته عن عطاء وابن سيرين وغيرهما، ولا يتابعه أحد عليه. الكامل (3/ 381). وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمعضلات. المجروحين (1/ 324). قال أبو حاتم: صدوق. الجرح والتعديل (6/ 272) رقم 1506. وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (22/ 580). وذكره بن حبان في كتاب الثقات. الثقات (8/ 494) رقم 14624. وقال بن معين مرة: ليس برضي. ومرة: لا يساوي شيئاً. المرجع السابق. وقال البزار في مسنده: كان ثقة. المرجع السابق. وقال الساجي صدوق أحسبه كان يهم ما سمعت بندارا يحدث عنه وحدثنا عنه ابن مثنى وقال ابن معين ليس بشيء هذا بقية كلام الساجي. المرجع السابق. وقال مسلمة بن قاسم: ثقة. المرجع السابق. وقال الأزدي: كان يهم في أحاديث وهو صدوق. المرجع السابق. (¬1) الأوسط (8/ 67) رقم 7980. وفيه عكرمة بن مصعب: قال ابن أبي حاتم: سألت أبى عنه فقال: هو مجهول. الجرح والتعديل (7/ 10). =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (724 - 60) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، قال: حدثني علي بن زيد بن جدعان، قال: حدثتني أم محمد، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرقد ليلاً ولا نهاراً إلا تسوك قبل أن يتوضأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= وقال الحافظ أيضاً: مجهول. لسان الميزان (4/ 182). وفي الإسناد أيضاً محرر بن أبي هريرة ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/ 408). وقال ابن سعد: روى عن أبيه، وكان قليل الحديث. الطبقات الكبرى (5/ 254). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 460). وقال في التقريب: مقبول. يعني حيث توبع، وإلا فلين الحديث. ولا أعلم أحداً تابعه في أبي هريرة. (¬1) المصنف (1/ 155). (¬2) الحديث فيه: علي بن زيد بن جدعان، جاء في ترجمته: قال شعبة: ثنا على بن زيد وكان رفاعاً. الجرح والتعديل (6/ 186). وقال حماد بن زيد: كان على بن زيد يحدثنا اليوم بالحديث ثم يحدثنا غداً فلكأنه ليس ذلك. المرجع السابق. وقال أحمد بن حنبل: على بن زيد بن جدعان ليس هو بالقوي روى عنه الناس. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين: على بن زيد بن جدعان ليس بحجة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو أحب إلى من يزيد بن أبى زياد وكان ضريراً، وكان يتشيع. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: ليس بقوي. المرجع السابق. =

الدليل السادس

الدليل السادس: (725 - 61) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا همام، حدثنا هشام بن عروة، قال: حدثني أبي، أن عائشة حدثته، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرقد، فإذا استيقظ تسوك، ثم توضأ، ثم صلى ثمان ركعات يجلس في كل ركعتين، فيسلم، ثم يوتر بخمس ركعات لا يجلس إلا في الخامسة، ولا يسلم إلا في الخامسة. [رجاله ثقات إلا أن ذكر السواك فيه شاذ] (¬1). ¬

= وفيه أم محمد امرأة أبيه. لم يرو عنها إلا زيد بن علي بن جدعان، ولم يوثقها أحد فهي في عداد المجهولين. تخريج الحديث: الحديث رواه أحمد (6/ 121) حدثنا عفان، قال: حدثنا همام به. وأخرجه أبو داود (57) حدثنا محمد بن كثير، ثنا همام به. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 28) من طريق جعفر بن محمد، ثنا عفان به. وأجره الطبراني في الأوسط (3557) من طريق معاذ بن هانئ البهراني، نا همام به. وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 482) من طريق همام به. وضعفه الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 63). (¬1) رواه البيهقي في الكبرى (3/ 28) من طريق عفان، ثنا همام، ثنا هشام بن عروة به بقوله: " كان يرقد فإذا استيقظ تسوك. ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 448) من طريق أبي عمر، أنبأ همام به. وليس فيه ذكر التسوك. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وقد رواه سبعة عشر حافظاً، ولم يذكروا فيه السواك وأكثرهم أحفظ من همام، وإليك تخريج رواياتهم: الأول: عبدة بن سليمان، كما في مسند إسحاق بن راهويه (2/ 132) رقم 616 ومسلم (737)، وسنن النسائي الكبرى (1420). وابن حبان (2437) (2440)، والبيهقي (3/ 27). =

الدليل السابع

الدليل السابع: (726 - 62) ما رواه مسلم بسنده، عن سعد بن هشام، أنه قال لعائشة: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت ¬

_ = الثاني: يحيى بن سعيد القطان، كما في مسند أحمد (6/ 50) وصحيح ابن خزيمة (2/ 140،141) رقم1076،1077. الثالث: أبو أسامة كما في مسند أحمد (6/ 161)، وصحيح ابن خزيمة (2/ 140) رقم 1076. الرابع: شعبة. كما في صحيح ابن حبان (2438) وزاد (وأوتر بسبع). الخامس والسادس: حماد بن سلمة وحماد بن زيد. صحيح ابن حبان (2439). السابع: وهيب، كما في سنن أبي داود (1338). الثامن: جعفر بن عون، سنن البيهقي الكبرى (3/ 27)، سنن الدارمي (1581) مسند أبي عوانة (2/ 325). التاسع: ابن جريج، كما في مسند الشافعي (2/ 213) ومسند أبي عوانة (2/ 325). العاشر: معمر، كما في مصنف عبد الرزاق (4667). الحادي عشر: سفيان الثوري، كما في سنن النسائي (1717) الثاني عشر: وكيع، كما في مسند أحمد (6/ 205) ومسند أبي عوانة ((2/ 325) الثالث عشر: عبد الله بن نمير، كما في مسند أحمد (6/ 230) وصحيح مسلم (737) وسنن الترمذي (459). الرابع عشر: سفيان بن عيينة، كما في مسند الحميدي (195). الخامس عشر: حسان بن إبراهيم كما في مسند أبي يعلى (4526). السادس عشر: الليث، كما في مسند أحمد (6/ 64). السابع عشر: أبو عوانة الوضاح، كما في مسند أبي داود الطيالسي (1449). كلهم رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، ولم يذكروا فيه التسوك. وتابع هشاماً عمر بن مصعب بن الزبير، عند الطبراني في الأوسط (7714).

الدليل الثامن

كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصل التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد وتلك إحدى عشرة ركعة. الحديث قطعة من حديث طويل (¬1). (727 - 63) وفي رواية لأبي داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا بهز بن حكيم، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوضع له وضوءه وسواكه، فإذا قام من الليل تخلى، ثم استاك. [سنده حسن] (¬2). الدليل الثامن: (728 - 64) ما رواه ابن أبي عمر، قال: حدثنا وكيع، ثنا المنذر بن ثعلبة العبدي، عن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انتبه من الليل دعا جارية - يقال لها بريرة - بالسواك (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬

(¬1) صحيح مسلم (139 - 746). (¬2) سنن أبي داود (56) ورجاله كلهم ثقات إلا بهز بن حكيم، وهو صدوق. (¬3) المطالب العالية (62). (¬4) رواه ابن أبي شيبة، في المصنف (1/ 197) حدثنا وكيع، عن المنذر بن ثعلبة، عن

الدليل التاسع

الدليل التاسع: (729 - 65) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا واصل، عن أبي سورة، عن أبي أيوب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستاك من الليل مرتين أو ثلاثا وإذا قام يصلي من الليل صلى أربع ركعات لا يتكلم ولا يأمر بشيء ويسلم بين كل ركعتين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= عبد الله بن بريدة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث، فالظاهر أنه سقط من الإسناد بريدة الصحابي رضي الله عنه. (¬1) المسند (5/ 417). (¬2) فيه أبو سورة. جاء في ترجمته: ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 570). قال البخاري: منكر الحديث، يروي عن أبي أيوب مناكير لا يتابع عليه. تهذيب الكمال (33/ 394). قال الترمذي: وأبو سورة، هو ابن أخي أبي أيوب، يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن معين جداً، قال: وسمعت محمد بن إسمعيل - يعني البخاري - يقول: أبو سورة هذا منكر الحديث، يروي مناكير عن أبي أيوب، لا يتابع عليها. سنن الترمذي (2544). وقال الساجي: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (12/ 136). وقال الدارقطني: مجهول. المرجع السابق. وقال الترمذي في العلل الكبير: سألت البخاري عن أبي سورة ما اسمه، فقال: لا أدري، ما يصنع به، عنده مناكير، ولا يعرف له سماع من أبي أيوب. علل الترمذي (ص:33). وقال الحافظ: أغرب أبو محمد بن حزم، فزعم أن ابن معين قال: أبو أيوب الذي روى عنه أبو سورة، ليس هو الأنصاري. تهذيب التهذيب (12/ 136). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = تخريج الحديث: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 196) حدثنا أبو خالد الأحمر، عن واصل به. إلا أنه سقط من إسناده أبو أيوب. وقد ذكره الحافظ في المطالب العالية (61) عن ابن أبي شيبة، بزيادة أبي أيوب. ورواه عبد بن حميد، كما في المنتخب (219)، ثنا محمد بن عبيد، ثنا واصل به. ومن طريق محمد بن عبيد أخرجه الطبراني في الكبير (4066). كما أن في الإسناد واصل بن السائب، ضعيف أيضاً. جاء في ترجمته: قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (8/ 173)، الضعفاء الصغير (387). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن واصل بن السائب، فقال: ضعيف الحديث، مثل أشعث بن سوار، وليث بن أبي سليم وأشباههم. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سألت أبي عن واصل بن السائب، فقال: منكر الحديث. الجرح والتعديل (9/ 30). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (600). وقال ابن عدي: ولواصل غير ما ذكرت ـ يعني من الأحاديث المنتقدة ـ وأحاديثه لا تشبه أحاديث الثقات. الكامل (7/ 85). وقال يعقوب بن سفيان والساجي: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (11/ 92). وقال الأزدي: متروك الحديث. المرجع السابق. وقال يعقوب أيضاً والدارقطني وابن حبان: ضعيف. المرجع السابق. وقال البزار: حدث بالكوفة أحاديث لم يتابع عليها، وهو لين. المرجع السابق.

الفصل الخامس يستحب السواك عند تغير الفم

الفصل الخامس يستحب السواك عند تغير الفم السواك عند تغير الفم سنة، وهو مذهب الأئمة (¬1)، ولا أعلم فيه خلافاً إلا ما سبق من الخلاف في كراهيته للصائم بعد الزوال، وقد سبق البحث فيه. قال العراقي: وتغير الفم: سواء فيه تغير الرائحة، أو تغير اللون كصفرة الأسنان (¬2). الدليل على استحباب السواك عند تغير الفم. (730 - 66) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا عبد الرحمن بن أبي عتيق، عن أبيه، أنه سمع عائشة تحدثه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. [إسناده حسن إن شاء الله وقد سبق بحثه] (¬3). ¬

(¬1) بريقة محمودية (1/ 188) مواهب الجليل (1/ 264)، حاشية الدسوقي (1/ 103)، الشرح الصغير (1/ 126). وقال الشافعي في الأم (1/ 40): " واستحب السواك عند كل حال يتغير فيه الفم". وقال النووي في المجموع (1/ 328): " وتغيره ـ يعني الفم ـ تارة يكون بالنوم، وقد يكون بأكل ما له رائحة كريهة، وقد يكون بترك الأكل والشرب، وبطول السكوت. قال صاحب الحاوي: ويكون أيضاً بكثرة الكلام ". انتهى كلام النووي. تحفة المحتاج (1/ 219)، مغني المحتاج (1/ 185)، وانظر الإنصاف (1/ 118)، الفروع (1/ 126)، كشاف القناع (1/ 73). (¬2) طرح التثريب (1/ 66). (¬3) انظر ح 666.

وجه الاستدلال: قوله: " السواك مطهرة للفم " فقوله: " السواك " مبتدأ. ومطهرة خبر. فأسند التطهير إلى السواك، فكأن الغرض من مشروعية السواك تطهير الفم، والذي يحصل به مرضاة الرب إذا طهره امتثالاً لأمر الله، فالسواك سبب لطهارة الفم، وسبب لمرضاة الرب، وكل ما تغير الفم واحتاج إلى التطهير كان مشروعية السواك آكد، وتطهير الفم إنما شرع لمناجاة الله سبحانه وتعالى، ولذلك شرع عند الصلاة، ولتلاوة كتاب الله، ولدنو الملائكة؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم.

الفصل السادس استحباب السواك عند دخول البيت

الفصل السادس استحباب السواك عند دخول البيت استحب السواك عند دخول البيت الأئمة الأربعة (¬1)، ولم أقف فيه على خلاف. دليل المسألة. (731 - 67) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته بدأ بالسواك. [حديث صحيح] (¬2). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 24)، حاشية ابن عابدين (1/ 114)، البحر الرائق (1/ 21)، ومواهب الجليل (1/ 266)، المجموع (1/ 328)، الأشباه والنظائر (1/ 427)، شرح منتهى الإرادات (1/ 43)، كشاف القناع (1/ 73)، المغني (1/ 69). (¬2) المسند (1/ 188). والحديث مداره على المقدام بن شريح، عن أبيه عن عائشة. وله طرق كثيرة إلى المقدام. الأول: سفيان الثوري، عن المقدام به. أخرجه أحمد (1/ 188) كما في رواية الباب، وأخرجه مسلم (44 - 253) حدثنا أبو بكر بن نافع العبدي، حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان به. وأخرجه ابن خزيمة (134) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان به. ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي أخرجه ابن حبان (1074). وتابع وكيع ابن مهدي، فرواه أحمد (6/ 192) وإسحاق بن راهويه في مسنده (1577) حدثنا وكيع، عن سفيان به. وأخرجه ابن خزيمة (134) من طريق يوسف بن موسى، حدثنا وكيع به. =

قال القرطبي: " يحتمل أن يكون ذلك؛ لأنه كان يبدأ بصلاة النافلة، فقلما كان يتنفل في المسجد، فيكون السواك لأجلها. وقال غيره: الحكمة في ذلك أنه ربما تغير رائحة الفم عند محادثة الناس، فإذا دخل البيت كان من حسن معاشرة الأهل إزالة ذلك " اهـ (¬1). وقال بعضهم: لعله يفعل ذلك إذا انقطع عن الناس استعداداً لنزول ¬

= وأخرجه أبو عوانة (1/ 192) من طريق قبيصة، ثنا سفيان به. الطريق الثاني: مسعر، عن المقدام بن شريح به. أخرجه أحمد (6/ 41،42) ثنا عبدة، ثنا مسعر به. بزيادة في أوله. وأخرجه مسلم (43ـ253) بدون زيادة أحمد، حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا ابن بشر، عن مسعر به. وأخرجه أبو عوانة في مسنده (1/ 192) من طريق وكيع، ويعلى، ويزيد بن هارون، ومحمد بن عبيد، وأبو نعيم كلهم، عن مسعر به. وأخرجه أبو داود (51) حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا مسعر به. وأخرجه النسائي في المجتبى (8) وفي الكبرى (7) أخبرنا علي بن خشرم، قال: حدثنا عيسى: وهو ابن يونس، عن مسعر به. وأخرجه ابن خزيمة (134) من طريق يزيد بن هارون، أخبرنا مسعر به. ومن طريق مسعر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 34)، والبغوي في شرح السنة (201). الطريق الثالث: شريك، عن المقدام بن شريح به. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 155) حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (290)، وابن حبان (2514). وأخرجه أحمد (6/ 110،182،237) ثنا أسود بن عامر، ويزيد فرقهما، عن شريك به بلفظ: " بأي شيء كان يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته، وبأي شيء كان يختم؟ قالت: كان يبدأ بالسواك، ويختم بركعتي الفجر. هذا لفظ يزيد. ولفظ الأسود نحوه. إلا أنه ليس فيه سؤال. وهذه الزيادة زادها شريك، ولم يذكرها سفيان، ولا مسعر، وهما أحفظ منه. (¬1) نقلاً من شرح السيوطي على سنن النسائي (1/ 13).

الوحي، وأياً كان فإنه يشرع للإنسان إذا دخل بيته في أي وقت من ليل أو نهار أن يبدأ بالسواك تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.

الفصل السابع حكم السواك عند دخول المسجد

الفصل السابع حكم السواك عند دخول المسجد استحب الحنابلة التسوك عند دخول المسجد (¬1). ولا أعلم لهم دليلاً على الاستحباب، وهذه المسألة غير المسألة السابقة، وهي التسوك في المسجد؛ لأن هذه المسألة نعني بها التسوك لدخول المسجد. من أجل الدخول فقط، أما من أجل الصلاة فنعم، فقد ذكرنا أدلته في مسألة مستقلة. ولو كان دخول المسجد يشرع له التسوك لجاء التشريع فيه إما قولاً وإما فعلاً، فعدم النقل في العبادة مع إمكان الفعل دليل على العدم. (732 - 68) نعم روى الطبراني في الكبير، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني، ثنا سهل بن عثمان، ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثني أبو أيوب، عن صالح، عن زيد بن خالد الجهني قال: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من شيء لشيء من الصلوات حتى يستاك. [إسناده ضعيف؛ لأن مثل هذه السنة لا يقبل فيه تفرد أبي أيوب، وقد لينه أبو زرعة] (¬2). ¬

(¬1) شرح منتهى الإرادات (1/ 43)، كشاف القناع (1/ 73)، مطالب أولى النهى (1/ 81). (¬2) دارسة الإسناد: سهل بن عثمان هو العسكري الكندي. قال فيه أبو حاتم الرازي: صدوق. الجرح والتعديل (4/ 203) رقم 877. حدث عنه من الكبار علي بن المديني. تذكره الحفاظ (2/ 452). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 292). =

على أن هذا الحديث في الذهاب إلى المسجد، ومسألتنا في دخول المسجد. وإذا تسوك عند الخروج إلى الصلاة بنية التسواك للصلاة أصاب السنة؛ وكل ما قرب من الصلاة كانت إصابته للسنة أوكد. ولله أعلم. ¬

_ = وقال الذهبي: ثقة صاحب غرائب. الكاشف (2174). وفي التقريب: أحد الحفاظ له غرائب. وفيه أبو أيوب: عبد الله بن علي الإفريقي قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال ليس بالمتين في حديثه إنكار هو لين. الجرح والتعديل (5/ 115) رقم 526. وقال الدوري، عن ابن معين: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (5/ 285). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 21). وفي التقريب: صدوق يخطئ من السادسة. وفيه صالح مولى التوأمة: قال الحافظ في التقريب: صدوق اختلط. قال ابن عدي لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج. وقد أخطأ من زعم أن البخاري أخرج له. اهـ كلام الحافظ. قلت: قد ذكر ابن الكيال في الكواكب النيرات (ص: 262) على أن أبا أيوب عبد الله بن علي الإفريقي سمع من صالح بن نبهان قبل الاختلاط.

الفصل الثامن التسوك عند قراءة القرآن

الفصل الثامن التسوك عند قراءة القرآن ويشتمل على مبحثان: المبحث الأول: حكم السواك لسجود التلاوة والشكر. المبحث الثاني: الاستياك للقراءة بعد السجود.

الفصل الثامن التسوك عند قراءة القرآن من المواضع التي يستحب لها السواك قراءة القرآن. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). أدلة الاستحباب. (733 - 69) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن العلوي، وأبو علي الحسين بن محمد الروذباري، قالا: أنا أبو طاهر محمد بن الحسين المجد أباذي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا عمرو بن عون الواسطي، ثنا خالد بن عبد الله، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: أمرنا بالسواك، وقال: إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك، فقام خلفه يستمع القرآن، ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو، حتى يضع فاه على فيه فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك. [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثاني: (734 - 70) روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن الحسين ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 21)، ومواهب الجليل (1/ 264)، الفواكه الدواني (1/ 136)، حاشية الدسوقي (1/ 103)، والمجموع شرح المهذب (2/ 190)، طرح التثريب (1/ 66)، الأشباه والنظائر (ص: 427) أسنى المطالب (1/ 36)، الإنصاف (1/ 118)، (¬2) سبق تخريجه.

بن محمد لفظا، ثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا أبي، ثنا شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك؛ فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيء إلا دخل فم الملك (¬1). [إسناده ضعيف، وهو شاهد للحديث الذي قبله] (¬2). الدليل الثالث: (735 - 71) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا بحر بن كنيز، عن عثمان بن ساج، عن سعيد بن جبير، عن علي بن أبي طالب قال: إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) شعب الإيمان (2/ 381) رقم 2117 (¬2) سبق تخريجه في حكم السواك. (¬3) سنن ابن ماجه (291). (¬4) هذا الإسناد له علتان: الأولى: الانقطاع بين سعيد بن جبير، وبين علي، حيث لم يدرك سعيد بن جبير علياً رضي الله عنه. المراسيل ـ ابن أبي حاتم (ص: 74). الثاني: ضعف بحر بن كنيز. =

الدليل الرابع (736 - 72) روى البيهقي في شعب الإيمان، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا الحسن بن الفضل بن السمح، حدثنا غياث بن كلوب الكوفي، حدثنا مطرف بن سمرة ـ ولقيته سنة خمس وسبعين ومائة ـ عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طيبوا أفواهكم بالسواك؛ فإنها طرق القرآن. قال البيقي: غياث مجهول (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (737 - 73) قال ابن الملقن في البدر المنير: روى مسلم الكشي في ¬

= قال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (82). وقال يزيد بن زريع: بحر السقاء كان لا شيء. الجرح والتعديل (2/ 418) رقم 1655. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: بحر السقاء لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف. المرجع السابق. (¬1) شعب الإيمان للبيهقي (2/ 382) رقم 2119. (¬2) في الإسناد أيضاً: الحسن بن الفضل قال أبو الحسين بن المنادى: أكثر الناس عنه، ثم انكشف، فتركوه وخرقوا حديثه. ميزان الاعتدال (1/ 517)، لسان الميزان (2/ 244)، تاريخ بغداد (7/ 401). وقال ابن حزم: مجهول. المحلى (9/ 296). وغياث بن كلوب: قال فيه البيهقي ما علمت. وضعفه الدارقطني. لسان الميزان (4/ 423).

سننه، وأبو نعيم، عن أبي رجاء، عن وضين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طيبوا أفواهكم، فإن أفواهكم طرق القرآن " (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) البدر المنير (3/ 200). (¬2) فيه أربع علل: الأولى: في إسناده مندل. قاله ابن الملقن في البدر المنير. وهو ضعيف. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبى عن مندل بن على، فقال: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (8/ 434). واختلف قول ابن معين فيه، فقال في رواية أبي بكر بن أبى خيثمة عنه: مندل بن على ليس بشيء. المرجع السابق. وقال في روية عثمان بن سعيد عن يحيى بن معين: ليس به بأس. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن مندل، فقال: لين. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن أيضاً: سئل أبى عن مندل، فقال: شيخ. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (578). وقال ابن سعد: فيه ضعف، ومنهم من يشتهي حديثه ويوثقه، وكان خيراً فاضلاً من أهل السنة. الطبقات الكبرى (6/ 381). وقال ابن عدي: له أحاديث افراد وغرائب، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (6/ 455). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 266). وقال ابن حبان: كان مرجئا من العباد، إلا أنه كان يرفع المراسيل، ويسند الموقوفات، ويخالف الثقات في الروايات من سوء حفظه، فلما سلك غير مسلك المتقنين مما لا ينفك منه البشر من الخطأ، وفحش ذلك منه، عدل به غير مسلك العدول فاستحق الترك. المجروحين (3/ 24). =

المبحث الأول هل يستحب السواك لسجود التلاوة والشكر

المبحث الأول هل يستحب السواك لسجود التلاوة والشكر استحب بعض الفقهاء السواك لسجود التلاوة والشكر (¬1). دليلهم: ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (¬2). ¬

= العلة الثانية: أبو رجاء لم ينسب فيتبين، فإن كان محرز بن عبد الله فهو مدلس مكثر، وقد عنعن. العلة الثالثة: الإرسال. العلة الرابعة: وضين. قال فيه أبو حاتم الرازي: تعرف وتنكر. الجرح والتعديل (9/ 50). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 329). وقال السعدي: واهي الحديث. الكامل ـ ابن عدي (7/ 88). قال إبراهيم الحربي: غيره أوثق منه. تهذيب التهذيب (11/ 106). وقال محمد بن سعد: كان ضعيفا في الحديث. تهذيب الكمال (30/ 449). وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: واهي الحديث. المرجع السابق. وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأساً. المرجع السابق. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبى ثقة ليس به بأس. الجرح والتعديل (9/ 50). وثقه يحيى بن معين ودحيم. تهذيب الكمال (30/ 449). ذكره بن حبان في الثقات. الثقات (7/ 564). وفي التقريب: صدوق سيء الحفظ. (¬1) الغرر البهية في شرح البهجة الوردية (1/ 109)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 58). (¬2) سبق تخريجه.

وإذا ثبتت مشروعية السواك للصلاة، فإن سجود التلاوة صلاة، لأنه قد جاء في الشرع إطلاق السجود على الصلاة. فهذا دليل على أن له حكم الصلاة. (738 - 74) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرنا نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة فأما المغرب والعشاء ففي بيته (¬1). والراجح أنه لا يشرع السواك بسبب السجود، لأمرين: الأول: لا نسلم أن سجود التلاوة صلاة، والفارق بينه وبين الصلاة أكثر من الجامع. فلا تشرع فيه القراءة، ولا ركوع فيه، ولامصافة فيه. الأمر الثاني: لا نحتاج إلى قياس سجود التلاوة والشكر على الصلاة، والسجود قد وقع في عهده - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل أنه تسوك له. ¬

(¬1) صحيح البخاري (1172)، ومسلم (729).

المبحث الثاني الاستياك للقراءة بعد السجود

المبحث الثاني الاستياك للقراءة بعد السجود. قال في شرح العباب: " الاستياك للقراءة بعد السجود ينبغي بناؤه على الاستعاذة، فإن سنت سن، لأن هذه تلاوة جديدة، وإلا فلا (¬1). وهذا التفصيل جيد، والاستعاذة على الراجح لا تسن إلا إذا طال الفصل عرفاً بحيث لا يمكن بناء القراءة السابقة على القراءة اللاحقة. وعليه فإذا طال الفصل، وأراد أن يقرأ من جديد شرع السواك، والسجود بمجرده لا يقطع التلاوة، كما لا يقطعها في الصلاة. والله أعلم. ¬

(¬1) نقلاً من تحفة المحتاج (1/ 218).

الفصل التاسع في السواك يوم الجمعة

الفصل التاسع في السواك يوم الجمعة من المواضع التي يتأكد فيها السواك يوم الجمعة (¬1). واستحبه الحنفية عند الاجتماع بالناس مطلقاً في الجمعة وغيرها (¬2). وقيل: السواك فرض لازم يوم الجمعة. وهو اختيار ابن حزم (¬3). الأدلة على كون السواك يتأكد في يوم الجمعة. الدليل الأول: (739 - 74) ما رواه مسلم، قال: حدثنا عمرو بن سواد العامري، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حدثاه، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه. قال مسلم: إلا أن بكيرا لم يذكر عبد الرحمن وقال في الطيب ولو من طيب المرأة (¬4). ¬

(¬1) المنتقى ـ الباجي (1/ 186)، الأم (1/ 226)، المجموع (4/ 410)، وكشاف القناع (2/ 42)، مطالب أولى النهى (1/ 784)، شرح منتهى الإرادات (1/ 320). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 168)، واستحبه الشافعي عند الخروج إلى صلاة الاستسقاء كما في الأم (1/ 283)، وقد يؤخذ منه أن الشافعي يستحبه في كل تجمع. والله أعلم. (¬3) المحلى (مسألة: 1780). (¬4) صحيح مسلم (846)، وهو في البخاري (880) بغير هذا اللفظ.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (740 - 76) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان يحدث عن رجل من الأنصار، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ثلاث حق على كل مسلم، الغسل يوم الجمعة، والسواك، ويمس من طيب إن كان (¬1). [إسناده ضعيف؛ لإبهام راويه] (¬2). هذا دليل من استدل باستحباب السواك يوم الجمعة. وأخذ بظاهره ابن حزم، فقال بوجوب السواك، لأن قوله: "على كل محتلم " وقوله: " حق على كل مسلم " ظاهره الوجوب. وأما الحنفية فأخذوا من الأمر بالسواك يوم الجمعة أن الإنسان مأمور بالسواك عند كل اجتماع للناس كالجمعة والعيد ونحوهما، وهو مأخذ حسن. ¬

(¬1) المصنف (1/ 434) رقم 4997. (¬2) سبق تخريجه.

الفصل العاشر هل يستحب السواك عند الاحتضار

الفصل العاشر هل يستحب السواك عند الاحتضار ذكر بعض الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، يقلد بعضهم بعضاً أن السواك يسهل خروج الروح. دليلهم على هذا. (741 - 77) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، حدثنا عفان، عن صخر بن جويرية، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأبده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره، فأخذت السواك، فقصمته ونفضته، وطيبته، ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستن به، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استنانا قط أحسن منه، فما عدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يده أو إصبعه، ثم قال: في الرفيق الأعلى ثلاثاً، ثم قضى. وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي (¬5). ¬

(¬1) بريقة محمودية (1/ 189)، حاشية ابن عابدين (1/ 115). (¬2) الفواكه الدواني (1/ 265). (¬3) أسنى المطالب (1/ 35)، مغني المحتاج (1/ 185). نهاية المحتاج (1/ 183) وذكر في حاشيتا قليوبي وعميرة (1/): " أنه يذكر الشهادة!! ". اهـ (¬4) مطالب أولى النهى (1/ 83). (¬5) صحيح البخاري (4438).

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استاك في آخر ساعة من الدنيا، وهو في سكرات الموت، فهل يعتقد أنه مسنون من أجل الاحتضار، متأكد عنده، أو أنه استاك؛ لأنه داخل في كونه مسنوناً كل قت، وهذا الوقت فرد من أفراده. هذا محل تأمل. ولا يبعد استحباب السواك عند الاحتضار لأمور: أولاً: لتطييب فمه عند اقتراب الملائكة منه، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس. وثانياً: استعداداً للقاء الله سبحانه وتعالى. وثالثاً: كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - استاك في تلك الساعة، مع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فيها مشغولاً بنفسه، حيث كان يعاني من سكرات الموت، وكون عائشة تقول عنه: بأنه استاك فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استناناً قط أحسن منه ظاهر أنه كان متقصداً لذلك في تلك الساعة. وأما كونه أسهل في خروج الروح كما ذكره بعض الفقهاء فهذا يحتاج إلى توقيف. فلا تصح الدعوى حتى يثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت فيما أعلم. والله أعلم.

الباب الخامس في صفة التسوك

الباب الخامس في صفة التسوك ويشتمل على تسعة فصول: الفصل الأول: كيفية التسوك. الفصل الثاني: هل يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن أو الأيسر؟ الفصل الثالث: أفضيلة السواك بيده اليمنى أم اليسرى؟ الفصل الرابع: في كيفية أخذ السواك. الفصل الخامس: الكلام في قبض السواك. الفصل السادس: في موضع السواك من الرجل. الفصل السابع: في الاستياك حال الاضطجاع. الفصل الثامن: أقل ما تحصل به السنة من الاستياك. الفصل التاسع: هل يحتاج المتسوك إلى نية؟

الفصل الأول في كيفية التسوك

الفصل الأول في كيفية التسوك ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، إلى أن المستحب أن يستاك عرضاً إلا في اللسان فإنه يستاك طولاً. دليل من قال: المستحب أن يستك عرضاً. (742 - 78) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي وإبراهيم بن متوية الأصبهاني، قالا: ثنا يحيى بن عثمان الحمصي، ثنا اليمان بن عدي ثنا ثبيت بن كثير البصري الضبي، عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن بهز قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضاً، ويشرب مصاً، ويتنفس ثلاثاً، ويقول: هو أهنأ وأمرأ وأبرأ (¬5). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 114) (¬2) حاشية الخرشي (1/ 139). (¬3) المجموع (1/ 55)، أسنى المطالب (1/ 37)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 57)، حاشية الجمل (1/ 117)، روضة الطالبين (1/ 56). (¬4) قال في كشاف القناع (1/ 73): " ويستاك عرضاً بالنسبة إلى الأسنان " ثم قال: " وفي الشرح إن استاك على لسانه أو حلقه فلا بأس أن يستاك طولاً ".الخ كلامه وانظر المغني ـ ابن قدامة (1/ 135). (¬5) المعجم الكبير (1/ 47) رقم 1242.

[الحديث ضعيف] (¬1). ¬

(¬1) في الإسناد: اليمان بن عدي قال البخاري: في حديثه نظر. التاريخ الكبير (8/ 425). وقال أبو حاتم الرازي: شيخ صدوق. الجرح والتعديل (9/ 311). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 464) وقال ابن عدي: لليمان أحاديث يروى عن الزبيدي وعن غيره من أهل حمص بأحاديث غرائب، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (7/ 181). وقال أحمد بن حنبل: ضعيف. تهذيب التهذيب (11/ 357). وقال الحاكم: ليس بالقوي عندهم. المرجع السابق. وقال الدارقطني: ضعيف. المرجع السابق. وفي التقريب: لين الحديث. وفي الإسناد أيضاً: ثبيت بن كثير ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/ 470). وضعفه الإمام أحمد، كما في البدر المنير (3/ 127). وقال ابن عدي في ترجمة يمان بن عدي: ثبيت غير معروف. الكامل (7/ 181). وقال ابن حبان: منكر الحديث على قلته، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد. المجروحين (1/ 208). ثم ذكره أيضاً في الثقات. (6/ 129). وضعفه الهيثمي في الزوائد (5/ 80)، وقال: فيه ثبيت بن كثير، وهو ضعيف. وفي الإسناد بهز. قال البغوي: لا أعلم روى بهز الا هذا وهو منكر. الإصابة (1/ 330). وقال البيهقي: إنما يعرف بهز بهذا الحديث. سنن البيهقي (1/ 40). وقال ابن عبد البر: لم يرو عن بهز غير سعيد، ولم ينسبه، وإسناد حديثه ليس بالقائم. ورواه ابن عدي في الكامل (7/ 181) ثنا محمد بن محمد بن سليمان، ثنا يحيى بن عثمان به. ورواه ابن حبان في المجروحين (1/ 208)، قال: حدثناه الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فيل البالسي بأنطاكية، ثنا يحيى بن عثمان الحمصي به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بيان الاختلاف في إسناد الحديث الحديث رواه يحيى بن عثمان، عن اليمان، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن بهز. ورواه عباد بن يوسف كما في البدر المنير (3/ 128) والإصابة (1/ 330) عن ثبيت به إلا أنه قال بدلاً من بهز، قال: عن القشيري. ورواه سليمان بن سلمة كما في البدر المنير (3/ 128) والإصابة (1/ 330)، عن اليمان بن عدي، فقال: عن ثبيت، عن يحيى، عن سعيد، عن معاوية القشيري. ومعاوية القشيري صحابي هو جد بهز بن حكيم. وعباد بن يوسف قال ابن عدي: عباد بن يوسف هذا روى عن أهل الشام، وهو شامي حمصي، وروى عن صفوان بن عمرو وغيره أحاديث ينفرد بها. الكامل (4/ 346). وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/ 88). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: عباد بن موسى (8/ 435). وقال عثمان بن صالح: ثنا إبراهيم بن العلاء ثنا عباد بن يوسف صاحب الكرابيس ثقة. تهذيب التهذيب (5/ 96). وفي التقريب: مقبول. يعني إن توبع. وفي الكاشف: صدوق يغرب. وأما سليمان بن سلمة: قال ابن أبي حاتم: سمع منه أبى ولم يحدث عنه، وسألته عنه، فقال: متروك الحديث لا يشتغل به. فذكرت ذلك لابن الجنيد، فقال: صدق كان يكذب ولا أحدث عنه بعد هذا. الجرح والتعديل (4/ 121). وقال النسائي: ليس بشيء. الضعفاء والمتروكين (253). وقال الخطيب: مشهور بالضعف. اللسان (3/ 93). ورواه البيهقي (1/ 40) والعقيلي في الضعفاء (3/ 229) من طريق علي بن ربيعة القرشي المدني، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن ربيعة بن أكثم به. فجعله من مسند ربيعة بدلاً من مسند بهز. وعلي بن ربيعة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: هو مثل يزيد بن عياض في الضعف. الجرح والتعديل (6/ 185). قال العقيلي: مجهول بالنقل، حديثه غير محفوظ، ولا يتابعه إلا من هو دونه. الضعفاء الكبير (3/ 229). وقال الحافظ في التلخيص: إسناده ضعيف جداً. قلت: مع ضعفه فقد ذكر البيهقي (1/ 40) بأن ربيعة بن أكثم قتل بخيبر، فلم يدركه سعيد. فتبين من هذا أن الحديث مع كونه ضعيفاً فيه اختلاف كثير على سعيد فمن دونه. فقيل: عن سعيد، عن بهز غير منسوب. وقيل: عن سعيد، عن القشيري. وقيل: عن سعيد، عن معاوية القشيري. وقيل: عن سعيد، عن ربيعة بن أكثم. وذكر ابن حجر في التلخيص (1/ 109): أن أبا نعيم رواه عن سعيد، عن بهز بن حكيم. فيكون معضلاً، وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر. وروى ابن الأثير في أسد الغابة (1/ 247) وابن مندة كما في تلخيص الحبير (1/ 109) وابن ححر في الإصابة (1/ 330) من مخيس بن تميم، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده. اهـ فلو كان الحديث ظاهره الصحة، وكان فيه هذا الاختلاف لوجب رده، فكيف وهو رواية ضعيف، عن مثله أو أضعف. وقد ذكره كثير ممن ألف في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإليك بعض من وقفت عليه منهم: المقاصد الحسنة (1/ 98). كشف الخفاء ومزيل الإلباس (1/ 338). الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة (1/ 16). الغماز على اللماز (1/ 5). النخبة البهية في الأحاديث المكذوبة على خير البرية (1/ 20). النوافح العطرة في الأحاديث المشتهرة (1/ 183). حسن الأثر، فيما فيه ضعف واختلاف من حديث وخبر (1/ 11). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = تمييز الطيب من الخبيث (1/ 21). الشذرة في الأحاديث المشتهرة (1/ 88). وله شاهد من حديث عائشة إلا أنه لا يفرح به، فهو ضعيف جداً. رواه أبو نعيم كما في البدر المنير (3/ 130) من طريق عبد الله بن حكيم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. قال الحافظ في التلخيص: وفي إسناده عبد الله بن حكيم، وهو متروك. قلت: عبد الله بن حكيم قال ابن أبي حاتم: ترك أبو زرعة حديثه، ولم يقرأه علينا، وقال: هو ضعيف. الجرح والتعديل (5/ 41). وقال أيضاً: سمعت أبى يقول: ضعيف الحديث. وقال مرة: ذاهب الحديث. المرجع السابق. قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت علياً يعنى ابن المديني يقول: ليس بشيء لا يكتب حديثه. تاريخ بغداد (9/ 446). وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كذاب. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين: ليس بثقة كما في رواية ابن أبي مريم عنه. المرجع السابق. وقال أحمد بن حنبل: بروي أحاديث منكرة، ليس بشيء. الميزان (3/ 277). قال فيه ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه. المجروحين (2/ 21). وقال الذهبي: واه، متهم بالوضع. المغني (1/ 335). وله شاهد آخر مرسل، وهو ضعيف أيضاً، فقد روى أبو داود في المراسيل (ص:74) رقم 5 ومن طريقه البيهقي (1/ 40) حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان، أخبرنا هشيم، عن محمد بن خالد القرشي، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا شربتم فاشربوا مصاً، وإذا استكتم فاستاكوا عرضاً. وهذا سند ضعيف، له ثلاث علل: العلة الأولى: كونه مرسلاً. قال أحمد بن حنبل: مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات النخعي لا بأس بها. وليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح؛ فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. وقال نحوه علي بن المديني. =

الدليل الثاني من النظر، قالوا: إن الاستياك طولاً مضر باللثة والأسنان، فهو يدمي اللثة، ويفسد منابت الأسنان. قلت: لم يثبت هذا، وإذا كان أحد يضره ذلك نهي عنه خاصة. لا أن يكون نهياً عاماً، ولذلك لا وجه لكونه مكروهاً - أعني السواك طولاً - كما ذكره النووي والخطيب عن بعض فقهاء الشافعية (¬1). فلم يثبت في ذلك سنة، وله أن يستاك بحسب ما يراه مناسباً داعياً للتطهير، فالمطلوب أن يستاك، فكيفما استاك حصلت السنة. وقال محمد نجيب المطيعي: " أطباء الأسنان يقولون: إن الاسيتاك الصحيح يكون طولاً: أي أعلى وأسفل؛ لأن الغشاء العاجي الأملس الذي يكسو الأسنان ينبغي المحافظة عليه، فالاستياك عرضاً يضر بهذا الغشاء، ¬

= تهذيب الكمال (20/ 83). العلة الثانية: عنعنة هشيم بن بشير، فإنه مدلس مكثر. العلة الثالثة: جهالة محمد بن خالد القرشي. ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (7/ 242). وقال ابن القطان الفاسي: لا يعرف. تهذيب التهذيب (9/ 128). وقال الحافظ: ذكره ابن حبان في الثقات، وسمى جده سلمة، وزعم أنه أخو عكرمة بن خالد، وقال: روى عنه عبد الله بن الأسود. قال الحافظ: لكن فرق بينهما البخاري وابن أبي حاتم، وهو الصواب. المرجع السابق. وقال الذهبي: لا يعرف حاله. الميزان (3/ 534). وقال الحافظ في التقريب: مجهول. (¬1) المجموع (2/ 334).

فيسرع إلى الأسنان الفساد " اهـ (¬1). فإن ثبت هذا طبياً، فإن الاستياك عرضاً يكون منهياً عنه. وقد وصف بعض الأطباء طريقة التسوك بما يلي: " يجب أن تطبق باتجاه رأسي لمحور السن واللثة مما يساعد على تنشيط الدورة الدموية في اللثة، والتنظيف الفعال للأسنان دون أن يحدث أذى لهما. فيجب - والوجوب ليس في اصطلاح الشرع - أن يكون تسويك الأسنان العلوية على حدة، وكذلك الأسنان السفلية. أما اتجاه حركة التسويك لتنظيف الاسطح الخارجية والداخلية للأسنان العلوية فيجب أن يكون من أعلى إلى أسفل نحو الاسطح الماضغة والقاطعة للأسنان وتكون حركة التنظيف شاملة حواف اللثة لتدليكها، فيزداد تقرنها والوارد الدموي لانسجتها فتزداد مقاومتها للأمراض وحيويتها أيضاً. وأما اتجاه حركة التنظيف للأسنان السفلية فيجب أن تكون من أسفل إلى أعلى، وشاملة حواف اللثة أيضاً. وأما الدليل على مشروعية الاستياك في اللسان، وأنه يستاك طولاً فمنها: (743 - 79) الدليل الأول: ما رواه أحمد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا حماد بن زيد، ثنا غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يستاك، وهو واضع طرف السواك على لسانه يستن إلى فوق. فوصف حماد كأنه يرفع سواكه. قال حماد: ووصفه لنا غيلان قال: كان يستن طولا [الحديث صحيح] (¬2). ¬

(¬1) حاشية المجموع شرح المهذب (1/ 313). (¬2) والحديث أخرجه البخاري (244)، ومن طريقه البغوي في شرح السنة (203) =

وجه الاستدلال: قول الراوي: " والسواك على طرف لسانه " قال الحافظ: والمراد: طرفه الداخل، كما عند أحمد: " يستن إلى فوق ". ولهذا قال هنا: " كأنه يتهوع. والتهوع: التقيؤ. أي له صوت كصوت المتقيء على سبيل المبالغة (¬1). وقال في التلخيص: " وأما اللسان فيستاك طولاً، كما في حديث أبي موسى في الصحيحين، ولفظ أحمد: " وطرف السواك على لسانه يستن إلى فوق " قال الراوي: كان يستن طولاً " اهـ (¬2). ¬

= حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا: حماد بن زيد، عن غيلان به. بلفظ: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يستن بسواك بيده، يقول: أع أع. والسواك في فيه، وكأنه يتهوع. وأخرجه مسلم (254) حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا حماد بن زيد به، بلفظ: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطرف السواك على لسانه. ورواه أبو داود (49) قال: حدثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي، قالا: حدثنا حماد بن زيد به. قال مسدد، قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نستحمله فرأيته يستاك على لسانه. قال أبو داود: وقال سليمان، قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يستاك وقد وضع السواك على طرف لسانه وهو يقول إه إه يعني يتهوع. قال أبوداود: قال مسدد: فكان حديثا طويلا ولكني اختصرته. وأخرجه النسائي في المجتبى (3) وفي الكبرى (3) أخبرنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: أخبرنا حماد بن زيد به. وأخرجه ابن حبان (1073) وابن خزيمة (141) من طريق أحمد بن عبدة الضبي، قال: أخبرنا حماد به. بمثل ما تقدم، إلا أنه قال: " عأ عأ " بتقديم العين على الألف. (¬1) فتح الباري، في شرحه لحديث (244). (¬2) تلخيص الحبير (1/ 109).

الدليل الثاني: من حيث النظر، قال ابن دقيق العيد: " العلة التي تقتضي الاستياك على الأسنان موجودة في اللسان، بل هي أبلغ وأقوى؛ لما يرتقي إليه من أبخرة المعدة" (¬1). ¬

(¬1) إحكام الأحكام (1/ 111).

الفصل الثاني هل يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن أو الأيسر

الفصل الثاني هل يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن أو الأيسر استحب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، أن يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن، ولم أقف فيه على خلاف. الدليل على أن المستوك يبدأ بالجانب الأيمن. الدليل الأول: (744 - 80) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله (¬5). الدليل الثاني: ثبت أن السواك من باب التطهير والتطيب، لا من باب إزالة القاذورات، والدليل على ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتسوك عند أصحابه ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 113)، الجوهرة النيرة (1/ 6)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 10)، البحر الرائق (1/ 21). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 102)، مواهب الجليل (1/ 265). (¬3) المجموع (1/ 336)، طرح التثريب (2/ 70)، تحفة المحتاج (1/ 215)، مغني المحتاج (1/ 183). (¬4) مطالب أولي النهى (1/ 83)، الفروع (1/ 128)، الإنصاف (1/ 128)، أسنى المطالب (1/ 37)،. (¬5) صحيح البخاري (168). ورواه مسلم بنحوه (268).

الدليل الثالث

كما في حديث أبي موسى المتقدم في الصحيحين (¬1)، وإذا كان كذلك استحب البداءة بالجانب الأيمن من الفم. الدليل الثالث: القياس على الوضوء، فكما أنه يستحب البداءة بالوضوء باليمين، فكذلك هنا قياساً عليه، والجامع بينهما علة التطهير، فالوضوء فيه طهارة حسية ومعنوية، والسواك يشاركه في الطهارة الحسية (¬2). الدليل الرابع: (745 - 81) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب التيمن ما استطاع في طهوره وترجله ونعله وسواكه. [زيادة "وسواكه" شاذة، والحديث في الصحيحين، وليست فيه زيادة وسواكه] (¬3). ¬

(¬1) سبق ذكره، وقد رواه البخاري (244)، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يستن بسواك بيده يقول أع أع، والسواك في فيه كأنه يتهوع. (¬2) ذكر النووي القياس دليلاً في المجموع (1/ 336). (¬3) انفرد مسلم بن إبراهيم، عن شعبة بذكر السواك، وقد رواه جماعة من الحفاظ عن شعبة، ولم يذكروا: هذه الزيادة. الأول: أبو داود الطيالسي، كما في مسنده (1410)، ومسند أبي عوانة (1/ 222). الثاني: بهز عند أحمد (6/ 94). الثالث: عفان. كما في مسند أحمد (6/ 130)، ومسند أبي عوانة (1/ 222). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الرابع: محمد بن جعفر، كما في المسند (6/ 147). الخامس: يحيى بن سعيد القطان، كما في المسند (6/ 202). السادس: حفص بن عمر. كما في البخاري (168)، وسنن أبي داود (4140). السابع: سليمان بن حرب. كما في البخاري (426)، وشعب الإيمان للبيهقي (5/ 179). الثامن: عبد الله بن المبارك. كما في صحيح البخاري (5380)، وسنن النسائي (421). التاسع: حجاج بن منهال. البخاري (5854). العاشر: أبو الوليد. كما في صحيح البخاري (5926)، وسنن البيهقي (1/ 86). الحادي عشر: معاذ. كما في صحيح مسلم (268). الثاني عشر: خالد بن الحارث، كما في سنن النسائي الكبرى (9320)، وصحيح ابن حبان (1091). الثالث عشر: بشر بن عمر، كما في مسند أبي عوانة (1/ 222)، وسنن البيهقي (1/ 216). الرابع عشر: أبو عمر الحوضي، كما في سنن البيهقي (1/ 216). الخامس عشر: عبد الرحمن بن مهدي: كما في مسند أحمد (6/ 187). السادس عشر: النضر بن شميل، كما في مسند إسحاق بن راهوية (3/ 821) رقم 1463. فهؤلاء ستة عشر حافظاً، رووه عن شعبة، ولم يذكروا ما ذكره مسلم بن إبراهيم من زيادة وسواكه، فيبعد أن تكون محفوظة، ثم لا يرويها هذا العدد الكثير ممن روى الحديث عن شعبة.

الفصل الثالث هل يستاك بيده اليمنى أم اليسرى

الفصل الثالث هل يستاك بيده اليمنى أم اليسرى اختلف الفقهاء هل المتسحب أن يمسك السواك بيده اليمنى أم اليسرى على أقوال: فقيل: يمسكه بيده اليمنى وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، واختاره جماعة من الشافعية (¬3)، وبعض الحنابلة (¬4). وقيل: التسوك باليد اليسرى أفضل. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، واختاره بعض الحنفية (¬6)، ورجحه ¬

(¬1) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 10)، البحر الرائق (1/ 21)، الفتاوى الهندية (1/ 8)، حاشية ابن عابدين (1/ 114). (¬2) مواهب الجليل (1/ 265)، الخرشي (1/ 138،139)، الشرح الصغير (1/ 124)، حاشية الدسوقي (1/ 102). (¬3) أسنى المطالب (1/ 37)، مغني المحتاج (1/ 183) (¬4) قال في الإنصاف (1/ 128): " قال المجد في شرحه السنة إرصاد اليمنى للوضوء والسواك والأكل ونحو ذلك، وقدمه في تجريد العناية، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب. قال ابن رجب في شرح البخاري: وهو ظاهر كلام ابن بطة من المتقدمين، وصرح به طائفة من المتأخرين " اهـ. (¬5) كشاف القناع (1/ 73)، وقال في الفروع (1/ 128): " ويستاك بيساره. نقله حرب قال شيخنا ـ يعني ابن تيمية ـ: ما علمت إماماً خالف فيه كانتثاره " اهـ. وانظر الإنصاف (1/ 128). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 114).

دليل من قال يمسك السواك باليد اليمنى

العراقي (¬1). وقيل: يكره بالشمال (¬2). وقيل: إن تسوك لتغير الفم فيكون تسوكه باليسار، وإن تسوك لتحصيل السنة، كما لو كان الفم نظيفاً يكون باليمين (¬3). وهذا الخلاف مبني على أن السواك هل هو من باب التطهير والتطيب، أو من باب إزالة القاذورات؟ فإن جعلناه من باب التطهير والتطيب، استحب أن يكون باليمين كالمضمضة، وإن جعلناه من باب إزالة الأذى والقاذورات جعلناه باليسرى، كالاستنجاء. دليل من قال يمسك السواك باليد اليمنى. الدليل الأول: هذا الدليل مبني على مقدمة، ونتيجة: المقدمة: أن السواك من باب التطهير والتطيب. والنتيجة: ما كان كذلك، فإنه تستعمل فيه اليد اليمنى. أما دليل المقدمة الأولى، وهو كون السواك من باب التطهير والتطيب، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تسوك أمام رعيته، كما في حديث أبي موسى في الصحيحين، (¬4) ولو كان من باب إزلة القاذورات لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ¬

(¬1) طرح التثريب (2/ 71). (¬2) مواهب الجليل (1/ 265). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 114)، ومغني المحتاج (1/ 183،184). (¬4) الحديث رواه البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا: حماد بن زيد، عن =

يتوارى عن الناس. ولأن الفم، وما فيه ليس نجساً حتى يلحق بالاستنجاء، بل إن مخاط المسلم وعرقه وريقه طاهر بالإجماع، وإذا كان طاهراً فهو من باب التطهير والتطيب كالوضوء يقدم فيه اليمين، ويباشره باليمين، وكالمضمضة، فيها تطهير للفم، وتباشر باليمين. هذا دليل المقدمة الأولى. وهو كون السواك من باب التطهير. وأما الدليل على النتيجة، وهو أن ما كان من باب التطهير فيقدم فيه اليمين. ففيه دليلان: نص، وقياس. (746 - 82) أما النص، فقد روى أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى. قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه [إسناده منقطع] (¬1). ¬

= غيلان به. بلفظ: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يستن بسواك بيده، يقول: أع أع. والسواك في فيه، وكأنه يتهوع .. ورواه مسلم بنحوه، وسبق تخريجه. (¬1) دراسة الإسناد: عبد الوهاب بن عطاء، وإن كان في التقريب: صدوق ربما وهم، إلا أنه من أصحاب سعيد المكثرين عنه، وممن سمع من سعيد قبل اختلاطه. قال الأثرم عن أحمد: كان عالماً بعطاء. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرج مسلم حديث سعيد من طريق عبد الوهاب بن عطاء. فهذا دليل على أنه ثقة فيه. وقال ابن عدي: أرواهم عنه ـ أي عن سعيد بن عبد الأعلى السامي، والبعض منها عن شعيب، وعبدة بن سليمان، وعبد الوهاب الخفاف. وقال الذهبي: روى الخفاف كل مصنفات سعيد بن أبي عروبة. الميزان (2/ 153). وباقي الإسناد رجاله ثقات. تخريج الحديث: الحديث رواه أيضاً أبو داود (34) حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء به. ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 113) من طريق عبد الله بن محمد بن الحسن بن الشرقي، ثنا محمد بن بزيع به. ورواه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 77) رقم 5840، من طريق يحيى بن جعفر، أنا عبد الوهاب به. بيان الاختلاف على سعيد بن أبي عروبة رواه عبد الوهاب،، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة على الاتصال كما سبق. وخالف محمد بن جعفر وعيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان، ثلاثتهم خالفوا عبد الوهاب، فرووه عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن عائشة. وإبراهيم النخعي لم يسمع من عائشة. وإليك تخريج رواياتهم فقد رواه أحمد (6/ 265) ثنا محمد بن جعفر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن عائشة، قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليسرى لخلائه، وما كان من أذى، وكانت اليمنى لوضوئه ولمطعمه. ورواه إسحاق بن راهوية (1639) أخبرنا عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن عائشة به. وأخرجه أبو داود (33) حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثني عيسى بن يونس عن ابن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة به. ومن طريق أبي داود أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 113). وتابعهم مغيرة بن مقسم، فقد رواه أحمد (6/ 170) حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن إبراهيم، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفرغ يمينه لمطعمه ولحاجته، ويفرغ شماله للاستنجاء ولما هناك. وهذا إسناد حسن، وعنعنة مغيرة زالت بالمتابعة، فقد تابعه ثلاثة حفاظ كما سبق. وعيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان كلاهما رويا عن سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط. بل قال يحيى بن معين: أثبت الناس سماعاً منه ـ يعني من سعيد بن أبي عروبة ـ عبدة بن سليمان. علوم الحديث (ص: 353). واختلف في سماع محمد بن جعفر هل سمع من سعيد قبل اختلاطه أم بعد؟ فذهب عبد الرحمن بن مهدي كما في شرح علل الترمذي أن محمد بن جعفر سمع من سعيد بن أبي عروبة بعد الاختلاط. وخالفه عمرو بن الفلاس، فقال: سمعت غندراً يقول: ما أتيت شعبة حتى فرغت من سعيد، يعني أنه سمع منه قديماً، وأياً كان فقد تابعه عيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان، ومغيرة بن مقسم. ورواه ابن أبي عدي، وخالف فيه جميع من سبق. فروه أحمد (6/ 265) قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن رجل، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن عائشة. فزاد ابن أبي عدي رجلاً بين سعيد بن أبي عروبة، وبين أبي معشر. وقد قال أحمد: ابن أبي عدي جاء إلى ابن أبي عروبة بآخرة. يعني: وهو مختلط. نقله محقق كتاب الكواكب النيرات (ص: 211) من شرح علل الترمذي (ل 327) (ل 328). فالراجح أن الحديث من رواية إبراهيم، عن عائشة، ولم يسمع منها، وذكر الأسود شاذ في الحديث. والله أعلم. وله شاهد من حديث حفصة، إلا أنه مضطرب والله أعلم. رواه أحمد (6/ 287) قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عاصم، عن المسيب، عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ مضجعه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وكانت يمينه لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه، وكانت شماله لما سوى ذلك، وكان يصوم الاثنين والخميس. ورواه عبد بن حميد، كما في المنتخب (1545) حدثني ابن أبي شيبة، ثنا حسين =

(747 - 83) ونص آخر، رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله (¬1). ¬

= بن علي، عن زائدة به. وهذا إسناد منقطع، لأن المسيب بن رافع لم يسمع من حفصة. وقد اختلف على عاصم بن بهدلة، فرواه حسين بن علي، عن عاصم بن بهدلة، عن المسيب، عن حفصة كما تقدم على الانقطاع. ورواه حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدله، عن سواء الخزاعي، عن حفصة كما في مسند أحمد (6/ 287) قال: ثنا أبو كامل، قال: ثنا حماد يعنى بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن سواء الخزاعي، عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، يوم الإثنين ويوم الخميس، ويوم الإثنين من الجمعة الأخرى. ورواه أبو أيوب الإفريقي، عن عاصم، عن المسيب بن رافع ومعبد، عن حارثة بن وهب الخزاعي، عن حفصة، فجعل بين المسيب، وحفصة الحارثة بن وهب الخزاعي. رواه أبو داود (32)، قال: حدثنا محمد بن آدم بن سليمان المصيصي، حدثنا ابن أبي زائدة، قال حدثني أبو أيوب يعني الإفريقي، عن عاصم، عن المسيب بن رافع ومعبد، عن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: حدثتني حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك. وأخرجه أبو يعلى (7042) وابن حبان (5227) من طريق عبد الله بن عامر بن زرارة الكوفي، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبي أيوب به. وأخرجه أبو يعلى أيضاً (7060) من طريق معلى بن منصور، حدثنا ابن أبي زائدة به. وأخرجه الطبراني في الكبير (23/ 203) رقم 346 من طريق سهل بن عثمان، ثنا يحيى ابن زكريا بن أبي زائدة به. والحديث ضعيف، لاضطراب إسناده. والله أعلم. (¬1) صحيح البخاري (168). ورواه مسلم بنحوه (268).

الدليل الثاني

واعترض على الاستدلال بحديث عائشة، قال العراقي: " ليس فيه دلالة على ما ذهب إليه، فإن المراد منه البداءة بالشق الأيمن في الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى في التطهر، والبداءة بالجانب الأيمن من الفم في الاستياك " اهـ (¬1). وأما القياس: فقاسوه على المضمضة، فإذا كانت المضمضة فيها تطهير للفم، ومع ذلك استعملت في ذلك اليمين، فكذلك السواك (¬2). الدليل الثاني: قالوا: إن السواك عبادة مقصودة تشرع عند القيام إلى الصلاة، وإن لم يكن هناك وسخ، وما كان عبادة مقصودة كان باليمين. دليل من قال يتسوك بيده اليسرى. قال ابن تيمية: الاستياك من باب إماطة الأذى، فهو كالاستنثار والامتخاط، ونحو ذلك مما فيه إزالة الأذى، وذلك باليسرى، كما أن إزالة النجاسات كالاستجمار ونحوه باليسرى، وإزالة الأذى واجبها ومستحبها باليسرى. والأفعال نوعان: أحدهما مشترك بين العضوين، والثاني: مختص بأحدهما. وقد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمين إذا كانت من باب الكرامة: كالوضوء، والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال، والترجل، ودخول المسجد. والذي يختص بأحدهما إن كان من باب الكرامة كان باليمين كالأكل ¬

(¬1) طرح التثريب (2/ 71). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 114).

والشرب والمصافحة، ومناولة الكتب وتناولها، ونحو ذلك. وإن كان ضد ذلك كان باليسرى، كالاستجمار، ومس الذكر والاستنثار والامتخاط، ونحو ذلك. فإن قيل: السواك عبادة مقصودة تشرع عند القيام إلى الصلاة وإن لم يكن هناك وسخ، وما كان عبادة مقصودة كان باليمين. قيل: كل من المقدمتين ممنوع. فإن الاستياك إنما شرع لإزالة ما في داخل الفم، وهذه العلة متفق عليها بين العلماء، ولهذا شرع عند الأسباب المغيرة له، كالنوم والإغماء، وعند العبادة التي يشرع لها تطهير كالصلاة والقراءة، ولما كان الفم في مظنة التغير شرع عند القيام إلى الصلاة، كما شرع غسل اليدين للمتوضيء قبل وضوئه، لأنها آلة لصب الماء. وقد تنازع العلماء فيما إذا تحقق نظافتها، هل يستحب غسلها؟ على قولين مشهورين. ثم قال: وقد يقال مثل ذلك في السواك إذا قيل باستحبابه مع نظافة الفم عند القيام إلى الصلاة، مع أن غسل اليد قبل المضمضة المقصود بها النظافة. فهذا توجيه المنع للمقدمة الأولى. وأما المنع للمقدمة الثانية: فإذا قدر أنه عبادة مقصودة، فما الدليل على أن ذلك مستحب باليمنى، وهذه مقدمة لا دليل عليها. بل قد يقال: إن العبادات تفعل بما يناسبها، ويقدم فيها ما يناسبها. ثم قول القائل: إن ذلك عبادة مقصودة، إن أراد به أن السواك تعبد محض، لا تعقل علته، فليس هذا بصواب؛ لاتفاق المسلمين على أن السواك معقول، ليس بمنزلة رمي الجمار. وإن أراد أنها مقصودة، أنه لا بد فيها من النية كالطهارة، وأنها مشروعة مع تيقن النظافة، ونحو ذلك، فهذا الوصف إن سلم لم يكن في ذلك ما يوجب كونها باليمنى؛ إذ لا دليل على ذلك. أرأيت إلى الاستنجاء بالثلاث عند من

دليل من قال إن قصد به العبادة فباليمنى، وإن قصد النظافة فباليسرى

يوجبه كأحمد والشافعي، فإنهم يوجبون الحجر الثالث مع حصول الإنقاء بدونه، فالاستجمار بالحجر الثالث يكون باليسرى، وإن كان المحل نظيفاً، والغسلة السابعة من ولوغ الكلب تكون باليسرى وإن حصلت الإزالة بما دونه، ونحو ذلك مما كان المقصود به إزالة الأذى، فكذلك إماطة الأذى من الفم مقصودة بالسواك، وإن شرع مع عدمه، وذلك لا ينافي أن يكون باليسرى اهـ (¬1). دليل من قال إن قصد به العبادة فباليمنى، وإن قصد النظافة فباليسرى هذا القول جمع بين أدلة القول الأول، وبين أدلة القول الثاني. ورأى أن السواك تارة يكون من باب التطييب والتطهر، فهنا يستاك باليمنى، وتارة يكون السواك من باب إزالة القاذورات، فيكون باليسرى. وهذا القول فيه جمع بين أدلة الفريقين. وأما من قال: بالكراهة، فلا أعلم له دليلاً، وهو أضعف الأقوال، لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، وعلى القول بأن التسوك باليمنى سنة، أو العكس، لا يلزم من ترك السنة الوقوع في المكروه. والمسألة ليس فيها نص واضح، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتسوك، ولم يأمر بأن يكون السواك باليمين أو بالشمال، وكل من قال قولاً في ذلك اجتهد في قياس المسألة على نظائر أخرى. وقول شيخ الإسلام له قوة، إلا أن القول الأول أقوى، والأمر في المسألة واسع. والله أعلم. ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوى (21/ 108) بتصرف يسير في آخر كلامه.

الفصل الرابع في كيفية أخذ السواك

الفصل الرابع في كيفية أخذ السواك اختلف الفقهاء في كيفية أخذ السواك والمشهور عند الحنفية في كيفية أخذ السواك أن يجعل الخنصر أسفله، والإبهام أسفل رأسه، وباقي الأصابع فوقه (¬1) واختارها من الشافعية البجيرمي (¬2). وذكروا أن ذلك مروي عن ابن مسعود رضي الله عنه (¬3)، وقيل: بل يجعل خنصره وإبهامه تحته، والأصابع الثلاثة الباقية فوقه. اختاره بعض المالكية (¬4)، والشافعية (¬5). ولا أعلم في الشرع ثبوت هذه الصفة، ولم يرد شيء فيما أعلم في كيفية أخذه، فكيفما أخذه صح ذلك، والمطلوب، هو التسوك في الأسنان، فأي طريقة حصل فيها التسوك، حصل المقصود. والفقهاء رحمهم الله يتوسعون في المستحبات والمكروهات، ولو لم يكن هناك دليل على ذلك من السنة. والله المستعان. ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 114)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 10)، البحر الرائق (1/ 21)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 13). (¬2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 122). (¬3) لم أقف عليه في كتب الحديث. والله أعلم، وقد نسبته كتب الحنفية، انظر الإحالة السابقة. (¬4) الشرح الصغير (1/ 124). (¬5) تحفة المحتاج (1/ 221)، حاشية الجمل (1/ 118)، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/ 59).

الفصل الخامس الكلام في قبض السواك

الفصل الخامس الكلام في قبض السواك كره بعض الفقهاء قبض السواك (¬1) دليل الكراهة. قالوا: إن قبض السواك يورث الباسور. ولا دليل على الكراهة. ولا يعرف سبب شرعي، أو قدري بأن قبض السواك يمكن أن يورث الباسور، والكراهة كما قدمنا حكم شرعي، لا يقال إلا بناء على دليل شرعي صحيح، مأثور أو معقول. ولا يتوفر هذا هنا، ولو صح أنه يورث الباسور لم يكن حكمه الكراهة فقط، بل يكون حكمه التحريم؛ لأن تعاطي ما يضر بالبدن محرم شرعاً. ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 114)، ودرر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 10)، والبحر الرائق (1/ 21)، مجمع الأنهر (1/ 13)، حاشية الدسوقي (1/ 102)، وتحفة الحبيب (1/ 122)، وحاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 122).

الفصل السادس في موضع السواك من الرجل

الفصل السادس في موضع السواك من الرجل استحب بعض الفقهاء أن يوضع السواك خلف الأذن (¬1). الدليل على استحبابه. (748 - 84) ما رواه البيهقي، قال: أنبأ أبو الحسين علي بن أحمد بن عبدان، أنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا الحضرمي، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله قال: كان السواك من أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - موضع القلم من أذن الكاتب. قال أبو القاسم رواه عن ابن إسحاق سفيان، ولم يروه عن سفيان إلا يحيى. [الحديث معلول] (¬2). ¬

(¬1) حاشية الجمل (1/ 119)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 59). (¬2) سنن البيهقي (1/ 37). ورواه تمام الرازي في الفوائد (2/ 220) 1579 من طريق أحمد بن النعمان، ثنا يحيى بن اليمان به. ورواه ابن عدي في الكامل (7/ 236) من طريق عمر بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن يمان به. وقد اختلف على ابن إسحاق، فرواه يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله قال: كان السواك من أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - موضع القلم من أذن الكاتب. ورواه أحمد (4/ 116) حدثنا محمد بن فضيل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، قال: فكان زيد بن خلد الجهني يضع السواك منه موضع القلم من أذن الكاتب، كلما قام إلى الصلاة استن. اهـ تفرد بهذه الزيادة محمد بن إسحاق، وقد عنعن. وسبق تخريجه مع حديث أبي هريرة، فارجع إليه، فاختلط الحديث على يحيى بن يمان، فظنه من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من فعل زيد بن خالد الجهني. هذا إن ثبت عنه. وقد قال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 55): " سئل أبو زرعة عن حديث رواه عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن يمان، عن سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن جابر، فذكر الحديث. قال أبو زرعة: وهذا وهم، وهم فيه يحيى بن يمان. وقال البيهقي (1/ 37): يحيى بن يمان ليس بالقوي عندهم، ويشبه أن يكون غلطاً من حديث محمد بن إسحاق الأول ـ يعني كونه من فعل زيد بن خالد ـ إلى هذا " اهـ. ويحيى بن يمان: قال فيه أبو حاتم الرازي: مضطرب الحديث، في حديثه بعض الصنعة ومحله الصدق. الجرح والتعديل (9/ 199). وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. الضعفاء الكبير (4/ 433). قال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: فيحيى بن يمان في الثوري؟ قال: أرجو أن يكون صدوقاً. قلت كيف هو في حديثه؟ قال: ليس بالقوي. المرجع السابق. قال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، عن يحيى بن معين: ليس بثبت، لم يكن يبالي أي شيء حدث، كان يتوهم الحديث. تهذيب الكمال (32/ 55). وقال الدوري: سئل يحيى بن معين عن يحيى بن يمان، فقال: لا يشبه حديثه عن الثوري أحاديث غيره عن الثوري. وذكر لوكيع حديثه عن الثوري فقال وكيع كأن هذا ليس سفيان الذي سمعنا نحن منه. الجرح والتعديل (9/ 199). وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: يحيى بن يمان ثقة. المرجع السابق. وكان محمد بن عبد الله بن نمير يضعف يحيى بن يمان، ويقول: كأن حديثه خيال. المرجع السابق. وقال العجلي: يحيى بن يمان العجلي من كبار أصحاب الثوري، وكان ثقة جائز الحديث متعبداً معروفاً بالحديث صدوقاً إلا أنه فلج بآخره فتغير حفظه، وكان فقيراً صبوراً. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (749 - 85) ما رواه أحمد بن منيع، قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن العلاء بن كثير، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوثقون مساويكهم في ذوائب سيوفهم (¬1). [الحديث ضعيف جداً] (¬2). ¬

= معرفة الثقات (2/ 360). (¬1) المطالب العالية (65). (¬2) فيه يوسف بن عطية، والعلاء بن كثير، وهما متروكان. وإليك ترجمة كل واحد منهما. أولاً: ترجمة يوسف بن عطية. قال يحيى بن معين: يوسف بن عطية ليس بشيء، كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (9/ 226). وقال عمرو بن على: كثير الوهم والخطأ. المرجع السابق. زاد ابن عدي عنه: سمعته يقول: ثنا قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير الناس قرني، فكان يهم وما علمته كان يكذب، وقد كتبت عنه، وانما رواه قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين. الكامل (7/ 152). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى وأبا زرعة عن يوسف بن عطية أبى سهل الصفار، فقال: ضعيف الحديث. وقال عبد الرحمن: سمعت أبى يقول هو منكر الحديث. الجرح والتعديل (9/ 226). وقال ابن عدي: عامة حديثه مما لا يتابع عليه. الكامل (7/ 152). وقال النسائي: متروك الحديث، بصري. الضعفاء والمتروكين (617). وزاد في التهذيب: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (11/ 367). وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (8/ 387). وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد، ويلزق المتون الموضوعة بالأسانيد الصحيحة، =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (750 - 86) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا أبو خالد ¬

_ = ويحدث بها، لا يجوز الاحتجاج به بحال. المجروحين (3/ 134). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 455). وقال الجوزجاني: لا نحمد حديثه. التهذيب (11/ 367). وقال أبو داود: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال الساجي: ضعيف الحديث وكان صدوقاً يهم، كان يغير أحاديث ثابت عن الشيوخ، فيجعلها عن أنس. المرجع السابق. وقال الدارقطني: ضعيف الحديث. وقال أيضا: متروك المرجع السابق. وأما العلاء بن كثير فقد جاء في ترجمته: قال أبو زرعة: ضعيف الحديث، واهي الحديث. الجرح والتعديل (6/ 360). وقال أبو حاتم الرزاي: هو ضعيف الحديث، منكر الحديث. المرجع السابق. وقال البخاري: العلاء بن كثير، عن مكحول منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/ 520)، الكامل (5/ 219)، ضعفاء العقيلي (3/ 347). والمنقول في تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب: منكر الحديث، ولم يقيد بمكحول. وقال علي بن المديني: ضعيف الحديث جداً. الكامل (5/ 219). وقال أحمد: ليس بشيء، كما في رواية حنبل بن إسحاق. تهذيب الكمال (22/ 535). وقال النسائي: متروك. تهذيب التهذيب (8/ 170). وقال ابن عدي: وللعلاء بن كثير، عن مكحول، عن الصحابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نسخ كلها غير محفوظة، وهو منكر الحديث. الكامل (5/ 219). وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات، عن الأثبات، لا يحل الاحتجاج به، وإن وافق الثقات. المجروحين (2/ 181). وقال الدارقطني: ضعيف. سنن الدارقطني (2/ 218). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 347).

الأحمر، عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، أن عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يروحون، والسواك على آذانهم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 196). (¬2) فيه إسامة بن زيد الليثي. قال أحمد بن حنبل: ترك يحيى بن سعيد حديث أسامة بن زيد بأخرة. الجرح والتعديل (2/ 284). وقال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: قال أبى: روى أسامة بن زيد، عن نافع أحاديث مناكير. قلت له: إن أسامة حسن الحديث، فقال: إن تدبرت حديثه، فستعرف النكرة فيها. المرجع السابق. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد - يسأل عن أسامة بن زيد، فقال: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين كما في رواية الدوري عنه: أسامة بن زيد الليثي، هو الذي روى عنه جعفر بن عون، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، ومعن بن عيسى، وهو ثقة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: أسامة بن زيد الليثي يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/ 17). وقال ابن عدي: أسامة بن زيد كما قال يحيى بن معين، ليس بحديثه ولا برواياته بأس، وهو خير من أسامة بن زيد بن أسلم بكثير. الكامل (1/ 394). وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/ 217). وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (1/ 183). وقال الآجري، عن أبي داود: صالح إلا أن يحيى يعني ابن سعيد أمسك عنه بآخرة. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الدارقطني: لما سمع يحيى القطان أنه حدث، عن عطاء، عن جابر رفعه: أيام مني كلها منحر. قال إشهدوا أني قد تركت حديثه. قال الدارقطني: فمن أجل هذا تركه البخاري. المرجع السابق. وقال الحاكم في المدخل: روى له مسلم واستدللت بكثرة روايته له على أنه عنده صحيح الكتاب، على أن أكثر تلك الأحاديث مستشهد بها، أو هو مقرون في الإسناد. المرجع السابق. وقال ابن القطان الفاسي: لم يحتج به مسلم، إنما أخرج له استشهاداً. المرجع السابق. وقال بن حبان في الثقات: يخطئ، كان يحيى القطان يسكت عنه. الثقات (6/ 74).

الفصل السابع في الاستياك حال الاضطجاع

الفصل السابع في الاستياك حال الاضطجاع كره بعض الفقهاء: الاستياك مضطجعاً (¬1). وعللوا ذلك بأنه يورث كبر الطحال. وما قلناه في مسألة قبض السواك نقوله هنا. ولا ينبغي أن يقال: بالاستحباب، أو بالكراهة إلا أن يكون في ذلك دليل من الشرع؛ لأن الكراهة حكم شرعي، يفتقر إلى دليل شرعي. ولو صح من جهة الطب لقلت بالتحريم. ولكن مثل ذلك لا يصح. (751 - 87) وقد روى ابن أبي شيبة، في مصنفه، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حرام بن عثمان، عن أبي عتيق، عن جابر، قال: كان يستاك إذا أخذ مضجعه، وإذا قام من الليل، وإذا خرج إلى الصبح، قال: فقلت له: قد شققت على نفسك بهذا السواك، فقال: إن أسامة أخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستاك بهذا السواك. [الحديث ضعيف جدً] (¬2). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 114)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 10)، البحر الرائق (1/ 21)، الفتاوى الهندية (1/ 7). (¬2) فيه حرام بن عثمان. قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (3/ 101). وقال مالك: ليس بثقة. الجرح والتعديل (3/ 282). وقال الشافعي: الحديث عن حرام بن عثمان حرام. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: حرام بن عثمان منكر الحديث متروك الحديث. قال أبو زرعة: حرام بن عثمان ضعيف الحديث وأتى على حديث لحرام بن عثمان فقال اضربوا عليه ولم يقرأه علينا. المرجع السابق. وقال الحافظ في التلخيص: فيه حرام بن عثمان، وهو متروك (1/ 115).

الفصل الثامن أقل ما تحصل به السنة من الاستياك

الفصل الثامن أقل ما تحصل به السنة من الاستياك قيل: أقله ثلاث في الأعالي، وثلاث في الأسافل (¬1). وقيل: أقله مرة إلا إن كان للتغير، فلا بد من إزالته فيما يظهر. ويحتمل الاكتفاء بها فيه؛ لأنها مخففة (¬2). دليل من قال: أقله ثلاث. قاسوه على الاستنجاء بالأحجار، قالوا فإذا كان الإنسان مأموراً بالاستنجاء أن يستنجي بثلاثة أحجار فكذلك هنا. (752 - 88) فقد روى مسلم رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش ومنصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم حتى يعلمكم الخراءة، فقال: أجل إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القبلة، ونهى عن الروث والعظام وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار (¬3). قال ابن عابدين: " لو حصل بأقل من ثلاث فالمستحب إكمالها كما قالوا في الاستنجاء. ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 114). (¬2) حاشية البجيرمي على المنهج (1/ 73). (¬3) صحيح مسلم (262).

دليل من قال يحصل بمرة

دليل من قال يحصل بمرة. قالوا: إن الإنسان أمر بالسواك، ولم يرد فيه تقدير فالامتثال يحصل بالمرة الواحدة. وهذا أقوى. ولو قيل: إن كان السواك لتحصيل السنة، والفم نظيف، فيكفي فيه مرة واحدة، وإن كان السواك لتغير الفم، واصفرار الأسنان، فإنه يستاك حتى يطمئن قلبه بزوال النكهة واصفرار الأسنان، وله من الأجر بقدر ما يخفف التغير وإن لم يزله بالمرة. والله أعلم.

الفصل التاسع هل يحتاج المتسوك إلى نية

الفصل التاسع هل يحتاج المتسوك إلى نية ذهب بعض الفقهاء إلى أن السواك يحتاج إلى نية إن كان مستقلاً، فإن كان في ضمن عبادة كالوضوء فنية الوضوء تشمله (¬1). دليلهم على أن السواك يحتاج إلى نية. (753 - 89) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬2). والراجح أن السواك لا يحتاج إلى نية، والخلاف في هذه المسألة ينبني على هل السواك من باب إزالة القاذورات، فلا يحتاج فيه إلى نية، أو من باب فعل العبادات، وتحصيل السنة فيحتاج فيه إلى نية، حتى تتميز العبادة عن العادة. ولو قيل: تارة يكون السواك لتحصيل السنة، كالسواك للصلاة، ولو ¬

(¬1) أسنى المطالب (1/ 36)، تحفة المحتاج (1/ 221)، مغني المحتاج (1/ 184)، حاشيتا قليوبي وعميرة: (1/ 58). (¬2) صحيح البخاري (6689) ومسلم (1907).

كان الفم نظيفاً، فيحتاج إلى نية، وتارة يكون السواك من باب إزالة القاذورات، كما لو تسوك من أجل تغير فمه، فهنا لا يحتاج إلى نية، فإذا زال التغير أثيب عليه، ولو لم ينو. والله أعلم.

فوائد متفرقة متممة لبحوث السواك

فوائد متفرقة متممة لبحوث السواك ويشتمل على ستة عشر فائدة الفائدة الأولى استحباب غسل السواك الفائدة الثانية إباحة التسوك بسواك الغير الفائدة الثالثة إذا دفع السواك للغير يبدأ بالأكبر، وليس بالأيمن الفائدة الرابعة في بلع الريق عند ابتداء السواك الفائدة الخامسة في الدعاء عند السواك الفائدة السادسة في منافع السواك الفائدة السابعة العلك بالنسبة للمرأة الفائدة الثامنة التسوك والإمام يصلي الفائدة التاسعة في الوضوء من فضل السواك الفائدة العاشرة هل يستحب أن يكون السواك من شجر مر؟ الفائدة الحادية عشرة التسواك بطرف السواك الفائدة الثانية عشرة في التسوك بالقصب الفائدة الثالثة عشر تعويد الصبي على السواك الفائدة الرابعة عشرة في لقطة السواك الفائدة الخامسة عشرة يتسوك المحرم كما يتسوك الحلال الفائدة السادسة عشرة (*)

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: سيذكر المصنف - حفظه الله - في الصفحات التالية، 18 فائدة

الفائدة الأولى استحباب غسل السواك

الفائدة الأولى استحباب غسل السواك يستحب غسل السواك إذا احتاج إلى ذلك: (754 - 90) لما روى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا عنبسة بن سعيد الكوفي الحاسب، حدثني كثير، عن عائشة أنها قالت: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يستاك فيعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك ثم أغسله وأدفعه إليه (¬1). [إسناده فيه لين] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (52)، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 39). (¬2) تفرد به كثير بن عبيد، ولم يوثقه إلا ابن حبان. ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (7/ 155). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 330). وفي التقريب: مقبول. أي إن توبع، وإلا فحديثه فيه لين. ولم أقف له على متابع. وفيه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري قال أبو حاتم: صدوق ثقة. الجرح والتعديل (7/ 305). وقال مرة: لم أر من الأئمة إلا ثلاثة أحمد بن حنبل وسليمان بن داود الهاشمي ومحمد بن عبد الله الأنصاري. تهذيب التهذيب (9/ 244). وقال أبو داود: تغير تغيراً شديداً. المرجع السابق. وقال أحمد: ما كان يضع الأنصاري عند أصحاب الحديث إلا النظر في الرأي، وأما السماع فقد سمع، وذكر الحديث الذي رواه الأنصاري عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن بن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم، فضعفه، وقال: كانت كتب الأنصاري ذهبت في فتنة، أظنه قال: المصيبة، فكان بعد يحدث من كتب =

والمعنى يقتضيه، فإن السواك يزيل ما على الفم من طعام وغيره، وربما علق به شيء مما يخرجه من الفم، فإذا كثر ذلك احتاج أن يتعاهده بالتنظيف، حتى لا يكون السواك، وهو آلة النظافة سبباً في زيادة التلوث. ¬

_ = غلامه أبى حكيم، أراه قال: فكان هذا من ذاك. الضعفاء الكبير (4/ 90). قلت: قد روى عنه البخاري مباشرة، وروى عن محمد بن بشار عنه، فيكون محمد بن بشار من كبار أصحابه، وهذا الحديث من رواية محمد بن بشار. وروى له مسلم أيضاً. لكن علة الحديث والله أعلم كثير بن عبيد. وقول ابن الملقن في البدر المنير (3/ 194) رواه أبو داود بإسناد جيد. فيه نظر. وسكت عليه الحافظ في التلخيص (1/ 115،116). وقال النووي في المجموع (1/ 336): " يستحب إذا أراد أن يستاك ثانياً أن يغسل سواكه، وهذا يحتج له بحديث عائشة رضي الله عنها، وذكر الحديث. ثم قال: حديث حسن رواه أبو داود بإسناد جيد، وقال: هذا محمول على ما إذا حصل عليه شيء من وسخ أو رائحة. قلت: الحديث لو ثبت لكان مطلقاً.

الفائدة الثانية إباحة التسوك بسواك الغير

الفائدة الثانية إباحة التسوك بسواك الغير الدليل على ذلك. (755 - 91) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني سليمان بن بلال، قال: قال هشام بن عروة: أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر، ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: له أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه فقصمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فاستن به وهو مستسند إلى صدري (¬1). وفي رواية للبخاري: " فقصمته، ونفضته، وطيبته " (¬2). وفي رواية له أيضاً: " فلينته " (¬3). وفي رواية له أيضاً: " فقضمته " بالضاد (¬4). فقولها رضي الله عنها: " فقصمته " بالصاد: أي كسرته. وبالضاد: فقضمته: أي هو الأكل بأطراف الأسنان، ولعلها قصمته، ثم قضمته، ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد يقال: ليس فيه دليل على التسوك بسواك الغير؛ لأن عائشة حين قصمته: أي كسرته فكأنه سواك جديد، قسم قسمين: ¬

(¬1) صحيح البخاري (890). (¬2) صحيح البخاري (4438). (¬3) صحيح البخاري (4449). (¬4) صحيح البخاري (4438).

قسم تسوك به عبد الرحمن. وقسم تسوك به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكون عائشة مضغته: أي أكلته بأطراف أسنانها، فهي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإنسان لا يستنكف من ريق زوجته، والزوجة ليست كالأجنبي. (756 - 92) لكن روى أبو داود في سننه، قال: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا عنبسة بن عبد الواحد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستن، وعنده رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فأوحى الله إليه في فضل السواك أن كبر أعط السواك أكبرهما (¬1). [إسناده حسن، ورجح أبو حاتم أنه عن عروة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (50). (¬2) ورواه معمر بن راشد، عن هشام فأرسله، فقد رواه في الجامع (2/ 430)، عن هشام، عن أبيه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتسوك، وعنده رجلان الحديث. وعنبسة مقدم على معمر خاصة في هشام، فإن رواية معمر عن هشام فيها كلام، وكذا روايته عن أهل البصرة. وله شاهد من حديث ابن عمر في الصحيحين، سوف يأتي بحثه في مسألة تالية إن شاء الله. وحسن إسناده الحافظ في الفتح (246). وجاء في العلل لابن أبي حاتم (2/ 342) سألت أبي عن حديث رواه دحيم، عن عبد الله بن محمد بن زاذان المديني، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستن، وعنده رجلان، فأوحي إليه أن كبر، وأعطى السواك حين فرغ الرجلين. فقال أبي هذا خطأ، إنما هو عن عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل. وعبد الله ضعيف " اهـ. قلت: عبد الله بن زاذان. قال ابن عدي: لم أر للمتقدمين فيه كلاماً، ولكن له أحاديث غير محفوظة، فأحببت أن أذكره لما شرطت في الكتاب. الكامل (4/ 200). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (5/ 158). ولم أقف على من رواه =

وترجم له أبو داود: باب الرجل يستاك بسواك غيره. وقال الخطابي: " وفيه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه، على من يذهب إليه بعض من يتقزز، إلا أن السنة فيه أن يغسله، ثم يستعمله (¬1). قلت: وفي هذا نظر من وجهين: الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره، والتبرك بريقه - صلى الله عليه وسلم -، والتداوي به لا يقاس عليه غيره، وكان الصحابة يتبركون بفضل وضوئه، وبنخامته أحياناً. ثانياً: أنه لو ثبت الجواز مطلقاً، فحديث عائشة في غسل السواك فيه لين. كما سبق تخريجه. ¬

= مرسلاً ليتبين لي أيهما أرجح. والله أعلم. (¬1) معالم السنن (1/ 27).

الفائدة الثالثة إذا دفع السواك للغير يبدأ بالأكبر، وليس بالأيمن

الفائدة الثالثة إذا دفع السواك للغير يبدأ بالأكبر، وليس بالأيمن (757 - 93) لما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، أخبرني أبي، حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، أن عبد الله بن عمر حدثه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أراني في المنام أتسوك بسواك، فجذبني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما فقيل لي كبر فدفعته إلى الأكبر (¬1). ¬

(¬1) مسلم (13ـ2271، 3003). والحديث أخرجه البيهقي (1/ 40) من طريق عفان، حدثنا صخر بن جويرية به. وعلقه البخاري (246)، قال: وقال عفان: حدثنا صخر بن جويرية به. قال: أراني أتسوك بسواك. ولم يقل: " في المنام " كما هو في رواية مسلم. واختلف على نافع. فرواه صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر على أنها رؤيا في المنام. ورواه أسامة بن زيد الليثي، عن نافع به على أن ذلك كان في اليقظة. رواه أحمد (2/ 138) قال: حدثنا يعمر بن بشر، حدثنا عبد الله ـ يعني ابن مبارك ـ قال قال أسامة بن زيد، حدثني نافع أن ابن عمر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يستن فأعطى أكبر القوم، وقال: إن جبريل - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أكبر. ولا شك أن صخر بن جويرية أحفظ من أسامة بكثير، فالأول قال فيه الحافظ: ثقة ثبت فقيه مشهور. وقال في أسامة: صدوق يهم. وحاول الحافظ أن يجمع بينهما في الفتح (246)، فقال: " يجمع بينه وبين رواية صخر بن جويرية أن ذلك لما وقع في اليقظة أخبرهم بما رآه في النوم، تنبيهاً على أنه أمره بذلك بوحي متقدم، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ البعض، ويشهد لرواية ابن المبارك ما رواه أبو داود بأسناد حسن عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستن، وعنده رجلان، فأوحي إليه أن أعط السواك الأكبر". اهـ

الفائدة الرابعة في بلع الريق عند ابتداء السواك

الفائدة الرابعة في بلع الريق عند ابتداء السواك استحب بعض الفقهاء بلع ما اجتمع في فمه من ريقه عند ابتداء السواك (¬1). قال الرملي: ولعل حكمته التبرك بما يحصل في أول العبادة (¬2). وفي الحلية، قال الحكيم الترمذي: " وابلع ريقك أول ما تستاك، فإنه ينفع الجذام والبرص، وكل داء سوى الموت، ولا تبلع بعده شيئاً؛ فإنه يورث الوسوسة، يرويه زياد بن علاقة " اهـ (¬3). ولا أعلم دليلاً على الاستحباب، بل لا أراه مستحسناً، أن يبلع المرء ريقه بعد تنظيف فمه، فلو قيل: الأولى أن يبصقه، لكان مستحسناً حتى لا يبلع ما تخلف في فيه من أوساخ الطعام. ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 114،115)، نهاية المحتاج (1/ 179)، وقال في حاشية الجمل (1/ 117): " هل المراد في ابتداء كل استياك؟ أو المراد في ابتداء اليوم مثلاً. والذي في فتاوى شهاب الرملي: أن المراد ما اجتمع في فيه من الريق عند ابتداء السواك. قال شيخنا الشبراملسي، وظاهره أن المراد به في ابتداء كل فعل منه" اهـ. وانظر حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 122). (¬2) المرجع السابق. (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 115).

الفائدة الخامسة في الدعاء عند السواك

الفائدة الخامسة في الدعاء عند السواك استحب بعض الفقهاء أن يدعي عند التسوك بقوله: اللهم بيض أسناني، وشد به لثتي، وثبت به لهاتي، وبارك لي فيه يارب العالمين، برحمتك يا أرحم الراحمين (¬1). " وفي الرعاية: يقول: إذا استاك: اللهم طهر قلبي، ومحص ذنوبي. وقال العيني في شرحه على البخاري: ويقول عند الاستياك: اللهم طهر فمي، ونور قلبي، وطهر بدني، وحرم جسدي على النار، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " هـ (¬2). وهذا الدعاء لا أصل له، والغريب أن النووي قال بعد أن ذكر هذا الدعاء، قال: وإن لم يكن له أصل، فلا بأس به؛ فإنه دعاء حسن (¬3). والصحيح أن الدعاء بهذا بدعة؛ لأن استحباب دعاء معين، في وقت معين، يجعله من الأذكار المقيدة، والأذكار المقيدة لا تجوز إلا إذا صح فيها الدليل، وفرق بين الدعاء المطلق، وبين الدعاء المقيد؛ لأن الأول أعني الدعاء المطلق جاءت الأدلة من القرآن والسنة بطلبه بينما الدعاء الثاني لا يفعل إلا إذا صح فيه الدليل، وإذا جاء الدليل وجب التقيد به، كمية وكيفية، ووقتاً. فإذا زاد فيه أو نقص أو ذكره في غير وقته كان ذلك بدعة. وحيث لم يرد في ذلك دليل يكون التعبد به بدعة. ¬

(¬1) المجموع (1/ 337)، حاشية الجمل (1/ 118)، مغني المحتاج (1/ 185). (¬2) مطالب أولى النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 81). (¬3) المجموع (1/ 337).

الفائدة السادسة في منافع السواك

الفائدة السادسة في منافع السواك ذكر بعض الفقهاء في فوائد السواك: أنه يبطئ بالشيب، ويحد البصر، وأحسنها أنه شفاء لما دون الموت، وأنه يسرع في المشي على الصراط، وأنه مطهرة للفم، ومرضاة للرب، ومفرحة للملائكة، ومجلاة للبصر، ويذهب البخر، ويبيض الأسنان، ويشد اللثة، ويهضم الطعام، ويقطع البلغم، ويضاعف الصلاة، ويطهر طريق القرآن، ويزيد في الفصاحة، ويقوي المعدة، ويسخط الشيطان، ويزيد في الحسنات، ويقطع المرة، ويسكن عروق الرأس ووجع الأسنان، ويطيب النكهة، ويسهل خروج الروح. قال في النهر: ومنافعه وصلت إلى نيف وثلاثين منفعة، أدناها إماطة الأذى، وأعلاها تذكير الشهادة عند الموت (¬1). ما يذكره الفقهاء في فوائد السواك لا أعلم له أصلاً إلا ما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. وما ورد أيضاً من وضع الملك فاه على في القارئ. وأنه تطهير لطرق القرآن، وكونه يزيد في الحسنات، ويسخط الشيطان ليس خاصاً بالسواك، بل في كل قربة قصد بها وجه الله تعالى، وكان فيها متابعة للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. وأما ما ورد من مضاعفة أجر الصلاة، فقد بحثت في بحث خاص، ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 115)، حاشية الجمل (1/ 118،119) مطالب أولى النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 83).

وملت إلى أن الحديث الوارد غير ثابت. والله أعلم وأما منافع السواك في المعدة والرأس ونحوها، فالمرجع فيها إلى الطب، فإن أثبت هذا أثبتناه، وإلا فالأصل عدم ثبوته. (758 - 94) وأما ما رواه البيهقي في شعب الإيمان من طريق إسحاق بن إبراهيم الغزي، حدثنا محمد بن السري، حدثنا بقية، عن الخليل بن مرة، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، يزيد الحسنات، وهو من السنة، ويجلو البصر، ويذهب الحفر، ويشد اللثة، ويذهب البلغم، ويطيب الفم (¬1). قال البيهقي: ورواه غيره، وزاد فيه: " ويصلح المعدة " وهو مما تفرد به الخليل بن مرة، وليس بالقوي في الحديث. وسبق بحثه. (759 - 95) وأما ما روى ابن عدي، قال: أخبرنا أبو يعلى، ثنا محمد بن بحر البصري، ثنا معلى بن ميمون، ثنا عمرو بن داود، عن سنان بن سنان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن السواك ليزيد الرجل فصاحة. [الحديث موضوع] (¬2). ¬

(¬1) شعب الإيمان (6/ 71) رقم 2521. (¬2) الكامل (6/ 370) ومن طريق المعلى بن ميمون أخرجه الخطيب في الجامع (1/ 373،374) رقم 859، وتلخيص المتشابه (2/ 705ـ706)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (3/ 156) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 164) رقم 232. قال ابن عدي: ولمعلى بن ميمون غير ما ذكرت من الأحاديث، والذي ذكرت والذي =

(760 - 96) وأما ما رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث عائشة رضي الله عنها: " السواك شفاء من كل داء إلا السام " والسام: الموت. [فالحديث ضعيف] (¬1). وأما ما ذكروه بالنسبة لفوائد السواك للثة، وأنه يشد اللثة، فهذا ما يؤكده أحد الأطباء، يقول: " نحن أطباء الأسنان في مصر نصف لمرضانا الذين يعانون من الالتهابات اللثوية أو كمقبض للثة هذه الوصفة العلاجية: حامض العفص 20 % ... tannic acid 20 % جليسرين 80 % ... glycerine 80 % وطريقة استعمالها تكون بغمس الإصبع بهذا المحلول، ودلك اللثة بها مع العلم أنه كلما كانت نسبة حمض العفص أعلى كلما كان التأثير أفضل ¬

= لم أذكره كلها غير محفوظة مناكير، ولعل الذي لم أذكره أنكر من الذي ذكرته، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما، إلا أن أحاديثه رأيتها غير محفوظة، فشرطت في أول الكتاب أن أذكر كل من هو بصورته. الكامل (6/ 370). وقال العقيلي: عمر بن داود، عن سنان بن أبي سنان كلاهما مجهول، والحديث منكر غير محفوظ، ومعلى بن ميمون ضعيف. الضعفاء الكبير (3/ 156). وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا أصل له. العلل المتناهية (1/ 336) رقم 549. وانظر لسان الميزان (6/ 65)، والأسرار المرفوعة (1/رقم 233)، وكشف الخفاء ومزيل الإلباس (1494). والكشف الإلهي (1/ 460). (¬1) عزاه للديلمي السيوطي في الجامع الصغير. انظر ضعيف الجامع (3360)، والقارئ في معرفة النساك (14). وذكره أبو الفيض في المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير (3/ 79). وذكره صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس (1497).

وأجود، ويمنعنا من زيادة نسبته عن 20 % طعمه الحريق اللاذع، وغير المقبول، في حين أنه يحتمل وجوده بالسواك بنسبة أعلى بكثير من 20 %، وطعمه مقبول، وله رائحة طيبة ونكهة، وهذه ناحية ينفرد بها السواك كميزة رائعة (¬1). ¬

(¬1) السواك والعناية بالأسنان (ص: 191) الطبيب عبد الله عبد الرزاق السعيد.

الفائدة السابعة العلك بالنسبة للمرأة

الفائدة السابعة العلك بالنسبة للمرأة ذكر بعض فقهاء الحنفية أن العلك يقوم مقام السواك بالنسبة للمرأة (¬1). وعللوا ذلك: بأن سن المرأة أضعف من سن الرجل، ولأنها قد تخشى سقوط أسنانها من السواك. وهذا الاستحباب ضعيف، وأحكام السواك عامة للرجل والمرأة، ولم يأت نهي للنساء عن السواك، وقد ذكر الفقهاء من فوائد السواك أنه يشد اللثة، فكيف يستقيم هذا مع ما يذكرونه. (761 - 97) وأما ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن رزيق، ثنا أبوالطاهر ثنا ابن وهب نا يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لزمت السواك حتى خشيت أن يدردني. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن عائشة إلا بهذا الإسناد تفرد به أبن وهب (¬2). والدرد: سقوط الأسنان. وقد سبق بحثه. وإذا كان هناك حالة خاصة تخشى المرأة سقوط أسنانها لم يستحب لها أن تكثر منه، بل تأخذ منه بقدر. لكن لا يمكن أن يقال: إن هذا عام في كل النساء. والله أعلم. ¬

(¬1) الفتاوى الهندية (1/ 7)، درر الحكم شرح غرر الأحكام (1/ 11)، تبيين الحقائق (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 21). (¬2) المعجم الأوسط (6/ 323) رقم 6526.

الفائدة الثامنة التسوك والإمام يصلي

الفائدة الثامنة التسوك والإمام يصلي لا يشرع للإنسان أن يتسوك بعد دخول الإمام في الصلاة. وذلك لأن السواك شرع للعبادة، فلا ينبغي أن يفوت جزءاً من العبادة من أجل فضيلة شرعت لها، وليست فيها. فإدراك هذا الجزء من العبادة خير من تحصيل فضيلة شرعت لها. ودائما القاعدة الفقهية إنه إذا تزاحمت فضيلتان: أحدهما: في العبادة والأخرى: للعبادة، خارجة عنها. فإدراك الفضيلة الخاصة في العبادة أولى من إدراك الفضيلة الخارجة عنها. ويكفي أن فيه مخالفة للإمام. (762 - 98) وقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال حدثني أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوسا أجمعون (¬1). ومن يتسوك والإمام يكبر، فقد خالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمره بالتكبير، والفاء في قوله: وإذا كبر فكبروا" دالة على التعقيب، بلا تراخ. والله أعلم. ومثله لو تزاحم فضيلتان أحدهما تتعلق بالمكان، كما لو كان في يمين ¬

(¬1) صحيح البخاري (734)، ومسلم (414).

الإمام، أو في يسار الإمام مع إدراك جزء من العبادة يفوت لو طلب يمين الإمام، فإدراك جزء من العبادة أفضل من تحصيل فضيلة خارجة عنها. والله أعلم.

الفائدة التاسعة في الوضوء من فضل السواك

الفائدة التاسعة في الوضوء من فضل السواك (763 - 99) روى البزار في مسنده، قال: حدثنا يوسف بن خالد، ثنا أبي، عن الأعمش، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ بفضل سواكه (¬1). [إسناده ضعيف جداً، والأعمش لم يسمع من أنس] (¬2). ¬

(¬1) كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 144) رقم 274. (¬2) فيه يوسف بن خالد: قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: سمعت يحيى بن معين يقول، وذكر يوسف بن خالد السمتي، فقال: كذاب خبيث عدو الله رجل سوء رأيته بالبصرة مالا أحصى لا يحدث عنه أحد فيه خير. الجرح والتعديل وقال يحيى بن معين أيضاً: يوسف بن خالد السمتي كذاب زنديق لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبى، وسألته عن يوسف بن خالد السمتي فقال: أنكرت قول يحيى بن معين فيه إنه زنديق حتى حمل إلي كتاب قد وضعه في التجهم باباً باباً ينكر الميزان في القيامة فعلمت أن يحيى بن معين كان لا يتكلم الا على بصيرة وفهم. قلت: ما حاله؟ قال: ذاهب الحديث. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث ضعيف الحديث اضرب على حديثه كان يحيى بن معين يقول: كان يكذب. المرجع السابق. تخريج الحديث: أخرجه أبو يعلى في مسنده (4020) حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا يوسف بن خالد، عن الأعمش به. وأخرجه الدارقطني (1/ 40) قال: نا بن أبي حية، نا إسحاق بن أبي إسرائيل، =

وقال البزار: رواه سعد بن الصلت، عن الأعمش، عن مسلم (¬1). ¬

= نا يوسف بن خالد، نا الأعمش، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستاك بفضل وضوئه. فخالف في متنه، فجعل الاسيتاك بفضل الوضوء، وليس الوضوء بفضل الاستياك. قال الحافظ في الفتح (187): " أخرجه الدارقطني من حديث أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ بفضل سواكه. وسنده ضعيف " اهـ كلام الحافظ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 216): " رواه البزار، والأعمش لم يسمع من أنس. (¬1) هذه الرواية التي أشار إليها البزار، هي في سنن الدارقطني (1/ 40)، قال: نا محمد بن أحمد بن محمد بن حسان الضبي، نا إسحاق بن إبراهيم شاذان، نا سعيد بن الصلت ـ والصواب: سعد ـ، عن الأعمش، عن مسلم الأعور، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستاك بفضل وضوئه. وفيه مخالفتان: في الإسناد والمتن. أما الإسناد، فإنه جعل بين الأعمش، وأنس واسطة. وأما المتن، فإنه قال: كان يستاك بفضل وضوئه. والأولى لفظها: كان يتوضأ بفضل سواكه. وبينهما فرق. وراية الدارقطني ضعيفة، فإن فيها مسلم بن كيسان الأعور قال البخاري: يتكلمون فيه. التاريخ الكبير (7/ 271)، الضعفاء الصغير (343) وقال في موضع آخر: ضعيف ذاهب الحديث لا أروى عنه. تهذيب التهذيب (10/ 122). وقال أحمد: ضعيف لا يكتب حديثه. الضعفاء الكبير (4/ 153) وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (568). وقال أيضاً: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (10/ 122). وقال يحيى بن معين أيضا: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: يتكلمون فيه وهو ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (8/ 192). وقال أبو رزعة: كوفى ضعيف الحديث. المرجع السابق.

(764 - 100) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير أنه كان يستاك، ويأمرهم أن يتوضؤا بفضل سواكه. [إسناده صحيح] (¬1). قال الشافعي: إذا وضع المرء ماء، فاستن بسواك، وغمس السواك في الماء، ثم أخرجه توضأ بذلك الماء؛ لأن أكثر ما في السواك ريقه، وهو لو بصق أو تنخم أو امتخط في ماء لم ينجسه، والدابة نفسها تشرب في الماء، وقد يختلط به لعابها، فلا ينجسه إلا أن يكون كلباً أو خنزيراً " اهـ (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 199)، وإسماعيل: هو ابن أبي خالد. وقيس: هو ابن أبي حازم. وسنده صحيح. ورواه الدارقطني (1/ 40)، قال: نا الحسين، نا حفص بن عمرو، نا يحيى بن سعيد، نا إسماعيل، ثنا قيس، قال: كان جرير يقول لأهله توضؤوا من هذا الذي أدخل فيه سواكه. قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح وعلقه البخاري في الوضوء جازماً به. (40) باب استعمال فضل وضوء الناس. قال البخاري: وأمر جرير بن عبد الله أهله أن يتوضؤوا بفضل سواكه. قال الحافظ في الفتح: " هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة والدارقطني وغيرهما، من طريق قيس بن أبي حازم عنه. وفي بعض طرقه: " كان جرير يستاك، ويغمس رأس سواكه في الماء، ثم يقول لأهله: توضؤا بفضله، لا يرى به بأساً ". (¬2) الأم (1/ 18).

الفائدة العاشرة هل يستحب أن يكون السواك من شجر مر؟

الفائدة العاشرة هل يستحب أن يكون السواك من شجر مر؟ استحب فقهاء الحنفية أن يكون من شجر مر وعللوا ذلك بأنه يطيب النكهة، ويشد الأسنان، ويقوي المعدة (¬1). وليس فيه شيء عن الشارع، فإن كان ما ذكر من التعليل ثابتاً طبياً استحب لذلك، وإلا فالأصل عدم الاستحباب. ¬

(¬1) مجمع الأنهر (1/ 13).

الفائدة الحادية عشرة التسواك بطرف السواك

الفائدة الحادية عشرة التسواك بطرف السواك نهى بعض الفقهاء أن يتسوك بطرف السواك الآخر (¬1). وعلل ذلك بأن الأذى يستقر فيه (¬2). ولا دليل على الكراهة، وليس لما عللوا فيه أصل، ولو كان الأذى يستقر فيه، لجاء الأمر باستبدال السواك بعد استعماله حتى لا يصل إلى الموضع الذي فيه أذى، بل لو قيل: إنه مأمور أن يستاك بطرفه الآخر بعد استياكه بطرفه الأول، لأن السواك مع الاستعمال قد يضعف في التنظيف، لو قيل بهذا في مقابل قولهم لكان مقبولاً. والله أعلم. ¬

(¬1) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 13)، وحاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 59)، تحفة المحتاج (1/ 215)، حاشية الجمل (1/ 118). (¬2) حاشية الجمل (1/ 118).

الفائدة الثانية عشرة في التسوك بالقصب

الفائدة الثانية عشرة في التسوك بالقصب (¬1) نهى بعض الفقهاء عن التسوك بالقصب، وعرف القصب: بأنه كل نبات يكون ساقه أنابيب، وكعوباً. قال صاحب الصحاح: والقصب الفارسي منه صلب غليظ تعمل منه المزامير، وتسقف به البيوت، ومنه ما يتخذ منه الأقلام اهـ ثم قال: إذا تقرر هذا فالظاهر أن مراد الفقهاء بالقصب مطلقه لا خصوص الفارسي. وعلل الكراهة بأن القصب يولد الأكلة في الأسنان وليس فيه شيء عن الشارع، فإن ثبت طبياً أنه يسبب الأكلة حرمناه، ولم نكتف بالكراهة، وإلا فالأصل الإباحة. ¬

(¬1) حاشية العدوي (1/ 184).

الفائدة الثالثة عشر تعويد الصبي على السواك

الفائدة الثالثة عشر تعويد الصبي على السواك قال النووي: يستحب أن يعود الصبي السواك ليألفه كسائر العبادات (¬1). قلت: كما يؤمر بالصلاة، والصيام، والآداب المستحبة. (765 - 101) أما الصلاة، فقد روى أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، وعبد الله بن بكر السهمي، المعنى واحد قالا: حدثنا سوار أبو حمزة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع. وإذا أنكح أحدكم عبده فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإنما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته (¬2). [صحيح لغيره] (¬3). ¬

(¬1) المجوع شرح المهذب (1/ 336). (¬2) المسند (2/ 187). (¬3) الإسناد مداره على سوار بن داود المزني أبي حمزة الصيرفي. قال أحمد: شيخ بصري، لا بأس به. روى عنه وكيع فقلب اسمه، وهو شيخ يوثق بالبصرة. لم يرو عنه غير هذا الحديث. يعني: حديثه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده."علموا أولادكم الصلاة". الجرح والتعديل (4/ 272)، تهذيب الكمال (12/ 236). ووثقه يحيى بن معين، كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (4/ 272)، تهذيب التهذيب (4/ 253). وقال الدارقطني: لا يتابع على حديثه فيعتبر به. تهذيب الكمال (12/ 236) تهذيب (4/ 253). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 167). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. الثقات (1/ 422). وفي التقريب: صدوق له أوهام. قلت: إذا كان الأمر كما قال أحمد: لم يرو عنه إلا حديث واحد: " مرو أبناءكم بالصلاة ... " فكيف يمكن أن يقال: له أوهام. ولعل الحافظ تابع ابن حبان حين ذكره في الثقات، وقال: يخطئ، ولو اقتصر الحافظ على كلمة (صدوق) لكان أولى. أما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. فقد اختلف الناس فيه: فمنهم من ضعفه مطلقاً. ومنهم من وثقه مطلقاً. ومنهم من وثق عمرواً في روايته عن غير أبيه. والحق أن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده من قبيل الحسن لذاته. وإليك تفصيل هذه الأقوال: أما من ضعفه مطلقاً، فمنهم يحيى بن سعيد، فقد نقل عنه علي بن المديني أنه قال: حديثه عندنا واهٍ. الجرح والتعديل (6/ 238)، الكامل (5/ 114). وقال ابن عيينة: حديثه عند الناس فيه شيء. تهذيب الكمال (22/ 64). وقال أيضاً: غيره خير منه. وهذا من الجرح. الضعفاء الكبير ـ العقيلي (3/ 273). وقال أحمد: له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه، يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا. تهذيب الكمال (22/ 64). وقال يحيى بن معين: ليس بذاك، كما في رواية أبي بكر بن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (6/ 238). وقال الآجري: قيل لأبي داود: عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، حجة عندك؟ قال: لا، ولا نصف حجة. قلت: ينبغي أن يحمل تضعيفه على روايته عن أبيه، عن جده، فهذا يحيى القطان يقول فيما رواه صدقة بن الفضل عنه: إذا روى عنه الثقات، فهو ثقة يحتج به. ومنهم من وثقه مطلقاً. قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: من الناس بعدهم؟ تهذيب الكمال (22/ 69)، والتاريخ الكبير (6/ 342) وليس في التاريخ قوله: " من الناس بعدهم ". وانظر الترمذي (2/ 140). وقال يحيى بن معين: ثقة، كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (6/ 238)، ولعله يقصد روايته عن غير أبيه، لأني نقلت عنه قبل قليل قوله: ليس بذاك. وقال العجلي: ثقة. ثقات العجلي (2/ 178). ومن الناس من فصل: قال ابن حبان: فليس الحكم عندي إلا مجانبة ما روى عن أبيه، عن جده، والاحتجاج بما روى عن الثقات غير أبيه، ولولا كراهة التطويل لذكرت من مناكير أخباره التي رواه عن أبيه، عن جده أشياء يستدل بها على وهن هذا الإسناد. المجروحين. (2/ 71). وقال يحيى بن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فهو كتاب ومن هنا جاء ضعفه، وإذا حدث عن سعيد بن المسيب، أو سليمان بن يسار أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء. وقال أبو زرعة: روى عنه الثقات مثل أيوب السختياني وأبي حازم والزهري والحكم ابن عتيبة، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه، عن جده، وقال: "إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها. وقال أبو زرعة: ما أقل ما نصيب عنه مما روى عن أبيه عن جده من المنكر وعامة هذه المناكير التي تروى عنه إنما هي عن المثنى بن الصباح وابن لهيعة، والضعفاء. وقال أبو رزعة أيضاً: مكي كأنه ثقة في نفسه، وإنما تكلم فيه بسبب كتاب عنده. الجرح والتعديل (6/ 238). قال ابن حجر: فأما روايته عن أبيه فربما دلس ما في الصحيفة بلفظ: " عن " فإذا قال: حدثني أبي فلا ريب في صحتها، كما يقتضيه كلام أبي زرعة. وقال: " والمقصود بجده الجد الأعلى: عبد الله بن عمرو، لا محمد بن عبد الله. وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله، ثم ساق جملة من الأحاديث في التهذيب يصرح فيها شعيب بسماعه من عبد الله بن عمرو. تهذيب التهذيب (8/ 43). وقال ابن عدي: روى عنه أئمة الناس وثقاتهم، وجماعة من الضعفاء، إلا أن أحاديثه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتنبه الناس مع احتمالهم إياه، ولم يدخلوه في صحاح ما خرجوه، وقالوا: هي صحيحة. الكامل (5/ 114). وقال ابن معين: هو ثقة في نفسه، وما روى عن أبيه عن جده لا حجة فيه وليس بمتصل، وهو ضعيف من قبل أنه مرسل. وجد شعيب كتب عبد الله بن عمرو فكان يرويها عن جده أرسالاً، وهي صحاح عن عبد الله غير أنه لم يسمعها. تهذيب التهذيب (8/ 43). قال ابن حجر: فإذا شهد ابن معين أن أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل. اهـ. وهذا هو غاية التحرير. وبناء عليه يكون إسناد حديثنا: " مروا أبناءكم بالصلاة " حسناً إن شاء الله تعالى. تخريج الحديث: الحديث أخرجه ابن ابي شيبة (1/ 304) ح3482: حدثنا وكيع، عن داود بن سوار. به، انقلب اسمه على وكيع، كما لم يرو زيادة: " إذا أنكح أحدكم عبده ": لكن أخرجه أبو داود (496): حدثنا زهير بن حرب، حدثنا وكيع به، بذكر الزيادة. وأخرجه أبو داود (495): حدثنا مؤمل بن هشام - يعني: اليشكري - حدثنا إسماعيل، عن سوار أبي حمزة به، بدون ذكر الزيادة. وأخرجه الدارقطني (1/ 230) من طريق النضر بن شميل، ومن طريق عبد الله بن بكر السهمي، فرقهما، عن سوار أبي حمزة به. بذكر الزيادة من كليهما. وأخرجه الحاكم (1/ 197) من طريق عبد الله بن بكر السهمي به. ومن طريق عبد الله بن بكر، أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/ 167) والخطيب في تاريخه (2/ 278) والبيهقي (3/ 84). وله شاهد ضعيف. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 304) ح3481، وأحمد (3/ 404) والدارمي (1431) وابن الجارود في المنتقى (147) وأبو داود (494) والترمذي (407) وقال: حسن صحيح. والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 231) والدارقطني (1/ 230) والحاكم (1/ 201) وقال: صحيح على شرط مسلم!! وأقره الذهبي!! وأخرجه البيهقي (2/ 14) (3/ 83) كلهم من طريق عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا بلغ الغلام سبع سنين أمر بالصلاة، فإذا بلغ عشراً ضرب عليها ". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = هذا لفظ أحمد. والحديث إسناده ضعيف. فيه عبد الملك بن الربيع. قال ابن معين: أحاديث عبد الملك، عن أبيه، عن جده ضعاف. الجرح والتعديل (5/ 350). وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً يروي عن أبيه ما لم يتابع عليه. المجروحين (2/ 132). ووثقه العجلي. وقال أبو الحسن بن القطان: لم تثبت عدالته، وإن كان مسلم أخرج له، فغير محتج به. تهذيب التهذيب (6/ 349). يقصد أن مسلماً لم يحتج به. وإنما أخرج له حديثاً واحداً في المتعة متابعة، فليس على شرط مسلم. ولهذا لم يصب الحاكم عندما قال: على شرط مسلم. ومع ضعف إسناده إلا أنه صالح في الشواهد. فيكون الحديث صحيحاً لغيره. وقد روي من حديث أنس. أخرجه الحارث في مسنده، كما في بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (ص48) قال: حدثنا داود بن المحبر، ثنا عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لثلاث عشرة ". وأخرجه الطبراني كما في مجمع البحرين (537): من طريق أبي بكر الأعين، ثنا داود ابن المحبر، ثنا أبي، عن ثمامة به. وأخرجه الدارقطني (1/ 231) من طريق الفضل بن سهل، ثنا داود بن المحبر، ثنا عبد الله ابن المثنى به. فالحديث ضعيف جداً، وأورده الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (349) من مسند أنس. وقال: فيه داود بن المحبر، متروك، وقد خالف في هذا الحديث سنداً ومتناً. يقصد الحافظ: مخالفته في الإسناد: وذلك بجعله من مسند أنس، وهو غير معروف، والمخالفة في المتن، فإن المعروف في لفظه: " واضربوهم عليها لعشر " وهذا قال: " لثلاث عشرة ". قلت: داود بن المحبر، قال فيه أبو حاتم: غير ثقة، ذاهب الحديث، منكر الحديث. الجرح والتعديل (3/ 424). =

(766 - 102) وأما أمرهم بالصيام، فقد روى البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا خالد بن ذكوان، عن الربيع بنت معوذ، قالت: أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار، من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم. قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك، حتى يكون عند الإفطار (¬1). وأما أمرهم ببعض الآداب (767 - 103) فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، أخبرنا ¬

= وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (3/ 173). وكذبه أحمد. ضعفاء الأصبهاني (61). وقال أيضاً: شبه لا شيء، لا يدري ما الحديث. التاريخ الكبير (3/ 242) وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (3/ 244). وقال أيضاً: منكر الحديث، شبه لا شيء، كان لا يدري ما الحديث. الضعفاء الصغير (110). وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات، ويروي عن المجاهيل المقلوبات. وقال الدارقطني: كتاب العقل وضعه أربعة: أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود ابن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة .. الخ كلام الدارقطني. تاريخ بغداد (8/ 359). وقال يحيى بن معين: ثقة. فتعقبه الخطيب، وقال: حال داود ظاهرة في كونه غير ثقة، ولو لم يكن له غير وضعه كتاب العقل بأسره لكان دليلاً كافياً على ما ذكرته. تاريخ بغداد (8/ 359). ومع شدة ضعفه فإن داود بن المحبر تارة يحدث به عن عبد الله بن المثنى وتارة يحدث به عن أبيه، والله أعلم. (¬1) صحيح البخاري (1960)، ومسلم (1136).

سفيان، قال الوليد بن كثير: أخبرني أنه سمع وهب بن كيسان، أنه سمع عمر بن أبي سلمة يقول: كنت غلاما في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ياغلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت تلك طعمتي بعد (¬1). ولا شك أن الصبي غير مكلف، ولكن يؤمر بذلك تأديباً وتعليماً حتى يألف الواجبات، هذا فيما يتعلق في باب المأمورات، وفي باب المنهيات آكد حيث ينهى الصغير عما ينهى عنه الكبير، فينهى عن الكذب، وعن الغيبة، وعن أكل الحرام، (768 - 104) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه: قال أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كخ كخ؛ ليطرحها، ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة (¬2). أوجب بعض الفقهاء السواك على من اضطر لأكل الميتة، وعلل ذلك بإزالة الدسومة (¬3). قال بعضهم: ولو وجب إزالتها لم يتعين السواك في إزالتها حتى يقال بوجوبه في هذه الحال (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري (5376)، وصحيح مسلم (2022). (¬2) صحيح البخاري (1491)، وصحيح مسلم (1069). (¬3) مغني المحتاج (1/ 185). (¬4) انظر تحفة المحتاج (1/ 216).

الفائدة الرابعة عشرة في لقطة السواك

الفائدة الرابعة عشرة في لقطة السواك (769 - 105) روى ابن أبي شيبة، قال: نا حفص، عن ليث، قال: كان عطاء يرخص في القضيب والسواك والسنا من الحرم. [إسناده ضعيف] (¬1). (770 - 106) وقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن طلحة، عن أنس رضي الله عنه، قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة مسقوطة، فقال: لولا أن تكون من صدقة لأكلتها (¬2). فدل الحديث على أنه لا حرج في التقاط اليسير من المال. وقال ابن قدامة: " لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة أخذ اليسير، والانتفاع به، وقد روي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، وطاووس، والنخعي، ويحيى بن أبي كثير، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي " اهـ (¬3). ¬

(¬1) المصنف (4/ 509). (¬2) صحيح البخاري (2055)، ومسلم (1071). (¬3) المغني (6/ 6).

الفائدة الخامسة عشرة يتسوك المحرم كما يتسوك الحلال

الفائدة الخامسة عشرة يتسوك المحرم كما يتسوك الحلال (771 - 107) فقد روى أبن أبي شيبة: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: لا بأس بالسواك للمحرم. [وإسناده صحيح] (¬1). ثم إن عموم السواك مطهرة للفم مرضاة للرب يشمل المحرم والحلال، ولم أعلم أن أحداً كره السواك للمحرم، بل قد يقال: إن الإحرام شرع فيه الاغتسال، والقصد منه النظافة، ولذلك تغتسل الحائض والنفساء، ومن نظافة البدن السواك، لأن الفم جزء من البدن، والله أعلم. ¬

(¬1) المصنف (4/ 203).

الفائدة السادسة عشرة

الفائدة السادسة عشرة تم في كلية طب الأسنان بجامعة الرياض إجراء بحث علمي على المسواك، قام به الدكتور عبد الرحيم محمد الأستاذ المشارك، والمحاضر في الكلية، وقد اتضح من نتائج هذا البحث بأن السواك ليس له تأثير ضار على الأنسجة المحيطة بالأسنان لمدة أربعة وعشرين ساعة من استخدامه، بل إن له فوائد شتى .. ولكن إذا استخدم رأس المسواك لمدة أكثر من يوم دون تغيير هذا الجزء، فإن بعض المواد، وهي مواد فيتولية يمكن لها أن تؤثر على الأنسجة المحيطة بالأسنان، لذلك يوصي الدكتور صاحب البحث المتسوكين باستخدام المسواك لمدة أربعة وعشرين ساعة، وبعد ذلك يقطع الجزء المستخدم، ويستخدم جزء جديد (¬1). ويقول بعض الأطباء: " إن عدم تنظيف الفم والأسنان، هو أحد أهم العوامل المسببة لنخر الأسنان، وخاصة في العصر الحديث لانتشار استخدام السكريات. وقد أجمع أطباء الأسنان والباحثون على أهمية تنظيف الفم بعد الطعام، وغسله بالمضمضة، واستخدام السواك، وبما أن الإنسان في العصر الحديث يأكل بين الوجبات، ويشرب سوائل محلاة بالسكر، فإنه يحتاج إلى استخدام السواك كل أربع ساعات، وقد ذكر الدكتور عبد الغني السروجي من جامعة دمشق يقول: " مبدأ حفظ صحة الأسنان هو التأكيد على تنظيفها تنظيفاً مستمراً، وبخاصة الثلم اللثوي كل أربع ساعات، وهو أمر لا يتحقق بالنسبة ¬

(¬1) السواك، والعناية بالأسنان (ص: 222)، نقلاً من صحيفة الجزيرة السعودية عدد الأحد، 6 رجب 1401 هـ.

للإنسان في العصر الحديث إلا إذا اتبع تعاليم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، حيث ندب بقوة إلى السواك عند كل وضوء، وعند كل صلاة، وبما أن الصلاة مفروضة على المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، فإن عليه أن يتسوك خمس مرات، ثم يضاف إليها التسوك عند قراءة القرآن، وعند القيام من النوم، وعند تغير الفم، ... الخ فيكون ذلك أكثر من عشر مرات في اليوم والليلة، فأنى يتأتى للويحة السنية أن تتجمع، وتترسب، وهي تزال كل ما تكونت، وكيف تسطيع البكتيريا أن تحول بقايا الطعام، وبقايا الطعام تزال بانتظام. وتنفق الولايات المتحدة والدول الأوربيه الآف الملايين من الدولارت سنوياً على التثقيف الصحي، وعشرات الآلاف من الملايين من الدولارت سنوياً على مداواة أمراض الأسنان، ورغم كل ذلك فإن الدول الأوربية، والولايات المتحدة لا تزال تتصدر قائمة الدول المصابة بنخر الأسنان، والدول الإسلامية رغم عدم اتباعها لتعاليم نبيها، إلا أنها أفضل حالاً ومآلاً من الدول المتقدمة صناعياً في موضوع نخر الأسنان رغم أن التثقيف يكان يكون منعدماً. ولو اهتمت الدول الإسلامية بِحَثِّ العلماء وأئمة المساجد على أن يقوموا بدورهم بالتوعية الصحية، وذلك بالحث على السواك وتنظيف الفم، وذكر الأحاديث النبوية الكثيرة في هذا الصدد لا ختفت أو كادت حالات نخر الأسنان ... كما ينبغي محاربة الرذائل الغربية، والتلفزيون لا يكف عن الإعلان من أنواع الشوكلاتة والحلويات (الكاندي) وتصوير الشباب، وهم يتعاطونها بنهم، مع أن تناول الشوكلاتة مقصورة في البلاد الإسلامية عرباً وعجماً على الأطفال، وعلى أطفال الطبقة الغنية المترفة بصورة خاصة. كذلك ينبغي محاربة التدخين الذي له دور كبير وهام في تخريب الصحة

بصورة عامة بما في ذلك صحة الفم والأسنان. وهكذا نجد أن تعاليم الإسلام، واتباع سنن الهدى، وتوجيهات المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة، والفوز برضا الرب، والتمتع بحياة صحية، وعقلية وبدنية، ونفسية سليمة .... فالله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين الصادقين بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينة حياة طيبة} (¬1). وإذا علمت الحكومات مقدار التوفير الذي ستوفره من آلاف الملايين من الدولارت سنوياً باتباع تعاليم الإسلام لسعت لتنفيذها ونشرها بين الناس، فإن اتباع سنة السواك فقط ستوفر على الأمة الإسلامية مبالغ تنوء بها الجبال الرواسي (¬2). ويقول الطبيب أيضاً: " وفي بحث هام للدكتور الخطيب وزملائه نشرته مجلة صحة المجتمع للإسنان عام 1991، ذكر فيه أنه تم فحص 480 شخصاً بالغاً (سن 35 - 45) ومجموعة أخرى من سن 65 فما فوق من مدينتي جدة ومكة المكرمة، وقد وجد الباحثون أن من يستخدم السواك بانتظام لا يعانون من التهاب محيط السن periodentitis)) إلا بنسبة ضئيلة. وهم أقل بكثير ممن لا يستعملون المسواك. وبمقارنتهم بالدول الأخرى فإن استعمال السواك يوضح مدى الوقاية في صحة الأسنان وصحة الفم نتيجة استخدام المسواك. وفي بحث آخر نشرته مجلة (quintessence) الطبية لكل من الدكتور ¬

(¬1) النحل: 97. (¬2) السواك. د. محمد علي البار (ص: 96).

عيد الشمري، وسليم عام 1990 جاء أن استخدام المسواك يقلل من الإصابة بالتهاب اللثة، والتهاب محيط السن، ووجود جيوب صديدية، وكانت المجموعة التي لا تستخدم المسواك ولا الفرشاة والمعجون أكثرها تعرضاً للإصابة. ويبدو أن استخدام المسواك ربما كان أفضل من الفرشاة في إزالة اللويحة السنية، والمحافظة على صحة الأسنان والفم " اهـ (¬1). ¬

(¬1) السواك. د محمد البار (ص: 146).

الفائدة السابعة عشرة الأدب والسواك

الفائدة السابعة عشرة الأدب والسواك ورد ذكر السواك في الشعر العربي، فمن ذلك قول بعضهم: تالله إن جزت بوادي الأراك ... وقَبَلَت أغصانُه الخضرُ فاك فابعث إلى المملوك من بعضها ... فإنني والله ما لي سواك وقال آخر: طلبت منك سواكا ... وماطلبت سواك وما أردت أراكاً ... لكن أردت أراك وكان نساء المسلمين يكثرن من السواك ويمدحن بذلك حتى عيب على نساء النصارى تركهن السواك. قال جرير يهجو الأخطل: لقي الأخيطل أمه مخمورة ... قبحاً لذلك شارباً مخمورا لم يجر مذ خلقت على أنيابها ... لم يجر مذ خلقت على أنيابها وقال أيضاً: وما قرأ المفصل تغلبي ... ولا مس الطهور ولا السواكا ولا عرفوا مواقف يوم جمع ... ولا حوض السقاية والأراكا وقال ابن زيدون: بل ما عليك وقد محضت لك الهوى ... في أن أفوز بحظوة المسواك ناهيك ظلما أن أضر بي الصدى ... برحا ونال البرء عود أراك

وقال أيضاً: أهدي إلي بقية المسواك ... لا تظهري بخلا بعود أراك فلعل نفسي أن ينفس ساعة ... عنها بتقبيل المقبل فاك يا كوكبا بارى سناه سناءه ... تزهى القصور به على الأفلاك قرت وفازت بالخطير من المنى ... عين تقلب لحظها فتراك وقيل أيضاً هنيت يا عود الأراك بثغرها ... ما خفت مني يا أراك أراكا لو كان غيرك يا سواك قتلته ... ما فاز مني يا سواك سواكا وقال آخر: يا قرة العين إني لا أسميكِ ... أكني بأخرى، ولكن أنت أعنيكِ يا أطيب الناس ثغراً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويكِ قد زرتنا مرة في الدهر واحدة ... ثني ولا تجعليها بيضة الديكِ وقال بشار بن برد: لما أتتني على المسواك ريقتها ... مثلوجة الطعم مثل الشهد بالراحِ قبلت ما مس فاها ثم قلت له ... ياليتني كنت ذا المسواك يا صاحِ وقال بشار أيضاً: وهبتِ له على المسواك ريقاً ... فطاب له بطيب ثنيتيك أقبله على الذكرى كأني ... أقبل فيه فاك ومقلتيك وقال ابن المعتز: أهلا وسهلا بمن في النوم ألقاها ... وحبذا طيفها لو كان آتاها يا حبذا شعث المسواك من فمها ... إذا سقته عقاراً من ثناياها

وقال جميل بثينة: تسوك بقضبان الأراك مفلجاً ... يشعشع فيه الفارسي المروق وقال أبو العتاهية: يخبرني عنه السواك بطيبه ... ولست به لولا السواك بذي خبر وقال بعض الدعاة: يا تائها في الغي من أعماك ... وبحب هذا الداء من أغراك ياتائها في مَهْمَة الغفلات يا ... متجاهلاً متخبطاً بخطاك تستحسن التنباك في فيك الطهور ... وتستحي أن تأخذ المسواك والشرع ثم الطب قد نهياك عن ... هذا الأذى وبفضل ذا أمراك لو كنت تعكس في القضية كان أو ... لى منك لكن اللعين أغراك أتراك تفعله وجدك حاضر ... لا والذي من نطفة سواك ما ينبغي لك يابن طه ترتضي ... خلق اللئام وشؤمها يغشاك وخلعت جلباب الحياء وقلت ذا ... حرية أخطأ في مرماك ومن النظم: إن السواك من رضى الرحمن ... وهو كذا مبيض الأسنان مطهر الثغر ومذكي الفطنة ... يزيد في فصاحة وحسنة مشدد اللثة أيضا مذهب ... لبخر وللعدو مرهب كذا يصفي حلقه ويقطع ... رطوبة وللغذا ينفع ومبطئ للشيب والإهرام ... ومهضم للأكل والطعام وقد غدا مذكر الشهادة ... مسهل النزع لدى الشهادة ومرغم الشيطان والعدو ... والعقل والجسم كذا يقوي ومورث لسعة مع الغنى ... ومذهب الآلام حتى للعنا

وللصداع وعروق الراس ... مسكن لوجع الأضراس مبيض للوجه جال للبصر ... ومذهب للبلغم مع الحفر ميسر موسع للرزق ... مفرح للكاتبين الحق

الفائدة السابعة عشر والآخيرة صفة شجرة الآراك

الفائدة السابعة عشر والآخيرة صفة شجرة الآراك شجرة الأراك: شجرة تنمو في الأماكن الحارة والاستوائية، وتكثر عادة في أودية الصحاري، وتوجد في المملكة العربية السعودية، وأكثر ما تكون في منطقة عسير وجيزان. وتوجد شجرة الأراك في اليمن والسودان ومصر، وخاصة في الصعيد وسيناء، كما توجد في إيران وشرق الهند، وأماكن أخرى. وفروعها شائكة، وأوراقها بيضاوية ملساء، متقابلة، دائمة الخضرة، وإذا أكلت منها الماشية اكتسب لبنها رائحة طيبة. وتنتشر أغصان شجرة الأراك على الأرض لمسافة كبيرة، وأزهارها صفراء مخضرة، وثمرتها صغيرة في حجم حبة الحمص، أو أكبر قليلاً، يكون لونها أخضر أول الأمر، ثم تحمر وتسود، وبها بذرة واحدة، وتجتمع الثمار على شكل عنقود، وعند نضج الثمرة تصبح حلوة الطعم، حاذقة، وقد تؤكل (¬1). الفحص المجهري لمقطع شجرة الأراك قال الدكتور صلاح الدين الحنفي في أبحاثه في رسالته الجامعية، تحت إشراف الدكتور محمد زهير البابا، أستاذ العقاقير في كلية الصيدلة ¬

(¬1) السواك والعناية بالأسنان ـ د. عبد الله عبد الرزاق السعيد (ص: 36)، السواك. د. محمد البار (ص: 147).

بجامعة دمشق، يقول الدكتور صلاح: " نجري مقطعاً عرضياً في عود السواك ـ بعد غليه ونقعه في مزيج الغول والماء والغيليسرين بأقسام متساوية، ونفحصه تحت المجهر، فيبين لنا الطبقات التالية الموضحة بالرسم: 1 - طبقة فلينية. 2 - نسيج قشري، تتخلله بعض الخلايا المتصلبة، والألياف، وداخله حبيبات نشا. 3 - حزم لحائية خشبية تتألف من لحاء نحو الخارج، وطبقة مولدة cambium وأوعية خشبية، وهي تشكل الألياف المنظفة للأسنان، حولها نسيج متخشب، وهذه الأوعية الخشبية والنسيج المتخشب تكون

على عدة طبقات يفصل بين هذه الطبقات نيسج خاص، كما يتضح من الرسم التفصيلي. 4 - أشعة مخية، تفصل بين الحزم الخشبية اللحائية، وتكون خلاياها ملئية ببلورات السيليس والحماضات وحبيبات النشا (¬1). ¬

(¬1) السواك والعناية بالأسنان ـ د. عبد الله عبد الرزاق السعيد (ص: 45).

وإليك هذه الصورة لشجرة الأراك أخذت من كتاب عبد الرزاق السعيد.

الخاتمة

الخاتمة بعد أن يسر الله لنا المرور على أحكام السواك الفقهية والحديثية يتبين لنا عظمة هذا الدين، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (¬1). ففي نظافة الفم، وعناية الشارع به، مر علينا أكثر من مائة حديث، مع الشواهد، ولا أعني المتابعات، وإن كنت لم أعط الشوهد في الحاشية أي نصيب من الترقيم، ومر علينا أربعين مسألة فقهية، وستة عشر فائدة، أغلبها فقهي، فيكون المجموع ستة وخمسين مسألة، في هذا الجانب اليسير، والذي يتعلق في طهارة جزء من البدن، وهو الفم. فالله الحمد كما ينبغي لوجهه، وعظيم سلطانه أن وفقنا إلى هذا الدين الحنيف، والذي أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته أن يميتنا عليه بمنه وكرمه. والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد تبين لي فوئد جمة من خلال البحث، أوجزها فيما يلي: الأولى: أن مباحث السواك، كان للفقهاء رحمهم الله توسع كبير فيما يكره، ويستحب دون أن يكون لذلك ضابط شرعي. الثانية: أن السواك كان في شريعة من قبلنا. الثالثة: أن العبادات، قد تكون يسيرة، ويرتب عليها ثواب عظيم، كالسواك، فإنه مرضاة للرب. الرابعة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على السواك في جميع أحواله، عند دخوله إلى البيت، وعند قيامه من النوم، وعند الصلوات، وعند الوضوء. الخامسة: لو حافظ المسلم على السواك في جميع الأوقات التي يتأكد فيها، لكان معنى ذلك أن يستاك في اليوم أكثر من عشر مرات. وذلك عند الوضوء، وعند الصلوات الخمس، وعند السنن منها، وعند القيام من النوم، وعند دخول المنزل، ويوم الجمعة، وعند قراءة القرآن، وبعد تناول الطعام، وكل ما يغير الفم. السادسة: لا حرج في ذكر الفوائد الصحية لبعض العبادات، وإن كان بعض ¬

(¬1) النساء: 82.

الصالحين قد يكره ذلك، ويقول: إننا نفعل العبادة ليست خدمة للجسم، وإنما قربة وطاعة، وهذا المعنى صحيح، لكن لا يمنع أن تذكر الفوائد الصحية ولا تنافي أن الباعث على ذلك مرضاة الله، وحديث السواك: " مطهرة للفم مرضاة للرب " شاهد على ذلك، وإن كان المسلم يعلم حق العلم أن الشرع لا يأمر إلا ما فيه منفعة وفائدة، ولا ينهى إلا عن شيء مؤذ وضار. {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تذكرون} (¬1). السابعة: وردت أحاديث في فضل السواك عن الصلاة بغير سواك، وهي أحاديث كثيرة، وقد اختلف العلماء فيها. والراجح أن الأحاديث ضعيفة. الثامنة: لم يثبت لي أن السواك من سنن الفطرة، والحديث الوارد في مسلم تكلم فيه الإمام أحمد. التاسعة: الأحاديث الواردة في التسوك بالأصبع لا يصح منها، شيء، ولكن الذي ينظف فاه بأصبعه خير من الذي لا ينظف فاه أبداً، ولكن لا يحصل له الثواب المترتب على السواك؛ لأنه دونه في التطهير، لكن يحصل له من الأجر بقدر ما يحصل له من الإنقاء، والتسوك بالأصبع يناسب إذا كان مع المضمضة، فإنه لا شك أنه مع الماء يحصل به قدر من نظافة الفم وتطهيره، واعتبره بعض المالكية من الدلك المشروع في الوضوء العاشرة: السواك أفضل من الفرشاة، وهذا الأمر ثابت طبياً. الحادي عشرة: الراجح أن السواك ليس بواجب، بل هو سنة مؤكدة. الثانية عشرة: اختلف في وجوب السواك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يبعد تأكيد السواك في حقه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه يناجي من لا نناجي، وقد جاء حديث في إسناده اختلاف. والله أعلم. الثالثة عشرة: خلاف داود، وابن حزم خلاف معتبر، وعدم الاعتداد بخلافهما ¬

(¬1) النحل: 90.

من التعصب المذهبي المجانب للصواب. الرابعة عشرة: لا يكره السواك للصائم مطلقاً لا برطب السواك، ولا يابسه، ولا قبل الزوال، ولا بعده. الخامسة عشرة: الخلوف أطيب عند الله في الدنيا وفي الآخرة من ريح المسك، وليس خاصاً في الآخرة. السادسة عشرة: لا يكره التسوك في المسجد، ولا يشرع التسوك من أجل الدخول، بل من أجل الصلاة. السابعة عشرة: لا يكره التسوك بحضرة الناس. الثامنة عشرة: لا يكره التسوك في الخلاء. التاسعة عشرة: لا تشرع التسمية للسواك. العشرون: الأفضل والله أعلم أن يكون تسوكه قبل المضمضة سواء كان بعد غسل الكفين أو قبل الشروع في الوضوء؛ وذلك لأن السواك إذا نظف الأسنان، ثم جاءت بعده المضمضة، ومج الماء يكون قد سقط كل أذى اقتلعه السواك من الأسنان أو اللثة. والله أعلم. الحادية والعشرون: لا يشرع التسوك للغسل ولا للتيمم، لعدم الدليل. الثانية والعشرون: لا يستحب السواك لسجود التلاوة والشكر، لعدم الدليل، ولا يعتبر سجودهما صلاة على الراجح. الثالثة والعشرون: ذكر الأطباء بأن السواك عرضاً يضر بالأسنان، لذا يستحب السواك طولاً من أجل كلامهم والله أعلم. الرابعة والعشرون: يمسك السواك إن شاء باليد اليمنى وإن شاء باليد اليسرى، ولا يوجد نص في المسألة، والأمر فيها واسع. الخامسة والعشرون: لا يستحب وضع السواك في موضع الأذن، ولم نتعبد بهذا. والحديث الوارد عن الرسول ضعيف، ولم يثبت كذلك عن زيد بن خالد الجهني. والله أعلم.

السادسة والعشرون: أقل ما يحصل به التسوك مرة واحدة، وبه يتحقق الامتثال، وكلما أكثر كان أفضل. السابعة والعشرون: لا يحتاج التسوك إلى نية، وقد يقال: إذا كان التسوك لتحصيل السنة، كالتسوك عند الصلاة، والفم نظيف احتاج إلى نية. وأما غيره فلا. الثامنة والعشرون: لم يتبين لي من حيث السنة جواز التسوك بسواك الغير، وما ورد فيه لا يدل عليه، لأن التسوك بسواك الرسول، لا يؤخذ منه هذه الفائدة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره. التاسعة والعشرون: إذا أعطي السواك للغير، بدئ بالأكبر، وليس بالأيمن الثلاثون: لا يشرع الدعاء عند ابتداء السواك، وليس فيه لا ذكر مطلق، ولا مقيد. الحادية والثلاثون: لا يشرع التسوك، والإمام قد دخل في الصلاة، بل المشروع إذا كبر الإمام أن يكبر المأموم. الثانية والثلاثون: لا بأس بالوضوء من فضل السواك. الثالثة والثلاثون: يستحب أن يعود الصبي للسواك حتى يألفه. الرابعة والثلاثون: يستحب أن يقطع المتسوك الجزء المستخدم من السواك بعد أربعين وعشرين ساعة، وذلك كما أثبته أحد الباحثين طبياً. هذه جل الفوائد الفقهية التي خرجت بها من البحث. أما الفوائد الحديثية، فهي كالتالي: الأولى: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب حديث حسن. الثانية حديث ابن عباس: ما زال النبي يأمرنا به حتى خشينا أن ينزل عليه فيه. حديث حسن. الثالثة: حديث فضل الصلاة بسواك على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفاً. حديث ضعيف. الرابعة: حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة قص

الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، الخ الحديث. المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ. الخامسة: حديث ابن عباس في قوله عز وجل: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك الخ الحديث. إسناده صحيح السادسة: حديث أبي أيوب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربع من سنن المرسلين التعطر والنكاح والسواك والحياء. إسناده ضعيف السابعة: حديث ابن مسعود أنه كان يجتني سواكاً من الأراك. حديث صحيح. الثامنة: أبي خيرة الصنابحي، قال: كنا في الوفد الذين أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من عبد القيس، فزودنا الأراك نستاك به. حديث ضعيف جداً. التاسعة: معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة يطيب الفم ويذهب بالحفر وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي. حديث موضوع. العاشرة: حديث ضمرة بن حبيب: قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السواك بعود الريحان والرمان، وقال: يحرك عرق الجذام. إسناده ضعيف الحادية عشرة: بينا نحن جلوس مع أمير المؤمنين على في المسجد على باب الرحبة، جاء رجل فقال: أرني وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عند الزوال فدعا قنبر، فقال: ائتني بكوز من ماء فغسل كفيه ووجهه ثلاثا، وتمضمض ثلاثا فادخل بعض أصابعه في فيه، الحديث. إسناده ضعيف جداً، وذكر إدخال الأصبعين في فيه منكر. الثانية عشرة: حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: يجزئ من السواك الأصابع إسناده ضعيف جداً. الثالثة عشرة: عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأصابع تجري مجرى السواك إذا لم يكن سواك. الحديث ضعيف جداً.

الرابعة عشرة: حديث عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله الرجل يذهب فوه يستاك؟ قال: نعم. قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه. إسناده ضعيف. الخامسة عشرة: أثر كان عثمان إذا توضأ يسوك فاه بأصبعه. إسناده ضعيف. السادسة عشرة: علي رضي الله تعالى عنه، قال: أمرنا بالسواك، وقال: إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك، فقام خلفه يستمع القرآن، ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو، حتى يضع فاه على فيه الحديث. وإسناده صحيح. السابعة عشرة: حديث عليكم بالسواك فإنه مطيبة للفم، ومرضاة للرب. الحديث حسن، دون زيادة عليكم بالسواك، فإنها منكرة. الثامنة عشرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة الحديث. في إسناده اختلاف. التاسعة عشرة: حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث هن علي فريضة وهو لكم سنة: الوتر، والسواك،، وقيام الليل. إسناده ضعيف جداً. العشرون: حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أمرت بالسواك حتى خفت على أسناني. حسن بالمجموع. الحادية والعشرون: حديث عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أعد وما لا أحصى يستاك وهو صائم. حديث ضعيف. الثانية والعشرون: حديث عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خير خصال الصائم السواك. إسناده ضعيف. الثالثة والعشرون: حديث أيستاك الصائم؟ قال نعم: قلت: برطب السواك ويابسه؟ قال: نعم. قلت: أول النهار وآخره. قال: نعم. ضعيف. الرابعة والعشرون: حديث سألت معاذ بن جبل، أتسوك وأنت صائم؟ قال: نعم. قلت: أي النهار أتسوك؟ قال: أي النهار شئت. حديث ضعيف.

الخامسة والعشرون: حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسوك، وهو صائم. حديث حسن. السادسة والعشرون: أثر ابن عمر أنه لم يكن يرى به باساً بالسواك للصائم. إسناده صحيح. السابعة والعشرون: شذوذ كلمة: " يوم القيامة " من حديث: " ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك ". الثامنة والعشرون: شذوذ لفظة: " حين يخلف " من حديث ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك. التاسعة والعشرون: حديث جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أعطيت آمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبي قبلي أما واحدة فإذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبدا وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك. الحديث ضعيف. الثلاثون: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع. إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب. الحادية والثلاثون: حديث ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام إلا والسواك عنده فإذا استيقظ بدأ بالسواك. إسناده حسن إن شاء الله تعالى. الثانية والثلاثون: حديث أبي هريرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام ليلة ولا ينتبه إلا استن. حديث ضعيف. إسناده ضعيف. الثالثة والثلاثون: حديث عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرقد ليلاً ولا نهاراً إلا تسوك قبل أن يتوضأ. إسناده ضعيف. الرابعة والثلاثون: حديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرقد، فإذا استيقظ تسوك، ثم توضأ، ثم صلى ثمان ركعات يجلس في كل ركعتين، فيسلم، ثم يوتر بخمس ركعات لا يجلس إلا في الخامسة، ولا يسلم إلا في الخامسة. رجاله ثقات إلا أن ذكر

السواك فيه شاذ. الخامسة والثلاثون: حديث زيد بن خالد الجهني قال: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من شيء لشيء من الصلوات حتى يستاك. إسناده ضعيف. السادسة والثلاثون: حديث بهز قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضاً، ويشرب مصاً، ويتنفس ثلاثاً، ويقول: هو أهنأ وأمرأ وأبرأ. حديث ضعيف. السابعة والثلاثون: حديث عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى. الحديث الراجح فيه إن إسناده منقطع. الثامنة والثلاثون: حديث جابر بن عبد الله قال: كان السواك من أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - موضع القلم من أذن الكاتب. حديث معلول. هذا ما خلصت إليه من نتائج في بحث السواك، والتي أرجو من الله العلي القدير أن أكون وفقت في كثير منها إلى الحق، وأن يغفر لي ما حصل في ذلك من تقصير وزلل، وهو الأصل في عمل الإنسان كما قال سبحانه {إنه كان ظلوماً جهولاً} (¬1). والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

(¬1) الأحزاب: 72.

[المسح على الحائل]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، لا يستحق الحمد المطلق سواه، له الحمد في السموات والأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، يحمد سبحانه وتعالى على خلقه، وشرعه وقدره، وعلى كمال صفاته، قال تعالى: {الحمد الله الذي خلق السموات والأرض} (¬1). وأما حمده سبحانه وتعالى على كمال صفاته، قال سبحانه: {الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً} (¬2). وأما حمده على كمال شرعه، قال سبحانه: {الحمد لله الذي نزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً} (¬3). ويحمد على قضائه وقدره، قال سبحانه {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} (¬4). وقال سبحانه: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين} (¬5). ¬

(¬1) الأنعام، آية: 1. (¬2) الإسراء، آية: 111. (¬3) الكهف، آية: 1. (¬4) الأعراف، آية: 43. (¬5) المؤمنون، آية: 28.

وقال: {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون} (¬1). {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} (¬2). وبعد، فهذا كتاب في أحكام المسح على الحائل من خف وجورب وعمامة وجبيرة، حاولت أن أجمع مسائله المتفرقة، متبعاً في منهجي ما يأتي: أولاً: من ناحية الأحاديث والآثار، لم أذكر حديثاً أو أثراً إلا وخرجته من مصادره، وتكلمت على أسانيده، وصرفت عناية خاصة للمتن، مبيناً حسب اجتهادي القاصر ما تبين لي من المحفوظ والشاذ بحسب القواعد الحديثية، وقد اعتمدت في الحكم عليها منهج الأئمة المتقدمين في عدم القبول والرد لأي زيادة ترد في المتن إلا بعد مقارنة من ذكرها بمن لم يذكرها، مبتعداً عن منهج جمهور الأصوليين والفقهاء الذين يشترطون في رد الزيادة أن تكون منافية، ولي في زيادة الثقة والشذوذ بحث سوف أبسطه في نشر الكتاب الأم الذي يعتبر أصلاً لهذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ثانياً: من ناحية الأقوال الفقهية، وجهت عناية خاصة بمذاهب الأئمة الأربعة، لشهرتها، وانتشارها، وتحريت في نسبة كل مذهب إلى أمهات كتبهم المعتمدة عند أصحابها، وتحريت في مذهب الإمام أحمد أن أنقل عنه من مسائله ما أمكن، فإن لم توجد المسألة في مسائل أحمد نقلتها من الكتب المشهورة في مذهب الحنابلة، وأضفت إلى المذاهب الأربعة أقوال ¬

(¬1) العنكبوت، آية: 63. (¬2) إبراهيم، آية: 39.

خطة البحث

بعض المحققين، كابن حزم الظاهري، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني وغيرهم. ثالثاً: بينت الراجح من الأقوال بما تقتضيه الأدلة، وتحريت الإنصاف في مناقشة الخلاف، مع التزام أدب الخلاف في بيان الراجح، مبتعداً عن التقليد والتعصب، معرضاً عن تتبع أوهام المشايخ والعلماء، وإذا اضطررت إلى ذلك أشرت إلى القول دون ذكر القائل، حرصاً على سلامة الصدور، ومحبة في تأليف القلوب. رابعاً: لم أضع فهارس للبحث؛ لأن الفهارس سوف توضع للكتاب الأم، والذي قارب أن يخرج للناس منه أحكام الطهارة، ووضعت خطة للبحث، مكونة من مقدمة، وثمانية أبواب، وخاتمة على النحو التالي: خطة البحث: تمهيد: تشتمل على حكمة الشرع في إباحة المسح على الخفين، وكون هذا الباب يذكره أهل العلم في باب العقائد وذلك لمخالفة بعض الفرق الضالة لأهل السنة والجماعة. الباب الأول: في حكم المسح. ويشتمل على فصول: الفصل الأول: في خلاف العلماء في المسح على الخفين. الفصل الثاني: في خلاف العلماء في المسح على الجوربين. الفصل الثالث: في خلاف العلماء في المسح على النعلين. الفصل الرابع: في خلاف العلماء في المسح على الخرق واللفائف. الفصل الخامس: أيهما أفضل المسح أو الغسل؟ الفصل السادس: هل المسح رخصة أم عزيمة؟

الفصل السابع: هل المسح على الخفين رافع للحدث أم مبيح؟ الفصل الثامن: حكم من لبس الخفين ليمسح. الفصل التاسع: حكم مسح من به حدث دائم. الباب الثاني: في صفة المسح. وفيه فصول: الفصل الأول: في المقدار المجزئ في المسح على الخفين. الفصل الثاني: الخلاف في مسح أسفل الخف. الفصل الثالث: هل يكفي غسل الخف عن مسحه؟ الفصل الرابع: هل يشرع تكرار المسح؟ الفصل الخامس: هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معاً؟ فرع: هل يشترط إظهار أثر الأصابع خطوطاً على الخف من المسح. الباب الثالث: في شروط المسح على الخفين. الشرط الأول: في طهارة الخف. الشرط الثاني: هل يشترط أن يكون الخف مباحاً؟ الشرط الثالث: خلاف العلماء في اشتراط كون الخف ساتراً لما يجب غسله. الشرط الرابع: ثبوت الخف بنفسه على القدم. الشرط الخامس: إمكان متابعة المشي على الخف. الشرط السادس: هل يشترط أن يكون الخف من جلد؟ الشرط السابع: هل يشترط أن يمنع الخف وصول الماء إلى الرجل؟ الشرط الثامن: يشترط أن يكون المسح في الطهارة الصغرى.

الشرط التاسع: أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعاً. الشرط العاشر: هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية؟ الشرط الحادي عشر: يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة. الشرط الثاني عشر: يشترط إن كان سليم القدمين أن يمسح على الرجلين معاً. الشرط الثالث عشر: يشترط أن يكون المسح على الخفين، وما في معناهما. الشرط الرابع عشر: هل تشترط النية للمسح على الخفين؟ فرع: إذا لبس الخفين، وهو يدافع الأخبثين. الباب الرابع: خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح. الباب الخامس: في السفر وأحكام المسح على الخفين. وفيه فصول: الفصل الأول: اختلاف التوقيت بين المسافر والمقيم الفصل الثاني: اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر التي يسوغ فيها مسح مسافر. الفصل الثالث: إذا لبس الخفين، وهو مقيم، ثم سافر. الفصل الرابع: إذا مسح في السفر، ثم أقام. الفصل الخامس: إذا شك في ابتداء المسح، هل كان في السفر أم في الحضر؟ الفصل الخامس: هل يمسح من كان عاصياً بسفره؟ الباب السادس: في أحكام لبس الخف على الخف. الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز المسح إذا لبس خفاً على خف.

الفصل الثاني: إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث فهل يمسح عليه؟ الفصل الثالث: حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما. الفصل الرابع: إذا مسح الأعلى، ثم خلعه، فهل يمسح الأسفل؟ الباب السابع: مبطلات المسح على الخفين. الفصل الأول: خلاف العلماء إذا نزع خفيه بعد المسح، وقبل تمام المدة. الفصل الثاني: إذا ظهر بعض محل الفرض، ولم يخلع الخف فهل تبطل طهارته؟ الفصل الثالث: إذا انتهت مدة المسح، فهل يستأنف الوضوء؟ الفصل الرابع: يبطل المسح بوجود الحدث الأكبر. الباب الثامن: في أحكام المسح على العمامة. الفصل الأول: خلاف العلماء في المسح على العمامة. الفصل الثاني: خلاف العلماء في المسح على الخمار. الفصل الثالث: خلاف العلماء في المسح على القلانس. الفصل الرابع: في شروط المسح على العمامة. الشرط الأول: في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة. الشرط الثاني: الخلاف في اشتراط لبسها على طهارة. الشرط الثالث: الخلاف في توقيت المسح على العمامة. الشرط الرابع: لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر. الشرط الخامس: الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح. الشرط السادس: يشترط أن تكون العمامة مباحة. الشرط السابع: أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره.

الباب التاسع: في المسح على الجبيرة. وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز المسح على الجبيرة. الفصل الثاني: في شروط المسح على الجبيرة. الشرط الأول: أن يكون الغسل مما يضر بالعضو الشرط الثاني: الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة. الشرط الثالث: الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة. الشرط الرابع: هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة؟ الشرط الخامس: هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحاً؟ الشرط السادس: هل يجوز المسح على الجرح إذا لم يكن عليه جبيرة؟ الشرط السابع: هل يشترط أن تكون الجبيرة من خشب أو يلحق بها اللصوق ونحوها؟ الفصل الثالث: إذا سقطت الجبيرة أو أبدلها فهل يعيد المسح؟ الفصل الرابع: في صفة المسح المبحث الأول: هل يجب استيعاب الجبيرة بالمسح؟ المبحث الثاني: إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثاً، فهل يستحب له أن يمسح ثلاثاً؟ الخاتمة: أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث. هذا ما حاولت بحثه، فإن كنت وفقت فهذا من الله سبحانه وتعالى، وله الفضل كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن كانت الأخرى، فهو من تقصيري وتفريطي، فالله أسأله سبحانه وتعالى مغفرته وعفوه، اللهم كما

سترت الذنوب والعيوب، وأظهرت الجميل والحسن، اللهم فاكتب لي، ولوالدي، ولمشايخي، ولإخواننا المغفرة والرحمة والتجاوز يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. كتبه أبو عمر: دبيان بن محمد الدبيان السعودية ـ القصيم ـ بريدة

تمهيد

تمهيد

تمهيد لقد رفع الله سبحانه وتعالى الحرج عن هذه الأمة، فشريعة الله سبحانه وتعالى لا عنت فيها، ولا مشقة، تراعي أحوال المكلف، فاليسر وعدم التكلف هو شأن هذه الملة التي جاءت من أحكم الحاكمين، ومن رب العالمين، ومع أن شرع الله لا حرج فيه إلا أنه إذا طرأ على المكلف ما يستدعي التيسير عليه خفف عنه بالقدر الذي لا يشق عليه، فهذا المسافر يقصر الصلاة، ويفطر في رمضان لأن الغالب في السفر أن يكون فيه كلفة ومشقة، وهذا المريض يصلي قائماً، فإذا لم يستطع صلى قاعداً، فإذا لم يستطع صلى على جنب، وهكذا الشرع مع أحوال المكلف، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ما جعل عليكم في الدين من حرج، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم، ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، وكان الله شاكراً عليماً. وفي المسح على الخفين والجوارب والعمامة ما فيه من التيسير على المكلف خاصة في أيام البرد الشديد، وفي بعض البلاد الباردة جداً ما يدرك المرء نعمة الله سبحانه وتعالى عليه، ولو شاء الله لأعنتكم. ولقد ظل بعض أهل البدع في مسألة المسح على الخفين حتى أنكروه مع ثبوته عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل وثبت عنه المسح على النعلين، وكان الأليق في دعواهم لمحبة الإمام علي بن أبي طالب أن يتبعوه ولكن المحبة التي لا تكون مبنية على أسس شرعية لن تهدي صاحبها إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فخالفوا فيه أهل السنة من وجهين: الأول: أنهم يرون مسح القدم، ولو لم يكن عليها خف، فوقعوا في

تعريف الخف

وعيد قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: ويل للأعقاب من النار (¬1). الثاني: أنهم أنكروا المسح على الخفين على كثرة الأحاديث الواردة فيه، حتى اعتبرت من قبيل الأحاديث المتواترة. وقد ذكر المسح على الخفين بعض ممن ألف في العقائد مع أنه مسألة فقهية، للتنبيه على أن حكم هذه المسألة فرق بين أهل السنة، وبين أهل البدع من الخوارج والرافضة هداهم الله. وعلى كل حال فهم يخالفون أهل السنة في أكبر من ذلك، ولهم في كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته عقائد منكرة، وإنما ذكرت ما ذكرت تحذيراً لمن ينكر سنة المسح لئلا يتشبه بهم، وليحذر من طريقة أهل البدع. والله الهادي وحده إلى الطريق المستقيم. وقبل أن أختم هذا الفصل، أود أن أعرف الخف والجورب والموق والجبيرة عند أهل اللغة. تعريف الخف: قال الفيومي: الخف: الملبوس، جمعه: خفاف، مثل كتاب. وفرق بين هذا وخف البعير؛ إذ يجمع الثاني على أخفاف، مثل قفل، وأقفال (¬2). وقال الفيروزآبادي: أخفاف: واحد الخفاف، التي تلبس، وتخفّف: لبسه. ¬

(¬1) البخاري (165)، ومسلم (242) من حديث أبي هريرة، وجاء من حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين، ومن حديث عائشة عند مسلم (240). (¬2) المصباح المنير (ص: 1/ 175،176).

تعريف الجوارب

ثم ذكر المثل المشهور: جئتكم بخفي حنين، مثل يضرب عند اليأس من الحاجة (¬1). وجاء في المعجم الوسيط: الخف: ما يلبس في الرجل من جلد رقيق (¬2). تعريف الجوارب: قال الأزهري والفيروزآبادي: الجورب لفافة الرجل (¬3). وقيل: إنه فارسي معرب، وأصله كورب (¬4). وأما مادته التي يصنع منها، فقال أبو بكر بن العربي: الجورب غشاآن للقدم من صوف، يتخذ للوقاء. وفي التوضيح للحطاب المالكي: الجوارب ما كان على شكل الخف، من كتان أو قطن أو غير ذلك. وفي الروض المربع للبهوتي الحنبلي: الجورب: ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد. وقال العيني: الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب (¬5). ¬

(¬1) القاموس المحيط (ص: 1041). (¬2) المعجم الوسيط (1/ 247). (¬3) تهذيب اللغة (11/ 53)، القاموس المحيط (ص: 86). (¬4) لسان العرب (1/ 263). (¬5) انظر المسح على الجوربين للقاسمي (ص: 50).

تعريف الجرموق

فظهر أن الفرق بينه وبين الخف، أن الخف يكون من جلد، والجورب يكون من غير الجلد. تعريف الجرموق: الجرموق: بضم الجيم والميم: فارسي معرب، وهو شيء يلبس فوق الخف لشدة البرد، أو حفظه من الطين وغيره، ويكون من الجلد غالباً. والجمع: جراميق. وقال الأزهري: الجرموق: خف يلبس فوق الخف. وفي القاموس: لا تجتمع الجيم والقاف في كلمة إلا معربة، أو تكون صوتاً (¬1). تعريف الموق: والموق كما في مختار الصحاح: ما يلبس فوق الخف، وهو فارسي معرب (¬2). وقال الجوهري والمطرزي: الموق خف قصير، يلبس فوق الخف، نقلاً من شرح فتح القدير (¬3). وأنكر النووي أن يكون الموق يلبس فوق الخف، فذكر عن أصحابه أن الموق: هو الخف لا الجرموق، وقال: هو الصحيح المعروف في كتب أهل الحديث وغريبه (¬4). ¬

(¬1) تهذيب اللغة (9/ 384)، لسان العرب (10/ 35)، القاموس المحيط (ص:1125). (¬2) مختار الصحاح (226). (¬3) شرح فتح القدير (1/ 158). (¬4) المجموع (1/ 536).

تعريف الجبيرة

وجاء في نصب الراية: " قال الشيخ تقي الدين في الإمام: وقد اختلفت عباراتهم في تفسير الموق، فقال: ابن سيده: الموق ضرب من الخفاف، والجمع أمواق، عربي صحيح. وحكى الأزهري عن الليث: الموق ضرب من الخفاف، ويجمع على أمواق. وقال الجوهري: الموق الذي يلبس فوق الخف، فارسي معرب. وقال الفراء: الموق الخف فارسي معرب، وجمعه أمواق. وكذلك قال الهروي الموق الخف فارسي معرب، وقال كراع: الموق الخف والجمع أمواق انتهى " (¬1). تعريف الجبيرة: جاء في المصباح: " جبرت اليد: وضعت عليها جبيرة، والجبيرة: عظام توضع على الموضع العليل من الجسد، ينجبر بها، والجبارة بالكسر: مثله، والجمع: الجبائر (¬2). وفي المختار: الجبيرة: العيدان التي تجبر بها العظام (¬3). وقال في طلبة الطلبة: الجبائر: هي التي تربط على الجرح، جمع جبيرة: وهي العيدان التي تجبر بها العظام (¬4). وقال البعلي: هي أخشاب ونحوها، تربط على الكسر ونحوه (¬5). ¬

(¬1) نصب الراية (1/ 184). (¬2) المصباح (1/ 89). (¬3) مختار الصحاح (ص: 68). (¬4) طلبة الطلبة (1/ 8). (¬5) المطلع على أبواب المقنع (ص: 22).

الباب الأول في حكم المسح

الباب الأول في حكم المسح ويشتمل على تسعة فصول

الفصل الأول خلاف العلماء في المسح على الخفين

الفصل الأول خلاف العلماء في المسح على الخفين اختلف العلماء في جواز المسح على الخفين: فقيل: يجوز في الحضر والسفر. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، ورواية عن مالك (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). ¬

(¬1) قال الجصاص في أحكام القرآن (3/ 353): " ثبت المسح على الخفين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم، ولذلك قال أبو يوسف: إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة ". وانظر المبسوط (1/ 97)، شرح فتح القدير (1/ 143)، بدائع الصنائع (1/ 7)،والعناية في شرح الهداية (1/ 144)، وقال في تبيين الحقائق (1/ 45): "صح المسح لما ورد فيه من الأخبار المستفيضة، حتى روي عن أبي حنيفة أنه قال: ما قلت بالمسح على الخفين حتى وردت فيه آثار أضوأ من الشمس، حتى قال: من أنكر المسح على الخفين يخاف عليه الكفر ... الخ. (¬2) الأم (1/ 49،50)، وقال في (7/ 239): " سألت الشافعي عن المسح على الخفين؟ فقال: يمسح المسافر والمقيم إذا لبسا على كمال الطهارة ... الخ، وقال في المجموع (1/ 500): " مذهبنا ومذهب العلماء كافة جواز المسح على الخفين في الحضر والسفر ... . الخ اهـ. (¬3) المغني (1/ 174)، الفروع (1/ 158)، الإنصاف (1/ 169). (¬4) شرح الخرشي (1/ 176)، الفواكه الدواني (1/ 160،161)، حاشية العدوي (1/ 235) حاشية الدسوقي (1/ 141) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 152). (¬5) المحلى بالآثار (1/ 321).

أدلة الجمهور على جواز المسح على الخفين

وقيل: يجوز في السفر ولا يجوز في الحضر. وهو رواية عن مالك (¬1). وقيل: لا يجوز مطلقاً، وهو أضعف الروايات عن مالك (¬2). أدلة الجمهور على جواز المسح على الخفين. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬3). قال الطبري: اختلف القراء، في قراءة قوله تعالى (وأرجلكم) فقرأه جماعة من قراء الحجاز والعراق: " وأرجلكم " نصباً، فتأويله: إذا قمتم إلى ¬

(¬1) قال مالك في المدونة (1/ 144): " لا يمسح المقيم على خفيه ". وقال في المنتقى (1/ 77): " وأما المسح في الحضر، فعن مالك فيه روايتان: أحدهما: المنع. والثانية: الإباحة، وهو الصحيح، وإليه رجع مالك .. الخ. وانظر الخرشي (1/ 176). (¬2) قال الباجي في المنتقى (1/ 77): " قال الشيخ أبو بكر في شرح المختصر: أنه روي عن مالك لا يمسح المسافر ولا المقيم، فإن صحت هذه الرواية فوجهها أن المسح منسوخ. قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: وهذا عندي يبعد؛ لأن ابن وهب روى عنه أنه قال: لا أمسح في سفر ولا حضر، وكأنه كرهه، وفي النوادر عن ابن وهب أنه قال: آخر ما فارقته على المسح في السفر والحضر، وكأنه وهو الذي روى عنه متأخر وأصحابه مطرف وابن الماجشون، فدل ذلك على أنه منعه أولاً على وجه الكراهة لما لم ير أهل المدينة يمسحون، ثم رأى الآثار فأباح المسح على الإطلاق. اهـ. (¬3) المائدة، آية: 6.

الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم. ثم قال: وقرأ آخرون من قراء الحجاز والعراق: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} بخفض الأرجل (¬1). وقال ابن الجوزي: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس (¬2). وجه الشاهد من الآية: على قراءة كسر: (وأرجلكم) تأولها بعضهم أن فيها إشارة للمسح على الخفين. قال القرطبي: قيل: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيداً لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين - صلى الله عليه وسلم - بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل، والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن (¬3). قلت: ولا يمكن أن يفهم من قراءة الجر جواز مسح القدم، ولو كانت مكشوفة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح قدميه قط، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: " ويل للأعقاب من النار " (¬4). ¬

(¬1) تفسير الطبري (6/ 126). (¬2) زاد المسير (2/ 301). (¬3) تفسير القرطبي (6/ 93). (¬4) سبق تخريجه في المقدمة.

الدليل الثاني

وقال ابن العربي: وطريق النظر البديع أن القراءتين محتملتان، وأن اللغة تقضي بأنهما جائزتان، فردهما الصحابة إلى الرأس مسحاً، فلما قطع بنا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقف في وجوهنا وعيده - يعني حديث ويل للأعقاب من النار - قلنا: جاءت السنة قاضية بأن النصب يوجب العطف على الوجه واليدين، ثم قال: وجاء الخفض ليبين أن الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل، وهما الخفان، بخلاف سائر الأعضاء، فعطف النصب مغسولاً على مغسول، وعطف بالخفض ممسوحاً على ممسوح، وصح المعنى فيه (¬1). وقال الشنقيطي رحمه الله: قال بعض العلماء: المراد بقراءة الجر: المسح، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن ذلك المسح لا يكون إلا على خف، وعليه فالآية تشير إلى المسح على الخف في قراءة الخفض (¬2). الدليل الثاني: (1) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وإسحاق بن إبراهيم وأبو كريب جميعاً، عن أبي معاوية ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع - واللفظ ليحيى -قال: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: بال جرير، ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه. ¬

(¬1) أحكام القرآن (2/ 72). (¬2) أضواء البيان (2/ 15).

الدليل الثالث

قال الأعمش: قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. وفي رواية: قال: فكان أصحاب عبد الله يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، والحديث في البخاري (¬1). الدليل الثالث: (2) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن مغيرة بن شعبة، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال: يامغيرة خذ الإداوة، فأخذتها، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني، فقضى حاجته، وعليه جبة شأمية، فذهب ليخرج يده من كمها، فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه، فتوضأ وضوءه للصلاة، ومسح على خفيه، ثم صلى. ورواه مسلم (¬2). الدليل الرابع: (3) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج المصري، عن ابن وهب، قال: حدثني عمرو بن الحارث، حدثني أبو النضر، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمر، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين، وأن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك، فقال: نعم إذا حدثك شيئاً ¬

(¬1) البخاري (387) ومسلم (272)، واللفظ لمسلم. (¬2) البخاري (363) ومسلم (77 - 274).

الدليل الخامس

سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تسأل عنه غيره (¬1). الدليل الخامس: (4) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، أن أباه أخبره، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين (¬2). الدليل السادس: (5) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا أبوخيثمة، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانتهى إلى سباطة قوم، فبال قائماً، فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ، فمسح على خفيه (¬3). الدليل السابع: (6) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا إسحاق، أخبرنا عيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ¬

(¬1) صحيح البخاري (202). (¬2) البخاري (204)، وسيأتي الكلام عليه في باب المسح على العمامة. (¬3) مسلم (273)، والحديث في البخاري من غير ذكر للمسح على الخفين، انظر (224).

عن كعب بن عجرة، عن بلال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والخمار (¬1). ورواه النسائي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم (دحيم) وسليمان بن داود، واللفظ له، عن ابن نافع، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أسامة بن زيد، قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلال الأسواق، فذهب لحاجته، ثم خرج، قال أسامة: فسألت بلالاً ما صنع؟ فقال بلال: ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - لحاجته، ثم توضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين، ثم صلى (¬2). [حديث صحيح] (¬3). ¬

(¬1) مسلم (275). (¬2) النسائي (120) وفي السنن الكبرى بالسند نفسه (127). (¬3) الحديث أخرجه ابن خزيمة (185) أيضاً من طريق يونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، كلاهما عن عبد الله بن نافع به. ورواه ابن حبان (1323)، والحاكم (1/ 151) من طريق محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن نافع به. وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث. وأخرجه البيهقي (1/ 275) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن عبد الله ابن نافع به. وفي إسناده عبد الله بن نافع: وثقه يحيى بن معين. الجرح والتعديل (5/ 183). وقال فيه أحمد: لم يكن صاحب حديث، كان ضيقاً فيه، وكان صاحب رأي مالك، وكان يفتي أهل المدينة برأي مالك، ولم يكن في الحديث بذاك. تهذيب التهذيب (6/ 46)، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الكامل (4/ 242). وقال البخاري: في حفظه شيء. الكاشف (3017). وقال أيضاً: يعرف وينكر في حفظه، وكتابه أصح. الضعفاء للعقيلي (2/ 311). وقال أبو حاتم: ليس بالحافظ، هو لين، وتعرف حفظه وتنكر، وكتابه أصح. وقال أبو زرعة: لا بأس به. الجرح والتعديل (5/ 183). وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم. وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال الخليلي: لم يرضوا حفظه، وهو ثقة. تهذيب التهذيب (6/ 46)، تهذيب الكمال (16/ 208). وقال النسائي: ليس به بأس، وقال مرة: ثقة. تهذيب التهذيب (6/ 46). ووثقه العجلي. معرفة الثقات (2/ 64). وفي التقريب: ثقة صحيح الكتاب، وفي حفظه لين. ولم ينفرد به عبد الله بن نافع، بل تابعه غيره عليه. فقد أخرجه الحاكم (1/ 151) حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هانئ، ثنا أبو نعيم، عن داود بن قيس به. وأبو جعفر محمد بن صالح بن هانئ، ثقة حافظ زاهد. انظر البداية والنهاية (11/ 225). وطبقات الشافعية (3/ 174). وأبو نعيم: هو الفضل بن دكين، روى له الجماعة، وفي التقريب: ثقة ثبت. وداود بن قيس، روى له مسلم، والبخاري تعليقاً، وأصحاب السنن، وفي التقريب: ثقة فاضل. وبقية الإسناد كلهم ثقات، فالحديث صحيح. وتابع مالك بن أنس داود بن قيس، فقد أخرجه الحاكم (1/ 151) من طريق عبد الله ابن نافع، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، إلا أنه من طريق عبد الله بن نافع، وهذا اختلاف عليه في الحديث، فتارة يرويه عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، وتارة يرويه عن مالك، عن زيد بن أسلم، ولم يتابع عبد الله بن نافع في مالك، فأين أصحاب مالك عن هذا الحديث لو كان محفوظاً عنه؟

الدليل الثامن

والحديث صريح بأنه مسح في الحضر، وليس بالسفر. الدليل الثامن: (7) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد ح وحدثني محمد بن حاتم - واللفظ له - حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعته يا عمر (¬1). الدليل التاسع: في الأحاديث التي توقت للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، فيها دلالة على جواز المسح في الحضر والسفر، وسوف يأتي ذكرها - إن شاء الله - في بحث هل المسح مؤقت أم لا؟ منها حديث علي بن أبي طالب، وصفوان بن عسال، وحديث خزيمة بن ثابت، وعوف بن مالك، وغيرها من الأحاديث، وكذلك جاء المسح في حديث ثوبان، وأنس، وسلمان، وأبي طلحة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تخريجها في باب المسح على العمامة. والله أعلم. الدليل العاشر: قال ابن عبد البر: لا أعلم في الصحابة مخالفاً - يعني: في جواز ¬

(¬1) مسلم (277).

المسح على الخفين - إلا شيئاً لا يصح عن عائشة، وابن عباس وأبي هريرة، وقد روي عنهم من وجوه خلافه في المسح على الخفين (¬1)، وكذلك لا أعلم في التابعين أحداً ينكر ذلك، ولا في فقهاء المسلمين إلا رواية جابر، عن مالك، والروايات الصحاح عنه بخلافه، وهي منكرة يدفعها موطؤه، وأصول مذهبه (¬2). ونقل ابن المنذر، عن ابن المبارك، قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف؛ لأن كل من روي عنهم إنكاره، فقد روى عنه إثباته (¬3). (8) وروى ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن الحسن، ثنا أحمد بن يونس، ثنا محمد بن الفضل بن عطية، عن الحسن، قال: حدثني سبعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عليه السلام مسح على الخفين (¬4). قال ابن المنذر بعد أن ساق جملة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ممن يرى جواز المسح على الخفين، قال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وكل من لقيت منهم على القول به (¬5). ¬

(¬1) إلا ما جاء عن عائشة، فقد ثبت عنها إنكار المسح على الخفين، ولم يختلف عليها في ذلك، وقد نقلته مثل هذا الكلام عن ابن عبد البر في أدلة القائلين بأنه لا يجوز المسح. (¬2) التمهيد (11/ 141). (¬3) فتح الباري في الكلام على حديث (202). (¬4) الأوسط (1/ 433). (¬5) الأوسط (1/ 434).

أدلة القائلين بجواز المسح في السفر خاصة

وقال أيضاً: " أجمعوا على أن كل من أكمل طهارته، ثم لبس الخفين، وأحدث، أن له أن يمسح عليهما (¬1). أدلة القائلين بجواز المسح في السفر خاصة. الدليل الأول: (9) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم (¬2). [الحديث روي مرفوعاً وروي موقوفاً، والرفع محفوظ إن شاء الله تعالى] (¬3). ¬

(¬1) الإجماع (ص: 34). (¬2) مسلم (276). (¬3) هذا الإسناد مداره على الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ورواه جماعة عن الحكم مرفوعاً، منهم الأعمش، وعمرو بن قيس، وزيد بن أبي أنيسة. ورواه شعبة عن الحكم، فكان في بادئ الأمر يرويه مرفوعاً، ثم ترك رفعه فرواه موقوفاً. وقد رواه عن شعبة مرفوعاً كل من يحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن جعفر (غندر) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأبو سعيد مولى بني هاشم، والطيالسي. ورواه أبو إسحاق السبيعي، عن القاسم بن مخيمرة مرفوعاً وموقوفاً. ورواه يزيد بن أبي زياد وعبدة بن أبي لبابة، عن القاسم به، موقوفاً. فصار الحديث يرويه عن القاسم بن مخيمرة: يزيد بن أبي زياد وعبدة بن أبي لبابة، وروايتهما موقوفة. ويرويه الحكم وأبو إسحاق، وقد اختلف عليهما في وقفه ورفعه، وإليك تخريج هذه الطرق: أما رواية الحكم بن عتيبة، فله طرق كثيرة جداً، منها: الطريق الأول: عمرو بن قيس، عن الحكم. أخرجه عبد الرزاق (789) ومن طريقه أحمد (1/ 134) ومسلم (276)، وأبو عوانة (1/ 261) والنسائي (128) والبيهقي (1/ 275) عن سفيان، عن عمرو بن قيس به. وقرن أحمد رواية عبد الرزاق برواية إسحاق بن يوسف. وأخرجه الدارمي (714) والطحاوي (1/ 81) من طريق محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان الثوري به. وأخرجه أبو عوانة (1/ 261) من طريق قبيصة وزيد بن الحباب، وإسحاق الأزرق ثلاثتهم، عن سفيان به. الطريق الثاني: شعبة، عن الحكم به. أخرجه أحمد (1/ 120) حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني الحكم، عن القاسم، عن شريح بن هانئ، قال: سألت عائشة ... الخ إلا أنه جعله موقوفاً. قال يحيى: وكان يرفعه - يعني شعبة - ثم تركه. أي ترك الرفع. وعليه فرواية الرفع متقدمة على رواية الوقف. وأخرجه أبو عوانة (1/ 262) وابن حبان (1331) من طريق يحيى بن سعيد القطان به مرفوعاً قال ابن حبان: ما رفعه عن شعبة إلا يحيى القطان، وأبو الوليد الطيالسي اهـ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أبو داود الطيالسي (92) عن شعبة به موقوفاً. وأخرجه أحمد (1/ 120) حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة به موقوفاً. قيل لمحمد: كان يرفعه؟ فقال: كان يرى أنه مرفوع، ولكنه كان يهابه. وأخرجه ابن ماجه (552) من طريق محمد بن جعفر به. مرفوعاً. وأخرجه أحمد (1/ 100) حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شعبة، عن الحكم وغيره، عن القاسم به موقوفاً. وسنده صحيح. الطريق الثالث: عن الأعمش، عن الحكم بن عتيبة به. أخرجه أحمد (1/ 113) وابن أبي شيبة (1/ 162)، ومسلم (276)، والنسائي (129)، وأبو يعلى (364)، وابن خزيمة (194)، وأبو عوانة (1/ 261،262) والبيهقي (1/ 272،275) والبغوي في شرح السنة (238) من طريق أبي معاوية، حدثنا الأعمش، عن الحكم به مرفوعاً. ورجاله ثقات. الطريق الرابع: الحجاج بن أرطاة، عن الحكم به. أخرجه أحمد (1/ 149،296) حدثنا يزيد، أنبأنا الحجاج بن أرطاة، عن الحكم به مرفوعاً. والحجاج قال فيه الحافظ في التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس. اهـ وما يخشى من غلطه وتدليسه قد زال بكثرة الطرق والمتابعات. ورواه أحمد (1/ 96) حدثنا يزيد، عن الحجاج، إلا أنه قال: عن أبي إسحاق، عن علي بن ربيعة، عن علي، بمثل رواية الحجاج عن الحكم، وأخرجه الطحاوي من هذا الطريق، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. الطريق الخامس: زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم. أخرجه مسلم (276) حدثنا إسحاق - هو ابن إبراهيم - أخبرنا زكريا بن عدي، عن عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم به. الطريق السادس: عبد الملك بن حميد (أبو غنية) عن الحكم به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أخرجه ابن خزيمة (195) وابن حبان (1322) من طريق زياد بن أيوب، حدثنا ابن أبي غنية، حدثنا أبي، عن الحكم به، بدون ذكر عائشة. الطريق السابع: زبيد اليامي، عن الحكم به. أخرجه الطحاوي (1/ 81) من طريق أسد بن موسى، قال ثنا محمد بن طلحة عن زبيد به. مرفوعاً. وزبيد ثقة، وابن طلحة صدوق له أوهام. الطريق الثامن: ابن أبي ليلى، عن الحكم. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 282) من طريق زائدة، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن الحكم به موقوفاً. هذا ما وقفت عليه من طرق إلى الحكم بن عتيبة، ولم ينفرد به، فقد تابعه كل من: الأول: أبو إسحاق السبيعي، عن القاسم بن مخيمرة به. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 165) رقم 1892 قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن القاسم به موقوفاً. وهذا إسناد فيه لين؛ أبو بكر بن عياش قال فيه بالتقريب: ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح. اهـ وقد توبع أبو بكر. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 277) من طريق زياد بن خيثمة عن أبي إسحاق به. موقوفاً. وأخرجه الطحاوي (1/ 81) من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن القاسم ابن مخيمرة به. ولفظه: كنا نؤمر إذا كنا سفرا أن نمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وإذا كنا مقيمين فيوماً وليلةً. وهذا مرفوع حكماً، وسنده صحيح، وقد أخرج الشيخان حديث أبي إسحاق من رواية أبي الأحوص عنه، وعنعنة أبي إسحاق قد زالت بالمتابعة إن شاء الله تعالى. وأخرجه ابن الجعد في مسنده (2549) والطحاوي (1/ 84) من طريق زهير، عن أبي إسحاق به موقوفاً. وأخرجه الدراقطني في العلل (3/ 237) من طريق سفيان، عن أبي إسحاق به مرفوعاً. فصار أبو الأحوص وسفيان يرويانه عن أبي إسحاق مرفوعاً. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأبو بكر بن عياش، وزهير وزياد بن خيثمة يروونه عنه موقوفاً. الثاني: يزيد بن أبي زياد، عن القاسم به. أخرجه الحميدي (46) عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن القاسم به. وفيه سقط فلم أتحقق من رفعه ووقفه، لكن أشار الدارقطني في العلل أن رواية سفيان مرفوعة. وأخرجه عبد الرزاق (788) عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد به، موقوفاً. وأخرجه أبو يعلى (556) من طريق يونس بن أرقم، عن يزيد بن أبي زياد به. وابن أبي زياد فيه لين. وأخرجه عبد الله بن أحمد في فضائل الصحابة (1148) من طريق صالح - يعني: ابن عمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن القاسم به موقوفاً بذكر المسح على الخفين للمقيم. الثالث: عبدة بن أبي لبابة، عن القاسم. أخرجه أحمد (1/ 100) ثنا ابن الأشجعي، ثنا أبي، عن سفيان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن القاسم بن مخيمرة به، بلفظ: أمرني علي أن أمسح على الخفين، وهذا مع كونه موقوفاً لم يذكر توقيتاً. وابن الأشجعي لم يوثقه إلا ابن حبان، وفي التقريب: مقبول، وباقي الإسناد كلهم ثقات. وتابع شريك القاسم بن مخيمرة. فأخرجه أحمد (1/ 117،118) قال: حدثنا حجاج، حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها، فقلت: أخبريني برجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أسأله عن المسح على الخفين، فقالت: ائت علياً رضي الله تعالى عنه، فسله؛ فإنه كان يلزم النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأتيت علياً رضي الله تعالى عنه، فسألته، فقال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسح على خفافنا إذا سافرنا. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 272) من طريق عمرو بن عون عن شريك به. وسنده فيه ضعف من أجل شريك. لكنه قد توبع فقد أخرجه الطبراني في الأوسط (1564) قال: حدثنا أحمد، قال حدثنا الفضل بن =

وجه الاستدلال: أخذوه من قول عائشة: " فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - فعللت الأمر بسؤاله بكونه يسافر معه، وهذا دليل على اختصاص الحكم بالسفر، كما أن المسح لو كان جائزاً في الحضر لعلمته عائشة، ولم يكن له لقولها معنى: " فإنه كان يسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. وأجيب على هذا: قال ابن عبد البر: ولم يمعن النظر من احتج بهذا - يعني: حديث علي بن أبي طالب - أو سامح نفسه في احتجاجه ببعض الحديث، وترك بعضه، وفي هذا الحديث المسح بالحضر والسفر، والتوقيت في ذلك أيضاً، فكيف يسوغ لعاقل أن يحتج بحديث موضع الحجة منه عليه لا له؟ (¬1). وقال أيضاً: " ليس في الحديث أكثر من جهل عائشة المسح على الخفين، وليس من جهل شيئاً كمن علمه، وقد سأل شريح علياً كما أمرته ¬

= يعقوب الرخامي، قال: حدثنا سعيد بن مسلمة، قال: حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن علي، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين إذا كان مسافراً ثلاثة أيام ولياليهن، وإذا كان مقيماً يوماً وليلة. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبد الملك، إلا سعيد. فالخلاصة أن الحديث روي مرفوعاً من أكثر من طريق، كما روي موقوفاً من أكثر من طريق أيضاً، وعلى فرض أن يكون الحديث موقوفاً فإن المقادير لا دخل للرأي فيها، فكون المسافر يقدر بثلاثة أيام، والمقيم يوم وليلة، هذا مما لا مجال فيه للرأي، فيكون الموقوف في حكم المرفوع، والله أعلم. (¬1) التمهيد (11/ 142).

الدليل الثاني

عائشة، فأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في المسح على الخفين: ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وهو حديث ثابت صحيح، نقله أئمة حفاظ (¬1). الدليل الثاني: (10) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو محمد، أنا إسماعيل، ثنا أحمد، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: أنا عند عمر حين اختصم إليه سعد وابن عمر في المسح على الخفين، فقضى لسعد، فقلت: لو قلتم بهذا في السفر البعيد والبرد الشديد (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). وهذا الكلام من ابن عباس يعارضه قول عمر وسعد، وليس قبول ¬

(¬1) الاستذكار (2/ 246). (¬2) سنن البيهقي الكبرى (2/ 273) قال البيهقي: قال فهذا تجويز منه للمسح في السفر البعيد والبرد الشديد بعد أن كان ينكره على الإطلاق، وقد روي عنه أنه أفتى به للمقيم والمسافر جميعاً. (¬3) أبو محمد: هو عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكري، وقد نسبه بالإسناد الذي قبله، وهو ثقة. انظر سير أعلام النبلاء (17/ 386). وإسماعيل: هو ابن محمد الصفار، قال عنه الدارقطني: صام إسماعيل الصفار أربعة وثمانين رمضاناً، وكان ثقة متعصباً للسنة. السير (15/ 440)، وتاريخ بغداد (6/ 302). وأحمد هو ابن منصور الرمادي، كما في الإسناد الذي قبله، قال الحافظ في التقريب: ثقة حافظ. وبقية رجال الإسناد ثقات معروفون. وهو في مصنف عبد الرزاق (768) بالإسناد نفسه، مع اختلاف يسير في متنه، وإسناد عبد الرزاق إسناد صحيح.

أدلة القائلين بأنه لا يجوز المسح

كلامه بأولى من قبول كلامهما، خاصة أن رأي عمر وسعد يؤيدهما ما جاء مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التوقيت للمقيم والمسافر، ثم أن ابن عباس قد جاء عنه القول بالمسح، كما ذكر ذلك البيهقي، وسيأتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: قال ابن عبد البر: واحتج بعض أصحابنا للمسح في السفر دون الحضر، بأنه رخصة لمشقة السفر، قياساً على الفطر والقصر. قال ابن عبد البر: وهذا ليس بشيء؛ لأن القياس والنظر لا يعرج عليه مع صحة الأثر (¬1). أدلة القائلين بأنه لا يجوز المسح. الدليل الأول: (11) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، أنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: لأن أجزهما بالسكاكين أحب إلي من أن أمسح عليهما (¬2). [سنده صحيح]. قال ابن عبد البر: " لا أعلم أحداً من الصحابة جاء عنه إنكار المسح ¬

(¬1) الاستذكار (2/ 247). (¬2) المصنف (1/ 169) رقم 1944، ورواه أيضاً (1/ 170) حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، قال: سمعت عروة بن الزبير، عن عائشة به بنحوه.

الدليل الثاني

على الخفين ممن لا يختلف عليه فيه إلا عائشة " (¬1). قلت: قد اعترفت عائشة على نفسها كما في حديث شريح بن هانئ، عن علي، بأنها ليس عندها علم في المسألة، ولهذا أشارت على شريح بأن يسأل علياً، ولو كان ما قالته عن علم بلغها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ردت شريحاً إلى علي، والاجتهاد في ما يخالف النص غير مقبول، وقد خالفها غيرها من الصحابة. الدليل الثاني: (12) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قد مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين، فاسألوا هؤلاء الذين يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح قبل نزول المائدة، أو بعد المائدة؟ والله ما مسح بعد المائدة، ولأن أمسح على ظهر عابر بالفلاة أحب إلي من أن أمسح عليهما (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) الاستذكار (2/ 241). (¬2) المسند (1/ 323). (¬3) فيه عطاء بن السائب، جاء في ترجمته: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت أبي يقول: إبراهيم بن مهاجر ليس بقوي، هو وحصين بن عبد الرحمن، وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض، فمحلهم عندنا محل الصدق، يكتب حديثهم، ولا يحتج بحديثهم. قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم؟. قال: كانوا أقواماً لا يحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون، فيغلطون. ترى في حديثهم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = اضطراباً ما شئت. الجرح والتعديل (2/ 132). وعطاء صدوق، لكنه اختلط بآخرة، وقد سمع أبو عوانة من عطاء في الصحة والاختلاط جميعاً، انظر الكواكب النيرات (ص: 328). وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل: من سمع منه قديماً كان صحيحاً، ومن سمع منه حديثاً لم يكن بشيء، سمع منه قديماً شعبة وسفيان، وسمع منه حديثاً جرير وخالد بن عبد الله وإسماعيل يعنى ابن علية وعلى بن عاصم، فكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها. الجرح والتعديل (6/ 332). وقال أبو حاتم: كان عطاء بن السائب محله الصدق قديماً قبل أن يختلط، صالح مستقيم الحديث، ثم بآخرة تغير حفظه، في حديثه تخاليط كثيرة، وقديم السماع من عطاء سفيان وشعبة، وحديث البصريين الذين يحدثون عنه تخاليط كثيرة؛ لأنه قدم عليهم في آخر عمره، وما روى عنه ابن فضيل ففيه غلط واضطراب، رفع أشياء كان يرويه عن التابعين، فرفعه إلى الصحابة. المرجع السابق. [تخريج الأثر] الأثر أخرجه الطبراني (12287) من طريق محمد الرقاشي، عن أبي عوانة به. ورواه خصيف بن عبد الرحمن، واختلف عليه فيه: فقيل: عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. أخرجه الطبراني (12237) من طريق عتاب بن بشير، عن خصيف بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير به، ولفظه عن ابن عباس قال: قد علمنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مسح على الخفين، ومسح أصحابه، فهل مسح منذ نزلت سورة المائدة؟ وقيل: عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس. أخرجه أحمد (1/ 366) حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج. وروح قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني خصيف أن مقسماً مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل أخبره، أن ابن عباس أخبره، قال: أنا عند عمر حين سأله سعد وابن عمر عن المسح على الخفين؟ فقضى عمر لسعد، فقال ابن عباس: فقلت: يا سعد قد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على خفيه، ولكن أقبل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المائدة أم بعدها؟ قال: لا يخبرك أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح عليهما بعد ما أنزلت المائدة، فسكت عمر. وأخرجه الطبراني في الكبير (11140) وفي الأوسط (2931) من طريق عبيد بن عبيدة التمار، عن عثمان بن وساج، عن خصيف، عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس. وفيه: عبيد بن عبيدة، قال ابن حبان: يغرب. الثقات (8/ 431). وقال الدراقطني: يحدث عن معتمر بغرائب، لم يأت بها غيره. اللسان (4/ 121). وفيه عثمان بن ساج، قال الحافظ في التقريب: فيه ضعف. كما أن خصيفاً سيء الحفظ، جاء في ترجمته: قال أحمد: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (3/ 403). وقال أبو حاتم: خصيف صالح يخلط، وتكلم في سوء حفظه. المرجع السابق. قال عبد الله بن أحمد: سألت أبى عن خصيف، فقال: ليس هو بقوي في الحديث، قال: وسمعته مرة أخرى يقول: خصيف ليس بذاك، وسمعت أبى يقول: خصيف شديد الاضطراب في المسند. الضعفاء للعقيلي (2/ 31). وقال ابن حبان: تركه جماعة من أئمتنا، واحتج به جماعة آخرون، وكان خصيف شيخاً صالحاً فقيهاً عابداً إلا أنه كان يخطىء كثيراً فيما يروي، وينفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه، وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف في أمره قبول ما وافق الثقات من الروايات، وترك ما لم يتابع عليه وإن كان له مدخل في الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه. المجروحين (1/ 287). وقال أبو زرعة: ثقة. الجرح والتعديل (3/ 403). وقال ابن سعد: كان ثقة. الطبقات الكبرى (7/ 482). وفي التقريب: صدوق سيء الحفظ، خلط بآخرة، ورمي بالإرجاء. وقد جاء عن خصيف خلاف هذا، فقد روى البزار كما في نصب الراية (1/ 169) من طريق خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين.

وأجيب: قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين بعد نزول سورة المائدة، كما في حديث: بال جرير، ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه، قال الأعمش: قال إبرهيم: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. وقد سبق تخريجه. وأخرج مسلم: عن بريدة الأسلمي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعته يا عمر (¬1)، ونزول آية المائدة قبل الفتح. ومسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك من حديث المغيرة في الصحيحين، وهي متأخرة، وسبق تخريجه. ثم لو فرض أن المسح قبل نزول المائدة، فإن آية المائدة ليست معارضة للمسح على الخفين، حتى تكون ناسخة له، بل هي توجب غسل الرجلين إذا لم يكن هناك خفان. قال الشوكاني في النيل: " واعلم أن في المقام مانعاً من دعوى النسخ لم ينتبه إليه أحد فيما علمت، وهو أن الوضوء ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق، فإن كان المسح على الخفين ثابتاً قبل نزولها فورودها بتقدير أحد الأمرين: أعني الغسل، مع عدم التعرض للآخر، وهو المسح لا يوجب نسخ ¬

(¬1) مسلم (277).

المسح على الخفين، لا سيما إذا صح ما قاله البعض من أن قراءة الجر في قوله تعالى في الآية: {وأرجلِكم} مراد بها مسح الخفين، وأما إذا كان المسح غير ثابت قبل نزولها فلا نسخ بالقطع، نعم يمكن أن يقال على التقدير الأول: أن الأمر بالغسل نهي عن ضده، والمسح على الخفين من أضداد الغسل المأمور به، لكن كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده محل نزاع واختلاف، وكذلك كون المسح على الخفين ضداً للغسل، وما كان بهذه المثابة حقيق بأن لا يعول عليه، ولا سيما في إبطال مثل هذه السنة التي سطعت أنوار شموسها في سماء الشريعة المطهرة اهـ. قلت: ما ورد عن ابن عباس من القول بعدم المسح مطلقاً، مع ضعفه، فقد سقت أنه يقول بجوازه في السفر والبرد الشديد، وجاء عنه بجوازه مطلقاً. (13) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الزبير بن عدي، عن عطاء، عن ابن عباس أنه مسح (¬1). [وهذا إسناد صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 165) رقم 1896. (¬2) وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 170) رقم 1951 قال: حدثنا ابن إدريس، عن فطر، قال: قلت لعطاء: إن عكرمة يقول: قال ابن عباس: سبق الكتاب الخفين، فقال عطاء: كذب عكرمة، أنا رأيت ابن عباس يمسح عليهما اهـ. وكذب في لغة أهل الحجاز: يعني: أخطأ. وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات إلا فطر بن خليفة فإنه صدوق رمي بالتشيع =

الدليل الثالث

الدليل الثالث لمن منع المسح: (14) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: أخبرنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثني إسماعيل بن سميع، قال: حدثني أبو رزين، قال: قال أبو هريرة: ما أبالي على ظهر خفي مسحت، أو على ظهر حماري (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬

= كما في التقريب. ورواه البيهقي (1/ 277) من طريق ابن فضيل، عن فطر بن خليفة به. قال البيهقي: ويحتمل أن يكون ابن عباس قال: ماروى عنه عكرمة، ثم لما جاءه التثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح بعد نزول المائدة قال ما قال عطاء اهـ. وروى ابن أبي شيبة (1/ 166) حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة الهذلي، عن ابن عباس، قال: يمسح المسافر على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة. وهذا إسناد صحيح، وابن علية سمع من ابن أبي عروبة قبل اختلاطه. انظر حاشية الكواكب النيرات ص: 211. وتابعه شعبة، عن قتادة عند البيهقي (1/ 273)، وفيه التصريح بسماع قتادة من موسى بن سلمة، قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح. وفي هذا الأثر التصريح من ابن عباس بالمسح في الحضر. (¬1) المصنف (1/ 170) رقم 1951. (¬2) رجاله كلهم ثقات إلا إسماعيل بن سميع فإنه صدوق، تكلم فيه لبدعة الخوارج.

وأجيب: بأنه جاء عن أبي هريرة بسند أصح من هذا أنه يرى المسح على الخفين. (15) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن جرير، عن أيوب، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، قال: رأيت جريراً مسح على خفيه. قال: وقال أبو زرعة: قال أبو هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أدخل أحدكم رجليه في خفيه، وهما طاهرتان، فليمسح عليهما ثلاث للمسافر، ويوم للمقيم (¬1). [رجال إسناده كلهم ثقات] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 167) رقم 1924. (¬2) ورواه أحمد (2/ 358) قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، حدثنا أبان - يعني ابن عبد الله البجلي، حدثني مولى لأبي هريرة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضئني، فأتيته بوضوء، فاستنجى، ثم أدخل يده في التراب، فمسحها، ثم غسلها، ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقلت: يا رسول الله رجلاك لم تغسلهما؟ قال إني أدخلتهما، وهما طاهرتان. وإسناده ضعيف؛ فيه أبان بن عبد الله البجلي: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبى يقول: أبان بن أبى حازم هو أبان بن عبد الله البجلي صدوق، صالح الحديث. الجرح والتعديل (2/ 296). وقال ابن أبي حاتم: ذكره أبى، عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: أبان بن عبد الله البجلي ثقة. المرجع السابق. وقال ابن نمير: ثقة. تهذيب التهذيب (1/ 84). وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/ 42). وقال ابن حبان: كان ممن فحش خطؤه، وانفرد بالمناكير. أخبرنا الهمداني قال: سمعت عمرو بن علي يقول: ما سمعت يحيى بن سعيد القطان يحدث عنه بشيء قط - يعني: أبان البجلي. المجروحين (1/ 99). وفي التقريب: صدوق في حفظه لين. كما أن في الإسناد مولى أبي هريرة، وكنيته أبو وهب كما في إسناد البيقهي. ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/ 451). وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. الطبقات الكبرى القسم المتمم (148). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 51): " لم يجرحه أحد، ولم يوثقه " اهـ. [تخريج الحديث] الحديث على ضعف إسناده قد اختلف فيه على أبان: فرواه أحمد كما في هذا الإسناد والبيهقي (1/ 107) عن أبي أحمد الزبيري وأخرجه الدارمي (678) عن محمد بن يوسف. وأبو يعلى (6136) من طريق أبي داود الطيالسي ثلاثتهم، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة به. ولم يذكر الدارمي وأبو يعلى المسح على الخفين. وأخرجه الدارمي (679) عن محمد بن يوسف. وابن ماجه (359) من طريق أبي نعيم. والنسائي (51) من طريق شعيب بن حرب. والبيهقي (1/ 107) من طريق محمد بن عبيد الله أبي عثمان الكوفي أربعتهم عن أبان ابن عبد الله البجلي، عن إبراهيم بن جرير بن عبد الله، عن أبيه جرير. بدون ذكر المسح على الخفين. وهذا إسناد منقطع. قال يحيى بن معين وأبو حاتم: إبراهيم بن جرير لم يسمع من أبيه شيئاً. جامع التحصيل (ص: 139). =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (16) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال علي سبق الكتاب الخفين (¬1). [إسناده منقطع والراجح عن علي خلافه] (¬2). الراجح: لا شك أن الراجح في هذه المسألة جواز المسح على الخفين، والقول ¬

= ورواه شريك، وخالف فيه أبان. فرواه عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة بن عمرو ابن جرير، عن أبي هريرة. فذكر بدلاً من أبيه أبا زرعة. كما في مسند أحمد (2/ 311) وابن راهوية (164) وسنن أبو داود (45) والنسائي (50) وصحيح ابن حبان (1405)، وسنن البيهقي (1/ 106،107) كلهم من طرق، عن شريك، عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة ابن عمرو بن جرير عن أبي هريرة يزيد بعضهم على بعض. والله أعلم. وشريك سيء الحفظ. قال النسائي: رواية إبراهيم بن جرير، عن أبيه أشبه بالصواب من رواية شريك. وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة من طريق آخر يقوي هذا، قال ابن ماجه (555): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: ثنا زيد بن الحباب، قال: ثنا عمر بن عبد الله بن أبي خثعم الثمالي، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله ما الطهور على الخفين؟ قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة. وهذا إسناد حسن لولا أن فيه عبد الله بن أبي خثعم ضعيف. والله أعلم. (¬1) المصنف (1/ 169) رقم 1946. (¬2) والد جعفر: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يدرك علياً، والثابت عن علي حديث شريح بن هانئ عنه في مسلم، وفيه التوقيت للمسافر وللمقيم.

بمنع المسح على الخفين قول ضعيف جداً. قال ابن عبد البر: وفيه - يعني: حديث المغيرة - الحكم الجليل الذي فيه فرق بين أهل السنة وأهل البدع، وهو المسح على الخفين، لا ينكره إلا مخذول أو مبتدع خارج عن جماعة المسلمين أهل الفقه والأثر، لا خلاف بينهم في ذلك، بالحجاز والعراق والشام، وسائر البلدان إلا قوماً ابتدعوا فأنكروا المسح على الخفين، وقالوا: إنه خلاف القرآن، وعسى القرآن نسخه، ومعاذ الله أن يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب الله، بل بين لهم مراد الله منه كما أمره الله عز وجل في قوله: {وأنزلنا عليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}. وقال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} والقائلون بالمسح جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين قديماً وحديثاً، وكيف يتوهم أن هؤلاء جاز عليهم جهل معنى القرآن؟ أعاذنا الله من الخذلان. ثم قال: وعمل بالمسح على الخفين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر أهل بدر والحديبية، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين أجمعين، وفقهاء المسلمين في جميع الأمصار، وجماعة أهل الفقه والأثر، كلهم يجيز المسح على الخفين في الحضر والسفر للرجال والنساء (¬1). (17) وروى عبد الرزاق، قال: عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، ¬

(¬1) التمهيد (11/ 134)، وقال نحوه في الاستذكار (2/ 236).

أن ابن عمر رأى سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه، فأنكر ذلك عبد الله، فقال سعد: إن عبد الله أنكر علي أن أمسح على خفي، قال عمر: لا يختلجن في نفس رجل مسلم أن يتوضأ على خفيه، وإن جاء من الغائط (¬1). وأصل الحديث في الصحيحين، وقد سبق ذكره. وقد روى ابن عبد البر بسنده عن المعتمر بن سليمان، قال: كان أبي لا يختلف عليه في شيء من أمر الدين إلا أخذ بأشده، إلا المسح على الخفين، فإنه كان يقول: هو السنة، واتباعها أفضل (¬2). وقال ابن تيمية: " خفي أصله على كثير من السلف والخلف حتى أنكره بعض الصحابة، وطائفة من أهل المدينة، وأهل البيت، وإذا علم سبب الخلاف لم يبق في الصدر شيء من المسح على الخفين، وهو هل آية المائدة معارضة للمسح على الخفين أم لا؟ وهل كان المسح قبل نزول المائدة أم بعدها، وقد أثبتنا بالأدلة الصحيحة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح بعد آية المائدة كما في حديث جرير والمغيرة وبريدة، فزال الإشكال، والحمد لله رب العالمين (¬3). ¬

(¬1) المصنف (1/ 195) رقم 760. (¬2) الاستذكار (2/ 242). (¬3) الاختيارات (ص: 12).

الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الجوربين

الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الجوربين

الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الجوربين اختلف العلماء في المسح على الجوربين، فقيل: يجوز المسح على الجوربين الصفيقين. وهو اختيار أبي يوسف ومحمد من الحنفية (¬1). ويقال: إنه رجع إليه أبو حنيفة في مرضه (¬2)، وهو أرجح القولين في مذهب الشافعي (¬3)، وهو ¬

(¬1) أحكام القرآن - الجصاص (2/ 494)، المبسوط (1/ 102)، بدائع الصنائع (1/ 10) تبيين الحقائق (1/ 52)، البحر الرائق (1/ 191،193)، شرح معاني الآثار (1/ 97). (¬2) قال السرخسي في المبسوط (1/ 102): " وحكي أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في مرضه مسح على جوربيه، ثم قال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، فاستدلوا به على رجوعه ". وانظر بدائع الصنائع (1/ 10)، وقال الزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 52) " ويروى رجوع أبي حنيفة إلى قولهما قبل موته، وعليه الفتوى اهـ. (¬3) قال النووي في المجموع (1/ 526): " قال القاضي أبو الطيب: لا يجوز المسح على الجورب إلا أن يكون ساتراً لمحل المفروض، ويمكن متابعة المشي عليه، قال: وما نقله المزني من قوله: إلا أن يكونا مجلدي القدمين ليس بشرط، وإنما ذكره الشافعي رضي الله عنه؛ لأن الغالب أن الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه إلا إذا كان مجلد القدمين، هذا كلام القاضي أبي الطيب، وذكر جماعات من المحققين مثله، ونقل صاحبا الحاوي والبحر وغيرهما وجهاً أنه لا يجوز المسح وإن كان صفيقاً يمكن متابعة المشي عليه حتى يكون مجلد القدمين، والصحيح بل الصواب ما ذكره القاضي أبو الطيب والقفال وجماعات من المحققين أنه إن أمكن متابعة المشي عليه جاز كيف كان، وإلا فلا، وهكذا نقله الفواراني في الإبانة عن الأصحاب أجمعين، فقال: قال أصحابنا: إن أمكن متابعة المشي على الجوربين جاز المسح، وإلا فلا اهـ. وانظر روضة الطالبين (1/ 126).

مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: يجوز المسح على الجوربين المجلدين أو المنعلين، هو قول أبي حنيفة (¬2)، وأحد القولين في مذهب الشافعي (¬3)، ونص عليه في الأم (¬4). وقيل: يجوز المسح على الجوربين إن كانا مجلدين، وهو مذهب المالكية (¬5). ¬

(¬1) جاء في مسائل ابن هانئ (1/ 21): " وسئل عن المسح على الجوربين؟ فقال: إذا كان ثابتاً لا يسترخي، مسح عليه ". وانظر المغني (1/ 181)، الفروع (1/ 159،160)، والمقنع في شرح مختصر الخرقي (1/ 268)، المحرر (1/ 12)، كشاف القناع (1/ 124،125)، الكافي (1/ 35،36). (¬2) المبسوط (1/ 101،102)، بدائع الصنائع (1/ 10)، شرح معاني الآثار (1/ 97). (¬3) قال النووي في المجموع (1/ 526): " هذه المسألة مشهورة، وفيها كلام مضطرب للأصحاب، ونص الشافعي رضي الله عنه في الأم كما قاله المصنف، وهو أنه يجوز المسح على الجورب بشرط أن يكون صفيقاً منعلاً، وهكذا قطع به جماعة: منهم الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وابن الصباغ، والمتولي، وغيرهم. ونقل المزني أنه لا يمسح على الجوربين إلا أن يكونا مجلدي القدمين. الخ (¬4) قال الشافعي في الأم (1/ 49): " إذا كان الخفان من لبود أو ثياب فلا يكونان في معنى الخف حتى ينعلا جلداً أو خشباً ثم قال: ويكون كل ما على مواضع الوضوء منها صفيقاً لا يشف، فإذا كان هكذا مسح عليه، وإذا لم يكن هكذا لم يمسح عليه، وذلك أن يكون صفيقاً لا يشف، وغير منعل، فهذا جورب، أو يكون منعلا ويكون يشف فلا يكون هذا خفاً، إنما الخف ما لم يشف". فصرح الإمام أن الجورب إذا لم يكن منعلاً لم يمسح عليه. (¬5) جاء في المدونة (1/ 143): " قال ابن القاسم: كان يقول مالك في الجوربين يكونان على الرجل، وأسفلهما جلد مخروز، وظاهرهما جلد مخروز، أنه يمسح عليهما. قال: ثم رجع، فقال: لا يمسح عليهما. وانظر الشرح الصغير (1/ 153)، حاشية الدسوقي (1/ 141)، والخرشي (1/ 177).

دليل القائلين بجواز المسح على الجوارب

وقيل: لا يجوز المسح على الجوربين مطلقاً، وهو رواية عن مالك (¬1). والفرق بين المنعل والمجلد، أن المنعل ما جعل على أسفله جلدة، والمجلد ما جعل على أعلاه وأسفله. وقيل: يجوز المسح على الجوربين وإن كانا يشفان القدمين، حكاه النووي أنه قول عمر وعلي، وإسحاق وداود (¬2). دليل القائلين بجواز المسح على الجوارب. الدليل الأول: (18) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين (¬3). [رجاله ثقات إلا أبا قيس فإنه صدوق، والحديث معلول] (¬4). ¬

(¬1) انظر ما نقلته من المدونة من رواية ابن القاسم عن مالك (1/ 143)، وانظر التمهيد (11/ 157). (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 527): " وحكى أصحابنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما جميعاً جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقاً، وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود " اهـ. (¬3) المسند (2/ 252)، ومن طريق أحمد أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 215). (¬4) أبو قيس عبد الرحمن بن ثروان، جاء في ترجمته: قال عبد الله بن أحمد: سألت أبى، عن أبى قيس عبد الرحمن بن ثروان، فقال: روى عنه الأعمش وشعبة، وهو يخالف في أحاديثه. الجرح والتعديل (5/ 218). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أحمد مرة: لا بأس به. تهذيب التهذيب (6/ 138). وقال العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين: يقدم أبو قيس على عاصم. الجرح والتعديل (5/ 218). وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: أبو قيس ثقة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: ليس بقوي، هو قليل الحديث، وليس بحافظ، قيل له: كيف حديثه؟ قال: صالح، هو لين الحديث. المرجع السابق. وقال العجلي: كوفى ثقة ثبت. معرفة الثقات (2/ 74). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (6/ 138). وقال الحاكم عن الدراقطني: ثقة. المرجع السابق. ونقل ابن خلفون عن ابن نمير توثيقه. المرجع السابق. وخرج له البخاري في صحيحه مع شدته في الرجال أخرج له حديثين: الأول (6736) أخبر ابن مسعود بقول أبي موسى في ميراث ابنة وابنة ابن، وأخت .. الحديث. والحديث الثاني: من قول ابن مسعود: إن أهل الإسلام لا يسبون ... وفي التقريب: صدوق ربما خالف. وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 188) حدثنا وكيع به. وأخرجه مسلم في كتاب التمييز (2/ 202)، فقال: ذكر خبر ليس بمحفوظ المتن، ثم رواه عن يحيى بن يحيى، حدثنا وكيع به. وأخرجه أبو داود (159) حدثنا عثمان بن أبي شيبة، وأخرجه الترمذي (99) حدثنا هناد، ومحمود بن غيلان، وأخرجه النسائي في الكبرى (130) قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، وأخرجه ابن ماجه (559) قال: حدثنا علي بن محمد، كلهم عن وكيع به. وصححه ابن خزيمة، فذكره في صحيحه (189). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الطبراني (20/ 415) رقم 996 من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، حدثني أبي وعبد الله بن المبارك ووكيع وزيد بن الحباب، عن سفيان به. وتابع زيد بن الحباب وكيعاً، فرواه عن سفيان به كما عند ابن خزيمة (189) ومن طريقه ابن حبان (1338). كما تابعه أيضاً الضحاك بن مخلد (أبو عاصم) في مسند عبد بن حميد كما في المنتخب (398)، واختلف عليه فيه: فرواه ابن خزيمة (198) من طريق بندار ومحمد بن الوليد، قالا: حدثنا أبو عاصم، نا سفيان به. قال ابن خزيمة: ليس في خبر أبي عاصم: والنعلين. وإنما قال: مسح على الجوربين. ورواه أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق كما عند الطحاوي (1/ 97) ورواه علي بن الحسن بن أبي عيسى الدرابجردي، ومحمد بن أحمد بن أنس كما في سنن البيهقي (1/ 283) أربعتهم عن أبي عاصم، عن سفيان به. بذكر النعلين كما هي رواية وكيع ززيد بن الحباب، وهي أرجح. ورواه أبو مسلم الكشي، ثنا أبو عاصم به كما في معجم الطبراني الكبير (20/ 414) رقم 995 بذكر ومسح على الخفين، ولم يذكر الجوربين والنعلين. والمحفوظ من رواية هزيل ذكر الجوربين والنعلين. والله أعلم. [كلام أهل العلم في الحديث] اختلف العلماء في قبول هذا الخبر، وأكثر المتقدمين على تضعيفه خلافاً للمتأخرين. فقد ذكر البيهقي (1/ 284): قال أبو محمد يحيى بن منصور: رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر، وقال: أبو قيس الأودي، وهزيل بن شرحبيل لا يحتملان، هذا مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة، فقالوا: مسح على الخفين، وقال: لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهزيل. وقال أبو داود في السنن (159): " كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وذكر البيهقي بسنده عن عبد الرحمن بن مهدي (1/ 284): " قال: قلت لسفيان: لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك، فقال سفيان: الحديث ضعيف أو واه، أو كلمة نحوها. وساق البيهقي بسنده أيضاً: عن محمد بن يعقوب: قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: حدثت أبي بهذا الحديث، فقال أبي: ليس يروي هذا إلا من حديث أبي قيس، وقال أبي: إن عبد الرحمن بن مهدي أبى أن يحدث به، يقول: هو منكر. وساق البيهقي أيضاً بسنده، عن علي بن المديني أنه قال: حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة إلا أنه قال: ومسح على الجوربين، وخالف الناس. وروى البيهقي من طريق المفضل بن غسان، قال: سألت أبا زكريا - يعني يحيى بن معين - عن هذا الحديث؟ فقال: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس. وقال النسائي كما في السنن الكبرى (130): ما نعلم أن أحداً تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين وقال العقيلي: الرواية في الجوربين فيها لين. الضعفاء الكبير (2/ 327). وقال الدارقطني: في هذا الحديث لم يروه غير أبي قيس، وهو مما يغمز عليه به؛ لأن المحفوظ عن المغيرة المسح على الخفين. العلل (7/ 112). فهذا سفيان الثوري وابن مهدي وأحمد وابن معين ومسلم، والنسائي، والعقيلي، والدارقطني ثمانية أئمة من أئمة العلل أعلوه وقدحوا فيه، فكيف ينهض وقد جرحه هؤلاء؟ ولم يخرجه البخاري مع أنه على شرطه، فيظهر أنه تركه لعلة المخالفة. وقال النووي بعد أن نقل عن بعض الأئمة المتقدم ذكرهم تضعيفه، قال في المجموع (1/ 500): " وهؤلاء هم أعلام أئمة الحديث، وإن كان الترمذي قال: حديث حسن (صحيح) فهؤلاء مقدمون عليه، بل كل واحد من هؤلاء لو انفرد مقدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة ... الخ وصحح الحديث بعضهم: قال الترمذي: حديث حسن صحيح. السنن (99). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (198) وابن حبان في صحيحه (1338). وأومأ ابن دقيق العيد إلى تصحيحه، فقال كما في نصب الراية (185): " ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قيس على كونه ليس مخالفاً لرواية الجمهور مخالفة معارضة، بل هو أمر زائد على ما رووه، ولا يعارضه، ولا سيما وهو طريق مستقل برواية أبي هزيل، عن المغيرة لم يشارك المشهورات في سندها " اهـ. وقال نحوه ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 284). وقال أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي (1/ 168): " وليس الأمر كما قال هؤلاء الأئمة!!! والصواب صنيع الترمذي في تصحيح هذا الحديث، وهو حديث آخر غير حديث المسح على الخفين، وقد روى الناس عن المغيرة أحاديث المسح في الوضوء، فمنهم من روى المسح على الخفين، ومنهم من روى المسح على العمامة، ومنهم من روى المسح على الجوربين، وليس في شيء منها بمخالف للآخر، إذ هي أحاديث متعددة، وروايات على حوادث مختلفة، والمغيرة صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو خمس سنين، فمن المعقول أن يشهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقائع متعددة في وضوئه ويحكيها، فيسمع بعض الرواة منه شيئاً، ويسمع غيره شيئاً آخر، وهذا واضح بديهي. وقال أيضاً في مقدمته لرسالة جمال الدين القاسمي: " العلماء جمعوا بين الأحاديث التي صحت في صفة صلاة الكسوف على أوجه متعددة، بأن هذا اختلاف وقائع، لا اختلاف رواية، مع علمهم بأن وقوع الخسوف والكسوف قليل، فأولى أن يحمل بذلك في صفة الوضوء الذي يتكرر كل يوم مراراً. اهـ كلام أحمد شاكر. هذا كلام المتقدمين، واعتراض المتأخرين، والمرجع في العلل إلى أهله وصيارفته، وربما حسنت لي نفسي مخالفة هؤلاء الأئمة ابن مهدي وسفيان وأحمد وابن معين ومسلم والنسائي والدارقطني فأردها معاتباً لها قائلاً: أتظنين أن هؤلاء الجبال يجهلون أن هذا الطريق طريق آخر مستقل، ألست يا نفس متيقنة أنك لو ولدت في زمن أولئك ما كان لك سهم في قالوا، وقلنا، ولكن راج سوقك في زمن العقم فتكلمت، وما كان ينبغي لك. فالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فالصحيح كلام أهل العلل أن الحديث معلول، وكيف ينهض وقد أعله أئمة الجرح؟

وعلى فرض صحة الحديث إنما مسح جوربين منعلين، وليس معناه أنه مسح على جوربين مرة، ومرة مسح على نعلين، فالحديث حكاية لفعل واحد. وأجيب: على فرض تضعيف هذا الحديث فإنه لا يكفي لمنع المسح على الجوربين؛ لأن هناك أدلةً أخرى أصح من هذا الحديث تكفي في الدلالة. قال ابن القيم: قال ابن المنذر روي المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: علي وعمار وأبي مسعود الأنصاري وأنس وابن عمر والبراء وبلال وعبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعد، وزاد أبو داود: وأبو أمامه وعمرو بن حريث وعمر وابن عباس، فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً. والعمدة في الجواز على هؤلاء رضي الله عنهم، لا على حديث أبي قيس، مع أن المنازعين في المسح متناقضون، فإنهم لو كان هذا الحديث من جانبهم، لقالوا: هذه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ولا يلتفتون إلى ماذكروه ههنا من تفرد أبي قيس، فإذا كان الحديث مخالفاً لهم أعلوه بتفرد راويه، ولم يقولوا زيادة الثقة مقبولة، كما هو موجود في تصرفاتهم، والإنصاف أن تكتال لمنازعك بالصاع الذي تكتال به لنفسك، فإن في كل شيء وفاءً وتطفيفاً، ونحن لا نرضى هذه الطريقة، ولا نعتمد على حديث أبي قيس (¬1). وقد نص أحمد على جواز المسح على الجوربين، وعلل رواية أبي ¬

(¬1) تهذيب السنن (1/ 187، 188).

الدليل الثاني

قيس، وهذا من إنصافه وعدله رحمه الله، وإنما عمدته هؤلاء الصحابة وصريح القياس؛ فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه. الدليل الثاني: (19) ما رواه بن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا معلى بن منصور وبشر بن آدم، قالا: ثنا عيسى بن يونس، عن عيسى بن سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين. قال المعلى في حديثه: لا أعلمه إلا قال: والنعلين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (560). (¬2) الحديث فيه علتان: الأولى: الانقطاع، الضحاك لم يسمع من أبي موسى. كذا قال البيهقي كما سيأتي النقل عنه. وقال البوصيري في الزوائد (1/ 80): " الضحاك لم يسمع من أبي موسى، وعيسى ضعيف لا يحتج به ". العلة الثانية: في إسناده: عيسى بن سنان، جاء في ترجمته: قال الأثرم أبو بكر: قلت لأحمد بن حنبل: أبو سنان عيسى بن سنان؟ فضعفه. الجرح والتعديل (6/ 277). وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ضعيف. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: أبو سنان هذا ليس بقوي في الحديث. المرجع السابق. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (20) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، حدثني أبي، ثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، ¬

_ = وقال أبو زرعة: مخلط، ضعيف الحديث، وهو شامي قدم البصرة. تهذيب التهذيب (8/ 189). وقال النسائي: ضعيف. المرجع السابق. وقال ابن خراش: صدوق، وقال مرة: في حديثه نكرة. المرجع السابق. ذكره ابن حبان في الثقات (7/ 235). وقال العجلي: لا بأس به. معرفة الثقات (2/ 199). وفي التقريب: لين الحديث. وباقي رجال الإسناد ثقات. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه ابن ماجه كما في حديث الباب، ومن طريق ابن ماجه أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 216) وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 97) والبيهقي (2/ 284) من طريق المعلى بن منصور، قال: ثنا عيسى بن يونس به. قال البيهقي: الضحاك بن عبد الرحمن لم يثبت سماعه من أبي موسى، وعيسى بن سنان ضعيف، لا يحتج به. وأخرجه الطبراني في الأوسط (1112) من طريق أبي جعفر، قال: حدثنا عيسى بن يونس به. وزاد والعمامة. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي موسى إلا بهذا الإسناد، تفرد به عيسى. ورواه العقيلي في الضعفاء (3/ 383) من طريق القاسم بن مطبب، عن عيسى بن يونس به.

الدليل الرابع

عن بلال رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين والجوربين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (21) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (¬3). ¬

(¬1) المعجم الكبير (1/ 350) رقم 1063. (¬2) دراسة الإسناد: - شيخ الطبراني الوكيعي، ثقة، انظر ترجمته في تاريخ بغداد (6/ 5). - والده أحمد بن عمر من رجال مسلم، ثقة. - ابن فضيل جاء في التقريب: صدوق عارف رمي بالتشيع. - يزيد بن أبي زياد متكلم فيه قال الحافظ في التقريب: ضعيف، كبر، فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً. وقد خولف يزيد بن زياد، فقد رواه الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة عن بلال، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين وعلى الخمار. ولم يذكر الجوربين. أخرجه مسلم وغيره (275) من طريق أبي معاوية وعيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، عن الحكم به، وهو المعروف. (¬3) المسند (5/ 277).

[رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (¬1). ¬

(¬1) رجال إسناده ثقات، وقد أُعِل بالإنقطاع، جاء في العلل للإمام أحمد (1/ 104) والمراسيل لابن أبي حاتم (ص: 59): راشد بن سعد لم يسمع من ثوبان ". لكن يعارضه بأن البخاري جزم بسماعه منه، قال في التاريخ الكبير في ترجمة راشد: "سمع ثوبان ويعلى بن مرة " اهـ. والمثبت مقدم على النافي، وقد ذكر البخاري في تاريخه الكبير، عن حيوة، أنه قال: حدثنا بقية، عن صفوان بن عمرو: ذهبت عين راشد يوم صفين " التاريخ الكبير (3/ 292) رقم 994. فإذا كان شهد صفين، وثوبان مات عام 54، فقد عاصره مدة طويلة، ثم إنه لم يتهم بالتدليس، وما عند أحمد رحمه الله هو عدم العلم بالسماع كما يبدو من نقل الخلال في علله، عن أحمد، حيث قال: لا ينبغي أن يكون راشد بن سعد سمع من ثوبان؛ لأنه مات قديماً، فعلل عدم السماع بأن ثوبان مات قديماً، فإذا تبين أنه عاصره أكثر من ثلاثين سنة؛ لأنه لن يشهد موقعة صفين إلا وهو بالغ، فإذا قدرنا عمره خمسة عشر سنة، حين موقعة صفين، يكون راشد بن سعد قد عاصر ثوبان أكثر من ثلاثين سنة، والله أعلم. [تخريج الحديث] الحديث رواه أحمد كما في حديث الباب، ومن طريق أحمد أخرجه أبو داود (146)، والبيهقي (1/ 62)، والطبراني في مسند الشاميين (1/ 274) رقم 477. وأخرجه الروياني في مسنده (642) حدثنا محمد بن بشار، والطبراني في مسند الشاميين (1/ 274) رقم 477 من طريق مسدد، كلاهما عن يحيى بن سعيد به. ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 275) من طريق أحمد بن حنبل به، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما اتفقا على المسح على العمامة بغير هذا اللفظ. فتعقبه الذهبي في السير (4/ 491) فقال: إسناده قوي، وخرجه الحاكم، فقال على =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = شرط مسلم، فأخطأ؛ فإن الشيخين ما احتجا براشد، ولا ثور من شرط مسلم. اهـ وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 165): " ورواه أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، وقال: على شرط مسلم، وفيه نظر؛ فإنه من رواية ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد به، وثور لم يرو له مسلم، بل انفرد به البخاري، وراشد بن سعد لم يحتج به الشيخان. وقال أحمد: لا ينبغي أن يكون راشد سمع من ثوبان؛ لأنه مات قديماً، وفي هذا القول نظر؛ فإنهم قالوا: إن راشداً شهد مع معاوية صفين، وثوبان مات سنة أربع وخمسين، ومات راشد سنة ثمان ومائة، ووثقه ابن معين وأبو حاتم والعجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي، وخالفهم ابن حزم، فضعفه، والحق معهم " اهـ. وقال الحافظ ابن حجر كما في الدراية (1/ 72): " أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم، وإسناده منقطع، وضعفه البييهقي، وقال البخاري: حديث لا يصح، ولفظ أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على خفيه وعلى الخمار والعمامة ". اهـ قلت: هذه الرواية منكرة، والمعروف من حديث ثوبان، المسح على العصائب والتسخين. والرواية التي أشار إليها الحافظ أخرجها أحمد (5/ 281) من طريق معاوية - يعني ابن صالح - عن عتبة أبي أمية الدمشقي، عن أبي سلام الأسود، عن ثوبان به مرفوعاً. وعتبة أبو أمية الدمشقي قال فيه الحسيني في الإكمال: مجهول. الإكمال (1028). اهـ ولم يرو عنه سوى معاوية بن صالح، في ما وقفت عليه. وأبو سلام الأسود، اسمه ممطور، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/ 431). قال العجلي: تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/ 297). ووثقه الدارقطني. تهذيب التهذيب (10/ 262). وجاء في جامع التحصيل: روى عن ثوبان، وقد قال يحيى بن معين وابن المديني: لم يسمع منه، وتوقف أبو حاتم في ذلك. جامع التحصيل (797). وقال أحمد: ما أراه سمع منه. تهذيب التهذيب (10/ 262). ورواه البزار في مسنده كما في كشف الأستار (300) والطبراني في المعجم الكبير =

وجه الاستدلال: قوله: (العصائب) والمراد بها العمائم؛ لأن الرأس يعصب بها، والتساخين: كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما، ولا واحد لهما من لفظهما (¬1). واعترض عليه: قالوا: إن الحديث إنما يدل على المسح على التساخين في حال البرد خاصة؛ لأنه جواب السائل في تلك الحالة، فالدليل أخص من الدعوى. وأجيب: قال القاسمي في رسالته: " تقرر في الأصول أن اللفظ العام على سبب خاص يحمل على عمومه، ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه، قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي: والدليل عليه هو: أن الحجة في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون السبب، فوجب أن يعتبر عمومه، وحاصل القاعدة في هذا: أن اللفظ الذي يستقل بنفسه يعتبر حكمه، فإن كان خاصاً حمل على خصوصه، وإن كان عاماً حمل على عمومه، ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه، وما يقال في العام يقال في المطلق لاشتراكهما في الأحكام كما تقرر في الأصول، وتقرر ¬

= (2/ 86) ح 149 من طريق معاوية بن صالح به. ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه (11/ 424) من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 255): رواه أحمد والبزار، وفيه عتبة بن أبي أمية، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي المقاطيع. (¬1) انظر كلام ابن الأثير في جامع الأصول (7/ 171)، والنهاية في غريب الحديث (3/ 244)، (2/ 352).

الدليل الخامس

أيضاً: أن ترك الاستفصال في حكاية الحال ينزل منزلة العموم في المقال ... . الخ كلامه رحمه الله (¬1). الدليل الخامس: من الآثار، فقد جاء القول بالمسح على الجوربين عن جملة من الصحابة، منهم أبو مسعود، وأنس، والبراء بن عازب، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسهل بن سعد، وابن عمر، وبلال وغيرهم، فمنها: (22) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: نا ابن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، أن أبا مسعود كان يمسح على الجوربين (¬2). [رجاله ثقات] (¬3). ¬

(¬1) المسح على الجوربين (1/ 28). (¬2) المصنف (1/ 171) رقم 1971. (¬3) ورواه عبد الرزاق (777) ومن طريقه الطبراني في الكبير (9/ 251) رقم 9239، عن الثوري، عن الأعمش به، وزاد: والنعلين. ورواه عبد الرزاق (774) قال: عن الثوري، عن منصور، عن خالد بن سعد، قال: كان أبو مسعود الأنصاري يمسح على جوربين له من شعر ونعليه. وإسناده صحيح. ورواه أحمد في كتاب العلل ومعرفة الرجال (3/ 222) رقم 4964، قال: حدثني ابن خلاد، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني منصور، عن إبراهيم، قال: حدثني خالد بن سعد، أن أبا مسعود كان يمسح على الجوربين والنعلين. قال منصور: فلقيت خالد بن سعد، فحدثني بمثله. وأخرجه البيهقي (1/ 285) من طريق شعبة، عن منصور، قال: سمعت خالد بن =

(23) وأما ما جاء عن أنس بن مالك، فقد رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن أنس، أنه كان يمسح على الجوربين (¬1). [رجاله ثقات، وعنعنة قتادة لا تضر؛ لأنه مكثر عن أنس] (¬2). ¬

= سعد يقول: رأيت أبا مسعود الأنصاري يمسح على الجوربين والنعلين. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 172) رقم 1988، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن يسير بن عمرو، قال: رأيت أبا مسعود بال، ثم توضأ، ومسح على الجوربين 0 وهذا إسناد صحيح أيضاً. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 172) حدثنا وكيع، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، عن واصل الأحدب، عن أبي وائل، عن عقبة بن عمرو، أنه توضأ، ومسح على الجوربين. وهذا إسناد صحيح. وعقبة بن عمرو هو أبو مسعود الأنصاري. (¬1) المصنف (1/ 172) رقم 1978. (¬2) ورواه الطبراني في الكبير (1/ 244) رقم 686 قال: حدثنا أبو مسلم، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا هشام، ثنا قتادة، أن أنسا كان يمسح على الجوربين. ورواه عبد الرزاق (779) أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك أنه كان يمسح على الجوربين، قال: نعم، يمسح عليهما مثل الخفين. ولعل اللفظ: سئل أيمسح على الجوربين؟ قال: نعم؛ لأن الجملة يظهر أنها استفهامية، وليست خبرية، والله أعلم. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 172) حدثنا ابن مهدي، عن واصل، عن سعيد بن عبد الله ابن ضرار، أن أنس بن مالك توضأ، ومسح على جوربين مرعزي. ورواه البيهقي (1/ 285) من طريق سفيان، عن الأعمش، أظنه عن سعيد بن عبد الله، أنه قال: =

(24) وأما ما جاء عن البراء بن عازب، فقد رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، قال: حدثنا إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، قال: رأيت البراء بن عازب توضأ فمسح على جوربين (¬1). ¬

= رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء، فتوضأ، ومسح على قلنسية بيضاء، وعلى جوربين أسودين مرعزين. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا سعيد بن عبد الله، ذكره ابن حبان في الثقات (4/ 280). وقال عنه أبو حاتم: ليس هو بقوي. الجرح والتعديل (4/ 36). ومع ذلك هي متابعة صالحة لقتادة. وروى الدولابي في الكنى (1/ 181) من طريق أحمد بن شعيب، عن عمرو بن علي، أخبرني سهل بن زياد أبو زياد الطحان، حدثنا الأزرق بن قيس، قال: رأيت أنس بن مالك أحدث، فغسل وجهه ويديه، ومسح على جوربين من صوف، فقلت: أتمسح عليهما؟ فقال: إنهما خفان، ولكن من صوف. وسهل بن زياد، ذكره ابن حبان في الثقات (8/ 291). وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (4/ 197). وقال الأزدي: سهل بن زياد الطحان أبو زياد، عن سليمان التيمي وطبقته، منكر الحديث. لسان الميزان (3/ 118). وباقي رجاله ثقات. ورواه أحمد في كتاب العلل (3/ 375) قال: حدثني محمد بن عبيد بن حساب، قال: حدثنا أبو رجاء الكلبي، عن أبي الطفيل، قال: رأيت أنس بن مالك يمسح على الجوربين. إسناده صحيح، أبو رجاء، له ترجمه في الجرح والتعديل (9/ 370) جاء فيه: قال أبوبكر ابن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: أبو رجاء الكلبي ثقة. وباقي رجاله ثقات. (¬1) المصنف (1/ 172) رقم 1984.

[وهذا إسناد حسن] (¬1). (25) وأما ما جاء عن علي بن أبي طالب، فقد رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن يزيد بن مردانية، عن الوليد بن سريع، عن عمرو بن حريث، أن علياً توضأ، ومسح على الجوربين (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬

(¬1) رجاله كلهم ثقات إلا رجاء بن ربيعة فإنه صدوق. ورواه عبد الرزاق (778) عن الثوري، عن الأعمش به. وزاد على جوربيه ونعليه. (¬2) المصنف (1/ 172). (¬3) عمرو بن حريث صحابي صغير، رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمع منه، ومسح برأسه، وقد تحرفت (حريث) إلى كريب، وهو خطأ، والصحيح (حريث) كما هو في الأوسط، لابن المنذر، فقد رواه فيه (1/ 462) من طريق جعفر بن عون، ثنا يزيد بن مردانية، ثنا الوليد بن سريع، عن عمرو بن حريث، قال: رأيت علياً بال، ثم توضأ، ومسح على الجوربين. وأخرجه عبد الرزاق (773) عن الثوري، عن الزبرقان (العبدي) عن كعب بن عبد الله، قال: رأيت علياً بال، فمسح على جوربيه ونعليه، ثم قام يصلي. ورواه ابن عدي في الكامل (3/ 240) من طريق أبي نعيم، حدثنا سفيان به. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 172) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الزبرقان العبدي به. ورواه ابن سعد في الطبقات (6/ 232) من طريق إسرائيل، عن الزبرقان به. ورواه البيهقي (1/ 285) من طريق شعبة وإسرائيل، كلاهما عن الزبرقان بن عبد الله به. والزبرقان العبدي، جاء في ترجمته: ذكره ابن حبان في الثقات (6/ 340). وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. الطبقات (6/ 348). =

(26) وأما ما روي عن سهل بن سعد، فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن هشام بن سعد، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أنه مسح على الجوربين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= وقال ابن عدي: لا أعرف له حديثاً مسنداً له ضوء، وما يروي عنه الثوري وإسرائيل لعله مقاطيع. الكامل (3/ 240). وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/ 611). وقال البخاري: وهم فيه، يعني: حديثه عن كعب بن عبد الله. يقصد: حديثه لا يقطع الصلاة شيء. الضعفاء الكبير (2/ 82). كما أن شيخه كعب بن عبد الله، لم يرو عنه إلا الزبرقان، وقد ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 334). وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (7/ 162)، فالإسناد ضعيف. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 172) حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد الله بن سعيد، عن خلاس، قال: رأيت علياً بال، ثم مسح على جوربيه ونعليه. وقد اختلف في سماع خلاس من علي، وقد سمع خلاس من عمار. كما أن عبد الله بن سعيد لم يتبين لي من هو؟ وقد راجعت تهذيب المزي، فلم أجد أحداً من تلاميذ خلاس يدعى عبد الله بن سعيد، لكن رأيت في ترجمة عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري من تلاميذه أبو بكر بن عياش، فإن كان هو فهو متروك. وعلى كل حال، فقد ثبت المسح على الجوربين من طريق عمرو بن حريث السابق. (¬1) المصنف (1/ 172). (¬2) فيه هشام بن سعد، جاء في ترجمته: قال فيه الإمام أحمد: لم يكن بالحافظ. وذكر له مرة فلم يرضه. وقال: ليس بمحكم للحديث. وضعفه يحيى بن معين. وقال مرة: ليس بمتروك الحديث، وقال مرة: ليس بذاك =

(27) وأما ما يروى عن ابن عمر، فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: نا أبو جعفر الرازي، عن يحيى البكاء، قال: سمعت ابن عمر يقول: المسح على الجوربين كالمسح على الخفين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). (28) وأما ما يروى عن أبي أمامة، فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، ¬

= القوي. وكان لا يحدث عنه. وفضله أبو زرعة على محمد بن إسحاق، قال أبو زرعة عنه: شيخ محله الصدق. وكذلك محمد بن إسحاق، هكذا هو عندي، وهشام أحب إلي من محمد بن إسحاق. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ضعيف. وقال في موضع آخر: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: ومع ضعفه يكتب حديثه. وقال أبو داود: هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم. انظر تهذيب الكمال (30/ 207). وروى له مسلم قريباً من عشرة أحاديث إلا أني لم أجد حديثاً واحداً لم يتابع عليه. وفي التقريب (7294): صدوق له أوهام. اهـ قلت: إلى الضعف أقرب. والأثر رواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 463) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، ثنا هشام بن سعد به. (¬1) المصنف (1/ 173). (¬2) فيه أبو جعفر الرازي، صدوق سيء الحفظ، ويحيى بن مسلم البكاء ضعيف. ورواه عبد الرزاق (782) عن أبي جعفر به. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 462) من طريق أبي نعيم، حدثنا أبو جعفر الرازي به. ورواه ابن الجعد في مسنده (2991) نا أبو جعفر، عن يحيى البكاء به، وقال: كالمسح على الجرموقين، بدلاً من الخفين.

الدليل السادس

عن أبي غالب، قال: رأيت أبا أمامة يمسح على الجوربين (¬1). [إسناده حسن] (¬2). (29) وأما ما جاء عن بلال، فرواه ابن المنذر، من طريق أبي سعد البقال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: رأيت بلالاً قضى حاجته، ثم توضأ، ومسح على جوربيه وخفيه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). الدليل السادس: ما حكي من الإجماع. قال ابن قدامة: " الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على الجوارب، ¬

(¬1) المصنف (1/ 172). (¬2) رجاله ثقات إلا أبا غالب فإنه صدوق يخطئ. (¬3) الأوسط (1/ 463). (¬4) أبو سعد البقال، ضعيف مدلس، وقد عنعن هنا، كما أن قوله عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى: رأيت بلالاً فيه خطأ؛ فإنه لم يسمع من بلال. جاء في المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 126): " سمعت أبي، وسئل هل سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى من بلال؟ قال: كان بلال خرج إلى الشام في خلافة عمر قديماً، فإن كان رآه كان صغيراً؛ فإنه ولد في بعض خلافة عمر، ويروى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه رأى عمر، وبعض أهل العلم يدخل بينه وبين عمر البراء بن عازب، وبعضهم يدخل بينه وبين عمر كعب بن عجرة " اهـ. وقال العلائي في جامع التحصيل (ص: 226): " روي عن ابن أبي ليلى، عن بلال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والخمار، وبينهما فيه في بعض الطرق كعب بن عجرة، وهو الصحيح " اهـ.

الدليل السابع

ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعاً " (¬1). الدليل السابع: أن أحاديث المسح على الجوربين وردت مطلقة، من غير تقييد بأن تكون منعلة أو مجلدة، وتقييد ما أطلقه الشارع لا يجوز إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل. الدليل الثامن: من النظر، إذا جاز المسح على الخف جاز المسح على الجورب؛ لأن كلاً منهما لباس للقدم، ولا فرق. فإما أن تكون الجوارب داخلة في مسمى الخف لغة، وإما أن تلحق الجوارب بالخفاف قياساً. قال ابن تيمية: يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما، سواء كانت مجلدة، أو لم تكن في أصح قولي العلماء، ففي السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على جوربيه ونعليه، وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك؛ فإن الفرق بين الجوربين والخفين إنما كون هذا من صوف، وهذا من جلد، ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة، فلا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً أو كتاناً أو صوفاً، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف، وهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قوياً، بل يجوز المسح على ما يبقى، وعلى ما لا يبقى، وأيضاً ¬

(¬1) المغني (1/ 374).

فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين متماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح، الذي جاء به الكتاب والسنة (¬1). وسبق لنا كلام أنس رضي الله عنه في تخريج الأثر الوارد عنه، فقد قال عن الجوربين: إنهما خفان، ولكنهما من صوف. وعلق أحمد شاكر بكلام جميل طويل اقتصر منه بقوله: " المعنى في حديث أنس أدق، فليس الأمر قياساً للجوربين على الخفين، بل هو أن الجوربين داخلان في مدلول كلمة الخفين بدلالة الوضع اللغوي للألفاظ على المعاني، والخفان ليس عليهما موضع خلاف، فالجوربان من مدلول كلمة (الخفين) فيدخلان فيهما بالدلالة الوضعية اللغوية، وأنس بن مالك صحابي من أهل اللغة قبل دخول العجمة، واختلاط الألسنة فهو يبين أن معنى الجلد أعم من أن يكون من الجلد وحده، ولم يأت دليل من الشرع يدل على حصر الخفاف في التي تكون من الجلد فقط، وقول أنس هذا أقوى حجة ألف مرة من أن يقول مثله مؤلف من مؤلفي اللغة كالخليل والأزهري والجوهري وابن سيده، وأضرابهم؛ لأنهم ناقلون للغة، وأكثر نقلهم يكون من غير إسناد، ومع ذلك يحتج بهم العلماء، فأولى ثم أولى إذا جاء التفسير اللغوي من مصدر من مصارد اللغة، وهو الصحابي العربي من الصدر الأول بإسناد صحيح إليه ... الخ كلامه رحمه الله (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 214). (¬2) مقدمة أحمد شاكر لرسالة القاسمي (ص: 15).

دليل من منع المسح على الجوارب مطلقا أو أجاز بشرط أن يكون منعلا أو مجلدا

دليل من منع المسح على الجوارب مطلقاً أو أجاز بشرط أن يكون منعلاً أو مجلداً. الدليل الأول: قالوا: الأصل هو غسل الرجلين، كما هو ظاهر القرآن، والعدول عنه لا يجوز إلا بأحاديث صحيحة اتفق على صحتها أئمة الحديث كأحاديث المسح على الخفين، أما أحاديث المسح على الجوربين ففي صحتها كلام عند أئمة الفن، وإلى هذا أشار مسلم بقوله: " لا يترك ظاهر القرآن بمثل أبي قبيس وهزيل " اهـ. والجواب على هذا من وجوه: الوجه الأول: قد بينت أن الأحاديث ليست كلها ضعيفة، فحديث ثوبان رجاله كلهم ثقات، وحديث بلال، وحديث أبي موسى الأشعري وإن كان فيهما ضعف فهو يسير منجبر صالح في الشواهد، أضف إلى ذلك الآثار الصحيحة عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. الوجه الثاني: كيف يظن بالصحابة رضي الله عنهم بأنهم تركوا ظاهر القرآن، وخالفوه بالمسح على الجوربين. قال ابن القيم: الذين سمعوا القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعرفوا تأويله، مسحوا على الجوربين، وهم أعلم الأمة بظاهر القرآن، ومراد الله منه (¬1). ¬

(¬1) تهذيب السنن (1/ 123).

الدليل الثاني

الوجه الثالث: إذا كان ظاهر القرآن لا ينافي المسح على الخفين، فكذلك لا ينافي المسح على الجوربين. الوجه الرابع: أن الحكمة التي شرع من أجلها المسح على الخفين موجودة في المسح على الجورب. الدليل الثاني: قالوا: إن الجوارب تتخذ من الأديم، وكذا من الصوف، وكذا من القطن، ويقال لكل واحد من هذه جورب، ومن المعلوم أن هذه الرخصة بهذا العموم التي ذهبت إليها تلك الجماعة لا يثبت إلا بعد أن يثبت أن الجوربين اللذين مسح عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - كانا من صوف، سواء كانا منعلين أو ثخينين فقط، ولم يثبت هذا قط، فمن أين علم جواز المسح على الجوربين غير المجلدين، بل يقال: إن المسح يتعين على الجوربين المجلدين لا غيرهما؛ لأنهما في معنى الخف، والخف لا يكون إلا من أديم، نعم لو كان الحديث قولياً، بأن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: امسحوا على الجوربين، لكان يمكن الاستدلال بعمومه على كل أنواع الجوارب. فإن قلت: ويحتمل أن يكون الجوربان اللذان مسح عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - من صوف. قيل: الاحتمال وارد، لكن رجحنا كون الجوارب من أديم، لكونها في معنى الخف، أما المسح على غير الأديم فثبت بالاحتمالات التي لا تطمئن لها النفس، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.

وأجيب: قال المباركفوري: هذا القول لا يثبت إلا بعد أن يثبت أن الجوربين اللذين مسح عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - كانا مجلدين، ولم يثبت هذا قط. قلت: ولو كان الحكم يختلف بين ما كان مجلداً أو غير مجلد، لبين هذا الصحابة رضوان الله عليهم وهم ينقلون لنا جواز المسح على الجوربين، ولو كان الحكم يختلف لجاء نهي من الشرع أو من الصحابة عن المسح على الجورب إذا كان من صوف أو قطن، فالعام والمطلق يعمل به على عمومه وإطلاقه كما بينت. قال الفيروز آبادي في القاموس: الجورب لفافة الرجل اهـ. وقال في تاج العروس: الجوارب لفافة الرجل، وهو بالفارسية كورب. وقال أبو بكر بن العربي: الجورب غشآان للقدم من صوف، يتخذ للوقاء، وفي التوضيح للحطاب المالكي: الجوارب ما كان على شكل الخف، من كتان أو قطن أو غير ذلك. وفي الروض المربع للبهوتي الحنبلي: الجورب: ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد. وقال العيني: الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب اهـ. فهذه النقول ليس فيها ما يدل على أن الجوارب فيها ما هو منعل أو

الدليل الثالث

مجلد، بحيث يمكن أن يدعى أن الجوارب التي مسح عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانت منعلة أو مجلدة، فالأصل في الجوارب ما عرفه أهل اللغة وأهل الفقه، ومن ادعى خلاف هذا فعليه الدليل. الدليل الثالث: قالوا: إن الجوارب إذا لم تكن منعلة أو مجلدة لا يمكن متابعة المشي عليها، فإذا لم يمكن لم يصح المسح عليها. وأجيب: أين الدليل على اشتراط إمكان متابعة المشي عليها، وهل يسوغ أن تعارض الأدلة الشرعية بهذا التعليل الذي لا دليل عليه، فلا يعارض الدليل الشرعي إلا دليل مثله، على أننا نقول: لا نسلم أنه لا يمكن متابعة المشي عليها، وكونها قد يسرع إليها التلف فهذا أمر غير معتبر؛ لأنه معلوم أن القطن أضعف من الصوف، والصوف أضعف من الجلد، وبعض الجلود أضعف من بعض، وكل هذا لا تأثير له في الحكم الشرعي كما أسلفت، ومشقة النزع كما هي موجودة في الخف موجودة في الجورب، والحاجة إلى هذه كالحاجة إلى تلك. اعتراض والجواب عليه: قال المانعون: بأن المراد من حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الجوربين والنعلين. بأن ذلك محمول على أنه مسح على جوربين منعلين. (30) قال البيهقي: وقد وجدت لأنس بن مالك أثراً يدل على ذلك، أخبرناه أبو علي الروذباري، ثنا أبو طاهر محمد بن الحسن أباذي، ثنا محمد بن

عبد الله المنادي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا عاصم الأحول، عن راشد بن نجيح، قال: رأيت أنس بن مالك دخل الخلاء، وعليه جوربان، أسفلهما جلود، وأعلاهما خز (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وأجيب: قال ابن التركماني: الحديث ورد بعطف النعلين على الجوربين، وهو يقتضي المغايرة، فلفظه مخالف لهذا التأويل، وكون أنس مسح على ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 285). (¬2) دراسة الإسناد: شيخ البيهقي أبو علي الروذباري ثقة حافظ، له ترجمة في السير (17/ 219)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1078). - أبو طاهر محمد بن الحسن المحمد أباذي حافظ مفسر نحوي، كان ابن خزيمة إذا شك في اللغة لا يرجع إلا إلى أبي طاهر، له ترجمة في السير (15/ 304). - محمد بن عبد الله المنادي، الصواب: محمد بن عبيد الله المنادي كما في تهذيب الكمال، وشذارت الذهب. قال الإسماعيلي: كان ثقة صدوقاً. الأنساب (5/ 386). وقال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وسئل عنه أبي، فقال: صدوق. وفي التقريب: صدوق. - راشد بن أبي نجيح ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/ 484). وذكره بن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. الثقات (4/ 234). وقال أبو حاتم: صالح الحديث. تهذيب الكمال (9/ 16). ولم أقف عليه في الجرح والتعديل. وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ. وباقي رجال الإسناد كلهم ثقات.

الدليل الرابع

جوربين منعلين لا يلزم منه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كذلك، فلا يدل فعل أنس على تأويل الحديث بما لا يحتمله لفظه (¬1) اهـ. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح على النعلين بلا جوربين، فيؤيد هذا أن مسحه على الجورب كان بانفراده، وسوف تأتي أحاديث المسح على النعلين في بحث مستقل إن شاء الله تعالى. والجلد في أسفل الجورب لا يسمى نعلاً في لغة العرب، حتى يقال: مسح على جوربين منعلين. الدليل الرابع: قالوا: إن المسح على الخف على خلاف القياس، فلا يصح إلحاق غيره به إلا إذا كان بطريق الدلالة، وهو أن يكون في معناه، ولا يكون الجورب في معنى الخف إلا إذا كان مجلداً أو منعلاً. والجواب على هذا: أننا لم نلحق الجورب بالخف اعتماداً على القياس وحده، بل اعتماداً على ما صح من الأحاديث المرفوعة، وأفعال الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولو لم يأت إلا فعل الصحابة رضي الله عنهم لكفى به دليلاً، فهم أعلم بمراد الله، ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أهل اللغة، ويعرفون معنى الجورب، ومعنى الخف أكثر من غيرهم، ولذلك قال أنس رضي الله عنه عن الجورب: إنهما خفان، ولكن من صوف. ¬

(¬1) الجوهر النقي (1/ 280).

الراجح من هذه الأقوال: الراجح جواز المسح على الجوربين، واشتراط كونهما صفيقين لا دليل عليه، وسوف يأتي بحث هذا الشرط في مسألة مستقلة في شروط المسح على الخفين إن شاء الله تعالى. وقد أطلت القول في هذه المسألة مع شدة وضوحها خاصة في بلد مثل بلدي أغلب أهله على مذهب الحنابلة، ويرجع هذا لسببين: الأول: أن هذا الكتاب كتب لطالب العلم في بلاد المسلمين شرقها وغربها، وليس المخاطب فيه أهل بلدي خاصة. الثاني: حتى لا يأتي محتج فيقول: إن القول بأنه لا يجوز المسح على الجوربين هو قول الجمهور، فالحق يعرف بدليله، لا بمن قاله، وكم من مسألة فقهية كان فيها قول الجمهور مجانباً للصواب، ولو بحث باحث فقط في مسائل العبادات التي خالف فيها الجمهور الدليل لوقع ذلك في مجلد ضخم، فكيف بمسائل الفقه كلها، نعم احتمال الخطأ على المجتهد الواحد أكثر من احتماله على الجماعة لو كانت المسألة خالية من التقليد، لكن إذا كان كل مذهب له جمهوره الذين لا يتجاوزن قول إمامهم لم تكن الكثرة مظنة الإصابة، والله أعلم.

الفصل الثالث في خلاف العلماء في المسح على النعلين

الفصل الثالث في خلاف العلماء في المسح على النعلين

الفصل الثالث في خلاف العلماء في المسح على النعلين ذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، إلى أنه لا يجوز المسح على النعل. وقال قوم: يجوز المسح على النعلين كما يمسح على الخفين (¬5). ¬

(¬1) الهداية مطبوع مع نصب الراية (1/ 269،270)، شرح معاني الآثار (1/ 98). (¬2) الإمام مالك لا يرى المسح على الخف إذا قطع أسفل من الكعب، فضلاً أن يرى المسح على النعلين، جاء في المدونة (1/ 143): " وقال مالك في الخفين يقطعهما أسفل من الكعبين المحرم وغيره لا يسمح عليهما؛ من أجل أن بعض مواضع الوضوء قد ظهر اهـ. فيشترط المالكية كالجمهور أن يكون ساتراً لمحل المفروض، والنعال لا تستر المحل، ولذلك لا يجيزون المسح على الجوارب حتى تكون مكسية بالجلد كما سبق في المسح على الجوارب، انظر الشرح الصغير (1/ 154)، (¬3) نص الشافعي في الأم على أن الخف إذا لم يستر الكعبين أو ما يحاذيهما فلا يمسح عليهما، وعليه فلا يرى المسح على النعال؛ لأن النعال لا تستر المحل المفروض. انظر الأم (1/ 49). (¬4) جاء في مسائل عبد الله بن أحمد (1/ 122): " سألت أبي عن الرجل يمسح على نعليه؟ فكرهه، وقال: لا. اهـ. وفي مسائل ابن هانئ (1/ 18): " لا يمسح على النعلين إلا أن يكونا في جوربين" اهـ. وفي مسائل ابنه صالح (379): " وسألته عن المسح على النعلين؟ قال: إذا كان في القدم جوربان قد ثبتا في القدم، فلا بأس أن يمسح على النعلين " اهـ. (¬5) شرح معاني الآثار (1/ 97).

الدليل الأول

وقيده ابن تيمية بالنعل التي يشق نزعها (¬1). دليل من قال بجواز المسح. الدليل الأول: (31) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين (¬2). [رجاله ثقات إلا أنه معلول، وسبق بحثه في المسح على الجوارب]. وأجيب: أولاً: الحديث ضعيف؛ وقد علمت كلام أحمد وابن مهدي وسفيان ومسلم والنسائي والدارقطني وغيرهم في تعليل هذا الحديث. ثانياً: قالوا: إن حديث المغيرة هذا، المقصود منه أنه مسح على جوربين منعلين، لا أنه جورب منفرد، ونعل منفرد، فكأنه قال: مسح على جوربيه المنعلين. وسبق الجواب على هذا الإشكال في مسألة المسح على الجورب، فارجع إليه إن شئت. الدليل الثاني: (32) ما رواه أحمد، قال: ثنا بهز بن أسد، ثنا حماد بن سلمة، أنا ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (1/ 304) وقيده بالنعل التي يشق نزعها، الإنصاف (1/ 183). (¬2) المسند (2/ 252)، ومن طريق أحمد أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 215).

يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت أبي يوما توضأ، فمسح على النعلين، فقلت له: أتمسح عليهما؟ فقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل (¬1). [الحديث معلول] (¬2). ¬

(¬1) المسند (4/ 9). (¬2) الحديث فيه علتان: الأولى: الانقطاع، يعلى بن عطاء لم يدرك أوس بن أبي أوس، نص على ذلك البيهقي في السنن (1/ 287). الثانية: الاختلاف فيه على يعلى بن عطاء، فرواه حماد بن سلمة وشريك، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس، عن أبيه. وخالفهما هشيم وشعبة، فروياه عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس أن رسول الله، فزادا في الإسناد عطاء والد يعلى، وهو ضعيف. وجعلوه من مسند أوس، وليس من مسند أبي أوس. وهو الراجح. فأما رواية حماد بن سلمة، فأخرجها الطيالسي في مسنده (1113) قال: حدثنا حماد ابن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن أوس الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه. ومن طريق أبي داود أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 96)، والبيهقي (1/ 287). وأخرجه أحمد (4/ 9) حدثنا بهز بن أسد، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت أبي يوماً توضأ، فمسح على النعلين، فقلت له: أتمسح عليهما؟ فقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل. ورواه الطبراني في الكبير (1/ 222) رقم 605 والطحاوي (1/ 96) من طريق =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحجاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة به. وتابع شريك حماداً، فرواه أحمد (4/ 9) حدثنا وكيع، عن شريك، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على نعليه. وأخرجه أحمد (4/ 10) حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا شريك به بنحوه. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 173) رقم 1997، (7/ 309) رقم 36356 قال: حدثنا شريك، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس به، وتحرف الإسناد الأول في المطبوع إلى (ابن أبي إياس). ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 122) رقم 606. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 97) من طريق محمد بن سعيد الأصبهاني، قال: أنا شريك به. فهذان الطريقان أعني طريق حماد وشريك فقط هما اللذان جعلاه من مسند أبي أوس حذيفة، كما أن فيها رواية يعلى بن عطاء عن أوس، ولم يسمعه منه، إنما دلسه عنه، والصحيح أنه سمعه من أبيه، عن أوس. وأما رواية شعبة وهشيم، فجعلاه من مسند أوس الابن، وهو صحابي أيضاً، وزادا في الإسناد والد يعلى بن عطاء، وهو مجهول. وإليك تخريجها: الحديث أخرجه أحمد (4/ 8) حدثنا يحيى - يعني ابن سعيد - قال: حدثني يعلى، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على نعليه. ومن طريق أحمد أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة (978). ورواه الطبراني في الكبير (1/ 222) رقم 607،608 من طريق يحيى بن سعيد عن شعبة به. فهنا أوس يصرح بأنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على نعليه، بينما في رواية حماد وشريك أنكر أوس على أبيه المسح على النعلين حتى أخبره أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وإذا كان أوس قد رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفعله، فلماذا ينكر على أبيه شيئاً رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. وأما رواية هشيم، فأخرجها أبو داود (160) قال: حدثنا مسدد وعباد بن موسى، =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (33) ما رواه بن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا معلى بن منصور وبشر بن آدم، قالا: ثنا عيسى بن يونس، عن عيسى بن سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين. قال المعلى في حديثه: لا أعلمه إلا قال: والنعلين (¬1). [إسناده ضعيف، وسبق بحثه، وهو صالح في الشواهد] (¬2). الدليل الرابع: (34) ما رواه البزار في مسنده كما في نصب الراية، قال البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا روح بن عبادة، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، أن ابن عمر كان يتوضأ، ونعلاه في رجليه، ويمسح عليهما، ويقول: كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل (¬3). ¬

= قالا: ثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، قال عباد قال: أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على نعليه وقدميه. وقال عباد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم يعني الميضأة - ولم يذكر مسدد الميضأة والكظامة - ثم اتفقا: فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 286). (¬1) سنن ابن ماجه (560). (¬2) انظر تخريجه في المسح على الجورب. (¬3) نصب الراية (1/ 188).

[إسناده صحيح] (¬1). ¬

(¬1) رجاله ثقات، وصحح إسناده الحافظ في الدراية (1/ 83). ورواه الطحاوي (1/ 97) من طريق ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب به، بلفظ: "كان إذا توضأ، ونعلاه في قدميه، مسح على ظهور قدميه بيديه، ويقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع هكذا. وهذه الرواية توضح ما رواه البخاري (166) ومسلم (1187) من طريق عبيد بن جريج، أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تصنع أربعاً، لم أر أحداً من أصحابك يصنعها، قال: وما هي يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال، ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية. قال عبد الله: أما الأركان؛ فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية؛ فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعل التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها. الحديث. فقوله: " ويتوضأ فيها ": أي توضأ، وعليه النعلان، وقد تقدم أن ابن عمر كان يمسح عليها، وهذا أولى من حمل البخاري بأنه يغسل رجليه في النعلين؛ لأن فعل ابن عمر عند البزار والطحاوي يفسر ما أجمل في رواية الصحيحين، وقد روى البيهقي في السنن (1/ 287) من طريق محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج، قال: قيل لابن عمر رأيناك تفعل شيئاً لم نر أحداً يصنعه غيرك. قال: وما هو؟ قال: رأيناك تلبس هذه النعال السبتيه، قال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبسها، ويتوضأ فيها، ويمسح عليها. وهذا إسناد حسن، وقوله: " ويمسح عليها " ذكرها ابن عجلان، عن سعيد، ولم يذكرها مالك عن سعيد في الصحيحين، ولم أعتبرها مخالفة؛ لأنها مفسرة لقوله في رواية مالك: " ويتوضأ فيها " خاصة إذا أضيف إلى ذلك فعل ابن عمر الصريح في مسحه على نعليه كما عند البزار والطحاوي، والله أعلم. وكتب لي بعض مشايخي قائلاً: الحديث فيه نظر، وشذوذه قوي، والبزار نفسه فيه لين. اهـ.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (35) ما رواه ابن جرير الطبري، قال: حدثنا عبد الله بن الحجاج ابن المنهال، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا جرير بن حازم، قال: سمعت الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: أتى رسول الله سباطة قوم، فبال عليها قائماً، ثم دعا بماء، فتوضأ، ومسح على نعليه (¬1). [لم أقف على ترجمة عبد الله بن الحجاج بن منهال، والمسح على النعلين ليس محفوظاً من حديث الأعمش] (¬2). ¬

(¬1) تفسير ابن جرير الطبري (6/ 134). (¬2) لم أقف على عبد الله بن الحجاج بن منهال، وفي ترجمة أبيه حجاج بن منهال في تهذيب المزي ذكر من الرواة عنه ابنه عبيد الله، فهل هما اثنان أو واحد لا أدري، وفي المعجم الكبير للطبراني أخرج حديثاً من رواية عبيد الله بن حجاج بن منهال، عن أبيه، وإليك لفظه. أخرجه في المعجم الكبير (22/ 282) رقم 723، قال: حدثنا محمد بن العباس الأخرم الأصبهاني، ثنا عبيد الله بن الحجاج بن المنهال، حدثني أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن صدقة بن أبي عمران، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة، قال: انطلقت أنا وأبي قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كان في بعض الطريق تلقاني، فقال أبي: تدري من هذا؟ قلت: لا قال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وهو في مسند أحمد (2/ 227) من زيادات عبد الله، قال: حدثني شيبان بن أبي شيبة، حدثنا يزيد - يعني: ابن إبراهيم التستري به. وعلى كل حال فالمعروف من رواية الأعمش المسح على الخفين، وليس فيه النعلان وهو في صحيح مسلم (273)، من طريق أبي خيثمة، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانتهى إلى سباطة قوم، فبال قائماً، =

الدليل السادس

الدليل السادس: (36) من الآثار، ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما (¬1). ¬

= فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ، فمسح على خفيه. قال الطبري في تفسيره تعليقاً على الرواية التي خرجها، قال (6/ 135): " وأما حديث حذيفة، فإن الثقات الحفاظ من أصحاب الأعمش، حدثوا به عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، أن النبي أتى سباطة قوم، فبال قائماً، ثم توضأ، ومسح على خفيه. قال الطبري: حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الضبي، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة (ح) وحدثني المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن حذيفة (ح) وحدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة (ح) وحدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة (ح) وحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة (ح) وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. وكل هؤلاء يحدث ذلك عن الأعمش بالإسناد الذي ذكرنا، عن حذيفة أن النبي مسح على خفيه. وهم أصحاب الأعمش، ولم ينقل هذا الحديث عن الأعمش، غير جرير بن حازم، ولو لم يخالفه في ذلك مخالف لوجب التثبت فيه لشذوذه، فكيف والثقات من أصحاب الأعمش يخالفونه في روايته. (¬1) المصنف (1/ 173).

الدليل السابع

[إسناده في غاية الصحة] (¬1). الدليل السابع: (37) ما رواه ابن عدي في الكامل، قال: ثنا محمد بن بشر القزاز، ثنا أبو عمير، ثنا رواد، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ومسح على ¬

(¬1) أبو ظبيان اسمه: حصين بن جندب، من رجال الجماعة، وقد وثقه ابن معين والنسائي وأبو زرعة، والدارقطني وغيرهم. وإن كان الأثر موقوفاً على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أن علياً قد أمرنا باتباع سنته، ولم أقف على مخالف له، وهو يؤيد ما سبق من حديث المغيرة، وأبي أوس الثقفي، وابن عمر، وأبي موسى الأشعري. ورواه عبد الرزاق (784) عن الثوري، عن الأعمش به. وأخرجه البيهقي (1/ 288) من طريق ابن نمير، عن الأعمش به مطولاً، ولفظه: رأيت علي بن أبي طالب بالرحبة بال قائماً حتى أدعى، فأتى بكوز من ماء، فغسل يديه، واستنشق، وتمضمض، وغسل وجهه وذراعيه، ومسح برأسه، ثم أخذ كفاً من ماء، فوضعه على رأسه حتى رأيت الماء ينحدر على لحيته، ثم مسح على نعليه، ثم أقيمت الصلاة، فخلع نعليه، ثم تقدم، فأم الناس. قال ابن نمير: قال الأعمش: فحدثت إبراهيم، قال: إذا رأيت أبا ظبيان فأخبرني، فرأيت أبا ظبيان قائماً في الكناسة، فقلت: هذا أبو ظبيان، فأتاه، فسأله عن الحديث. ورواه عبد الرزاق (783) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن أبي ظبيان به. ويزيد بن أبي زياد فيه ضعف. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 173) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب، عن زيد، أن علياً بال، ومسح على النعلين. ورجاله ثقات، وعنعنة حبيب بن أبي ثابت زالت بالمتابعة. وفي هذا الأثر عن علي، ليس فيه ذكر الجوربين حتى يمكن أن يقال: إنه مسح على جوربين منعلين، وكذلك الأثر عن ابن عمر.

نعليه (¬1). [رواد مجروح في روايته عن سفيان إلا أنه لم ينفرد به، والحديث فيه اختلاف كثير في لفظه] (¬2). ¬

(¬1) الكامل (3/ 177). (¬2) ومن طريق ابن عدي رواه البيهقي (1/ 286)، وقال: هكذا رواه رواد بن الجراح، وهو يتفرد عن الثوري بمناكير، هذا أحدها، والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة. جاء في ترجمته: قال الدارمي: سألت يحيى بن معين، عن رواد بن الجراح العسقلاني، فقال: ثقة. الجرح والتعديل (3/ 524). وقال ابن معين في رواية: لا بأس به، إنما غلط في حديث سفيان. تهذيب التهذيب (3/ 249). وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: صاحب سنة، لا بأس به، إلا أنه حدث عن سفيان أحاديث مناكير. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: هو مضطرب الحديث تغير حفظه في آخر عمره وكان محله الصدق، قال ابن أبي حاتم: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء، فقال: يحول عن ذلك. الجرح والتعديل (3/ 524). وقال البخاري: كان قد اختلط، لا يكاد يقوم حديثه. التاريخ الكبير (3/ 336). وقال الحافظ: صدوق اختلط بآخرة فترك، وفي حديثه عن الثوري ضعف شديد. قلت: لم ينفرد به عن سفيان، فأخرجه البيهقي (1/ 286) من طريق زيد بن الحباب، عن الثوري به. كما رواه معمر، عن زيد بن أسلم به، بالمسح على النعلين. رواه عبد الرزاق (783) عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي ظبيان، في قصة مسح أمير المؤمين علي بن أبي طالب على نعليه. قال معمر: ولو شئت أن أحدث أن زيد بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أسلم حدثني عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنع علي. والحديث اختلف فيه على سفيان، فرواه رواد بن الجراح وزيد بن الحباب كما سبق في المسح على النعلين. ورواه جماعة عن سفيان، ولم يذكروا النعلين: الأول: محمد بن يوسف، كما عند البخاري (157)، ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة. الثاني: يحيى بن سعيد، أخرجه أبو داود (138) والنسائي (80)، والترمذي (42) وابن ماجه (411)، وابن حبان (1195) ولفظه أيضاً كلفظ محمد بن يوسف (توضأ مرة مرة). الثالث: وكيع، كما عند الترمذي (42) بالوضوء مرة مرة. الرابع: أبو عاصم النبيل كما عند الدارمي (696) والطحاوي (1/ 29) بذكر الوضوء مرة مرة. الخامس: أبو شهاب الحناط، كما عند أبي عبيد في كتاب الطهور (103). السادس: المؤمل بن إسماعيل، كما عند البغوي في شرح السنة (226). السابع: قبيصة بن عقبة، كما عند الدارمي (711)، فهؤلاء لا يختلفون على سفيان، رووه بالوضوء مرة مرة، وزاد قبيصة: ونضح على فرجه، ولم يذكرها أحد غيره، فذكر النضح غير محفوظ بهذا الحديث. الثامن: عبد الرزاق كما في المصنف (128) بلفظ: " ألا أخبركم بوضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغرف بيده اليمنى، ثم صب على اليسرى صبة صبة. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (1/ 365). خالفهم رواد بن الجراح وزيد بن الحباب، فذكرا المسح على النعل. وانفرد محمد بن يزيد الجرمي، عن سفيان، وفيه: " وغسل رجليه وعليه نعله " والقطان وحده مقدم على كل هؤلاء ممن خالفه، كيف وقد وافقه وكيع والفريابي والضحاك وغيرهم ممن ذكرتهم. هذا بيان الاختلاف على سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أما الاختلاف على زيد بن أسلم فكالتالي: رواه عن زيد بن أسلم أحد عشر نفساً ففي بعض الروايات ذكرت غسل الرجلين، ولم تذكر الرش ولا النعلين: رواه جماعة منهم: - ابن عجلان عند ابن أبي شيبة (1/ 17) رقم 64، وأبي يعلى (2486)، والنسائي (103)، وابن ماجه (439)، وابن خزيمة (148)، وابن حبان (1078،1086)، والبيهقي (1/ 55،73) وغيرهم. - محمد بن جعفر بن كثير عند البيهقي (1/ 73). - ورقاء بن عمر، كما عند البيهقي (1/ 67،73). - وأبو بكر بن محمد عند عبد الرزاق (129). وروايات تذكر الرش حتى يبلغ الغسل: كرواية سليمان بن بلال عند البخاري (140)، وأحمد (1/ 286) والبيهقي (1/ 72). ورواية تذكر الرش على النعلين مع المسح: وذلك مثل: - هشام بن سعد عند أبي داود (137) والحاكم (1/ 147)، والبيهقي (1/ 73) وفي المعرفة (1/ 222)، وانفرد هشام بن سعد بذكر مسح أسفل النعل، وليس بمحفوظ. - الدراوردي، كما في الطهور لأبي عبيد (105) والطحاوي (1/ 35)، ورواه بعضهم عن الدراوردي، ولم يذكر مسح النعل، انظر النسائي (101)، وابن ماجه (403)، والدارمي (697)، ومسند أبي يعلى (2670،2672)، والطحاوي (1/ 32) والبيهقي (1/ 50)، وابن حبان (1076). - معمر، بذكر المسح على النعلين عند عبد الرزاق (783) وسبق أن ذكرت لفظها. فما هو الراجح من هذه الروايات، هل يكون المسح على النعلين محفوظاً والاختلاف فيه كما ترى؟ أقول - والله أعلم -: إن هذا الحديث قد اتفق رواته على أن الوضوء فيه مرة مرة، سواء ذكروه بهذا اللفظ المختصر، أو ذكروه على سبيل التفصيل، وكلا الروايتين في البخاري، والذي ساقه مختصراً لم يتعرض لذكر أعضاء الوضوء بما فيها الرجلان، والذين =

وقد وقف العلماء من أحاديث المسح على النعال على مواقف منها: الأول: القول بالمسح على النعال. وهذا أسعدها بالدليل، وحمل الأحاديث ابن تيمية على النعل التي يشق نزعها إلا بيد أو رجل (¬1). ¬

= ذكروه مفصلاً ذكروا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ غرفة واحدة لكل عضو، ويكتفي بها، بما في ذلك القدمان، وعند التأمل فلن يكفي في غسل القدم ظاهره وباطنه من أصابع القدمين حتى نهاية الكعبين من كف واحدة، فالذي ذكر الغسل نظر إلى غسل ظاهر القدم، والذي ذكر مسح النعل، نظر إلى أن غسل القدم لم يعم المحل المفروض، وهو باطن القدم، وبعض الروايات ذكرت الغسل والمسح معاً كطريق القاسم بن محمد الجرمي عن سفيان وهشام بن سعد عند البيهقي (1/ 73) فلو كان الغسل كافياً فلماذا المسح؟ فإن قيل: وإذا كان المسح كافياً فلماذا الغسل؟ أجيب: بأن النعل، وإن كان مسحها كافياً كما جاء من حديث المغيرة وأبي موسى، وأوس بن أبي أوس وابن عمر مرفوعاً وموقوفاً، ومن حديث علي بن أبي طالب موقوفاً عليه إلا أن الرش مع النعل جائز أيضاً، وهو درجة بين المسح والغسل، فإن مسح النعل أجزأه، وإن رش القدم مع النعل أجزأه أيضاً، وقد ذكر ابن القيم في معرض إجابته عن حديث المسح على النعلين ما يقوي هذا، فقال: " إن الرجل لها ثلاثة أحوال: حال تكون في الخف، فيجزئ مسح سائرها. وحال تكون حافية، فيجب غسلها، فهاتان مرتبتان: وهما كشفها وسترها. ففي حال كشفها لها أعلى مراتب الطهارة، وهي الغسل التام. وفي حال استتارها، لها أدناها، وهي المسح على الحائل. ولها حال ثالثة، وهي حالما تكون في النعل، وهي حال متوسطة بين كشفها وبين سترها بالخف، فأعطيت حالاً متوسطة من الطهارة، وهي الرش؛ فإنه بين الغسل والمسح، وحيث أطلق لفظ المسح عليها فالمراد به الرش؛ لأنه جاء مفسراً في الرواية الأخرى " اهـ. وهذا الكلام جيد، وحمل حديث ابن عباس على هذا متعين جمعاً بين الروايات، إلا أن الرش ليس واجباً كما قدمت فالمسح كاف كما دلت عليه الأحاديث السابقة. (¬1) الفروع (1/ 160).

ولعله لحظ الحكمة من المسح على الخفين، وهي مشقة النزع فألحق بها ما يشق نزعها من النعال، والله أعلم. الموقف الثاني: ضعف بعضهم الأحاديث الواردة في المسح على النعل، وهذا وإن كان قد يُسَلَّم في بعضها، لكن لا يسلم في الكل. الموقف الثالث: بعضهم أولها على أنه مسح على جوربين منعلين، وقد أجبت عن هذا التأويل فيما سبق، ومع أن هذا فيه تكلف فإن هذا ممكن أن يقال في أحاديث مسح على الجوربين والنعلين، وأما الأحاديث الكثيرة التي تفيد المسح على النعلين بدون ذكر الجوربين فلا يقبل هذا التأويل. الموقف الرابع: ذهب بعضهم إلى معارضة أحاديث المسح على النعلين بأحاديث وجوب غسل الرجلين، وهذا ضعيف؛ لأن أحاديث مسح النعلين لا تعارض غسل القدمين إلا إذا كان المسح على الخفين يعارض أحاديث غسل الرجلين، فإذا كان المسح على الخفين لا يعارض أحاديث غسل القدمين، فكذلك المسح على النعلين. الموقف الخامس: ادعى بعضهم أن أحاديث مسح النعل منسوخة بأحاديث غسل الرجلين!!، ذكر ذلك ابن القيم في تهذيب السنن.

الموقف السادس: حمل بعضهم أحاديث المسح على النعلين بأنه في حال تجديد الوضوء؛ وذلك لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح على القدمين في تجديد الوضوء، فكذلك يحمل المسح على النعلين بأنه في حال تجديد الوضوء. (38) فقد روى أحمد، قال: ثنا بهز، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال بن سبرة، قال: رأيت علياً رضي الله تعالى عنه صلى الظهر، ثم قعد لحوائج الناس، فلما حضرت العصر أتى بتور من ماء، فأخذ منه كفا، فمسح وجهه وذراعيه، ورأسه ورجليه، ثم أخذ فضله، فشرب قائماً، وقال: إن ناس يكرهون هذا، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وهذا وضوء من لم يحدث (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) أحمد (1/ 153). (¬2) رجاله ثقات. والحديث أخرجه النسائي في الكبرى (133)، وفي الصغرى (130) قال: أخبرنا عمرو بن يزيد، قال: حدثنا بهز بن أسد به. وأخرجه ابن الجعد في مسنده (459) وأبو داود الطيالسي في المسند (148) عن شعبة به. ومن طريق الطيالسي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5982). وأخرجه أحمد (1/ 123) عن وكيع. وابن جرير الطبري في تفسيره (6/ 113)، والبزار في مسنده (782) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 34) من طريق وهب بن جرير. وأخرجه أحمد (1/ 139) وابن خزيمة (16) من طريق محمد بن جعفر. =

الموقف السابع: قالوا: إن معنى: مسح على النعلين المقصود بالمسح هو الغسل الخفيف، قال ابن الأثير: المسح يأتي بمعنى المسح باليد، وبمعنى الغسل (¬1)، ويكون معنى حديث علي رضي الله عنه: " مسح وجهه وذراعيه، ورأسه ورجليه " أي غسلهما غسلاً خفيفاً، والله أعلم. والجواب: أولاً: حمل أحاديث المسح على النعلين على تجديد الوضوء حمل ضعيف؛ لأنه صح عن علي رضي الله عنه غسل الرجلين ثلاثاً، ومَسْحُ النعلين، ومَسْح القدمين بلا نعلين في طهارة تجديد الوضوء، وهذه الأحاديث لا يعارض بعضها بعضاً، مع اختلاف مخارجها. ¬

= وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 75) من طريق آدم، كلهم عن شعبة، عن عبد الملك به. وهو في البخاري (5616) من طريق آدم عن شعبة، لكن بقصة الشرب قائماً فقط. وأخرجه أحمد (1/ 78) والترمذي في الشمائل (210) عن محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عبد الملك به. وأخرجه أحمد (1/ 144) وأبو يعلى في مسنده (309)، والبيهقي في السنن (7/ 282) من طريق مسعر، عن عبد الملك به. وأخرجه البخاري (5615) حدثنا أبو نعيم، وأخرجه أبو داود (3718) من طريق يحيى، وأخرجه البزار (780) من طريق أبي أحمد، ثلاثتهم عن مسعر به، بقصة الشرب قائماً فقط. وأخرجه أحمد (1/ 159) وأبو يعلى (368) وابن خزيمة (1/ 11، 101) وابن حبان (1057، 1340) من طريق منصور، عن عبد الملك به. (¬1) النهاية في غريب الحديث (4/ 92).

ثانياً: ثبت عن علي بسند صحيح كما خرجته عنه أنه بال، ثم توضأ، فمسح على نعليه، ثم أقام المؤذن فخلعهما، ثم صلى، كما في مصنف ابن أبي شيبة (¬1)، وهذا صريح في أنه مسح على نعليه بعد الحدث، وهو نفسه الراوي لمسح القدمين في طهارة تجديد الوضوء. والقول: بأن المسح يأتي بمعنى الغسل، هذا أيضاً فيه إشكال، وهو أن علياً رضي الله عنه جعل هذا وضوء من لم يحدث، ولو كان المسح بمعنى الغسل لم يكن قيد (ما لم يحدث) معنى، والله أعلم. هذا ما أمكن جمعه في مسألة المسح على النعلين، والراجح عندي جوازه، ولو لم يأت في المسألة إلا الأثر عن علي بن أبي طالب لانشرح الصدر بالقول به، ما دام أنه لم يعلم له مخالف، وكونه لم ينتشر القول به كانتشار المسح على الخفين فهذا ليس كافياً في رده، وقد أنكر بعض السلف المسح على الخفين من الصحابة ومن بعدهم، أيكون إنكارهم للمسح على الخفين رافعاً لما ثبت شرعاً من جواز المسح عليهما، وسواء مسح على النعل، أو رش القدم في النعل فكلاهما جائز، والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬

(¬1) المصنف (1/ 173).

الفصل الرابع خلاف العلماء في المسح على اللفائف

الفصل الرابع خلاف العلماء في المسح على اللفائف

الفصل الرابع خلاف العلماء في المسح على الخرق واللفائف اختلف العلماء في المسح على اللفائف: فقيل: لا يمسح عليها، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: بل يمسح عليها، وهو وجه في مذهب أحمد، وحكاه بعضهم رواية (¬2)، ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: الاختيار لتعليل المختار (1/ 24)، المبسوط (1/ 102)، بدائع الصنائع (1/ 10). وانظر في مذهب المالكية: التاج والإكليل المطبوع بهامش مواهب الجليل (1/ 319)، تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/ 600)، مواهب الجليل (1/ 319). وبالغ المالكية فقالوا: يشترط أن يكون الخف من جلد، وأن يكون مخروزاً، فلو صنع من غير الجلد على صفة الخف لم يمسح عليه، ويشترط أن يكون مخروزاً، فلا يجوز المسح على ما لزق بنحو رسراس، ولا ما نسج أو سلخ، يعني: ولو كان في صورة الخف!! انظر الشرح الصغير (1/ 154)، حاشية الدسوقي (1/ 143). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/ 530)، روضة الطالبين (1/ 126). وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/ 182)، الإنصاف (1/ 182ـ183)، المبدع (1/ 145)، كشاف القناع (1/ 118)، الفروع (1/ 160)، المقنع في شرح مختصر الخرقي (1/ 270)، الكافي (1/ 44). وفي كتاب الهداية لأبي الخطاب (ص: 15): " ولا يجوز المسح على اللفائف، وإن كان تحتها نعل؛ لأنها لا تثبت بنفسها " اهـ. وذكر صاحب المغني، وابن مفلح في الفروع وشرح الزركشي أن أحمد نص على أنه لا يجوز المسح على اللفائف. (¬2) انظر الإنصاف (1/ 182 - 183)، شرح الزركشي (1/ 395).

دليل من قال لا يجوز المسح على اللفائف

واختاره ابن تيمية (¬1). دليل من قال لا يجوز المسح على اللفائف الدليل الأول: الإجماع بأنه لا يجوز المسح على اللفائف. نقل الإجماع من المالكية المواق في التاج والإكليل، قال: " لا خلاف أنه لا يجزئ المسح على الخرق إذا لف بها رجليه " (¬2). وقال ابن قدامة في منع المسح على اللفائف: لا نعلم في ذلك خلافاً (¬3). وسوف أناقش دعوى الإجماع إن شاء الله تعالى في أدلة القول الثاني. الدليل الثاني: أن المسح ورد على الخف، وهذه اللفائف لا تسمى خفاً، ولا هي في معناه (¬4). والجواب: أن الأشياء ليست بمسمياتها، بل بمعانيها، ولا فرق بين اللفائف والجوارب والخفاف في تدفئة الرجل، ومشقة النزع، بل قد يكون ¬

(¬1) قال ابن تيمية: اللفائف بالمسح أولى من الخف انظر الفتاوى الكبرى (1/ 319)، الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية (ص: 24)، مجموع الفتاوى (21/ 185). (¬2) التاج والإكليل (1/ 467). (¬3) المغني (1/ 182). (¬4) ذكره النووي في المجموع، قال (1/ 530): " لو لف على رجله قطعة من أدم، واستوثق شده بالرباط، وكان قوياً يمكن متابعة المشي عليه، لم يجز المسح عليه؛ لأنه لا يسمىخفاً، ولا هو في معناه اهـ.

الدليل الثالث

نزعها أشق من الخف والجورب. الدليل الثالث: قالوا: إن اللفائف لا تثبت بنفسها، وإنما تثبت بشدها، ومن شروط المسح على الخفين أن يثبت بنفسه، لا بشده. قال ابن قدامة: " لا يجوز المسح على اللفائف والخرق، نص عليه أحمد، وقيل: إن أهل الجبل يلفون على أرجلهم لفائف إلى نصف الساق؟ قال: لا يجزئه المسح على ذلك إلا أن يكون جورباً؛ وذلك أن اللفافة لا تثبت بنفسها، وإنما تثبت بشدها، ولا نعلم في هذا خلافاً " (¬1). قلت: سوف يأتي إن شاء الله تعالى في شروط المسح على الخفين هل يشترط أن يثبت الخف بنفسه؟ والراجح أنه ليس بشرط، ولا دليل على اشتراطه. دليل من قال يجوز المسح على اللفائف. الدليل الأول: (39) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (¬2). ¬

(¬1) المغني (1/ 182). (¬2) المسند (5/ 277).

الدليل الثاني

[رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع، وسبق بحثه] (¬1). وجه الاستدلال: فالعصائب: هي العمائم؛ لأن الرأس يعصب بها، والتساخين: كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما، من الخرق واللفائف التي تسخن الرجل، فإنه مما لا شك فيه أن هذه اللفائف تسخن القدم، فهي داخلة في عموم اللفظ (¬2). الدليل الثاني: كل دليل استدل به على جواز المسح على الجورب يصلح أن يكون دليلاً على جواز المسح على اللفائف؛ لأن الجورب في القاموس: هي لفافة الرجل، لكن العرف خص اللفافة بما ليس بمخيط، والجورب بما هو مخيط، ومعلوم أن وجود الخيط وعدمه ليس مؤثراً في الحكم. الدليل الثالث: أن اللفائف أولى بالجواز من الخفاف والجوارب؛ لأن نزعها أشق؛ ولأن من يلبسها غالباً لا يملك ثمن الجوارب والخفاف، فيكون محتاجاً إليها، وهو أولى بالمراعاة من الغني. قال ابن تيمية: " والصواب أن يمسح على اللفائف، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب؛ فإن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة، ¬

(¬1) انظر مسألة المسح على الجوربين. (¬2) انظر كلام ابن الأثير في جامع الأصول (7/ 171)، والنهاية في غريب الحديث (3/ 244)، (2/ 352).

وفي نزعها ضرر، إما إصابة بالبرد، وإما التأذي بالحفاء، وإما التأذي بالجرح، فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين، فعلى اللفائف بطريق الأولى. ومن ادعى في ذلك إجماعاً فليس معه إلا عدم العلم، ولا يمكنه أن ينقل المنع عن عشرة من العلماء المشهورين، فضلاً عن الإجماع، والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره، وذلك أن أصل المسح على الخفين خفي على كثير من السلف والخلف حتى إن طائفة من الصحابة أنكروه، وطائفة من فقهاء أهل المدينة وأهل البيت أنكروه مطلقاً .. الخ ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى. الراجح: جواز المسح على اللفائف، وإذا كنت رجحت جواز المسح على النعل، مع أنها لا توجد مشقة كبيرة في نزعها، ولا تستر القدم المفروض غسله، فما بالك باللفائف التي تأتي على القدم كاملة، وتكون طبقات بعضها فوق بعض، وهي جورب إلا أنه لا خيط فيها، وهذا غير مؤثر كما بينت، والله أعلم.

الفصل الخامس أيهما أفضل المسح أم الغسل

الفصل الخامس أيهما أفضل المسح أم الغسل

الفصل الخامس أيهما أفضل المسح أم الغسل اختلف العلماء في أيهما أفضل المسح أم الغسل؟ فقيل: الغسل أفضل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: المسح أفضل من الغسل، وهذا القول من مفرادت مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: هما سواء، وهو رواية عن أحمد (¬6). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 144)، تبيين الحقائق (1/ 46). (¬2) منح الجليل (1/ 134)، حاشية الدسوقي (1/ 141)، الخرشي (1/ 176)، وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير بأن المسح خلاف الأولى (1/ 153) وقال العدوي في حاشيته على الخرشي (1/ 176): بأن المسح رخصة، والرخصة تارة تكون وجوباً كوجوب أكل الميتة للمضطر، وتارة تكون ندباً كندب القصر في السفر، وتارة تكون خلاف الأولى كخلاف أولوية فطر مسافر في رمضان، وتارة تكون إباحة كإباحة السلم، والرخصة هنا - يعني في المسح على الخفين - من ذلك القبيل، يعني مباحة، وليست الأفضل. وسوف يأتي بحث هل المسح رخصة أم عزيمة إن شاء الله تعالى. (¬3) المجموع (1/ 502)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 64)، نهاية المحتاج (1/ 199). (¬4) المغني (1/ 174) وقال في الإنصاف (1/ 169): " وعنه الغسل أفضل، وقيل: إنه آخر أقواله" اهـ. (¬5) كشاف القناع (1/ 110). (¬6) الإنصاف (1/ 169).

دليل الجمهور على أن الأفضل الغسل

وقيل: الأفضل في حق كل واحد بحسبه، فمن كان عليه الخف كان الأفضل في حقه المسح، ومن كان لا خف عليه فالأفضل في حقه الغسل، وأن لا يلبس من أجل أن يمسح، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم (¬1). دليل الجمهور على أن الأفضل الغسل. ذكر بعضهم شرطاً في كون الغسل أفضل من المسح هو أن لا يترك المسح رغبة عن السنة. واستدلوا لذلك: الدليل الأول: أن الغسل هو الذي واضب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في معظم الأوقات، وإذا كان الغسل هو الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم - كان أفضل. الدليل الثاني: أن الغسل هو المفترض في كتاب الله سبحانه وتعالى قال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬2). على قراءة النصب، وهي الأشهر فيها وجوب غسل القدمين، وأما المسح فهو رخصة، فالغاسل لرجليه مؤد لما افترض الله عليه، والماسح لرجليه فاعل لما أبيح له. الدليل الثالث: (40) ترجم البخاري في صحيحه قائلاً: باب أجرة العمرة على قدر ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 199). (¬2) المائدة، آية: 6.

الدليل الرابع

النصب، ثم روى هو ومسلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: ولكنها - يعني العمرة - على قدر نفقتك أو نصبك (¬1). ولا شك أن غسل القدمين فيه مشقة أكثر من المسح خاصة في المناطق الباردة. الدليل الرابع: أن المسح مختلف فيه، والغسل مجمع عليه. الدليل الخامس: (41) أن بعض الصحابة كان يفضل غسل رجليه، فقد روى ابن المنذر في الأوسط، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح، ثنا محمد بن بشار، ثنا جعفر بن محمد، ثنا شعبة، قال: سمعت جبر بن حبيب، عن أم كلثوم ابنة أبي بكر أن عمر نزل بواد يقال له وادي العقاب، فأمرهم أن يمسحوا على خفافهم، وخلع خفيه، وتوضأ، وقال: إنما خلعت لأنه حبب إلي الطهور (¬2). [رجاله ثقات] (¬3) (42) ومنهم أبو أيوب، فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ¬

(¬1) البخاري (1787) ومسلم (226). (¬2) الأوسط (1/ 439). (¬3) أم كلثوم ابنة أبي بكر توفي أبو بكر، وهي حمل في بطن أمها، فتكون عند وفاة عمر عمرها اثنتا عشرة سنة، فسنها قابل للتحمل، وهي من الطبقة الثانية من كبار التابعيات، ولم أقف على من صرح بسماعها من عمر، فإن كانت سمعت فالإسناد صحيح، والله أعلم.

دليل من قال المسح أفضل

هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن ابن سيرين، عن أفلح مولى أبي أيوب، عن أبي أيوب، أنه كان يأمر بالمسح على الخفين، وكان هو يغسل قدميه، فقيل له: كيف تأمر بالمسح وأنت تغسل؟ فقال: بئس ما لي إن كان مهنأة لكم، ومأثمة علي، قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ويأمر به، ولكن حبب إلي الوضوء (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). قلت: ليس في هذا ما يدل على أفضلية الغسل على المسح؛ لأن أبا أيوب صرح بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر به، ويفعله، وأن أبا أيوب كان يأمر بالمسح، ولا يليق بالصحابي أبي أيوب أن يأمر الناس بالمفضول دون الفاضل، لكن استحب الغسل في خاصة نفسه، وهذا لا يدل على أفضلية مطلقة. دليل من قال المسح أفضل. الدليل الأول: (43) ما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن عبد الله، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع، ¬

(¬1) المصنف (1/ 161) رقم 1854. (¬2) ورواه البيهقي (1/ 293) من طريق عمرو بن عون وأبي الربيع الزهراني، كلاهما عن هشيم به. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 439) من طريق هشيم به. وأخرجه عبد الرزاق (769) عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين أن أبا أيوب كان يفتي بالمسح على الخفين ... وذكره، ولم يذكر أفلح.

عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 108). (¬2) في إسناده عبد العزيز بن محمد الدراوردي، جاء في ترجمته: قال أبو طالب: سئل أحمد بن حنبل، عن عبد العزيز الدراوردي، فقال: كان معروفاً بالطلب، وإذا حدث من كتابه، فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس وهم، كان يقرأ من كتبهم فيخطىء، وربما قلب حديث عبد الله العمري يرويه عن عبيد الله بن عمر. الجرح والتعديل (5/ 395). وقال أبو زرعة: سيء الحفظ، فربما حدث من حفظه الشيء فيخطىء. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين: صالح ليس به بأس. المرجع السابق. وقال مرة: ثقة حجة. تهذيب التهذيب (6/ 315). وقال أيضاً: الدراوردي أثبت من فليح وابن أبي الزناد وأبي أويس. المرجع السابق. وكان مالك بن أنس يوثق الدراوردي. الجرح والتعديل (5/ 395). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، يغلط. الطبقات الكبرى (5/ 424). وفي التقريب: صدوق كان يحدث من كتب غيره، فيخطئ، قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العمري منكر اهـ. روى له البخاري مقروناً، وروى له مسلم والبقية. والله أعلم. وفي إسناده أيضاً حرب بن قيس: ذكره ابن حبان في الثقات (6/ 230). وقال البخاري: قال ابن أبي مريم، عن بكر بن مضر، قال: زعم عمارة بن غزية أن حرباً كان رضا. التاريخ الكبير (3/ 61). [تخريج الحديث] الحديث اختلف فيه على الدراوردي، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقيل: عن الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع عن ابن عمر كما في إسناد الباب. وقيل: عن الدراوردي، عن موسى بن عقبة، عن حرب بن قيس، عن نافع، عن ابن عمر بدون ذكر عمارة بن غزية وجعل بدلاً منه موسى بن عقبة. وقيل: عن الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن نافع، بدون ذكر حرب بن قيس. أما رواية الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع عن ابن عمر. فأخرجه أحمد كما في حديث الباب. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3890) والخطيب في تاريخه (10/ 347) من طريق علي بن المديني. ورواه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 140) من طريق أبي مصعب، ورواه البزار كما في كشف الأستار (988) من طريق أحمد بن أبان، ثلاثتهم عن الدراوردي به. وأخرجه ابن خزيمة (950) من طريق يحيى بن أيوب (في المطبوع زياد)، عن عمارة به. وأخرجه أيضاً (2027) من طريق بكر بن مضر، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، وزعم عمارة أنه رضى، عن نافع به. وأما طريق الدراوردي، عن موسى بن عقبة، عن حرب بن قيس به. فأخرجه الطبراني في الأوسط (5302) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبير، قال: نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن موسى بن عقبة، عن حرب بن قيس، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله يحب أن تؤتى عزائمه، كما يكره أن تؤتى معصيته. قلت: بعكس لفظ حرب بن قيس أن تؤتى رخصه. قال الطبراني: لم يدخل في هذا الحديث بين موسى بن عقبة وبين نافع (حرب بن قيس) إلا الدراوردي. اهـ ورواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 140) من طريق هارون بن معروف، عن الدراوردي، عن موسى بن عقبة به، بلفظ: إن الله يحب أن تؤتى رخصه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورجح البيهقي أن يكون الدراوردي سمعه منهما جيمعاً أي من عمارة بن غزية، ومن موسى بن عقبة. وأما رواية الدراوردي، عن عمارة، عن نافع، بدون ذكر حرب بن قيس، فقد رواه قتيبة بن سعيد، عن الدراوردي، واختلف عليه فيه: فرواه أحمد (2/ 108) حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن نافع به. ولم يذكر حرب بن قيس. بلفظ: إن الله يحب أن تؤتى رخصه ... الخ ورواه ابن حبان (3568) عن محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع به. فذكر حرب بن قيس، وقال في آخره: " كما يحب أن تؤتى عزائمه، بدلاً من لفظ أحمد: " كما يكره أن تؤتى معصيته ". وعندي أن أرجح الطرق عن الدراوردي روايته عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع؛ لأن الدراوردي قد توبع في حديثه عن عمارة بن غزية، تابعه بكر بن مضر البصري، كما في صحيح ابن خزيمة (2027): " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تترك معصيته ". وبكر بن مضر قال عنه في التقريب: ثقة ثبت. كما تابعه يحيى بن أيوب المصري، كما في صحيح ابن خزيمة (950)، ويحيى بن أيوب، قال عنه الحافظ: صدوق ربما أخطأ. وتابعه أيضاً عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني، وهو ضعيف، كما في تاريخ بغداد (10/ 347). وابن الأعرابي في معجمه (223/آ) نقلاً من زوائد تاريخ بغداد (7/ 446).والله أعلم. والحديث له شواهد: منها حديث ابن عباس، عند ابن حبان (354) قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى، قال: حدثنا الحسين بن محمد الذارع، قال: حدثنا أبو محصن حصين بن نمير، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه. وسنده صحيح. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وشاهد آخر من حديث أنس عند الطبراني في الأوسط (4927) من طريق إسماعيل بن عيسى العطار، ثنا عمرو بن عبد الجبار، قال: عبد الله بن يزيد بن آدم، عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يحب أن تقبل رخصه، كما يحب العبد مغفرة ربه. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي الدرداء، وأبي أمامة وواثلة وأنس إلا بهذا الإسناد، تفرد به إسماعيل بن عيسى. قال الهيثمي في المجمع (3/ 162): " عبد الله بن يزيد ضعفه أحمد وغيره اهـ. قلت: والعطار وشيخه ضعيفان. وله شاهد ثالث من حديث عائشة أخرجه الطبراني في الأوسط (8032) وابن عدي في الكامل (5/ 63) من طريق حفص بن عبد الله أبو عمر الحلواني، ثنا عمر بن عبيد بياع الخُمُر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه. زاد ابن عدي: قلت: وما عزائمة؟ قال: فرائضه. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عروة إلا عمر بن عبيد، تفرد به أبوعمر الضرير. قال ابن عدي: عمر بن عبيد البصري حديثه عن كل من روى عنه ليس بمحفوظ. وضعفه أبو حاتم. وذكره العقيلي في الضعفاء. انظر اللسان (4/ 316) والميزان (3/ 212). ورواه ابن عدي (3/ 354) من طريق سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، حدثني أخي عبد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه. وسعد بن سعيد المقبري في التقريب: لين الحديث، قال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً إلا أني ذكرته لأبين أن رواياته عن أخيه، عن أبيه، عن أبي هريرة عامتها لا يتابعه أحد عليها. فالخلاصة أن الحديث صحيح بطرقه، وحديث ابن عباس وابن عمر كافيان في الاستدلال، والله أعلم.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: أن المسح على الخفين أيسر على المكلف من غسلهما، خاصة في أيام الريح الباردة، والماء البارد، وما كان أيسر فهو أولى. (44) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها (¬1). الدليل الثالث: (45) ما رواه النسائي في السنن الكبرى وغيره من طريق عاصم، عن زر، قال: سألت صفوان بن عسال عن المسح على الخفين، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا، ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم، إلا من جنابة (¬2). [سنده حسن، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى] (¬3). وجه الاستدلال: فقوله: " يأمرنا " إذا لم يكن للوجوب، كان للندب، وهو دليل على أن المسح أفضل. ¬

(¬1) صحيح البخاري (3367) ومسلم (2327). (¬2) سنن النسائي الكبرى (144،145). (¬3) انظر مسألة الخلاف في توقيت المسح.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: أن المسح على الخفين قد طعن فيه طوائف من أهل البدع، فكان إحياء السنن التي طعن فيه المخالفون أفضل من إماتتها، جاء عن سفيان الثوري أنه قال لشعيب بن حرب: لا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين أفضل من الغسل (¬1). وقد كان المصنفون في كتب العقائد يذكرون اعتقادهم بالمسح على الخفين بالرغم أنه من مسائل الفقه ليتميز أهل السنة فيه عن غيرهم (¬2). (46) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة قال: كان إبراهيم في سفر، فأتى عليه يوم حار، فقال: لولا خلاف السنة لنزعت خفي (¬3). وقال ابن المنذر: وممن روى أن المسح على الخفين أفضل من الغسل الشعبي والحكم وأحمد وإسحاق، وكان ابن أبي ليلى والنعمان يقولان: إنا لنريد الوضوء فنلبس الخفين حتى نمسح عليهما. وروينا عن النخعي أنه قال: من رغب عن المسح على الخفين فقد رغب عن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

(¬1) المغني (1/ 174). (¬2) علق على هذا أحد مشايخي قائلاً: " هذا على التنزل في التفريق بين المسائل، وإلا فكل حديث صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالإيمان به واعتقاده والعمل به عقيدة اهـ. (¬3) المصنف (1/ 167) رقم 1919. (¬4) الأوسط (1/ 440).

دليل من قال المسح والغسل سواء

دليل من قال المسح والغسل سواء. قالوا: إن الأدلة جاءت بهذا وهذا، ولم يرد دليل في الشرع ينص على أن الغسل أفضل، أو المسح أفضل، فيبقى الحكم واحداً. قال ابن المنذر: " قد شبه بعض أهل العلم من لبس خفيه على طهارة وأحدث بالحانث في يمينه، قال: فلما كان الحانث في يمينه بالخيار إن شاء أطعم، وإن شاء كسا، ويكون مؤدياً للفرض الذي عليه، فكذلك الذي أحدث، وقد لبس خفيه على طهارة إن مسح، أو خلع خفيه فغسل رجليه مؤد ما فرض الله عليه، مخير في ذلك (¬1). دليل من قال إن كان عليه الخف فالأفضل المسح، وإلا فالأفضل الغسل. قال ابن القيم: لم يكن يتكلف - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين، غسل القدمين، ولم يلبس الخف ليمسح عليه، وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل، قاله شيخنا (¬2). والله أعلم. الراجح: بعد سياق هذا الخلاف بين أهل العلم في أيهما أفضل المسح أو الغسل؟ الذي يتبين لي أن ما قاله ابن القيم فيه توسط بين الأقوال، وإن كنت أميل إلى أن الغسل قد يكون أفضل، ووجهه: أن الغسل هو الغالب من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدليل أن عائشة لم تكن تعلم عن المسح على الخفين، ¬

(¬1) الأوسط (1/ 440). (¬2) زاد المعاد (1/ 199).

وأحالت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين سُئلت عن المسح على الخفين، ولو كان يكثر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما غاب هذا الفعل عن بيت النبوة، عن أم المؤمنين رضي الله عنها، والله أعلم.

الفصل السادس هل المسح رخصة أم عزيمة

الفصل السادس هل المسح رخصة أم عزيمة

الفصل السادس هل المسح رخصة أم عزيمة اختلف الفقهاء هل المسح رخصة أم عزيمة، فقيل: إن المسح رخصة، وهو مذهب الأئمة (¬1). وقيل: إن المسح عزيمة، وهو رواية عن أحمد (¬2). ومن ثمرة الخلاف، أن المسح إذا كان عزيمة، فإن المسافر يمسح مطلقاً سواء كان سفره مباحاً أو محرماً. ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: حاشية ابن عابدين (1/ 442)، مراقي الفلاح (ص: 53)، شرح فتح القدير (1/ 147). وانظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/ 141)، مواهب الجليل (1/ 318)، وقال الخرشي (1/ 176): بأن المسح رخصة، والرخصة تارة تكون وجوباً كوجوب أكل الميتة للمضطر، وتارة تكون ندباً كندب القصر في السفر، وتارة تكون خلاف الأولى كخلاف أولوية فطر مسافر في رمضان، وتارة تكون إباحة كإباحة السلم، والرخصة هنا - يعني في المسح على الخفين - من ذلك القبيل ". يعني: مباحة. وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/ 510)، والروضة (1/ 131)، الفتاوى الفقهية الكبرى - الهيتمي (1/ 233). وأما مذهب الحنابلة، فقد قال ابن قدامة (1/ 181): " ولو سافر لمعصية لم يستبح المسح أكثر من يوم وليلة؛ لأن يوماً وليلة غير مختصة بالسفر، ولا هي من رخصه، فأشبه غير الرخص، بخلاف ما زاد على اليوم والليلة؛ فإنه من رخص السفر، فلم يستبحه بسفر المعصية كالقصر والجمع ". اهـ فنص على أنها رخصة، وانظر الإنصاف (1/ 169). (¬2) قال في الإنصاف (1/ 169): " والمسح رخصة على الصحيح من المذهب. وعنه عزيمة.

دليل من قال المسح على الخفين رخصة

واختلف القائلون: بأن المسح رخصة هل يمسح العاصي بسفره أم لا، وقد جعلت هذا في بحث مستقل سوف يأتي إن شاء الله تعالى. دليل من قال المسح على الخفين رخصة. الدليل الأول: (47) ما وراه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن بشار وبشر بن هلال الصواف، قالا: ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، قال: ثنا المهاجر أبو مخلد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص للمسافر إذا توضأ، ولبس خفيه، ثم أحدث وضوءاً، أن يمسح ثلاثةَ أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلةً (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (556). (¬2) فيه مهاجر بن مخلد، جاء في ترجمته: ذكره ابن حبان في الثقات (7/ 486). وقال: إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: صالح. الجرح والتعديل (8/ 262). وقال ابن أبي حاتم: قال سألت أبي عن مهاجر أبي مخلد مولى البكرات، فقال: لين الحديث، ليس بذاك، وليس بالمتين شيخ يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال العجلي: بصري ثقة. معرفة الثقات (2/ 301). وكان وهيب يعيب المهاجر يقول لا يحفظ. الكامل (6/ 460). وقال العقيلي بعد أن خرج هذا الحديث: والمتن معروف من غير هذا الوجه، ولا يتابع مهاجر على هذه الرواية. الضعفاء الكبير (4/ 208). وفي التقريب: مقبول، يعني إن توبع، ولا أعلم أحداً تابعه على هذا الإسناد، =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (48) ما رواه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الملك بن حميد بن أبي غنية، قال: سمعت الحكم بن عتيبة يحدث عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال: سألت علي بن أبي طالب في المسح على الخفين؟ فقال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين في الحضر يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن (¬1). [الحديث صحيح إلا أن لفظ: (رخص) غير محفوظ في الحديث] (¬2). ¬

= فالحديث ضعيف. وقال الترمذي في العلل الكبير (1/ 175): " سألت محمداً - يعني البخاري - فقلت: أي الحديث عندك أصح في التوقيت في المسح على الخفين؟ قال: حديث صفوان بن عسال، وحديث أبي بكرة حسن اهـ. ولعل البخاري لم يقصد الحسن الاصطلاحي؛ وذلك لأن حديث صفوان حديث حسن، مداره على عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث وحديث أبي بكرة أقل منه درجة، فيكون ضعيفاً. والله أعلم. وسوف يأتي تخريجه مستوفى في الخلاف في التوقيت في المسح على الخفين. على أنه معروف من كلام الأئمة أن كلمة (أصح) لا تعني الصحة المطلقة. (¬1) صحيح ابن خزيمة (195)، وابن حبان (1327). (¬2) قد رواه جماعة عن الحكم، ولم يذكر أحد منهم لفظ رخص، منهم: الأول: عمرو بن قيس. كما في مصنف عبد الرزاق (789) وأحمد (1/ 134)، ومسلم (276)، والدارمي (714)، والنسائي (128)، والبيهقي (1/ 275). الثاني: زيد بن أبي أنيسة. كما في صحيح مسلم (276). الثالث: الأعمش. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (49) ما رواه أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبى عبد الله الجدلي سمعه يحدث عن خزيمة بن ثابت سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسح على الخفين، فرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوماً وليلةً. قال عبد الله: قال أبي: سمعته من سفيان مرتين يذكر للمقيم، ولو أطنب السائل في مسألته لزادهم (¬1). [رجاله ثقات ورواية الأكثر ليس فيها لفظ: رخص] (¬2). ¬

= كما في مسند أحمد (1/ 113)، وأبي يعلى (264)، والنسائي (129)، والبيهقي (1/ 275). الرابع: شعبة، كما في مسند أحمد (1/ 120،100)، والطيالسي (92) وأبي عوانة، وابن ماجه (552)، وصحيح ابن حبان (1331). الخامس: زبيد، عن الطحاوي (1/ 81). السادس: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، كما في سنن البيهقي (1/ 282). السابع: الحجاج بن أرطاة، كما في مسند أحمد (1/ 96)، كل هؤلاء رووه عن الحكم، ولم يذكر أحد منهم لفظ: " رخص " كما أن جميع من رواه عن القاسم بن مخيمرة لم يذكر لفظ (رخص) منهم أبو إسحاق السبيعي ويزيد بن أبي زياد وعبدة بن أبي لبابة، وقد تكلمت على جميع هذه الطرق في حكم المسح على الخفين، فانظره غير مأمور. (¬1) المسند (5/ 213). (¬2) هذا الحديث رجاله ثقات، إلا أن العلماء اختلفوا في تصحيحه، فصححه بعضهم: جاء في سنن الترمذي (95): وذكر عن يحيى بن معين أنه صحح حديث خزيمة بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثابت. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان، وصححه أبو عوانة، فهؤلاء أربعة من الأئمة حكموا بأنه صحيح، وبالتالي يكون متصلاً. وأعله البخاري بالانقطاع، فقال أبو عيسى الترمذي: سألت محمداً - يعني البخاري -عن هذا الحديث؟ فقال: لا يصح عندي حديث خزيمة بن ثابت في المسح على الخفين؛ لأنه لا يعرف لأبي عبد الله الجدلي سماع من خزيمة. انظر علل الترمذي الكبير (ص: 53)، سنن البيهقي (1/ 278)، وجامع التحصيل (482). قال ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 279): " هذا بناء على ما حكي عن البخاري أنه يشترط ثبوت سماع الراوي عمن روى عنه، ولا يكتفي بإمكان اللقي، وحكى مسلم عن الجمهور خلاف هذا، وأنه يكتفى بالإمكان " اهـ. قلت: قول البخاري: لا يعرف لأبي عبد الله سماع، يقصد بها أنه لم يسمع منه، ومن تتبع عبارات البخاري في التاريخ الكبير وجد مصداق هذا، فتارة يقول في مكان: لايعلم له سماع، ثم يقول في مكان آخر، فلان لم يسمع من فلان. وإذا جزم إمام من أئمة الجرح والتعديل بأن فلاناً لم يسمع من فلان قبل، ولا يرد بكونه عاصره، فإن هناك رواة كثيرين عاصروا رواة آخرين، ولم يسمعوا منهم شيئاً، ولايُعَارض قول البخاري: بأن يحيى بن معين أو غيره صححه؛ لأن المثبت مقدم على النافي، والبخاري مثبت أن أبا عبد الله الجدلي لم يسمع من خزيمة، والله أعلم. وأما الاختلاف في إسناده، فقيل: عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلى، عن خزيمة. وقيل: عن إبراهيم، التيمي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة، بإسقاط عمرو ابن ميمون. وقيل: عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة. وهنا سقط أبو عبد الله الجدلي بين عمرو بن ميمون وبين خزيمة رضي الله عنه. وزيد في إسناده الحارث بن سويد بين إبراهيم وبين عمرو بن ميمون. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقيل: عن إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة. وفي بعضها زيادة: لو استزدناه لزادنا، وفي بعضها: ولو مضى السائل على مسألته لجعلها خمساً، وفي بعضها بدون هذه الزيادة. هذا ملخص الاختلاف، وإليك التفصيل. أما رواية إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة، فرواه منصور عن إبراهيم به. أخرجه أحمد كما في حديث الباب، ورواه أبو عوانة (1/ 262) من طريق سفيان بن عيينة به. إلا أنه لم يذكر متناً، وأحال على رواية شريح بن هانئ، عن علي، فقال: ثم ذكر مثله، فلعل المثلية هنا في التوقيت، فإن حديث علي بن أبي طالب، ليس فيه لفظ (رخص). وأخرجه الحميدي (434) ثنا سفيان به، بلفظ: " رخص ". وأخرجه الطبراني (3754) من طريق الحميدي وإبراهيم بن بشار الرمادي، كلاهما عن سفيان به. بلفظ: " رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسح ... وذكر الحديث. واختلف على سفيان، فرواه عنه أحمد والحميدي وإبراهيم بن بشار ثلاثتهم عن سفيان به بلفظ: رخص ... ورواه يونس بن عبد الأعلى كما في شرح معاني الآثار (1/ 81) عن سفيان به، بلفظ: " جعل المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة " اهـ. وأخرجه ابن حبان (1332) من طريق أبي خيثمة، ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم التيمي به، بلفظ: " رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نمسح ثلاثاً، ولو استزدناه لزادنا". ورواه الطبراني في الكبير (4/ 94) رقم 3757 من طريق عثمان بن أبي شيبة وإسحاق ابن راهوية قالا: ثنا جرير، عن منصور به، بلفظ: " جعل لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نمسح ثلاثاً، ولو استزدناه لزادنا، فهذا اختلاف على جرير أيضاً. وأخرجه أحمد (5/ 213) ومن طريقه الطبراني في الكبير (4/ 93) رقم 3755 حدثنا أبو عبد الصمد العمي، ثنا منصور به، بلفظ: "امسحوا على الخفاف ثلاثة أيام، ولو استزدناه لزادنا " اهـ. ولم يذكر أن ذلك في السفر ولم يذكر مسح المقيم، وليس فيه لفظ (رخص). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الطبراني في الكبير (4/ 93) من طريق مسدد وإسحاق بن راهوية وعلي بن المديني ثلاثتهم، عن أبي عبد الصمد العمي به. وراه البيهقي (1/ 277) من طريق زائدة بن قدامة، قال: سمعت منصوراً يقول: كنا في حجرة إبراهيم النخعي، ومعنا إبراهيم التيمي، فذكرنا المسح على الخفين، فقال إبراهيم التيمي: ثنا عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي عن خزيمة بن ثابت، قال: جعل لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً، ولو استزدته لزادنا - يعني المسح على الخفين للمسافر اهـ. وليس فيه لفظ (رخص). واختلف على منصور من وجه آخر، فرواه سفيان بن عيينة وزائدة بن قدامة، وأبو عبد الصمد العمي وجرير، أربعتهم رووه عن منصور، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت مرفوعاً. ورواه أبو الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم التيمي، عن أبي عبد الله الجدلي، فأسقط من إسناده عمرو بن ميمون، رواه أبو داود الطيالسي (1218)، والطبراني (4/ 93) رقم 3765 من طريق مسدد وعمرو بن عون، ثلاثتهم عن أبي الأحوص به. ولم يذكر أبوالأحوص لفظ (رخص). ورواه إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي بإسقاط عمرو بن ميمون كرواية أبي الأحوص، وسوف تأتي إن شاء الله تعالى. وتبين لنا من خلال بحث هذا الطريق أن لفظ رخص انفرد بها سفيان بن عيينة، عن منصور، ورواه زائدة بن قدامة، وعبد العزيز بن عبد الصمد العمي، وجرير وأبو الأحوص، عن منصور بدون لفظ رخص. على أن سفيان بن عيينة وجريراً قد اختلف عليهما. وكذا كل من رواه عن إبراهيم التيمي، لم يذكر لنا لفظ (رخص) كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والله أعلم. وأعل بعضهم رواية التيمي بأنه لم يسمعه من عمرو بن ميمون، وأن بينه وبين عمرو ابن ميمون واسطة، فقد رواه أحمد (5/ 213) وابن ماجه (554) من طريق شعبة، عن سلمة ابن كهيل، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة، فزيد في إسناده الحارث بن سويد بين إبراهيم التيمي، وعمرو بن ميمون، ولم يُذْكر أبو عبد الله =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الجدلي، وسوف يأتي الكلام عليها في طريق مستقل إن شاء الله تعالى. قال أبو زرعة في العلل لابن أبي حاتم (1/ 22): " الصحيح من حديث إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحافظ في الدراية (1/ 78): " ورواه شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة، فأسقط الجدلي بين عمرو ابن ميمون وخزيمة، ولابد منه، وهذا مما أعلت به رواية التيمي ". وقال الحافظ: وقد يجاب بأنه سمعه من عمرو، وسمعه عنه بواسطة، أو يكون من المزيد في متصل الأسانيد؛ لأنه صرح في رواية زائدة بسماعه من عمرو، وأيضا فكيف ما دار الإسناد فهو على ثقة. وجاء في نصب الراية (1/ 176):" الروايات متضافرة برواية التيمي له، عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة. وأما إسقاط أبي الأحوص لعمرو بن ميمون من الإسناد فالحكم لمن زاد، فإنه زيادة عدل، وأما زيادة الحارث بن سويد وإسقاط الجدلي، فيقال في إسقاط الجدلي ما قيل في إسقاط أبي الأحوص، وأما زيادة الحارث بن سويد، فمقتضى المشهور من أفعال المحدثين والأكثر أن يحكم بها، ويجعل منقطعاً فيما بين إبراهيم وعمرو بن ميمون؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يروي حديثاً عن رجل، عن ثالث، وقد رواه هو عن ذلك الثالث، لقدرته على إسقاط الواسطة، لكن إذا عارض هذا الظاهر دليل أقوى منه عمل به، كما فعل في أحاديث حكم فيها بأن الراوي علا ونزل في الحديث الواحد، فرواه على الوجهين، وفي هذا الحديث قد ذكرنا زيادة زائدة وقصة في الحكاية، وأن إبراهيم التيمي، قال: حدثنا عمرو بن ميمون، فصرح بالتحديث، فمقتضى هذا التصريح لقائل أن يقول: لعل إبراهيم سمعه من عمرو بن ميمون ومن الحارث بن سويد عنه. ووجه آخر على طريقة الفقه، وهو أن يقال: إن كان متصلاً فيما بين التيمي وعمرو بن ميمون فذاك، وإن كان منقطعاً فقد تبين أن الواسطة بينهما الحارث بن سويد، وهو من أكابر الثقات، قال ابن معين: ثقة ما بالكوفة أجود إسناداً منه. وقال أحمد بن حنبل: مثل هذا يسأل عنه، لجلالته ورفعة منزلته، وأخرج له الشيخان في الصحيحين وبقية الجماعة. اهـ كلام الزيلعي رحمه الله. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الطريق الثاني: سعيد بن مسروق، عن إبراهيم التيمي به. أخرجه عبد الرزاق (790) ومن طريقه أحمد (5/ 215) أنا سفيان، حدثني أبي (سعيد بن مسروق)، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون به، جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم، وايم الله لو مضى السائل في مسألته لجعلها خمساً. وفي هذه الرواية ذكر المقيم، وقال: " لجعلها خمساً " بدلاً من قوله: " لزادنا". وأخرجه الطبراني في الكبير (3749) والبيهقي (1/ 277) من طريق عبد الرزاق به. وأخرجه أحمد (5/ 214) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، وأبونعيم قالا: ثنا سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي به بلفظ: " جعل للمسافر ثلاثاً وللمقيم يوماً وليلة، قال: وأيم الله لو مضى السائل في مسألته لجعلها خمساً. وقال أبو نعيم: يوم للمقيم. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 162) رقم 1864 حدثنا الفضل بن دكين (أبو نعيم) عن سفيان به. ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن حبان (1329) والطبراني (3749). واختلف على سفيان الثوري فيه: فرواه عبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي وأبو نعيم كلهم رووه عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي به. وخالفهم وكيع ومحمد بن يوسف الفريابي، فروياه عن سفيان به بإسقاط أبي عبد الله الجدلي. أخرجه ابن ماجه (553) عن علي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة، لم يذكر أبا عبد الله الجدلي. وتابعه محمد بن يوسف الفريابي، فأخرجه الخطيب في تاريخه (2/ 50) من طريق محمد ابن سعيد بن أبي مريم، قال: أنبأنا محمد بن يوسف الفريابي، قال: أنبأنا سفيان به، بإسقاط أبي عبد الله الجدلي كرواية وكيع. وقد تابع سفيان بذكر أبي عبد الله الجدلي كل من أخيه عمر بن سعيد، وأبو عوانة. فأخرجه الحميدي (435) قال: ثنا عمر بن سعيد (أخو سفيان)، عن أبيه به. وأخرجه الترمذي (95) حدثنا قتيبة، ومن طريق قتيبة أخرجه ابن حبان (1330) حدثنا أبو عوانة، عن سعيد بن مسروق به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه البيهقي (1/ 276) من طريق مسدد، ثنا أبو عوانة به. الطريق الثالث: الحسن بن عبد الله، عن إبراهيم التيمي. أخرجه البيهقي في السنن (1/ 277) أخبرنا أبو الحسن المقرئ، ثنا الحسن بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا فضيل بن سليمان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت أن أعرابياً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسح على الخفين، فقال: ثلاثة أيام ولياليهن، وقال: ورأيت أنه لو استزاده لزاده، ولم يذكر المقيم. وإسناده إلى الحسن بن عبيد الله ثقات إلا الفضيل بن سليمان صدوق له خطأ كثير. وأما رواية إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة. رواه أحمد (5/ 215) قال: ثنا عفان، ثنا شعبة، أخبرني حكم وحماد سمعا إبراهيم، عن أبى عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلةً للمقيم. وأخرجه أبو داود الطياليسي في مسنده (1219) حدثنا شعبة به. ومن طريق أبي داود أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 81)، والبيهقي في السنن (1/ 278). وأخرجه أبو داود السجستاني (157) حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة به. وأخرجه أحمد (5/ 213) ثنا محمد بن جعفر، وابن مهدي، قالا: حدثنا شعبة به. ورواه الطحاوي (1/ 82) من طريق حجاج بن منهال، حدثنا شعبة به ورواية إبراهيم النخعي ليس فيه زيادة " ولو استزدناه لزادنا " كذا رواه محمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدي وعفان وأبو داود الطيالسي وحفص بن عمر، عن شعبة، عن حكم وحماد عن إبراهيم، عن أبى عبد الله الجدلي كما تقدم. وخالفهم بشر بن عمر، فأخرجه الطحاوي (1/ 81) من طريقه، قال: ثنا شعبة، عن الحكم وحده به بذكر الزيادة " ولو أطنب السائل في مسألته لزاده "، وأظن أن هذا وهم منه، إنما جاء ذكر الزيادة في حديث إبراهيم التيمي، حتى قال ابن دقيق العيد في الإمام كما =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: أن حد الرخصة منطبق على المسح على الخفين، فآية المائدة توجب ¬

_ = في نصب الراية (1/ 175): " فأما رواية النخعي فإنها عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة وليس فيها ذكر الزيادة اهـ. هذا فيما جاء من طريق الحكم وحماد مقرونين. وجاء الحديث من رواية حماد وحده عن إبراهيم به، رواه إسماعيل بن علية، واختلف على إسماعيل، فرواه ابن أبي شيبة (1/ 162) رقم 1863 عنه، عن هشام الدستوائي، قال: حدثنا حماد، عن إبراهيم النخعي به، بذكر زيادة: "ولو استزدناه لزادنا ". وراه أحمد (5/ 213) عن إسماعيل به، بدون ذكر الزيادة. وأخرجه أحمد (5/ 214) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا هشام، عن حماد، عن إبراهيم به. وليس فيه ذكر الزيادة. وأخرجه الطبراني (3772) إلى (3780) متسلسلاً من طرق عن حماد، عن إبراهيم به. وأخرجه الطحاوي (1/ 81،82) من طريق حماد بن سلمة وهشام، فرقهما عن حماد به. وحماد: هو ابن أبي سليمان، في التقريب: فقيه صدوق، له أوهام، ورمي بالإرجاء. وجاء الحديث من طريق منصور، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي به. أخرجه أحمد (5/ 213،214) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد ومنصور، عن إبراهيم به. وليس فيه ذكر زيادة: (ولو استزدناه لزادنا). وأخرجه أبو عوانة (1/ 262) من طريق منصور به. كما رواه أبو معشر، عن إبراهيم، أخرجه أحمد (5/ 214،215) ثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وسعيد بن أبي عروبة فرقهما، عن قتادة، عن أبي معشر، عن النخعي به. وليس فيه ذكر الزيادة، وأخرجه الطبراني (3781،3782،3783) من طرق عن أبي معشر به، والله أعلم.

دليل من قال المسح عزيمة

غسل القدم، قال تعالى {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬1). وجاءت الأحاديث الصحيحة تدل على جواز المسح على الخفين نظراً لمشقة النزع، فصدق عليها حد الرخصة، وهو كون المسح ثبت بدليل مخالف للأدلة التي توجب غسل الرجل، فكان المسح رخصة. دليل من قال المسح عزيمة. قالوا: لا تعارض بين المسح وغسل الرجل، فالغسل واجب إذا كانت القدم مكشوفة، والمسح واجب إذا كانت القدم في الخف، قال بعض مشايخنا: وخلع الخف لغسل الرجل بدعة خلاف السنة. وقال ابن مفلح: ويتعين المسح على لابسه: يعني الخف. فليس إيجاب المسح على الخفين معارضاً لغسلهما، وكل من لبس الخف جاز له المسح مطلقاً، سواء شق نزعه أم لا، وسواء كان في حاجة إلى لبسه أم لا، حتى الزمن الذي لا يمشي، وحتى المرأة التي في بيتها، وفي حال السفر أو حال الإقامة، فالمسح جائز ولو لم يكن هناك عذر. وأجيب عن حديث: " رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أولاً: بأن لفظ (رخص) في الأحاديث لا تخلو من ضعف أو شذوذ. وثانياً: بأن المراد بالرخصة المعنى اللغوي، وهي التسهيل والتيسير. وأجيب على هذا الاعتراض: بأن الأصل في حمل الكلام على حقيقته الشرعية، فلا تقدم الحقيقة ¬

(¬1) المائدة، آية: 6.

اللغوية على الحقيقة الشرعية إلا بقرينة مانعة من إرادة المعنى الشرعي، ولا قرينة، وكون المسح جائزاً ولو لم يكن هناك عذر لا يمنع ذلك من كونه رخصة؛ لأن المعتبر في المشقة وجودها غالباً، فلا يلزم وجودها مع كل شخص، فرخص السفر من قصر وجمع وفطر جائزة، وإن كانت المشقة ليست متحققة من كل مسافر، وهي رخص بالاتفاق. والله أعلم.

الفصل السابع هل المسح على الخفين رافع أم مبيح

الفصل السابع هل المسح على الخفين رافع أم مبيح

دليل من قال المسح رافع للحدث

الفصل السابع هل المسح على الخفين رافع أم مبيح اختلف العلماء هل المسح على الخفين يرفع الحدث، أو لا يرفع الحدث ولكنه يبيح الصلاة؟ على قولين: فقيل: إنه رافع للحدث، وهذا القول عليه جمهور الشافعية (¬1)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إنه مبيح، وليس برافع، هو مذهب المالكية (¬3)، واختاره بعض الشافعية (¬4). دليل من قال المسح رافع للحدث. الدليل الأول: (50) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري- واللفظ لسعيد- قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر ¬

(¬1) المجموع (1/ 561)، وروضة الطالبين (1/ 132،133). (¬2) الإنصاف (1/ 169)، الفروع (1/ 169). (¬3) قال في مواهب الجليل (1/ 323) " التيمم والمسح على الخفين والجبيرة لا يرفع الحدث على المذهب ". وانظر حاشية العدوي على الخرشي (1/ 178). (¬4) المجموع (1/ 561)، وروضة الطالبين (1/ 132،133).

الدليل الثاني

يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر. قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول، وكنت على البصرة (¬1). وجه الاستدلال: بأن الصلاة لا تقبل بغير طهارة: والنفي هنا نفي للصحة، فإذا كان ماسح الخفين صلاته صحيحة، فهو إذاً قد صلى متطهراً، وإذا كان متطهراً فقد ارتفع حدثه. الدليل الثاني: قالوا: إن المسح على الخفين طهارة بالماء أشبه الغسل. الدليل الثالث: إذا كان مسح الرأس بالماء يرفع الحدث، فكذلك مسح الخف. الدليل الرابع: استدل النووي على أنه يرفع الحدث، بأنه يصلي بالمسح فرائض، ولو كان لا يرفع لما جمع به فرائض كالتيمم، وطهارة المستحاضة. والصحيح أن التيمم رافع لا مبيح، لكنه رفع مؤقت إلى وجود الماء، وطهارة المستحاضة لا يلزمها الوضوء من الحدث الدائم؛ لأنه ليس من فعلها، {ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وسوف يأتي بحث هاتين المسألتين إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) مسلم (224).

دليل من قال إن المسح مبيح لا رافع

دليل من قال إن المسح مبيح لا رافع. قالوا: بأن المسح طهارة تبطل بظهور الأصل، فلم ترفع الحدث كالتيمم. ولأنه مسح قائم مقام الغسل، فلم يرفع الحدث كالتيمم. والصحيح الأول، ولا نسلم أن التيمم لا يرفع الحدث، بل هو مطهر بنص القرآن والسنة. قال تعالى بعد أن ذكر طهارة الماء والتيمم: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬1). (51) وروى البخاري، قال: حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا هشيم (ح) قال: وحدثني سعيد بن النضر، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد، هو ابن صهيب الفقير، قال: أخبرنا جابر بن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. الحديث (¬2). وهو في مسلم. فلا شك أن التيمم مطهر كالماء إلا أن طهارته مؤقتة إلى وجود الماء، فإذا وجد الماء عاد إليه حدثه السابق أصغر كان أو أكبر، وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة إن شاء الله تعالى، في البحث الأم الذي هو أصل هذا الكتاب. ¬

(¬1) المائدة، آية: 6. (¬2) صحيح البخاري (335) ومسلم (521).

الفصل الثامن حكم من لبس الخفين ليمسح

الفصل الثامن حكم من لبس الخفين ليمسح

الفصل الثامن حكم من لبس الخفين ليمسح اختلف العلماء في من لبس الخفين من أجل أن يمسح عليهما، فقيل: يجوز أن يلبس من أجل أن يمسح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، وهو الراجح. وقيل: إن لبس من أجل أن يمسح فلا يجوز له المسح، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬4). ¬

(¬1) قال في المبسوط (1/ 104): " إذا أراد أن يبول - يعني المتطهر - فلبس خفيه، ثم بال، فله أن يمسح على خفيه، ثم قال: ولما سئل أبو حنيفة رحمه الله عن هذا، قال: لا يفعله إلا فقيه ". اهـ وانظر بدائع الصنائع (1/ 10). (¬2) مواهب الجليل (1/ 322)، التاج والإكليل (1/ 471). (¬3) قال ابن حزم رحمه الله في المحلى (1/ 341): " ومن تعمد لباس الخفين على طهارة ليمسح عليهما، أو خضب رجليه، أو حمل عليهما دواء، ثم لبسهما ليمسح على ذلك، أو خضب رأسه، أو حمل عليه دواء ثم لبس العمامة أو الخمار ليمسح على ذلك، فقد أحسن ". (¬4) جاء في المدونة (1/ 41): عن ابن القاسم، أنه سأل مالكاً عن رجل على وضوء، فأراد أن ينام، فقال: ألبس خفي حتى إذا أحدثت، مسحت عليه، فقال له مالك: هذا لا خير فيه. وسأل مالكاً أيضاً عن المرأة تخضب رجليها بالحناء، وهي على وضوء، فتلبس خفيها لتمسح عليهما إذا أحدثت، أو نامت، أو انتقض وضؤها. قال: لا يعجبني اهـ. هذا نص مالك، فحمل بعض أصحابه عبارته على المنع، وعليه قالوا: إن لبس من أجل أن يمسح، فمسح أعاد أبداً. قال في مواهب الجليل (1/ 322)، وفي شرح الخرشي (1/ 181): وهو المشهور. وقال في الشرح الكبير (1/ 144): " وهو المعتمد ". وقال =

دليل من قال بجواز المسح

وقيل: يكره له المسح، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا يستحب له أن يمسح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال بجواز المسح. الدليل الأول: قد جاء الإذن بالمسح على الخفين مطلقاً غير مقيد، وما جاء مطلقاً فهو على إطلاقه، لا يقيده إلا نص مثله من كتاب أو سنة أو إجماع، ولايوجد دليل يمنع الرجل من المسح إذا لبس الخفين على طهارة تامة، فمن ¬

= الباجي في المنتقى شرح الموطأ (1/ 80): "وأما من لبسهما ليمسح عليهما، فالمشهور من المذهب أنه لا يجزئ ". بل إن المالكية ذهبوا إلى أبعد من هذا، فاشترطوا عدم الترفه بلبسه، قال في الشرح الصغير في ذكره شروط المسح على الخفين (1/ 156): " الرابع: أن لا يكون مترفهاً بلبسه، كمن لبسه لخوف على حناء برجليه، أو لمجرد النوم به، أو لكونه حالماً، ولقصد مجرد المسح، أو لخوف برغوث، فلا يجوز له المسح عليه ". ونص خليل عليه، فقال في مختصره (ص: 16): " بلا ترفه ". (¬1) انظر مواهب الجليل (1/ 322)، وذكر الباجي في المنتقى (1/ 80): أنه قول أصبغ. (¬2) ظاهر كلام الحنابلة أنه لا يستحب له، ونفي الاستحباب لا يدل على نفي الإباحة، وإن كان استدلالهم في قولهم: كالسفر ليترخص يقتضي المنع؛ لأنه إذا كان لا يجوز للمسافر أن يسافر ليفطر، ولو سافر من أجل الفطر حرم عليه الفطر، فكان مقتضى استدلالهم أنه لايجوز له أن يلبس ليمسح، ولكن الموجود في كتب الحنابلة نفي الاستحباب فقط، فليتأمل. انظر الإنصاف (1/ 169)، الفروع (1/ 158). وقال في الفروع (2/ 57) قال صاحب المحرر: " أما من لا خف عليه، وأراد اللبس لغرض المسح خاصة، فلا يستحب له، كما لا يستحب إنشاء السفر لغرض الترخص، كذا قال " اهـ.

الدليل الثاني

منع فعليه الدليل، ولا دليل. الدليل الثاني: أن الإنسان إنما يلبس الخفين ليمسح عليهما، فالغرض من لبس الخف هو المسح عليه، مع ما في ذلك من تدفئة القدمين في البرد الشديد، والريح الشديدة، فطلب المسح غرض صحيح، ليس محرماً حتى يكون قصده مؤثراً في الحكم، فيمنع. دليل من قال لا يمسح. الدليل الأول: القياس على من سافر ليفطر، فإذا كان من سافر ليفطر حرم عليه الفطر، فكذلك من لبس ليمسح. وأجيب: هناك فرق بين من سافر ليفطر، ومن لبس ليمسح؛ لأن الفطر الأصل فيه التحريم، جاز للمسافر لعلة السفر، فمن سافر طلباً للفطر فقد تحايل على إسقاط الواجب، والحيل على المحرمات لا يبيحها، وعلى الواجبات لا يسقطها، ولا يوجد أحد يسافر من أجل الفطر، بخلاف الخف، فإن الإنسان يلبسه من أجل أن يمسح عليه، والمسح ليس محرماً، فالغرض من لبس الخف هو المسح سواء قصد دفع المشقة أم لا، فقصد الفطر في السفر محرم، وقصد المسح في لبس الخف مباح، فافترقا. الدليل الثاني: أن القاعدة الفقهية تقول: إن تعاطي سبب الترخص لقصد الترخص

دليل من قال لا يستحب

لا يبيح الرخص، والمسح رخصة، فلبس الخف من أجل المسح من هذا الباب. وأجيب: أولا: المسح على الخفين هل هو رخصة أو عزيمة، فيه خلاف، وقد سبق الكلام عليه. ثانياً: على التسليم أن المسح رخصة، فإن الرخصة تارة يكون قصدها لا يسقط واجباً، ولا يرتكب محرماً، فيكون قصده صحيحاً، وليس محرماً، وتارة تكون الرخصة سبباً في إسقاط واجب، أو ارتكاب محرم، فيكون قصد الترخص لا يجوز، كالسفر من أجل الفطر، فالفطر محرم، فالتحايل على إسقاطه لا يجوز، وأما اللبس من أجل المسح فليس محرماً، لأن اللبس يقصد به المسح، فقصده غرض صحيح كما قدمنا، والله أعلم. دليل من قال لا يستحب. لعل الحنابلة أخذوه من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم يكن يتحرى لبس الخفين ليمسح عليهما، بل كان يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين، ويمسح إذا كان لابساً للخفين، وهذا دليل لا يرقى للمنع، ولذا قالوا: لا يستحب لبس الخفين ليمسح عليهما. قال ابن القيم: " لم يكن يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما، ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين، ولم يلبس الخفين ليمسح عليهما " (¬1). ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 192).

الفصل التاسع حكم مسح من به حدث دائم

الفصل التاسع حكم مسح من به حدث دائم

الفصل التاسع حكم مسح من به حدث دائم اختلف العلماء في من كان حدثه دائماً كالمستحاضة، ومن به سلس بول، ونحوهما: فقيل: إذا لبس الخفين بعد طهارتهما، وقبل أن يسيل منها شيء، مسح كغيره، وإن توضأ، والحدث قائم، أو أحدث بعد الوضوء، وقبل اللبس مسح ما دام الوقت باقياً، ولم يكن له أن يمسح بعد خروج الوقت، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: المستحاضة ومن به حدث دائم كغيرهما له أن يمسح على خفيه، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: إن لبس الخف بعد وضوئه، فإن أحدث بغير حدثه الدائم وقبل أن يصلي به فريضة، مسح وصلى به فريضة واحدة، وما شاء من النوافل، وإن كان حدثه بعد صلاته تلك الفريضة، مسح لما شاء من النوافل، ولا يمسح به لصلاة أي فريضة. وهو مذهب الشافعية (¬4). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 105)، شرح فتح القدير (1/ 148)، حاشية ابن عابدين (1/ 453). (¬2) المدونة (1/ 144)، الخرشي (1/ 177)، مواهب الجليل (1/ 318)،حاشية الدسوقي (1/ 141). (¬3) شرح الزركشي (1/ 383)، الإنصاف (1/ 169)، الفروع (1/ 168)، كشاف القناع (1/ 114). (¬4) المجموع (1/ 543،544)، روضة الطالبين (1/ 125)، الحاوي الكبير (1/ 368)، مغني المحتاج (1/ 64).

وقيل: لا يمسح مطلقاً من به حدث دائم، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2). وسبب اختلافهم خلافهم في طهارة المستحاضة، ومن به حدث دائم مقيس عليها. (52) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي". قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬3). [زيادة قال هشام قال أبي الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (¬4). ¬

(¬1) المجموع (1/ 543،544). (¬2) الإنصاف (1/ 169)، الفروع (1/ 168). (¬3) صحيح البخاري (228). (¬4) سبب اختلاف العلماء في دم الاستحاضة، هل هو حدث أم لا؟ اختلافهم في قول هشام: " وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت " هل هذه الزيادة موقوفة أو مرفوعة؟ وهل هي متصلة أو معلقة؟ وعلى تقدير كونها مرفوعة، هل هي محفوظة أو شاذة؟ فالحديث مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ورواه عن هشام جمع كثير على اختلاف يسير في متنه، وبعضهم يذكر هذه الزيادة وبعضهم لا يذكرها. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد جاءت الزيادة بالوضوء من طريق أبي معاوية عن هشام به. واختلف على أبي معاوية فيه، فروى بعضهم الحديث عن أبي معاوية دون ذكر الزيادة، وبعضم رواه عن أبي معاوية مصرحاً برفعها، وبعضهم روى الزيادة عن أبي معاوية موقوفة على عروة. وممن روى الزيادة أبو حمزة السكري، واختلف عليه أيضاً: فروي عنه مرفوعاً، وروى عنه مرسلاً. وروى الزيادة أيضاً حماد بن زيد، وحماد بن سلمة عن هشام، إلا أنهما ذكرا الوضوء ولم ينصا على التكرار لكل صلاة بل قال: " فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي " فكما أن الاغتسال يكفي فيه الامتثال مرة واحدة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ الحمادين، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه الوضوء. وممن روى الزيادة أيضاً أبو عوانة (الوضاح بن عبد الله اليشكري) وأبو حنيفة واختلف عليهما فيه كما سيأتي. هؤلاء هم الذين انفردوا بذكر الزيادة على الخلاف السابق، وخالفهم جمع كثير، وفيهم من هو أحفظ منهم، فقد روى الحديث عن هشام ستة عشر حافظاً ولم يذكروها، منهم مالك، ووكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وزهير، وسفيان بن عيينة، وأبو أسامة، والليث ابن سعد، وعمرو بن الحارث، وعبدة، ومحمد بن كناسة، ومعمر، وجعفر بن عون، والداروردي، وعبد الله بن نمير، وسعيد بن عبد الرحمن. هذا بعض من وقفت عليه ممن رواه عن هشام ولم يذكر الزيادة، فلو كان من ذكر هذه الزيادة لم يضطرب فيها لكانت شاذة، لأن الحكم عند أهل الحديث للأحفظ، وللأكثر عدداً على من دونهم، كما فصلت ذلك في بحث زيادة الثقة. وقد حكم بضعف هذه الزيادة الإمام مسلم والنسائي والبيهقي، وأبو داود كما سيأتي، وضعفه ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري قال (2/ 72): والصواب أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة: فقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة " اهـ كلام ابن رجب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فهنا فصل مالك الحديث المرفوع من الموقوف في روايته عن هشام، فحين روى المرفوع لم يورد قال هشام: قال أبي ثم توضئي لكل صلاة، وحين روى الموقوف لم يذكر المرفوع، والله أعلم. هذا الكلام المجمل حول الحديث، وأما تفصيله فإليك هو: فالحديث كما ذكرت سابقاً مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وله طرق كثيرة إلى هشام. الأول: أبو معاوية عن هشام. وقد سقت لفظه في الباب، وقد أخرجه البخاري (228): حدثنا محمد - يعني ابن سلام - حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة به. وقال في آخره: قال - يعني هشاماً - قال أبي: " ثم توضئي لكل صلاة ". ورواه الترمذي (125): حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية، عن هشام به، قال أبو معاوية في حديثه: " وقال توضئي لكل صلاة حتى يجيىء ذلك الوقت ". وأخرجه مسلم (333): حدثنا يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام به، ولم يذكر الأمر بالوضوء. وأخرجه النسائي (359): أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو معاوية به، بدون ذكر الزيادة. وأخرجه الدارقطني (1/ 206) من طريق يعقوب بن إبراهيم، نا أبو معاوية به، وفيه: "فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم اغتسلي " فخالف الجماعة فإن لفظهم " فاغسلي عنك الدم وصلي ". فصار الحديث يرويه يحيى بن يحيى كما عند مسلم، وإسحاق بن إبراهيم كما عند النسائي، ويعقوب بن إبراهيم كما عند الدارقطني، ثلاثتهم عن أبي معاوية دون ذكر الوضوء لكل صلاة. ورواه هناد عن أبي معاوية كما في رواية الترمذي، وهي صريحة بالرفع. ورواه البخاري عن محمد بن سلام عن أبي معاوية بذكر الزيادة موقوفة على عروة بسند ظاهره التعليق؛ لأنه قال بعد ذكر الحديث، وقال هشام قال أبي، ويحتمل أنه موصول بالإسناد نفسه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وكذلك رواه إسماعيل بن قتيبة، عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية عند البيهقي (1/ 344)، قال هشام: قال أبي: " ثم توضئي لكل صلاة ". وإسماعيل بن قتيبة ثقة له ترجمة في السير (13/ 344). واختلف العلماء في هذه الزيادة، هل هي معلقة أم لا؟ وهل هي موقوفة أو مرفوعة؟ قال البيهقي في السنن (1/ 327): وفيه زيادة الوضوء لكل صلاة، وليست بمحفوظة. وقال أيضاً (1/ 344): " والصحيح أن هذه الكلمة من قول عروة بن الزبير. وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 201): " وهذه اللفظة - أعني: توضئي لكل صلاة- هي معلقة عند البخاري، عن عروة في صحيحه "، ثم قال: " وقد جعل ابن القطان في كتابه مثل هذا تعليقاً " اهـ. قلت: ذكر مسلم أنه ترك تخريجها في كتابه من طريق حماد، عن هشام، وكذلك أشار النسائي إلى أنها غير محفوظة، وسوف يأتي نقل كلامه عند الحديث على زيادة حماد. وقال بعضهم: إنها مرفوعة. قال الحافظ في الفتح (1/ 441) ح 228 وادعى بعضهم أن هذا معلق، وليس بصواب، بل هو بالإسناد المذكور، عن محمد، عن أبي معاوية، عن هشام، وقد بين ذلك الترمذي، وادعى آخر أن قوله: " ثم توضئي " من كلام عروة موقوفاً عليه، وفيه نظر؛ لأنه لو كان من كلام عروة لقال: " ثم تتوضأ " بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر شاكله الأمر الذي في المرفوع وهو قوله: "فاغسلي " اهـ. قلت: ظاهر نقل البخاري أنها موقوفة عليه، خاصة أن هشاماً لايروي الحديث إلا عن أبيه، ولا يشاركه شيخ آخر، فلماذا إذاً قال، قال هشام: قال أبي، ولو أن هشاماً يروي الحديث عن أكثر من شيخ لأمكن أن يقال: إن هشاماً أراد أن يفصل زيادة أبيه عن لفظ مشايخه الآخرين، فلما لم يكن له شيخ إلا أبوه، علمنا أن هشاماً أضاف إلى أبيه هذا الكلام، ولم يقصد رفعها، وكون هذه الكلمة جاءت صريحة في رواية الترمذي فهذا من الاختلاف على أبي معاوية، ويرجح كونها موقوفة أيضاً أن الإمام مالك رحمه الله روى الحديث عن هشام فذكر المرفوع، ولم يذكر الزيادة، وروى الزيادة عن هشام موقوفاً على عروة دون ذكر المرفوع، ففصل المرفوع عن الموقوف كما روى الحديث ابن أبي شيبة (1/ 119) عن أبي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = معاوية عن هشام عن عروة قال: " المستحاضة تغتسل وتتوضأ لكل صلاة" موقوفاً عليه. كما رواه ابن أبي شيبة (1/ 119) عن حفص عن هشام به قرنه بأبي معاوية موقوفاً على عروة فصار الحديث عن أبي معاوية، تارة يروى بدون زيادة الوضوء. وتارة تروى عنه صريحة بالرفع. وتارة تروى عنه موقوفة على عروة. وهل السند معلق أو موصول ظاهره التعليق، وإن كنت أميل إلى أنه موصول بالإسناد نفسه، إلا أن الأمر بالوضوء لكل صلاة موقوف على عروة. وأبو معاوية قد قال فيه أحمد: في غير حديث الأعمش مضطرب لايحفظها جيداً. وقال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام؟ قال: فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي التقريب: ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره. وقد جاءت الزيادة في غير طريق أبي معاوية كما في الطريق الآتي: الطريق الثاني: أبو حمزة، محمد بن ميمون السكري، عن هشام به. فقد تابع أبو حمزة أبا معاوية بذكر الزيادة بالأمر بالوضوء لكل صلاة، لكن قد اختلف عليه فيه. فرواه ابن حبان (1354) من طريق علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا أبو حمزة عن هشام بن عروة به، وفيه: " فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيها، فإذا أدبرت فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة ". لكن رواه البيهقي (1/ 544) من طريق عبد الله بن عثمان، ثنا أبو حمزة، قال: سمعت هشاماً يحدث عن أبيه، أن فاطمة بنت أبي حبيش، قالت: " يا رسول الله: إني أستحاض فلا أطهر ... " الحديث، وقال فيه: " فاغتسلي عند طهرك وتوضئي لكل صلاة ". فصار الحديث يروى عن أبي حمزة تارة مرسلاً، وتارة موصولاً. وجاءت الزيادة من طريق الحمادين كما في الطريق التالي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الطريق الثالث والرابع: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد عن هشام به. فقد جاء ذكر الزيادة أيضاً من طريق حماد بن سلمة عن هشام، إلا أنه لم يأمرها بالوضوء لكل صلاة، بل أمرها بالوضوء عقب غسل الدم، فكما ذكرت سابقاً: أن غسل الدم يكفي في الامتثال مرة واحدة عند إدبار الحيضة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ حماد بن سلمة. فقد أخرج الحديث الدارمي (779): أخبرنا حجاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأترك الصلاة؟ قال: لا؛ إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي ". قال هشام: فكان أبي يقوله: تغتسل غسل الأول، ثم ما يكون بعد ذلك فإنها تطهر وتصلي. قلت: في هذا الحديث دليل ظاهر على أن هشام يتبع الحديث المرفوع بكلام لأبيه موقوفاً عليه، فلا يبعد أن يكون بعض الرواة أدرج الموقوف في المرفوع، كما ذكر ابن رجب ونقلت كلامه سابقاً. وقد اختلف على حماد بن سلمة: فرواه حجاج بن منهال، عن حماد، عن هشام به، كما سبق بذكر الزيادة. ورواه ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/ 512) من طريق عفان، عن حماد بن سلمة به، وليس فيه " وتوضئي " وعفان من أثبت أصحاب حماد بن سلمة، فهو مقدم على غيره. ولم ينفرد حماد بن سلمة بلفظ: " وتوضئي " دون قوله: " عند كل صلاة " بل تابعه على هذا حماد بن زيد، فقد أخرجه النسائي (364) أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد، عن هشام به، وفيه " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، وتوضئي وصلي؛ فإنما ذلك عرق، وليست بالحيضة. قيل له: فالغسل؟ قال: وذلك لا يشك فيه ". قال أبو عبد الرحمن (النسائي): وقد روى هذا الحديث غير واحد عن هشام بن عروة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولم يذكر فيه " وتوضئي " غير حماد، والله تعالى أعلم. وأخرجه مسلم (233): حدثنا خلف بن هشام، حدثنا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة به ثم قال مسلم: وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره. اهـ. يشير إلى زيادة الأمر بالوضوء، ولعله تركها للخلاف فيها. قال البيهقي في السنن (1/ 344): وكأنه ـ يعني مسلماً ـ ضعفه لمخالفته سائر الرواة عن هشام. اهـ فهذا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد روياه بلفظ: " فاغسلي عنك الدم، وتوضئي وصلي "، ولم يقل: " عند كل صلاة ". وهذا وجه من المخالفة. الطريق الخامس: أبو عوانة عن هشام به. أخرجه ابن حبان (1355) بلفظ: " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المستحاضة فقال: تدع الصلاة أيامها، ثم تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ عند كل صلاة "، فيظهر أنه روى الحديث بالمعنى فاختصره. الطريق السادس: عن أبي حنيفة عن هشام به. رواه أبو نعيم الفضل بن دكين، عن أبي حنيفة، واختلف على أبي نعيم به. فرواه الطحاوي (1/ 102) عن فهد بن سليمان، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبوحنيفة رحمه الله، عن هشام به، بذكر الوضوء لكل صلاة. وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/ 510،511) من طريق محمد بن الحسين بن سماعه، قال: حدثنا أبو نعيم به، ولم يذكر زيادة الوضوء لكل صلاة. وقد ذكرت الزيادة أيضاً عن كل من: 1 ـ يحيى بن سليم. أخرجها السراج كما في فتح الباري (306)، والدارقطني معلقاً في العلل (5ـ ورقة 32). 2 ـ الحجاج بن أرطاة. أخرجها الطبراني في الكبير (24/ 361) ح 361، 897. 3 ـ ومحمد بن عجلان. البيهقي (1/ 344). وعلقه الدارقطني في العلل (5 - ورقة 32). ثلاثتهم عن هشام به بنحوه. وهذه ضعيفة، بل هي أشد ضعفاً. هذا ما وقفت عليه ممن ذكر الزيادة، ولا يخلو أحد من الرواة ممن ذكر هذه الزيادة إلا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد خالف واختلف عليه فيها، فأبو معاوية تارة يذكرها، وتارة لايذكرها، وتارة مرفوعة، وتارة موقوفة. وأبو حمزة السكري، تارة يروي الحديث مرسلاً، وتارة موصولاً. وأما الحمادان فقد خالفا غيرهما بذكر الأمر بالوضوء، ولم يذكرا بأنه عند كل صلاة، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه هذه الزيادة، وكذا أبوحنيفة تارة يذكرها، وتارة لايذكرها، والذي لم يختلف عليه هو أبو عوانة فقد ذكرها، وقد روى الحديث بالمعنى، وهو ثقة إلا أن مخالفته لاتحتمل، فقد روى الحديث عن هشام أئمة ثقات أعلى قدراً، وأكثر عدداً فلم يذكروا هذه الزيادة وإليك هم: الأول: إمام دار الهجرة مالك بن أنس. أخرجه في الموطأ (1/ 61)، ومن طريق مالك أخرجه البخاري (306)، والنسائي (366)، وأبو عوانة (1/ 319)، والدارقطني (1/ 206)، وابن حبان (1350)، والبيهقي (1/ 329،321)، والبغوي (324). الثاني: وكيع. أخرجه أحمد (6/ 194)، ومسلم (332)، والترمذي (125)، والنسائي (359)، وابن ماجه (621). الثالث: زهير. أخرجه البخاري (331)، وأبو داود (282). الرابع: يحيى بن سعيد القطان. عند أحمد (6/ 194)، والدارقطني (1/ 206). الخامس: جعفر بن عون، عند الدارمي (774)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 319)، وابن الجارود في المنتقى (112). السادس: معمر عند عبد الرزاق في المصنف (1165). السابع: عبد العزيز بن محمد عند مسلم (333). الثامن والتاسع: جرير، وابن نمير عند مسلم (333). =

وعليه فالمالكية لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب. لأنه معفو عنه، خارج من غير إرادتها، فخروجه ليس من فعلها (¬1)، وهو الراجح. ¬

= العاشر: عبدة عند الترمذي (125)، والنسائي (359). الحادي عشر: سفيان بن عيينة. عند البخاري (320)، والحميدي (193)، والبيهقي (1/ 327). الثاني عشر: أبو أسامة عند البخاري (325)، والبيهقي (1/ 324). الثالث عشر: محمد بن كناسة كما عند البيهقي (1/ 324). الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر: سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، والليث ابن سعد، وعمرو بن الحارث كما عند أبي عوانة (1/ 319)، والطحاوي (1/ 102،103)، فهؤلاء ستة عشر حافظاً رووا الحديث عن هشام ولم يذكروا زيادة الوضوء لكل صلاة، وهو المحفوظ فيما أرى. والله أعلم. وأما تحرير بعض ألفاظ الحديث والاختلاف بينهم: فبعضهم يقول: " وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي ". وبعضهم يقول: " وإذا أدبرت ". وبعضهم يقول: " فاغتسلي وصلي "، فقد خرجت هذه الألفاظ في بحث المستحاضة المعتادة المميزة من كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، وبينت الراجح منها، فارجع إليه غير مأمور. (¬1) قال صاحب مواهب الجليل (1/ 291): " طريقة العراقيين من أصحابنا، أن ما خرج على وجه السلس لا ينقض الوضوء مطلقاً وإنما يستحب منه الوضوء ". ثم قال: " والمشهور من المذهب طريقة المغاربة أن السلس على أربعة أقسام: الأول: أن يلازم، ولا يفارق، فلايجب الوضوء، ولا يستحب؛ إذ لا فائدة فيه فلا ينتقض وضوء صاحبه إلا بالبول المعتاد. الثاني: أن تكون ملازمته أكثر من مفارقته، فيستحب الوضوء إلا أن يشق ذلك عليه =

وأما الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) فيرون وجوب الوضوء لوقت كل صلاة، فحملوا قوله: " وتوضئي لكل صلاة " أي لوقت كل صلاة. وأما الشافعية فحملوا قوله: " وتوضئي لكل صلاة " أي لكل فريضة مؤداة أو مقضية، وأما النوافل فتصلي ما شاءت (¬3). وأما ابن حزم فأوجب الوضوء لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج (¬4). وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، وقد بسطت أدلتها في كتابي ¬

= لبرد أو ضرورة فلا يستحب. الثالث: أن يتساوى إتيانه ومفارقته، ففي وجوب الوضوء واستحبابه قولان " ثم قال: والرابع: " أن تكون مفارقته أكثر، فالمشهور وجوب الوضوء خلافاً للعراقيين فإنه عندهم مستحب " اهـ. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 116) وانظر بهامش الصفحة التاج والإكليل. وانظر الخرشي (1/ 152)، فتح البر في ترتيب التمهيد (3/ 508)، الاستذكار (3/ 225 - 226) القوانين الفقهية لابن جزي (ص29). (¬1) الاختيار لتعليل المختار (3/ 508) حاشية ابن عابدين (1/ 504) البحر الرائق (1/ 226) مراقي الفلاح (ص60) شرح فتح القدير (1/ 181) تبيين الحقائق (1/ 64) بدائع الصنائع (1/ 28). (¬2) المغني (1/ 421) شرح منتهى الإرادات (1/ 120) كشاف القناع (1/ 215) الإنصاف (1/ 377) الفروع (1/ 279) شرح الزركشي (1/ 437). (¬3) المجموع (1/ 543، 363)، مغني المحتاج (1/ 111)، روضة الطالبين (1/ 147، 125). (¬4) المحلى (مسألة: 168).

دليل من قال يمسح من به حدث دائم كغيره

الحيض والنفاس رواية ودراية، فارجع إليه غير مأمور. إذا عرفنا هذا نأتي إلى استدلالهم في مسألة المسح على الخفين دليل من قال يمسح من به حدث دائم كغيره. الدليل الأول: قالوا: إن الطهارة كاملة في حق من به حدث دائم، وإذا كانت كذلك، وقد لبس الخفين على طهارة فله أن يمسح، ولا يوجد دليل يمنع من به حدث دائم من المسح على الخفين. الدليل الثاني: إذا كان خروج الحدث لم يؤثر في نقض طهارته، وجاز له أن يستبيح بتلك الطهارة الصلاة، فكونه يستبيح به المسح على الخفين من باب أولى. قال زفر: لما كان سيلان الدم عفواً في حقها، بدليل جواز الصلاة معه، كان اللبس حاصلاً على طهارة. الدليل الثالث: من المعلوم في قواعد الشريعة أن الإنسان لا يسأل إلا عن فعله، الذي نواه وأراده، ولذلك لما كان الصبي ليس له قصد صحيح اعتبر عمده خطأ، فكذلك المستحاضة ومن به حدث دائم مع حدثه، لم ينو الحدث، ولم يرده، وهو مغلوب عليه، فكأنه لم يوجد، فالشرع حكيم، ولا يؤخذ المكلف إلا بما فعل قاصداً لذلك الفعل.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: الحدث لا يبطل المسح حتى مع الرجل الصحيح، فكذلك من به حدث دائم، فكوننا نحكم عليه أنه محدث بعد خروج الوقت لا يبطل مسحه ما دام قد لبس الخف، وهو محكوم بطهارته. الدليل الخامس: قال ابن عقيل: ولأنها مضطرة إلى الترخص، وأحق من يترخص المضطر. دليل من قال يمسح ما لم يخرج الوقت. قال في المبسوط: سيلان الدم عفو في الوقت لا بعده، حتى تنتقض الطهارة بخروج الوقت، وخروج الوقت ليس بحدث، فكان اللبس حاصلاً على طهارة معتبرة في الوقت لا بعد خروج الوقت، فلهذا كان لها أن تمسح في وقت الصلاة، لا بعد خروج الوقت. الدليل الثاني: قالوا: بخروج الوقت عاد إليها الحدث السابق المتقدم على لبس الخف، فتكون كأنها لبست الخف، وهي محدثة، وقاسوها بمن تيمم، ثم لبس خفيه، ثم وجد الماء، فإنه بوجود الماء رجع إليه حدثه السابق المتقدم على لبس الخف، فوجب نزعه، والذي جعلهم يقولون برجوع الحدث السابق أن خروج الوقت على المستحاضة ليس حدثاً في ذاته، وإنما حكم لها برجوع حدثها السابق المتقدم على تلك الطهارة، والله أعلم.

دليل من قال يمسح فريضة واحدة

وأجيب: بأن هذا القول لا يصح إلا بعد التسليم بصحة زيادة: " وتوضئي لكل صلاة " وأن المراد منه: " وتوضئي لوقت كل صلاة " وأنه بخروج الوقت يعود لها الحدث السابق على الطهارة ولبس الخف، وليس اعتباراً للحدث القائم الذي لم ينقطع، وكل هذه الأمور محل نزاع، وليس إثباتها بظاهر. دليل من قال يمسح فريضة واحدة. قالوا: بأن طهارتها مقصورة على استباحة فريضة واحدة ونوافل، وهي محدثة بالنسبة لما زاد على ذلك، فكأنها لبست الخفين على حدث، بل لبست على حدث حقيقة، فإنه طهارتها لا ترفع الحدث عندهم. وهذا أضعف الأقوال، لأنه فيه بعض التناقض؛ إذ كيف يسمح لها أن تصلي بتلك الطهارة نوافل، ولا تصلي بها فرائض، فإن كانت حين صلت تلك النافلة محدثة، لم تصح النافلة منها، وإن كانت طاهرة صحت، وصحت منها الفريضة، فما صح في النفل صح في الفرض إلا بدليل، ولا دليل هنا على التفريق. دليل من قال لا تمسح مطلقاً. قالوا: لأنها محدثة، وإنما جوزت لها الصلاة مع الحدث الدائم للضرورة، ولا ضرورة للمسح على الخفين، بل هي رخصة بشرط لبسه على طهارة كاملة، ولم توجد مع من حدثه دائم. قلت: بل هي أولى بالمراعاة من إنسان لا يجب عليه الوضوء إلا إذا

القول الراجح

أحدث، بينما أنتم توجبون عليها الوضوء لكل صلاة، بل إن الشرع رخص لها بجمع الصلوات التي تجمع، ولم يرخص لغيرها إلا بسبب. القول الراجح: بعد استعراض أدلة كل قول، يتبين لي أن مذهب المالكية والحنابلة أقوى الأقوال، وأن من كان به حدث دائم يمسح كغيره، وذلك لقوة أدلته، وللجواب عن الأدلة السابقة، ولكون المبتلى بهذا البلاء أحوج من غيره إلى الرخصة، ولعدم الدليل الدال على منع المستحاضة ومن به حدث دائم من المسح على الخفين، والله أعلم.

الباب الثاني في شروط المسح على الخفين

الباب الثاني في شروط المسح على الخفين

الشرط الأول في طهارة الخف

الشرط الأول في طهارة الخف

الشرط الأول في طهارة الخف يشترط أن يكون الخف طاهراً، وضد الطاهر النجس. والنجس تارة يكون نجساً، وتارة يكون متنجساً. فإن كانت عينه نجسة كما لو كان الخف من جلد خنزير فحكي الإجماع بأنه لا يمسح عليه. قال في مواهب الجليل: " لا يمسح على خف من جلد ميتة، لو دبغ على المشهور ... " (¬1). وهذا بناء على أن الدباغ لا يطهر. وقال النووي: لا يصح المسح على خف من جلد كلب أو خنزير، أو جلد ميتة لم يدبغ، وهذا لا خلاف فيه (¬2). وقال في الإنصاف: ومنها طهارة عينه - يعني الخف - إن لم تكن ضرورة بلا نزاع (¬3). فهذا النووي من الشافعية والمرداوي من الحنابلة ينقلان الإجماع على أنه لا يجوز المسح على الخف النجس في غير ضرورة، واستدلوا بالمنع: أولاً: ما حكي من الإجماع. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 320)، وذكر في الشرح الصغير (1/ 154) من شروط المسح على الخف أن يكون طاهراً. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 143). (¬2) المجموع (1/ 539). (¬3) الإنصاف (1/ 181).

ثانياً: أن الخف بدل عن الرجل، ولو كانت الرجل نجسة لم تطهر من الحدث مع بقاء النجاسة. والصحيح في مسألة جلد الميتة إذا دبغ أنه طاهر، وليس هذا موضع بحثه. وإن كان الخف متنجساً لا نجساً، فقيل: لا يمسح عليه، فالمتنجس كالنجس، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). قال النووي: وكذا لا يصح المسح على خف أصابته نجاسة إلا بعد غسله؛ لأنه لا يمكن الصلاة فيه (¬3). وأجاز الحنابلة المسح على الخف المتنجس، ويستبيح به مس المصحف، ولا يصلي به إلا بعد غسله إن تمكن (¬4). وصحح الحنابلة هنا الطهارة مع أنهم يمنعون الطهارة قبل الاستنجاء، وفرقوا بينهما: بأن النجاسة الموجبة للاستنجاء قد أوجبت طهارتين الحدث والخبث بخلاف الطهارة هنا، والصحيح أنه لا فرق بينهما. ¬

(¬1) حاشية الخرشي (1/ 179)، وقال في الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 143): بشرط جلد طاهر أو معفو عنه، لا نجس ومتنجس اهـ. ونقل الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير اعتراض الرماصي، وذلك لأن الطهارة من النجاسة عند المالكية ليست شرطاً لصحة الصلاة، فليتأمل. (¬2) مغني المحتاج (1/ 65)، المجموع (1/ 539). (¬3) المجموع (1/ 539). (¬4) كشاف القناع (1/ 116).

والراجح صحة الطهارة إذا مسح على خف متنجس؛ لأن طهارة الحدث لا يشترط لها أن يكون البدن طاهراً، وما دام أن النجاسة لا تمنع وصول الماء إلى العضو الواجب غسله أو مسحه، فطهارته صحيحة، ولولا ما حكي في المسألة من إجماع في الخف إذا كان نجس العين لقلت بصحة طهارته أيضاً، ويجوز له فيها مس المصحف على القول بوجوب الطهارة لمسه، وفي المسألة خلاف. فإذا حضرت الصلاة وجب عليه تطهير الخف أو خلعه، والدليل على أنه لا يجوز الصلاة في الخف المتنجس، (53) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المسند (3/ 20، 92). (¬2) أبو نعامة، ثقة. روى له مسلم. وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لا بأس به. انظر الجرح والتعديل (6/ 41). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 155). وأبو نضرة العبدي. روى له مسلم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أحمد: ما علمت إلا خيراً. ووثقه يحيى بن معين، وأبو زرعة. انظر الجرح والتعديل: (10/ 268). ووثقه النسائي كما في لسان الميزان (7/ 398). وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، كثير الحديث، وليس كل أحد يحتج به. انظر الطبقات الكبرى (7/ 208). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 420) وقال: كان من فصحاء الناس، فلج في آخر عمره، وكان ممن يخطي. واعتمد الذهبي كلام ابن حبان، فقال في الكاشف (6532): " فصيح بليغ مفوه ثقة يخطي. وفي التقريب ثقة. وباقي رجاله مشهورون. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه الدارمي (1378)، وأبو يعلى (1194)، والبيهقي في السنن (2/ 402) من طرق عن حماد بن سلمة به. وصححه الحاكم (1/ 260) ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو داود (650) من طريق حماد بن زيد، عن أبي نعامة به. ولعله خطأ؛ فإني لم أقف على أبي نعامة من شيوخ حماد بن زيد. والله أعلم. أما حديث أبي هريرة عند أبي داود (385): " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور " فإنه حديث ضعيف قد اضطرب إسناده على الأوزاعي، وعلى سعيد بن أبي سعيد. فالأوزاعي تارة يرويه عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري. وتارة يرويه منقطعاً، فيقول: نبئت أن سعيد بن أبي سعيد كما عند أبي داود (386). وتارة يرويه متصلاً دون واسطة عن سعيد بن أبي سعيد كما عند ابن حبان (1403). وتارة يرويه عن محمد بن الوليد، عن سعيد بن أبي سعيد. ويجعله من مسند عائشة. كما عند أبي داود (1403). واختلف فيه أيضاً على سعيد بن أبي سعيد، فتارة يرويه عن أبيه، عن أبي هريرة. وتارة يرويه عن القعقاع بن حكيم، عن عائشة. كما في سنن أبي داود (386،387). قال ابن عبد البر في التمهيد (13/ 103):" حديث مضطرب الإسناد، لا يثبت، اختلف في إسناده على الأوزاعي، وعلى سعيد بن أبي سعيد اختلافاً يسقط الاحتجاج به " اهـ، فيكفي الاحتجاج بحديث أبي سعيد.

وحكم الخفين حكم النعلين، فإذا كان لا يصلي في نعليه إذا كان بهما أذى، فكذلك لا يصلي في خفيه إذا كان بهما خبث، إلا أن صحة المسح منفكة عن منع الصلاة بهما، فإذا حضرت الصلاة خلع خفيه، ولا يعيد المسح عليهما لصحته، والله أعلم. وقال في الإنصاف: " لو مسح على خف طاهر العين، ولكن بباطنه أو قدمه نجاسة لا يمكن إزالتها إلا بنزعه جاز المسح عليه، ويستبيح بذلك مس المصحف والصلاة إذا لم يجد ما يزيل النجاسة وغير ذلك اهـ (¬1). كما أنه إذا اضطر إلى لبس الخف النجس عيناً كما لو كان في بلاد الثلوج، وخشي سقوط أصابعه بخلعه، ففي مذهب الحنابلة وجهان: الأول: له أن يمسح عليه؛ لأنه لما أذن له في لبسه، جاز له أن يمسح عليه؛ ولأنه كالجنب إذا اغتسل، وعليه نجاسة لا تمنع وصول الماء ارتفع حدثه. ورجحه ابن تيمية، قال: إن الخف الذي يتضرر بنزعه في حكم الجبيرة، وضرره يكون بأشياء، إما أن يكون في ثلج وبرد عظيم إذا نزعه ينال رجليه ضرر، أو يكون الماء بارداً لا يمكن معه غسلهما، فإن نزعهما تيمم، فمسحهما خير من التيمم، ووجه ترجيح المسح على التيمم، أن المسح يكون بالماء، والتيمم بالتراب، والمسح يكون على العضو المتعذر غسله، والتيمم يكون على عضوين فقط: الوجه واليدين، وليس على القدم، فإذا جاز له ترك طهارة الماء إلى التيمم، فلأن يجوز ترك طهارة الغسل إلى المسح أولى. ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 182).

الوجه الثاني: هو المشهور من مذهب الحنابلة أنه يتيمم، ولا يمسح. اختاره ابن عقيل وابن عبدوس والمجد؛ لأنه منهي عنه في الأصل، وهذه ضرورة نادرة (¬1). كما أن المشهور من مذهب الحنابلة أنه يصلي بالخف النجس، ويعيد ما صلى؛ لأنه صلى، وهو حامل للنجاسة، والطهارة من النجاسة شرط في صحة الصلاة عندهم، والراجح أنه لا يعيد؛ لأنه فعل ما أمره الله به بحسب وسعه وطاقته، فلا إعادة عليه، ولم يوجب الله على العباد الصلاة مرتين إلا بتفريط. والله أعلم. ¬

(¬1) انظر المبدع (1/ 146)، والإنصاف (1/ 181).

الشرط الثاني هل يشترط أن يكون الخف مباحا؟

الشرط الثاني هل يشترط أن يكون الخف مباحاً؟

الشرط الثاني هل يشترط أن يكون الخف مباحاً؟ الخف المباح في مقابل الخف المحرم، والمحرم نوعان: تارة يكون التحريم لحق الله، كما لو لبس الخف، وهو مُحْرِم، أو كان الخف من حرير، وهو رجل. وتارة يكون التحريم لحق الآدمي كالخف المغصوب والمسروق. وقد اختلف العلماء في المسح على الخف المحرم على أقوال: فقيل: يمسح عليه مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وعليه أكثر الشافعية (¬2). وقيل: لا يجوز المسح عليه مطلقاً، سواء كان التحريم لحق الله، أو لحق الآدمي، وهو المشهور عند الحنابلة (¬3)، واختاره بعض الشافعية (¬4). وقيل: التفريق بين ما كان محرماً لحق الله، وحق الآدمي، هو مذهب المتأخرين من المالكية (¬5). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 47)، العناية شرح الهداية (1/ 47،48). (¬2) المجموع (1/ 538،539). (¬3) تصحيح الفروع (1/ 164) مطبوع مع الفروع. وقال في الإنصاف (1/ 180): "ومنها - يعني: من شروط المسح - إباحته، فلو كان مغصوباً أو حريراً، أو نحوه لم يجز المسح عليه على الصحيح من المذهب والروايتين ". الخ كلامه. (¬4) المجموع (1/ 538،539). (¬5) ذكر المالكية بأن المحرم لا يمسح إذا لبس الخف، هو عاص بلبسه، وأما المغصوب =

دليل من قال لا يجوز المسح

دليل من قال لا يجوز المسح. القياس على الصلاة في الثوب المسبل، فإذا كانت الصلاة في ثوب حرام لا تصح، فكذلك المسح على شيء محرم لا يصح (54) فقد روى أحمد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال، ثنا أبان وعبد الصمد، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما رجل يصلي، وهو مسبل إزاره، إذ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال: ما لك يا رسول الله، ما لك أمرته يتوضأ؟ ثم سكت، قال: إنه كان يصلي، وهو مسبل إزاره، وإن الله عز وجل لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره (¬1). ¬

= فذكر خليل في متنه: " وفي خف غصب تردد ". قال العدوي في حاشيته معلقاً (1/ 181): " أي تردد في الحكم لعدم نص المتقدمين عليه " اهـ. قلت: وأما المتأخرون فلهما قولان: الأول: المنع قياساً على ما كان محرماً لحق الله. الثاني: الإجزاء مع الإثم. قال في الشرح الكبير (1/ 144): " وهو المعتمد، قياساً على الماء المغصوب. ورجحه الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 156). وقال في التاج والإكليل (1/ 471): " قال ابن عرفة: لا نص في الخف المغصوب، وقياسه على المُحْرِم - يعني لبس الرجل المحرم في النسك الخفين - يرد بأن حق الله آكد، وقياسه على مغصوب الماء يتوضأ به، والثوب يستتر به، والمدية يذبح بها والكلب يصاد به، والصلاة في الدار المغصوبة يرد بأنها عزائم " اهـ. (¬1) المسند (4/ 67).

[حديث ضعيف، ومتنه منكر] (¬1). ¬

(¬1) فيه أبو جعفر المدني الأنصاري، لم يرو عنه سوى يحيى بن أبي كثير. قال الدارمي: أبو جعفر هذا رجل من الأنصار. وقال ابن القطان: مجهول. وفي التقريب: مقبول، ومن زعم أنه محمد بن علي بن الحسين فقد وهم. اهـ قلت: قال ابن حبان في صحيحه هو محمد بن علي بن الحسين. فتعقبه الحافظ في التهذيب، وقال: ليس هذا بمستقيم؛ لأن محمد بن علي لم يكن مؤذناً، ولأن أبا جعفر هذا قد صرح بسماعه من أبي هريرة في عدة أحاديث، وأما محمد بن علي بن الحسين فلم يدرك أبا هريرة فتعين أنه غيره. تهذيب التهذيب (12/ 58). واختلف أيضاً في إسناده فرواه أبان، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل عن أبي هريرة. وخالفه حرب بن شداد، في سنن البيهقي (2/ 241) فرواه عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن أبا جعفر المدني حدثه، أن عطاء بن يسار حدثه، أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثه، فذكره، فزاد في الإسناد إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. وكما صرح يحيى بن أبي كثير بالتحديث من إسحاق، قد صرح أيضاً بالتحديث من أبي جعفر كما في بغية الباحث في زوائد مسند الحارث (138،573)، فلعله سمعه منهما. وقال النووي: على شرط مسلم، انظر رياض الصالحين (ص: 358)، ولم يصب. وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 92): " وفي إسناده أبو جعفر المدني، إن كان محمد بن علي بن الحسين، فروايته عن أبي هريرة مرسلة له، وإن كان غيره فلا أعرفه". [تخريج الحديث] الحديث رواه أحمد أيضا (5/ 379) بالإسناد نفسه. ورواه النسائي في الكبرى (9703) عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن هشام الدستوائي به مختصراً بلفظ: " لا تقبل صلاة رجل مسبل إزاره ". =

وجه النكارة فيه؛ إذا كانت الصلاة لا تقبل من أجل الإسبال، فلماذا يطلب منه إعادة الوضوء، وهو لم يحدث، ما بال الوضوء؟! ولماذا لم يبلغه بأن يرفع إزاره، فقد يكون الرجل جاهلاً، والبلاغ تعليمه ما أخطأ فيه، لا أن يحيله على أمر قد أحسنه، فما إعادته للوضوء إلا عبث، حتى تجديد الوضوء لا يشرع في هذه الصورة؛ لأنه ما إن فرغ من وضوئه حتى طلب منه أن يعيده، لا لنقص في الوضوء، ولكن لأن الله لايقبل صلاة المسبل إزاره!!. الدليل الثاني: أن المسح رخصة على قول، وإذا كان رخصة فإن العاصي لا ينبغي أن يرخص له، قال تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (¬1). والباغي عندهم: الخارج على الإمام، والعادي: هو المحارب وقاطع الطريق، فإذا كان الله لم يبح أكل الميتة للمضطر إذا كان عاصياً، فغيرها من الرخص من باب أولى. ¬

= وأخرجه أبو داود (638،4086) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة به. فسمى الصحابي. ورواه البيهقي في السنن (2/ 241) من طريق أبي إسماعيل الترمذي، ثنا موسى بن إسماعيل به. ورواه الحارث في مسنده كما في بغية الباحث (138،573) حدثنا يزيد بن هارون، ثنا هشام الدستوائي به. (¬1) البقرة، آية: 173.

وأجيب: بأن المراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته، والعادي: من يأكل هذه المحرمات، وهو يجد عنها مندوحة، فليس في الآية دليل على ما ذكرتم. الدليل الثالث: إذا صححنا المسح على الخف المحرم نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. (55) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعاً عن أبي عامر، قال عبد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد، عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى رد: أي مردود عليه، والمسح على الخف المحرم خلاف أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأجيب: بأن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح مسلم (1718).

أدلة القائلين بصحة المسح

الدليل الرابع: جاء في المجموع: " المسح إنما جاز لمشقة النزع، وهذا عاص بترك النزع، واستدامة اللبس، فينبغي ألا يعذر " (¬1). التعليل الخامس: قال بعض الشافعية: تجويز المسح على الخف المغصوب يؤدي إلى إتلافه بالمسح عليه، واستعماله بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة، فإن الصلاة فيها والجلوس سواء. ورده الروياني من الشافعية، فقال: هذا غلط؛ لأنه إذا توضأ بالماء فقد أتلفه، ولم يمنع ذلك الصحة (¬2). قلت: هذا التنظير على مذهب الشافعية. أدلة القائلين بصحة المسح. عدم الدليل المقتضي لفساد الطهارة، فهذا قد تطهر الطهارة الشرعية بغسل ما يجب غسله، ومسح ما يجب مسحه، فطهارته صحيحة، ولا يحكم ببطلانها إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل هنا. الدليل الثاني: إن المنع في المسح على الخف لا يختص بالطهارة، فالغاصب مأذون له في المسح في الجملة، والمنع عارض أدركه من جهة الغصب، لا من جهة ¬

(¬1) المجموع (1/ 538). (¬2) المجموع (1/ 538).

الطهارة، فأشبه غاصب ماء الوضوء، ومدية الذبح، وكلب الصيد، فيأثمون، ويصح فعلهم. والقاعدة الشرعية: أن العبادة الواقعة على وجه محرم: إن كان التحريم عائداً إلى ذات العبادة، كصوم يوم العيد، لم تصح العبادة. وإن كان التحريم عائداً إلى شرطها على وجه يختص بها كالصلاة بالثوب النجس على قول بأن الطهارة من النجاسة شرط، لم تصح إلا لعاجز أو عادم على الصحيح. وإن كان التحريم عائداً إلى شرط العبادة، ولكن لا يختص بها، ففيها روايتان: فقيل: يصح، وهو الأرجح. وقيل: لا يصح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وإن كان التحريم عائداً على أمر خارج لا يتعلق بشرطها، كالوضوء من الإناء المحرم، فالراجح صحة العبادة، وعليه الأكثر (¬1). وهنا المنع ليس عائداً على شرط العبادة التي هي الطهارة، وإنما عائد على أمر خارج، وهو الغصب، فهو وصف عارض لا تعلق له بالطهارة، فيصح المسح، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر بتصرف القاعدة التاسعة من قواعد ابن رجب الفقهية (ص: 12)، وفي مسألة اعتبار الطهارة من النجاسة شرطاً لصحة الصلاة خلاف بين أهل العلم، وإن كنت أميل إلى مذهب المالكية، وأنها الطهارة منها واجبة، وليست شرطاً، وهذا مذهب الشوكاني رحمه الله تعالى.

الشرط الثالث خلاف العلماء في اشتراط كون الخف ساترا لما يجب غسله

الشرط الثالث خلاف العلماء في اشتراط كون الخف ساتراً لما يجب غسله

الشرط الثالث خلاف العلماء في اشتراط كون الخف ساتراً لما يجب غسله إذا كان الخف فيه فتق أو خرق، نظر، فإن كان الخرق فوق الكعب جاز المسح عليه بلا خلاف (¬1). وإن كان الخرق في محل الفرض، فاختلفوا: فقيل: يمسح عليه مطلقاً ما أمكن المشي فيها، وهو قول سفيان الثوري، وإسحاق، وابن المبارك، وابن عيينة (¬2)، واختاره ابن تيمية (¬3). وقيل: لا يمسح عليه مطلقاً، ما دام أنه يظهر منه شيء، وهو القول الجديد في مذهب الشافعية (¬4)، والمشهور عند الحنابلة (¬5). وقيل: التفريق بين الخرق اليسير والخرق الكبير، وهو مذهب ¬

(¬1) حكى النووي الإجماع على ذلك في المجموع (1/ 523). (¬2) نقله عنهم ابن المنذر في الأوسط (1/ 448). (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 172). (¬4) الحاوي (1/ 362)، والمجموع (1/ 522)، ومغني المحتاج (1/ 65)، وروضة الطالبين (1/ 125). (¬5) جاء في مسائل أحمد رواية أبي داود (ص: 16): " سمعت أحمد سئل عن الخف المخرق يمسح عليه؟ قال: إذا استبانت رجله فإنه لا يجزئه، وذلك أنه وجب عليه غسلهما ". وانظر مسائل ابن هانئ (1/ 18)، وفي مسائل ابنه صالح (1316): " قلت: الخف إذا كان مخرقاً يمسح عليه؟ قال: إذا بدا من القدم فلا يمسح؛ إلا أن يكون عليه جورب، أو يكون خرق ينظم على القدم " اهـ وانظر الفروع (1/ 159)، المبدع (1/ 144)، الإنصاف (1/ 181،182).

دليل من قال: لا يجوز المسح على الخف المخرق

الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، على خلاف بينهم في حد اليسير والكثير (¬3). دليل من قال: لا يجوز المسح على الخف المخرق. قالوا: إن القدر الذي ظهر من القدم فرضه الغسل، والجمع بين المسح والغسل لا يجوز. واعترض: بأننا لا نسلم المقدمة، حتى نسلم النتيجة، فأين الدليل على أن ماظهر فرضه الغسل، قال ابن تيمية: " قول القائل: إن ما ظهر فرضه الغسل ممنوع، فإن الماسح على الخف لا يستوعبه بالمسح كالمسح على الجبيرة، بل يمسح أعلاه دون أسفله وعقبه، وذلك يقوم مقام غسل الرجل، فمسح بعض الخف كاف عما يحاذي الممسوح، وما لا يحاذيه، فإذا كان الخرق في العقب لم يجب غسل ذلك الموضع، ولا مسحه، ولو كان على ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 11)، حاشية ابن عابدين (1/ 459)، تبيين الحقائق (1/ 49)، مراقي الفلاح (ص: 53). (¬2) حاشية الخرشي (1/ 180)، مواهب الجليل (1/ 320)، حاشية الدسوقي (1/ 143). (¬3) ذهب الحنفية إلى أنه إن بدا منه ثلاثة أصابع، فهو كثير، وإن بدا منه أقل فهو قليل، وتجمع الخروق من خف واحد، لا من الخفين لانفصال أحدهما عن الآخر، وهل تقدر بأصابع الرجل أم اليد قولان في مذهبهم. وأما المالكية فاليسير عندهم ما كان دون الثلث، فإن بدا من الخرق ثلث القدم فأكثر لم يجز المسح عليه، وإن كان ما يبدو أقل من الثلث، فهو قليل، ويجوز المسح عليه، انظر العزو إلى كتبهم.

ظهر القدم لم يجب مسح كل جزء من ظهر القدم .. الخ كلامه رحمه الله (¬1). وأما قولكم: إنه لا يجتمع مسح وغسل في عضو واحد فهذا منتقض بالجبيرة إذا كانت في نصف الذراع، فإنك تغسل الذراع، وتمسح الموضع الذي فيه الجبيرة، فاجتمع مسح وغسل في عضو واحد، على أننا لا نرى في الخف المخرق أن يغسل ما ظهر، بل يكفي مسح ظاهر القدم سواء كان مخرقاً أو مستتراً، ولا دليل لمن قال: يغسل ما ظهر، ويمسح ما استتر. الدليل الثاني: أن الأصل وجوب غسل الرجلين، قال تعالى {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأجلكم إلى الكعبين} (¬2). فكان مطلق الآية يوجب غسل الرجلين إلا ما قام دليله من المسح على خفين صحيحين. وأجيب: بل الإذن مطلق لكل ما يسمى خفاً، فأين الدليل على كون الخفين صحيحين، فهذا هو موضع النزاع، فلو كان الدليل يدل على اشتراط كون الخفين صحيحين لم نختلف معكم، ولكن لا يوجد دليل يدل على اشتراط ذلك، والله أعلم. الدليل الثالث: قالوا: إذا انكشفت إحدى الرجلين لم يجز المسح على الأخرى، فكذلك إذا انكشف بعض القدم لم يجز المسح على الباقي من باب أولى؛ لأنه إذا كان انكشاف إحدى الرجلين يؤثر على الأخرى، وهي منفصلة عنها، فكونه يؤثر في الرجل نفسها المتصلة ببعض من باب أولى. وأجيب: ليست العلة هي انكشاف القدم، ولكن العلة هي النهي عن المشي في نعل واحدة، ومثله الخف، فإن كان ترك إحدى القدمين لعلة، فلا مانع من المسح على الأخرى، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 213). (¬2) المائدة، آية: 6.

أدلة القائلين بجواز المسح على الخف المخرق

وسوف يأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى. أدلة القائلين بجواز المسح على الخف المخرق. الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين، وأذن بالمسح، وإذنه - صلى الله عليه وسلم - عام مطلق لم يشترط فيه كونه سليماً من العيوب، فكلما وقع عليه اسم خف، فالمسح عليه جائز على ظاهر الأخبار، ولا يستثنى من الخفاف شيء إلا بسنة أو إجماع، وتقييد ما أطلقه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز كإطلاق ما قيده الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سواء بسواء. الدليل الثاني: اشتراط كون الخف سليماً من الخروق هذا الشرط هل هو في كتاب الله، أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من عمل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن لم يكن، فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، الدليل الثالث: معظم الصحابة فقراء، وخفافهم لا تخلو من فتوق أو خروق، ولو

الدليل الرابع

كان الفتق والخرق مؤثراً لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبينه لهم؛ لأن الأمر متعلق بالصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام العملية، فلما لم يبينه لهم علم أن الفتق والخرق لا يمنع من المسح. وهذا من أوضح الأدلة. الدليل الرابع: فعل الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن تيمية: " أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين بلغوا سنته، وعملوا بها، لم ينقل عن أحد منهم تقييد الخف بشيء من القيود، بل أطلقوا المسح على الخفين، مع علمهم بالخفاف وأحوالها، فعلم أنهم كانوا قد فهموا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - جواز المسح على الخفين مطلقاً (¬1). الدليل الخامس: اشتراط كون الخفاف سليمة من الخروق ينافي المقصود من الرخصة، فإن المقصود من المسح على الخفين التيسير على المكلفين، ولهذا اكتفى الشرع بمسح ظاهره، بينما في غسله يجب غسل جميع القدم، قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: ويل للأعقاب من النار، فلو قلنا: لا يجوز المسح إلا على الخف السليم بطل المقصود من الرخصة، لا سيما والذين يحتاجون إلى ذلك هم الأكثر، وهم المحتاجون، وهم أحق بالرخصة من غير المحتاجين، فإن سبب الرخصة هو الحاجة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الصلاة في الثوب الواحد؟ قال: " أو لكلكم ثوبان " فبين أن منكم من لا يجد إلا ثوباً واحداً فلو أوجب الثوبين لما أمكن هؤلاء أداء الواجب (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 175). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 175).

الدليل السادس

الدليل السادس: تناقض قول من يشترط أن يكون الخف ساتراً لما يجب غسله خالياً من الخروق يدل على ضعف الشرط، فبعضهم يقول: لا يجوز، ولو كان الخرق بمقدار رأس المخراز، وبعضهم يمنع ظهور ثلاثة أصابع، ولا يمنع مادونها، وبعضهم يحده بالثلث، وبعضهم يوجب غسل ما ظهر، ومسح الباقي، فهذا الاختلاف دليل على أن الأمر ليس من عند الله، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (¬1) فالتحديد بمقدار معين لابد فيه من توقيف شرعي، فإنه لا يبدو فرق بين الأصبعين والثلاثة، ولا ما بين الثلث وما دون الثلث بقليل. الدليل السابع: إذا كان المسح على الخفين إنما شرع لمشقة نزعهما، فلا فرق في ذلك بين الخف الذي فيه خرق، وبين الخف الذي لا خرق فيه، فالمشقة موجودة فيهما. الدليل الثامن: قالوا: إذا كان لبس الخف المخرق محرماً على المُحْرِم، ويسمى خفاً، فلما لم يخرجه خرقه عن مسمى الخف لم يمنع من المسح عليه لبقاء اسم الخف عليه. دليل القائلين بالتفريق بين اليسير والكثير. قالوا: إن الخف قلما يخلو من فتوق وخروق، حتى ولو كان جديداً ¬

(¬1) النساء، آية: 82.

فأثار الزرور والآثافي خرق فيه، ولهذا يدخله التراب، فجعلنا القليل عفواً لهذا. فأما إذا كان الخرق كبيراً فلا يجوز المسح عليه، وقدرنا القليل بما دون ثلاثة أصابع؛ لأنه إذا ظهر ثلاثة أصابع ظهر أكثر الأصابع، وللأكثر حكم الكل (¬1). والدليل على أن القليل معفو عنه أن جماهير أهل العلم كانوا يعفون عن ظهور يسير العورة، وعن يسير النجاسة التي يشق الاحتراز منها، فالخرق اليسير في الخف من باب أولى. قال ابن تيمية: " كان أحدهم - يعني الصحابة - يصلي في الثوب الضيق، حتى إنهم كانوا إذا سجدوا تقلص الثوب فظهر بعض العورة، وكان النساء نهين عن أن يرفعن رؤوسهن حتى يرفع الرجال رؤوسهم، لئلا يرين عورات الرجال من ضيق الأزر، مع أن ستر العورة واجب في الصلاة وخارج الصلاة بخلاف ستر الرجلين في الخف. وأما دليل المالكية بتقدير القليل بما دون الثلث، واعتبار الثلث فما فوق من الكثير، فلعلهم يستدلون بما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين، (56) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. فقلت: ¬

(¬1) انظر المبسوط (1/ 100).

الراجح من هذه الأقوال

بالشطر؟ فقال: لا، ثم قال: الثلث، والثلث كبير، أو كثير (¬1). الحديث. فسمى الثلث بأنه كثير، فعموم هذا اللفظ يدل على أن الثلث في كل شيء كثير. الراجح من هذه الأقوال. الراجح القول بجواز المسح على الخف المخرق مطلقاً، سواء كان الخرق يسيراً أو كبيراً ما دام أنه يسمى خفاً. وقد يكون الخف ليس فيه خرق، ولكنه يصف البشرة، بكونه غير صفيق، فالمالكية يمنعون المسح عليه، ويفهم ذلك من اشتراط التجليد عندهم (¬2). والحنابلة لا يجيزون المسح على ما يبدو منه القدم، سواء كان ذلك لخرق فيه، أو كان واسعاً يرى منه الكعب، أو كان الجورب خفيفاً يصف القدم، كل ذلك عندهم مانع من المسح (¬3). وأجاز الشافعية المسح على الخف الشفاف. قال النووي: " إذا لبس خف زجاج يمكن متابعة المشي عليه، جاز المسح عليه، وإن كانت ترى تحته البشرة، بخلاف ما لو ستر عورته بزجاج، فإنه لا يصح إذا وصف لون البشرة؛ لأن المقصود سترها عن الأعين، ولم ¬

(¬1) صحيح البخاري (1295)، ومسلم (1628). (¬2) انظر شروطهم في المسح على الجورب، فقد ذكرنا مراجعهم، وانظر الشرح الصغير (1/ 229). (¬3) كشاف القناع (1/ 117)، شرح منتهى الإرادات (1/ 61).

يحصل، والمعتبر في الخف عسر القدرة على غسل الرجل بسبب الساتر، وذلك موجود، ثم قال: ولا نعلم أحداً صرح بمنعه، وقد نقل القاضي حسين جوازه عن الأصحاب مطلقاً " اهـ (¬1). ومن هذا نفهم أن الذي منع المسح من الجورب إذا كانت تصف البشرة لا دليل معه على المنع، فأين الدليل على اشتراط كونها صفيقة. وإذا جوزنا المسح على الخف المخرق جوزنا المسح على غيره، سواء كان الخف واسعاً يرى منه الكعب، أو كان الجورب خفيفاً يصف القدم، والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع (1/ 529).

الشرط الرابع ثبوت الخف بنفسه على القدم

الشرط الرابع ثبوت الخف بنفسه على القدم

الشرط الرابع ثبوت الخف بنفسه على القدم لا يمسح ما يسقط من القدم، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬3). وإذا كان الخف لا يثبت في القدم إلا بشده لم يجز المسح عليه عند الحنفية (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬

(¬1) سيأتي العزو إليه قريباً إن شاء الله تعالى. (¬2) قال في الشرح الصغير (1/ 155): " لا بد من ستر المحل بذاته، ولو بمعونة أزرار، لا ما نقص عنه، ولا ما كان واسعاً ينزل عن محل الفرض ". وقال في حاشية العدوي على الخرشي (1/ 180): " قوله " فلا يُمْسَح واسع " أي: لا يستقر جميع القدم أو جلها في محله من الخف ". وانظر حاشية الدسوقي (1/ 143). (¬3) انظر روضة الطالبين (1/ 126)، وقال النووي في المجموع (1/ 528): " ولو اتخذ خفاً واسعاً لا يثبت في الرجل إذا مشى فيه، أو ضيقاً جداً لا يمكن المشي فيه، فوجهان: أصحهما لا يجوز المسح عليه " اهـ. (¬4) جاء في مراقي الفلاح في ذكر شروط المسح على الخفين (ص53): "استمساكهما على الرجلين من غير شد " اهـ. وقال في المبسوط (1/ 102،103): " وأما المسح على الجوربين فإن كانا ثخينين منعلين جاز المسح عليهما " ثم فسر الثخين من الجوارب: أن يستمسك على الساق من غير أن يشده بشيء. وانظر تبيين الحقائق (1/ 52)، وحاشية ابن عابدين (1/ 263). (¬5) قال في الفروع (1/ 158) في ذكر شروط المسح " ثابت بنفسه، لا بشده في المنصوص " اهـ. وقال في الإنصاف (1/ 179) " إذا كان لا يثبت إلا بشده، لا يجوز المسح عليه، وهو =

دليل من قال: لا يجوز المسح عليه

وقيل: يجوز المسح على الجوربين وإن لم يثبتا بأنفسهما بل بنعلين، وهو رواية في مذهب أحمد (¬1). وقيل: لا يشترط، اختاره بعض المالكية (¬2)، ووجه عند الشافعية (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). دليل من قال: لا يجوز المسح عليه. أولاً: أن ما يسقط من القدم لا فائدة من لبسه؛ لأنه إذا مشى عليه سقط الخف. ثانياً: أن ما يسقط من القدم لا يمكن متابعة المشي عليه. ثالثاً: أن هذا خف غير معتاد، فلا يشمله النص. رابعاً: أن ما يسقط من القدم لا يشق نزعه، فيمكن إخراج القدم بسهولة، ثم غسلها وردها. دليل من قال بجواز المسح. أولاً: أن الإذن بالمسح على الخفاف وما في معناها مطلق غير مقيد، ¬

= المذهب من حيث الجملة، ونص عليه، وعليه الجمهور ". وانظر كشاف القناع (1/ 116)، المبدع (1/ 145)، شرح العمدة (1/ 250). (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/ 184)، والإنصاف (1/ 179). (¬2) قال الجلاب كما في التاج والإكليل (1/ 469): " ولا بأس بالمسح على الخفين الواسعين، فإن خرجت رجله من مقدم الخف إلى ساقه بطل مسحه، ووجب عليه غسل رجليه، وإن خرج عقبه من مقدمه إلى ساقه، فلا شيء عليه إلا أن يخرج جل رجله ". (¬3) انظر روضة الطالبين (1/ 126)، والمجموع (1/ 528). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 184).

فأين الدليل على اشتراط ما ذكرتم، وما ورد مطلقاً لا يجوز تقييده إلا بدليل. ثانياً: أن هذا الخف الواسع صالح بنفسه، بدليل أنه لو لبسه رجل، وكانت قدمه كبيرة بحيث لا تسقط جاز المسح عليه اتفاقاً، فإذا كان صالحاً في نفسه فلا يمنع من المسح عليه. ثالثاً: أن هذا الخف الواسع قد يلبسه من لا يحتاج إلى المشي، كالمريض المقعد والزمن، فمنعه من المسح عليه منع بلا دليل. قال ابن تيمية: " قد اشترط ذلك - يعني: ثبوت الخف بنفسه - الشافعي، ومن وافقه من أصحاب أحمد، فلو لم يثبت إلا بشده بشيء يسير، أو خيط متصل به، أو منفصل عنه، ونحو ذلك لم يمسح عليه، وإن ثبت بنفسه لكن لا يستر جميع المحل إلا بالشد، ففيه وجهان: أصحهما أنه يمسح عليه، وهذا الشرط لا أصل له في كلام أحمد، بل المنصوص عنه في غير موضع أنه يجوز المسح على الجوربين ما لم يخلع النعلين، فإذا كان أحمد لا يشترط في الجوربين إن يثبتا بأنفسهما، بل إذا ثبتا بالنعلين جاز المسح عليهما، فغيرهما بطريق الأولى، وهنا قد ثبتا بالنعلين، وهما منفصلان عن الجوربين، فإذا ثبت الجوربان بشدهما بخيوطهما كان المسح عليهما أولى بالجواز (¬1). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (20/ 148).

الشرط الخامس إمكان متابعة المشي على الخف

الشرط الخامس إمكان متابعة المشي على الخف

الشرط الخامس إمكان متابعة المشي على الخف (¬1) يشترط في الخف حتى يمسح عليه أن يمكن متابعة المشي عليه، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، الحنابلة (¬5). وقيل: إن ذلك ليس بشرط، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬6). ¬

(¬1) قد أغفل كتاب زاد المستقنع، وهو متن حنبلي، يدرسه الشيوخ عندنا، فهل أغفله اكتفاء بقوله: " يثبت بنفسه " باعبتارهما بمعنى واحد، فإن كان كذلك فالذي يظهر لي أنهما شرطان، وليسا شرطاً واحداً، كما فعل ذلك ابن تيمية في شرح العمدة (1/ 250): " فذكر شرط المسح على الخفين قائلاً: أحدها: أن يستر محل الفرض، وهو القدم إلى ما فوق الكعبين. الثاني: أن يثبت في القدم بنفسه. الثالث:: أن يمكن متابعة المشي فيه. ففرق ابن تيمية رحمه الله بين الشرطين، ولم يجعلهما شرطاً واحداً، وكذلك صنع صاحب كشاف القناع (1/ 115،116)، والفروع (1/ 158)، وكذلك فرق بينهما من الحنفية صاحب مراقي الفلاح (ص: 53). وهو الظاهر؛ لأن الشيء قد يثبت بنفسه، ولا يمكن متابعة المشي فيه لضيقه، وقد جعلهما بعض مشايخنا ممن شرح زاد المستقنع جعلهما شرطاً واحداً، وفيه تأمل. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 263)، تبيين الحقائق (1/ 52)، مراقي الفلاح (ص: 53). (¬3) حاشية الخرشي (1/ 179،180)، مواهب الجليل (1/ 320)، حاشية الدسوقي (1/ 143). (¬4) المجموع (1/ 522)، روضة الطالبين (1/ 126)، مغني المحتاج (1/ 66). (¬5) شرح العمدة (1/ 520)، كشاف القناع (1/ 116)، المبدع (1/ 145). (¬6) قال النووي في المجموع (1/ 528): " لو اتخذ خفاً واسعاً لا يثبت في الرجل إذا مشى فيه، أو ضيقاً جداً بحيث لا يمكن المشي فيه، فوجهان: =

واختلف القائلون بهذا الشرط، هل يقدر إمكان المشي فيه بمسافة معينة أم لا؟ فذهبت الحنفية إلى تقديره بفرسخ، فأكثر (¬1). وقالت المالكية: أن يمكن المشي فيه عادة (¬2). وقيل: بقدر ما يحتاج إليه المسافر في حوائجه عند الحط والترحال، وهو مذهب الشافعية (¬3). ¬

= أصحهما: لا يجوز المسح عليه. والثاني: يجوز؛ لأنه صالح في نفسه بدليل أنه يصلح لغيره، فأما الضيق الذي يتسع بالمشي فيجوز المسح عليه بلا خلاف اهـ. (¬1) انظر العزو إلى مذهب الحنفية. (¬2) الشرح الصغير (1/ 155). (¬3) اختلف كلام أصحاب المذهب الشافعي، فذكر النووي في روضة الطالبين (1/ 126): " بقدر ما يحتاج إليه المسافر في حوائجه عند الحط والترحال ". وقال النووي في المجموع (1/ 523): " اتفق الأصحاب ونصوص الشافعي رضي الله عنه على أنه يشترط في الخف كونه قوياً يمكن متابعة المشي عليه، قالوا: ومعنى ذلك أن المشي يمكن عليه في مواضع النزول، وعند الحط والترحال، وفي الحوائج التي يتردد فيه في المنزل، وفي المقيم نحو ذلك كما جرت عادة لابسي الخفاف، ولا يشترط إمكان متابعة المشي فراسخ، هكذا صرح به أصحابنا " اهـ. وقال في مغني المحتاج (1/ 66): " واختلف في قدر المدة المتردد فيها، فضبطه المحاملي بثلاث ليال فصاعداً، ووافقه الأسنوي في التنقيح. وقال في المهمات: إن المعتمد ما ضبطه به الشيخ أبو حامد بمسافة القصر تقريباً. وقال ابن النقيب: لو ضبط بمنازل ثلاثة أيام ولياليهن لم يبعد اهـ. ثم قال: والأقرب إلى كلام الأكثرين ما قاله ابن العماد: أن المعتبر التردد فيه بحوائج سفر يوم وليلة للمقيم =

وقيل: يمكن متابعة المشي عليه عرفاً، وهو مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال بهذا الشرط. قالوا: إن الذي تدعو الحاجة إلى مسحه هو الخف الذي يمكن متابعة المشي عليه، فإن كان يسقط من القدم لسعته، فلا يشق نزعه، فيجب غسل القدم. ثانياً: أن الرخصة وردت في الخف المعتاد، وهو ما يمكن المشي فيه، وما لا يمكن المشي فيه فلا يدخل في الرخصة. والراجح: أنه ليس بشرط، وأن الذي لا يمكن المشي فيه إن كان لضيقه، فإن كان لا يضره، وكان لا يحتاج للمشي كما لو كان راكباً، أو مقعداً فما المانع من المسح عليه، فهو لا يحتاج إلى المشي حتى نشترط إمكان متابعة المشي عليه، والمسح على الخفاف والجوارب ورد مطلقاً غير مقيد بشيء، فمن وضع قيداً طلب منه الدليل. وإن كان الخف ضيقاً يضره حرم لبسه فضلاً عن المسح عليه. قال العدوي من المالكية: " أما انتفاء ضيقه، فليس بشرط فمتى أمكن لبسه مسح، وإلا فلا " (¬2). وإن كان لا يمكن متابعة المشي عليه لسعته بحيث إذا مشى خرجت ¬

= ونحوه، وسفر ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر سفر قصر؛ لأنه عند انقضاء المدة يجب نزعه، فقوته تعتبر بأن يمكن التردد فيه لذلك. الخ كلامه رحمه الله. (¬1) قال في الروض المربع (1/ 278): " يجوز المسح على خف يمكن متابعة المشي فيه عرفاً " اهـ. (¬2) حاشية العدوي على الخرشي (1/ 179).

قدمه، كما لو كان الخف كبيراً، وقدمه صغير، فإن شده على ساقه بحيث يمكنه المشي عليه، رجعت هذه المسألة إلى المسألة السابقة، وهو اشتراط كونه يثبت بنفسه، وقد بينت الراجح في هذه المسألة، وأنه لا يشترط أن يثبت بنفسه. قال في التاج والإكليل: " ولا بأس بالمسح على الخفين الواسعين، فإن خرجت رجله من مقدم الخف إلى ساقه بطل مسحه، ووجب عليه غسل رجله، وإن خرج عقبه من مقدمه إلى ساقه فلا شيء عليه إلا أن يخرج جل رجله (¬1). وإن كان لا يمكن متابعة المشي عليه لثقله، كخف الحديد الثقيل، فذكر النووي وجهين: الأول: المنع، وهو الذي قطع به الجمهور. والثاني: الجواز، واختاره إمام الحرمين والغزالي، قالا: لأن عدم إمكان المشي فيه لضعف اللابس، لا الملبوس، ولا نظر إلى أحوال اللابسين (¬2). ومع أن النووي ضعفه إلا أنه هو المختار فيما أرى؛ لأن من منع شيئاً فعليه الدليل، والخف ورد الإذن فيه مطلقاً، ولا تقييد لما أطلقه الله إلا بنص أو إجماع، والله أعلم. ¬

(¬1) التاج والإكليل (1/ 469) (¬2) المجموع (1/ 528).

الشرط السادس هل يشترط أن يكون الخف من جلد

الشرط السادس هل يشترط أن يكون الخف من جلد

دليل الجمهور

الشرط السادس هل يشترط أن يكون الخف من جلد فقيل: لا يشترط، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يشترط، وهو مذهب المالكية (¬4)، والأول أرجح. دليل الجمهور. أولاً: اشتراط كون الخفاف من جلود لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع. ثانياً: المسح على الخفين ورد مطلقاً، فكل ما كان يسمى خفاً جاز المسح عليه. ثالثاً: التفريق بين الخف الذي من جلود، والخف الذي من غيره تفريق بين متماثلين، قال ابن تيمية: " ولا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً ¬

(¬1) قال في مراقي الفلاح (ص: 53): " صح المسح على الخفين في الحدث الأصغر للرجال والنساء، ولو كانا من شيء ثخين غير الجلد، سواء كان لهما نعل من جلد أو لا ". (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 522): " اتفق أصحابنا على أنه لا يشترط في الخف جنس الجلود " اهـ. (¬3) قال ابن قدامة في المغني (1/ 373): " يجوز المسح على كل خف ساتر يمكن متابعة المشي فيه، سواء كان من جلود أو لبود، وما أشبهها ". (¬4) مواهب الجليل (1/ 319)، حاشية الدسوقي (1/ 141)، الخرشي (1/ 179)، تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/ 600).

دليل المالكية على اشتراط الجلد

أو كتاناً أو صوفاً، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف، وهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قوياً، بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى (¬1). الخ كلامه. رابعاً: سبب إباحة المسح على الخفين هو الحاجة، وهي موجودة في الخف الذي من جلد، كما هي موجودة في غيره من الخفاف. قال ابن تيمية: ومعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء بسواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين متماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة، وما أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله (¬2). دليل المالكية على اشتراط الجلد. قالوا: إن الرخصة وردت في الخفاف المعهودة، وكانت خفافهم من الجلود، فيقتصر المسح عليها. والصحيح الأول، ولو كان الحكم يتعلق بالاسم لما مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجوربين؛ فإنهما لا يسميان خفاً، ومع ذلك ثبت المسح عليهما، بل وعلى النعلين. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 214). (¬2) انظر المرجع السابق.

الشرط السابع هل يشترط كون الخف يمنع وصول الماء إلى الرجل

الشرط السابع هل يشترط كون الخف يمنع وصول الماء إلى الرجل

دليل من اعتبره شرطا

الشرط السابع هل يشترط في الخف كونه يمنع وصول الماء إلى الرجل قيل: يشترط، اختاره بعض الحنفية (¬1)، وهو ظاهر المذهب عند الشافعية (¬2). وقيل: لا يشترط، وهو مذهب الجمهور، (¬3) وهو الراجح. دليل من اعتبره شرطاً. قال: الغالب في الخفاف أنها تمنع نفوذ الماء، فتنصرف إليها النصوص الدالة على الترخيص، ويبقى الغسل واجباً فيما عداها. ولأن الذي يقع عليه المسح ينبغي أن يكون حائلاً بين الماء والقدم. ¬

(¬1) قال ابن عابدين في حاشيته (1/ 261): ذكر الشرنبلالي من شروط المسح على الخفين: منعهما: أي الخفان: وصول الماء إلى الرجل اهـ. ولم أقف على غيره من الحنفية ذكر هذا الشرط، بل كون الحنفية يجيزون مسح الخف المخرق إذا كان الخرق أقل من ثلاثة أصابع دليل على أن هذا ليس بشرط، فليتأمل. (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 531):"هل يشترط كون الخف صفيقاً يمنع نفوذ الماء؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره: أحدهما يشترط، فإن كان منسوجاً بحيث لو صب عليه الماء نفذ لم يجز المسح، وبهذا قطع الماوردي والفوراني والمتولي، قال الرافعي: وهو ظاهر المذهب. والثاني: لا يشترط، بل يجوز المسح، وإن نفذ الماء، واختاره إمام الحرمين والغزالي. اهـ وانظر أسنى المطالب (1/ 96)، نهاية المحتاج (1/ 204). (¬3) لأنه لو كان شرطاً عندهم لنصوا عليه، ولم أقف عليه منصوصاً، إلا في شرح منتهى الإرادات قال (1/ 60): " لا كونه يمنع نفوذ الماء ".

دليل من لم يعتبره شرطا

دليل من لم يعتبره شرطاً. لا يوجد دليل على اعتبار هذا الشرط، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط. ثم إن فرض الخف المسح، والغسل ليس مأموراً به، فلا حاجة إلى اشتراط كون الخف يمنع نفوذ الماء.

الشرط الثامن يشترط أن يكون المسح على الخفين في الطهارة الصغرى

الشرط الثامن يشترط أن يكون المسح على الخفين في الطهارة الصغرى

الشرط الثامن يشترط أن يكون المسح على الخفين في الطهارة الصغرى يمسح الخفان والجوربان والعمامة في الحدث الأصغر دون الأكبر، وهذا إجماع لا خلاف فيه، حكاه النووي وابن قدامة وغيرهما. قال النووي: " لا يجزئ المسح على الخف في غسل الجنابة، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم، ولا أعلم فيه خلافاً لأحد من العلماء، وكذا لا يجزئ مسح الخف في غسل الحيض والنفاس، ولا في الأغسال المسنونة كغسل الجمعة والعيد وأغسال الحج وغيرها، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب " (¬1). وقال ابن قدامة: " جواز المسح مختص به - يعني الحدث الأصغر - ولا يجزئ المسح في جنابة، ولا غسل واجب ولا مستحب، لا نعلم في هذا خلافاً " (¬2). ¬

(¬1) المجموع (1/ 505). (¬2) المغني (1/ 362). وانظر في كتب الحنفية: تبيين الحقائق (1/ 46)، العناية شرح الهداية (1/ 152)، شرح فتح القدير (1/ 152)، البحر الرائق (1/ 177)، البناية (1/ 586). وانظر في مذهب المالكية، الشرح الصغير (1/ 156،157)، حاشية الدسوقي (1/ 145). وانظر في مذهب الشافعية، الأم (1/ 34)، المجموع (1/ 505). وانظر في مذهب الحنابلة شرح الزركشي (1/ 383)، الهداية - أبو الخطاب (1/ 16)، المغني (1/ 362).

الدليل من السنة: (57) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. الحديث (¬1). [وإسناده حسن، وسوف يأتي تخريجه إن شاء الله تعالى] (¬2). وذكر النووي رحمه الله تعالى بعض فوائده، فقال: أحدها: جواز مسح الخف. قلت مع أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كان يأمرنا " دالة على الاستحباب، أو على أقل أحواله الأفضلية على الغسل. الثانية: أنه مؤقت. وسيأتي الخلاف فيها. الثالثة: أن وقته للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن. قلت: يؤخذ منه مراعاة الشرع لأحوال المكلفين، والتخفيف عليهم، ودفع الحرج والمشقة. الرابع: أنه لا يجوز المسح في غسل الجنابة، وما في معناها من ¬

(¬1) المصنف (795). (¬2) انظر بحثه في مسألة التوقيت في المسح على الخفين.

الأغسال الواجبة والمسنونة. الخامسة: جوازه في جميع أنواع الحدث الأصغر. السادسة: أن الغائط والبول والنوم ينقض الوضوء، وهو محمول على نوم غير ممكن مقعده. قلت: الأفضل أن يقال: لو أحدث أحس بحدثه، فلاينقض، وإلا نقض؛ لأن النوم مظنة الحدث، وليس حدثاً بذاته. السابعة: أنه يؤمر بالنزع للجنابة في أثناء المدة. إلى غير ذلك من الفوائد التي ذكرها النووي رحمة الله عليه.

الشرط التاسع أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعا

الشرط التاسع أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعا

الشرط التاسع أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعا هذا الشرط وقع فيه خلاف بين العلماء، هل المسح على الخفين مؤقت بوقت أم لا؟ فقيل: يمسح يوماً وليلة للقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، وهو مذهب الحنفية، والشافعية والحنابلة. وقيل: ليس فيه توقيت، وهو المشهور من مذهب مالك. وقيل: يمسح المقيم خمس صلوات، والمسافر خمس عشرة صلاة. وقيل: يسقط التوقيت في حال الضرورة. إلى غير ذلك من الأقوال، وسيأتي بحث هذه المسألة في مسألة مستقلة، ونحرر الأدلة، ونبين الراجح إن شاء الله تعالى.

الشرط العاشر هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية

الشرط العاشر هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية

الشرط العاشر هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية؟ إذا تيمم لفقد الماء، ثم لبس الخف، فلا يمسح إذا وجد الماء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ¬

(¬1) قال السرخسي في المبسوط (1/ 105): " وإذا لبس الخفين على طهارة التيمم أو الوضوء بنبيذ، ثم وجد الماء نزع خفيه؛ لأن طهارة التيمم غير معتبرة بعد وجود الماء ". وانظر بدائع الصنائع (1/ 10). (¬2) قال مالك في الموطأ (1/ 37): " وإنما يمسح على الخفين من أدخل رجليه في الخفين، وهما طاهرتان بطهر الوضوء، وأما من أدخل رجليه في الخفين، وهما غير طاهرتين بطهر الوضوء فلا يمسح على الخفين ". وجاء في المدونة (1/ 144) قال ابن القاسم في من تيمم، وهو لا يجد الماء، فصلى، ثم وجد الماء في الوقت، فتوضأ به إنه لا يجزئه أن يمسح على خفيه وينزعهما ويغسل قدميه إذا أدخلهما غير طاهرتين " اهـ. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 143)، ومواهب الجليل (1/ 1/320)، والخرشي (1/ 179)، والتاج والإكليل (1/ 468). وجاء في المنتقى للباجي (1/ 78): " ومن تيمم، ثم لبس خفيه، فقد قال أصبغ في العتبية: إن لبس خفيه قبل أن يصلي كان له أن يمسح على خفيه، وإن لبسهما بعد أن صلى لم يمسح عليهما. قال سحنون: لا يمسح عليهما، وإن لبسهما قبل الصلاة، حكى ابن حبيب، عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم معناه. وجه قول أصبغ: أنه لبس خفيه بطهارة يستبيح بها الصلاة، فكان له أن يستبيح بها الماء، كالمسح على الجبائر. ووجه القول الثاني: أن هذه أحد حالتي التيمم، فلم يستبح المسح على الخفين أصله إذا لبسهما بعد الصلاة. واحتج مطرف وصاحباه بأن منتهى طهر التيمم فراغ تلك الصلاة اهـ.

دليل الجمهور

والشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يمسح، هو رواية عن أحمد (¬3). دليل الجمهور. الدليل الأول: (58) ما رواه عبد الرزاق (¬4)، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير. [حديث حسن] (¬5). ¬

(¬1) المجموع (1/ 545)، الروضة (1/ 125). (¬2) الفروع (1/ 160)، الإنصاف (1/ 176)، الشرح الكبير (1/ 153)، المغني (1/ 175). (¬3) حكاه صاحب الإنصاف رواية عن أحمد (1/ 176). (¬4) المصنف (913). (¬5) الإسناد فيه: عمرو بن بجدان. ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 171). وقال العجلي: بصري، تابعي، ثقة. ثقات العجلي (2/ 172). وصحح حديثه الحاكم، ومن قبله الترمذي. وذكره البخاري في التاريخ الكبير (6/ 317) ولم يورد جرحاً ولا تعديلاً. وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/ 222). وقال الذهبي: حسنه الترمذي، ولم يرقه إلى الصحة للجهالة بحالة عمرو، وقال: وقد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وثق عمرو مع جهالته. الميزان (3/ 247) بينما صحح حديثه في المستدرك (1/ 176)، وقال في الكاشف: وثق. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي عمرو بن بجدان معروف؟ قال: لا. تهذيب التهذيب (8/ 7). وقال ابن القطان: لا يعرف. المرجع السابق. وقال ابن حجر في التقريب: لا يعرف حاله. قلت: من عادة الحافظ في الراوي إذا كان لم يرو عنه إلا واحد، وكان من التابعين ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وقد وثقه ابن حبان أن يقول في حقه: مقبول، أي حين يتابع، كيف وقد صحح حديثه الترمذي، والحاكم والبيهقي وابن حبان، فهذا توثيق ضمني، وقد أجاب ابن دقيق العيد على قول ابن القطان في عمرو بن بجدان: لايعرف له حال، فقال كما في نصب الراية (1/ 149): " ومن العجب كون ابن القطان لم يكتف بتصحيح الترمذي في معرفة حال عمرو بن بجدان، مع تفرده بالحديث، وهو قد نقل كلامه: هذا حديث حسن صحيح، وأي فرق بين أن يقول: هو ثقة، أو يصحح له حديثاً انفرد به. وإن كان توقف في ذلك لكونه لم يرو عنه إلا أبو قلابة، فليس هذا بمقتضى مذهبه، فإنه لا يلتفت إلى كثرة الرواة في نفي جهالة الحال، فذلك لا يوجب جهالة الحال بانفراد راو واحد عنه بعد وجود ما يقتضي تعديله، وهو تصحيح الترمذي له. [تخريج الحديث]: مداره على أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر. ويرويه عن أبي قلابة خالد الحذاء، وأيوب السختياني. أما طريق خالد الحذاء فله طرق كثيرة إليه. الأول: يزيد بن زريع عن خالد الحذاء به. أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (6/ 317) من طريق هشام بن عبد الملك، عن يزيد ابن زريع به، وأخرجه البيهقي (1/ 220) من طريق إبراهيم بن موسى. وأخرجه (1/ 220) من طريق مسدد، كلاهما عن يزيد بن زريع به، وأخرجه ابن حبان (1312) من طريق الفضيل بن الحسين الجحدري، قال: حدثنا يزيد بن زريع به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الطريق الثاني: خالد بن عبد الله الواسطي عن خالد الحذاء به. أخرجه أبو داود (332) حدثنا عمرو بن عوف، ومسدد، قالا: أخبرنا خالد ـ يعني ابن عبد الله الواسطي ـ عن خالد الحذاء به. قال أبو داود: حديث عمرو أتم. وأخرجه البيهقي (1/ 220) والحاكم (1/ 176،177) من طريق مسدد به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، إذ لم نجد لعمرو بن بجدان راوياً غير أبي قلابة الجرمي، وهذا مما شرطت فيه، وثبت أنهما قد خرجا مثل هذا في مواضع من الكتابين. الطريق الثالث: الثوري عن خالد الحذاء به. منه إسناد الباب، أعني: عبد الرزاق (913) عن الثوري به، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (5/ 155)، وأخرجه أحمد أيضاً (5/ 180) ثنا أبو أحمد ـ يعني: الزبيري ـ ثنا سفيان، عن خالد الحذاء به. وأما رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة به: فأخرجه أحمد (5/ 155) ثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن أيوب السختياني وخالد الحذاء به، وأخرجه النسائي (322) أخبرنا عمرو بن هشام، قال: ثنا مخلد، عن سفيان، عن أيوب به، وأخرجه الدارقطني (1/ 186) من طريق مخلد بن يزيد، حدثنا سفيان، عن أيوب وخالد به. وأخرجه البيهقي (1/ 212) من طريق أحمد بن بكار، حدثنا مخلد بن يزيد به. وأخرجه ابن حبان كما في الموارد (197) من طريق عبد الحميد بن محمد المستام، حدثنا مخلد بن يزيد به. وجاء الحديث (عن أيوب عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبي ذر). أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 144): حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة به. وأخرجه أحمد (5/ 146) حدثنا إسماعيل ـ يعني: ابن علية ـ به. وأخرجه الدارقطني (1/ 187) من طريق يعقوب بن إبراهيم، نا ابن علية به. وأخرجه الطيالسي (484) حدثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، عن أيوب به. وأخرجه أبو داود (133) حدثنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد، عن أيوب به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (وقيل: عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني قشير عن أبي ذر) أخرجه عبد الرزاق (912) عن معمر، عن أيوب به. وأخرجه أحمد (5/ 146،147) ثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد، عن أيوب به. (وقيل: عن أيوب عن أبي قلابة عن عمه أبي المهلب عن أبي ذر) أخرجه الدارقطني (1/ 187) من طريق خلف بن موسى العمي، أخبرنا أبي، عن أيوب عن أبي قلابة، عن عمه أبي المهلب به. فتبين من هذا أن رواية خالد الحذاء لم يختلف عليه في إسناده، وأما رواية أيوب فقد اختلف عليه كما سبق، ففي بعض طرقها ما يوافق رواية خالد، والبعض الآخر يخالفه في الإسناد، فهل ما خالف فيه أيوب خالداً يطرح؟ أو أن الخلاف على أيوب لا يضر؟ قال أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي (1/ 215): " عن رجل من بني قشير، عن أبي ذر، وهذا الرجل هو الأول نفسه، لأن بني قشير من بني عامر كما في الاشتقاق لابن دريد (ص:181)، وهو عمرو بن بجدان نفسه ". اهـ. قلت: فعلى هذا قوله: " عن رجل من بني قشير، أو عن رجل من بني عامر " لا فرق بينهما وهو عمرو بن بجدان؛ لأنه قشيرى من بني عامر. فيبقى رواية أبي المهلب، فإن لم تكن كنية لعمرو بن بجدان، فقد تفرد بها خلف بن موسى بن خلف العمي، حدثني أبي، وخلف وأبوه، كل واحد منهما صدوق له أوهام، فيكون هذا من أوهامه لمخالفته من هو أوثق منه. وضعفه ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (3/ 327) وقال: " لا يعرف لعمرو بن بجدان هذا حاله، وإنما روى عنه أبو قلابة واختلف عنه: فيقول: خالد الحذاء عنه، عن عمرو بن بجدان ولا يختلف ذلك على خالد. وأما أيوب فإنه رواه عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر. ومنهم من يقول: عن رجل فقط. ومنهم من يقول: عن رجاء بن عامر. ومنهم من يقول: عن عمرو بن بجدان كقول خالد. ومنهم من يقول: عن أبي المهلب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ومنهم من لا يجعل بينهما أحداً، فيجعله عن أبي قلابة، عن أبي ذر. ومنهم من يقول: عن أبي قلابة أن رجلاً من بني قشير، قال: يا نبي الله. هذا كله اختلاف على أيوب في روايته إياه عن أبي قلابة، وجميعه في علل الدارقطني وسننه، وهو حديث ضعيف لا شك فيه ". اهـ. وتعقبه ابن دقيق العيد في (الإمام) فقال: " أما الاختلاف الذي ذكره من كتاب الدارقطني، فينبغي على طريقته، وطريقة الفقه أن ينظر في ذلك، إذ لا تعارض بين قولنا: عن رجل، وبين قولنا عن رجل من بني عامر، وبين قولنا: عن رجل من بني بجدان. وأما من أسقط ذكر هذا الرجل فيؤخذ بالزيادة ويحكم بها. وأما من قال: عن أبي المهلب، فإن كان كنية لعمرو فلا اختلاف، وإلا فهي رواية واحدة مخالفة احتمالاً لا يقيناً. وأما من قال: عن رجل من بني قشير، قال: يا نبي الله، فهي مخالفة، فكان يجب أن ينظر في إسنادها على طريقته، فإن لم يكن ثابتاً لم يعلل بها " اهـ. قال أحمد شاكر معلقاً في تحقيقه للسنن (1/ 215،217): وهذا الذي حققه ابن دقيق العيد بديع ممتع، وهو الصواب المطابق لأصول هذا الفن، وأنا أظن أن رواية من قال: إن رجلاً من بني قشير قال: يا نبي الله. فيها خطأ، وأن أصله ما ذكرته من رواية ابن أبي عروبة، عند أحمد في المسند، عن رجل من بني قشير، فذكر القصة في كونه أتى أباذر، وسأله، وأجابه وأن يكون سقط من بعض الرواة ذكر أبي ذر خطأ فقط. اهـ وأما شاهده من حديث أبي هريرة، فقد رواه البزار، كما في مختصر زوائد البزار (193) قال: حدثنا مقدم بن محمد بن علي بن مقدم المقدمي، حدثنا عمي القاسم بن يحيى ابن عطاء بن مقدم ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله ويمسه بشرته، فإن ذلك خير. قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه. ومقدم ثقة معروف النسب. =

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليمسه بشرته " فأمر بوجوب مس الماء للبشرة، وكلمة " بشرته " مفرد مضاف يعم جميع البشرة إن كان غسلاً عن جنابة، ويعم جميع الأعضاء الأربعة إن كانت الطهارة طهارة صغرى، ومن أخرج القدمين فعليه الدليل، ولا دليل. الدليل الثاني: بوجود الماء رجع إلى المتيمم حدثه السابق، وليس رجوع الحدث المتقدم على لبس الخف كإنشاء الحدث بعد لبسه، وبينهما فرق، وإذا حكمنا برجوع الحدث السابق المتقدم للابس الخف لم يشرع له المسح من جهتين: الوجه الأول: إبطال تلك الطهارة من أصلها، وكأنها لم تكن، فكأنه لبس الخفين على غير طهارة. الوجه الثاني: رجوع الحدث السابق إلى جميع الأعضاء بما في ذلك القدمان، ومن أخرج القدمين فعليه الدليل. الدليل الثالث: قالوا إن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما هو مبيح للصلاة. وهذا الدليل فيه نظر، والصحيح أن التيمم مطهر بنص القرآن ¬

_ = وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 261): رجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (478): حدثنا أحمد ـ يعني ابن محمد بن صدقه، ثنا مقدم به. وفي تلخيص الحبير (1/ 271) صححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل: إن إرساله أصح.

دليل القائلين بجواز المسح

والسنة، وقد تقدم الدليل على ذلك. دليل القائلين بجواز المسح. (59) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما (¬1). فلم يشترط إلا الطهارة، ولم ينص على نوع المطهر ماء كان أو تراباً، ومن تيمم عن عدم الماء فقد تطهر بنص القرآن والسنة، أما القرآن، فقال تعالى بعد أن ذكر طهارة التيمم: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬2). ومن السنة الحديث المتفق عليه، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وسبق تخريجه. والطهور: اسم لما يتطهر به، فإذا كان متطهراً، ولبس خفيه على طهارة، صدق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ". والقول الأول أقوى؛ لأن عودة الحدث السابق للبس الخف جعل الخف كأنه لبس على غير طهارة من حين وجد الماء، فإذا كان يجب إيصال الماء إلى البشرة كان الواجب إيصاله إلى جميعها بما في ذلك القدمان، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (206) ومسلم (274). (¬2) المائدة، آية: 6.

الشرط الحادي عشر يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة

الشرط الحادي عشر يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة

الشرط الحادي عشر يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة إذا غسل رجله اليمنى ثم أدخلها في الخف، ثم غسل رجله اليسرى، ثم أدخلها في الخف فطهارته صحيحة، ولكن إذا أحدث هل يمسح على خفيه أم لا؟ فقيل: له أن يمسح، هو مذهب الحنفية (¬1)، والظاهرية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4)، وتلميذه ابن القيم (¬5)، وابن دقيق ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 147)، تبيين الحقائق (1/ 47،48)، البحر الرائق (1/ 176)، المبسوط (1/ 99،100)، مراقي الفلاح (ص: 53)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 23،24)، بدائع الصنائع (1/ 9). (¬2) المحلى (مسألة: 215) (1/ 334)، ونص على أنه رأي دواد رحمه الله، وممن صرح بأنه مذهب داود أبو الخطاب الحنبلي في الانتصار (1/ 553) وغيره. (¬3) نص على أنها رواية عن أحمد كل من ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 209)، والفتاوى الكبرى (5/ 305)، وابن رجب في القواعد، في القاعدة الثالثة عشرة بعد المائة (ص: 248)، وأبو الخطاب في الانتصار (1/ 553)، قال: " نقل عنه أبو طالب: أنه سئل فيمن غسل رجلاً ولبس خفاً، ثم يغسل الأخرى، ويلبس خفاً؟ فقال: يغسلهما جميعاً، فقيل له: فإن فعل؟ فقال: ليس عليه شيء، هو أحب إلي، إنما هو تأويل، وهذا يدل على أن ذلك ليس بشرط، وإنما هو اختيار واستحباب. اهـ كلام أبي الخطاب، وانظر الروايتين لأبي يعلى (1/ 96). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 209،211). (¬5) أعلام الموقعين (3/ 287).

العيد (¬1). وقيل: لا يمسح، وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (¬2)؛ لأنه أدخل خفه الأيمن قبل كمال الطهارة. ¬

(¬1) قال في الإحكام (1/ 114،115) تعليقاً على حديث: " أدخلتهما، وهما طاهرتان " قد استدل به بعضهم على أن كمال الطهارة فيهما شرط، حتى لو غسل إحداهما وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، لم يجز المسح. وفي هذا الاستدلال عندنا ضعف - أعني في دلالته على حكم هذه المسألة - فلا يمنع أن يعبر بهذا العبارة عن كون كل واحدة منها أدخلت طاهرة، بل ربما يدعي أنه ظاهر في ذلك؛ فإن الضمير في قوله: " أدخلتهما " يقتضي تعليق الحكم بكل واحدة منهما، نعم من روى: " فإني أدخلتهما، وهما طاهرتان " فقد يتمسك برواية هذا القائل من حيث إن قوله: " أدخلتهما " إذا اقتضى كل واحدة منهما، فقوله: " وهما طاهرتان " حال من كل واحدة منهما، فيصير التقدير: أدخلت كل واحدة في حال طهارتها، وذلك إنما يكون بكمال الطهارة. وهذا الاستدلال بهذه الرواية من هذا الوجه لا يتأتى في رواية من روى: " أدخلتهما طاهرتين ". وعلى كل حال، فليس الاستدلال بذلك القوي جداً لاحتمال الوجه الآخر في الروايتين معاً، اللهم إلا أن يضم إلى هذا دليل يدل على أنه لا يحصل الطهارة لإحداهما إلا بكمال الطهارة في جميع الأعضاء، فحينئذ يكون ذلك الدليل مع هذا الحديث مستنداً لقول القائلين بعدم الجواز - أعني: أن يكون المجموع هو المستند - فيكون هذا الحديث دليلاً على عدم اشتراط طهارة كل واحدة منهما، ويكون ذلك دالاً على أنها لا تطهر إلا بكمال الطهارة " اهـ. (¬2) شرح فتح القدير (1/ 147)، تبيين الحقائق (1/ 47، 48)، البحر الرائق (1/ 176)، المبسوط (1/ 99،100)، مراقي الفلاح (ص: 53)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 23، 24). وفي المذهب المالكية انظر الخرشي (1/ 179)، حاشية الدسوقي (1/ 143)، مواهب =

دليل الجمهور

دليل الجمهور. (60) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما (¬1). وجه الدلالة: قوله: " أدخلتهما طاهرتين " فالجمهور حملوا الطهارة على كمالها؛ لأنه إذا غسل رجله اليمنى، ثم ألبسها الخف، فقد لبس الخف، وهو محدث، ومن شرط المسح لبس الخف، وقد ارتفع حدثه، ولا يكون طاهراً إلا إذا أتم الطهارة، ولذا لا يجوز له أن يصلي، وقد بقي عليه شيء لم يغسله مما يجب غسله. ¬

= الجليل (1/ 320). وانظر في المذهب الشافعي: الأم (1/ 33)، روضة الطالبين (1/ 124)، المجموع (1/ 540)، نهاية المحتاج (1/ 186،187). وفي المذهب الحنبلي: جاء في مسائل ابن هانئ (1/ 20): " قلت: فإني توضأت، فغسلت رجلاً واحدة، فأدخلتها الخف، والأخرى غير طاهرة، ثم غسلت الأخرى، ولبست الخف. فقال لي أبو عبد الله: لا تفعل، كذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني أدخلتهما، وهما طاهرتان"، فهذه واحدة طاهرة، والأخرى غير طاهرة، تعيد الوضوء من الرأس إن كان جف الوضوء " اهـ. وانظر المحرر (1/ 12)، الإنصاف (1/ 171، 172)، كشاف القناع (1/ 126، 127). (¬1) صحيح البخاري (206) ومسلم (274).

الدليل الثاني: (61) ما رواه ابن خزيمة، قال: نا بندار وبشر بن معاذ العقدي ومحمد بن أبان، قالوا: نا عبد الوهاب بن عبد المجيد، نا المهاجر، وهو ابن مخلد أبو مخلد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلةً إذا تطهر، فلبس خفيه، أن يمسح عليهما (¬1). [إسناده ضعيف، وكلمة (فلبس) اختلف الرواة في ذكرها] (¬2). ¬

(¬1) صحيح ابن خزيمة (192). (¬2) أما سبب ضعف إسناده، فإن فيه المهاجر بن مخلد، وسبقت ترجمته. والحديث مداره على عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن المهاجر بن مخلد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه مرفوعاً. رواه بشر بن معاذ العقدي ومحمد بن أبان كما عند ابن خزيمة (192)، والدارقطني (1/ 204) عن عبد الوهاب به بلفظ: " إذا تطهر فلبس خفيه ". ورواه الشافعي، واختلف عليه، فرواه عنه الربيع عن عبد الوهاب به، كما في شرح السنة للبغوي (237) بلفظ: " إذا تطهر فلبس خفيه ". ورواه الشافعي في مسنده (ص: 17) عن عبد الوهاب، بلفظ: " أنه رخص للمسافر أن يمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة ". وليس فيه الشرط، والتعبير بالفاء. ورواه جماعة عن عبد الوهاب بلفظ: " إذا تطهر ولبس خفيه " بالواو، فلا يكون فيه دليل للجمهور، منهم: بشر بن هلال الصواف كما عند ابن ماجه (556). ومحمد بن المثنى، كما في صحيح ابن حبان (1324)، وسنن الدارقطني (1/ 194). وأبو الأشعث، والعباس بن يزيد، ومسدد، كما في سنن الدارقطني (1/ 194). =

الدليل الثالث: (62) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي، فقال: ما حاجتك؟ قال: قلت: جئت أبتغي العلم، قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من خارج يخرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضى بما يصنع. قال: جئتك أسألك عن المسح على الخفين؟ فقال: نعم، كنت في الجيش الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهور ثلاثاً إذا سافرنا، وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط ولا بول، ولا نخلعهما إلا من جنابة. الحديث. ¬

_ = فهؤلاء خمسة رواة، رووه بلفظ: " لبس خفيه وتطهر ". والواو لا تفيد ترتيباً كما هو معروف في اللغة. ورواه بندار باللفظين، تارة بلفظ: " فلبس خفيه " كما عند ابن خزيمة (192) والدارقطني (1/ 204). وتارة بلفظ: " إذا تطهر ولبس خفيه " كما عند ابن ماجه (556). ورواه بعضهم بدون اشتراط الطهارة، منهم: يحيى بن معين، كما في المنتقى لابن الجارود (87). وزيد بن الحباب، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 163). وعمر بن يزيد السياري، كما في صحيح ابن حبان (1328). والشافعي في مسنده (ص: 17) وسبق الإشارة إليها. فهؤلاء أربعة رووه عن عبد الوهاب، ولم يذكروا اشتراط الطهارة. وعليه فأكثر الرواة لم يذكروا لفط " إذا تطهر فلبس" وهو موضع الشاهد، على أن إسناده لو ثبت ضعيف كما قدمنا.

[حديث حسن، وزيادة: " إذا أدخلناهما على طهر" شاذة] (¬1). ¬

(¬1) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (4/ 239،240) والدراقطني (1/ 196،197)، والبيهقي (1/ 281،282). والحديث مداره على عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال. وزيادة " إذا أدخلناهما على طهر، وذكر التوقيت للمقيم " انفرد بها معمر، رواها عنه عبد الرزاق، وقد اختلف على عبد الرزاق، فرواه أحمد كما في المسند (4/ 239). والحسن بن أبي الربيع، كما عند الدارقطني (1/ 196)، والبيهقي (1/ 281،282). ومحمد بن يحيى، ومحمد بن نافع، كما عند ابن خزيمة (193) ومن طريقه ابن حبان (1325). كلهم رووه عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عاصم به، بذكر اشتراط إدخالهما على طهر، وتوقيت المسح للمقيم. ورواه إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق كما عند ابن حبان (1319)، وليس فيه اشتراط إدخالهما على طهر، وزاد فيه التوقيت للمقيم. وقد رواه جمع كثير من الحفاظ، عن عاصم، ولم يذكروا ما ذكره معمر، من اشتراط إدخالهما على طهر، كما لم يذكروا التوقيت للمقيم، منهم: الأول: الثوري، عن عاصم. كما في مصنف عبد الرزاق (792)، وأحمد (4/ 239)، والبيهقي (1/ 118). الثاني: ابن عيينة، عن عاصم، كما عند عبد الرزاق (795)، وأحمد (4/ 240)، والحميدي في مسنده (881)، وابن أبي شيبة (1/ 162)، والترمذي (3535)، والنسائي (126)، وابن ماجه (478)، والطحاوي (1/ 82)، والبيهقي (1/ 276). الثالث: همام، عن عاصم. كما في مسند أبي داود الطيالسي (1166)، ومسند أحمد (4/ 239). الرابع: شيبان بن عبد الرحمن، كما في سنن البيهقي (1/ 114). الخامس: أبو خيثمة، كما في سنن النسائي (127)، وسنن البيهقي (1/ 289). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = السادس: شعبة، كما في مسند أبي داود الطيالسي (1166). السابع والثامن: حماد بن زيد وحماد بن سلمة، كما في مسند الطيالسي (1166). التاسع: أبو الأحوص، كما عند الترمذي (96). العاشر: مالك بن مغول، كما عند النسائي (127). الحادي عشر: أبو بكر بن عياش، كما عند النسائي (127). الثاني عشر: مسعر، كما عند البيهقي (1/ 114،115)، إلا أنه قال: من غائط وبول وريح، وذِكْر الريح شاذ في الحديث مخالف لما رواه الجماعة من ذكر النوم، فهؤلاء اثنا عشر حافظاً كلهم اتفقوا على رواية الحديث، ولم يذكروا فيه اشتراط إدخالهما على طهر، ولم يذكروا فيه التوقيت للمقيم، ولا يعني الحكم بشذوذها في هذا الحديث ألا يكون اللفظ ثابتاً من حديث آخر، فهذا بحث آخر، المهم أن حديث عاصم ليس فيه ما زاده معمر، وهؤلاء الواحد منهم مقدم على معمر في روايته عن عاصم، فكيف وقد اجتمعوا، وقد قال الحافظ في التقريب بأن رواية معمر، عن عاصم فيها شيء، حيث قال: ثقة ثبت، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش وعاصم بن أبي النجود، وهشام بن عروة شيئاً، وكذا فيما حدث به بالبصرة اهـ. وقد تابع معمراً أبو الغريف، قال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 527): " وقد روى أبو يعلى الموصلي، ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا أبو إسامة، حدثني أبو روق، عن عطية ابن الحارث الهمداني، حدثني أبو الغريف، عن صفوان بن عسال، قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، وقال: سيروا باسم الله، قاتلوا أعداء الله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وليمسح أحدكم إذا كان مسافراً إذا أدخل رجليه، وهما طاهرتان، ثلاثة أيام ولياليها، وإن كان مقيماً فيوم وليلة. اهـ ولم أجد مسند صفوان بن عسال في مسند أبي يعلى المطبوع، فلعله رواه في كتاب آخر. وهذا إسناد ضعيف، وقد اختلف على أبي إسامة، فرواه عنه إسحاق بن أبي إسرائيل كما سبق، ويوسف بن موسى، وحوثرة بن محمد، كما في سنن البيهقي (1/ 282)، ثلاثتهم رووه عن أبي أسامة به، بذكر اشتراط إدخالهما، وهما طاهرتان. ورواه هارون بن عبد الله، كما في سننن النسائي الكبرى (8837). =

وجه الاستدلال من الحديث قوله: " إذا نحن أدخلناهما على طهور" فكلمة طهور أبلغ في الدلالة من قوله: " فإني أدخلتهما طاهرتين " لأنه هنا قد ينازع منازع، فيقول: إني لم أدخل اليمنى إلا وهي طاهرة: أي قد غسلتها بالماء، فيصدق عليه أني أدخلتها وهي طاهرة، ولو كان قبل غسل اليسرى، لكن قوله: " على طهور ": أي وأنا طاهر، والمتوضئ لا يقال له: على طهور إلا إذا أكمل الطهارة، ولهذا قال ابن خزيمة: ذكرت للمزني خبر عبد الرزاق هذا، فقال: حدثه به أصحابنا، فإنه ليس للشافعي حجة ¬

_ = والحسن بن علي الخلال الحلواني، كما في سنن ابن ماجة (2857). والحسن بن علي بن عفان العامري، كما في سنن البيهقي (1/ 276). ثلاثتهم رووه عن أبي أسامة به، بدون ذكر المسح على الخفين. ورواه أحمد (4/ 240) والطحاوي (1/ 82) من طريق عبد الواحد بن زياد، ثنا أبو روق به، وذكر فيه التوقيت للمسح على الخفين، ولم يذكر اشتراط إدخالهما على طهر. لكن رواه أحمد أيضاً (4/ 240) من طريق زهير، عن أبي روق به، بذكر اشتراط إدخالهما على طهر. فالمعروف من رواية أبي الغريف ليس فيها ذكر اشتراط إدخالهما على طهر. كما أن إسناد الحديث ضعيف، فيه أبو الغريف، قال ابن أبي حاتم: وسئل أبي عنه، فقال: كان على شرطة علي بن أبي طالب، ليس بالمشهور، قلت: هو أحب إليك أم الحارث الأعور؟ قال: الحارث أشهر، وهذا قد تكلموا فيه، وهو شيخ من نظراء أصبغ بن نباتة اهـ. الجرح والتعديل (5/ 313). قلت: أصبغ قال فيه الحافظ: متروك رمي بالرفض، والحارث الذي قدمه عليه أبو حاتم، في التقريب: كذبه الشعبي في رأيه، ورمي بالرفض، وفي حديثه ضعف. فعلى كل حال، لفظ اشتراط الطهارة ليس بمحفوظ من حديث صفوان بن عسال، والله أعلم.

دليل الحنفية على جواز المسح

أقوى من هذا، يعني: قوله: إذا نحن أدخلناهما على طهر " (¬1). الدليل الثالث: دليل نظري، قال إمام الحرمين: " تقدم الطهارة على المسح شرط بالاتفاق، والطهارة تراد لغيرها، فإن تخيل متخيل أن الطهارة شرط للمسح كان محالاً؛ لأن المسح يتقدمه الحدث، وهو ناقض للطهارة، فاستحال تقديرها شرطاً فيه مع تخلل الحدث، فوضح أن الطهارة شرط في اللبس، وكل ما شرطت الطهارة فيه شرط تقديمها بكمالها على ابتدائه (¬2) الخ. ولأن ما اعتبرت له الطهارة، اعتبر له كمالها كالصلاة، ومس المصحف، فمثله المسح على الخفين. ولأن الأول خف ملبوس قبل رفع الحدث، فلم يجز المسح عليه كما لو لبسه قبل غسل قدميه، ودليل بقاء الحدث أنه لا يجوز له أن يصلي قبل إتمام الطهارة. ولو أنه غسل قدمه اليمنى، ثم أدخلها الخف، ثم غسل اليسرى، فأدخل الخف، لم يلزمه على قول الجمهور إلا ن ينزع اليمنى مرة أخرى ثم يلبسها، فيصدق عليه أنه لبسها بعد كمال الطهارة. دليل الحنفية على جواز المسح. حمل الحنفية حديث: " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " الطهارة الكاملة وقت الحدث، لا وقت اللبس، فإذا غسل رجله اليمنى، ثم ألبسها ¬

(¬1) صحيح ابن خزيمة (1/ 97). (¬2) المجموع (1/ 542).

الخف، ثم غسل رجله اليسرى، فألبسها الخف، فإذا أحدث جاز له المسح؛ لأنه وقت الحدث يصدق عليه أنه لبس الخف على طهارة كاملة. قال الكاساني: " ولنا أن المسح إنما شرع لمكان الحاجة، والحاجة إلى المسح إنما تتحقق وقت الحدث بعد اللبس، فأما عند الحدث قبل اللبس فلا حاجة؛ لأنه يمكنه الغسل، وكذا لا حاجة بعد اللبس قبل الحدث؛ لأنه طاهر، فكان الشرط كمال الطهارة وقت الحدث بعد اللبس، وقد وجد" (¬1). ووافق قول ابن حزم وابن تيمية قول الحنفية، وإن كانا يختلفان معهم في توجيه الاستدلال، فهما يريان أن الرجل إذا غسل رجله اليمنى، ثم أدخلها الخف يصدق عليه أنه أدخلها الخف، وهي طاهرة، ثم إذا غسل رجله الأخرى في ساعته، ثم ألبسها الخف، فقد أدخلها، وهي طاهرة، فصدق على من هذه صفته أنه أدخل رجليه الخفين، وهما طاهرتان، فله أن يمسح عليهما بظاهر الخبر، والقائل بغير هذا القول قائل بخلاف هذا الحديث، وكوننا نأمره أن ينزع ثم يلبس من غير أن يلزمه غسل عبث محض ينزه الشارع عن الأمر به، ولا مصحلة للمكلف في القيام به. والدليل على أن طهارته شرعية أنه لو صلى قبل أن يحدث فطهارته صحيحة بالإجماع، وليس لبس الخف كمس المصحف حتى نقول: لا تلبس حتى تتم غسل الرجل الأخرى. والقول هذا أقوى، والأول أحوط، والله أعلم. ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 9).

الشرط الثاني عشر يشترط إذا كان سليم القدمين أن يمسح على الخفين معا

الشرط الثاني عشر يشترط إذا كان سليم القدمين أن يمسح على الخفين معاً

الشرط الثاني عشر يشترط إذا كان سليم القدمين أن يمسح على الخفين معاً لو لم يكن للرجل إلا رجل واحدة جاز المسح عليها بلا خلاف (¬1). ولو بقي من الرجل الأخرى بقية مما يجب غسله لم يمسح على الأخرى حتى يسترها بما يجوز المسح عليه. ولو كانت إحدى رجليه عليلة بحيث لا يجب غسلها، فلبس الخف في الصحيحة، فقطع الدارمي من الشافعية بصحة المسح عليها (¬2). وقيل: لا يمسح، وصححه النووي (¬3). والأول: أصح؛ لأنه لما كان معذوراً في خلعها للعلة، جاز المسح على الصحيحة، كما لو كانت له رجل واحدة. وإن كان الرجل سليم القدمين، ولبس خفاً في رجل واحدة، فأخشى ألا يصح مسحه، وقد نقل النووي الإجماع على أنه لا يمسح (¬4)، ¬

(¬1) حكاه النووي في المجموع (1/ 561). وقال في الفروع (1/ 158): " ويجوز المسح حتى لزمن، وامرأة، وفي رجل واحدة إذا لم يبق من فرض الأخرى شيء ". ونقله المرداوي في الإنصاف (1/ 170). (¬2) روضة الطالبين (1/ 133). (¬3) المجموع (1/ 561). (¬4) قال في المجموع (1/ 523): " وفيه تنبيه على مسألة مهمة من أصول الباب، وهي أنه لو لبس خفاً في رجل دون الأخرى، ومسح عليه، وغسل الأخرى لم يجز بلا خلاف ".

ولأن الإذن ورد بالمسح على الخفين، لا على أحدهما، وهو منهي عن المشي في نعل واحدة، ومثلها المشي في خف واحدة، (63) قال البخاري رحمه الله قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يمش أحدكم في نعل واحدة، ليحفهما جميعاً، أو لينعلهما جميعاً، ورواه مسلم (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (5855)، ومسلم (1774).

الشرط الثالث عشر يشترط أن يكون المسح على الخفين وما فيه معناهما

الشرط الثالث عشر يشترط أن يكون المسح على الخفين وما فيه معناهما

الشرط الثالث عشر يشترط أن يكون المسح على الخفين وما فيه معناهما فلا يمسح على البرقع في الوجه، ولا على القفازين في اليدين، ولا على ما تطلي به المرأة أظفارها (¬1). قال النووي: أجمع العلماء على أنه لا يجوز المسح على القفازين في اليدين والبرقع في الوجه " (¬2). (64) قلت: روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا قيس بن حفص، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، قال: حدثني أبو الضحى، قال: حدثني مسروق، قال: حدثني المغيرة بن شعبة، قال: انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - لحاجته، ثم أقبل، فتلقيته بماء، فتوضأ، وعليه جبة شأمية، فمضمض، واستنشق، وغسل وجهه، فذهب يخرج يديه من كميه، فكانا ضيقين، فأخرج يديه من تحت الجبة، فغسلهما، ومسح برأسه وعلى خفيه (¬3). فهنا حين ضاقت أكمام الجبة لم يمسح على يديه، بل أخرج يده من أسفلها مع ما في ذلك من المشقة، ولو كان كل شيء مقيساً على الخف ¬

(¬1) الاختيار لتعليل المختار (1/ 25)، مراقي الفلاح (ص: 55)، حاشية ابن عابدين (1/ 457)، شرح فتح القدير (1/ 107)، المبسوط (1/ 107)، المجموع (1/ 503)، كشاف القناع (1/ 113). (¬2) المجموع (1/ 503). (¬3) صحيح البخاري (. . .)، ورواه مسلم (274).

لمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على يديه، خاصة أنه كان في سفر أيضاً. وينبغي التنبه إلى أن ما تطلي به المرأة اليوم أظفارها بما يسمى بالمناكير يجب إزالته عند الوضوء؛ لأنه يمنع وصول الماء إلى الأظفار، وبالتالي لا يصح معه الوضوء، فتحاول المرأة أن تزيله قبل الوضوء، أو أن تضعه في الوقت الذي لا يجب عليها صلاة، كما لو كانت حائضاً، ونفساء ونحوهما، والله أعلم.

فرع إذا لبس الخفين، وهو يدافع الأخبثين فقيل: يكره، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يكره، ورجحه النووي (¬2). دليل الحنابلة: قالوا: لأن الصلاة مكروهة بهذه الطهارة، واللبس يراد ليسمح عليه للصلاة (¬3). والراجح عدم الكراهة، لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وقياس اللبس على الصلاة قياس مع الفارق، وذلك أن الصلاة إذا صلى، وهو يدافع الأخبثين فإن ذلك يذهب الخشوع، الذي هو مقصود الصلاة، وليس كذلك من لبس الخف (¬4). وقال ابن قدامة: ولأن الطهارة كاملة فأشبه ما لو لبسه إذا خاف غلبة النعاس (¬5). ¬

(¬1) قال في الفروع (1/ 158) " ويكره في المنصوص لبسه مع مدافعة أحد الأخبثين ". (¬2) المجموع (1/ 561). (¬3) المغني (1/ 179). (¬4) المجموع (1/ 561). (¬5) المغني (1/ 179).

الشرط الرابع عشر هل تشترط النية للمسح على الخفين

الشرط الرابع عشر هل تشترط النية للمسح على الخفين

الشرط الرابع عشر هل تشترط النية للمسح على الخفين اختلف العلماء في اشتراط النية في المسح على الخفين، فقيل: لا تشترط، وهو مذهب الحنفية (¬1). وذهب الجمهور إلى أن النية شرط (¬2). واختلافهم في هذه المسألة مبني على الخلاف في الطهارة من الحدث، هل تشترط لها النية أم لا؟ فقيل: النية شرط لطهارة الحدث الأصغر والأكبر، بالماء والتيمم. وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، وهو الراجح. وقيل: سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في التيمم، وهو ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 12)، تبيين الحقائق (1/ 54)، البحر الرائق (1/ 199)، الفتاوى الهندية (1/ 33). (¬2) انظر العزو إلى اشتراط النية في الوضوء في العزو التالي. (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 93)، الخرشي (1/ 129)، الشرح الصغير (1/ 114،115)، القوانين الفقهية (ص:19)، منح الجليل (1/ 84)، مواهب الجليل (1/ 230)، الكافي (1/ 19). (¬4) المجموع (1/ 355)، الروضة (1/ 47)، مغني المحتاج (1/ 47)، نهاية المحتاج (1/ 156)، الحاوي الكبير (187)، متن أبي شجاع (ص:5). (¬5) معونة أولي النهى شرح المنتهى (1277)، الممتع شرح المقنع (1/ 176)، المحرر (1/ 11)، كشاف القناع (1/ 85)، المغني (1/ 156)، الكافي (1/ 23)، المبدع (1/ 116).

أدلة الجمهور على أن النية شرط

مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بلا نية. وهو قول الأوزاعي (¬2). أدلة الجمهور على أن النية شرط. الدليل الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...} إلى أن قال: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬3). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى قد شرط في صفة فعل الطهارة الصغرى والكبرى إرادة الصلاة، والشرطية مأخوذة من لفظ: " إذا " في قوله: " إذا قمتم " فإذا كان قد شرط إرادة الصلاة في فعل الطهارة كان من فعله مريداً للتبرد، أو النظافة لم يفعله على الشرط الذي شرطه الله، وذلك يوجب أن لا يجزئه. وقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} (¬4). أي أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (¬5). أي إذا ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 32)، البناية في شرح الهداية (1/ 173)، تبيين الحقائق (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 24)، بدائع الصنائع (1/ 19)، مراقي الفلاح (ص:29). (¬2) الأوسط لابن المنذر (1/ 370). (¬3) المائدة: 6. (¬4) المائدة: 6. (¬5) النحل: 98.

الدليل الثاني

أردت قراءته. قال ابن قدامة: " قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} أي للصلاة، كما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل: أي له. وإذا رأيت الأسد فاحذر: أي منه " (¬1). الدليل الثاني: (65) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: قال النووي: " لفظة: (إنما) للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ودليل آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإنما لكل امرئ ما نوى " هذا لم ينو الوضوء، فلا يكون له " (¬3). ¬

(¬1) المغني (1/ 157). (¬2) صحيح البخاري (6689)، ومسلم (1907). (¬3) المجموع (1/ 356)

الدليل الثالث

وقال ابن قدامة: " نفى أن يكون له عمل شرعي بدون نية " (¬1). الدليل الثالث: قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (¬2). والإخلاص: إنما هو النية، والوضوء من الدين، فوجب أن لا يجزئ بغير نية. فإن قيل: ما دليلكم على أن الوضوء من الدين؟ فالجواب: (66) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان ابن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها (¬3). فإذا كان الإيمان عبادة فشطره كذلك. والوضوء عبادة مستقلة رتب الشارع عليها ثواباً عظيماً، وإذا كانت عبادة كانت مفتقرة إلى نية حتى تتميز عن العادة. والدليل على أنه رتب على الوضوء ثواباً ما جاء من الأحاديث في ¬

(¬1) المغني (1/ 156) (¬2) البينة، آية: 5. (¬3) صحيح مسلم (223).

الدليل الرابع

فضل وثواب هذه العبادة ومنها (67) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سويد بن سعيد عن مالك ابن أنس ح وحدثنا أبو الطاهر واللفظ له، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن مالك ابن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب (¬1). فدل على أن الوضوء عبادة، وإذا كانت كذلك لا تصح إلا بنية، لأنها قربة إلى الله تعالى، وطاعة له، وامتثال لأمره، ولا يحصل ذلك بغير نية. الدليل الرابع: القياس على طهارة التيمم، بجامع أن كلاً منها طهارة عن حدث. الدليل الخامس: الشريعة كلها إما مطلوب أو مباح، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى، فلا معنى للنية فيه، والمطلوب نواه وأوامر، فالنواهي يخرج الإنسان من عهدتها وإن لم يشعر بها، فضلاً عن القصد إليها. فزيد المجهول حرم الله علينا دمه وعرضه، وقد خرجنا عن العهدة وإن لم نشعر به. نعم إن شعرنا ¬

(¬1) صحيح مسلم (244).

أدلة من قال: إن النية مستحبة وليست بشرط

بالمحرم ونوينا تركه حصل لنا الثواب مع الخروج من العهدة. والأوامر منها ما يكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون، والودائع، ونفقة الزوجات والأقارب، فإن المقصود من هذه الأمور انتفاع أربابه، وذلك لا يتوقف على قصد الفاعل، فيخرج الإنسان من عهدتها وإن لم ينوها. ومنها ما لا يكون صورة فعله كافية في حصول المقصود كالصلوات، والصيام، والنسك، فإن المقصود منها تعظيم الله تعالى والخضوع له، وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله، وهذا هو الذي أمر الشرع فيه بالنيات، والطهارة من هذا الباب (¬1). أدلة من قال: إن النية مستحبة وليست بشرط. الدليل الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} إلى قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬2). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالوضوء والغسل أمراً مطلقاً دون قيد النية ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل، فمن غسل أعضاءه، ومسح رأسه فقد امتثل الأمر وصح وضوءه، وكذلك من غسل بدنه (¬3). ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 132). (¬2) المائدة آية (6). (¬3) انظر بدائع الصنائع (1/ 19).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1). وجه الاستدلال: نهى الجنب عن قربان الصلاة إذا لم يكن عابر سبيل إلى غاية الاغتسال، وأطلق ولم يشترط النية، فيقتضي انتهاء حكم النهي عند الاغتسال، ولو لم يكن معه نية (¬2). الدليل الثالث: قال تعالى بعد أن ذكر طهارة الوضوء والغسل: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬3). وحصول الطهارة لا يقف على النية، بل على استعمال المطهر في محل قابل للطهارة (¬4). يوضح ذلك أيضاً أن النية إن اعتبرت بجريان الماء على الأعضاء فهو حاصل نوى أو لم ينو. وإن اعتبر لإزالة الحدث المتعلق بالأعضاء فإن الخبث المتعلق بها أقوى من الحدث، وزوال هذا الأقوى لا يتوقف على النية، فكيف للأضعف. ¬

(¬1) النساء آية (43) (¬2) انظر المرجع السابق، ونفس الصفحة. (¬3) المائدة آية: 6. (¬4) انظر بدائع الصنائع (1/ 19).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (68) ما رواه أبو داود (¬1)، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟. فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، وأدخل اصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم " أو " ظلم وأساء ". [إسناده حسن، وزيادة أو نقص وهم من الراوي] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (135). (¬2) الحديث مداره على موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وقد تكلمت على إسناد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في حديث رقم (19) من كتابي الحيص والنفاس وبينت أن إسناده حسن إذا صح الإسناد إلى عمرو. وأما موسى بن أبي عائشة قال الحميدي، عن ابن عيينة: حدثني موسى بن أبي عائشة، وكان من الثقات. الجرح والتعديل (29/ 90). وقال ابن معين: ثقة، كما في رواية إسحاق بن منصور، وعباس الدوري. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان ثبتاً. مشاهير علماء الأمصار (787). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 404). وقال يعقوب بن سفيان كوفي ثقة. تهذيب التهذيب (10/ 314). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: تريبني رواية موسى بن أبي عائشة حديث عبيد الله بن عبد الله، في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: ما تقول فيه. قال: صالح الحديث. قلت: يحتج بحديثه؟ قال: يكتب حديثه. الجرح والتعديل (8/ 157). قال ابن حجر تعقيباً: عنى أبو حاتم: أنه اضطرب فيه، وهذا من تعنته، وإلا فهو حديث صحيح. تهذيب التهذيب (10/ 314). وفي التقريب: ثقة عابد وكان يرسل. ويرويه عن موسى رجلان أبو عوانة، وسفيان الثوري. أما رواية أبي عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري، فأخرجها أبو داود كما هو في إسناد الباب (135). ومن طريقه البغوي في شرح السنة (1/ 444،445) والبيهقي في السنن (1/ 79). وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 36) قال حدثنا أحمد بن داود، ثنا مسدد، قال ثنا أبو عوانة به. وهذا الإسناد رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، إلا أن فيه "زيادة" "أو نقص". وبعضهم يقتصر على قوله: " فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم " وهذه الزيادة وهم في الحديث ولا شك؛ لأن الوضوء جائز مرة مرة، ومرتين مرتين. قال السندي في حاشيته على سنن النسائي (1/ 88): " والمحققون على أنه وهم، لجواز الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين ". ولم يختلف على أبي عوانة في ذكر كلمة: "أو نقص". ورواه سفيان عن موسى بن أبي عائشة واختلف على سفيان. فرواه ابن أبي شيبة (1/ 16) ح58 حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة به بلفظ: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء، فدعا بماء فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: "هكذا الطهور، فمن زاد أو نقص فقد تعدى وظلم ". وهذه متابعة لأبي عوانة بذكر كلمة (أونقص). وخالفه يعلى بن عبيد، والأشجعي فروياه عن سفيان به بدون قوله: (أو نقص). فقد أخرجه أحمد (2/ 180): حدثنا يعلى ـ يعني ابن عبيد ـ حدثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة به، ولفظه: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: "هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم ". =

وجه الاستدلال: فهذا الرجل وهو أعرابي كما في بعض الروايات، كان يجهل الطهور، وقد سأل عن الوضوء فلو كانت النية من شرائطه التي يتوقف عليها صحة الوضوء لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - النية له. فلما لم يذكرها علم أنها ليست بشرط. وأجيب: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم المسيء صلاته كيفية الصلاة، ولم يذكر له ¬

_ = وأخرجه النسائي في الصغرى (140) وفي الكبرى (90،173) أخبرنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا يعلى به. وأخرجه في الكبرى أيضاً (89) أخبرنا أحمد بن سليمان الرهاوي، قال: حدثنا يعلى به. وأخرجه ابن ماجه (422) حدثنا علي بن محمد، حدثنا خالي يعلى به، إلا أنه قال: " فقد أساء أو تعدى أو ظلم " فعبر بـ (أو) ولفظ الجماعة بالواو. وأما رواية الأشجعي فقد رواها ابن الجارود (75) وابن خزيمة (174) قالا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا الأشجعي، عن سفيان به. وقال الحافظ في الفتح (1/ 233): إسناده جيد، لكن عده مسلم في جملة ما أنكر على عمرو بن شعيب؛ لأن ظاهره ذم النقص من الثلاث، وأجيب بأنه أمر سيء، والإساءة تتعلق بالنقص، والظلم بالزيادة. وقيل: فيه حذف، تقديره: من نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد، من طريق المطلب بن حنطب مرفوعاً، الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً، فإن نقص من واحدة، أو زاد على ثلاث فقد أخطأ، وهو مرسل رجاله ثقات. وأجيب عن الحديث أيضا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم مقتصر على قوله: (فمن زاد) فقط كذا رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره. ومن الغرائب ماحكاه الشيخ أبو حامد الاسفراييني عن بعض العلماء، أنه لا يجوز النقص من الثلاث، وكأنه تمسك بظاهر الحديث المذكور، وهو محجوج بالإجماع. اهـ كلام الحافظ رحمه الله.

الدليل الخامس

النية، وقد قلتم بوجوبها للصلاة فما الفرق؟ الدليل الخامس: (69) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمر والناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " إنما يكفيك " ساقه مساق الحصر، ولم يذكر النية. قلت: السؤال عن الكيفية، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - لعمار كما في البخاري، ومسلم (¬2) في صفة التيمم: " إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا " وذكر صفة التيمم، ولم يذكر له النية، وأنتم تقولون باشتراط النية في التيمم. الدليل السادس: القياس على إزالة النجاسة، فإذا كانت طهارة الخبث لا تتوقف على ¬

(¬1) مسلم (330). (¬2) البخاري (347) ومسلم (368).

الدليل السابع

نية فعدم توقف طهارة الحدث على النية أولى؛ وإنما قلنا إن طهارة الخبث أولى؛ لأن سببها وموجبها أمر حسي، وخبث مشاهد؛ ولأنه لا بدل لها من التراب، فقد ظهرت قوتها حساً وشرعاً. وأجيب: هناك فرق بين طهارة الحدث، وطهارة الخبث، فالأولى من باب فعل المأمور، ولم يكن الموجب لها نجاسة حسية، وتخصيصها بالأعضاء الأربعة في الصغرى تعبد، أما طهارة الخبث فالمطلوب التخلي منها، فهي من باب التروك، ولهذا لو صلى ناسياً حدثه أعاد، بخلاف طهارة الخبث، فما كان من باب فعل المأمور وجبت له النية كالصلاة، وما كان من باب التروك لم تجب كالنجاسة وترك الزنا ونحوهما. الدليل السابع: قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (¬1). فإذا كان الماء خلق طهوراً، فهذه صفته وطبيعته، كما خلق الماء مروياً، وخلق مبرداً سائلاً، كل ذلك طبعه ووصفه الذي جعل عليه، فكما أنه لا يحتاج إلى النية في حصول الري والتبريد، فكذلك في حصول التطهير، فإذا كان الماء خلق طاهراً، وطاهريته لا تتوقف على نية، فكذلك طهوريته (¬2). الدليل الثامن: المراد من الوضوء النظافة والوضاءة، وقيام العبد بين يدي الرب ¬

(¬1) الفرقان، آية: 48. (¬2) بدائع الفوائد ـ ابن القيم (3/ 186).

تبارك وتعالى على أكمل أحواله، مستور العورة، متجنباً للنجاسة، نظيف الأعضاء وضيئها، وهذا حاصل باتيانه بهذه الأفعال، نواها أو لم ينوها، يوضحه أن الوضوء غير مراد لنفسه، بل مراد لغيره، والمراد لغيره لا يجب أن ينوى؛ لأنه وسيلة. وإنما تعتبر النية في المراد لنفسه إذ هو المقصود المراد (¬1). فالراجح قول الجمهور وأن النية شرط في طهارة الحدث، وقياسها على طهارة الخبث لا يصح، ونية الوضوء كافية، ولا يحتاج المسح على الخفين إلى نية مستقلة، بل هو داخل في نية الوضوء، كأفعال الصلاة، فالصلاة لا بد لها من نية، وأفعال الركوع والسجود لا يحتاجان إلى نية خاصة، بل هما داخلان في نية الصلاة، ومثله أفعال الحج، والله أعلم. ¬

(¬1) بدائع الفوائد (3/ 178).

الباب الثالث في صفة المسح

الباب الثالث في صفة المسح ويشتمل على خمسة فصول

الفصل الأول في المقدار المجزئ في المسح على الخفين

الفصل الأول في المقدار المجزئ في المسح على الخفين فقيل: إن مسح خفه بأصبع أو أصبعين لم يجزه، وإن مسح بثلاثة أصابع أجزأه، وهو مذهب الحنفية. وقيل: يجب استيعاب أعلى الخف بالمسح، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: يجزئ مقدار ما يقع عليه اسم المسح في محل الفرض، وهو مذهب الشافعية (¬2)، وبه قال سفيان، (¬3) وهو مذهب داود الظاهري، ورجحه ابن حزم (¬4). وقيل: يجب أن يمسح أكثر ظاهر الخف، وهو مذهب الحنابلة. دليل من قال يمسح بثلاثة أصابع. الدليل الأول: (70) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي ¬

(¬1) قال الباجي في المنتقى (1/ 82): " وهل عليه استيعاب الممسوح من الخف بالمسح أم لا؟ الظاهر من المذهب وجوب الاستيعاب ". (¬2) قال في الأم (8/ 103) " وكيفما أتى بالمسح على ظهر القدم بكل اليد، أو ببعضه أجزأه ". (¬3) المحلى (1/ 343). (¬4) قال في المحلى: مسألة: 222 (1/ 343): " وما مسح من ظاهرهما بأصبع أو أكثر أجزأ ".

العلاء (¬1)، قال: رأيت قيس بن عباد بال، ثم أتى دجلة، فمسح على الخف، وفرج بينهما، فرأيت أثر أصابعه في الخف (¬2). [إسناده ضعيف، فيه أبو العلاء يريم] (¬3) ¬

(¬1) في المطبوع من مصنف عبد الرزاق (عن العلاء) قال محقق عبد الرزاق في الأصل (أبو العلاء) والصواب ما أثبتناه، وهو العلاء بن عرار كما في سنن البيهقي. قلت: بل ما جاء في الأصل هو الصواب، والذي أوقع المحقق في الخطأ هو رواية البيهقي، وهي ضعيفة جداً، فقد رواه البيهقي (1/ 293) من طريق محمد بن يونس، ثنا روح، عن أبي عون، عن العلاء بن عرار، عن قيس بن سعد به. وأخرجه أيضاً عن محمد بن يونس، ثنا روح، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن العلاء بن عرار، عن قيس به. ومحمد بن يونس هو الكديمي، وهو متروك، واتهمه بعضهم بالوضع، وانفرد بهذا الطريق فلا يفرح بهذه المتابعة، والله أعلم. (¬2) المصنف (1/ 219) رقم (852). (¬3) فيه أبو العلاء يريم والد هبيرة، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/ 313)، ولم يذكر راوياً عنه إلا أبا إسحاق، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 166) حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق به. وفيه قصة. وأخرجه مسدد كما في المطالب العالية (102) والطبراني في الكبير (18/ 347) من طريقين يونس بن أبي إسحاق، وأخرجه مسدد كما في المطالب العالية عن سفيان، كلاهما عن أبي إسحاق به. وأخرجه البخاري في تاريخه (8/ 427) عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق به. ومن طريق إسرائيل أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (14/ 357). وأخرجه ابن سعد في الطبقات (6/ 53) من طريق الأجلح، عن إبي إسحاق به بنحوه.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (71) ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال: رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال من الأثرين: قوله في الأثرين: " فرأيت أثر أصابعه "، والأصابع: اسم جمع، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة، فكان هذا تقديراً للمسح ثلاثة أصابع اليد. وقدرناها بأصابع اليد؛ لأنها آلة المسح؛ ولأن الفرض يتأدى بها بيقين؛ لأنها ظاهرة محسوسة، فأما أصابع الرجل فمستترة بالخف، لا يعلم مقداره إلا بالحرز والظن، فكان التقدير بأصابع اليد أولى. دليل من قال يجب إستيعاب ظاهر الخف. استدلوا بالأحاديث الدالة على مسح ظاهر الخف، فإنها نصت على مسح الظاهر، ولو كان المقصود أكثر الظاهر أو بعضه لنقل. منها: ¬

(¬1) المصنف (851). (¬2) ورواه ابن أبي شيبة (1/ 166)، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: المسح على الخفين خطاً بالأصابع. وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن رواية هشام عن الحسن فيها كلام، قيل: إنه كان يرسل عنه. ومن طريق فضيل بن عياض أخرجه الدارقطني (1/ 195) إلا أنه قال: خطط بالأصابع.

(72) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن على رضي الله تعالى عنه قال: ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهر خفيه (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (163). (¬2) مدار هذا الحديث على عبد خير، عن علي مرفوعاً، ورواه عن عبد خير ثلاثة: أبو إسحاق السبيعي، وأبو السوداء عمرو بن عمران النهدي، والسدي. أما رواية أبي إسحاق السبيعي، فرواه عنه الأعمش، واختلف عليه: فرواه وكيع، وعيسى بن يونس، عن الأعمش به، لا يختلفون في لفظه، ولا يذكرون المسح على الخفين، ولفظه: " كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهرهما ". ورواه حفص بن غياث، عن الأعمش به، تارة بالمسح على القدمين، وتارة بالمسح على الخفين. ورواه يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، بذكر المسح على الخفين، ولم يختلف عليه فيه، ولذا اخترتها أن تكون في المتن. وكان ممكن أن يكون هذا الاختلاف من قبل الأعمش؛ فإن روايته عن أبي إسحاق فيها كلام، لكن جاء المسح على القدمين من غير طريق الأعمش، فرواه الثوري، عن أبي إسحاق به بلفظ: " لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر القدمين لرأيت أن أسفلهما أو باطنهما أحق ". كما رواه إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق بذكر المسح على القدمين، لا على الخفين. فالثوري وإبراهيم بن طهمان يرويانه عن أبي إسحاق بذكر المسح على ظاهر القدمين لا يختلف عليهما فيه، ولم يتعرضا لذكر الخفين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه أبو نعيم عن يونس، عن أبي إسحاق، واختلف على أبي نعيم فيه: فرواه شعيب بن أيوب، عن أبي نعيم، به بذكر المسح على القدمين، لا على الخفين. ورواه أحمد، عن أبي نعيم به، فخالف من سبق، وانفرد عنهم بذكر النعلين، ولفظه: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على النعلين، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت، لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما ". هذا فيما يتعلق برواية أبي إسحاق، ولا يمكن أن يقال: إن هذا جاء من تغير أبي إسحاق، لأن من الرواة عنه سفيان الثوري، وهو من أصحابه القدماء. أما رواية أبي السوادء، عن عبد خير، عن علي، فذكرت مسح القدم، لا مسح الخف، فخرج أبو إسحاق من عهدته بهذه المتابعة، إلا أنه ذكر غسل الظاهر، ولم يذكر مسح الظاهر، ومعلوم أنه لو كان الأمر يتعلق بالخف لذكر المسح؛ لأنه لم يقل أحد أنه يغسل ظاهر الخف إلا أن يحكم بشذوذ هذه اللفظة، وهو أقرب، قال: توضأ علي، فغسل ظاهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل ظهور قدميه، لظننت أن بطونهما أحق. وسنده صحيح. وأما رواية السدي، عن عبد خير، فجاءت من طريق شريك، عن السدي به، واختلف على شريك فيه، فرواه محمد بن سعيد الأصبهاني، عن شريك بذكر مسح القدم، وليس مسح الخف. ورواه إسحاق بن يوسف، عن شريك به، بمثله إلا أنه زاد: " هذا وضوء من لم يحدث "، وهذه الزيادة ليست محفوظة من هذا الحديث، لكنها محفوظة من حديث آخر، ولعله اختلط الحديثان على شريك بن عبد الله، وهو سيء الحفظ. هذا ملخص الاختلاف في متن الحديث، فإما أن يقال: إنه يوجب الاضطراب، والمضطرب ضعيف. أو يحمل من قال: بالمسح على ظاهر القدمين بالمسح عليه، وفيه الخف، وهذا أرجح، ولذلك جاء في بعضها الجمع بين المسح على ظاهر القدم، مع ذكر الخف مما يوحي بأن المراد بظاهر القدم هو ظاهر الخف، فقد جاء في رواية إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = " كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على ظهر قدميه على خفيه " فتبين أن مراده من قوله: " ظاهر القدمين " أنه يريد ظاهر الخفين كما صرح به في آخر الحديث. وقال الدارقطني في العلل (4/ 46): " والصحيح في ذلك قول من قال: كنت أرى باطن الخفين أحق بالمسح من أعلاهما "، وكذا رجح البيهقي في السنن (1/ 292). قلت: وينبغي أن يحكم بشذوذ ذكر الغسل لظهور القدمين، وزيادة النعلين في هذا الحديث خاصة، ولا يعني أن المسح على النعلين ليس محفوظاً من حديث آخر، هذا ملخص ألفاظ هذا الحديث في الجملة، وإليك تخريجها من كتب السنة: الحديث رواه ابن أبي شيبة (1/ 25) رقم 183 في باب المسح على القدمين، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي قال: لو كان الدين برأي كان باطن القدمين أحق بالمسح على ظاهرهما ولكن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح ظاهرهما ". وهذا يعني أن ابن أبي شيبة فهم من الحديث مسح القدمين من غير خفين؛ لأنه خرجه في باب من يرى مسح القدمين يعني بلا غسل، ثم أعقبه في باب غسل القدمين. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (1/ 114) حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا وكيع به. وقد اختلف على الأعمش في متنه، فرواه وكيع كما سبق، وتابعه عيسى بن يونس كما في سنن النسائي الكبرى (119)، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عيسى بن يونس، عن الأعمش به. فاتفق وكيع وعيسى بن يونس في روايتهما عن الأعمش، بأن المسح يتعلق بالقدم، وليس فيه ذكر الخف. ورواه حفص، عن الأعمش، واختلف على حفص فيه: فرواه ابن أبي شيبة (1/ 165) رقم 1895، قال: حدثنا حفص، عن الأعمش، به بلفظ: " لو كان الدين بالرأي كان باطن القدمين أولى وأحق بالمسح من ظاهرهما، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح ظاهرهما. وخالف ابْنَ أبي شيبة كلُ من أبي هشام الرفاعي، وإبراهيم بن زياد (سبلان)، ومحمد بن العلاء، كلهم رووه عن حفص، عن الأعمش، بذكر المسح على الخفين، وهاك ألفاظها: فرواه أبو داود (164) حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا حفص به، بلفظ: " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه. لكن رواه أبو داود (164) عن محمد بن العلاء به، بدون ذكر المسح على الخفين، بلفظ: " لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرهما. ورواه الدارقطني (1/ 199) من طريق أبي هشام الرفاعي، وإبراهيم بن زياد (سبلان) وسفيان بن وكيع، ثلاثتهم عن حفص به، بذكر المسح على الخفين. وأخرجه البيهقي (1/ 292) من طريق إبراهيم بن زياد به. ورواه يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، بذكر المسح على الخفين كما في سنن أبي داود (163)، انظر سنده في حديث الباب (ما كنت أرى أن باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهر خفيه). ورواه الدارقطني في العلل (4/ 74) حدثنا محمد بن مخلد، قال: ثنا أحمد بن عبد الله الحداد، قال: ثنا خلف بن سالم، ثنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي، قال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر القدمين لرأيت أن أسفلهما وباطنهما أحق ". - فشيخ الدارقطني محمد بن مخلد، ثقة، انظر تاريخ بغداد (3/ 310)، والسير (15/ 256). - وأحمد بن عبد الله الحداد ثقة، انظر تاريخ بغداد (4/ 217). - وباقي رجال الإسناد إلى أبي إسحاق كلهم ثقات. كما رواه إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق به، بلفظ: " كنت أرى أن باطن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على ظهر قدميه على خفيه، أخرجه البيهقي (1/ 292) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو الطيب محمد بن عبد الله الشعري، ثنا محمش بن عصام، ثنا حفص بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن طهمان به. ورواه أبو نعيم، عن يونس، عن أبي إسحاق، واختلف على أبي نعيم: فرواه البيهقي (1/ 292) من طريق شعيب بن أيوب، ثنا أبو نعيم به، بلفظ: رأيت علياً توضأ، ومسح، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهر القدمين لرأيت أن أسفلهما أو باطنهما أحق بذلك. ورواه أحمد (1/ 148) حدثنا أبو نعيم به، بلفظ: " رأيت علياً توضأ، ومسح على النعلين، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما. فجعل المسح على النعلين، لا على ظاهر القدمين، ولا على الخفين، وهذا اللفظ بذكر النعلين لا أعلم أحداً تابع فيه أبا نعيم، فهي رواية شاذة، والله أعلم. ورواه غير أبي إسحاق عن عبد خير، ولم يذكر الخفين، فخرج أبو إسحاق من العهدة، فقد رواه عبد الرزاق في المصنف (57) عن ابن عيينة، عن أبي السوداء، قال: سمعت ابن عبد خير يحدث عن أبيه، قال: رأيت علياً يتوضأ، فجعل يغسل ظهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل ظهر قدميه لرأيت باطن القدمين أحق بالغسل من ظاهرهما. وأخرجه الحميدي (47) عن سفيان به. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 114) حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا سفيان به. ورواه النسائي في السنن الكبرى (120) أنبا إسحاق بن إبراهيم، أنبا سفيان به. وهذا اللفظ شاذ أيضاً؛ لأنه ذكر غسل ظاهر القدمين، ومعلوم أنه لو كان الحديث عن الغسل، لما كان هناك فرق بين ظاهر القدم وباطنه، ولكن الحديث عن المسح، ولم يذكر الغسل إلا في هذا الطريق، فهو شاذ، والله أعلم. =

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: فهذا الحديث نص على مسح ظاهر الخف، وهو دليل على وجوب استيعاب ظاهر الخف، ولو كان يغني أكثر الظاهر لنقل. الدليل الثاني: (73) ما رواه أحمد، قال: أبي ثنا إبراهيم بن أبي العباس، ثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن عروة، قال: قال المغيرة بن شعبة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهور الخفين. قال عبد الله: قال أبي: حدثنا سريج والهاشمي أيضاً (¬1). [تفرد بذكر المسح على ظهور الخفين عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفيه لين، وباقي رجاله ثقات] (¬2). ¬

= هذا ما يتعلق بتخريج الحديث، والراجح كما قدمت أن من ذكر مسح ظاهر القدم عنى به مسح الخف. والله أعلم. (¬1) المسند (4/ 246،247). (¬2) عبد الرحمن بن أبي الزناد، جاء في ترجمته: قال ابن المديني: ما حدث بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون ورأيت عبد الرحمن بن مهدي يخط على أحاديثه، وكان يقول في حديثه عن مشيختهم فلان وفلان وفلان، قال: ولقنه البغداديون عن فقهائهم. تهذيب التهذيب (6/ 155). وقال ابن المديني: كان عند أصحابنا ضعيفاً. تاريخ بغداد (10/ 228). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (367). وقال ابن عدي: وبعض ما يرويه لا يتابع عليه، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (4/ 274). وقال عمرو بن على: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن عبد الرحمن بن أبى الزناد. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الضعفاء الكبير (2/ 340). وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبى عن ابن أبى الزناد، فقال: كذا وكذا - يعنى ضعيف - المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان ممن ينفرد بالمقلوبات عن الأثبات، وكان ذلك من سوء حفظه وكثرة خطئه، فلا يجوزالاحتجاج بخبره إذا انفرد، فأما فيما وافق الثقات فهو صادق في الروايات يحتج به. المجروحين (2/ 56). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث وكان يضعف لروايته عن أبيه. الطبقات الكبرى (7/ 324). وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، وفي حديثه ضعف. تهذيب التهذيب (6/ 155). ولخص حاله الذهبي، فقال: من أوعية العلم، لكنه ليس بالثبت جداً مع أنه حجة في هشام بن عروة. تذكرة الحفاظ (1/ 247). وفي التقريب: صدوق، تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً من السابعة، ولي خراج المدينة فحُمِدَ. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه ابن الجارود في المنتقى (85) والدارقطني (1/ 195) من طريق الهاشمي: سليمان بن داود، عن ابن أبي الزناد به. وأخرجه الترمذي (98) حدثنا علي بن حجر، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد. واختلف على ابن أبي الزناد فيه: فرواه عنه سليمان بن داود الهاشمي، وإبراهيم بن أبي العباس، وسريج، وعلي بن حجر، ومحمد بن الصباح كما في التاريخ الأوسط للبخاري، انظر تلخيص الحبير (1/ 159)، خمستهم رووه عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن المغيرة. وخالفهم الطيالسي في مسنده (692) فرواه عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن المغيرة، عن المغيرة به، فجعل بدلاً من عروة بن الزبير عروة بن المغيرة. ورواه البيهقي في السنن (1/ 291) من طريق أبي داود الطيالسي، ثم قال: "وكذلك =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رواه إسماعيل بن موسى، عن ابن أبي الزناد " اهـ. وإسماعيل بن موسى، في التقريب: صدوق يخطئ، ورمي بالرفض، فلا شك أن رواية الجماعة أولى بالصواب، وهو كونه حديث عروة بن الزبير، عن المغيرة. قال أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي (1/ 166): " فإن كانت الروايتان محفوظتين، وإلا كانت إحداهما وهماً، والأخرى صواباً، ولا ضرر في ذلك؛ لأنه تردد بين راويين ثقتين: عروة بن الزبير وعروة بن المغيرة ". وقال الحافظ بن عبد البر في التمهيد، كما في فتح البر (1/ 282): " وهذا أيضاً منقطع، ليس فيه حجة " اهـ. ولم أقف على كلام أحد من أهل العلم يقول: إن رواية عروة بن الزبير، عن المغيرة مرسلة، وقد أدرك عروة بن الزبير المغيرة زمناً، وهو رجل كبير، والمغيرة توفي سنة خمسين، وقد راجعت المراسيل لابن أبي حاتم، وجامع التحصيل، وغيرهما، ولم أقف على من نص على عدم السماع، والله أعلم. وقد روى حديث المغيرة في المسح على الخفين جماعة في الصحيحين وفي غيرهما، منهم على سبيل المثال لا الحصر: 1 ـ عروة بن المغيرة، في الصحيحين، انظر البخاري (206)، ومسلم (274). 2 - ومسروق فيهما أيضاً، انظر البخاري (363)، ومسلم (274). 3 - وحمزة بن المغيرة بن شعبة، عند مسلم (274). 4 - وعمرو بن وهب، كما في مسند أبي داود الطيالسي (699)، والمصنف لابن أبي شيبة (1/ 161)، والنسائي (109)، والدارقطني (1/ 192)، والبيهقي (1/ 58)، والبغوي (232)، وغيرهم، وسوف يأتي تخريج بعض رواياتهم فيما تبقى من مسائل. 5 - الأسود بن هلال، كما في صحيح مسلم (274). 6 - ابن أبي نعم، عند أحمد (4/ 246،253). 7 هزيل بن شرحبيل، وسبق تخريج حديثه في المسح على الجوربين. 8 - ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة. كما في سنن الترمذي (97)، ابن ماجه (550). 9 - زرارة بن أوفى، كما في سنن أبي داود (151). 10 - مسلم بن صبيح أبو الضحى، كما في مسند أحمد (4/ 247). =

الدليل الثالث

وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله. الدليل الثالث: (74) ما رواه ابن المنذر في الأوسط (¬1)، والبيهقي في السنن (¬2)، من ¬

= 11 - أبو السائب مولى هشام بن زهرة، كما في مسند أحمد (4/ 254). 12 - الشعبي، عن المغيرة، كما في مسند أحمد (4/ 245)، وقيل: عن الشعبي، عن عروة بن المغيرة كما في صحيح مسلم. وسوف يأتي إن شاء الله تعالى تخريج ألفاظهم. وكل هؤلاء لم يذكروا لفظ (ظاهر خفيه) بل اقتصروا على ذكر الخفين، وانفرد بذكر (مسح على ظاهر خفيه) عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن المغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن أبي الزناد لا تحتمل مخالفته لبعض هؤلاء، فكيف وقد اجتمعوا. وقد نص الحافظ أن عبد الرحمن بن أبي الزناد قد تغير حفظه لما قدم بغداد، وإذا كان قد تغير في بغداد، فإن الرواة عنه في هذا الحديث كلهم بغداديون، سليمان بن داود الهاشمي، وإبراهيم بن أبي العباس، وسريج، ومحمد بن الصباح، فأخشى أن يكون هذا من قبل حفظ ابن أبي الزناد. وله متابع ضعيف، رواه الحسن البصري، عن المغيرة، ولم يسمع منه، وفي إسناده أيضاً أبو عامر الخزاز، وفيه ضعف. رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 170) قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن، عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين. ورواه البيهقي (1/ 292) من طريق ابن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن أشعث، عن الحسن به مثله. (¬1) الأوسط (1/ 453). (¬2) سنن البيهقي (1/ 292).

دليل من قال يجزئ ما يقع عليه اسم المسح

طريق عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب، عن حميد بن مخراق الأنصاري، أنه رأى أنس بن مالك بقباء مسح ظاهر خفيه بكفيه مسحة واحدة. هذا لفظ البيهقي. [إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الرابع: من الآثار. (75) ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، أنه رأى أباه يمسح على الخفين، قال: وكان لا يزيد إذا مسح على الخفين على أن يمسح على ظهورهما، ولا يمسح بطونهما (¬2). دليل من قال يجزئ ما يقع عليه اسم المسح. قالوا: إن المسح ورد مطلقاً، ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تقدير واجبه شيء، فتعين الاكتفاء بما يصدق عليه اسم المسح. فإن قيل: لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاكتفاء بما يصدق عليه مطلق المسح. قيل: لا يفتقر ذلك إلى نقل؛ لأنه مستفاد من إطلاق إباحة المسح، فإنه يتناول القليل والكثير، ولا يعدل عنه إلا بدليل. دليل من قال يجب أن يمسح أكثر ظاهر الخف. إذا كان المسح بالأصابع على ظاهر الخف، فإن هذا دليل على أنه ¬

(¬1) حميد بن مخراق ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عنه، فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. الجرح والتعديل (3/ 228)، وبقية رجال الإسناد ثقات. (¬2) الموطأ (1/ 38).

الدليل الأول

لا يستوعب الظاهر بل يكفي مسح أكثر الظاهر. الدليل الأول: (76) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن المصفى الحمصي، قال: ثنا بقية، عن جرير بن يزيد، قال: حدثني منذر، حدثني محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل يتوضأ، ويغسل خفيه، فقال بيده - كأنه دفعه - إنما أمرت بالمسح، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده هكذا من أطراف الأصابع إلى أصل الساق، وخطط بالأصابع (¬1). [حديث ضعيف جداً أو موضوع] (¬2). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (551). (¬2) في إسناده جرير بن يزيد: قال الذهبي: تفرد عنه بقية، ولا يعتمد عليه لجهالته. الميزان (1/ 397). وفيه منذر، هو ابن زياد الطائي، انظر لسان الميزان (6/ 90)، وتنقيح التحقيق (1/ 534)، ووهم الحافظ، فقال في ترجمة جرير بن يزيد، روى عن منذر الثوري، وليس بالثوري، وإنما هو ابن زياد الطائي يروي عن محمد بن المنكدر، جاء في ترجمته: سمع منه الفلاس، وقال: كان كذاباً. الجرح والتعديل (8/ 243)، ولسان الميزان (6/ 89). وقال الساجي: يحدث بأحاديث بواطيل، وحسبه ممن كان يضع الحديث. المرجع السابق. وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في روايته. المرجع السابق. وقال الحافظ في التلخيص (1/ 169): إسناده ضعيف جداً. [تخريج الحديث] رواه إسحاق كما في المطالب العالية (97) قال إسحاق: حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (77) ما رواه عبد الرزاق (851) عن معمر، عن أيوب، قال: رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف. [إسناده صحيح] (¬1). الدليل الثالث: (78) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: رأيت عمر بن الخطاب بال، فتوضأ، ومسح على خفيه، قال: حتى إني لأنظر إلى أثر أصابعه على خفيه (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

= جرير بن يزيد، حدثني منذر، حدثني محمد بن المنكدر، عن جابر به، فصرح بقية بالتحديث من شيخه، وشيخ شيخه. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (1945) قال: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا بقية، عن جرير بن يزيد الحميري به. وأخرجه الطبراني في الأوسط (1135) من طريق عبيد - يعني ابن جناد - نا بقية به، وانظر مجمع البحرين (461). وسقط من إسناده منذر. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن جابر إلا بهذا الإسناد، تفرد به بقية. (¬1) سبق تخريجه في أدلة القول الأول. (¬2) المصنف (1/ 166). (¬3) فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، صدوق سيء الحفظ، وهشيم مدلس، وقد عنعن، لكن صرح بالتحديث في رواية سعيد بن منصور، انظر التنقيح لابن عبد الهادي =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (79) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا زكريا بن زحمويه، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، حدثنا الفضل بن مبشر، قال: رأيت جابر بن عبد الله يتوضأ، ويمسح على خفيه على ظهورهما مسحة واحدة إلى فوق، ثم يصلي الصلوات كلها، قال: ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه، فأنا أصنع كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [إسناده فيه لين] (¬2). ¬

= (1/ 534). ورواه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 214) من طريق سعيد بن منصور، قال: حدثنا هشيم، قال: أنبأنا ابن أبي ليلى به. (¬1) الأوسط (1/ 454). (¬2) فيه زياد بن عبد الله البكائي، جاء في ترجمته: قال أحمد: ليس به بأس، حديثه حديث أهل الصدق. الجرح والتعديل (3/ 537). وقال العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: زياد البكائي ليس بشيء. المرجع السابق. وقال ابن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: زياد البكائي ليس حديثه بشيء وكان عندي في المغازي لا بأس به، زعم عبد الله بن إدريس أن زياد البكائي باع بعض داره وَكَتَبَ المغازي. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: زياد بن عبد الله البكائي يكتب حديثه ولا يحتج به. المرجع السابق. وسئل أبو زرعة عن زياد بن عبد الله البكائي، فقال: صدوق. المرجع السابق. وقال ابن سعد: كان عندهم ضعيفاً، وقد حدثوا عنه. الطبقات الكبرى (6/ 396). =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (80) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن، عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= وقال ابن عدي: ولزياد بن عبد الله غير ما ذكرت من الحديث أحاديث صالحة، وقد روى عنه الثقات من الناس، وما أرى برواياته بأساً. الكامل (3/ 191). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (226). وقال في موضع آخر: ضعيف. تهذيب التهذيب (3/ 323). وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألت أبي عنه، فضعفه، وقال في موضع آخر: كتبت عنه شيئاً كثيراً وتركته. تهذيب التهذيب (3/ 323). وقال صالح بن محمد: ليس كتاب المغازي عند أحد أصح منه عند زياد، وزياد في نفسه ضعيف، ولكن هو من أثبت الناس في هذا الكتاب، وذلك أنه باع داره وخرج يدور مع ابن إسحاق حتى سمع منه الكتاب. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان فاحش الخطأ، كثير الوهم، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد، وأما فيما وافق الثقات في الروايات فإن اعتبر بها معتبر فلا ضير. المجروحين (1/ 306). وفي التقريب: صدوق ثبت في المغازي، وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين، ولم يثبت أن وكيعاً كذبه، وله في البخاري موضع واحد متابعة. (¬1) المصنف (1/ 170). (¬2) فيه ثلاث علل: =

دليل من قال يجزئ مقدار ما يقع عليه اسم مسح

دليل من قال يجزئ مقدار ما يقع عليه اسم مسح. قالوا: إن المسح ورد مطلقاً، ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تقدير واجبه شيء، فتعين الاكتفاء بما يصدق عليه اسم المسح. فإن قيل: لم ينقل الاكتفاء بما يصدق عليه مطلق المسح. قيل: لا يفتقر ذلك إلى نقل؛ لأنه مستفاد من إطلاق إباحة المسح، فإنه يتناول القليل والكثير، ولا يعدل عنه إلا بدليل. الراجح: هو القول بأن الواجب أكثر ظاهر الخف، واستيعاب ظاهره شاق جداً خاصة إذا علمنا أن آلة المسح هي الأصابع، وأنها تترك خطوطاً على ظاهر الخف، فكان أكثره قائماً مقام استيعاب ظاهره، والله أعلم. ¬

_ = الأولى: المحفوظ من حديث المغيرة ليس فيه هذا التفصيل كما في رواية الصحيحين والسنن. وقد ذكرت فيما سبق في تخريج أحاديث القول الأول اثني عشر طريقاً عن المغيرة على سبيبل المثال لا الحصر، وليس فيها هذا التفصيل. العلة الثانية: الحسن لم يسمع من المغيرة بن شعبة. العلة الثالثة: أبو عامر الخزاز، اسمه صالح بن رستم، وفيه ضعف. وقد أعله الحافظ في المطالب العالية بهذه العلل، قال (108): " حديث المغيرة بن شعبة في المسح في الكتب الستة بغير هذا السياق، وأبو عامر الخزاز اسمه صالح بن رستم، فيه ضعف، والحسن لم يسمع عندي من المغيرة " اهـ. ورواه البيهقي (1/ 292) من طريق ابن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن أشعث، عن الحسن به مثله.

الفصل الثاني الخلاف في مسح أسفل الخف

الفصل الثاني الخلاف في مسح أسفل الخف

الفصل الثاني الخلاف في مسح أسفل الخف اختلف العلماء في مسح أسفل الخف، فقيل: لا يمسح أسفل الخف، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يمسح الظاهر والباطن، فإن مسح الباطن فقط لم يجزئ، وحكي إجماعاً والخلف محفوظ. وإن مسح الأعلى فقط أجزأه ذلك. وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4). قال مالك: إن مسح الأعلى فقط وصلى، يعيد الصلاة ما دام في ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 48)، البحر الرائق (1/ 180)، شرح فتح القدير (1/ 150)، مراقي الفلاح (ص: 54)، حاشية ابن عابدين (1/ 448). (¬2) المحرر (1/ 13)، الإنصاف (1/ 184،185) وانظر مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (ص: 15) رقم 51، 52، ورواية عبد الله (1/ 117، 118)، وقال في مسائل ابن هانئ (1/ 18،21): لا يمسح على أسفل الخفين، هذا شيء ذهب إليه ابن عمر، والزهري أخذه عنه " اهـ. (¬3) الخرشي (1/ 183)، حاشية الدسوقي (1/ 146، 147)، مواهب الجليل (1/ 324) الاستذكار (2/ 261)، التمهيد (11/ 146). (¬4) قال الشافعي في الأم (8/ 103): " وأحب أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه ". وانظر المجموع (1/ 550)، روضة الطالبين (1/ 130)، مغني المحتاج (1/ 67)، نهاية المحتاج (1/ 291،292).

دليل الحنفية والحنابلة

الوقت، فإن خرج الوقت أجزأه (¬1). دليل الحنفية والحنابلة. الدليل الأول: (81) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهر خفيه (¬2). [رجاله ثقات وسبق تخريجه]. الدليل الثاني: (82) ما رواه أحمد، قال: أبي ثنا إبراهيم بن أبي العباس، ثنا عبد ¬

(¬1) جاء في المدونة (1/ 142): " قال مالك: يمسح على ظهور الخفين وبطونهما، ولا يتبع غضونهما، والغضون الكسر الذي يكون في الخفين على ظهور القدمين. ثم قال: قال ابن القاسم: أرانا مالك المسح على الخفين، فوضع يده اليمنى على أطراف أصابعه من ظاهر قدمه، ووضع اليسرى من تحت أطراف أصابعه من باطن خفه، فأمرهما، وبلغ اليسرى حتى بلغ بهما إلى عقبيه، فأمرهما إلى موضع الوضوء، وذلك أصل الساق حذو الكعبين. قال: وقال مالك: وسألت ابن شهاب، فقال: هكذا المسح. ثم قال: قلت: فهل يجزئ عند مالك باطن الخف من ظاهره، أو ظاهره من باطنه؟ قال: لا، ولكن لو مسح رجل ظاهره، ثم صلى، لم أر عليه الإعادة إلا في الوقت؛ لأن عروة بن الزبير كان يمسح ظهورهما، ولا يمسح بطونهما،، وأما في الوقت فأحب إلى أن يعيد ما دام في الوقت. (¬2) سنن أبي داود (163).

الدليل الثالث

الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن عروة، قال: قال المغيرة بن شعبة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهور الخفين. قال عبد الله: قال أبي: حدثنا سريج والهاشمي أيضاً (¬1). [تفرد بذكر المسح على ظهور الخفين عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفيه لين، وباقي رجاله ثقات، وسبق بحثه]. الدليل الثالث: (83) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن، عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين (¬2). [إسناده ضعيف، وسبق بحثه] الدليل الرابع: (84) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي العلاء، قال: رأيت قيس بن عباد بال، ثم أتى دجلة، فمسح على الخف، وفرج بينهما، فرأيت أثر أصابعه في الخف (¬3). ¬

(¬1) المسند (4/ 246،247). (¬2) المصنف (1/ 170). (¬3) المصنف (1/ 219) رقم (852).

الدليل الخامس

[إسناده ضعيف، فيه أبو العلاء، وسبق بحثه]. الدليل الخامس: (85) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا زكريا بن زحمويه، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، حدثنا الفضل بن مبشر، قال: رأيت جابر بن عبد الله يتوضأ، ويمسح على خفيه على ظهورهما مسحة واحدة إلى فوق، ثم يصلي الصلوات كلها، قال: ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه، فأنا أصنع كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [إسناده فيه لين، وسبق بحثه] الدليل السادس: (86) من الآثار، ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال: رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف. [إسناده صحيح] (¬2). دليل من قال: يمسح أسفل الخف. الدليل الأول: (87) ما رواه أحمد، قال: ثنا الوليد بن مسلم، ثنا ثور، عن رجاء ابن حيوة، عن كاتب المغيرة، ¬

(¬1) الأوسط (1/ 454). (¬2) المصنف (851) وسبق تخريجه.

عن المغيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح أسفل الخف وأعلاه (¬1). [الحديث معلول] (¬2). ¬

(¬1) المسند (4/ 251). (¬2) الحديث له أكثر من علة: العلة الأولى: قيل عنعنة الوليد بن مسلم، وهو وإن صرح بالتحديث من ثور إلا أنه متهم بتدليس التسوية، فلا بد من أن يصرح بالتحديث من شيخه، ومن شيخ شيخه، وهو ما لم يتوفر هنا. قلت: قد يقال: إنه متهم بتدليس التسوية في أحاديث الأوزاعي خاصة، فليتأمل. العلة الثانية: أن ثور بن يزيد لم يسمعه من رجاء. فقد رواه أحمد كما في مسائل ابنه صالح (544)، وابن حزم في المحلى (2/ 114) ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في مصنفه كما في الهداية في تخريج أحاديث البداية (1/ 204) رووه من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن المبارك، عن ثور بن يزيد، قال: حدثت عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح أعلى الخف وأسفله. قال أحمد: ولا أرى الحديث ثبت اهـ. وقال أيضاً في مسائل صالح (271): " وليس هو بحديث ثبت عندنا " اهـ. فهنا رواية عبد الله بن المبارك، وهو مقدم على الوليد بن مسلم بيد أن ثوراً لم يسمعه من رجاء، وأن الحديث مرسل، عن كاتب المغيرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: قد رواه الدارقطني (1/ 195) حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، أخبرنا داود بن رشيد، نا الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، أخبرنا رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة .. فهنا قد رواه عبد الله بن عبد العزيز، عن داود بن رشيد، عن الوليد بالتصريح بسماع ثور من رجاء، وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز قد قال عنه الدارقطني: كان قَلَّ أن يتكلم عن حديث، فإذا تكلم كان كلامه كالمسمار في السياج، ثقة جليل، إمام، أقل المشايخ خطأ. انظر تاريخ بغداد (10/ 111) وتذكرة الحفاظ (2/ 737). فالجواب: هذا وهم، ولا شك فقد رواه البيهقي (1/ 290،291) من طريق أحمد بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يحيى بن إسحاق الحلواني، ثنا داود بن رشيد، ثنا الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن رجاء، ولم يقل: " أخبرنا رجاء ". والحلواني ثقة أيضاً، له ترجمة في تاريخ بغداد (5/ 212)، وهذه الرواية توافق رواية كل من رواه عن الوليد بن مسلم، وقد خالف فيه عبد الله بن عبد العزيز كل من رواه عن الوليد بن مسلم، وقد وقفت على تسعة حفاظ، منهم: أحمد بن حنبل في المسند، وإبراهيم بن موسى كما في التاريخ الأوسط للبخاري، وموسى بن مروان ومحمود بن خالد الدمشقي عند أبي داود، وأحمد بن عبد الرحمن الدمشقي عند الترمذي، وهشام بن عمار، عند ابن ماجه، وعبد الله بن يوسف، والهيثم بن خارجه عند الطبراني في الكبير، والحكم بن موسى كما في سنن البيهقي، فهؤلاء تسعة حفاظ رووه عن الوليد بالعنعنة، ولم يقل واحد منهم: أن ثور سمعه من رجاء، وسيأتي العزو إليهم قريباً إن شاء الله تعالى. العلة الثالثة: أنه مرسل، تفرد الوليد بن مسلم بوصله، وخالفه ابن المبارك، وهو أوثق منه، ولم يتابع الوليد بن مسلم أحد في وصله إلا ما رواه الشافعي في مختصر المزني (1/ 50) عن ابن أبي يحيى، عن ثور بن يزيد، كرواية الوليد بن مسلم، إلا أن هذه المتابعة لا تسمن ولا تغني من جوع؛ لأنها من طريق إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متهم على ما فيه من البدع. وقال ابن حجر في التلخيص (1/ 159):"قال الأثرم عن أحمد: أنه كان يضعفه - يعني حديث الوليد - ذكرته لعبد الرحمن بن مهدي، فقال: عن ابن المبارك، عن ثور، حدثت عن رجاء، عن كاتب المغيرة، ولم يذكر المغيرة. قال أحمد: وقد كان نعيم بن حماد حدثني به عن ابن المبارك، كما حدثني الوليد بن مسلم به عن ثور، فقلت: إنما يقول هذا الوليد، وأما ابن المبارك فيقول: حدثت عن رجاء، ولا يذكر المغيرة، فقال لي نعيم: هذا حديثي الذي أسأل عنه، فأخرج إلي كتابه القديم بخط عتيق، فإذا فيه ملحق بين السطرين بخط ليس بالقديم: عن المغيرة، فأوقفته عليه، وأخبرته أن هذه زيادة في الإسناد، لا أصل لها، فجعل يقول للناس بعد وأنا أسمع: اضربوا على هذا الحديث " اهـ. فالحديث ضعيف، مخالف لما روينا عن الحسن وعروة بن المغيرة، عن المغيرة من أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح ظاهر خفيه. وقد ضعف الحديث أبو حاتم في العلل لابنه (1/ 54) قال: " حديث الوليد ليس بمحفوظ، وسائر الأحاديث عن المغيرة أصح ". وضعفه أحمد كما سبق. وقال البخاري في التاريخ الأوسط (1/ 292) رقم 1424: " حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا ابن أبي الزناد، عن عروة بن الزبير، عن المغيرة رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على خفيه على ظاهرهما. قال: وهذا أصح. يعني من حديث رجاء، عن كاتب المغيرة. وقال الترمذي في العلل (1/ 180): " سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: لا يصح هذا، روي عن ابن المبارك، عن ثور بن يزيد، قال: حدثت عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وضعف هذا، وسألت أبا زرعة، فقال نحواً مما قال محمد بن إسماعيل اهـ. وضعفه أبو داود، وضرب عليه نعيم بن حماد كما مر معنا، وقال الترمذي في السنن: هذا حديث معلول. وضعفه الدارقطني في العلل (1/ 110). [تخريج الحديث] الحديث أخرجه أحمد كما في رواية الباب، ومن طريق الإمام أحمد أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 176)، والخطيب في تاريخ بغداد (2/ 135). وأخرجه البخاري في التاريخ الأوسط (الصغير) (1/ 292) رقم 1422 حدثني إبراهيم ابن موسى، عن الوليد. وأخرجه أبو داود (165) حدثنا موسى بن مروان ومحمود بن خالد الدمشقي، المعنى قالا: ثنا الوليد به. وأخرجه الترمذي (97) حدثنا أبو الوليد الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم به. وأخرجه ابن ماجه (550) قال: حدثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد بن مسلم به. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (84) والطبراني في الكبير (20/ 396) رقم 939، وفي =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (88) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: رأيت ابن عمر يمسح عليهما - يعني خفيه - مسحة واحدة بيديه كلتيهما، بطونهما وظهورهما، وقد أهرق قبل ذلك الماء، فتوضأ هكذا لجنازة دعي إليها. [رجاله ثقات] (¬1). ¬

= مسند الشاميين (451) من طريق عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الوليد بن مسلم به. وأخرجه الطبراني أيضاً في الكبير (939)، وفي مسند الشاميين (451) من طريق الهيثم بن خارجه، ثنا الوليد بن مسلم به. وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 290) من طريق الحكم بن موسى، ثنا الوليد بن مسلم به. (¬1) ولم يصرح ابن جريج بالتحديث، لكنه قد توبع كما سيأتي، وهو مكثر عن عطاء. ورواه البيهقي (1/ 291) من طريق ابن جريج، والعمري مختصراً به. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 452) من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: قال لي نافع: رأيت ابن عمر يمسح عليهما - يعني: مسحة واحدة بيديه كلتيهما بطونهما وظهورهما. وهذا سند صحيح عن ابن عمر. ورواه ابن عبد البر كما في فتح البر (3/ 280) من طريق سفيان، عن ابن جريج، عن نافع به. وذكر أيضاً في الصفحة نفسها من التمهيد، وفي الاستذكار (2/ 261) من ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يمسح أعلاهما وأسفلهما. وهذا سند صالح في المتابعات. وروى مالك في الموطأ (1/ 38) أنه سأل ابن شهاب عن المسح على الخفين كيف هو؟ فأدخل ابن شهاب إحدى يديه تحت الخف، الأخرى فوقه، ثم أمرهما. قال مالك: وقول ابن شهاب أحب ما سمعت إلى في ذلك.

الدليل الثالث

والجواب عن هذا: أن هذا الأثر موقوف على ابن عمر رضي الله عنه، مخالف لما هو مرفوع، فلا يقبل. الدليل الثالث: من النظر أن المسح بدل من الغسل، وإذا كان في الغسل يغسل أعلى القدم وأسفله، فكذلك المسح ينبغي أن يستوعب القدم أعلاه وأسفله. قال ابن رشد في بداية المجتهد " وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك، وتشبيه المسح بالغسل، وذلك أن في ذلك أثرين متعارضين: أحدهما: حديث المغيرة بن شعبة، وفيه: " أنه مسح أعلى الخف وباطنه ". والآخر: حديث علي: " لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ". فمن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين، حمل حديث المغيرة على الاستحباب، وحديث علي على الوجوب، وهي طريقة حسنة، ومن ذهب مذهب الترجيح أخذ إما بحديث علي، وإما بحديث المغيرة، فمن رجح حديث المغيرة على حديث علي رجحه من قبل القياس، أعني: قياس المسح على الغسل، ومن رجح حديث علي، رجحه من قبل مخالفته للقياس ‍‍‍، أو من جهة السند ... الخ كلامه رحمه الله. قلت: وإذا كان الاكتفاء بالظاهر مخالفاً للقياس، كان من قال به لابد أنه اطلع على سنة في هذا؛ لأن مجرد القياس قد لا يدل عليه، ومن مسح الأعلى والأسفل اجتهد برأيه قياساً على الغسل، ولا شك أن الأول

أولى، على أن قولنا مخالف للقياس هذا بحسب الفهم القاصر، وإلا فلا يوجد في الشرع ما يخالف القياس الصحيح، فإن التخفيف بالمسح على وفق القياس. وأنكر ابن حزم على المالكية كونهم يأمرون من ترك مسح أسفل الخف دون أعلاه، أن يعيد صلاته ما دام في الوقت. قال ابن حزم: " إن كان قد أدى فرض طهارته وصلاته فلا معنى للإعادة، وإن كان لم يؤدها، فيلزمه عندهم أن يصلي أبداً " (¬1). يعني في الوقت أو خارج الوقت. والحق ما قال ابن حزم. وتكلف النووي في المجموع في تأويل حديث علي، ليوافق مذهب إمامه أن المجزئ في المسح أقل ما يصدق عليه أنه مسح. قال النووي: " لو كان الدين بالرأي لكان ينبغي لمن أراد الاقتصار على أقل ما يجزئ أن يقتصر على أسفله، ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على أعلاه، ولم يقتصر على أسفله، فقوله عفى الله عنه: " لكان ينبغي لمن أراد الاقتصار على أقل ما يجزئ " هذا اللفظ من كيس النووي بلا ريب، وليست من اللفظ النبوي، ثم قال عفى الله عنه: " فليس فيه نفي استحباب الاستيعاب، وهذا كما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح بناصيته، ولم يلزم منه نفي استحباب استيعاب الرأس، وإنما المقصود منه بيان أن الاستيعاب ليس بواجب ". قلت: ظاهر كلام النووي رحمه الله أنه ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ¬

(¬1) المحلى (1/ 344).

اكتفى بالمسح على الناصية، ولم يثبت هذا عنه، وليس هذا موضع بحثه، وحمل حديث المغيرة على الاستحباب حمل جيد لو كان الحديث صحيحاً؛ لأن الجمع أولى من الترجيح، لكن إذا ثبت أن حديث المغيرة ضعيف كما بينته، فلا داعي للجمع، فيبقى القول الأول هو الصحيح المتعين، والله أعلم.

الفصل الثالث هل يكفي غسل الخف عن مسحه

الفصل الثالث هل يكفي غسل الخف عن مسحه

الفصل الثالث هل يكفي غسل الخف عن مسحه هل يكفي غسل الخف عن مسحه، اختلف في ذلك فقيل: يكفي مع الكراهة، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره محمد بن الحسن من الحنفية (¬4). وقيل: لا يجزئ، اختاره القفال من الشافعية (¬5)، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬6). وقيل: إن مسح بيديه على الخفين حال الغسل أجزأه، وإلا فلا (¬7). ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 322)، حاشية الدسوقي (1/ 144)، الخرشي (1/ 181)، التاج والإكليل (1/ 472)، الشرح الصغير (1/ 156)، منح الجليل (1/ 139). (¬2) روضة الطالبين (1/ 130)، المجموع (1/ 550). (¬3) الإنصاف (1/ 185)، شرح الزركشي (1/ 404)، المغني (1/ 184). (¬4) جاء في كتاب الأصل (1/ 104): " أرأيت رجلاً توضأ، فنسي أن يمسح على خفيه، وقد توضأ وضوءاً تاماً؟ قال: يجزيه ذلك من المسح " وكونه يجزيه لا يعني أنه يستحبه، فقد قال في (1/ 109): " أرأيت الرجل إذا أراد أن يمسح على خفيه أترى له أن يغسل قدميه؟ قال: لا أرى له ذلك، ولكنه يمسحهما مسحاً ". (¬5) المجموع (1/ 550). (¬6) المغني (1/ 184). (¬7) المغني (1/ 184).

دليل من قال يجزئ مع الكراهة

دليل من قال يجزئ مع الكراهة. الدليل الأول: أن الغسل خلاف المشروع، وأن المشروع هو المسح فقط. الدليل الثاني: ولأنه قد يدخل في الاعتداء بالطهور، وأقل أحواله أن يكون مكروهاً. الدليل الثالث: (89) ما رواه أحمد، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نعامة، أن عبد الله بن مغفل سمع ابناً له يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض من الجنة إذا دخلتها عن يميني، قال فقال له: يا بني سل الله الجنة، وتعوذه من النار؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سيكون من بعدي قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور (¬1). [رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً] (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (4/ 87). (¬2) حماد بن سلمة سمع من الجريري قبل الاختلاط، انظر الكواكب النيرات (ص:183)، وتدريب الراوي (2/ 373). إلا أن أبا نعامة لم يسمع من عبد الله بن مغفل، وإنما يروي عن ابن عبد الله بن مغفل، عن عبد الله بن مغفل، قال الذهبي في تلخيص المستدرك (1/ 162): " فيه إرسال ". واختلف على حماد بن سلمة، فرواه عفان، وسليمان بن حرب، وعبد الصمد، وموسى بن إسماعيل، وكامل بن طلحة، كلهم رووه عن حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نعامة، عن عبد الله بن مغفل، منقطع بين أبي نعامة، وبين عبد الله بن مغفل. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه أحمد (4/ 86) عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أبي نعامة به. ورواية الجماعة أولى بالصواب. ورواه ابن حبان (6763) أخبرنا الفضل بن حباب، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن عبد الله بن المغفل، فجعل بدلاً من أبي نعامة أبا العلاء، ورواية الجماعة أولى بالصواب، خاصة أن فيهم عفان، وقد قال يحيى بن معين: من أراد أن يكتب حديث حماد بن سلمة فعليه بعفان بن مسلم، ولم يتابع أبو الوليد الطيالسي في روايته عن حماد، وقد قال أبو حاتم في تهذيب الكمال في ترجمة أبي الوليد الطيالسي، بأن سماعه من حماد فيه شيء، وكأنه سمع منه بآخرة، وكان حماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 53) حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد ابن سلمة به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (3864). وأخرجه أحمد (5/ 55) حدثنا عبد الصمد وعفان، كلاهما عن حماد بن سلمة به. وأخرجه أبو داود (96) حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد به. وأخرجه البيهقي (1/ 196،197) نا محمد بن أيوب، ثنا محمد بن إسماعيل به. ورواه ابن حبان (6764) قال: أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا كامل بن طلحة، قال: حدثنا حماد بن سلمة به. كما أن له شاهداً من حديث سعد بن أبي وقاص، أخرجه أحمد (1/ 172) قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن زياد بن مخراق، قال سمعت أبا عباية، عن مولى لسعد أن سعداً رضي الله تعالى عنه سمع ابناً له يدعو، وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها، ونحو من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} وإن حسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة، وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. =

ومن الاعتداء بالطهور مجاوزة الحد المشروع، وأنها من الإساءة والظلم. ¬

_ = وأبو عباية: هو قيس بن عباية، وهو أبو نعامة، فحديث عبد الله بن مغفل، وحديث سعد مخرجه قيس بن عباية، وقد صرح الحسيني في الإكمال أن أبا عباية، هو قيس بن عباية، انظر الإكمال (732)، وفي إسناد أبي يعلى، قال: " ابن عباية " بدلاً من أبي عباية. وقال الحافظ في تعجيل المنفعة (1319): " أبو عباية، عن مولى لسعد بن أبي وقاص، هو قيس بن عباية، وهو من رجال التهذيب ". وقال الأثرم: سألت أحمد عنه - يعني زياد بن مخراق - فقال: ما أدري. قال: وقلت له روى حديث سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يكون بعدي قوم يعتدون في الدعاء، فقال: نعم، لم يقم إسناده اهـ. والحديث ضعيف، له أكثر من علة. العلة الأولى: الاختلاف في إسناده، فتارة يحدث به ابن عباية، من مسند عبد الله بن المغفل، وتارة يحدث به من مسند سعد. العلة الثانية: جهالة مولى سعد بن أبي وقاص. [تخريج الحديث] الحديث رواه أبو داود الطيالسي (200) قال: حدثنا شعبة، قال أخبرني زياد بن مخراق، قال: سمعت أبا عباية، شك أبو داود أن سعداً سمع ابنا له يقول: اللهم إني أسألك الجنة، وذكر الحديث. وسقط من إسناده مولى سعد. ومن طريق أبي داود أخرجه الدورقي (91). وأخرجه ابن أبي شيبة (6/ 53) حدثنا عبيد بن سعد، عن شعبة به. وتصحفت عباية إلى صبابة. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (715) من طريق شبابة بن سوار، حدثنا شعبة به. وأخرجه الطبراني في الدعاء (55) من طريق عاصم، عن شعبه به. وأخرجه أبو داود (1480) والطبراني في الدعاء (56) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة به غير أنه لم يذكر فيه مولى سعد بن أبي وقاص.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (90) ما رواه أحمد، قال: ثنا يعلي، ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم (¬1). [رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، فهو حسن عند من يحسن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده] (¬2). ولا شك أن غسل الخف زيادة على المشروع، فيكون قد أساء وتعدى وظلم بهذه الزيادة. دليل من قال لا يجزئ. (91) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يعقوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد (¬3). وفي رواية لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ". فالرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بالمسح، فلما لم يفعله لم يجزه. ¬

(¬1) مسند أحمد (2/ 180). (¬2) وقد سبق بحثه. (¬3) صحيح البخاري (. . .)، ومسلم (1718).

دليل من قال إن مسح بيده على الخفين حال الغسل أجزأ

دليل من قال إن مسح بيده على الخفين حال الغسل أجزأ. قال: إن المطلوب هو المسح، وقد حصل بإمرار اليد على الخفين. وهذا القول ربما يكون أقرب مع الكراهة؛ لأن الغسل فيه مخالفة للمشروع، ومن جهة قد يتلف الخف، لكن إن كان هناك حاجة إلى هذا الفعل ربما ترتفع الكراهة، والله أعلم.

الفصل الرابع حكم تكرار المسح على الخفين

الفصل الرابع حكم تكرار المسح على الخفين

الفصل الرابع حكم تكرار المسح على الخفين اختلف العلماء في حكم تكرار المسح على الخفين. فقيل: لا يسن تكرار المسح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: يكره، هو مذهب المالكية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يشرع تكرار المسح ثلاثاً، وهو اختيار عطاء (¬5). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 48)، المبسوط (1/ 100)، شرح فتح القدير (1/ 148) وقال: " إن تكرار المسح على الخفين غير مشروع ". وانظر الفتاوى الهندية (1/ 33). (¬2) المجموع (1/ 549)، روضة الطالبين (1/ 130). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 145)، مواهب الجليل (1/ 322)، وحاشية العدوي على الخرشي (1/ 181،182) التاج والإكليل (1/ 472)، الشرح الصغير (1/ 156). والمالكية إنما يكرهون تكرار المسح إذا كان بماء جديد، فإن كان بدون أخذ ماء جديد فلا كراهة عندهم، وقد نص عليه في حاشية الدسوقي (1/ 145)، وإذا جفت يد الماسح أثناء المسح لم يجدد، وكَمُلَ العضو الذي حصل فيه الجفاف. (¬4) مسائل أحمد رواية أبي داود (1/ 16) رقم 53، وانظر الإنصاف (1/ 185)، شرح الزركشي (1/ 404)، حاشية العنقري (1/ 64)، كشاف القناع (1/ 118). (¬5) رواه عبد الرزاق في المصنف عن عطاء بسند صحيح (856)، وانظر الأوسط (1/ 456).

دليل من قال لا يسن ومن قال بكراهة التكرار

دليل من قال لا يسن ومن قال بكراهة التكرار (¬1). أولاً: لم ينقل تكرار المسح لا قولاً ولا فعلاً، وليس في الأحاديث إلا أنه مسح على خفيه، وهذا يصدق عليه بفعله مرة واحدة. ثانياً: أن تكرار المسح يحوله من مسح إلى غسل. ثالثاً: أن كل شيء فرضه المسح فشأنه التخفيف فهذا الرأس لايشرع تثليثه على الصحيح، ولايشرع تثليث المسح على الجبيرة على القول بمسحها. قال في مواهب الجليل: " وإذا كانت الجبيرة في موضع يغسل في الوضوء ثلاثاً فإنه يمسح عليها مرة واحدة لا ثلاثاً، قاله عبد الحق في النكت، قال: ودليله المسح على الخفين إنما يمسح مرة واحدة، وهو بدل عن مغسول ثلاثاً؛ وذلك لأن شأن المسح التخفيف " (¬2). دليل من قال يستحب تكرار المسح ثلاثاً. قال: إن المسح بدل عن الغسل، وإن كانت القدم تغسل ثلاثاً استحب التثليث في المسح؛ لأن البدل له حكم المبدل وأجيب: بأن هذا قياس في مقابل النص، فيكون قياساً فاسداً، ثم إن التيمم بدل عن الوضوء، ولا يشرع فيه التثليث، فالبدل له حكم المبدل في الحكم لا في الصفة، ولذلك يكتفى في مسح الخف بظاهره، ولم يجب التعميم كالأصل. ¬

(¬1) لا يلزم من ترك السنة الوقوع في المكروه، فلو ترك الإنسان سنة الضحى، ونحو ذلك لا يلزم منه الوقوع في المكروه ولذلك اعتبرت من قال بالكراهة قولاً ومن قال: لا يسن قولاً آخر، ولكن أدلة هؤلاء هي أدلة هؤلاء في هذه المسألة خاصة. (¬2) مواهب الجليل (1/ 362).

الفصل الخامس هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معا

الفصل الخامس هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معاً

الفصل الخامس هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معاً؟ اختلف العلماء في سنة المسح، وأما الفرض فكيف أتى بالمسح على ظهر القدم بكل اليد، أو ببعضه أجزأه على الصحيح (¬1). وقال ابن حزم: ما وقع عليه اسم مسح، فقد أدى فرضه إلا أن أبا حنيفة قال: لا يجزئ المسح على الخفين إلا بثلاثة أصابع (¬2). وقال الصنعاني: لم يرد في الكيفية ولا الكمية حديث يعتمد عليه، إلا حديث علي في بيان المسح، والظاهر أنه إذا فعل المكلف ما يسمى مسحاً على الخف لغة أجزأه " (¬3). وهل يمسح الخفين معاً كالأذنين، أو يسن أن يقدم اليمنى ثم اليسرى؟ فقيل: يمسح الخفين معاً، بحيث يضع أصابع يده اليمنى على مقدم خفه الأيمن، وأصابع يده اليسرى علىمقدم خفه الأيسر، ويمدهما جميعاً إلى ¬

(¬1) قال الشافعي في الأم (8/ 103): " وكيفما أتى بالمسح على ظهر القدم، بكل اليد، أو ببعضه أجزأه ". وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير، وهو من المالكية (1/ 159): " ولو خالف تلك الكيفية، ومسح كيفما اتفق كفاه ". وقال أحمد كما في المغني (1/ 183): " كيفما فعله، فهو جائز، باليد الواحدة، أو باليدين". (¬2) المحلى (1/ 343). (¬3) سبل السلام (1/ 84).

دليل من قال يمسحان معا

الساق. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يستحب تقديم اليمنى على اليسرى، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3)، وظاهر مذهب من يرى مسح أسفل الخف مع أعلاه، كالمالكية والشافعية (¬4). دليل من قال يمسحان معاً. الدليل الأول: (92) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن، عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين (¬5). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 267)، البحر الرائق (1/ 183)، والفتاوى الهندية (1/ 33). (¬2) الإنصاف (1/ 185)، وقال في مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (1/ 135): وسن مسحه بأصابع يديه، مفرجة من أصابعه - أي أصابع قدمه - إلى ساقه مرة واحدة معاً من غير تقديم إحداهما على الأخرى ... الخ كلامه رحمه الله، وانظر المبدع شرح المقنع (1/ 148)، كشاف القناع (1/ 118،119). (¬3) الإنصاف (1/ 185)، مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (1/ 135) المبدع شرح المقنع (1/ 148). (¬4) انظر الصفة المستحبة عندهم في مسألة مسح أسفل الخف. (¬5) المصنف (1/ 170).

الدليل الثاني

[الحديث ضعيف، وسبق بحثه]. الدليل الثاني: (93) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما (¬1). فقوله: " فمسح عليهما " ولم يقل بدأ باليمنى، ولو كان مشروعاً لنقلت هذه الصفة، وحفظت؛ لأنه من شرع الله سبحانه وتعالى. وأجيب: بأن الحديث مجمل غير مبين، وليس صريحاً في التيامن، ولا في عدمه. الدليل الثالث: القياس على الأذنين، فطهارة المسح لا تيمن فيها، فكما أن الأذنين عضوان مستقلان، ومع ذلك لم يشرع التيمن فيهما، فكذلك الرجلان في حالة المسح. وأجيب: بأن الأذنين يمسحان مع الرأس، وهوعضو واحد، ولذلك لا يشرع أخذ ماء جديد لهما، بل يكفي ماء الرأس، وإذا كانا تبعاً للرأس، لم يكن هناك محل للتيامن، فلا يمكن في عضو واحد، يتيامن في بعضه، ولا يتيامن في بعضه الآخر، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (206) ومسلم (274).

دليل من قال تقدم اليمنى على اليسرى

دليل من قال تقدم اليمنى على اليسرى. الدليل الأول: أن المسح بدل من الغسل، والبدل له حكم المبدل، فكما أنه يشرع تقديم غسل اليمنى في الرجلين واليدين، فكذلك يشرع تقديم مسح اليمنى على اليسرى. الدليل الثاني: لم يأت نص صريح في مسح الرجلين معاً، وحيث لم يأت نص، يبقى الحكم لا يختلف عن غسلهما حتى يأت نص صريح في استحباب عدم التيامن، لأن الاستحباب حكم شرعي، يحتاج إلى نص شرعي صريح صحيح، ولم يتوفر هنا، والله أعلم.

فرع

فرع قال في الفتاوى الهندية: وإظهار الخطوط ليس بشرط في ظاهر الرواية، كذا في الزاهدي، وهكذا في شرح الطحاوي، ولكنه مستحب، هكذا في منية المصلي (¬1). (94) قلت: ربما يؤخذ استحباب إظهار الخطوط، بما رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن، عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين (¬2). [إسناده ضعيف، وسبق بحثه]. (95) ومن الآثار، ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال: رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف. [إسناده صحيح] (¬3). ¬

(¬1) الفتاوى الهندية (1/ 33). (¬2) المصنف (1/ 170). (¬3) المصنف (851) وسبق تخريجه.

(96) وبما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي العلاء، قال: رأيت قيس بن عباد بال، ثم أتى دجلة، فمسح على الخف، وفرج بينهما، فرأيت أثر أصابعه في الخف (¬1). [إسناده ضعيف، فيه أبو العلاء، وسبق بحثه]. وهل يشرع للإنسان أن يتقصد أن يظهر أثر أصابعه على خفه، وهل يؤخذ ذلك من هذه الأدلة، فيه تأمل، والذي أميل إليه عدم الاستحباب، والله أعلم. ¬

(¬1) المصنف (1/ 219) رقم (852).

الباب الرابع خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح

الباب الرابع خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح

الباب الرابع خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح لما كان الراجح من أقوال أهل العلم أن عبادة المسح على الخفين مؤقتة بوقت معين، فقد اختلف العلماء في ابتداء مدة المسح: فقيل: من أول حدث بعد لبس الخف، هو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: من أول مسح بعد الحدث، وهو رواية عن أحمد (¬4)، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور (¬5)، واختاره ابن المنذر (¬6)، ورجحه النووي (¬7). وقيل: ابتداء المدة من اللبس، ¬

(¬1) المبسوط (1/ 99)، مراقي الفلاح (ص: 54)، بدائع الصنائع (1/ 8)، تبيين الحقائق (1/ 48)، حاشية ابن عابدين (1/ 271). (¬2) الأم (1/ 35)، المجموع (1/ 512)، (¬3) المبدع (1/ 142)، الفروع (1/ 167)، وقال في الإنصاف (1/ 177): " هذا المذهب بلا ريب، والمشهور من الروايتين، وعليه الأصحاب ". (¬4) جاء في مسائل أبي داود (ص: 17): " وسمعت أحمد سئل عن المسح على الخف؟ فقال: يمسح من الوقت الذي مسح إلى مثلها من الغد. قلت: إنه يدخل فيه ست صلوات؟ قال: لا بأس به يمسح من الغد إلى الساعة التي مسح عليها " اهـ. وقال في الإنصاف (1/ 177): " وهي من المفردات ". (¬5) المجموع (1/ 512). (¬6) الأوسط (1/ 443). (¬7) قال النووي: وهو المختار الراجح دليلاً، انظر المجموع (1/ 512).

دليل من قال ابتداء المدة من أول حدث بعد لبس الخف

وهو محكي عن الحسن البصري (¬1). وقيل: يمسح خمس صلوات في اليوم والليلة، وعليه تبتدئ مدة المسح من أول صلاة صلاها، وهو قول الشعبي وأبي ثور وإسحاق (¬2). دليل من قال ابتداء المدة من أول حدث بعد لبس الخف. الدليل الأول: (97) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم ... . الحديث (¬3). [وإسناده حسن، وسبق الكلام عليه]. وجه الاستدلال: قال ابن مفلح الصغير: " يدل بمفهومه أنه تنزع لثلاث يمضين من ¬

(¬1) المجموع (1/ 512). (¬2) الأوسط (1/ 444)، والمجموع (1/ 512). (¬3) المصنف (795).

الدليل الثاني

الغائط " (¬1). قلت: قوله: " من غائط وبول ونوم " التفريق بين الحدث الأصغر والأكبر، فلا تنزع في الحدث الأصغر، بل يمسح عليهما، ولم يتعرض الحديث لابتداء مدة المسح، والله أعلم. الدليل الثاني: روى القاسم بن زكريا المطرز من حديث صفوان، وفيه: " من الحدث إلى الحدث " (¬2). الدليل الثالث: من القياس، قالوا: إن المسح على الخفين عبادة مؤقتة، فكان ابتداء وقتها من حين جواز فعلها، كالصلاة فإن أخر المسح بعد الحدث، فقد ترك ما أبيح له، وفوت على نفسه جزءاً من الوقت، فإن ترك ما أبيح له إلى أن جاء الوقت الذي أحدث فيه فقد تم الوقت الذي أبيح له فيه المسح، ووجب خلع الخف (¬3). الدليل الرابع: قالوا: إن الحدث سبب للمسح على الخفين، فعلق الحكم به، ولا يمكن اعتباره من وقت المسح؛ لأنه لو أحدث ولم يمسح، ولم يصل أياماً ¬

(¬1) المبدع (1/ 142). (¬2) ذكره النووي في المجموع (1/ 512)، وقال: وهي زيادة غريبة، وليست ثابتة ". (¬3) انظر المجموع (1/ 512)، الأوسط (1/ 445).

أدلة القائلين بأن المدة تبتدئ من أول مسح بعد الحدث

لا إشكال أنه لا يمسح بعد ذلك، فكان العدل في الاعتبار من وقت الحدث (¬1). أدلة القائلين بأن المدة تبتدئ من أول مسح بعد الحدث. الدليل الأول: (98) ما رواه أحمد، قال: ثنا أيوب، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن المسح، فقالت: ائت علياً رضي الله تعالى عنه، فهو أعلم بذلك مني، قال: فأتيت علياً رضي الله تعالى عنه، فسألته عن المسح على الخفين، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نمسح على الخفين يوماً وليلةً، وللمسافر ثلاثاً (¬2). (99) وما رواه أحمد، قال: ثنا إسماعيل، ثنا هشام الدستوائي، ثنا حماد، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: يمسح المسافر على الخفين ثلاث ليال، والمقيم يوماً وليلةً (¬3). فقوله في الحديث " نمسح يوماً وليلة " كما في حديث علي، وقوله: " يمسح المسافر ثلاث ليال " كما في حديث خزيمة ظاهرهما يدل على أن ¬

(¬1) المبسوط (1/ 99). (¬2) المسند (1/ 113)، وسبق تخريجه. (¬3) المسند (5/ 213)، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.

الدليل الثاني

الوقت في ذلك وقت المسح، لا وقت الحدث. الدليل الثاني: قولكم: إن ابتداء المدة من الحدث ليس عليه دليل، فجميع أحاديث المسح على الخفين ليس للحدث ذكر في شيء منها، فلا يجوز أن يعدل عن ظاهر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا قول غيره إلا بخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع. الدليل الثالث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رخص للمقيم أن يمسح يوماً وليلة، فلو قلنا: إن ابتداء المدة من الحدث، لكان المسح أقل من يوم وليلة، فيكون خلاف الحديث، فلو أنه توضأ لصلاة العشاء، ثم مسح لصلاة الفجر، فإن هذا مدة مسحه يوماً وبعض ليلة، فلم يصدق عليه أنه مسح يوماً وليلة، ولا يمكن أن تكون مدة مسحه يوماً وليلة إلا إذا اعتبرنا المدة من المسح. وقولكم: إنه هو الذي فوت على نفسه المسح، فالجواب حتى لو مسح بعد حدثه لا يمكن أن تكون المدة أربعاً وعشرين ساعة؛ لأنه معلوم أن الحدث لا بد أن يسبق المسح، ولو بفترة وجيزة، فلا يتصور أن يمسح يوماً وليلة تامين إلا إذا اعتبرنا المدة من المسح. الدليل الرابع: (100) ما رواه عبد الرزاق، عن عبد الله بن المبارك، قال: حدثني عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان النهدي، قال: حضرت سعداً وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين، فقال عمر: يمسح عليهما إلى مثل ساعته

الدليل الخامس

من يومه وليلته (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). قال ابن المنذر تعليقاً على هذا الأثر: ولا شك أن عمر بن الخطاب أعلم بمعنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن بعده، وهو أحد من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح على الخفين، وموضعه من الدين موضعه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي "، وروي عنه أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ". اهـ كلام ابن المنذر (¬3). الدليل الخامس: قالوا: إن القائلين بأن المدة تبتدئ من الحدث، قالوا: إذا أحدث قبل سفره، ثم سافر، فمسح في سفره، أتم مسح مسافر، ولو أحدث قبل سفره، ومسح، ثم سافر فمسح مقيم، فقد عُلِق الحكم بالمسح، ولم يعلقه بالحدث، وهذا دليل على أن المعتبر هو المسح، وليس الحدث، إلا أنهم حاولوا أن يخرجوا من هذا الإيراد، قال في الحاوي: " كل عبادة اعتبر فيها الوقت، فإن ابتداء وقتها محسوب من الوقت الذي يمكن فيها فعلها، وصفتها ¬

(¬1) المصنف (1/ 209) رقم 808. (¬2) رجاله ثقات، وعاصم بن سليمان، هو الأحول. والأثر أخرجه البيهقي في السنن (1/ 276) من طريق سفيان، عن عاصم به. وأخرجه الطحاوي (1/ 84) من طريق حفص بن غياث، عن عاصم به. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 443) من طريق خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي به. فهذه متابعة من خالد لعاصم. (¬3) الأوسط (1/ 443).

دليل من قال ابتداء المدة من اللبس

معتبرة بوقت أدائها كالصلاة إن كانت ظهراً فأول وقتها زوال الشمس، وصفتها في القصر والإتمام بوقت الأداء والفعل، فإن كان وقت فعلها وأدائها مسافراً قصر، وإن كان مقيماً أتم، كذلك المسح أول زمانه من وقت الحدث، لأن أول وقت الفعل وصفته في مسح المقيم والمسافر معتبر بوقت المسح (¬1). وهذا الإنفكاك لا يفكهم؛ لأننا نقول: إن كان الحكم معلقاً بالحدث أنيط الحكم به من حين الحدث، سواء سافر قبل المسح أو بعده، وإن كان الحكم معلقاً بالمسح أنيط الحكم به، فمذهبكم أن الحاضر إذا لزمه مسح الحضر كما لو مسح في الحضر، ثم سافر لم يمسح أكثر من يوم وليلة، ثم يخلع، وهذا قد لزمه حكم مسح الحضر بوقت الحدث قبل أن يسافر، فحين علقتم الحكم بالمسح تركتم أصلكم الذي أصلتموه في هذه المسألة، وهذا دليل على ضعف قول من قال: إن ابتداء المدة من الحدث. دليل من قال ابتداء المدة من اللبس. استدلوا بحديث صفوان بن عسال المتقدم، وفيه: " كان رسولنا يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم ". وسبق تخريجه. وجه الاستدلال: قوله: " لا ننزع ثلاثة أيام " جعل الثلاثة مدة للبس الخف لا مدة ¬

(¬1) الحاوي (1/ 357).

دليل من قال تبتدئ مدة المسح من أول صلاة صلاها إلى خمس صلوات

للمسح، ولا مدة للحدث (¬1). والجواب أن يقال: يحمل حديث صفوان على حديث غيره كحديث علي وخزيمة وغيرهما المصرحة بأن المسح ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفسر بعضه بعضاً، ولا يضرب بعضه ببعض. دليل من قال تبتدئ مدة المسح من أول صلاة صلاها إلى خمس صلوات. هذا القول حمل حديث يمسح المقيم يوماً وليلة حملوه على خمس صلوات مفروضة، وحجتهم كما ذكر ابن المنذر: " لما اختلف أهل العلم في هذا الباب نظرنا إلى أقل ما قيل، وهو أن يصلي بالمسح خمس صلوات، فقلنا به، وتركنا ما زاد على ذلك لما اختلفوا؛ لأن الرخص لا يستعمل فيها إلا أقل ما قيل، وإذا اختلفوا في أكثر من ذلك وجب الرجوع إلى الأصل، وهو غسل الرجلين. وأجيب: لو عللنا بالخلاف لتركنا المسح على الخفين؛ لأن بعض الصحابة والسلف أنكر المسح على الخفين، أو قال بأنه منسوخ بآية المائدة، فلماذا لم تقولوا بأنهم لما اختلفوا في جواز المسح على الخفين رجعنا إلى الأصل المتيقن، وهو غسل الرجلين. فإن قلتم: لأن القول بأن المسح على الخفين غير مشروع قول ضعيف. ¬

(¬1) انظر الحاوي الكبير (1/ 357).

قلنا: إذاً المنهج في الخلاف اتباع القول القوي على الضعيف، والأقوى على القوي، والاحتياط باب، والقول بأنه لا يجوز الزيادة في المسح على خمس صلوات باب آخر، ولا ينبغي في ترجيح قول أو في تركه التعليل بالخلاف. فالراجح من الأقوال أن المدة تبتدئ من أول مسح بعد الحدث، وهذا القول هو الذي يصدق عليه أنه مسح يوماً وليلة، والله أعلم.

الباب الخامس في السفر وأحكام المسح على الخفين وفيه ستة فصول

الباب الخامس في السفر وأحكام المسح على الخفين وفيه ستة فصول

الفصل الأول اختلاف التوقيت بين المسافر والمقيم

الفصل الأول اختلاف التوقيت بين المسافر والمقيم اختلف العلماء هل المسح على الخفين عبادة مؤقتة أو لا؟ وعلى القول بالتوقيت، هل تختلف مدة المسافر عن المقيم أم لا؟ فقيل: إن المسح مؤقت بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليها للمسافر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وهو رواية عن مالك (¬4)، واختاره ابن حزم (¬5). وقيل: لا توقيت فيه، وهو المشهور من مذهب مالك (¬6)، والقول القديم للشافعي (¬7). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 98)، حاشية ابن عابدين (1/ 271)، شرح معاني الآثار (1/ 85). (¬2) الأم (1/ 50)، روضة الطالبين (1/ 131)، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 365)، نهاية المحتاج (1/ 200). (¬3) مسائل أحمد رواية عبد الله (1/ 117) رقم 148، ومسائل ابن هانئ (1/ 18)، ومسائل أبي داود (ص:17) رقم 58، 59، ورواية الكوسج (1/ 18)، وانظر مطالب أولي النهى (1/ 133،134)، الإنصاف (1/ 176)، شرح الزركشي (1/ 412،416)، المحرر (1/ 12). (¬4) حاشية العدوي (1/ 235) (¬5) المحلى (1/ 321). (¬6) المدونة (1/ 144). (¬7) روضة الطالبين (1/ 131).

دليل من قال بالتوقيت.

وقيل: يمسح خمس صلوات إن كان مقيماً، ولا يمسح أكثر، ويمسح لخمس عشرة صلاة فقط إن كان مسافراً، وبه يقول إسحاق بن راهوية، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبو ثور. وقيل: إن التوقيت يسقط في حال الضرورة، والمشقة، فالضرورة كأن يكون هناك برد شديد متى خلع تضرر، أو مع رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه، وخاف على نفسه (¬1). والمشقة كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس. واختاره ابن تيمية (¬2). دليل من قال بالتوقيت. الدليل الأول: (101) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن عمرو بن قيس، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فاسأله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته، فسألته، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم (¬3). ¬

(¬1) جاء في الفتاوى الهندية (1/ 34): " ولو خاف من نزع خفيه على ذهاب قدميه من البرد، جاز له المسح وإن طالت المدة، كمسح الجبيرة، هكذا في التبيين والبحر الرائق. وانظر الجوهرة النيرة (1/ 28)، حاشية ابن عابدين (1/ 275). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 215)، الاختيارات (ص: 15) والإنصاف (1/ 176). (¬3) المصنف (789)، وسقط من لفظه كلمة " يوماً ".

الدليل الثاني

[الحديث روي مرفوعاً وروي موقوفاً، والرفع محفوظ إن شاء الله تعالى] (¬1). الدليل الثاني: (102) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كأن يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. الحديث (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬

(¬1) سبق تخريجه في مسألة حكم المسح على الخفين. (¬2) المصنف (795). (¬3) وسبق الكلام على بعض ألفاظه، فخرجت من ألفاظه زيادة (إذا أدخلناهما على طهر) وهي زيادة شاذة في شروط المسح على الخفين، في اشتراط إدخال الخفين على طهر. وأنا هنا إن شاء الله استوفي تخريجه. الحديث مداره على عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن صفوان به، ورواه عن عاصم جماعة، منهم: الأول: سفيان بن عيينة، كما في حديث الباب، وهو في مصنف عبد الرزاق (795) ومن طريقه الطبراني في الكبير (7353) والحميدي في مسنده (881)، وابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أبي شيبة (1/ 162)، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (478). وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (4) حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد. والنسائي (126) أخبرنا قتيبة. والطحاوي (1/ 82) قال: حدثنا يونس. والبيهقي (1/ 276) من طريق الحسن بن محمد الزعفراني، وأيضاً (1/ 118) من طريق سعدان بن نصر، كلهم عن سفيان به، بذكر المسح على الخفين فقط. وأخرجه الترمذي (3535) قال: حدثنا بن أبي عمر حدثنا سفيان به بذكر المسح على الخفين وباب التوبة، والمرء يحب القوم. وأخرجه ابن حبان (1321) من طريق هارون بن معروف حدثنا سفيان به بتمامه، بذكر المسح على الخفين، والتوبة، والمرء مع من أحب. الثاني: الثوري، عن عاصم. كما في مصنف عبد الرزاق (792) ومن طريقه الطبراني (8/ 56) رقم 7351 بذكر المسح على الخفين فقط. وأخرجه أحمد (4/ 239) حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان به، بذكر المسح على الخفين، وكون المرء مع من أحب. وسنن النسائي الصغرى (127)، والكبرى (145) من طريق يحيى بن آدم، عن الثوري، وقرن جماعة مع الثوري، عن عاصم به بذكر المسح على الخفين فقط. وأخرجه ابن خزيمة (196) من طريق يحيى بن آدم به بذكر المسح على الخفين فقط. الثالث: حماد بن سلمة، عن عاصم. أخرجه أحمد (4/ 239) حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم به، ولفظه: غدوت على صفوان بن عسال المرادي أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك؟ قلت: ابتغاء العلم. قال: ألا أبشرك، ورفع الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب قال: فذكر الحديث. وأخرجه أحمد (4/ 240) قال: ثنا يونس، ثنا حماد - يعني: ابن سلمة به - بذكر فضل طلب العلم فقط. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ومن طريق حماد بن سلمة أخرجه الطيالسي (1166) وقرنه برواية حماد بن زيد وهمام وشعبة، عن عاصم به، بذكر المسح على الخفين. ورواه من نفس الطريق (1165) بفضل طلب العلم. (1167) بذكر المرء مع من أحب. و (1168) بذكر باب التوبة. وأخرجه الدارمي (357) أخبرنا عمرو بن عاصم، حدثنا حماد بن سلمة به، بذكر طلب العلم، وأشار إلى المسح على الخفين. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 82) والطبراني في الكبير (8/ 58) رقم 7359 من طريق حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة به. الرابع: همام، عن عاصم. رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1166) مقروناً بغيره، بذكر المسح على الخفين. وأخرجه أحمد (4/ 239) حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام به. واختصره بذكر غزوات صفوان بن عسال مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه الطبراني في الكبير (7361) من طريق عبد الله بن رجاء، عن همام به، وذكر المسح على الخفين، والتوبة، وقصة الأعرابي. الخامس: شعبة، عن عاصم. رواه أبوداود الطيالسي في مسنده (1166) والنسائي (159) من طريق يزيد بن زريع، كلاهما عن شعبة به بذكر المسح على الخفين. وأخرجه النسائي في الصغرى (158) وفي الكبرى (132) أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثني خالد، حدثنا شعبة به، وذكر طلب العلم، والمسح على الخفين. السادس: حماد بن زيد، عن عاصم. رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1166) مقروناً بغيره. وأخرجه أحمد (4/ 241) قال: ثنا حسن بن موسى، ثنا حماد بن زيد به، بذكر فضل طلب العلم فقط. وأخرجه الترمذي (3536) حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، حدثنا حماد بن زيد به، وذكر الحديث بطوله. وأخرجه أيضاً بعد ح (2387) قال: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، ثنا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حماد بن زيد به، بذكر المرء مع من أحب. ومن طريق أحمد بن عبدة أخرجه ابن خزيمة (17) وقرنه مع غيره، بذكر فضل العلم، والمسح على الخفين. وأخرجه النسائي في الكبرى (6/ 344) رقم 11178 قال: نا محمد بن النضر بن مساور، نا حماد به، بذكر المرء مع من أحب، وذكر باب التوبة. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 82) بذكر المسح على الخفين فقط. وأخرجه الطبراني بتمامه (8/ 59) رقم 7360 من طريق عارم أبي النعمان ثنا حماد بن زيد به. السابع: أبو خيثمة، عن عاصم. وأخرجه ابن الجعد في مسنده (2587) والنسائي في الصغرى (127) وفي الكبرى (145) من طريق يحيى بن آدم. والبيهقي (1/ 289) من طريق أبي النضر، كلهم عن زهير بن معاوية (أبو خيثمة) به وقرنه النسائي بغيره بذكر المسح على الخفين فقط. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (1320) من طريق عبد الرحمن بن عمرو البجلي، قال: حدثنا زهير بن معاوية به. وأخرجه الطبراني في الكبير (8/ 58) رقم 7358 من طريق عمرو بن خالد الحراني ثنا زهير به. بذكر المسح على الخفين، والمرء مع من أحب. الثامن: أبو الأحوص، عن عاصم. أخرجه الترمذي في سننه (96) قال: حدثنا هناد، حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم به. بذكر المسح على الخفين، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه الطبراني في الكبير (8/ 60) رقم 7362 من طريق عمرو بن عون، ثنا أبو الأحوص به. التاسع: مالك بن مغول، عن عاصم. كما عند النسائي (127)، والطبراني في الكبير (8/ 63) رقم 7374. العاشر: شيبان بن عبد الرحمن، عن عاصم، كما في المعجم الكبير (8/ 64) رقم 7377، وسنن البيهقي (1/ 114). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحادي عشر: مسعر، عن عاصم، بذكر المسح على الخفين، كما في سنن الدارقطني (1/ 133)، البيهقي (1/ 114،115)، إلا أنه قال: من غائط وبول وريح، وذِكْر الريح شاذ في الحديث مخالف لما رواه الجماعة من ذكر النوم. قال الدارقطني: لم يقل في هذا: أو ريح غير وكيع، عن مسعر. الثاني عشر: النعمان بن راشد، عن عاصم. أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (251) من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن النعمان بن راشد، عن عاصم به، بذكر المسح على الخفين. الثالث عشر: عن المسعودي، عن عاصم، كما في معجم الطبراني الكبير (8/ 66) رقم 7386. الرابع عشر: أبو بكر بن عياش، عن عاصم، كما عند النسائي (127) مقروناً بغيره. الخامس عشر: روح، عن عاصم، كما في معجم الطبراني (8/ 64) رقم 7376 السادس عشر: شريك، عن عاصم، كما في المعجم الكبير (8/ 57) رقم 7356 بذكر المسح على الخفين فقط. السابع عشر: الوليد بن معدان، عن عاصم، كما في معجم الطبراني (8/ 60) رقم 7363. الثامن عشر: عن سعيد الجريري، عن عاصم. كما في معجم الكبير للطبراني (8/ 64) ح 7378، بذكر المسح على الخفين فقط. التاسع عشر: حبيب بن حسان عن عاصم به، كما في المعجم الكبير (7380). العشرون: حجاج، عن عاصم، كما في المعجم الكبير (7381). الحادي والعشرون: عن أبي الحسن الهمداني علي بن صالح، عن عاصم، كما في المعجم الكبير (8/ 64) رقم 7375. الثاني والعشرون: معمر، عن عاصم، وقد ذكر هذا الطريق بشيء من التفصيل، والاختلاف على معمر في لفظه، فانظره إن شئت في شروط المسح على الخفين، في شرط إدخال الخفيه على طهر، والله أعلم. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (103) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم، عن أبى عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين، قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (¬1). [رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (¬2). الدليل الرابع: (104) ما رواه أحمد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله الحضرمي، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك الأشجعي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام للمسافر ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (¬3). ¬

= وقد جاء الحديث من غير طريق عاصم، أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 68) رقم 7394 من طريق الوليد بن مسلم، أخبرني مروان بن جناح، عن إسحاق بن عبد الله، عن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن زر، عن صفوان بن عسال المرادي به. بذكر المسح على الخفين. (¬1) المسند (5/ 214). (¬2) سبق بحثه في بحث هل المسح على الخفين رخصة أم عزيمة، فانظره إن شئت. (¬3) المسند (6/ 27).

[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬1). ¬

(¬1) الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 161) رقم 1853 و (7/ 425) رقم 37011 قال: حدثنا هشيم بن بشير به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الطبراني في الكبير (18/ 40) رقم 69. وأخرجه الروياني في مسنده (1/ 393) رقم 599 والبزار كما في كشف الأستار (309) قالا: حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا هشيم به. وأخرجه الدارقطني (1/ 197) والبيهقي في السنن (1/ 275) من طريق إبراهيم بن محشر، ثنا هشيم به. قال البيهقي: قال أبو عيسى الترمذي: سألت محمداً - يعني: البخاري - عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن. وأخرجه الطحاوي (1/ 82) والطبراني في الكبير (18/ 40) رقم 69 من طريق سعيد ابن منصور، ثنا هشيم به. وأخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (473) من طريق أبي جعفر، حدثنا هشيم به. وذكره البخاري في التاريخ الكبير (1/ 390) وقال هشيم، عن داود بن عمرو به. وقال أبو عبد الله: إن كان هذا محفوظاً فإنه حسن. وجاء في العلل لابن أبي حاتم (1/ 39) قال: سألت أبي عن حديث رواه هشيم، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك ... الأشجعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه (أمر) بالمسح بتبوك للمسافر ثلاثاً، وللمقيم يوم وليلة وثبت. ورواه الوليد بن مسلم، عن إسحاق بن سيار، عن يونس بن ميسرة بن حليس، عن أبي إدريس، قال: سألت المغيرة بن شعبة عن ماحصر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك، فبال النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح على خفيه. قلت - القائل ابن أبي حاتم -: ورواه خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن إبي إدريس، عن بلال، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين والخمار. قلت لأبي: أيهم أشبه وأصح؟ فقال أبي: داود بن عمرو، وليس بالمشهور، وكذلك إسحاق بن سيار ليس =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بالمشهور، لم يرو عنه غير الوليد، ولا نعلم روى أبو إدريس عن المغيرة بن شعبة شيئاً سوى هذا الحديث، وأما حديث خالد فلا أعلم أحداً تابع خالداً في روايته عن أبي قلابة، ويروونه عن أبي قلابة، عن بلال، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً لايقول: أبو إدريس. وأشبههما حديث بلال؛ لأن أهل الشام يروون عن بلال هذا الحديث في المسح من حديث مكحول وغيره، ويحتمل أن يكون أبو إدريس قد سمع من عوف والمغيرة أيضاً؛ فإنه من قدماء تابعي أهل الشام وله إدراك حسن اهـ. فعلى هذا إسحاق بن سيار لم يرو عنه غير الوليد بن مسلم، ولم يوثقه أحد، فهو مجهول. جاء في لسان الميزان: إسحاق بن سيار، عن يونس بن ميسرة، وعنه الوليد بن مسلم، قال أبو حاتم: لا أعرفه مجهول. انتهى قال الحافظ: وعبارة ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: لا أعرفه، وإذا لم يعرفه مثل أبي صار مجهولاً. لسان الميزان (1/ 364). قلت: لم أقف على هذا النص في الجرح والتعديل، وقد ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه، انظر الجرح والتعديل (2/ 222)، فلعل الحافظين الذهبي وابن حجر نقلاه من كتاب آخر، والله أعلم. هذا فيما يتعلق في حديث إسحاق بن سيار، وأما ما يتعلق بحديث بلال فالأكثر على عدم ذكر أبي إدريس بين أبي قلابة، وبين بلال. فلعل أرجحها رواية عوف بن مالك، فإنها سالمة من الاختلاف، وطريقها مشهور، والله أعلم. وذكر البخاري في التاريخ الكبير هذا الاختلاف على أبي إدريس في ترجمة إسحاق بن سيار، فقال البخاري (1/ 390): إسحاق بن سيار، سمع يونس بن ميسرة الشامي سمع أبا إدريس الخولاني، سألت المغيرة بن شعبة بدمشق، قال: وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك، فمسح على خفيه، قاله لي سليمان بن عبد الرحمن، عن الوليد بن مسلم. وقال هشيم، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن عوف ابن مالك، قال: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثاً للمسافر ويوماً للمقيم، قال أبو عبد الله: إن كان هذا محفوظاً، فإنه حسن. وقال حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس، عن بلال مسح النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال غير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن بلال مرسل اهـ. وقال الحافظ في الدراية (1/ 73) رواه أحمد وإسحاق والبزار والطبراني في الأوسط قال أحمد: هذا من أجود حديث في المسح.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (105) ما وراه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا المهاجر مولى البكرات، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للمسافر يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2) ¬

(¬1) المصنف (1/ 163) رقم 1878. (¬2) فيه مهاجر بن مخلد، جاء في ترجمته: ذكره ابن حبان في الثقات (7/ 486). وقال: إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: صالح. الجرح والتعديل (8/ 262). وقال ابن أبي حاتم: قال سألت أبي عن مهاجر أبي مخلد مولى البكرات، فقال: لين الحديث، ليس بذاك، وليس بالمتين شيخ يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال العجلي: بصري ثقة. معرفة الثقات (2/ 301). وكان وهيب يعيب المهاجر يقول لا يحفظ. الكامل (6/ 460). وقال العقيلي بعد أن خرج هذا الحديث: والمتن معروف من غير هذا الوجه، ولا يتابع مهاجر على هذه الرواية. الضعفاء الكبير (4/ 208). وفي التقريب: مقبول، يعني إن توبع، ولا أعلم أحداً تابعه على هذا الإسناد، فالحديث ضعيف. وقال الترمذي في العلل الكبير (1/ 175): " سألت محمداً - يعني البخاري - فقلت: أي الحديث عندك أصح في التوقيت في المسح على الخفين؟ قال: صفوان بن عسال، وحديث أبي بكرة حسن اهـ. ولعل البخاري لم يقصد الحسن الاصطلاحي، وذلك لأن حديث صفوان حديث =

الدليل السادس

الدليل السادس: الآثار الموقوفة على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهي وإن كانت موقوفة إلا أن لها حكم الرفع، وذلك لأن القول بالتوقيت لا يمكن أن يقال بمحض الرأي، فلا بد أن يكون القائل بذلك وقف عليه من الشرع، فما الفرق بين أربع وعشرين ساعة، وخمس وعشرين ساعة للمقيم لولا أن ذلك متلقى من الشرع، ومثله يقال في حق المسافر، وإليك هذه الآثار: الأثر الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (106) رواه عبد الرزاق، عن عبد الله بن المبارك، قال: حدثني عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان النهدي، قال: حضرت سعداً وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين، فقال عمر: يمسح عليهما إلى مثل ساعته من يومه وليلته (¬1). ¬

= حسن، مداره على عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث، فإذا كان حديث صفوان حديثاً حسناً، فحديث أبي بكرة أقل منه درجة، فيكون ضعيفاً. والله أعلم. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه الشافعي في مسنده (ص: 17) ومن طريق الشافعي أخرجه البغوي في شرح السنة (237) عن عبد الوهاب به. وأخرجه ابن ماجه (556) قال: حدثنا محمد بن بشار وبشر بن هلال الصواف، قالا: ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد به. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (87) قال: من طريق يحيى بن معين، قال: حدثنا عبد الوهاب به. وأخرجه الدارقطني (1/ 194) من طريق محمد بن المثنى، وأبي الأشعث، والعباس بن يزيد ومسدد أربعتهم، عن عبد الوهاب الثقفي به. وأخرجه ابن خزيمة (1/ 96) من طريق بندار وبشر بن معاذ العقدي ومحمد بن أبان، قالوا: نا عبد الوهاب بن عبد المجيد به. وأخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 211) من طريق ابن خزيمة، حدثنا بندار وحده به. وأخرجه ابن حبان (1324) من طريق محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب الثقفي به. وأخرجه أيضاً (1328) من طريق عمر بن يزيد السياري، حدثنا عبد الوهاب الثقفي به. وأخرجه البيهقي (1/ 276) من طريق زيد بن الحباب، عن عبد الوهاب الثقفي به. وأخرجه البيهقي (1/ 281) من طريق محمد بن أبي بكر، ثنا عبد الوهاب به. وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (11/ 154،155) من طريق بندار وابن المثنى، قالا: حدثنا عبد الوهاب به. ورواه ابن عبد البر في التمهيد أيضاً (11/ 155) من طريق علي بن المديني، قال: حدثنا عبد الوهاب به. قال ابن عبد البر: قال أبو يحيى الساجي: مهاجر أبو مخلد هذا صدوق ومعروف، وليس قول من قال فيه مجهول بشيء، روى عنه أيوب السختياني وعوف الأعرابي وحماد بن زيد وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي وغيرهم، واحتج به الشافعي في توقيت المسح على الخفين اهـ. وأخرجه الطحاوي (1/ 82) من طريق إبراهيم بن أبي الوزير، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي به. وسبق الكلام على الاختلاف في متنه عند الكلام على شروط المسح على الخفين، في ذكر اشتراط إدخال الخفين على طهارة، والله أعلم. (¬1) المصنف (1/ 209) رقم 808.

[إسناده صحيح] (¬1). ¬

(¬1) رجاله ثقات، وعاصم بن سليمان، هو الأحول. والأثر أخرجه البيهقي في السنن (1/ 276) من طريق سفيان، عن عاصم به. وأخرجه الطحاوي (1/ 84) من طريق حفص بن غياث، عن عاصم به. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 443) من طريق خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي به. فهذه متابعة من خالد لعاصم. وقد جاء عن عمر القول بالتوقيت من طرق كثيرة، منها: الأول: عن ابن عمر، عن عمر. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 164) حدثنا يزيد بن هارون، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب قال في المسح على الخفين: للمسافر ثلاث، وللمقيم يوم إلى الليل. وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات. وأبو حازم هو سلمان الأشجعي الكوفي، وليس سلمة بن دينار، فإن هذا لم يسمع من ابن عمر، بخلاف الأول. ومنها سويد بن غفلة، عن عمر. أخرجه الطحاوي (1/ 83) حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، قال: قلنا لنابتة الجعفي، وكان أجرأنا على عمر: سله عن المسح على الخفين، فسأله، فقال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة. فالأثر إسناد رجاله كلهم ثقات، وإنما جعلت الحديث من رواية سويد بن غفلة، عن عمر، لا من رواية نباتة عن عمر؛ لأن نباتة في هذا الإسناد ليس واسطة بين سويد وبين عمر حتى ممكن أن يكون من رواية نباتة عن عمر، وقد جاء عند الطحاوي (1/ 84) عن سويد ابن غفلة قال: أتينا عمر، فسأله نباتة، فهذا صريح في أن السائل والسامع اشتركا في سماعه من عمر ... قلت ذلك حتى لا يضعف الأثر بنباتة. ونباتة وثقه العجلي، وقال ابن حزم في المحلى (2/ 91): من أوثق التابعين ‍‍‍. وفي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = التقريب: مقبول. يعني: إن توبع، وإلا فلين. وحكم الحافظ أدق. وقد اختلف على أبي الأحوص: فرواه ابن أبي شيبة (1/ 164) حدثنا أبو الأحوص، عن عمران بن مسلم، قال: قلنا لنباتة الجعفي - وكان أجرأنا على عمر -: سله، فذكر الحديث. فهنا أسقط من الإسناد سويد بن غفلة. ورواه يحيى بن حسان كما في إسناد الطحاوي المتقدم، عن أبي الأحوص، عن عمران، عن سويد بن غفلة به. وهذا أرجح؛ لأن يحيى بن حسان قد توبع بذكر سويد، تابعه: الثوري وزهير ومالك بن مغول، فقد أخرجه الطحاوي (1/ 83) من طريق مؤمل، قال: ثنا سفيان ثنا عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة به، إلا أنه قال: امسح عليهما يوماً وليلة. ومؤمل صدوق، وسوء حفظه قد زال بالمتابعة. وأخرجه الطحاوي (1/ 83) من طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، أنا مالك بن مغول، عن سويد، قال: أتينا عمر، فسأله نباتة .. وذكر الأثر. وقد صرح هشيم بالتحديث فالإسناد صحيح. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 436) من طريق زهير، ثنا عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة. فهؤلاء ثلاثة ثقات يذكرون في الإسناد سويداً، وهم الثوري، ومالك بن مغول، وزهير. ورواه حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، واختلف على حماد فيه: فرواه شعبة كما عند الطحاوي (1/ 83) عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن نباتة، عن عمر، بذكر نباتة. ورواه هشام، عن حماد، واختلف على هشام: فرواه أبو عامر العقدي كما عند الطحاوي (. . .) عن هشام، عن حماد به، بذكر نباتة. ورواه مسلم - يعني: ابن إبراهيم - ثنا هشام، ثنا حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر، فأسقط نباتة. وعلى تقدير ترجيح طريق شعبة حيث لم يختلف عليه، فإن الإسناد حسن؛ لأن نباتة قد توبع، وباقي الإسناد رجالهم كلهم ثقات إلا حماد بن أبي سليمان ففي التقريب: فقيه صدوق له أوهام، والله أعلم.

الأثر الثاني: عن ابن مسعود. (107) رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن إبراهيم، عن الحارث بن سويد، عن عبد الله بن مسعود، قال: ثلاثة أيام للمسافر، ويوم للمقيم (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (799). (¬2) رجاله كلهم ثقات، وإبراهيم هو التيمي، ومن طريق الثوري أخرجه الطحاوي (1/ 84) والبيهقي (1/ 276). وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 167) حدثنا ابن مهدي، عن سفيان به. وهذا إسناد صحيح أيضاً. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 165) حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن الحارث، قال: خرجت مع عبد الله إلى المدائن، فمسح على خفيه ثلاثاً لا ينزعهما. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي (1/ 277) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش به. وأخرجه عبد الرزاق (800) عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل (شقيق بن سلمة) به. وأخرجه عبد الرزاق (801) عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة به. فهذه متابعة من عامر بن شقيق للأعمش. وأخرجه الطحاوي (1/ 84) من طريق مغيرة، عن إبراهيم، عن عمرو بن الحارث به. وهذا سند فيه عنعنة مغيرة، وهو يدلس عن إبراهيم، كما أن إبراهيم لم يسمع من عمرو بن الحارث؛ لأن إبراهيم كان مولده سنة خمسين، وعمرو بن الحارث توفي بعد الخمسين بيسير. وقد قال العجلي عن النخعي: لم يحدث عن أحد من الصحابة، وأدرك جماعة منهم، ورأى عائشة رؤيا، وعلى كل حال فهو صالح في المتابعات، وقد صح من طريق شقيق بن سلمة، عن عمرو. =

الأثر الثالث: عن ابن عباس. (108) رواه الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة، قال: سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن المسح على الخفين، قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الأثر الرابع: عن سعد بن أبي وقاص. (109) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن ¬

= وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 164) حدثنا هشيم، أخبرنا حصين، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، أنه كان يقول في المسح على الخفين: ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا أنه منقطع؛ لأن إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وعليه فالقول بالتوقيت ثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه. (¬1) شرح معاني الآثار (1/ 84). (¬2) عبد الصمد بن عبد الوارث، وإن قيل فيه: صدوق إلا أن الحافظ قال في التقريب: ثبت في شعبة اهـ وقد توبع عبد الصمد، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 166) حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة به. وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 277) من طريق موسى بن خلف العمي، ثنا قتادة به. وأخرجه عبد الرزاق (802) عن الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 165) حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة به. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا موسى بن عبيدة فإنه ضعيف، وعلى كل فهو إسناد صالح في المتابعات، وعليه فالقول ثابت عن ابن عباس بالتوقيت للمقيم والمسافر، وهذا يؤكد رجوع ابن عباس عن القول بإنكار المسح على الخفين كما بينت ذلك في مسألة متقدمة، والله أعلم.

دليل من قال بعدم التوقيت

طلحة بن يحيى، عن أبان بن عثمان، قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المسح على الخفين، فقال: ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم (¬1). [إسناده حسن] (¬2). دليل من قال بعدم التوقيت. الدليل الأول: (110) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا موسى بن علي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: إتردت من الشام إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فخرجت من الشام يوم الجمعة، ودخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر، وعلي خفان مجرمقانيان، فقال لي: متى عهدك يا عقبة بخلع خفيك؟ فقلت: لبستهما يوم الجمعة، وهذا الجمعة، فقال لي: أصبت السنة (¬3). [إسناده صحيح، وأكثر الرواة على كلمة أصبت بدون كلمة السنة] (¬4). ¬

(¬1) المصنف (1/ 166). (¬2) والمسح على الخفين ثابت عن سعد في البخاري (202)، وهذا الأثر شاهد للأثار السابقة. (¬3) شرح معاني الآثار (1/ 80). (¬4) في إسناده موسى بن عُلَّي بن رباح، جاء في ترجمته: قال أحمد بن حنبل: شيخ ثقة. الجرح والتعديل (8/ 153). وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: موسى بن على ثقة. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الحافظ في التهذيب (10/ 323): وقال ابن معين لم يكن بالقوي، ولم يذكر الحافظ مرجعاً أو راوياً عن ابن معين، لأن ذلك من زياداته على تهذيب الكمال. وقال أبو حاتم الرازي: كان رجلاً صالحاً، وكان يتقن حديثه لا يزيد ولا ينقص، صالح الحديث، وكان من ثقات المصريين، وكان والياً على مصر. المرجع السابق. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. الطبقات الكبرى (7/ 515). وقال العجلي: مصري ثقة. معرفة الثقات (2/ 305). وقال ابن حبان: من ثقات المصريين ومتقنيهم. مشاهير الأمصار (1531). فهذا أحمد وابن معين في رواية إسحاق بن منصور عنه، وأبو حاتم الرازي، وابن سعد، وابن حبان والعجلي كل هؤلاء وثقوه. وقال الحافظ ابن حجر في زيادته على تهذيب الكمال: وقال الساجي: صدوق، وقال ابن عبد البر: ما انفرد به فليس بالقوي. تهذيب التهذيب (10/ 323). وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ. وباقي رجاله ثقات. والحديث رواه موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر بذكر: أصبت السنة. وصحح إسناده الدارقطني كما في سننه، وحكم الدارقطني (1/ 196) بشذوذ زيادة أصبت السنة في كتابه العلل، وسيأتي النقل عنه إن شاء الله تعالى. ورواه يزيد بن أبي حبيب، واختلف عليه فيه: فرواه عمرو بن الحارث وابن لهيعة والليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر به. وفي آخره، قال: " أصبت " ولم يقل: " أصبت السنة ". ورواه ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن يزيد بن أبي حبيب به، بذكر أصبت السنة، لم يختلف على ابن وهب فيه. ورواه أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن حيوة بن شريح، واختلف على أبي عاصم: فرواه ابن وهب وأحمد بن يوسف السلمي، عن أبي عاصم، عن حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب به، وقال في آخره: " أصبت السنة ". وخالفهما عباس الدوري، فرواه عن أبي عاصم، عن حيوة به، بالاقتصار على قوله: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = "أصبت "، وهذه توافق رواية الليث وعمرو بن الحارث وابن لهيعة، عن عبد الله بن الحكم. ورواه المفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب به، بلفظ: " أصبت السنة ". ورواه يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب به، إلا أنه أسقط علي بن رباح، وقال: أصبت السنة. هذا فيما يتعلق بالاختلاف في متنه، خاصة زيادة: " أصبت السنة " وقد تبين لنا من زادها ممن لم يزدها. وإليك تفصيل ما أجمل. [تخريج الحديث] الحديث رواه الطحاوي من طريق موسى بن علي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر به بذكر أصبت السنة، كما في إسناد الباب وهذا إسناد صحيح، وعلى أقل أحواله أن يكون حسناً. والحديث رواه أيضاً الدارقطني (1/ 196) حدثنا أبو بكر النيسابوري، نا سليمان بن شعيب به. قال أبو بكر: هذا حديث غريب، وقال الدارقطني: وهو صحيح الإسناد. وهذا توثيق ضمني من الدارقطني لموسى بن علي، وقد علمت الاختلاف فيه. وقد جعل ابن حجر حديثه من قبيل الحسن، وقد حكم الدارقطني في كتابه العلل بشذوذ كلمة: " السنة " من قوله: " أصبت السنة " كما سيأتي. وأخرجه البيهقي (1/ 280) من طريق بحر بن نصر بن سابق الخولاني، ثنا بشر بن بكر به. وجاء ذكر أصبت السنة من غير هذا الطريق، أخرجها الدارقطني (1/ 199) حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني حيوة، سمعت يزيد بن أبي حبيب، يقول: حدثني عبد الله بن الحكم، عن علي بن رباح، أن عقبة بن عامر حدثه أنه قدم على عمر بفتح دمشق، قال: وعلي خفان، فقال لي عمر: كم لك يا عقبة لم تنزع خفيك؟ فتذكرت من الجمعة إلى الجمعة، قال: أحسنت، وأصبت السنة. فهذه متابعة من عبد الله بن الحكم لموسى بن علي بن رباح. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأبو بكر النيسابوري شيخ الدارقطني: جاء في الأنساب: قال الدارقطني: لم نر مثله في مشايخنا، ولم نر أحفظ منه للأسانيد والمتون، وكان أفقه المشايخ، جالس المزني والربيع، وكان يعرف زيادات الألفاظ والمتون .. الأنساب (5/ 551). ويونس ومن بعده من رجال التهذيب، وإسناده كلهم ثقات إلا عبد الله بن الحكم، لم يرو عنه إلا يزيد بن أبي حبيب، قال الذهبي: مجهول. انظر المغني الترجمة (1660)، وديوان الضعفاء له (1079). وقال الدارقطني في حاشية السنن: ليس بمشهور. لسان الميزان (3/ 276). وقال في موضع آخر: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال الجوزقاني في كتاب الأباطيل: لا يعرف بعدالة ولا جرح. المرجع السابق. وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: الحكم بن عبد الله البلوي ثقة. الجرح والتعديل (3/ 122). وذكره ابن حبان في الثقات. (7/ 30). وفي التقريب: صدوق. وهذا إسناد حسن. ورواه أبو عاصم، واختلف عليه فيه في. فرواه ابن ماجه (558) قال: حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا أبو عاصم، ثنا حيوة بن شريح، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الحكم بن عبد الله البلوي، عن علي بن رباح اللخمي، عن عقبة بن عامر الجهني، أنه قدم على عمر بن الخطاب من مصر، فقال: منذ كم لم تنزع خفيك؟ قال: من الجمعة إلى الجمعة قال أصبت السنة. ورواه عباس الدوري، عن أبي عاصم به، بدونها. فقد أخرجه المزي في تهذيب الكمال (7/ 107) بسنده، من طريق أبي بكر النيسابوري إملاء، قال: حدثنا عباس الدوري، قال: أبو عاصم، عن يزيد بن أبي حبيب به، وليس فيه إلا قوله: " أصبت "، ولم يقل: أصبت السنة. ووافق أبا عاصم في رواية عباس الدوري عنه: كل من عمرو بن الحارث والليث وابن لهيعة فقد رووه عن يزيد بن أبي حبيب به، بدون زيادة كلمة: " السنة " مما يجعله موقوفاً على عمر. ورواه محمد بن أحمد بن الجنيد كما في تهذيب الكمال (7/ 107) عن أبي عاصم به إلا أنه قال عبد الله بن فلان البلوي، بدلاً من الحكم بن عبد الله. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال مرة: الحكم بن عبيد الله كما في رواية أحمد بن منصور عن أبي عاصم. قال أبو بكر بن زياد عقيب حديث عباس الدوري، هكذا قال عباس: الحكم بن عبد الله وأحسب هذا من أبي عاصم، أراه كان يضطرب في اسمه، وأهل مصر أعلم به، قالوا: عبد الله ابن الحكم. الخ كلامه رحمه الله. ورواه يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب به، بلفظ: " أصبت السنة " إلا أنه خالف الجماعة في إسناده، فرواه الدارقطني (1/ 195) حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أبو الأزهر، نا وهب بن جرير، ثنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر به، وقال: أصبت السنة. قال الدارقطني: لم يذكر بين يزيد بن أبي حبيب وعلي بن رباح أحداً اهـ. وقد رواه كما سبق حيوة بن شريح، وعمرو بن الحارث، والليث، وابن لهيعة كلهم رووه عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم، عن علي بن رباح. ويحيى بن أيوب لا تحتمل مخالفته لهؤلاء، وقد قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق ربما أخطأ. وأخرج الطحاوي (498) من طريق المفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب، وفيه: أصبت السنة، وقد اختلف على المفضل في إسناده: فرواه الطحاوي (498) عن أبي بكرة، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا المفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن عقبة بن عامر. (لم يذكر علي بن رباح). وهذا إسناد منقطع مخالف لرواية الجماعة المتقدم ذكرهم، وقد خولف فيه إبراهيم بن أبي الوزير، فرواه البيهقي (1/ 380) أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد، ثنا عبيد بن شريك، نا يحيى بن بكير، ثنا مفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله ابن الحكم البلوي، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر، وفيه: أصبت السنة. وأخرجه الدارقطني (1/ 165،196) حدثنا أبو بكر النيسابوري، نا محمد بن أحمد بن الجنيد، نا يحيى بن غيلان، ثنا المفضل بن فضالة، فقال: سألت يزيد بن أبي حبيب، عن المسح على الخفين، فقال: أخبرني عبد الله بن الحكم، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر به، وفيه: أصبت السنة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فهذا يحيى بن بكير، ويحيى بن غيلان، كلاهما روياه عن المفضل بن فضالة بذكر الراوي علي بن رباح، فهي موافقة لرواية الجماعة في الإسناد، مخالفة لهم بذكر كلمة السنة. فتبين من هذا البحث أن كلمة: " أصبت " متفقون عليها، مختلفون حول زيادة كلمة (السنة) وهي زيادة مؤثرة؛ لأنها تجعل الأثر بدلاً من يكون موقوفاً على عمر، تجعله في حكم الرفع، وقد جعلها الدارقطني زيادة " السنة " شاذة. قال الدارقطني في كتاب العلل (2/ 110) رواه موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر أنه مسح من الجمعة إلى الجمعة على خفيه، وتابعه مفضل بن فضالة وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن علي بن رباح فقالا فيه: أصبت السنة. قلت: رواية ابن لهيعة ليس فيها أصبت السنة، وإنما فيها كلمة أصبت فقط. ثم قال الحافظ: وخالفهم عمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب - قلت: الصواب ابن لهيعة بدلاً من يحيى بن أيوب - والليث بن سعد، فقالوا فيه: فقال عمر أصبت، ولم يقولوا: السنة كما قال من تقدمهم، وهو المحفوظ، والله أعلم. ورواه جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن رباح، عن عقبة، وأسقط من الإسناد عبد الله بن الحكم البلوي، وقال فيه: أصبت السنة كما قال ابن لهيعة والمفضل اهـ. كلام الدارقطني. قلت: الصواب كما قال المفضل فقط، لما تقدم. ويصعب الحكم بشذوذها وقد جاءت من أكثر من طريق، وإليك عدد الذين زادوها: الأول: موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة، لم يختلف عليه في ذلك. الثاني: يزيد بن أبي حبيب، وقد اختلف عليه. فرواه المفضل بن فضالة، ويحيى بن أيوب، وإن كان أسقط من إسناده عبد الله بن الحكم. وحيوة بن شريح، في رواية، لأنه قد اختلف عليه. ثلاثتهم عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر. وأما الذين قالوا: أصبت بدون كلمة السنة. فجاءت من طريق عمرو بن الحارث والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة وحيوة بن =

وأجيب عن هذا الحديث بعدة إجابات: الأول: الحكم بشذوذ كلمة: " السنة " من قوله: " أصبت السنة" وممن حكم بشذوذها الدارقطني في العلل كما ذكرنا ذلك عنه في الكلام على تخريج الحديث. ويصعب الحكم بشذوذها، وقد جاءت من أكثر من طريق. وقال أبو داود في مسائل أحمد: سمعت أحمد سئل عن رجل كان يتدين بحديث عقبة بن عامر في المسح، فكان يمسح أكثر من ثلاثة ولياليهن، ثم ترك ذلك. قال أحمد: يعيد ما كان صلى، وقد مسح أكثر من ثلاثة ولياليهن. فقال له الرجل: احتياطاً ذلك يُحتاط له، أو هو واجب عليه؟ فقال أحمد: لا يمسح على خفيه أكثر من ثلاثة ولياليهن، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى أن يتبع من قول عقبة بن عامر " (¬1). الجواب الثاني: الترجيح. أي ترجيح الأحاديث التي تقول بالتوقيت على هذه الرواية، ووجه ترجيحها على هذه الرواية من وجوه: منها: أن الرواة متفقون على كلمة: " أصبت " مختلفون في إضافة ¬

= شريح في رواية، أربعتهم رووه عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي به بلفظ: أصبت، ولم يقل: أصبت السنة. فالخلاصة: فرواية يزيد بن أبي حبيب يصعب الترجيح بين طرقها، فأرى أنه روي بالوجهين، وتبقى رواية موسى بن علي بن رباح طريق صحيح سالم من الاختلاف في زيادة كلمة السنة، والله أعلم. (¬1) مسائل أحمد رواية أبي داود (ص: 17) رقم 60.

كلمة: " السنة "، وهي إضافة مؤثرة؛ لأن الاقتصار على كلمة: " أصبت" تجعل الحديث موقوفاً، بينما إذا قلنا: " أصبت السنة " جعلتها في حكم المرفوع، ولا ينبغي لمسألة مهمة جداً، تتعلق بركن من أركان الإسلام، بل هي أعظم الأركان العملية، وهي الصلاة التي مفتاحها الطهارة، أن نأخذ بهذه الكلمة المختلف في ثبوتها، وندع الأحاديث الصحيحة التي لا خلاف فيها، والمرفوعة صريحاً، وليس حكماً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأصل غسل الرجلين بالماء، جاءت الأحاديث الصحيحة بتوقيت المسح في ذلك يوماً وليلة للمقيم وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، ولا نتجاوز ذلك إلا بدليل صريح خال من النزاع، وإلا رجعنا إلى الغسل الذي هو المتيقن. ومنها: أنه قد ثبت عن عمر القول بالتوقيت بأسانيد صحيحة، وقد سقتها بالقول الأول. قال البيهقي: فإما أن يكون رجع إليه حين جاءه التثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوقيت، وإما أن يكون قوله الذي يوافق السنة المشهورة أولى " (¬1). ومنها: أن القول بالتوقيت لا سبيل فيه للاجتهاد والرأي، فهو متلقى من الشرع، بخلاف القول بعدم التوقيت. ومنها: أن الأحاديث المرفوعة الصريحة بالتوقيت أكثر عدداً، وقد سقتها من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخزيمة، وصفوان بن عسال، وعوف بن مالك الأشجعي، وأبي بكرة الثقفي، ويعضدها جمع من الآثار الموقوفة على الصحابة، وما كان أكثر عدداً فهو أولى بالقبول. ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 280).

الدليل الثاني

قال ابن عبد البر عن القول بالتوقيت: " وهو الاحتياط عندي؛ لأن المسح ثبت بالتواتر، واتفق عليه جماعة أهل السنة، واطمأنت النفس إلى ذلك، فلما قال أكثرهم: لا يجوز المسح للمقيم أكثر من يوم وليلة: خمس صلوات، ولا يجوز للمسافر أكثر من ثلاثة أيام ولياليها، وجب على العالم أن يؤدي صلاته بيقين، واليقين الغسل حتى يجمعوا على المسح، ويتفق جمهورهم على ذلك، ويكون الخارج عنهم في ذلك شاذاً، كما شذ عن جماعتهم من لم ير المسح " (¬1). الجواب الثالث: الجمع. فيحمل حديث عمر على الضرورة، أو على المشقة الكبيرة، وتحمل أحاديث التوقيت فيما إذا لم يوجد ضرورة أو مشقة، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله، وسيأتي نقل كلامه عند ذكر قوله إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: (111) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن الكندي، عن أبي بن عمارة الأنصاري، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صلى في بيته للقبلتين، قال: قلت يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: قلت: يا رسول الله يوماً؟ قال: نعم، ويومين. قلت: يا رسول الله، يومين؟ قال: نعم، وثلاثة، قال: قلت: يا رسول الله، ¬

(¬1) الاستذكار (2/ 251).

وثلاثة؟ قال: نعم، وما شئت (¬1). [إسناده ضعيف جداً مسلسل بالمجاهيل] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 163)، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه أبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (2154)، قال الشيباني: قال ابن أبي عاصم رحمه الله: وهذا يقولون عن عبادة بن نسي، عن أُبَي هو ابن عمارة اهـ. ورواه محمد بن نصر الإمام كما في إتحاف المهرة لابن حجر (1/ 178) عن يحيى بن إسحاق به. (¬2) في إسناده عبد الرحمن بن يزيد، ويقال: ابن رزين، قال الحافظ: وهو الصواب. روى عنه اثنان كما في تهذيب الكمال، ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 82) ولم يوثقه أحد سواه، وقال الدارقطني: مجهول. سنن الدارقطني (1/ 198). وذكره ابن الجوزي في الضعفاء. وقال الحافظ في التقريب: صدوق. ولا أدري هل هذا اعتماد من الحافظ على توثيق ابن حبان أم لا؟ ولقد وجدت أن الحافظ يحكم أحياناً على رجال خرج لهم أحد الشيخين، ولم يوثقهم إلا ابن حبان، فيحكم الحافظ عليهم بقوله: (مقبول) يعني إن توبع، وإلا فلين الحديث، انظر إلى جعفر بن أبي ثور، قد خرج له مسلم حديثه في الوضوء من لحوم الإبل، وصحح حديثه أحمد وابن حبان وغيرهما، ووثقه ابن حبان، ومع ذلك قال فيه الحافظ في التقريب: مقبول، ولم يقل صدوق كحال راوينا هذا. وانظر إلى إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله المخزومي، لم يوثقه إلا ابن حبان، وخرج له البخاري، وقال فيه: مقبول. وكذلك عبد الرحمن بن مسور بن مخرمة، خرج له مسلم، ولم يوثقه أحد إلا ابن حبان، وقال الحافظ فيه: مقبول، وهذه أمثلة تدل على غيرها، وهي كثيرة، فما بالك بهذا الراوي الذي حكم عليه بالجهالة الإمام الدارقطني، ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء كيف يكون صدوقاً، ولم يخرج له أحد الصحيحين، بل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولا الترمذي والنسائي، ولم يخرج له إلا أبو داود وابن ماجه حديثاً واحداً في المسح على الخفين. وفي إسناده أيضاً محمد بن يزيد بن أبي زياد، جاء في ترجمته: قال أبو حاتم الرازي: مجهول. الجرح والتعديل (8/ 126). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 147). وقال الدارقطني: مجهول. السنن (1/ 198). وقال الحافظ في زياداته على تهذيب الكمال: وقال الخلال: سئل أحمد عن حديثه -يعني حديث الصور - فقال: رجاله لا يعرفون. وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره. وقال الأزدي: ليس بالقائم، في إسناده نظر. وقال الدارقطني: إسناده لا يثبت، ومحمد وأيوب والراوي عنه مجهولون. تهذيب التهذيب (9/ 462). وقال الذهبي: مجهول. ميزان الاعتدال (4/ 67). وقال أيضاً: ليس بحجة. الكاشف (5221). وفي التقريب: مجهول الحال. وفي إسناده أيضاً: أيوب بن قطن. قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن أيوب بن قطن، فقال: هو من أهل فلسطين. قلت ما حاله؟ قال: محدث. الجرح والتعديل (2/ 254). فأعقبه الحافظ في التهذيب بقوله: وقال ابن أبي حاتم في العلل، عن أبي زرعة: لايعرف. تهذيب التهذيب (1/ 358). وقد تصفحت قسم الطهارة من كتاب العلل لابن أبي حاتم، ولم أقف عليه، فلعله ذكره في مكان آخر. وقال الحافظ في التهذيب: وفي إسناده جهالة واضطراب، وقال أبو داود عقب حديثه: اختلف في إسناده، وليس بالقوي. وقال الأزدي والدارقطني وغيرهما: مجهول. وفي بعض نسخ أبي داود عقب حديثه قال ابن معين: إسناده مظلم. انظر تهذيب التهذيب (1/ 358). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعلى ضعف إسناده، فإن فيه اختلافاً، فقيل: عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة بن نسي، عن أبي بن عمارة. وقيل: عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن عبادة بن نسي، عن أبي بن عمارة. ليس فيه أيوب بن قطن. وقيل: عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن أبي بن عمارة، ليس فيه عبادة بن نسي. وزاد المزي في تحفة الأشراف عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله، فذكره، فالظاهر أنه مرسل، وعبادة الأنصاري ليس هو عبادة بن نسي؛ لأني لم أقف في ترجمته أنه نسب إلى الأنصار، وإنما يقال: الكندي الشامي الأردني، قاضي طبرية. [تخريج الحديث] الحديث رواه ابن ماجه (557) قال: حدثنا حرملة بن يحيى وعمرو بن سواد المصريان، قالا: ثنا عبد الله بن وهب، أنبأ يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة بن نسي، عن أبي بن عمارة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صلى في بيته القبلتين كلتيهما أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: يوماً؟ قال: ويومين. قال: وثلاثاً؟ حتى بلغ سبعاً، قال له: وما بدا لك. وأخرجه الطحاوي (1/ 79)، والدارقطني (1/ 198) والطبراني في الكبير (1/ 203) رقم 546 والبيهقي (1/ 278) من طريق سعيد بن عفير نا يحيى بن أيوب بإسناد ابن ماجه ولفظه. إلا البيهقي والطبراني فإنهما ذكرا إلى ثلاثة أيام، ثم قال: وما بدا لك. قال الدارقطني: هذا الإسناد لا يثبت، وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً قد بينته في موضع آخر، وعبد الرحمن ومحمد بن يزيد وأيوب بن قطن مجهولون كلهم، والله أعلم. وأخرجه الطبراني (1/ 202) رقم 545 من طريق يحيى بن إسحاق السيلحيني، حدثنا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن الكندي، عن ابن عمارة الأنصاري وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى في بيته القبلتين جميعا ... وذكر الحديث. قال المزي في تحفة الأشراف (1/ 10): " رواه سعيد بن كثير بن عفير مثل رواية ابن وهب. قلت: رواية ابن وهب سبقت في سنن ابن ماجه. وقال المزي: ورواه يحيى بن إسحاق السيلحيني، عن يحيى بن أيوب، واختلف عليه فيه: فقيل: عنه مثل رواية عمرو بن الربيع. وقيل: عنه، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين الغافقي، عن محمد ين يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة الأنصاري، قال: قال رجل يا رسول الله ... وذكره. ورواه إسحاق بن الفرات، عن يحيى بن أيوب، عن وهب بن قطن، عن أبي اهـ. وأما طريق محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن أبي بن عمارة بدون ذكر عبادة بن نسي، فرواه أبو داود (158) قال: حدثنا يحيى بن معين، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن أبي بن عمارة - قال يحيى بن أيوب: وكان قد صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبلتين - أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال نعم. قال: يوماً؟ قال: يوماً. قال: ويومين؟ قال: ويومين. قال: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت. قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في السنن (1/ 297). وأخرجه الحاكم (1/ 170) من طريق عثمان بن صالح السهمي وأبي المثنى العنبري، عن يحيى بن معين، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق به. إلا أنه ذكر عبادة بن نسي، وأسقط أيوب بن قطن، وهذا اختلاف على يحيى بن معين. قال الحاكم: ما في رواته مجروح. فتعقبه الذهبي بقوله: بل مجهول. وأما رواية محمد بن يزيد، عن عبادة بن نسي، عن أبي عمارة، بإسقاط أيوب بن قطن. فرواه الطحاوي (1/ 79) والبيهقي (1/ 279) من طريق ثنا سعيد بن أبي مريم عن =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (112) ما رواه الدارقطني: قال ثنا أبو محمد بن صاعد، نا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن أبي بكر وثابت، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل بهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة (¬1). [رجاله ثقات إلا أسد بن موسى وهو صدوق وقد اختلف عليه] (¬2). ¬

= يحيى بن أيوب قال حدثني عبد الرحمن بن رزين عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن عبادة بن نسي عن أبي بن عمارة. وفيه حتى بلغ سبعاً، ثم قال: وما بدا لك. جاء في تلخيص الحبير (1/ 284): " قال أبو داود ليس بالقوي، وضعفه البخاري، فقال: لا يصح، وقال أبو زرعة الدمشقي عن أحمد: رجاله لا يعرفون، وقال أبو الفتح الأزدي: هو حديث ليس بالقائم. وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره. وقال ابن عبد البر: لا يثبت، وليس له إسناد قائم، ونقل النووي في شرح المهذب اتفاق الأئمة على ضعفه، قال ابن حجر: وبالغ الجوزجاني فذكره في الموضوعات ". (¬1) سنن الدارقطني (1/ 203). (¬2) دراسة الإسناد: - أبو محمد بن صاعد: اسمه يحيىبن محمد بن صاعد، ثقة، له ترجمة في تاريخ بغداد (14/ 231)، وتذكرة الحفاظ (2/ 776). - الربيع بن سليمان، قال النسائي: لا بأس به. وقال ابن يونس: كان ثقة. وكذا قال الخطيب. تهذيب التهذيب (3/ 213). وقال ابن أبي حاتم: سمعنا منه، وهو صدوق ثقة، سئل أبي عنه، فقال: صدوق. الجرح والتعديل (3/ 464). وقال الخليلي: ثقة، متفق عليه - يعني في عدالته -. الإرشاد (1/ 428، 429) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = - أسد بن موسى: ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/ 338). وقال البخاري: مشهور الحديث، يقال له: أسد السنة. التاريخ الكبير (2/ 49). وذكره ابن حبان في الثقات. (8/ 136). وقال النسائي ثقة، ولو لم يصنف كان خيراً له. تهذيب التهذيب (1/ 228). وقال ابن يونس: حدث بأحاديث منكرة، وأحسب الآفة من غيره. المرجع السابق. وقال أيضا هو وابن قانع والعجلي والبزار: ثقة، زاد العجلي صاحب سنة. المرجع السابق. وقال الخليلي: يلقب بخياط السنة؛ لأنه كان خياط الكفن للسنة، يروي عن مصري صالح. الإرشاد (1/ 263،264). وقال ابن حزم: رواه أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، وأسد منكر الحديث، ولم يرو هذا الخبر أحد من ثقات أصحاب حماد. المحلى (1/ 326) وقال عبد الحق في الأحكام الوسطى: لا يحتج به عندهم ورأيت لابنه سعيد تصنيفاً في فضائل التابعين في مجلدين أكثر، فيه عن أبيه وطبقته. تهذيب التهذيب (1/ 228)، وبقية رجاله ثقات مشهورين. قال ابن عبد الهادي: إسناد هذا الحديث قوي، وأسد صدوق، وثقه النسائي وغيره، ولا التفات إلى كلام ابن حزم فيه. تنقيح التحقيق (1/ 524). ورد ابن دقيق العيد على ابن حزم بكلام نفيس، نقله الزيلعي في نصب الراية (1/ 179) أورده بتمامه للفائدة: " قال ابن دقيق العيد: وهذا مدخول من وجهين: أحدهما: عدم تفرد أسد بن موسى به كما أخرجه الحاكم عن عبد الغفار، ثنا حماد. الثاني: أن أسداً ثقة، ولم ير في شيء من كتب الضعفاء له ذكر، وقد شرط ابن عدي أن يذكر في كتابه كل من تكلم فيه، وذكر فيه جماعة من الأكابر والحفاظ ولم يذكر أسداً، وهذا يقتضي توثيقه - قلت: في هذا نظر، وإذا لم يذكره ابن عدي في كتابه فهذا سهو منه عن شرطه؛ لأن شرط ابن عدي أن يذكر في كتابه كل من تكلم فيه، ولو كان من الأكابر، وقد ذكر جملة من الرواة لا يقارن فيهم أسد بن موسى، ولا يقاربهم تمشياً مع =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = شرطه، فإذا كان أسد بن موسى قد تكلم فيه، وهو ثقة كان لزاماً على ابن عدي أن يذكره، فإذا لم يذكره كان ذلك سهواً منه، لا توثيقاً له - ثم قال: ونقل بن القطان توثيقه عن البزار وعن أبي الحسن الكوفي، ولعل ابن حزم وقف على قول ابن يونس في تاريخ الغرباء، أسد بن موسى حدث بأحاديث منكرة، وكان ثقة وأحسب الآفة من غيره؛ فان كان أخذ كلامه من هذا فليس بجيد؛ لأن من يقال فيه: منكر الحديث، ليس كمن يقال فيه: روى أحاديث منكرة؛ لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه، والعبارة الأخرى تقتضي أنه وقع له في حين لا دائما، وقد قال أحمد بن حنبل في محمد بن إبراهيم التيمي: يروي أحاديث منكرة، وقد اتفق عليه البخاري ومسلم، وإليه المرجع في حديث (إنما الأعمال بالنيات) وكذلك قال في زيد بن أبي أنيسة: في بعض حديثه نكارة، وهو ممن احتج به البخاري ومسلم، وهما العمدة في ذلك، وقد حكم ابن يونس بأنه ثقة، وكيف يكون ثقة، وهو لا يحتج بحديثه انتهى اهـ. قلت: المتابعة التي أشار إليها ابن دقيق العيد قد رواها الدارقطني رحمه الله (1/ 203) قال: حدثنا علي بن محمد المصري، نا مقدام بن داود، ثنا عبد الغفار بن داود الحراني، حدثنا حماد بن سلمة به. وأخرجها الحاكم في المستدرك (1/ 181)، قال: ثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي، ثنا المقدام بن داود بن تليد الرعيني، ثنا عبد الغفار بن داود الحراني، ثنا حماد بن سلمة به. قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وعبد الغفار ثقة، إلا أن هذا الحديث ليس هو عند أهل البصرة، وأقره الذهبي. وفي إسناده المقدام بن داود، جاء في ترجمته: قال فيه ابن أبي حاتم: سمعت منه بمصر، وتكلموا فيه. الجرح والتعديل (8/ 303). وقال الدارقطني: ضعيف. السير (13/ 345). وقال ابن يونس وغيره: تكلموا فيه. لسان الميزان (6/ 84). وقال محمد بن يوسف الكندي: كان فقيهاً مفتياً، لم يكن بالمحمود في الرواية. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وضعفه الدارقطني في غرائب مالك. المرجع السابق. وقال مسلمة بن قاسم: رواياته لا بأس بها، وذكر ابن القطان أن أهل مصر تكلموا فيه. المرجع السابق. فالإسناد ضعيف؛ إلا أنه إسناد صالح في المتابعات. وقد اختلف في إسناده فرواه عنه أسد بن موسى، وعبد الغفار بن داود، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن أبي بكر وثابت، عن أنس. ورواه الدارقطني (1/ 203) قال: حدثنا أبو محمد بن صاعد، نا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن زبيد بن الصلت، قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة. ورواه ابن مهدي كما في المحلى (1/ 327) عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد به. بلفظ: " إذا توضأ أحدكم، وأدخل خفيه في رجليه، وهما طاهرتان، فليمسح عليهما إن شاء، ولا يخلعهما إلا من جنابة " قال ابن حزم: وهذا ليس فيه: وليصل فيهما ما لم يخلعهما "، ورجح ابن حزم هذا الطريق على طريق حماد، عن ثابت، عن أنس مرفوعاً. فإن كان محفوظاً فقد روى من الحديث بالوجهين، وإن لم يكن محفوظاً فهل يرجح طريق ثابت عن أنس، باعتبار أن ثابتاً من أثبت أصحاب أنس، ورواه عنه حماد، وهو من أثبت الناس في ثابت، ورواه عن حماد بن سلمة اثنان: أسد بن موسى وعبد الغفار بن داود، فيكون حديث ثابت أرجح من هذا الوجه. أو يرجح حديث حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، سمعت زبيد بن الصلت، عن عمر موقوفاً. ووجه الترجيح أن الطريق الأول اختلف على أسد بن موسى فرواه مرة من مسند أنس، ورواه مرة موقوفاً على عمر، وقد وافقه إمام من الأئمة عبد الرحمن بن مهدي في جعله موقوفاً على عمر، فيكون هو المحفوظ من حديث حماد، لكل ترجيح وجه، وإن كانت نفسي تميل إلى أن الأثر موقوف على عمر، كما رجحه ابن حزم، وإذا كان كذلك فقد سقت في الدليل الأول عن عمر في قوله لعقبة: " أصبت " حين مسح من الجمعة إلى =

الدليل الرابع

والجواب: إن كان صحيحاً فالصحيح إذا عارضه ما هو أصح منه، فإن أمكن الجمع، وإلا عمل بالأرجح، ولا شك أن أحاديث التوقيت أرجح من غيرها لكثرة رواتها، وقوة إسنادها، وقد سقت جملة من الأحاديث المرفوعة على أن المسح على الخفين عبادة مؤقتة، وسقت جملة من الآثار ذكرتها في القول الأول، والله أعلم. الدليل الرابع: استدلوا ببعض الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم. الأثر الأول: (113) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا إسحاق - يعني: ابن إبراهيم - عن عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: امسح على الخفين ما لم تخلعهما (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

= الجمعة، وأجبت عنه، والله أعلم. (¬1) الأوسط (1/ 438). (¬2) وهو في مصنف عبد الرزاق (804،763) إلا أنه قال: عبد الله بن عمر بدلاً من عبيد الله، وعبد الله ضعيف، وعبيد الله ثقة، فإن لم يكن الحديث جاء من طريق الاثنين، وإلا فالراجح عبيد الله؛ لأنه هكذا في رواية البيهقي (1/ 280)، وابن حزم (1/ 212) من طريق هشام بن حسان، وعند البيهقي أيضاً (1/ 280) من طريق عبد الله بن رجاء، كلاهما عن عبيد الله بالتصغير. وقال ابن حزم في المحلى (1/ 328): " ولا يصح خلاف التوقيت عن أحد من الصحابة إلا عن ابن عمر فقط ".

قال ابن حزم: لا حجة فيه؛ لأن ابن عمر لم يكن عنده المسح، ولا عرفه، بل أنكره حتى أعلمه به سعد بالكوفة، ثم أبوه بالمدينة في خلافته، فلم يكن في علم المسح كغيره، ومع ذلك فقد روى عنه التوقيت، (114) روينا من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أين السائلون عن المسح على الخفين؟ للمسافر ثلاثاً، وللمقيم يوماً وليلة. قلت: محمد بن عبيد الله العرزمي متروك، كما في التقريب. لكن جاء بسند حسن عن ابن عمر القول بالتوقيت، (115) فقد روى ابن أبي شيبة، حدثنا هشيم، قال أخبرنا غيلان بن عبد الله مولى بني مخزوم، قال: سمعت ابن عمر سأله رجل من الأنصار عن المسح على الخفين، فقال: ثلاثة أيام للمسافر، وللمقيم يوم وليلة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 164). (¬2) غيلان بن عبد الله، جاء في ترجتمه: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: غيلان بن عبد الله مولى قريش الذي حدثنا عنه هشيم وروى عنه شعبة، هو أحب إلي من سهيل بن ذكوان. الجرح والتعديل (7/ 53). وسهيل بن ذكوان حسن الحديث، فإذا كان غيلان مقدماً عليه لم ينزل حديث غيلان عن مرتبة الحسن. وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 219)، فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى.

الأثر الثاني: (116) ما رواه ابن أبي شيبة، قال حدثنا أبو بكر الحنفي، عن أسامة بن زيد، عن إسحاق مولى زائدة، أن سعد بن أبي وقاص خرج من الخلاء، فتوضأ، ومسح على خفيه، فقيل له: أتمسح عليهما، وقد خرجت من الخلاء، قال: نعم، إذا أدخلت القدمين الخفين، وهما طاهرتان، فامسح عليهما، ولا تخلعهما إلا لجنابة (¬1). [إسناده ضعيف، وقد ثبت عن سعد القول بالتوقيت] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 168). (¬2) فيه أسامة بن زيد، جاء في ترجمته: قال أحمد بن حنبل: ترك يحيى بن سعيد حديث أسامة بن زيد بأخرة. الجرح والتعديل (2/ 284). وقال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: قال أبي: روى أسامة بن زيد، عن نافع أحاديث مناكير. قلت له: إن أسامة حسن الحديث، فقال: إن تدبرت حديثه، فستعرف النكرة فيها. المرجع السابق. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد - يسأل عن أسامة بن زيد، فقال: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين كما في رواية الدوري عنه: أسامة بن زيد الليثي، هو الذي روى عنه جعفر بن عون، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، ومعن بن عيسى، وهو ثقة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: أسامة بن زيد الليثي يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق. =

الأثر الثالث: (117) رواه الدارقطني، قال: حدثنا أبو محمد بن صاعد، نا الربيع ابن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن زبيد بن الصلت، قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة (¬1). ¬

= وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/ 17). وقال ابن عدي: أسامة بن زيد كما قال يحيى بن معين، ليس بحديثه ولا برواياته بأس، وهو خير من أسامة بن زيد بن أسلم بكثير. الكامل (1/ 394). وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/ 217). وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (1/ 183). وقال الآجري، عن أبي داود: صالح إلا أن يحيى يعني ابن سعيد أمسك عنه بآخرة. المرجع السابق. وقال الدارقطني: لما سمع يحيى القطان أنه حدث، عن عطاء، عن جابر رفعه أيام منى كلها منحر، قال إشهدوا إني قد تركت حديثه. قال الدارقطني: فمن أجل هذا تركه البخاري. المرجع السابق. وقال الحاكم في المدخل: روى له مسلم واستدللت بكثرة روايته له على أنه عنده صحيح الكتاب، على أن أكثر تلك الأحاديث مستشهد بها، أو هو مقرون في الإسناد. المرجع السابق. وقال ابن القطان الفاسي: لم يحتج به مسلم، إنما أخرج له استشهاداً. المرجع السابق. وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ، كان يحيى القطان يسكت عنه. الثقات (6/ 74). وفي التقريب: صدوق يهم، فالإسناد ضعيف، على أنني خرجت في القول السابق عن سعد بن أبي وقاص بسند حسن قوله بالتوقيت. (¬1) سنن الدارقطني (1/ 203).

دليل من قدر التوقيت بعدد الصلوات

[سبق الكلام عليه، وبيان الاختلاف فيه على حماد في الدليل الثالث من هذا القول] الجواب على هذه الآثار: اتضح لنا أن الصحابة الذين قالوا بعدم التوقيت، نقل عنهم أيضاً القول بالتوقيت، فعمر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر جاء عنهم القولان، وإن كان الراجح عن سعد وابن عمر القول بالتوقيت، ولم يصح عنهما القول بعدم التوقيت، ولو فرضنا أنه لم ينقل عنهم إلا قول واحد، وهو القول بعدم التوقيت، فيقابل أقوالهم بأقوال غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كعلي، وابن مسعود، وصفوان بن عسال، خزيمة بن ثابت، وغيرهم، وإذا اختلف الصحابة وجب الرد إلى كتاب الله، وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم - {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (¬1) فرجعنا إلى السنة المرفوعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدنا فيها جملة من الأحاديث القائلة بالتوقيت، منها حديث علي بن أبي طالب، وصفوان، وعوف بن مالك، وأبي بكرة، وخزيمة، وغيرها، فتعين الأخذ بها، وترك ما سواها، والله أعلم. دليل من قدر التوقيت بعدد الصلوات. قالوا: لما اختلف أهل العلم في هذا الباب نظرنا إلى أقل ما قيل، وهو أن يصلي بالمسح خمس صلوات، إن كان مقيماً، وخمس عشرة صلاة إن كان مسافراً، فقلنا به، وتركنا ما زاد على ذلك لما اختلفوا؛ لأن الرخص ¬

(¬1) النساء، آية: 59.

دليل من قال لا توقيت في حال الضرورة والمشقة الكبيرة

لا يستعمل فيها إلا أقل ما قيل، وإذا اختلفوا في أكثر من ذلك وجب الرجوع إلى الأصل، وهو غسل الرجلين. وهذا القول ضعيف جداً، مخالف للنص، لأن الحديث أذن للمقيم أن يمسح يوماً وليلة كاملين، بينما هم يقولون لمن مسح لصلاة الصبح، إذا صلى به العشاء لم يجز له أن يمسح، ولا أن يصلي به الوتر، فكان مدته يوماً وبعض ليلة، وهكذا يقال في الثلاثة أيام، فتبين ضعف هذا القول، كما أن الخلاف ليس سبباً في ترك القول الراجح، وإلا لزمكم ترك القول بالمسح على الخفين؛ لأنه قد اختلف فيه، فبعض السلف أنكره، وبعضهم ادعى أنه منسوخ بآية المائدة. وقد ذكر بعض مشايخنا أن هذا القول هو من قول العامة، لكن وجدنا أن القول به محفوظ لبعض العلماء كالشعبي، وإسحاق بن راهوية، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبي ثور، والله أعلم. دليل من قال لا توقيت في حال الضرورة والمشقة الكبيرة. قال ابن تيمية: " لو كان في خلعه بعد مضي الوقت ضرر، مثل أن يكون هناك برد شديد متى خلع خفيه تضرر، كما يوجد في أرض الثلوج وغيرها، أو كان في رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه، فينقطع عنهم، فلا يعرف الطريق، أو يخاف إذا فعل ذلك من عدو أو سبع، أو كان إذا فعل ذلك فاته واجب، ونحو ذلك، فهنا قيل: إنه يتيمم. وقيل: إنه يمسح عليها للضرورة، وهذا أقوى؛ لأن لبسها هنا صار كلبس الجبيرة من بعض الوجوه، فأحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوماً وليلة، وثلاثة أيام ولياليهن، وليس فيها النهي عن الزيادة إلا بطريق المفهوم،

والمفهوم لا عموم له، ثم قال: " وعلى ذلك يحمل حديث عقبة بن عامر، لما خرج من دمشق إلى المدينة، يبشر الناس بفتح دمشق، ومسح أسبوعاً بلا خلع، فقال له عمر: أصبت السنة، وهو حديث صحيح، وليس الخف كالجبيرة مطلقاً فإنه لا يستوعب بالمسح بحال، ويخلع بالطهارة الكبرى، ولا بد من لبسه علىطهارة، لكن المقصود أنه إذا تعذر خلعه فالمسح أولى من التيمم (¬1). وقال أيضاً: " لما ذهبت على البريد، وجد بنا السير، وقد انقضت مدة المسح، فلم النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة، أو حبسهم على وجه يتضررون بالوقوف، فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة، كما قلنا في الجبيرة، ونزلت حديث عمر، وقوله لعقبة بن عامر: أصبت السنة على هذا توفيقاً بين الآثار، ثم رأيته مصرحاً به في مغازي ابن عائد، أنه قد كان ذهب على البريد كما ذهبت لما فتحت دمشق، ذهب بشيرا بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، فقال له عمر: منذ كم لم تنزع خفيك؟ فقال: منذ يوم الجمعة، قال: أصبت، فحمدت الله على الموافقة، وهذا أظنه أحد القولين لأصحابنا، وهو أنه إذا كان يتضرر بنزع الخف، صار بمنزلة الجبيرة ... . الخ كلامه رحمه الله (¬2). وقول الجمهور أحوط، وهو المتيقن، وحمل حديث عقبة بن عامر في حال الضرر ليس ظاهراً من اللفظ، وإذا كان على الرفقة أن ينتظروا للصلاة، كان عليهم أن ينتظروا لشروطها، وإذا كان عليهم أن ينتظرو لكي يغسل ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 177). (¬2) المرجع السابق (21/ 215)، وهو قول في مذهب الحنفية كما قدمت في الأقوال.

وجهه ويديه، ويمسح برأسه، فلن يعجزوا عن الانتظار لغسل قدميه، وممكن أن يخلع خفيه مسبقاً قبل الوقوف بقليل حتى لا يعيق الرفقة، ولا يقال: إن أحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوماً وليلة، وليس فيها النهي عن الزيادة إلا بطريق المفهوم؛ لأن الأصل وجوب غسل الرجلين، جاء الإذن يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، وما عداه يرجع للأصل المستقر المجمع عليه، وهو وجوب غسل الرجلين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه:"ويل للأعقاب من النار" خالفنا هذا الأصل لدليل صحيح في مدة معلومة فرقاً بين المقيم والمسافر لا يتجاوزها المسلم، فمن تجاوزها فقد تجاوز حدود الله، والله أعلم.

الفصل الثاني اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر التي يسوغ فيها مسح مسافر

الفصل الثاني اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر التي يسوغ فيها مسح مسافر

الفصل الثاني اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر التي يسوغ فيها المسح اختلف العلماء في المسافة التي يسوغ فيها الترخص بالمسح ثلاثة أيام ولياليهن، إلى أقوال: فقيل: المعتبر مسيرة ثلاثة أيام للسير الوسط، بسير الإبل محملة بالأثقال، مع اعتبار النزول المعتاد للنوم والأكل والصلاة. وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: المعتبر أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلاً، وهو مذهب الجمهور من المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (2/ 27، 28)، وحاشية ابن عابدين (1/ 122)، فتاوى الهندية (1/ 138)، مجمع الأنهر شرح متلقى الأبحر (1/ 161). (¬2) قال مالك في المدونة (1/ 207): لا يقصر الصلاة إلا في مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً، كما قال ابن عباس: في أربعة برد اهـ. وانظر القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 100)، منح الجليل (1/ 402)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 477)، حاشية الدسوقي (1/ 358)، حاشية العدوي (1/ 363،364)، الفواكه الدواني (1/ 253). (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 118): " وإذا سافر الرجل سفراً يكون ستة وأربعين ميلاً هاشمياً فله أن يقصر الصلاة ". (¬4) مسائل أحمد رواية عبد الله (2/ 386) رقم 546، ومسائل ابن هانئ (1/ 81) رقم 404. وقال أبو داود في مسائل أحمد (1/ 106) رقم 514: " سمعت أحمد يسأل: في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد: ستة عشر فرسخاً. قيل له: وأنا أسمع، ويفطر فيه، قال: نعم.

دليل الجمهور القائلين بأربعة برد

وقيل: مسيرة يوم وليلة، روي هذا عن مالك، وقيل: إنه رجع عنه (¬1). وقيل: أقل مسافة للترخص ثلاثة أميال. وقيل: إن مشى ميلاً قصر الصلاة، وإن مشى أقل من ميل صلى أربعاً، وهذا اختيار ابن حزم (¬2). وقيل: جوازه في كل ما يسمى سفراً عرفاً، وهو اختيار ابن تيمية. وقيل: أقوال غير ذلك. دليل الجمهور القائلين بأربعة برد. الدليل الأول: (118) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، ثنا إسماعيل الترمذي، ثنا إبراهيم بن العلاء، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه وعطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان (¬3). ¬

(¬1) جاء في المنتقى للباجي (1/ 262): " المشهور عن مالك أن أقل سفر القصر أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً، وهي ثمانية وأربعين ميلاً، وإلى ذلك ذهب الشافعي. وروي عنه مسيرة يوم وليلة. وروى ابن القاسم أن مالكاً رجع عنه. قال القاضي أبو محمد عن بعض أصحابنا أن قوله: مسيرة يوم وليلة، ومسيرة أربعة برد واحد، وأن اليوم والليلة في الغالب هو ما يسار فيه أربعة برد، فيكون معنى قول ابن القاسم ترك التحديد باليوم والليلة، أنه ترك ذلك اللفظ إلى لفظ هو أبين منه. الخ كلامه. (¬2) المحلى (3/ 192). (¬3) سنن الدارقطني (1/ 387).

[إسناده ضعيف جداً] (¬1). والمعروف أنه من حديث ابن عباس موقوفاً عليه. (119) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، قال: أخبرني عطاء، عن ابن عباس، قال: لا تقصر الصلاة إلى عرفة، وبطن نخلة، واقصر إلى عسفان والطائف وجدة، فإذا قدمت على أهل أو ماشية فأتم (¬2). ¬

(¬1) الحديث فيه ثلاث علل: الأولى: أنه من رواية إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، وهذا منها. الثانية: عبد الوهاب بن مجاهد لم يسمع من أبيه. قال وكيع: كانوا يقولون: لم يسمع من أبيه شيئاً. التاريخ الكبير (6/ 98). الثالثة: أن عبد الوهاب بن مجاهد متروك، جاء في ترجمته: قال النسائي: متروك الحديث، الضعفاء والمتروكين (375). قال مهران بن أبي عمر العطار الرازي: كنت مع سفيان الثوري في المسجد الحرام، فمر عبد الوهاب بن مجاهد، فقال سفيان: هذا كذاب. الجرح والتعديل (6/ 69). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل قال أبي: عبد الوهاب بن مجاهد لم يسمع من أبيه ليس بشيء، ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال العباس بن محمد الدوري: سئل يحيى بن معين عن عبد الوهاب بن مجاهد؟ فقال: ضعيف. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: عبد الوهاب بن مجاهد ضعيف الحديث. المرجع السابق. وفي التقريب: متروك، وقد كذبه الثوري. (¬2) المصنف (2/ 202)

الدليل الثاني

[إسناده صحيح]. فإن قيل: أليس قول الصحابي حجة؟ قيل: بلى، بشرط ألا يخالفه مثله، فالصحابة إذا اختلفوا طلب مرجح، كما هو الحال هنا. الدليل الثاني: (120) ما أخرجه البخاري تعليقاً في كتاب تقصير الصلاة، قال البخاري: كان ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً (¬1). [صحيح عنهما] (¬2). وأجيب: بأن الصحابة مختلفون، قال ابن قدامة: " ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة؛ لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف، وقد روي عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما احتج به أصحابنا " (¬3). ¬

(¬1) كتاب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة. (¬2) ذكره البخاري بصيغة الجزم فيقتضي صحته عنده، ووصله ابن المنذر في الفتح كما في فتح الباري، والبيهقي في السنن (3/ 137) من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، أن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس كانا يصليان ركعتين ركعتين، ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك. قال النووي: رواه البيهقي بإسناد صحيح. (¬3) المغني (2/ 48).

دليل من حدد بمسيرة ثلاثة أيام

وقال الحافظ ابن حجر: " وقد اختلف عن ابن عمر في تحديد ذلك - يعني: مسافة القصر ـ اختلافاً غير ما ذكر، فروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني نافع، أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر فيه الصلاة مال له بخيبر، وبين المدينة وخيبر ستة وتسعون ميلاً. وروى وكيع من وجه آخر عن ابن عمر، أنه قال: " يقصر من المدينة إلى السويداء " وبينهما اثنان وسبعون ميلاً. وروى عبد الرزاق، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أنه سافر إلى ريم، فقصر الصلاة " قال عبد الرزاق: وهي على ثلاثين ميلاً من المدينة. (121) وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن مسعر، عن محارب: سمعت ابن عمر يقول: إني أسافر الساعة من النهار، فأقصر ". وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم يقول: سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة، إسناد كل منهما صحيح، وهذه أقوال متغيرة جداً، والله أعلم " اهـ (¬1). قلت: وهذه أسانيد صحيحة عن ابن عمر. دليل من حدد بمسيرة ثلاثة أيام. (122) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: قلت لأبي أسامة: حدثكم عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تسافر ¬

(¬1) فتح الباري (2/ 567).

المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم (¬1). وأجيب: بأن العدد لا مفهوم له، فقد جاء النهي عن سفر المرأة يوماً وليلة، بلا محرم، وجاء النهي عن سفر المرأة يومين، وجاء النهي عن السفر مطلقاً إلا ومعها محرم. (123) روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، قال: حدثنا سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة، ليس معها حرمة (¬2). (124) وروى مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة، جميعاً قال: قتيبة: حدثنا جرير، عن عبد الملك، وهو ابن عمير، عن قزعة، عن أبي سعيد، قال: سمعت منه حديثاً فأعجبني، فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فأقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم أسمع، قال سمعته يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، وسمعته يقول: لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو ¬

(¬1) صحيح البخاري (1086)، ومسلم (1338). (¬2) البخاري (1088)، ورواه مسلم (1339).

زوجها (¬1). (125) وروى البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي معبد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة، قال: اذهب فحج مع امرأتك (¬2). وهذا مطلق، ولم يذكر مدة، فيقتضي بحكم إطلاقه منع السفر طويله وقصيره. قال البيهقي: وهذه الروايات في الأيام الثلاثة، واليومين واليوم صحيحة، وكأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم؟ فقال: لا وسئل عن سفرها يومين بغير محرم؟ فقال: لا. وسئل عن يوم، فقال: لا، فأدى كل منهم ما حفظ، ولا يكون شيء من هذا حداً للسفر (¬3). وقال القرطبي: " كل ما دون الثلاث داخل في الثلاث، فيصح أن يعين بعضها، ويحكم عليه بحكم جميعها، فينص تارة على الثلاث، وتارة على أقل منها؛ لأنه داخل فيها (¬4). ¬

(¬1) مسلم (827)، وهو في البخاري بنحوه (1189). (¬2) صحيح البخاري (3006)، ومسلم (1341). (¬3) سنن البيهقي (3/ 139). (¬4) المفهم (3/ 451).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (126) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ قال أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام، ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم (¬1). فالمراد بيان حكم جميع المسافرين؛ لأن الألف واللام في المسافر للجنس، فيدخل في هذا الحكم كل مسافر سفره ثلاثة أيام، فيمسح ثلاثة أيام، أما إذا كان سفره أقل من ثلاثة أيام فلا يعد مسافراً بالمعنى الشرعي؛ لأنه لا يكرر المسح في الأيام الثلاثة (¬2). وأجيب: بأن الحديث جاء لبيان أكثر مدة المسح، فلا يصح الاحتجاج به؛ على أنه يمكن قطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام. (¬3). الدليل الثالث: من النظر، أن الثلاثة أقل الكثير، وأكثر القليل، ولا يجوز له القصر ¬

(¬1) صحيح مسلم (276). (¬2) الاختيار لتعليل المختار (1/ 79). (¬3) المغني (2/ 48).

دليل من حدد المسافة بثلاثة أميال

في قليل السفر، فوجب أن يكون أقل الكثير، وهو الثلاث حد له (¬1). دليل من حدد المسافة بثلاثة أميال. (127) روى الإمام مسلم، قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشار كلاهما، عن غندر. قال أبو بكر: حدثنا محمد بن جعفر غندر، عن شعبة، عن يحيى بن يزيد الهنائي، قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك- صلى ركعتين (¬2). وهذا من أقوى الأدلة على التحديد، ورده بعضهم: فقال: إنه مشكوك فيه، هل هو ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ؛ إذ كل واحد مشكوك فيه. قال القرطبي: ولا يوافق عليه؛ لأن الشك في الثلاثة أميال، أما الثلاثة فراسخ فليس فيها شك باعتبارها الأكثر. وقال بعضهم: إن ذلك حكاية لفعله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه قصر في هذه المسافة، وذلك لا يمنع جواز القصر في غيرها إذا كان يسمى سفراً، فليس في الحديث تحديد الترخص بهذه المسافة. وهذا الجواب، وإن كان فيه قوة، لكنه مع ذلك ليس شافياً؛ لأن السؤال عن المسافة التي يقصر فيها، وجاء الجواب بلفظ: " كان " الدالة على الاستمرار غالباً، فقال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال قصر الصلاة " مفهومه أنه إذا خرج أقل من ذلك لم يقصر، لكن القول ¬

(¬1) الحاوي (2/ 361). (¬2) صحيح مسلم (691).

دليل من قال يمسح في كل ما يسمى سفرا عرفا

بثلاثة فراسخ أرجح؛ لأنه هو المتيقن. وبعضهم حمل الحديث على أن المراد به المسافة التي يبتدئ منها القصر، لا غاية السفر، وهذا بعيد، قال الحافظ في الفتح: " ولا يخفى بعد هذا المحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه، أن يحيى بن يزيد، رواه عن أنس، قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة - يعني من البصرة - فأصلي ركعتين حتى أرجع، فقال أنس: .. فذكر الحديث، فظهر أنه سأل عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يبتدأ القصر منه، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة، بل مجاوزة البلد الذي يخرج منها " (¬1) اهـ. (128) وقد روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: صليت الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعاً، وبذي الحليفة ركعتين (¬2). فإذا قصد الرجل سفراً، فإنه يقصر متى فارق بنيان القرية، وبحث هذه المسألة في موضع غير هذا. دليل من قال يمسح في كل ما يسمى سفراً عرفاً. الدليل الأول: قال تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا ¬

(¬1) فتح الباري (2/ 567). (¬2) صحيح البخاري (1089)، ومسلم (690).

الدليل الثاني

لكم عدوا مبيناً} (¬1). وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية، فبقي ظاهر الآية متناول لكل ضرب (¬2). وأجيب: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى قباء، وإلى العوالي ولم يقصر الصلاة، فليس المراد بالضرب أي ضرب، بل المراد به ضرب مخصوص، بمسافة مخصوصة، وقد جاء في حديث أنس السابق كان إذا خرج ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة، ظاهره أنه لا يقصر الصلاة في كل ضرب، والله أعلم. الدليل الثاني: أن لفظ السفر في الكتاب والسنة مطلق غير مقيد بمسافة معينة. قال ابن تيمية: السفر مطلق في الكتاب والسنة، فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر، ولا بقصر دون قصر، ولم يحد النبي - صلى الله عليه وسلم - مسافة القصر بحد زماني، ولا مكاني، والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع، ويقيد ما قيده. ¬

(¬1) النساء، آية: 101. (¬2) حديث يعلى رواه مسلم، (686) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم - قال إسحاق أخبرنا، وقال الآخرون حدثنا - عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.

الدليل الثالث

(129) قلت: ومن الأحاديث ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وأبو الربيع وقتيبة بن سعيد - قال يحيى: أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا - أبو عوانة عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة (¬1). (130) وما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن سليمان قال، حدثني بن وهب، قال حدثني عمر بن محمد أن حفص بن عاصم حدثه، قال: سافر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقال: صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم أره يسبح في السفر، وقال جل ذكره: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬2). فالسفر في هذه الأحاديث، وفي غيرها مطلق لم يقيد بشيء، فمن قيده بمسافة معينة، فعليه الدليل، ولا دليل. ويجاب عن هذه الأحاديث بما أجيب عنه في الآية الكريمة، وأن السفر ليس المقصود به كل سفور عن محل الإقامة، بل المراد به سفوراً معيناً، وإذا لم يصدق السفر على بعض أفراده بطل الاستدلال. الدليل الثالث: أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه. ¬

(¬1) صحيح مسلم (687). (¬2) صحيح البخاري (1101)، وانظر مسلم (689).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (131) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم يقول: يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر (¬1). وإسناده صحيح، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لإهل مكة في عرفة أو مزدلفة أو منى: أتموا، وعليه فقد صلى أهل مكة بعرفة، ومزدلفة ركعتين، وهي أقل من أربعة برد. قال ابن تيمية: " وأما القصر فلا شك أنه من خصائص السفر، ولا تعلق له بالنسك، ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنهم سفر، وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم، والله لم يرخص في السفر ركعتين إلا لمسافر، فعلم أنهم كانوا مسافرين اهـ. (132) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن إسماعيل ابن أمية، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقيم بمكة، فإذا خرج إلى منى قصر (¬2). [وإسناده صحيح]. قلت: ابن عمر ممن هاجر، فالمقصود خروجه إلى منى في الحج. ¬

(¬1) الموطأ (1/ 149) .. (¬2) المصنف (2/ 206) رقم 8184.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: أن الشيء إذا كان له حقيقة شرعية قدمت على غيرها من الحقائق، كالصلاة حقيقتها اللغوية: الدعاء، والإيمان حقيقته اللغوية: التصديق لكن جاء في الشرع بيان حقيقتهما الشرعية، فقضى على حقيقتهما اللغوية. والسفر ليس له حقيقة شرعية، فتقدم، وليس له حقيقة لغوية، واللفظ إذا لم يكن له حقيقة شرعية ولا لغوية قدمت الحقيقة العرفية، فما عده الناس في عرفهم سفراً فهو سفر، وما لم يعتبره الناس سفراً فليس بسفر. وأجيب: بأن هذا الكلام جيد، ولكن تعليق الأمر بالعرف لا ينضبط، وقد يلتبس الأمر على عامة الناس، وقد يكون سبباً في تلاعب بعض الناس بفرائض الدين ممن لا يقدر الأمور بمقدارها، وأين اطراد العرف مع اتساع رقعة البلاد، وكثرة الناس، وقد كانت البلاد الإسلامية فيما سبق محدودة المكان وعدد الناس قليل، ويمكن ضبط العرف، أما الآن ففيه صعوبة. وهذ القول والذي قبله رغم ما اعترض به عليهما هما أقوى الأقوال، والله أعلم.

الفصل الثالث إذا لبس الخفين وهو مقيم ثم سافر

الفصل الثالث إذا لبس الخفين وهو مقيم ثم سافر

الفصل الثالث إذا لبس الخفين وهو مقيم ثم سافر فهل يمسح مسح مسافر أو مقيم؟ إذا لبس خفيه، وهو مقيم، ثم سافر، فله حالات: الحالة الأولى: أن يسافر بعد لبس خفيه، وقبل حدثه، فهنا يمسح مسح مسافر، لأن مجرد اللبس لا يتعلق به حكم، قال النووي: بالإجماع. الحالة الثانية: أن يحدث، وهو مقيم، ولم يمسح إلا في السفر. فقيل: يمسح مسح مسافر. وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يمسح مسح مقيم، وهو اختيار المزني (¬2)،وهو رواية عن ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية المبسوط (1/ 103،104)، تبيين الحقائق (1/ 52)، شرح فتح القدير (1/ 155)، البحر الرائق (1/ 188)، بدائع الصنائع (1/ 8،9)، حاشية ابن عابدين (1/ 278). وانظر في مذهب الشافعية الأم (1/ 51)، المجموع (1/ 513)،. وفي مذهب الحنابلة، انظر المغني (1/ 179)، والفروع (1/ 168)، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/ 265)، شرح الزركشي (1/ 421)، الإنصاف (1/ 179)، كشاف القناع (1/ 115). (¬2) الحاوي (1/ 359)، وقد ذكر النووي في المجموع (1/ 513): قال: قال القاضي أبو الطيب: كذا حكاه الداركي عن المزني، وهو غلط، بل مذهب المزني كمذهبنا مسح مسافر ". قلت: حتى لو كان ما نقل عن المزني غلط، فالخلاف في مذهب الحنابلة محفوظ، والله أعلم.

دليل الجمهور

أحمد (¬1). دليل الجمهور. الأول: الإجماع، نقل الإجماع ابن قدامة في المغني، قال: " لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن من لم يمسح حتى سافر، أنه يتم مسح المسافر " (¬2). قلت: الخلاف محفوظ، عن أحمد وغيره. الدليل الثاني: من النظر، أن كل عبادة اعتبر فيها الوقت، فإن ابتداء وقتها محسوب من الوقت الذي يمكن فيها فعلها، وصفتها معتبرة بوقت أدائها كالصلاة إن كانت ظهراً، فأول وقتها زوال الشمس، وصفتها في القصر والإتمام بوقت الأداء والفعل، فإن كان وقت فعلها وأدائها مسافراً قصر، وإن كان مقيماً أتم، كذلك المسح عند الحنفية والشافعية والحنابلة أول زمانه وقت الحدث، وصفته في مسح المقيم والمسافر معتبر بوقت المسح (¬3). ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 179). (¬2) المغني (1/ 179). (¬3) الجمهور هنا علقوا الحكم بالمسح لا بالحدث، فينبغي أن تكون مدة المسح معلقة بالمسح، لا بالحدث، وقد ناقشت هذه المسألة في مسألة مستقلة، كما قد يعترض عليهم بأنه لو مسح وهو مقيم، وقبل تمام المدة سافر، يلزمه أن يمسح مسح مقيم عندهم، ولو كان وقت الأداء في بعض المسح مسح مسافر، وإذا علق الحكم بوقت الأداء، فيلزم أن يمسح مسح مسافر، كما هو الراجح، وسوف يأتي مناقشة هذه المسألة في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.

دليل من قال يمسح مسح مقيم

دليل من قال يمسح مسح مقيم. قال: لأن ابتداء مدة المسح عنده من الحدث، وهو موجود في الحضر، والحدث كالمسح في اعتباره من زمان المسح، قال: ألا ترى لو أنه مر عليه بعد حدثه يوم وليلة، ولم يمسح، فقد انقضت المدة، كما لو مسح. والقول الأول أقوى، وقول المزني مبني على قول ضعيف في أن مدة المسح تبتدئ من الحدث، وهو خطأ، بل الراجح أنها تبتدئ من المسح، وقد فصلت هذا القول في مسألة مستقلة. الحالة الثالثة: أحدث في الحضر، ثم سافر بعد خروج وقت الصلاة. فعند الشافعية في هذه المسألة وجهان: الأول: قالوا: يتم مسح مقيم؛ لأن خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزلة دخوله في الصلاة في وجوب الإتمام، فكذا المسح. وقيل: يتم مسح مسافر؛ لأنه تلبس بالمسح، وهو مسافر، فهو كما لو سافر قبل خروج الوقت، ويخالف الصلاة، بأن الصلاة تفوت وتقضى، فإذا فاتت في الحضر، ثبتت في الذمة صلاة حضر، فلزمه قضاؤها، والمسح لا يفوت، ولا يثبت في الذمة، فصار كالصلاة قبل فوات الوقت. اهـ والصحيح أنه يمسح مسح مسافر لا لهذا التعليل، ولكن لأنه حين أراد أن يمسح في السفر كان حكمه حكم المسافر، اعتباراً بحاله وقت المسح. الحالة الرابعة: أحدث، ومسح في الحضر، ثم سافر. فإن كان قد أكمل مسح يوم وليلة في الحضر قبل سفره، لم يكن له أن يمسح. وإن كان قد سافر قبل تمام يوم وليلة، فاختلفوا.

دليل الجمهور

فقيل: يمسح مسح مقيم، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وروى عن إسحاق، والثوري (¬3)، ورجحه ابن حزم، بل بالغ حتى قال: يمسح ولو سافر بعد انقضاء اليوم والليلة (¬4). وقيل: يمسح مسح مسافر، وهو مذهب الحنفية (¬5)، ورواية عن أحمد (¬6). دليل الجمهور. الدليل الأول: أنها عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر، فغلب جانب الحضر. ¬

(¬1) انظر في مذهب الشافعية الأم (1/ 51)، الحاوي (1/ 358،359)، روضة الطالبين (1/ 131). (¬2) المغني (1/ 179)، وكشاف القناع (1/ 115)، شرح العمدة (1/ 260)، الإنصاف (1/ 177)، الروض المربع (1/ 288). (¬3) المغني (1/ 179). (¬4) قال ابن حزم في المحلى (1/ 341):"ومن مسح في الحضر ثم سافر قبل انقضاء اليوم والليلة، أو بعد انقضائهما مسح أيضاً حتى يتم لمسحه في كل ما مسح في حضره وسفره معاً ثلاثة أيام بلياليها، ثم لا يحل له المسح ". الخ كلامه رحمه الله. (¬5) انظر في مذهب الحنفية شرح فتح القدير (1/ 157)، المبسوط (1/ 103،104)، تبيين الحقائق (1/ 52)، البحر الرائق (1/ 188)، بدائع الصنائع (1/ 8،9)، حاشية ابن عابدين (1/ 278)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 25). (¬6) انظر مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانئ (1/ 19)، والمغني (1/ 179)، وقال الخلال: رجع أحمد إلى هذا القول.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: ولأن المسح عبادة يختلف قدرها في الحضر والسفر، فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكمه؛ لأنه المتيقن. الدليل الثالث: قياساً على الصلاة، فلو أنه أحرم بالصلاة في سفينة في البلد، فسارت وفارقت البلد، وهو في الصلاة، فإنه يتمها صلاة حضر بإجماع المسلمين. الدليل الرابع: مسحات الخف، وإن كن عبادات لا يرتبط بعضها ببعض، لكن وقتها وقت واحد، بعضه مرتبط ببعض، ولا بد من بناء أحد طرفيه على الآخر، فإذا وقع بعض المدة في الحضر، وجوزنا أن يتم مسح مسافر، لكان قد وقع مسح الثلاث في الإقامة والسفر، وهو خلاف الحديث. دليل الحنفية على كونه يمسح مسح مسافر. أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وهذا مسافر، ولم يفرق الشرع بين مسافر ومسافر، فمن فرق فعليه الدليل. الدليل الثاني: أن المسافر إذا مسح في سفره، ثم أقام، مسح مسح مقيم، فنظرنا في حاله إلى انتهائه، وليس إلى ابتدائه، فكذلك هذا، إذا مسح، وهو مقيم، ثم سافر اعتبرنا حاله بانتهائها، وهو مسح مسافر، ولا فرق. وكل حكم تعلق بالوقت اعتبر فيه آخره، فالحائض إذا طهرت فيه تجب عليها الصلاة،

وإذا حاضت فيه سقطت عنها، والمسافر إذا أقام في آخر الوقت أتم، والمقيم إذا سافر فيه قصر، فكذلك المسح. الدليل الثالث: ولكونه سافر قبل مضي مدة المسح، فأشبه من سافر قبل أن يمسح. الدليل الرابع: ولأن العبادة المعتبر فيها وقت الأداء، فالصلاة إذا دخل وقتها، وهو مقيم، ثم سافر، صلى صلاة مسافر.

الفصل الرابع إذا مسح في السفر ثم أقام

الفصل الرابع إذا مسح في السفر ثم أقام

الفصل الرابع إذا مسح في السفر ثم أقام رجل لبس خفيه، وهو في السفر، ثم أقام، فما حكمه؟ الجواب: لا يخلو هذا الرجل إما أن يكون قد مسح في سفره أم لا. فإن كان لم يمسح في سفره حتى أقام مسح يوماً وليلة مسح مقيم، وإن كان قد مسح في سفره، فلا يخلو فإما أن يكون قد استوفى مسح يوم وليلة أم لا. فإن كان قد استوفى مسح يوم وليلة في سفره، فقد انتهت مدته، ولايصح أن يمسح في إقامته شيئاً، وإن لم يستوف مسح يوم وليلة أتم مسح مقيم، هذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، ممن يرى توقيت المسح. وقال المزني: إن مسح في السفر ثم أقام، فإن مسح في السفر يوماً وليلة، يمسح في الإقامة ثلث يومين وليلتين، وهو ثلثا يوم وليلة؛ لأنه لو مسح ثم أقام في الحال، مسح ثلث ما بقي، وهو يوم وليلة، فإذا بقي له يومان وليلتان، جاز له أن يمسح ثلثيهما (¬4). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 51)، البحر الرائق (1/ 189)، حاشية ابن عابدين (1/ 278). (¬2) الأم (1/ 51)، أسنى المطالب (1/ 98)، المجموع (1/ 515)، الحاوي الكبير (1/ 358،359)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 67)، تحفة المحتاج (1/ 247). (¬3) الفروع (1/ 167،168)، الإنصاف (1/ 177،178)، شرح منتهى الإرادات (1/ 63)، كشاف القناع (1/ 115). (¬4) المجموع (1/ 515).

واختار بعض الحنابلة: أنه يمسح مسح مسافر إن كان مسح في سفره أكثر من يوم وليلة (¬1)، ولا أعلم له دليلاً. دليل الجمهور. الأول: أن هذا المسافر لما أقام أصبح حكمه حكم المقيم، ولا يجوز للمقيم أن يمسح أكثر من يوم وليلة. وثانياً: أن المسح ثلاثة أيام ولياليهن إنما هي للمسافر، فإذا انتفى السفر، انتفت الرخصة. وثالثاً: أنه اجتمع في حاله حضر وسفر، فغلب حكم الحضر احتياطاً. وهنا الحنفية قد وافقوا الشافعية والحنابلة في الحكم، وإن كانوا يختلفون في العلة، فالعلة عند الحنابلة والشافعية أن الإقامة أغلظ الحالتين: أعني حالة السفر والإقامة. والعلة عند الحنفية: أن الإقامة نهاية الحالتين، فالاعتبار بالنهاية، لا بالأغلظ، ولذلك إذا مسح، وهو مقيم، ثم سافر يختلف الحكم عند الحنابلة والشافعية من جهة، وعند الحنفية من جهة أخرى، لاختلافهم في العلة، فيمنع الشافعية والحنابلة من المسح، لأن الاعتبار للأغلظ، ويجوز الحنفية المسح؛ لأن الاعتبار بالنهاية، والله أعلم. وأما دليل المزني، فقد ذكرت تعليله مع قوله، وتعليله ضعيف جداً، ¬

(¬1) قال في الإنصاف (1/ 177): " قال في المبهج: أتم مسح مسافر إن كان مسح مسافراً فوق يوم وليلة. وشذذه الزركشي. قال ابن رجب في الطبقات: وهو غريب. ونقله في الإيضاح رواية، ولم أرها فيه " اهـ.

وإنما ذكرته ليعلم أن المسألة ليست إجماعاً عند من يرى التوقيت. وأما مذهب المالكية فلا تتأتى هذه المسألة عند المشهور من مذهبهم؛ لأنهم لا يرون التوقيت أصلاً، فهو يمسح حتى يخلع لا فرق بين المسافر والحاضر، والله أعلم. ويلحق بهذه المسألة لو مسح أحد الخفين في الحضر، والآخر في السفر، ففيها وجهان للشافعية: الأول: يمسح مسح مقيم، تغليباً لجانب الحضر، اختاره النووي. وقيل: يتم مسح مسافر، اعتباراً بتمام المسح. ولا يتأتى هذا التفصيل على القول الراجح، لأن المعتبر في المسح وقت الأداء، فإذا مسح في الإقامة، ثم سافر أتم مسح مسافر ما دام مسافراً لما علمت (¬1). ¬

(¬1) أسنى المطالب (1/ 98).

الفصل الخامس إذا شك في ابتداء المسح هل كان في السفر أم في الحضر؟

الفصل الخامس إذا شك في ابتداء المسح هل كان في السفر أم في الحضر؟

الفصل الخامس إذا شك في ابتداء المسح هل كان في السفر أم في الحضر؟ إذا شك في ابتداء المسح، هل كان في الحضر أم في السفر؟ فالحنفية لا فرق عندهم هل كان ابتداء المسح في الحضر أم في السفر؟ لأن المعتبر عندهم حاله الآن في المسح، فالعبرة بالانتهاء، لا بالابتداء، فإن كان مسافراً مسح مَسْحَ مسافر، وإن كان مقيماً أتم مسح مقيم، وقد سبق النقل عنهم، مع ذكر أدلتهم. وأما الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، الذين يقولون: يغلب جانب الحضر متى اجتمع حضر وسفر، فإن الشك مؤثر عندهم، ليعلم هل يمسح مسح مقيم أو يمسح مسح مسافر، فالمشهور عندهم أنه يمسح مسح مقيم؛ لأن الأصل غسل الرجل، والمسح رخصة، فإذا لم يتيقن شرط الرخصة، رجع إلى أصل الفرض، وهو الغسل، وإذا شك هل كان أول مسحه وقت الظهر أم وقت العصر جعله وقت الظهر؛ لأن الأصل غسل الرجلين، فلا يجوز المسح إلا فيما يتيقنه. والراجح في هذه المسألة أنه إن كان شك في ابتداء مسحه، وهو الآن مقيم، فالمسح مسح مقيم، وإن كان مسافراً مسح مسح مسافر، لأن المعتبر حالته وقت المسح، وليس المعتبر ابتداء مسحه، وأما لو شك هل مسح في الظهر أم في العصر، فإن جعله في الظهر مطلقاً، فهو أحوط، وإن أراد ¬

(¬1) الأم (1/ 51)، تحفة المحتاج (1/ 255)، حاشية الجمل (1/ 147،148). (¬2) الإنصاف (1/ 178)، شرح منتهى الإرادات (1/ 63)، كشاف القناع (1/ 115).

أن يعمل بغلبة ظنه، فله ذلك، وقد شرع التحري في السهو في الصلاة، وعمل بالظن في أمور كثيرة، منها دخول وقت الصلاة، ومنها طلوع الفجر في الإمساك للصائم، وغروب الشمس للفطر، والاستجمار، وغسل الجنابة إذا غلب على ظنه تعميم الماء، ومثلها مسائل كثيرة يكفي فيها غلبة الظن.

الفصل السادس إذا كان عاصيا بسفره هل يمسح؟

الفصل السادس إذا كان عاصياً بسفره هل يمسح؟

الفصل السادس إذا كان عاصياً بسفره هل يمسح؟ إذا كان المسافر عاصياً بسفره، فهل يمسح على الخفين أم لا؟ فقيل: يمسح مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختاره ابن حزم (¬2). وقيل: لا يمسح ما زاد على اليوم والليلة مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يمسح مطلقاً لا مسح مقيم، ولا مسح مسافر، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5). وقيل: كل رخصة جازت في الحضر كالمسح على الخفين والتيمم، وأكل الميتة، فتفعل، ولو كان عاصياً بسفره، وكل رخصة تختص بالسفر، كقصر الصلاة، والفطر في رمضان، فشرطه ألا يكون عاصياً بسفره، فلا تفعل، وهذا مذهب المالكية (¬6). ¬

(¬1) مراقي الفلاح (ص: 163)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 81)، حاشية ابن عابدين (1/ 124)، الفتاوى الهندية (1/ 139)،البحر الرائق (2/ 149) تبيين الحقائق (1/ 215،216). (¬2) المحلى (3/ 185). (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 119): " وليس لأحد سافر في معصية أن يقصر، ولا يمسح مسح المسافر، فإن فعل أعاد، ولا تخفيف على من سفره في معصية ". (¬4) المغني (2/ 51)، مطالب أولى النهى (1/ 730)، الإنصاف (1/ 169)، الفروع (1/ 158). (¬5) المجموع (1/ 510). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 143)، مواهب الجليل (1/ 320)، الخرشي (1/ 179).

دليل من قال: لا يمسح

دليل من قال: لا يمسح. الدليل الأول: قوله تعالى: {من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (¬1). وقال تعالى {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} (¬2). قال ابن قدامة: أباح الأكل لمن لم يكن عادياً ولا باغياً، فلا يباح لباغ ولا عاد. قال ابن عباس: غير باغ على المسلمين، مفارق لجماعتهم، يخيف السبيل، ولا عاد عليهم (¬3). وأجيب: بأن المراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته، والعادي: من يأكل هذه المحرمات، وهو يجد عنها مندوحة، فليس في الآية دليل على ما ذكرتم. وهذا قول قتادة، والحسن، ورجحه ابن جرير الطبري في تفسيره، فقال: " وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير ... باغ بأكله ما حرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله، وله عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى، وذلك أن الله تعالى ذِكْرِه لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال، وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الخارج على الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتيا ما حرم الله عليهما من خروج ¬

(¬1) البقرة، آية: 173. (¬2) المائدة، آية: 3. (¬3) المغني (2/ 51)، قلت: هذا القول ذكره ابن جرير الطبري عن مجاهد، وسعيد بن جبير، ولا يعرف هذا القول عن ابن عباس.

الدليل الثاني

هذا على من خرج عليه، وسعي هذا بالإفساد في الأرض، فغير مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرم الله عليهما ما كان حرم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك من قتل أنفسهما " ثم قال: فالواجب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة الأوبة إلى طاعة الله والرجوع إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه والتوبة من معاصي الله، لا قتل أنفسهما بالمجاعة فيزدادان إلى إثمهما إثما، وإلى خلافهما أمر الله خلافا " (¬1). ولاشك أن إهلاك النفس أعظم من المعصية التي من أجلها ترك الأكل، فحفظ النفس من أعظم مقاصد الشرع، وإذا تعارض ارتكاب مفسدتين، قدم ارتكاب الأخف منهما. قلت: وما نسبه ابن قدامة لابن عباس غير معروف عنه، والمعروف عن ابن عباس في قوله: {غير باغ ولا عاد} أي غير باغ في أكل الميتة ولا عاد في أكله (¬2). وقيل: فمن اضطر: أي من أكره على أكله، فلا إثم عليه. الدليل الثاني: الإجماع، نقل النووي الإجماع على أن الرجل إذا كان سفره معصية كقطع الطريق، وإباق العبد أنه لا يمسح ثلاثة أيام بلا خلاف (¬3). ¬

(¬1) تفسير القرطبي (2/ 88). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (1/ 206)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 156)، الدر المنثور (1/ 407). (¬3) المجموع (1/ 510) ولعله يقصد بلا خلاف في المذهب عندهم.

التعليل الثالث

ودعوى الإجماع فيها نظر؛ فإن الحنفية لا يفرقون بين العاصي بسفره، والعاصي في سفره، فكلاهما يحل له الترخص عندهم. قال في مراقي الفلاح: " فيقصر فرض الرباعي من السفر، ولو كان عاصياً بسفره، كآبق من سيده، وقاطع طريق، لإطلاق الرخصة " (¬1). التعليل الثالث: أن ما زاد على اليوم والليلة إنما يستبيحه بسبب السفر، وسفره معصية، ولا تكون الرخصة طريقاً إلى المعصية. التعليل الرابع: أن المسح على الخفين رخصة، والرخص لا تستباح بالمعاصي، وهذا يشبه الذي قبله. التعليل الخامس: أن في منعه من ترخص السفر كالمسح والقصر والفطر ونحوها تذكيراً له في أن يتوب، ويرجع عما عصى الله فيه. وأجيب: لو أنه ترك التيمم إذا احتاج لاستعمال الماء، فهو بين أن نلزمه باستعمال الماء في الطهارة ويهلك، وإهلاك النفس مفسدة كبرى لايمكن أن يأمر بها الشرع، وبين أن يترك الصلاة فلا يتيمم، ولا يغتسل، ومن ثم لا يصلي، وترك الصلاة طامة كبرى، وبين أن يتيمم ويؤدي الصلاة، ويأثم بسفره، وهو أخف الضررين، ويوافق يسر الشريعة. ¬

(¬1) مراقي الفلاح (ص: 163).

دليل الحنفية على جواز المسح

وسماحتها (¬1). دليل الحنفية على جواز المسح. الدليل الأول: النصوص في الكتاب والسنة مطلقة، لم تفرق بين مسافر وآخر، قال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر} (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليها " فلو كان سفر المعصية غير داخل في النصوص لبينه الشرع {وما كان ربك نسياً} (¬3)، ولا يجوز تقييد ما أطلقه الله سبحانه، وأطلقه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بنص أو إجماع، وما دام الإذن مطلقاً بالمسح فلا مانع أن يمسح المسافر، ولو كان عاصياً بسفره. ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (1/ 511): " قال ابن القاص والقفال وغيرهما: لو وجد العاصي بسفره ماء، فاحتاج إليه للعطش لم يجز له التيمم بلا خلاف، وكذا من به قروح يخاف من استعمال الماء الهلاك، وهو عاص بسفره لا يجوز له التيمم؛ لأنه قادر على التوبة وواجد للماء، قال ابن القفال: فإن قيل: كيف حرمتم أكل الميتة على العاصي بسفره، مع أنه يباح للحاضر في حال الضرورة، وكذا لو كان به قروح في الحضر جاز التيمم؟ فالجواب: أن أكل الميتة وإن كان مباحاً في الحضر عند الضرورة، لكن سفره سبب لهذه الضرورة، وهو معصية، فحرمت عليه الميتة في الضرورة، كما لو سافر لقطع الطريق فجرح لم يجز له التيمم لذلك الجرح، مع أن الجريح الحاضر يجوز له التيمم، فإن قيل: تحريم الميتة واستعمال الجريح الماء يؤدي إلى الهلاك. جوابه ما سبق أنه قادر على استباحته بالتوبة، هذا كلام القفال ". الخ كلامه (¬2) البقرة، آية: 184. (¬3) مريم، آية: 64.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: أن السفر نفسه لا يوصف بطاعة ولا معصية، وإنما تكون المعصية أو الطاعة مما يفعل فيه، فلا يقال: سفر طائع، أو عاصي، وإنما يتصف بالطاعة والمعصية العبد بحسب أفعاله. التعليل الثالث: أن المقيم قد يكون على معصية وظلم للمسلمين وعدوان عليهم وفي ذلك ما هو أشد أحياناً من سفر المعصية بل أنكم ترون المسح على الخفين من باب الرخص، ومع ذلك تسمحون للمقيم أن يمسح، ولو كانت إقامته للمعصية، فيكون استباح الرخصة بالمعصية، فينتقض دليلكم. التعليل الرابع: القياس على من نوى سفراً مباحاً، ثم نوى المعصية بعده، فإذا كان هذا يمسح، فكذلك العاصي بسفره؛ إذ لا فرق (¬1). التعليل الخامس: قال الحنفية: نحن لا نجعل المعصية سبباً في الرخصة، وإنما السبب ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (4/ 223): " فأما من خرج بنية سفر مباح، ثم نقله إلى معصية، ففيه وجهان مشهوران، حكاهما الشيخ أبو حامد والبندنيجي وجماعات من العراقيين وإمام الحرمين وجماعات من الخرسانيين. أحدهما: يترخص بالقصر وغيره؛ لأن السفر انعقد مباحاً مرخصاً فلا يتغير، قال إمام الحرمين: وهذا ظاهر النص. وأصحهما: لا يترخص من حين نوى المعصية؛ لأن سفر المعصية ينافي الترخص. الخ كلامه رحمه الله.

لحوق المشقة الناشئة من نقل الأقدام، والحر والبرد وغير ذلك، والمحظور ما يجاوره من المعصية، فكان السفر من حيث إفادته الرخصة مباحاً؛ لأن ذلك مما يقبل الإنفصال.

فرع

فرع هناك فرق بين العاصي بسفره، والعاصي في سفره، فالأول أنشأ السفر من أجل المعصية، لولا السفر لم يتمكن من فعلها، كما لو قطع الطريق، وأبق العبد، وسافر بقصد عمل الفواحش، ومنه السفر من أجل طلب علم محرم كالسحر والموسيقى وبعض الآداب المحرمة. وأما العاصي في سفره أن يكون السفر عقد من أجل أمر مباح، لكن فعل فيه أموراً محرمة، كالغيبة، وشرب الدخان، وسماع الغناء وغيرها كثير، فهذا عاص في سفره، وليس عاصياً بسفره. والعاصي في سفره له أن يترخص برخص السفر؛ لأن سفره ليس سبباً في فعل المحرم، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن عابدين من الحنفية (¬1)، والدسوقي في حاشيته (¬2) وغيرهما. قال الصاوي من المالكية: " بخلاف المعصية في السفر، فلا تمنع اتفاقاً كالسفر لتجارة، ثم تعرض له معاص" (¬3). قال النووي: " أما العاصي في سفره، وهو من خرج في سفر مباح وقصد صحيح، ثم ارتكب معاصي في طريقه كشرب الخمر وغيره، فله الترخص بالقصر وغيره بلا خلاف؛ لأنه ليس ممنوعاً من السفر، وإنما يمنع من المعصية، بخلاف العاصي بسفره " (¬4). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 124). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 358). (¬3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 153). (¬4) المجموع (4/ 224).

وجاء في حاشية العنقري: " خرج بقولنا: " العاصي بسفره " العاصي فيه، فإن له الترخص، نقله من فيروز (¬1). وقال في كشاف القناع: " ويقصر من ابتدأ سفراً، ولو عصى في سفره الجائز، كأن شرب مسكراً ونحوه، كأن زنى فيه، أو قذف، أو اغتاب؛ لأنه لم يقصد السفر لذلك " (¬2). الراجح: أنه لا فرق بين العاصي في سفره، والعاصي بسفره، فكلاهما له حق الترخص؛ حيث وجد السفر، وليس في هذا إعانة على المحرم، ولا تخفيف عن العاصي، لأن السفر من حيث هو لا يوصف بمعصية ولا طاعة، ولابن تيمية كلام طويل في مناقشة هذه الأقوال أورده بطوله لأهميته. قال ابن تيمية: " والذين قالوا: لا يثبت ذلك - يعني من الرخص - فى السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى فى الميتة: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه} (¬3). وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن الباغي: هو الباغي على الإمام الذى يجوز قتاله، والعادي: هو العادي على المسلمين: وهم المحاربون، قطاع الطريق. قالوا: فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم، فسائر الرخص أولى. وقالوا: اذا اضطر العاصى بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل، ولا نبيح له ¬

(¬1) حاشية العنقري (1/ 58). (¬2) كشاف القناع (1/ 506). (¬3) البقرة، آية: 173.

إتلاف نفسه، وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعى وأحمد، وأما أحمد ومالك فجوزا له أكل الميتة دون القصر والفطر، قالوا: لأن السفر المحرم معصية، والرخص للمسافر إعانة على ذلك، فلا تجوز الإعانة على المعصية. قال ابن تيمية: " وهذه حجج ضعيفة، أما الآية فأكثر المفسرين قالوا المراد بالباغي: الذى يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي: الذى يتعدى القدر الذى يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا فى السور المكية الأنعام والنحل وفى المدينة ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل، والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت فى سفر فليس السفر المحرم مختصاً بقطع الطريق والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - إمام يخرج عليه، ولا من شرط الخارج أن يكون مسافراً، والبغاة الذين أمر الله بقتالهم فى القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولاً مسافرين، بل كانوا من أهل العوالي مقيمين، واقتتلوا بالنعال والجريد، فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر، وليس فيها كل سفر محرم، فالمذكور فى الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقاً للسفر المحرم؛ فإنه قد يكون بلا سفر، وقد يكون السفر المحرم بدونه، وأيضا فقوله: {غير باغ} حال من اضطر، فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذى يأكل فيه، غير باغ ولا عاد؛ فإنه قال: فلا إثم عليه، ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل، الذى هو الفعل، لا عن نفس الحاجة إليه، فمعنى الآية: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد، وهذا يبين أن المقصود: أنه لا يبغي فى أكله، ولا يتعدى، والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان، فالبغى: ما جنسه ظلم، والعدوان: مجاوزة القدر المباح

كما قرن بين الإثم والعدوان في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (¬1) فالإثم: جنس الشر. والعدوان: مجاوزة القدر المباح فالبغي من جنس الإثم. قال تعالى {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} (¬2). وقال تعالى: {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه} (¬3)، فإثم: جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد، وأما الجنف: فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد، لكن قال كثير من المفسرين: الجنف الخطأ والإثم: العمد؛ لأنه لما خص الإثم بالذكر، وهو العمد بقي الداخل في الجنف الخطأ، ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود، كما قال تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} (¬4) ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا} (¬5). والإسراف: مجاوزة الحد المباح، وأما الذنوب: فما كان جنسه شر وإثم. وأما قولهم: إن هذا إعانة على المعصية فغلط؛ لأن المسافر مأمور بأن يصلي ركعتين، كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم إذا عدم الماء فى السفر المحرم، كان عليه أن يتيمم ويصلي، وما زاد على الركعتين ليست طاعة ¬

(¬1) المائدة، آية: 2. (¬2) الشورة، آية: 14. (¬3) البقرة، آية: 182. (¬4) البقرة، آية: 229. (¬5) آل عمران، آية: 147.

ولا مأموراً بها أحد من المسافرين، وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهياً عنه، فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن، فهل يصليها إلا ركعتين، وإن كان عاصياً بسفره، وإن كان إذا صلى وحده صلى أربعاً. وكذلك صومه فى السفر ليس براً، ولا مأموراً به؛ فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه قال: ليس من البر الصيام فى السفر، وصومه إذا كان مقيماً أحب إلى الله من صيامه فى سفر محرم، ولو أراد أن يتطوع على الراحلة فى السفر المحرم لم يمنع من ذلك، وإذا اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي، ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عرياناً. فإن قيل: هذا لا يمكنه إلا هذا. قيل: والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين، والمشروع فى حقه أن لا يصوم، وقد اختلف الناس لو صام، هل يسقط الفرض عنه؟ واتفقوا على أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه، وهذه المسألة ليس فيها احتياط، فإن طائفة يقولون: من صلى أربعاً، أو صام رمضان فى السفر المحرم لم يجزئه ذلك، كما لو فعل ذلك فى السفر المباح عندهم. وطائفة يقولون: لا يجزيه إلا صلاة أربع وصوم رمضان، وكذلك أكل الميتة واجب على المضطر، سواء كان فى السفر أو الحضر، وسواء كانت ضرورته بسبب مباح أو محرم، فلو ألقى ماله فى البحر واضطر إلى أكل الميتة كان عليه أن يأكلها، ولو سافر سفراً محرماً، فأتعبه، ولو قاتل قتالاً محرماً حتى أعجزته الجراح عن القيام، صلى قاعداً. فإن قيل: فلو قاتل قتالاً محرماً هل يصلي صلاة الخوف؟ قيل: يجب عليه أن يصلي، ولا يقاتل، فإن كان لا يدع القتال المحرم، فلا نبيح له ترك الصلاة، بل إذا صلى صلاة خائف كان خيراً من

ترك الصلاة بالكلية، ثم هل يعيد؟ هذا فيه نزاع، ثم إن أمكن فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة فى الوقت وجب ذلك عليه؛ لأنه مأمور بها، وأما إن خرج الوقت ولم يفعل ذلك ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع (¬1). فالراجح أن العاصي بسفره يقصر ويفطر، ويمسح، ويتمتع بكل رخص السفر، ولم يأت من منع بدليل قوي سالم من النزاع يصار إليه. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (24/ 110) وما بعدها.

الباب السادس في أحكام لبس الخف على الخف

الباب السادس في أحكام لبس الخف على الخف وفيه ثلاثة فصول

الفصل الأول خلاف العلماء في جواز المسح إذا لبس خفا على خف

الفصل الأول خلاف العلماء في جواز المسح إذا لبس خفاً على خف هل له أن يلبس خفاً على خف، اختلف العلماء في هذا، فقيل: يجوز أن يلبس خفاً على خف، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة، ورواية في مذهب مالك (¬2)، والقول القديم للشافعي (¬3). وقيل: لا يجوز، وهو رواية عن مالك (¬4)، والقول الجديد ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 51،52)، العناية شرح الهداية (1/ 155،156)، شرح فتح القدير (1/ 155)، البحر الرائق (1/ 189). (¬2) قال الباجي في المنتقى (1/ 82): " واختلف قول مالك في جواز المسح على الجرموق، فأجازه مرة، وأخذ به ابن القاسم، ومنعه مرة، ووجه الجواز: أن هذا خف يمكن متابعة المشي فيه غالباً. ووجه الرواية الثانية: أن المسح على الخف أبيح لضرورة مشقة خلعه ولبسه، وذلك معدوم في الجرموق كالنعل، واستدل القاضي أبو محمد في ذلك بأنه ملبوس على ممسوح، فلم يجز أن يمسح في الوضوء لغير ضرورة كالعمامة، فاقتضى استدلاله أن الجرموق: هو خف ملبوس على خف. قال الشيخ أبو محمد في نوادره: قال بعض البغداديين: اختلف قول مالك في مسح خف ملبوس على خف، فقال مرة: يمسح، وقال مرة: لا يمسح، وهكذا ذكره الشيخ أبو بكر في شرحه ". الخ كلامه (¬3) قال النووي في المجموع (1/ 531): " وفي الجرموقين: وهو الخف الذي يلبس فوق الخف، وهما صحيحان قولان: قال في القديم والإملاء: يجوز المسح عليه؛ لأنه خف يمكن متابعة المشي عليه، فأشبه المنفرد. وقال في الجديد: لا يجوز؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب، وإنما تدعو الحاجة إليه في النادر، فلا تتعلق به رخصة عامة، كالجبيرة ". (¬4) انظر المنتقى للباجي (1/ 82)، التاج والإكليل (1/ 466).

أدلة القائلين بالجواز

للشافعي (¬1). أدلة القائلين بالجواز. (133) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس، عن بلال رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الموقين والخمار (¬2). [رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (¬3). ¬

(¬1) المجموع (1/ 531)، أسنى المطالب (1/ 97)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 69). (¬2) المصنف (1/ 162). (¬3) رجاله كلهم ثقات، وأخرجه أحمد (6/ 15) حدثنا عفان به. ومن طريق عفان أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 466). وأخرجه ابن خزيمة (189) من طريق أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة به. ومن طريق حماد بن سلمة أخرجه الروياني في مسنده (744). وأخرجه الروياني في مسنده إلا أنه قال: عن أبي قلابة، عن بلال، وهو مرسل. أخرجه الروياني في مسنده (735) قال: نا إسحاق بن شاهين، نا خالد بن الوليد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال: قام رجل من بني عمرو بن أمية في يوم بارد، فتوضأ من مطهرة بدمش، فذهب يقلع خفيه، فقال بلال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الموقين، وفوق الخمار. وذكر البخاري في التاريخ الكبير هذا الاختلاف على أبي إدريس في ترجمة إسحاق بن سيار، فقال البخاري (1/ 390): إسحاق بن سيار، سمع يونس بن ميسرة الشامي سمع أبا إدريس الخولاني، سألت المغيرة بن شعبة بدمشق، قال: وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك، فمسح على خفيه، قاله لي سليمان بن عبد الرحمن، عن الوليد بن مسلم. وقال هشيم، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عوف بن مالك، قال: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثاً للمسافر ويوماً للمقيم، قال أبو عبد الله: إن كان هذا محفوظاً، فإنه حسن. وقال حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس، عن بلال مسح النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال غير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن بلال مرسل اهـ. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 168) رقم 1929، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن أبي عبد الله مولى التيم بن مرة، عن أبي عبد الرحمن، قال: كنت جالسا مع عبد الرحمن بن عوف، فمر بنا بلال، فسألناه عن المسح على الخفين، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته، ثم يخرج، فنأتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على الموقين والعمامة. وأخرجه أبو داود في سننه (153) والحاكم في المستدرك من طريق معاذ العنبري، ثنا شعبة به. وأخرجه البيهقي (1/ 288) من طريق آدم بن أبي إياس ومعاذ العنبري، كلاهما عن شعبة به. وأخرجه الشاشي في مسنده (963،964،965) من ثلاثة طرق، عن شعبة به. قال ابن دقيق في الإمام (2/ 199): " قيل في أبي عبد الله هذا: إنه مولى بني تميم (الصواب تيم) ولم يسم هو ولا أبو عبد الرحمن، ولا رأيت في الرواة عن كل واحد منهما إلا واحداً، وهو ما ذكر في الإسناد " اهـ. وقال الحافظ في التقريب: أبو عبد الله مولى بني تيم مجهول من السادسة. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1372) قال: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، حدثني أبي، عن أبيه، حدثني أبو وهب الكلاعي، أن مكحول حدثه، عن الحارث بن معاوية الكندي الأعرج، قال: كنت أتوضأ أنا وأبو جندل بن سهل من المطهرة، فتذاكرنا نزع الخفين، فمر بنا بلال مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في نزع الخفين، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: امسحوا على الموق ... والخمار. وفي إسناده شيخ الطبراني: أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال أبو أحمد الحاكم: فيه نظر، وحدث عنه أبو الجهم الشعراني ببوطيل. لسان الميزان (1/ 295). وقال ابن حبان في ترجمة أبيه: محمد بن يحيى بن حمزة: ثقة في نفسه، يتقى حديثه ما روى عنه أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة وأخوه عبيد؛ فإنهما كانا يدخلان عليه كل شيء. الثقات (9/ 74). قال الحافظ في اللسان: وذلك لأن محمد كان قد اختلط. اللسان (5/ 422). وأبو وهب الكلاعي: وثقة دحيم. تهذيب التهذيب (7/ 32). وقال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين: ليس به بأس. المرجع السابق. وبقية الإسناد كلهم ثقات. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1412) قال: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا جعفر بن مسافر، ثنا يحيى بن حسان، ثنا محمد بن مهاجر ثنا العباس بن سالم عن أبي جندل بن سهل، أنه سأل بلالاً عن المسح على الخفين، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: امسحوا على الموق. شيخ الطبراني: لم أقف عليه. وجعفر بن مسافر، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. الثقات (8/ 161). وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. الجرح والتعديل (2/ 491). وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ. وباقي رجال الإسناد كلهم ثقات. وروى الطبراني في المعجم الكبير (1/ 340) رقم 1019 من طريق ليث بن أبي سليم، عن الحكم، عن شريح بن هانئ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: زعم بلال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الموقين والخمار. وهذا إسناد منكر، تفرد به ليث، والمعروف من حديث الحكم، عن شريح، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب في توقيت المسح، وهو في صحيح مسلم، من مسند أمير المؤمنين رضي الله عنه. وسبق لي أن أشرت إلى الاختلاف في حديث حماد في مسألة المسح على العمامة، فارجع إليه. =

الدليل الثاني: (134) ما رواه البيهقي في سننه، قال: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، ثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن نصير الصوفي، ثنا علي بن عبد العزيز، نا الحسن بن الربيع، ثنا أبو شهاب الحناط، عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الموقين والخمار (¬1). [عاصم الأحول لم يسمع من بلال] (¬2). ¬

= والموق كما في مختار الصحاح (266): ما يلبس فوق الخف، وهو فارسي معرب. وقال الجوهري والمطرزي: الموق خف قصير، يلبس فوق الخف، نقلاً من شرح فتح القدير (1/ 158). وأنكر النووي أن يكون الموق يلبس فوق الخف. المجموع (1/ 536) فذكر عن أصحابه أن الموق: هو الخف لا الجرموق، وقال: هو الصحيح المعروف في كتب أهل الحديث وغريبه. وجاء في نصب الراية (1/ 184): " الشيخ تقي الدين في الإمام: وقد اختلفت عباراتهم في تفسير الموق، فقال: ابن سيده: الموق ضرب من الخفاف، والجمع أمواق، عربي صحيح. وحكى الأزهري عن الليث: الموق ضرب من الخفاف، ويجمع على أمواق. وقال الجوهري: الموق الذي يلبس فوق الخف، فارسي معرب. وقال الفراء: الموق الخف فارسي معرب، وجمعه أمواق. وكذلك قال الهروي الموق الخف فارسي معرب، وقال كراع: الموق الخف والجمع أمواق انتهى ". (¬1) سنن البيهقي (1/ 289). (¬2) وفي إسناده محمد بن محمد بن نصير الصوفي لم أعرفه، وباقي رجال الإسناد ثقات إلا أبا شهاب الحناط، وهو صدوق يهم كما في التقريب، وسوف يأتي تخريجه مستوفي في باب المسح على العمامة.

الدليل الثالث: (135) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن علي الصائغ، قال: نا المسيب بن واضح، قال: نا مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الموقين والخمار. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن هشام بن حسان إلا مخلد بن الحسين، تفرد به المسيب بن واضح (¬1). الدليل الرابع: أن الخف الأعلى خف ساتر، يمكن متابعة المشي عليه، أشبه المنفرد. ¬

(¬1) الأوسط (6/ 214) رقم 6220. وللمسيب أحاديث منكرة ساقها ابن عدي في الكامل، ثم قال (6/ 389): " والمسيب بن واضح له حديث كثير عن شيوخه، وعامة ما خالف فيه الناس هو ما ذكرته، لا يتعمده، بل كان يشبه عليه، وهو لا بأس به ". وقال فيه أيضاً: " كان النسائي حسن الرأي فيه، ويقول الناس يؤذوننا فيه: أي يتكلمون فيه ". وجاء في الميزان (4/ 116): " وقال أبو حاتم: صدوق، يخطيء كثيراً، فإذا قيل له لم يقبل ". وسأل ابن عدي عبدان كما في الكامل (5/ 265): " أيما أحب إليك، عبد الوهاب بن الضحاك، أو المسيب؟ قال: كلاهما سواء". قال الذهبي في لسان الميزان (6/ 158): " وعبد الوهاب هذا ضعيف جداً " قال أبو داود: كان يضع الحديث. وقال النباتي، والدارقطني، والعقيلي: متروك. وقال الجوزقاني: كان كثير الخطأ والوهم. اهـ من لسان الميزان.

الدليل الخامس: جاء الإذن بالمسح على الخف، ولا فرق بين أن يكون خفاً واحداً أو أكثر، ومن منع فعليه الدليل. الدليل السادس: أن الخفين بحكم الخف الواحد، فيعتبر الأعلى كالظهارة، والأسفل كالبطانة، أو أن الأسفل كاللفافة، والأعلى هو الخف. الدليل السابع: ولأن الحاجة قد تدعو إليه لا سيما في البلاد الباردة جداً، فقد لا يكفي خف واحد أو جورب واحد. الدليل الثامن: الإجماع على جواز المسح، قال المزني: لا أعلم بين العلماء في جوازه خلافاً. وقال الشيخ أبو حامد: هو قول العلماء كافة. قال الماوردي: واختيار المزني أن المسح عليه جائز، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: يمسح المقيم يوماً وليلة (¬1). الدليل التاسع: قالوا: لأن الخف الثاني بمنزلة الجورب، فإذا كان يجوز المسح على خف لبس على الجورب، يجوز المسح على خف لبس على خف. ¬

(¬1) الحاوي الكبير (1/ 366).

أدلة المانعين

أدلة المانعين. الأول: أن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب، وإنما تدعو إليه في النادر، فلا تتعلق به رخصة عامة. وأجيب: بأن الشرع يعلق الحكم بعلة منضبطة، ولذلك فالعلة في الفطر للمسافر هو السفر، وليس المشقة، وإن أصل الرخصة مراعاة المشقة، فكذلك العلة في المسح على الخفين لبسهما على طهارة، سواء كان اللابس لهما محتاجاً إلى ذلك أو غير محتاج، في زمن البرد وغيره، شق نزعه أو لم يشق. الدليل الثاني: قالوا: إن الرخصة جاءت بالمسح على خف واحد، فلا نتعداها. وأجيب: بأنه لم يأت شرط في الشرع بأن يكون الخف واحداً، وكون الفعل وقع على خف واحد؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في بلاد الحجاز، وهي لا تحتاج إلى لبس خف على خف، ومجرد الفعل لا يكون شرطاً، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على الموق، وقد قدمنا قول أهل اللغة في تفسير الموق، وتصححون المسح على خف ملبوس على جورب، مع أن هذا لباس على لباس. الدليل الثالث: قالوا: مسح الخف بدل عن الرجل، والبدل لا يكون له بدل بالرأي، فالأبدال لا تقرر إلا من جهة الشرع، ولهذا لما كان التيمم بدلاً عن الماء لم يجعل للتيمم بدل.

القول الراجح

وأجيب: بأن الخف الأعلى بدل عن الرجل، لا عن الخف الأسفل، ولذا نشترط لبسه على طهارة الماء، لا على طهارة المسح كما سيأتي إن شاء الله تعالى. القول الراجح: بعد استعراض الأدلة يتبين أن القول بجواز مسح خف على خف أقوى من حيث الأدلة، وأقرب من حيث الحكمة من إباحة المسح على الخفين، وخاصة في بعض بلاد المسلمين كالبلاد التي يكون فيه البرد قارصاً، وقد لا يكفي خف واحد، أو جورب واحد، بحيث يتجمد الدم في عروق الأصابع، ومن جرب هذا عرف قدر حاجة تلك البلاد إلى لبس خف على خف، وجورب على جورب، والله أعلم.

الفصل الثاني إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث فهل يمسح عليه

الفصل الثاني إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث فهل يمسح عليه

الأولى

الفصل الثاني إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث فهل يمسح عليه إذا لبس خفاً على خف على طهارة غسل الرجل، وقبل الحدث مسح على الخف الفوقاني قولاً واحداً في مذهب من أجاز المسح على الخف فوق الخف. وإذا لبس الخف الأول، ثم أحدث، ثم لبس خفاً عليه، وهو محدث، فله حالتان: الأولى: أن يكون ذلك قبل أن يمسح على الأسفل، وفيه قولان: فقيل: لا يمسح إلا على الأسفل وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول العراقيين من الشافعية (¬4). واختار الخرسانيون من الشافعية أنه يجوز المسح على الأعلى، ولو لبسه، وهو محدث، ما دام قد لبس الأسفل على طهارة (¬5). ¬

(¬1) الاختيار لتعليل المختار (1/ 24،25)، شرح فتح القدير (1/ 157)، المبسوط (1/ 102). (¬2) الخرشي (1/ 178)، مواهب الجليل (1/ 318،319)، حاشية الدسوقي (1/ 141) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 27). (¬3) الروض المربع (1/ 289)، المبدع (. . .). (¬4) المجموع (1/ 531)، الحاوي الكبير (1/ 366)، وروضة الطالبين (1/ 127). (¬5) انظر المجموع (1/ 531).

الثانية

تعليل الجمهور: أن من شرط جواز المسح على الخف لبسه على طهارة مائية، كما في حديث المغيرة: " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " وهذا قد لبس الخف، وهو محدث. وتعليل الخرسانيين: قاس الخرسانيون هذه المسألة على من لبس خفاً، ثم أحدث، ثم رقع فيه رقعة، فيجوز المسح، فكذلك الأعلى بمثابة الرقعة للأسفل، ما دام أنه قد لبس الأسفل على طهارة، وهذا القول ضعيف أيضاً. الحالة الثانية: أن يلبس الخف الأعلى بعد أن مسح على الخف الأسفل، فقيل: لا يمسح إلا على الأسفل، وهو مذهب الحنفية (¬1)،والحنابلة (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3)، ووجه في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: بل يمسح على الأعلى، وهو قول في مذهب المالكية، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬5). ¬

(¬1) الاختيار لتعليل المختار (1/ 24،25)، شرح فتح القدير (1/ 157)، المبسوط (1/ 102). (¬2) الروض المربع (1/ 289)، المبدع (1/ 147). (¬3) الخرشي (1/ 178)، مواهب الجليل (1/ 318،319)، حاشية الدسوقي (1/ 141)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 27). (¬4) المجموع (1/ 531)، الحاوي الكبير (1/ 366)، ورضة الطالبين (1/ 127). (¬5) قال النووي في المجموع (1/ 534): " وهو الأظهر المختار ".

تعليل القائلين بجواز المسح

تعليل الجمهور. قالوا: إن الخف الأعلى لم يلبسه على طهارة مائية، وهي شرط في المسح على الخف، وليس المطلوب مطلق الطهارة، ولذلك لو كانت طهارته بالتيمم لم يمسح الخف فيها إذا وجد الماء، ولا يقال: ما دام أن التيمم مطهر فليمسح عليهما؛ لأنه يصدق عليه أنه لبسهما، وهو طاهر. وتعليل القائلين بجواز المسح. قالوا: إذا كان المسح على الخفين رافعاً للحدث، فإذا لبس الخف الأعلى بعد المسح يصدق عليه أنه أدخل رجليه الخف، وهما طاهرتان، فجاز له أن يمسح. والقول الأول أصح، وقد علمت الجواب عن تعليلهم، ولهذا يعلقون المدة بالخف الأسفل، لا بالخف الأعلى، ولو كان لبسه على طهارة المسح مؤثراً لعلق الحكم بالأعلى، فهم في مدة المسح ألغوا الخف الأعلى، وهذا دليل على ضعف القول بالمسح عليه، ويلزمهم على قولهم إلغاء التوقيت، فقبل أن تنتهي المدة، ينزع خفيه قبل انتقاض طهارته، ثم يلبسه مرة أخرى ليستأنف مدة جديدة، ويصدق عليه أنه لبسه على طهارة، وبالتالي تذهب الحكمة من القول بالتوقيت في المسح على الخفين، وهم لا يقولون بهذا، ويشترطون أن تكون الطهارة مائية، فإذا كان ذلك كذلك لزم أن تكون الطهارة مائية للخف الأعلى أيضاً إذا كان المسح سوف يتعلق به الحكم، والله أعلم.

الفصل الثالث حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما

الفصل الثالث حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما

الصورة الأولى

الفصل الثالث حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما أما على قول من يجوز مسح الخف، ولو كان مخرقاً ما دام يسمى خفاً فلا إشكال تخرق الخفان أم لا، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقد سبق ذكر أقوالهما في مسألة المسح على الخف المخرق. وأما على قول من يمنع المسح على الخف المخرق كالشافعية والحنابلة فللمسألة صور عندهم: الصورة الأولى: أن يكون الخفان مخرقين، الأعلى والأسفل، فيجب نزع الجميع، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وعللوا ذلك: بأنه لو انفرد كل خف ما جاز المسح عليه، فكذلك إذا اجتمعا. وقيل: يجوز المسح عليهما إن كان الخرقان في موضعين متفاوتين، ويكون أحد الخفين بمنزلة الظهارة والثاني بمنزلة البطانة، وإذا تخرقت البطانة وبقي شيء من الظهارة يستر القدم لم يمنع المسح عليه. والصحيح جواز المسح عليهما مطلقاً، سواء كان الخرقان متحاذيين أم لا، كما رجحت في مسألة المسح على الخف المخرق. ¬

(¬1) المجموع (1/ 535). (¬2) الإنصاف (1/ 183)، شرح منتهى الإرادات (1/ 65)، كشاف القناع (1/ 117)، الفروع (1/ 159).

الصورة الثانية

الصورة الثانية: أن يكون الأسفل مخرقاً، والأعلى سليماً، فهذا يجوز المسح عليه قولاً واحداً عند من يجيز المسح على الخف فوق الخف. وعللوا ذلك: بأن الأسفل بمنزلة اللفافة، والأعلى هو الخف. وهو القول القديم للشافعي (¬1)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬2). الصورة الثالثة: أن يكون الأعلى مخرقاً والأسفل صحيحاً. فقيل: إن كان الخرق مانعاً من المسح كما لوكان بمقدار ثلاثة أصابع فأكثر لم يجز المسح على الأعلى، بل يمسح على الأسفل، وهو مذهب الحنفية (¬3). وقيل: يمسح على الأسفل دون الأعلى إذا كان فيه خرق مطلقاً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4)، واختاره بعض الحنابلة (¬5). ووجهه: أن الأعلى لم يمكن المسح عليه لكونه مخرقاً وجب المسح على الأسفل، واعتبر الأعلى بمنزلة خرقة لف بها الخف الأسفل. ¬

(¬1) المجموع (1/ 533). (¬2) الإنصاف (1/ 183)، المغني، شرح منتهى الإرادات (1/ 65)، كشاف القناع (1/ 117)، الفروع (1/ 159). (¬3) قال في البحر الرائق (1/ 191): ولا يجوز المسح على الجرموق المتخرق، وإن خفاه غير متخرق، وينبغي أن يقال: إن كان الخرق في الجرموق مانعاً لا يجوز المسح عليه، وإنما يجوز المسح على الخف لا غير، لما علم أن المتخرق خرقاً مانعاً وجوده كعدمه، فكانت الوظيفة للخف، فلا يجوز المسح على غيره، وقد صرح به في السراج الوهاج اهـ. (¬4) المجموع (1/ 535). (¬5) الإنصاف (1/ 183).

وقيل: يصح المسح على الفوقاني، وهو رواية عن أحمد (¬1). وقيل: يمسح على أيهما شاء، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). ويكون الأعلى بمنزلة الظهارة، والأسفل بمنزلة البطانة، ولو تخرقت الظهارة وبقيت البطانة تستر البشرة لم يمنع من المسح عليها. وقيل: هما كنعل مع جورب، أي يمسح عليهما معاً (¬3). وقد بينت في مسألة المسح على الخف المخرق أنه يصح المسح عليه؛ لأنه لا يشترط أن يستر الخف محل الفرض. والله أعلم. ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 183)، المغني (. . .)، شرح منتهى الإرادات (1/ 65)، كشاف القناع (1/ 117)، الفروع (1/ 159). (¬2) الإنصاف (1/ 183). (¬3) الإنصاف (1/ 183)، المغني (. . .)، شرح منتهى الإرادات (1/ 65)، كشاف القناع (1/ 117)، الفروع (1/ 159).

الفصل الرابع إذا مسح الأعلى ثم خلعه فهل يمسح الأسفل

الفصل الرابع إذا مسح الأعلى ثم خلعه فهل يمسح الأسفل

الفصل الرابع إذا مسح الأعلى ثم خلعه فهل يمسح الأسفل إذا مسح الخف الأعلى، ثم خلعه من رجليه أو من أحدهما، فهل يمسح الخف الأسفل أم لا؟ فيه خلاف: فقيل: يكفي أن يعيد المسح على الخف الأسفل، سواء نزع خفاً واحداً أم الاثنين، فيمكن أن يمسح القدمين، ولو كان على أحدهما خف واحد، والأخرى عليها خفان. وهو مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية كمذهب الحنفية إلا أنهم يشترطون أن يكون مسح الأسفل في الحال؛ لأن الموالاة عندهم شرط بخلاف الحنفية، فإن لم يمسح، وتأخر في المسح استأنف الوضوء (¬2). وللشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) في هذه المسألة ثلاثة وجوه لاختلاف قولهم في معنى الخف الأعلى. فالأصح والأظهر عند الشافعية أن الجرموق بدل عن الخف، والخف بدل عن غسل الرجل، وعلى هذا فلا يلزمه نزع الأسفل، ولكن هل يكفيه مسح الخفين أم يجب أن يستأنف الوضوء بدون نزع الأسفل، قولان في ¬

(¬1) المبسوط (1/ 103)، حاشية ابن عابدين (1/ 452)،. (¬2) الكافي (ص: 27). (¬3) روضة الطالبين (1/ 128)، المجموع (1/ 534، 535). (¬4) الشرح الكبير (1/ 163)، الإنصاف (1/ 192،193)، كشاف القناع (1/ 118).

مذهب الشافعية. الوجه الثاني: أن الخف الأعلى بمنزلة اللفافة، والأعلى هو الخف، فإذا نزع الأعلى، وجب نزع الأسفل؛ وهو المشهور من مذهب الحنابلة؛ لأن القول عندهم لا يجيز المسح على اللفائف، وقد سبق الكلام عليه. الوجه الثالث: أن الخف الأعلى بمنزلة الظهارة، والأسفل بمنزلة البطانة، وبناء عليه إذا خلع الأعلى لا يلزمه شيء، وأكمل المدة في الخف الأسفل؛ لأنه لو كان هناك خف صنع من طبقتين، ظهارة وبطانة، وفرض أن الظهارة تمزقت، لم يبطل المسح على البطانة، وهذا مثله. والصحيح أن خلع الأعلى يبطل مسح الأسفل؛ لأنه حين مسح تعلق الحكم به. والله أعلم.

الباب السابع مبطلات المسح على الخفين

الباب السابع مبطلات المسح على الخفين وفيه أربعة فصول

الفصل الأول خلاف العلماء إذا نزع خفيه بعد المسح وقبل تمام المدة

الفصل الأول خلاف العلماء إذا نزع خفيه بعد المسح وقبل تمام المدة إذا خلع خفيه، وهو على طهارة المسح، وقبل تمام المدة، فقيل: يجب عليه أن يغسل قدميه، ولا تشترط الموالاة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والقول الجديد للشافعي (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: إن غسل قدميه مباشرة، كفاه، وإن أخر حتى طال الفصل، ¬

(¬1) مراقي الفلاح (ص: 55)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 25)، بدائع الصنائع (1/ 12)، المبسوط (1/ 102،103)، تبيين الحقائق (1/ 51)، البحر الرائق (1/ 187). (¬2) روضة الطالبين (1/ 132)، المجموع (1/ 553). (¬3) قال ابن رجب في قواعده (ص: 314) في القاعدة الثالثة والأربعين بعد المائة: "ومنها إذا مسح على الخف، ثم خلعه، فإنه يجزئه غسل قدميه على إحدى الروايتين، ولو فاتت الموالاة؛ لأن المسح كمل الوضوء وأتمه، وقام مقام غسل الرجلين إلى حين الخلع، فإذا وجد الخلع وتعقبه غسل القدمين، فالوضوء كالمتواصل، وعلى هذا لو وجد ما يكفي لغسل بعض أعضاء الحدث الأصغر، فاستعمله فيها، ثم تيمم للباقي، ثم وجد الماء بعد فوات الموالاة لم يلزمه إلا غسل باقي الأعضاء، وهو ظاهر ما ذكره الشيخ مجد الدين في شرح الهداية، لكنه بناه على سقوط الموالاة بالعذر " اهـ. قلت: قد اختلف أصحاب أحمد في مبنى هذه الرواية: فقيل: مبنية على الموالاة، وعليه فلو حصل غسل قدميه مباشرة قبل فوات الموالاة أجزأه. وقيل: على كون المسح على الخفين هل يرفع الحدث أم لا؟ وقيل: على كون الطهارة هل تتبعض في النقض، وإن تبعضت في الثبوت كالصلاة والصيام. انظر شرح العمدة لابن تيمية (1/ 258) والإنصاف (1/ 190).

دليل الحنفية على وجوب غسل القدم

استأنف الوضوء، لفقد شرط الموالاة، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا شيء عليه، بل طهارته صحيحة، مالم يحدث، وهو الراجح، اختاره ابن حزم (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3). وقيل: تبطل طهارته، وهو القول القديم للشافعي (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5). دليل الحنفية على وجوب غسل القدم. قالوا: إن المانع من سراية الحدث إلى القدم استتارها بالخف، وقد زال بالنزع، فسرى الحدث السابق إلى القدمين، ولما كان قد غسل سائر ¬

(¬1) جاء في المدونة (1/ 144): " وقال مالك في الرجل يتوضأ، ويمسح على خفيه، ثم يمكث إلى نصف النهار، ثم ينزع خفيه، قال: إن غسل رجليه مكانه حين ينزع خفيه أجزأ، وإن أخر غسل رجليه، ولم يغسلهما حين ينزع الخفين أعاد الوضوء كله ". وانظر الخرشي (1/ 182)، حاشية الدسوقي (1/ 145). (¬2) المحلى (1/ 340،341). (¬3) قال ابن تيمية كما في الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية (ص: 26): " ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما " اهـ. (¬4) روضة الطالبين (1/ 132)، المجموع (1/ 553). (¬5) مسائل ابن هانئ (1/ 19)، وفي مسائل أحمد رواية أبي داود (ص: 16) رقم 54 قال: قلت لأحمد: إذا مسح على خفيه ثم نزعهما؟ قال: يعيد الوضوء، ثم قال: الذي يغسل قدميه بأي شيء يحتج، أليس حين مسح على خفيه قد طهرتا رجلاه، فحين نزعهما نقض طهور رجليه، ولم ينقض غير ذلك، إن كان نقض بعض طهوره، فقد نقض كله، وإلا لم ينقض شيئاً ". اهـ وانظر المحرر (1/ 13)، المبدع (1/ 153)، الكافي (1/ 38)، الإنصاف (1/ 190)، شرح منتهى الإرادات (1/ 63،64)، كشاف القناع (1/ 137).

أعضاء الوضوء، وبقيت القدمان فقط، فلم يجب إلا غسلهما، والموالاة عند الحنفية ليست بشرط لصحة الطهارة، فلما غسل جميع أعضاءه إلا القدمين، ثم غسل القدمين بعد نزعهما صدق عليه أنه غسل جميع ما يجب غسله، غاية ما هنالك أنه فاته سنة الموالاة، وهي ليست بشرط في مذهبهم. الدليل الثاني: (136) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد الدالاني، عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل يمسح على خفيه، ثم يبدو له أن ينزع خفيه، قال: يغسل قدميه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 170). (¬2) ضعيف من أجل يزيد الدالاني، جاء في ترجمته: قال عثمان بن سعيد: سألت يحيى بن معين عن يزيد الدالاني، فقال: ليس به بأس. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عنه، فقال: صدوق ثقة. الجرح والتعديل (9/ 277). وقال أحمد: لا بأس به. تهذيب التهذيب (12/ 89). وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وأروى الناس عنه عبد السلام بن حرب، وفي حديثه لين إلا أنه مع لينه يكتب حديثه. الكامل (7/ 277). وقال ابن سعد: كان منكر الحديث. الطبقات (7/ 310). وقال ابن حبان: كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، يخالف الثقات في الروايات حتى إذا سمعها المبتدىء في هذه الصناعة علم أنها معلولة أو مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات فكيف إذا انفرد عنهم بالمعضلات. المجروحين (3/ 105). =

الدليل الثالث: (137) ما رواه البيهقي، من طريق الحسن بن علي بن عفان، عن زيد بن الحباب، حدثني عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة المسح، قال: وكان أبي ينزع خفيه، ويغسل رجليه، ويذكر عن عطاء مثل ذلك (¬1). [وهذا شاذ سنداً ومتناً] (¬2). ¬

= وقال أبو الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في بعض حديثه. تهذيب الكمال (33/ 273). وقال ابن عبد البر: ليس بحجة. تهذيب التهذيب (12/ 89). فالإسناد ضعيف، ولو خلا من ضعف يزيد بن عبد الرحمن، ما خلا من عنعنته، وهو مدلس مكثر من التدليس، ذكره الحافظ في المرتبة الثالثة في طبقات المدلسين (113). وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيراً. وقد اختلف في إسناده، فرواه البيهقي (1/ 289) من طريق أبي سعيد الأشج، ورواه من طريق البخاري، حدثنا أبو نعيم، كلاهما عن عبد السلام بن حرب، ثنا يزيد بن عبد الرحمن، وهو الدالاني، عن يحيى بن إسحاق، عن سعيد بن أبي مريم، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث، فزاد في الإسناد سعيد بن أبي مريم. قال البخاري: ولا نعرف أن يحيى سمع من سعيد أم لا، ولا سمع سعيد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) سنن البيهقي (1/ 289) (¬2) أما الإسناد فقد رواه أكثر من عشرة حفاظ، عن عبد الوهاب الثقفي، عن المهاجر، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، لا يذكرون في الإسناد خالداً الحذاء، وإليك هم حسب ما وقفت عليه: الأول والثاني: بشر بن معاذ العقدي، ومحمد بن أبان، كما في صحيح ابن خزيمة (192) والدارقطني (1/ 204). =

دليل المالكية على وجوب غسل القدمين مباشرة

الدليل الرابع: أننا إذا لم نقل بغسل القدمين لزم من ذلك أن يصلي بقدمين، لا مغسولتين، ولا ممسوح عليهما، وهذ لا يصح. دليل المالكية على وجوب غسل القدمين مباشرة. دليل المالكية هو دليل الحنفية إلا أنهم اشترطوا أن يغسل رجليه ¬

_ = الثالث: الشافعي، كما في مسنده (ص: 17)، وشرح السنة للبغوي (237). الرابع: بشر بن هلال الصواف، كما في سنن ابن ماجه (556)، والدارقطني (1/ 204). الخامس: محمد بن المثنى، كما في سنن الدارقطني (1/ 194). السادس والسابع والثامن: أبو الأشعث والعباس بن يزيد ومسدد، كما عند الدارقطني (1/ 194). التاسع: محمد بن بشار، كما عند ابن خزيمة (192)، وابن ماجه (556)، والدارقطني (1/ 204). العاشر: يحيى بن معين، كما في المنتقى لابن الجارود (87). وأما شذوذه متناً فقد رواه عشرة من الحفاظ عن عبد الوهاب، لا يذكرون في متنه: وكان أبي ينزع خفيه، ويغسل رجليه، وإنما تفرد بها الحسن بن علي بن عفان، عن زيد بن الحباب، عن عبد الوهاب، والبلاء ليس من زيد بن الحباب؛ لأن ابن أبي شيبة رواه في المصنف (1/ 163) عن زيد بن الحباب، عن عبد الوهاب، عن المهاجر، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة به كرواية الجماعة، فلم يذكر خالداً الحذاء، ولم يذكر الأثر الموقوف، فظهر أن الخطأ ليس من زيد بن الحباب، وإنما هو من الحسن بن علي بن عفان، وقد قال البيهقي (1/ 276): " وهذا الحديث رواه جماعة عن عبد الوهاب الثقفي، عن المهاجر أبي مخلد، ورواه زيد بن الحباب، عنه، عن خالد الحذاء، فأما أن يكون غلطاً منه، أو من الحسن بن علي، وأما أن يكون عبد الوهاب رواه على الوجهين جميعاً، ورواية الجماعة أولى أن تكون محفوظة " اهـ.

دليل الحنابلة على بطلان الطهارة

مباشرة؛ لإن الموالاة عندهم شرط، وتسقط مع العذر، وكونه يوجد فاصل طويل بين أول الطهارة، وبين غسل الرجلين يعتبرون هذا من العذر الذي يسقط الموالاة، فإذا خلع خفيه وجب غسلهما فوراً؛ لأنه ليس هناك عذر في تأخير الموالاة، فلو نسي غسل قدميه فيبني باعتبار أن النسيان عذر، فالفرق بين قول الحنفية والمالكية، أن المالكية يشترطون الموالاة إلا من عذر، بخلاف الحنفية، فليست شرطاً عندهم. دليل الحنابلة على بطلان الطهارة. لا أعلم لهم دليلاً، ولكن لهم تعليل، يقولون: إن المسح أقيم مقام الغسل، فإذا زال المسح بطلت الطهارة في القدمين، وإذا بطلت في بعض الأعضاء، بطلت في جميعها؛ لأن الطهارة لا تتبعض. والقول عند الحنابلة ليس مبنياً على اشتراط الموالاة بين غسل الرجلين، وما قبلهما من أعضاء الوضوء حتى يقال: إذا غسل رجليه مباشرة هل تتحقق الموالاة أم لا، ولذلك لو توضأ، ومسح على قدميه، وقبل جفاف أعضاء الوضوء خلع خفيه، بطلت طهارته عندهم، ولا يقال: ما دام الأعضاء لم تجف اغسل قدميك؛ لأن الموالاة متحققة هنا بلا خلاف، فالعلة عندهم أنه بخلع أحد الخفين عاد الحدث إلى الرجل، فيسري إلى بقية الأعضاء، وإذا سرى وجب الاستئناف، ولو قرب الزمن، وهذا القول قد اختاره بعض التابعين. (138) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن مكحول والزهري، قالا: إذا مسح، ثم خلع، قالا: يعيد

دليل من قال طهارته صحيحة

الوضوء (¬1). [وهذا سند صحيح إليهما] (139) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن ابن سيرين، قال: يعيد الوضوء (¬2). [وهذا سند صحيح إلى ابن سيرين] دليل من قال طهارته صحيحة. الدليل الأول: (140) ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما. زاد البيهقي: ثم تقدم، فأم الناس. [سنده صحيح] (¬3). وهذا الفعل من خليفة راشد، وهو ممن أمرنا باتباع سنته. الدليل الثاني: أن هذا الرجل قد تطهر الطهارة الشرعية، وعليه خفاه، وحكمنا بطهارته، وطهارته ثابتة بمقتضى الدليل الشرعي الصحيح، فلا تنتقض طهارته بخلع خفيه إلا بدليل شرعي مثله أو إجماع، ولا دليل هنا. ¬

(¬1) المصنف (1/ 170). (¬2) المصنف (1/ 171). (¬3) سبق تخريجه في مسألة المسح على النعلين.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: أن خلع الخف ليس حدثاً حتى يعتبر ناقضاً للطهارة الثابتة، فليس من الأحداث المتفق عليها، ولا المختلف فيها، وإذا لم يكن حدثاً بقي طاهراً حتى يحدث. الدليل الرابع: أن هذا القول هو مقتضى القياس الصحيح، فلو كان على رجل شعر كثيف، ثم مسح شعره بحيث لا يصل إلى بشرة الرأس، ثم حلق شعره، لم تنتقض طهارته مع زوال الممسوح، فكذلك خلع الخفين. ولابن حزم مناقشة جيدة للأئمة الأربعة إلا أني كرهت نقلها حرفياً لما فيها من الألفاظ القاسية التي لا تليق في مناقشة المخالف فضلاً عن الأئمة، لذا رأيت أن اختار منها، وعفى الله عن ابن حزم، فقد كان معظماً للدليل، متبعاً له، على قسوة في عبارته غير مناسبة، قال ما معناه مناقشاً لمذهب المالكية والحنفية: أما القول بغسل الرجلين فقط، فهو باطل متيقن؛ لأنه قد كان بإقرارهم قد تم وضوؤه، وجازت له الصلاة، ثم يأمرونه بغسل الرجلين فقط، ولا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون الوضوء الذي قد تم، قد بطل أو لم يبطل. فإن كان لم يبطل، فهذا قولنا. وإن كان قد بطل فعليه أن يبتدئ الوضوء، وإلا فمن المحال أن يكون وضوء قد تم، ثم ينتقض بعضه، ولا ينتقض البعض الآخر (¬1). ¬

(¬1) المحلى (1/ 329، 330).

الفصل الثاني إذا ظهر بعض محل الفرض ولم يخلع الخف فهل تبطل طهارته

الفصل الثاني إذا ظهر بعض محل الفرض ولم يخلع الخف فهل تبطل طهارته

الفصل الثاني إذا ظهر بعض محل الفرض ولم يخلع الخف فهل تبطل طهارته إذا ظهر بعض محل الفرض ولم يخلع الخف، فهل يبطل مسحه أم لا؟ فقيل: إن خرج أكثر عقبه بطل مسحه، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1). وقيل: إن نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع، انتقض مسحه، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬2). وقيل: إن بقي من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع، لم يبطل، لبقاء محل المسح، وهو اختيار محمد بن الحسن (¬3). وقيل: إن خرج أكثر القدم لساق الخف انتقض، وإلا فلا، وهو مذهب المالكية (¬4). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 105)، شرح فتح القدير (1/ 154) بدائع الصنائع (1/ 13)، تبيين الحقائق (1/ 50)، العناية شرح الهداية (1/ 154). (¬2) اختلف النقل عن أبي يوسف، فبدائع الصنائع (1/ 13) وشرح فتح القدير (1/ 154) والعناية شرح الهداية (1/ 154) نقلوا أن مذهب أبي يوسف إن خرج أكثر القدم من الخف انتقض، وإلا فلا. ونقل السرخسي في المبسوط (1/ 105) أن قول أبي يوسف إن نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع انتقض مسحه. فينبغي أن يحرر قول أبي يوسف، وإن الأكثر أرجح. (¬3) المبسوط (1/ 105)، بدائع الصنائع (1/ 13). (¬4) نص المدونة أن المسح يبطل إن نزع كل القدم لساق الخف، واختلف أصحاب مالك في الأكثر، فقال الجلاب: والأكثر كالكل، وقيل: لا. وهذا نص المدونة (1/ 144): =

وقيل: لو أخرجها من قدم الخف إلى الساق لم يؤثر إلا إذا كان الخف طويلاً خارجاً عن العادة، فأخرج رجله إلى موضع لو كان الخف معتاداً لظهر شيء من محل الفرض بطل مسحه، وهو مذهب الشافعية (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). وقيل: تبطل طهارته، وهو مذهب الحنابلة (¬3). والصحيح أن طهارته لا تبطل سواء ظهر بعض القدم أو خلع الخف، وهو مذهب ابن حزم (¬4)، ورجحه ابن تيمية (¬5). ¬

= " قال مالك: فيمن نزع خفيه من موضع قدميه إلى الساقين، وقد كان مسح عليهما حين توضأ: إنه ينزعهما، ويغسل رجليه بحضرة ذلك، وإن أخر استأنف الوضوء، قال: وإن خرج العقب إلى الساق قليلاً، والقدم كما هي في الخف فلا أرى عليه شيئاً، قال وكذلك إن كان واسعاً، فكان العقب يزول، ويخرج إلى الساق، وتجول القدم إلا أن القدم كما هي في الخفين، فلا أرى عليه شيئاً ". قال في الشرح الكبير (1/ 145): " والمعتمد: أن نزع أكثر القدم لا يبطل المسح، ولا يبطله إلا نزع كل القدم لساق الخف، خلافاً لمن قاس الجل على الكل التابع له ". وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 157): " وحاصله أن المدونة قالت: وبطل المسح بنزع كل القدم لساق الخف. قال الجلاب: والأكثر كالكل. قال الأجهوري: والأظهر أنه مقابل المدونة. وقال (ح): إنه تفسير له " اهـ. (¬1) المجموع (1/ 559). (¬2) ذكره ابن قدامة في المغني (1/ 178): أن أبا الخطاب حكى قول الشافعي رواية عن أحمد في رؤوس المسائل ". (¬3) المغني (1/ 178)، الفروع (1/ 169)، الإنصاف (1/ 190)، الكافي (1/ 38)، الروض المربع (1/ 291). (¬4) المحلى (1/ 340،341). (¬5) الإنصاف (1/ 190)، الاختيارات (ص: 15)، مجموع الفتاوى (21/ 215).

دليل من قال تبطل الطهارة بظهور أكثر القدم

دليل من قال تبطل الطهارة بظهور أكثر القدم. التعليل الأول: أن للأكثر حكم الكل، فإذا ظهر أكثر القدم، فكما لو ظهر القدم كله، فإذا كانت تبطل الطهارة بظهور القدم كله بطلت بظهور أكثر القدم. التعليل الثاني: أن المشي يتعذر بخروج أكثر القدم، فالمقصد من لبس الخف هو المشي عليه، فإذا تعذر المشي انعدم اللبس فيما قصد له. التعليل الثالث: قالوا: إن الاحتراز عن خروج القليل متعذر؛ لأنه ربما يحصل دون قصد، كما إذا كان الخف واسعاً إذا رفع القدم يخرج العقب، وإذا وضعها عادت العقب إلى مكانها، فلو قلنا بنقض المسح في مثله وقع الناس في الحرج، بخلاف الكثير فإن الاحتراز عنه ليس بمتعذر. وحيث قلنا: بطل مسحه - يعني: حكم خلع الخف، فإن كان محدثاً استأنف الطهارة، وإن كان طاهراً غسل قدميه، وكفى كما سبق في المسألة السابقة - والله أعلم. دليل من قال تبطل طهارته بظهور أكثر العقب. دليلهم هو نفس دليل القول السابق، من أنه لا يمكن المشي بهذه الصفة. ولأن الأكثر له حكم الكل. دليل من قال إذا نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع بطل مسحه. الحنفية يقدرون الكثير بثلاثة أصابع، فالخرق في الخف إن ظهر منه مقدار ثلاثة أصابع لم يصح المسح عليه، والمسح على الخف يجزئ فيه إن مسح بثلاثة أصابع، وعليه إن نزع من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع لم يصح

الدليل على قول محمد بن الحسن

المسح عندهم، وهذا القول ضعيف؛ لأنه يقابل بقول محمد بن الحسن إن بقي مقدار ثلاثة أصابع من القدم، لم تنتقض الطهارة، لبقاء محل المسح. الدليل على قول محمد بن الحسن. قال: لو قطعت رجله، وبقي من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع فلبس عليه الخف جاز له أن يمسح، فكذلك إذا نزع الخف، وبقي منه مقدار ثلاثة أصابع لم يبطل المسح، لبقاء محله. دليل الشافعية. قالوا: إن من نزع الخف من قدم الخف إلى الساق، لم يبطل المسح؛ لأنه لم تظهر الرجل من الخف. دليل من قال تبطل طهارته مطلقاً. ذكرنا دليلهم في مسألة خلع الخف، فانكشاف بعض القدم، ولو كان من خرق يسير، حكمه حكم نزع الخف عندهم، وقد قدمنا دليل الحنابلة في إبطال طهارة من نزع خفه. قال ابن حزم في مناقشة هذه الأقوال: " أما من قال: إن الحكم يتعلق بأكثر القدم، فهم ليس لهم قول مطرد باعتبار الأكثر، فمرة الكثير أكثر من النصف، ومرة الثلث، ومرة الربع، ومرة شبراً في شبر، ومرة أكثر من قدر الدرهم، وهذا لا دليل عليه من قرآن، ولا سنة، ولا قياس، ولا قول صاحب، ولا رأي مطرد. وأما فرق مالك رحمه الله بين إخراج العقب إلى موضع الساق، فلاينتقض المسح، وبين إخراج القدم كلها إلى موضع الساق فينتقض المسح، فتحكم أيضاً لا يجوز القول به، ولا يوجبه قرآن ولا سنة صحيحة، ولا رأي مطرد؛ لأنه يرى أن بقاء العقب في الوضوء لا يطهر، وإن فاعل ذلك لا

وضوء له، فإن كان المسح قد انتقض عن الرجل بخروجها عن موضع القدم، فلا بد من انتقاض المسح عن العقب بخروجها عن موضعها إلى موضع الساق، لا يجوز غير ذلك، وإن كان المسح لا ينتقض عن العقب بخروجها إلى موضع الساق؛ فإنه لا ينتقض أيضاً بخروج القدم إلى موضع الساق، كما قال الشافعي. وأما تفريقهم جميعهم بين المسح على الخفين، ثم يخلعان فينتقض المسح، ويلزمه اتمام الوضوء، وبين الوضوء ثم يجز الشعر، وتقص الأظفار فلا ينتقض الغسل عن مقص الأظفار، ولا المسح على الرأس ففرق فاسد ظاهر التناقض، ولو عكس إنسان هذا القول، فأوجب مسح الرأس على من حلق شعره، ومس مجز الأظفار بالماء، ولم ير المسح على من خلع خفيه لما كان بينهما فرق. وما وجدنا لهم في ذلك متعلقاً أصلاً إلا أن بعضهم قال: وجدنا مسح الرأس وغسل القدمين في الوضوء إنما قصد به الرأس لا الشعر، وإنما قصد به الأصابع لا الأظفار، فلما جز الشعر وقطعت الأظفار بقي الوضوء بحسبه، وأما المسح فإنما قصد به الخفان، لا الرجلان، فما نزعت بقيت الرجلان لم توضآ، فهو يصلي برجلين لا مغسولتين ولا ممسوح عليهما، فهو ناقص الوضوء. قال ابن حزم: وهذا لا شيء؛ لأنه باطل وتحكم بالباطل، فلو عكس عليه قوله، فقيل له: بل المسح على الرأس وغسل الأظفار إنما قصد به الشعر والأظفار فقط، بدليل أنه لو كان على الشعر حناء، وعلى الأظفار كذلك لم يجز الوضوء، وأما الخفان فالمقصود بالمسح القدمان لا الخفان؛ لأن

الخفين لولا القدمان لم يجز المسح عليهما، فصح أن حكم القدمين الغسل، وإن كانتا مكشوفتين، والمسح إن كانتا في خفين، لما كان بين القولين فرق. ثم يقال لهم: هبكم أن الأمر كما قلتم في أن المقصود بالمسح الخفان، وبالمسح في الوضوء الرأس، وبغسل اليدين للأصابع لا للأظفار، فكان ماذا؟ أو من أين أوجب مِنْ هذا أن يعاد المسح بخلع الخفين، ولا يعاد بحلق الشعر؟ قال علي: فظهر فساد هذا القول. وأما قولهم: إنه يصلي بقدمين لا مغسولتين، ولا ممسوح عليهما فباطل، بل ما يصلي إلا على قدمين ممسوح على خفين عليهما. فبطل هذا القول كما بينا. الخ كلامه رحمه الله (¬1). فالراجح: أن خلع الخفين أو بعضهما، أو بعض الخف ليس بحدث، ولا تنتقض الطهارة، ولكن لا يمسح عليهما إذا أعاد لبسهما إلا على طهارة مائية، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أذن أن يبقى الخف على القدم إذا لبس على طهارة مائية ليمسح يوماً وليلة، وخلعها ليس حدثاً ناقضاً للطهارة، لكنه ينهي مدة المسح فيما يستقبل، ويحتاج إلى إعادة اللبس على طهارة مائية، ولو كانت إعادة لبسه ممكنة ليمسح على طهارة ممسوح عليها لم يكن للتوقيت فائدة، فقبل تمام يوم وليلة أخلع الخف، ثم أعيد لبسه لأستأنف مدة أخرى، فتذهب الحكمة من التوقيت، لكن إذا اشترطنا إعادة الخف بطهارة مائية كما لبس في الطهارة الأولى، لم نتحايل على إسقاط التوقيت، والله أعلم بالصواب. ¬

(¬1) المحلى (1/ 340،341).

الفصل الثالث إذا انتهت مدة المسح فهل يستأنف الوضوء

الفصل الثالث إذا انتهت مدة المسح فهل يستأنف الوضوء

الفصل الثالث إذا انتهت مدة المسح فهل يستأنف الوضوء؟ إذا انتهت مدة المسح، يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر فما الحكم؟ فقيل: يكفيه غسل رجليه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والراجح في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: يستأنف الوضوء، وهو المشهور في مذهب الحنابلة (¬3)، والقول القديم في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: لا تبطل طهارته بانتهاء مدة المسح، وهو اختيار ابن حزم (¬5)، ورجحه ابن تيمية (¬6). وهو الصحيح. وأما المالكية فالمشهور في مذهبهم أن المسح غير مؤقت. وقد سبق ذكر الخلاف (¬7). ¬

(¬1) مراقي الفلاح (ص: 55)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 25)، بدائع الصنائع (1/ 12)، المبسوط (1/ 102،103)، تبيين الحقائق (1/ 51). (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 557): " في مذهبنا قولان: أصحهما يكفيه غسل القدمين ". وانظر المجموع (1/ 553) وروضة الطالبين (1/ 132،133). (¬3) الإنصاف (1/ 190)، الفروع (1/ 169)، المغني (1/ 177). (¬4) المجموع (1/ 553). (¬5) المحلى (1/ 321). (¬6) الاختيارات (ص: 15). (¬7) قال في التاج والإكليل (1/ 467): " المسح جائز من غير توقيت لمدة من الزمان، لا يقطعه إلا الخلع، أو حدوث ما يوجب الغسل ".

دليل من قال يجب غسل القدمين

وهذا الخلاف هل هو مبني على اعتبار الموالاة، فلو أن المدة انتهت قبل جفاف الأعضاء، كفاه غسل القدمين، وجهان. وقيل: مبني على أن المسح هل يرفع الحدث أم لا؟ وقد حرر الخلاف في هذا القول، فإن قيل: لا يرفع الحدث عن القدمين، فقد ارتفع عن الوجه واليدين والرأس، وبقي الرجلان، فيكفيه غسلهما. وإن قلنا: يرتفع الحدث، فبالخلع عاد الحدث، والحدث لا يتبعض، فيجب إستئناف الوضوء. وقيل: مبني على أن الطهارة لا تتبعض بالنقض، وإن تبعضت بالثبوت، كالصلاة والصيام. دليل من قال يجب غسل القدمين. قال السرخسي: إذا انقضى مدة مسحه، ولم يحدث، فعليه نزع خفيه، وغسل القدمين؛ لأن الاستتار كان مانعاً في المدة، فإذا انقضى سرى ذلك الحدث إلى القدمين، فعليه غسلهما، وليس عليه إعادة الوضوء، كما لو كانت السراية بخلع الخفين " (¬1) اهـ. دليل من قال يجب إستئناف الوضوء. قالوا: إن المسح أقيم مقام الغسل في المدة، فإذا انقضت المدة بطلت الطهارة في الممسوح، وإذا بطلت الطهارة في الممسوح، بطلت في سائر الأعضاء؛ لأن الحدث لا يتبعض. ¬

(¬1) المبسوط (1/ 103).

دليل من قال لا تبطل طهارته

دليل من قال لا تبطل طهارته. الدليل الأول: أحاديث التوقيت للمقيم والمسافر تضمنت ابتداء وانتهاء مدة المسح، لا الطهارة، فهي تنهى أن يمسح أحدنا أكثر من يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام للمسافر، فمن قال: بأنها تدل على انتهاء مدة الطهارة، فقد قال في الحديث ما ليس فيه. الدليل الثاني: أن هذا الرجل قد تطهر بمقتضى الكتاب والسنة، فلا تنقض طهارته إلا بدليل من كتاب أو سنة، أو إجماع، ولا دليل هنا. الدليل الثالث: أن الطهارة لا ينقضها إلا حدث، وهذا قد صحت طهارته، ولم يحدث، فهو طاهر، وانتهاء مدة المسح ليس حدثاً حتى يحكم ببطلان طهارته، والأصل بقاء الطهارة. الدليل الرابع: (141) استدل بعض مشايخنا بما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب ح وعن عباد بن تميم، عن عمه أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (137) ومسلم (361).

الدليل الخامس

وجه الاستدلال: قال: لم يوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء إلا على من تيقن سبب وجوبه، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكاً فيه من حيث الواقع كما في الحديث، أو من حيث الحكم الشرعي، فإن كلاً فيه جهالة، هذا جهالة بالواقع، هل حصل أم لم يحصل، وهذا جاهل بالشرع، هل يوجبه أو لايوجبه، فالحديث دال على أن الوضوء لا ينتقض إلا باليقين، وهنا لا يقين. الدليل الخامس: القياس على من خلع خفه. (142) فقد روى ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما. زاد البيهقي: ثم تقدم، فأم الناس. [سنده صحيح] (¬1). فإذا كان من خلع خفه لا تنتقض طهارته على الصحيح، فكذلك إذا خلع الخف لانتهاء مدة المسح، ولا فرق. وهذا القول قد اختاره ابن المنذر، وقواه النووي، ورجحه ابن حزم، وابن تيمية، وهو الصحيح. ¬

(¬1) سبق تخريجه في مسألة المسح على النعلين.

الفصل الرابع يبطل المسح مع وجود الحدث الأكبر

الفصل الرابع يبطل المسح مع وجود الحدث الأكبر

الفصل الرابع يبطل المسح مع وجود الحدث الأكبر والمقصود من بطلان المسح انتهاء مدته بموجب غسل ونحوه. وهذا بالإجماع، قال النووي: " لا يجزئ المسح على الخف في غسل الجنابة، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم، ولا أعلم فيه خلافاً لأحد من العلماء، وكذا لا يجزئ مسح الخف في غسل الحيض والنفاس، ولا في الأغسال المسنونة كغسل الجمعة والعيد وأغسال الحج وغيرها، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب " (¬1). وقال ابن قدامة: " جواز المسح مختص به - يعني الحدث الأصغر - ولا يجزئ المسح في جنابة، ولا غسل واجب ولا مستحب، لا نعلم في هذا خلافاً " (¬2). والدليل من السنة: (143) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر ¬

(¬1) المجموع (1/ 505). (¬2) المغني (1/ 362). وانظر في كتب الحنفية: تبيين الحقائق (1/ 46)، العناية شرح الهداية (1/ 152)، شرح فتح القدير (1/ 152)، البحر الرائق (1/ 177)، البناية (1/ 586). وانظر في مذهب المالكية، الشرح الصغير (1/ 156،157)، حاشية الدسوقي (1/ 145). وانظر في مذهب الشافعية، الأم (1/ 34)، المجموع (1/ 505). وانظر في مذهب الحنابلة شرح الزركشي (1/ 383)، الهداية - أبو الخطاب (1/ 16)، المغني (1/ 362).

ابن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. الحديث (¬1). [وإسناده حسن، وسبق تخريجه]. وسبق الإشارة إلى هذا في الكلام في الشرط الثامن من شروط المسح على الخفين، وهو كون المسح في الطهارة الصغرى. ¬

(¬1) المصنف (795).

الباب الثامن في أحكام المسح على العمامة

الباب الثامن في أحكام المسح على العمامة وفيه أربعة فصول

الفصل الأول خلاف العلماء في المسح على العمامة

الفصل الأول خلاف العلماء في المسح على العمامة اختلف العلماء في المسح على العمامة، فقيل: لا يجوز، هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 101)، تبيين الحقائق (1/ 52)، شرح فتح القدير (1/ 157)، البحر الرائق (1/ 193)، الفتاوى الهندية (1/ 6)، حاشية ابن عابدين (1/ 272). (¬2) جاء في المدونة (1/ 124): " وقال مالك في المرأة تمسح على خمارها أنها تعيد الصلاة والوضوء " اهـ. وفي المنتقى للباجي (1/ 75) " سئل مالك عن المسح على العمامة والخمار، فقال: لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة على عمامة ولا خمار، وليمسحا على رؤسهما ". وجوز المالكية المسح على العمامة إذا كان يتضرر بنزعها، والحقيقة أن هذا لا يعتبر قولاً في المسح على العمامة، لأنه إذا كان يتضرر بنزعها أصبحت في حكم الجبيرة، ولذلك لم أعتبره قولاً؛ لأننا نقصد بالمسح على العمامة المسح عليها إذا لبسها مختاراً من غير ضرورة كالمسح على الخف. انظر: مختصر خليل (ص: 19)، والتاج والإكليل (1/ 532)، مواهب الجليل (1/ 207)، حاشية الدسوقي (1/ 163،164). (¬3) الأم (7/ 29)، ويرى النووي أنه لا يجوز المسح على العمامة وحدها، وإذا كان على رأسه عمامة، ولم يرد نزعها، مسح بناصيته، والمستحب أن يتمم المسح على العمامة، انظر حاشية الجمل (1/ 128)، أسنى المطالب (1/ 41)، المجموع (1/ 439). والحقيقة ليس في هذا قول بالمسح على العمامة؛ لأن الفرض عندهم المسح على الناصية، وهو وحده كاف في إسقاط الفرض، ولو اقتصر على العمامة لم يصح وضوؤه. فمحصلة هذا القول أنه لا يجوز المسح على العمامة وحدها، ولذلك لم أجعل هذا قولاً برأسه، لأن النتيجة أنهم لا يرون المسح على العمامة، ولو كانوا يرون المسح على العمامة لجاز الاقتصار عليها وحدها، ولم يشترطون في الجواز مسح الناصية معها. والله أعلم.

دليل الحنابلة على الجواز

وقيل: يجوز، اختاره الثوري (¬1)، والأوزاعي (¬2)، وهو المشهو من مذهب الحنابلة (¬3)، وهو مذهب الظاهرية (¬4)، وهو الصحيح. دليل الحنابلة على الجواز. الدليل الأول: (144) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن حاتم جميعاً، عن يحيى القطان، قال ابن حاتم: حدثنا يحيى بن سعيد، عن التيمي، عن بكر بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه. قال بكر: وقد سمعت من ابن المغيرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين (¬5). ¬

(¬1) أحكام القرآن ـ الجصاص (2/ 495). (¬2) المرجع السابق. (¬3) قال عبد الله في مسائل الإمام أحمد (1/ 124): " سألت أبي عن الرجل يمسح على العمامة؟ قال: لا بأس به. اهـ وانظر مسائل أحمد رواية ابن هاني (1/ 18)، ورواية صالح (579، 1051)، ورواية أبي داود (49،50) والفروع (1/ 162)، الإنصاف (1/ 185)، المغني (184)، كشاف القناع (1/ 112). (¬4) نسبه لدواد الظاهري الحطاب في مواهب الجليل (1/ 207). وقال ابن حزم في المحلى (1/ 303): " وكل ما لبس على الرأس من عمامة، أو خمار، أو قلنسوة، أو بيضة، أو مغفر، أو غير ذلك: أجزأ المسح عليه، المرأة والرجل سواء في ذلك، لعلة أو غير علة " اهـ. (¬5) مسلم (83 - 274).

الدليل الثاني

اعتراض وجواب. قالوا: إن الفرض مسحه على الناصية، وأما مسحه على العمامة فمن أجل سنة الاستيعاب، ولو ترك المسح على العمامة أجزأه، أما لو اقتصر بالمسح على العمامة، ولم يمسح شيئاً من رأسه لم يجزه. وأجيب: بأنه ثبت المسح على العمامة دون ذكر الناصية، كما سيأتي، ولم يثبت العكس، فلم يثبت أنه اقتصر في مسحه على الناصية دون العمامة. قال ابن القيم: " لم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة" ثم قال: " وأما اقتصاره على الناصية مجردة فلم يحفظ عنه " (¬1). فإذا ثبت أنه اقتصر على العمامة في المسح، ولم يثبت أنه اقتصر على الناصية وحدها، كيف تجعل الناصية هي الفرض، والمسح على العمامة مجرد سنة، والعادة أن البعض تبع للكل، وليس الكل تبعاً للبعض فالحكم دائماً للأغلب، والقليل يتبع الكثير، والعمامة لا شك أنها أغلب الرأس، فهي الأصل. الدليل الثاني: (145) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية، ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 193).

عن أبيه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته، وخفيه. قال البخاري: وتابعه معمر، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عمرو قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (205). وقول البخاري: تابعه معمر: أي تابع الأوزاعي في المتن لا في الإسناد، قال الحافظ: وهذا هو السبب في سياق المصنف الإسناد ثانياً ليبين أنه ليس في رواية معمر ذكر جعفر" اهـ كلام الحافظ. وأما تخريج الحديث، فالحديث مداره على يحيى بن كثير، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه به، وله طرق إلى يحيى: منها طريق الأوزاعي، أخرجه أحمد (4/ 139) ثنا محمد بن مصعب، قال: ثنا الأوزاعي، به. ومحمد بن مصعب صدوق كثير الغلط، لكنه قد توبع. وأخرجه ابن ماجه (562) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن مصعب به. وأخرجه أحمد أيضاً (4/ 179،288) ثنا أبو المغيرة، ثنا الأوزاعي به. وأبو المغيرة ثقة، واسمه: عبد القدوس بن حجاج الخولاني من رجال الجماعة. وأخرجه الدارمي (710) أخبرنا أبو المغيرة ثنا الأوزاعي به. قيل للدارمي: تأخذ به؟ قال: إي والله. وأخرجه البيهقي (1/ 270،271) من طريق بشر بن بكر، ومن طريق أبي المغيرة، ومن طريق عبد الله بن المبارك، ثلاثتهم عن الأوزاعي به. وأخرجه ابن خزيمة (181) من طريق عبد الله بن داود، عن الأوزاعي به. وأخرجه ابن ماجه (562) ثنا دحيم (عبد الرحمن بن إبراهيم) ومن طريق دحيم أخرجه ابن حبان (1343)، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي به. واختلف على يحيى بن أبي كثير، فرواه عنه الأوزاعي بذكر المسح على العمامة والخفين، ورواه جماعة عن يحيى، ولم يذكروا العمامة، وإليك ذكرهم: الأول: شيبان، كما عند البخاري (204) قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = شيبان، عن يحيى - يعني: ابن أبي كثير - به، بلفظ: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 163) حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان به. وأخرجه أحمد (4/ 139) حدثنا حسن بن موسى وحسين بن محمد، قالا: حدثنا شيبان به. الثاني: حرب بن شداد، وهو ثقة، روى له الشيخان وغيرهما. وأخرجه أبو داود الطيالسي (1254) حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير به، بلفظ: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين. وأخرجه النسائي (119) أخبرنا العباس بن عبد العظيم، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حرب بن شداد به. الثالث: أبان بن يزيد العطار، وهو ثقة، قال فيه أحمد: ثبت في كل المشايخ. أخرج روايته أحمد (4/ 179) ثنا يونس، حدثنا أبان، عن يحيى بن أبي كثير به، بلفظ: أنه أبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين. الرابع: علي بن المبارك، وهو ثقة، من رجال الجماعة. أخرج روايته أحمد (4/ 139) ثنا أبو عامر، ثنا علي - يعني: ابن المبارك - عن يحيى به. الخامس: معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أمية، فأسقط جعفر بن عمرو، ولم يختلف على معمر في إسناده بإسقاط جعفر، لكن رواه تارة بذكر العمامة، فيكون بهذا متابعاً للأوزاعي، ورواه مرة بذكر الخفين فقط، موافقاً لرواية الجماعة. وهذا تفصيلها: فقد رواه عبد الرزاق (746)، ومن طريقه أحمد (4/ 179) والبيهقي (1/ 271) عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أمية الضمري قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على خفيه. اهـ وليس فيه ذكر العمامة. قال الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (205): " وأخرجها ابن مندة في كتاب الطهارة من طريق معمر بإثباتها - أي بإثبات المسح على العمامة - أما إسقاطه لجعفر بن عمرو، فقال الحافظ في الفتح أيضاً: سماع أبي سلمة من عمرو ممكن، فإنه مات بالمدينة سنة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 60، وأبو سلمة مدني، لم يوصف بالتدليس، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو، وقد روى بكير بن الأشج، عن أبي سلمة، أنه أرسل إلى جعفر بن عمرو بن أميه عن هذا الحديث، فرجع إليه، فأخبره به، فلا مانع أن يكون أبو سلمة اجتمع بعمرو بعد، فسمعه منه، ويقويه توفر دواعيهم على الاجتماع بالمسجد النبوي " اهـ. قلت: وقد توبع معمر بإسقاط جعفر بن عمرو، فقد رواه ابن حزم في المحلى (1/ 303) من طريق عبد الله بن أحمد، حدثني الحكم بن موسى، ثنا بشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة، حدثني عمرو بن أمية. قال ابن حزم: أبو سلمة سمعه من عمرو بن أمية سماعاً، وسمعه أيضاً من جعفر ابنه عنه " اهـ. قلت: وتصريح أبي سلمة بالسماع من عمرو يبعد احتمال تدليسه، مع أنه لم يرم بالتدليس، وقد تفرد بشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي بإسقاط جعفر بن عمرو، وكل من رواه عن الأوزاعي لم يسقطوه، وقد سبق أن ذكرت منهم ستة حفاظ، ولم أعرف من هو بشر بن إسماعيل، فإن كان هو ابن علية، فإنه مجهول، له ترجمة في الجرح والتعديل (2/ 352)، ولسان الميزان (2/ 20). ولم يذكر له الحافظ شيخاً سوى أبيه، فلا يغني التصريح بالسماع إذا كان الحال كذلك، والله أعلم. وأما زيادة الأوزاعي المسح على العمامة، فالبخاري قبلها في صحيحه، معتبرها زيادة ثقة، ونقل الحافظ في الفتح (205) عن الأصيلي، فيما حكاه ابن بطال عنه، فقال: " ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي؛ لأن شيبان وغيره رووه عن يحيى بدونها، فوجب تغليب رواية الجماعة على الواحدة، قال: وأما متابعة معمر فليس فيها ذكر العمامة، وهي أيضاً مرسلة؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من عمرو ... " اهـ كلامه. قلت: أما سماع أبي سلمة من عمرو، فقد سبق الجواب عنه. وأما الجواب عن زيادة الأوزاعي بذكر العمامة، فقال الحافظ: " قد ذكرنا أن ابن مندة أخرجه من طريق معمر بإثبات العمامة فيه، وعلى تقدير تفرد الأوزاعي بذكرها لا يستلزم ذلك تخطئته؛ لأنها تكون زيادة من ثقة حافظ، غير منافية لرواية رفقته، فتقبل، ولا تكون شاذة، ولا معنى لرد الروايات الصحيحة بهذه التعليلات الواهية " اهـ. قلت: كلام الأصيلي ليس تعليلاً واهياً، بل هو موافق لمقتضى القواعد الحديثية، =

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح هنا على العمامة، ولم يذكر الناصية، فدل على جواز الاقتصار عليها. الدليل الثالث: (146) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا إسحق، أخبرنا عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والخمار (¬1). ¬

= ولا نشترط في الزيادة الشاذة أن تكون منافية، وعفى الله عنك يا ابن حجر فقد كنت مضطرب المنهج في زيادة الثقة، وكلامك الذي رجحته في النكت في تعريف الشاذ يرد ما ذكرته هنا وما ذكرته في النخبة، ومنهج المحدثين مخالف لمنهج الأصوليين والفقهاء ممن لم يمارس هذا الفن. بل كم من حديث حكمت عليه في الشذوذ، ولم يكن منافياً لرواية من هو أوثق، بل يكفي مجرد المخالفة، والله أعلم. (¬1) صحيح مسلم (84 - 275). وحديث بلال رواه جماعة عن بلال، منهم أبو إدريس الخولاني، ومنهم نعيم بن خمار، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. أما رواية ابن أبي ليلى، فرواه عنه الأعمش، عن الحكم بن عتيبة، عنه، واختلف على الأعمش: فرواه عبد الله بن نمير، وعيسى بن يونس، وأبو معاوية، وعلي بن مسهر، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال. وتابع الأعمش الليث بن سليم، فرواه عن الحكم به. ورواه زائدة بن قدامة، وحفص بن غياث، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، عن بلال. فجعلا بدلاً من كعب بن عجرة البراء بن عازب، وهذا غير محفوظ كما سيأتي بيانه، وقد رواه زائدة بن قدامة عن الأعمش بمثل رواية أبي معاوية ومن ذكر معه فتابعهم على ذكر كعب بن عجرة. ورواه الثوري، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال. فهنا أسقط الواسطة بين ابن أبي ليلى، وبين بلال. وتابع جماعة الأعمش في رواية الثوري عنه: وهم شعبة وزيد بن أبي أنيسة، وعبد الله ابن محرر، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، دون واسطة بين ابن أبي ليلى وبلال، وحينئذ يصبح الحديث منقطعاً؛ لأني قد ذكرت في حديث سابق أن ابن أبي ليلى لم يسمع من بلال. وإليك عزو الروايات السابقة بألفاظها: أما رواية الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال. فقد رواه جماعة عن الأعمش، وهم: الأول: أبو معاوية، وهو من أثبت الناس في الأعمش. أخرج روايته مسلم (84 - 275) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو معاوية به. ورواه أحمد (6/ 12) حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش به. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 28،162) حدثنا أبو معاوية به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه أبو عوانة (1/ 260). وأخرجه النسائي (104) أخبرنا الحسين بن منصور، قال: حدثنا أبو معاوية به. الثاني عيسى بن يونس، عن الأعمش به. أخرجه مسلم (275) حدثنا إسحاق، أخبرنا عيسى بن يونس به. ورواه ابن ماجه (561) حدثنا هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس به. ورواه أبو عوانة (1/ 260) من طريق مسدد، عن عيسى بن يونس به. الثالث: عن عبد الله بن نمير، عن الأعمش به. أخرجه أحمد (6/ 14) حدثنا ابن نمير، عن الأعمش به. وأخرجه النسائي (104) أنبأنا الحسين بن منصور، قال: حدثنا عبد الله بن نمير به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أبو عوانة (1/ 260) من طريق الحسين بن عفان وعيسى بن أحمد، كلاهما عن ابن نمير، عن الأعمش به. وأخرجه من طريق محمد بن عبد الله بن نمير، حدثني أبي به. الرابع: علي بن مسهر، عن الأعمش. أخرجه الترمذي (101) حدثنا هناد، عن علي بن مسهر به. الخامس: زائدة بن قدامة، عن الأعمش. أخرجه ابن خزيمة (1/ 183) من طريق أبي أسامة، عن زائدة به. وقد روي عن زائدة بن قدامة، عن الأعمش به، فجعل بدلاً من كعب بن عجرة البراء بن عازب. والمحفوظ الأول. وتابع ليث بن أبي سليم الأعمش بذكر كعب بن عجرة في الإسناد، إلا أنه زاد في متنه، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 168) نا يحيى بن يعلى، عن ليث، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمسحون على الخفين والخمار. وهذا السند فيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف مختلط، لكنه سند صالح في المتابعات، لكن زيادة ذكر أبي بكر وعمر في هذا الإسناد زيادة منكرة، تفرد بها ليث، وهو ممن لا يحتمل تفرده. ورواه الثوري، عن الأعمش، وخالف فيه الجماعة، فقد رواه بإسقاط كعب بن عجرة، فقد أخرجها عبد الرزاق (736) ومن طريقه أحمد (6/ 15) عن سفيان، عن الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال. والمحفوظ من رواية الأعمش ذكر كعب بن عجرة كما رواه أثبت الناس عن الأعمش أبو معاوية، وتابعه عيسى بن يونس وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر، ولعل سفيان اختلط عليه روايته عن الأعمش بروايته عن الحكم بن عتيبة مباشرة، فقد رواه الثوري وغيره كما سيأتي، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، بدون ذكر كعب، فتداخلت الروايتان على الثوري؛ لأن الثوري كما قلت تارة يروي الحديث عن الأعمش، عن الحكم، وتارة يرويه عن الحكم مباشرة، كما سيأتي تخريجها إن شاء الله تعالى. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقيل: عن الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، عن بلال، فجعل البراء بدلاً من كعب بن عجرة، وذكر البراء شاذ في رواية الأعمش، بل وفي رواية غيره ممن رواه عن الحكم. رواه عن الأعمش زائدة بن قدامة وحفص بن غياث، فقد أخرجه أحمد (6/ 15) ثنا معاوية بن عمرو ويحيى بن أبي بكير، قالا: حدثنا زائدة، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، عن بلال، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين. اهـ ولم يذكر موضع الشاهد، وهو الخمار. ورجاله ثقات. ولم يتابع زائدة أحد إلا حفص بن غياث في طريق فيه ضعف، فقد أخرجه النسائي (105) أخبرنا الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي، عن طلق بن غنام، قال: حدثنا زائدة وحفص بن غياث، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، عن بلال، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين. وهذا الإسناد فيه الحسين بن عبد الرحمن. قال أبو حاتم: مجهول. ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان ذكره في ثقاته (8/ 188). وقال أبو حاتم: مجهول. تهذيب التهذيب (2/ 296). وفي التقريب مقبول. فخالف فيه زائدة جميع من رواه عن الأعمش، كما خالف أيضاً جميع من رواه عن الحكم كشعبة وزيد بن أبي أنيسة والثوري، كما أنه قصر الحديث على المسح على الخفين، فذكر البراء في الإسناد شاذ بدون شك. وأما تخريج رواية من رواه عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال، بدون ذكر أي واسطة بين ابن أبي ليلى وبلال، فهاك هي: الأول: شعبة، عن الحكم. أخرجها أحمد (6/ 13) ثنا وكيع ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم به. رجاله ثقات. وأخرجه النسائي (106) أخبرنا هناد بن السري، عن وكيع، عن شعبة به. ورواه أبو داود الطيالسي (1116) قال: حدثنا الحكم، سمعت ابن أبي ليلى يحدث عن بلال، وقد سقط منه شيخ أبي داود لأن أبا دواد أصغر سناً أن يكون أدرك الحكم، فلعله رواه عن شعبة، عن الحكم، والله أعلم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثاني: زيد بن أبي أنيسة. أخرجه أحمد (6/ 14) حدثنا عبد الجبار بن محمد الخطابي، ثنا عبيد الله، عن زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم به. وعبد الجبار ذكره ابن حبان في الثقات (8/ 418)، ولم يوثقه أحد غيره، ولم يرو عنه أحد من أصحاب الكتب الستة. وعبيد الله هو ابن عمرو الرقي، ثقة. هو راوية زيد بن أبي أنيسة. فالإسناد ضعيف. الثالث: عبد الله بن محرر أخرجه عبد الرزاق (735) عنه قال: أخبرني الحكم به، وهذا الإسناد ضعيف جداً؛ لأن عبد الله بن محرر متروك كما في التقريب. الرابع: الثوري، عن الحكم، وهي عند أحمد (6/ 13) عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن الحكم به. الخامس والسادس: أبان بن تغلب ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، كما في مسند الحميدي (150)، قال: ثنا سفيان، ثنا أبان بن تغلب ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى به. السابع: الأعمش، من رواية الثوري عنه. أخرجه عبد الرزاق (1/ 736)، ومن طريقه أحمد (6/ 15) عن سفيان، عن الأعمش، عن الحكم به. هذا فيما يتعلق برواية الحكم، والمحفوظ منها ما رواه الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال. وهذه الرواية في صحيح مسلم، وكعب وبلال كلاهما صحابي، وأما رواية من أسقط كعب بن عجرة، فلا يضر إذا علمنا أن الراوي الذي سقط كان ثقة، فكيف إذا كان صحابياً. وأما حديث بلال من رواية أبي إدريس عنه، فأخرجه أحمد (6/ 15) وابن أبي شيبة (1/ 162) كلاهما عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال إلا أنه ذكر الموقين بدلاً من الخفين، ولفظه: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الموقين والخمار. ورواه ابن خزيمة (189) من طريق أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة به. ورجالها كلهم ثقات، وعفان من أثبت الناس في حماد ورجح بعضهم أن هذا الإسناد منقطع يرويه أبو قلابة عن بلال، ولم يسمع منه، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لا يذكرون أبا إدريس بينهما، واختلف على أبي إدريس، فقد جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/ 39) قال: سألت أبي عن حديث رواه هشيم، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك الأشجعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بالمسح بتبوك للمسافر ثلاثاً، وللمقيم يوم وليلة وثبت. ورواه الوليد بن مسلم، عن إسحاق بن سيار، عن يونس بن ميسرة بن حليس، عن أبي إدريس، قال: سألت المغيرة بن شعبة عن ماحصر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك، فبال النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح على خفيه. قلت: ورواه خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن إبي إدريس، عن بلال، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين والخمار. قلت لأبي: أيهم أشبه وأصح؟ فقال أبي: داود بن عمرو، وليس بالمشهور، وكذلك إسحاق بن سيار ليس بالمشهور، لم يرو عنه غير الوليد، ولا نعلم روى أبو إدريس عن المغيرة بن شعبة شيئاً سوى هذا الحديث، وأما حديث خالد فلا أعلم أحداً تابع خالداً في روايته عن أبي قلابة، ويروونه عن أبي قلابة، عن بلال، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً لايقول: أبو إدريس. وأشبههما حديث بلال؛ لأن أهل الشام يروون عن بلال هذا الحديث في المسح من حديث مكحول وغيره، ويحتمل أن يكون أبو إدريس قد سمع من عوف والمغيرة أيضاً؛ فإنه من قدماء تابعي أهل الشام وله إدراك حسن اهـ. وذكر البخاري في التاريخ الكبير هذا الاختلاف على أبي إدريس في ترجمة إسحاق بن سيار، فقال البخاري (1/ 390): إسحاق بن سيار، سمع يونس بن ميسرة الشامي سمع أبا إدريس الخولاني، سألت المغيرة بن شعبة بدمشق، قال: وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك، فمسح على خفيه، قاله لي سليمان بن عبد الرحمن، عن الوليد بن مسلم. وقال هشيم، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن عوف بن مالك، قال: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثاً للمسافر ويوماً للمقيم، قال أبو عبد الله: إن كان هذا محفوظاً، فإنه حسن. وقال حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس، عن بلال مسح النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال غير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن بلال مرسل اهـ. =

وجه الاستدلال: أن بلالاً هنا نقل المسح على الخمار - يعني: العمامة - ولم يذكر أنه مسح معها شيئاً آخر مما يدل على جواز المسح على العمامة، ولاقتصار ¬

_ = وأما رواية نعيم بن خمار، عن بلال. فأخرجها عبد الرزاق (737) ومن طريقه أحمد (6/ 13) عن محمد بن راشد، قال: حدثني مكحول، عن نعيم بن خمار، أن بلالاً أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: امسحوا على الخفين وعلى الخمار ". وهذا إسناد حسن، ونعيم بن خمار صحابي. ورواه أحمد (6/ 12) ثنا هشام بن سعيد، كما رواه أحمد أيضاً (6/ 12،13) ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم كلاهما ثنا محمد بن راشد به. كما رواه أحمد أيضاً (6/ 14) حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا محمد بن راشد به. وهذه الرواية قولية، والمحفوظ من حديث بلال أنه فعلي. وأما رواية أبي عبد الرحمن السلمي، عن بلال، فأخرجها أحمد (6/ 13) حدثنا محمد ابن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن أبي عبد الله، عن أبي عبد الرحمن، قال: كنت قاعداً مع عبد الرحمن بن عوف فمر بلال، فسأله عن المسح على الخفين، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته، فآتيه بالماء، فيتوضأ، فيمسح على العمامة، وعلى الخفين. وأخرجه أبو داود (153) عن عبيد الله بن معاذ، ومن طريق عبيد الله أخرجه الحاكم (1/ 170) عن أبيه، عن شعبة به. وأخرجه أحمد (6/ 13) عن محمد بن أبي بكر وعبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبي بكر بن حفص بن عمر، عن أبي عبد الرحمن، عن أبي عبد الله، أنه سمع عبد الرحمن بن عوف يسأل بلالاً، فذكره .. وانقلب الإسناد على ابن جريج، فظنه عن أبي عبد الرحمن، عن أبي عبد الله، والصواب العكس، كما في رواية شعبة. وأبو عبد الله مولى بني تميم مجهول العين، لم يرو عنه أحد إلا أبو بكر بن حفص، ولم يوثقه أحد، فالإسناد ضعيف.

الدليل الرابع

عليها، وهذا وجه الشاهد. الدليل الرابع: (147) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (¬1). [رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (¬2). الدليل الخامس: (148) حديث سلمان، رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا داود ابن الفرات، قال: حدثنا محمد بن زيد العبدي، عن أبي شريح، عن أبي مسلم مولى يزيد بن صوحان، قال: رأيت سلمان الفارسي، ورأى رجلاً يريد أن ينزع خفيه في الوضوء، فأمره سلمان أن يمسح على خفيه وعمامته وشعره، وقال سلمان: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على خماره وخفيه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المسند (5/ 277). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) مسند أبي داود الطيالسي (656). (¬4) وأخرجه أحمد (5/ 439) قال: ثنا عبد الصمد، ثنا داود يعني بن أبي الفرات به. =

الدليل السادس

الدليل السادس: (149) ما رواه الطبراني في المعجم الصغير، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن الأسود النضري، حدثنا عمر بن شبة النميري، حدثنا حرمي بن عمارة، حدثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الرحمن بن عبد القارىء، عن أبي طلحة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح على الخفين والخمار. قال الطبراني: لم يروه عن شعبة إلا حرمي تفرد به عمر بن شبة (¬1). ¬

= وأخرجه أحمد أيضاً (5/ 440) حدثنا عبد الرحمن المقرئ وعفان، قالا: ثنا داود بن أبي الفرات به. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 29) ومن طريقه ابن ماجه (563) عن يونس بن محمد، عن داود بن أبي الفرات به. وأخرجه ابن حبان (1344) من طريق أبي الوليد الطيالسي، قال: حدثنا داود بن أبي الفرات به. وأخرجه الطبراني (6164،6165،6166) من طريق داود بن أبي الفرات به. وفي إسناده أبو مسلم مولى زيد بن صوحان، جاء في ترجمته: قال أبو حاتم الرازي: لا بأس به، صالح الحديث. الجرح والتعديل (7/ 256). وذكره ابن حبان في الثقات. (7/ 424). وقال الدارقطني: ليس بالقوي. الكاشف (4860). وفي التقريب: مقبول. يعني: إن توبع، وإلا فلين. - وفيه أبو شريح، ذكره ابن حبان في الثقات (7/ 660)، ولم يوثقه أحد سواه، وفي الميزان: لا يعرف. وفي التقريب: مقبول. (¬1) المعجم الصغير (2/ 95).

[إسناده حسن إن كان شيخ الطبراني ليس ضعيفاً] (¬1). ¬

(¬1) دراسة الإسناد: - محمد بن الفضل بن الأسود النضري، شيخ الطبراني لم أقف عليه. - عمر بن شبة النميري، جاء في ترجمته: قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق، صاحب عربية وأدب، وسئل أبي عنه، فقال: نميري صدوق. الجرح والتعديل (6/ 116). وقال ابن حبان: مستقيم الحديث، وكان صاحب أدب وشعر وأخبار ومعرفة بتاريخ الناس. الثقات (8/ 446). وقال الخطيب: كان ثقةً عالماً بالسير وأيام الناس، وله تصانيف كثيرة. تاريخ بغداد (11/ 208). وقال الدارقطني: ثقة. المرجع السابق. وقال مسلمة: ثقة. تهذيب التهذيب (7/ 404). وفي التقريب: صدوق له تصانيف. - حرمي بن عمارة. جاء في هدي الساري. قال أبو حاتم: هو صدوق، وقال: ليس هو في عداد يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغندر، وهو مع عبد الصمد بن عبد الوارث ووهب بن جرير وأمثالهما. الجرح والتعديل (3/ 307). وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين عن حرمي بن عمارة بن أبي حفصة كيف هو؟ قال: صدوق. المرجع السابق. وقال أحمد بن محمد: قال أبو عبد الله - يعني ابن حنبل - في حرمي بن عمارة كلاماً معناه أنه صدوق، ولكن كانت فيه غفلة، فذكرت له عن علي بن المديني، عن حرمي بن عمارة، عن شعبة، عن قتادة وأنس، من كذب ... . فأنكره. ضعفاء العقيلي (1/ 270). وفي التقريب صدوق يهم. - يحيى بن جعدة. قال فيه ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال حجازي ثقة. الجرح والتعديل (9/ 133). =

الدليل السابع

الدليل السابع: (150) ما رواه الخطيب، قال: أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدى، أخبرنا محمد بن مخلد العطار، حدثنا عباس بن أبي طالب، حدثنا حسن بن الربيع، حدثنا أبو شهاب، عن عاصم، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الموقين والخمار (¬1). [عاصم الأحول لم يسمع من بلال] (¬2). ¬

= وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 520). وقال النسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (11/ 169). وبقية الإسناد ثقات مشهورون. فالإسناد حسن إن كان شيخ الطبراني ليس ضعيفاً، وهذا هو الظاهر إن شاء الله تعالى لإمرين: الأول: أنه لم يذكر في لسان الميزان. والثاني: أن الهيثمي رواه في المجمع، وقال (1/ 255،256): " رجاله موثوقون ". (¬1) تاريخ بغداد (12/ 141). (¬2) دراسة الإسناد: - عبد الواحد بن مهدي، شيخ الخطيب، ترجم له في تاريخه، وقال: كان ثقة، أميناً. انظر تاريخ بغداد (11/ 13ـ14)، وسير أعلام النبلاء (17/ 221). - محمد بن مخلد العطار إمام حافظ ثقة قدوة، وكان مشهوراً بالديانة، مذكوراً بالعبادة، انظر تاريخ بغداد (3/ 310ـ311)، وسير أعلام النبلاء (15/ 256 - 257). - عباس بن أبي طالب، اسمه: عباس بن جعفر بن عبد الله بن الزبرقان البغدادي، روى له ابن ماجه، قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي ببغداد، وهو ثقة، سئل أبي عنه، فقال: بغدادي صدوق. الجرح والتعديل (6/ 215). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 513). وقال عبد الله بن إسحاق المدائني: حدثنا عباس بن أبي طالب، وكان ثقة. تهذيب =

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (151) ما رواه الطبراني في الأوسط، من طريق جعفر النفيلي، ثنا ¬

_ = التهذيب (5/ 101). وفي التقريب: صدوق. - أبو شهاب الحناط، اسمه عبد ربه بن نافع الكناني. جاء في هدي الساري (ص:585): وثقه ابن معين وابن نمير وابن سعد والبزار والعجلي، وقال أحمد: ما بحديثه بأس. وقال يعقوب بن شيبة: تكلموا في حفظه. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الساجي: صدوق يهم في حديثه. وقال القطان: لم يكن بالحافظ، وقد روى له الجماعة إلا الترمذي، قال ابن حجر: والظاهر أن من ضعفه إنما هو بالنسبة إلى غيره من أقرانه، كأبي عوانة وأنظاره " اهـ. وفي التقريب: صدوق يهم. وفي الكاشف: صدوق. ورواه البيهقي (1/ 289) من طريق علي بن عبد العزيز، عن الحسن بن الربيع به. ويشكل عليه ما جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/ 73) قال: سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن الربيع، عن أبي شهاب، عن عاصم، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين. قال أبي: هذا خطأ، إنما هو عاصم، عن راشد بن نجيح، قال: رأيت أنساً مسح على الخفين فعله " اهـ. ورواه الطبراني في الأوسط (4664) حدثنا عبد الرحمن بن عمرو أبو زرعة، قال: حدثنا علي بن عياش الحمصي، قال: ثنا علي بن الفضل بن عبد العزيز الحنفي، قال: حدثنا سليمان التيمي، عن أنس بن مالك، قال: وضأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته، فمسح على العمامة والخفين. رجاله كلهم ثقات إلا علي بن الفضيل، ذكره ابن حجر تمييزاً في تهذيب التهذيب، فقال: شيخ لبقية، روى عن سليمان التيمي. ولم أقف على أحد وثقه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 255) لم أجد من ذكره. وقال صاحب كتاب (الهداية في تخريج أحاديث البداية): أخرجه هلال بن العلاء الباهلي، في جزئه، حدثنا أبي، ثنا بقية بن الوليد، عن علي بن المفضل - قلت: الصواب ابن فضيل - سمعت سليمان التيمي يقول: سمعت أنس بن مالك يقول ... وذكر الحديث.

الدليل التاسع

عفير بن معدان، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والعمامة في غزوة تبوك (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل التاسع: من الآثار. (152) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية وابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، قال: رأيت أبا بكر يمسح على الخمار (¬3). ¬

(¬1) مجمع البحرين (459). (¬2) فيه عفير بن معدان روى له الترمذي وابن ماجه، قال أبو حاتم: قال دحيم: عفير بن معدان ليس بشيء، لزم الرواية عن سليم بن عامر وشبهه بجعفر بن الزبير وبشر بن نمير. الجرح والتعديل (7/ 36). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن عفير بن معدان، فقال: هو ضعيف الحديث، يكثر الرواية عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمناكير ما لا أصل له، لا يشتغل بروايته. المرجع السابق. وقال عباس - يعني الدوري -: سمعت يحيى قال: عفير بن معدان ليس بثقة. ضعفاء العقيلي (3/ 430). وقال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى: عفير بن معدان؟ قال: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال ابن عدي: عامة رواياته غير محفوظة. الكامل (5/ 379). وفي التقريب: ضعيف. (¬3) المصنف (1/ 28).

[إسناده حسن إن سلم من عنعنة ابن إسحاق] (¬1). الأثر الثاني: عن عمر. (153) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، قال: قال عمر: إن شئت فامسح على العمامة، وإن شئت فانزعها (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). قال ابن المنذر: لو لم يثبت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، لوجب القول ¬

(¬1) رجاله كلهم ثقات إلا محمد بن إسحاق فإنه صدوق، لكن يخشى من عنعنته، وقد عنعن هنا. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 467) من طريق يعلى، أنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب به. (¬2) المصنف (1/ 29). (¬3) رجاله كلهم ثقات، وعمران بن مسلم هو الجعفي الكوفي، قال ابن مهدي: أحاديث عمران بن مسلم أحاديث صحاح مستقيمة، لا يختلفون فيه، ووثقه أبو حاتم ويحيى ابن معين وأحمد، وذكره الحافظ في التقريب تمييزاً، وقال: ثقة. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 467) من طريق يحيى بن سعيد به. وسقط من إسناد ابن المنذر سفيان، ولعله من الناسخ، واختلف على سفيان فيه: فرواه يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، عن عمر. وخالفه ابن مهدي، فرواه ابن أبي شيبة (1/ 29) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، عن نباتة، قال: سألت عمر بن الخطاب عن المسح على العمامة، قال: إن شئت ورواه ابن المنذر (1/ 467) عن ابن مهدي به. فزاد في الإسناد نباتة. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 467) عن ابن مهدي به.

به لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: إن يطيعوا أبا بكر وعمر فقد رشدوا "، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " (¬1). الأثر الثالث: صح المسح على العمامة من فعل أنس رضي الله عنه. (154) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن عاصم، قال: رأيت أنساً يمسح على الخفين والعمامة (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). الأثر الرابع: عن أبي أمامة. (155) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن أبي غالب، قال رأيت أبا أمامة يمسح على العمامة (¬4). [إسناده حسن] (¬5). ¬

(¬1) الأوسط (1/ 468). (¬2) المصنف (1/ 29). (¬3) ورواه عبد الرزاق (738) عن الثوري، عن عاصم به، ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 468) من طريق يزيد بن هارون، أنا عاصم به. وهذا إسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه. (¬4) المصنف (1/ 29). (¬5) رجاله كلهم ثقات إلا أبا غالب صاحب أبي أمامة، فإنه صدوق يخطئ، ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 468) من طريق حجاج، ثنا حماد به.

جواب المانعين من المسح على هذه الآثار. قال النووي: الأحاديث التي ذكر فيها المسح على العمامة فقط، وقع فيها اختصار، والمراد مسح على الناصية والعمامة، ويدل على صحة هذا التأويل أنه صرح به في حديث المغيرة كما سبق بيانه، ثم قال مستدلاً على صحة هذا التأويل: إن القرآن جاء بوجوب مسح الرأس، وجاءت الأحاديث الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة، وفي بعضها مسح العمامة ولم تذكر الناصية، فكان محتملاً لموافقة الأحاديث الباقية، ومحتملاً لمخالفتها، فكان حملها على الاتفاق، وموافقة القرآن أولى. قال أصحابنا: وإنما حذف بعض الرواة ذكر الناصية؛ لأن مسحها كان معلوماً؛ لأن مسح الرأس مقرر، معلوم لهم، وكان المهم بيان مسح العمامة. قال الخطابي: والأصل أن الله تعالى فرض مسح الرأس، والحديث محتمل للتأويل، فلا يترك اليقين بالمحتمل، وقال هو وسائر الأصحاب: وقياس العمامة على الخف بعيد؛ لأن يشق نزعه، بخلافها، والله أعلم (¬1). ورد عليهم: بأن الظن بأن الصحابة رضوان الله عليهم اختصروا الحديث، وأنهم جاؤا بصيغة توهم أنه يجوز الاقتصار على العمامة، مع أن الاقتصار عليها لايجوز ظن لا يليق بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد عدلهم الله في كتابه، وعدلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسنته، وهم أدرى الناس بمقتضى اللغة ومدلولها، وما حمل الناس على هذا الظن الذي لا يليق بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن ¬

(¬1) المجموع (1/ 439).

أدلة المانعين

الإنسان قد يعتقد حكم المسألة قبل النظر في أدلتها، إما تقليداً لإمام، أو موافقة لقول الأصحاب، وبالتالي إذا جاء ما يخالف هذا الاعتقاد تكلف في التأويل غير المستساغ، وأما من يسلم قياده للدليل الشرعي فإنه يميل معه حيث ما مال، وافق من وافق، وخالف من خالف؛ لأن الحجة هو الدليل والدليل وحده، بفهم الصحابة رضوان الله عليهم، ولهذا تجد أهل الحديث أقل الناس خلافاً لسلامة المنهج، والله الموفق للصواب. أدلة المانعين. الدليل الأول: قال تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (¬1) وحقيقته تقتضي إمساسه الماء، ومباشرته، العمامة ليس رأساً، وماسح العمامة غير ماسح برأسه، فلا تجزيه صلاته. وأجيب: بأن مسح الرأس لا ينافي إثبات المسح على العمامة بدليل آخر، وليس إثبات أحدهما مبطلاً للآخر، كما أن إثبات غسل الرجلين بقوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} ليس مبطلاً لإثبات المسح على الخفين، هذا مع التسليم أن قوله تعالى: {وامسحوا بروؤسكم} لا يشمله المسح على العمامة، وقد يقال: إن من مسح على عمامته، فقد مسح برأسه، فمن قَبَّلَ رأس الرجل من فوق عمامته، قيل له: قبل رأسه، وكذا من مسح على العمامة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين لكلام الله سبحانه وتعالى، وهو المفسر له، ¬

(¬1) المائدة، آية: 6.

الدليل الثاني

وقد مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على العمامة، وأمر بالمسح عليها، وهذا يدل على أن المراد من الآية المسح على الرأس، أو حائله. ثم كيف يظن أن المسح على العمامة معارض لآية المائدة، وقد مسح أبو بكر وعمر وجمع من الصحابة رضي الله عنهم. قال ابن المنذر: كيف يجوز أن يجهل مثل هؤلاء فرض مسح الرأس، وهو مذكور في كتاب الله سبحانه وتعالى، فلولا بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ذلك وإجازته ما تركوا ظاهر الكتاب والسنة. الدليل الثاني: الآثار متواترة في مسح الرأس، فلو كان المسح على العمامة جائزاً لورد النقل به متواتراً في وزن وروده في المسح على الخفين، فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر، لم يجز المسح عليها من وجهين: أحدهما: أن الآية تقتضي مسح الرأس، فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم. والثاني: عموم الحاجة إليه، فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار (¬1). وأجيب: بأن خبر الآحاد يوجب العلم على الصحيح، وتثبت به الأحكام، ولايشترط أن يكون الخبر متواتراً حتى يقبل، وما كان معروفاً عند السلف رد خبر الآحاد إذا كان السند إليه صحيحاً غير معارض بأقوى منه لكونه من ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (1/ 495).

الدليل الثالث

أخبار الآحاد، وإنما جاء الكلام فيه من أهل البدع، وممن ردوا الأخبار الصحيحة لمعارضته لأفهامهم السقيمة، بل إن مصطلح التواتر والآحاد مصطلح حادث، وصدق القائل: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم. وليس هذا موضع الاستدلال على قبول خبر الآحاد، ولا على تناقض أصحاب هذا القول، وقبولهم في مواضع كثيرة ما ردوه في موضع آخر. الدليل الثالث: (156) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، حدثني مرحوم بن عبد العزيز العطار، حدثني عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة واحدة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله منه صلاة إلا به. الحديث قطعة من حديث طويل (¬1). وجه الاستدلال: قال الجصاص: معلوم أنه مسح برأسه؛ لأن مسح العمامة لا يسمى وضوءاً، ثم نفى جواز الصلاة إلا به. وأجيب: أولاً: أن الحديث ضعيف جداً فيه عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (419).

متروك، زيد العمي، وهو ضعيف، ومعاوية لم يدرك ابن عمر (¬1). ¬

(¬1) جاء في ترجمة عبد الرحيم بن زيد العمي: قال البخاري: تركوه. التاريخ الكبير (6/ 104). وقال يحيى بن معين: عبد الرحيم بن زيد العمي ليس بشيء. الجرح والتعديل (5/ 339). قال أبو حاتم الرازي: عبد الرحيم بن زيد العمي ترك حديثه، كان يفسد أباه يحدث عنه بالطامات. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن عبد الرحيم بن زيد، فقال: واهي ضعيف الحديث. المرجع السابق. فأمره واضح، فلا نطيل في ترجمته. وفيه زيد العمي، ضعيف أيضاً، جاء في ترجمته: قال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. الطبقات الكبرى (7/ 240). وقال ابن معين: ليس بشيء. تاريخ ابن معين رواية ابن طهمان (47). وقال أبو داود: " ليس بذاك ". سؤالات الآجري لأبي داود (411). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء للنسائي (226). وذكره العقيلي في الضعفاء (2/ 74). وقال أحمد: صالح. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به، وكان شعبة لايحمد حفظه. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، واهي الحديث، ضعيف. الجرح والتعديل (3/ 560ـ561). وقال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة لا أصل لها، حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها ... وهو عندي لا يجوز الاحتجاج بخبره، ولا كتابة حديثه إلا للاعتبار ". وقال ابن عدي: " هو في جملة الضعفاء، ويكتب حديثه على ضعفه ". الكامل (3/ 1055). وقال الدارقطني: صالح. الضعفاء للدارقطني (342) في ترجمة ابنه عبد الرحيم بن زيد العمي. وفي التقريب: ضعيف. =

ثانياً: مسح الخفين لا يسمى وضوءاً، ولم يمنع الحديث من المسح على الخفين، ولا من المسح على الجبيرة، فكذلك لا يمنع على فرض ثبوته من المسح على العمامة. ¬

_ = [تخريج الحديث] الحديث رواه أبو يعلى في مسنده (5598) حدثنا أحمد بن بشير المذكر، حدثنا عبد الرحيم العمي به. وقال أبو حاتم كما في علل الحديث لابنه (1/ 45): " عبد الرحيم بن زيد متروك الحديث، وزيد العمي ضعيف الحديث، ولا يصح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وفيه أيضاً: " وسئل أبو زرعة عن هذا الحديث، فقال: هو عندي واه، ومعاوية بن قرة لم يلحق ابن عمر ". وقال البوصيري كما في مصباح الزجاجة (1/ 61): " وهذا إسناد فيه زيد العمي، وهو ضعيف، وعبد الرحيم متروك، بل كذاب، ومعاوية بن قرة لم يلحق ابن عمر، قاله ابن أبي حاتم في العلل، وصرح به الحاكم في المستدرك ". وأخرجه الطيالسي (1924) قال: حدثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وقال: هذا وظيفة الوضوء الذي لا تحل الصلاة الا به، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من أراد أن يضاعف له الأجر مرتين، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلى. ومن طريق سلام الطويل أخرجه الدارقطني (1/ 80) في سننه. وأخرجه الدارقطني (1/ 79) من طريق محمد بن الفضل، عن زيد العمي به. وأخرجه أحمد (2/ 98) ومن طريقه الدارقطني (1/ 81) ثنا أسود بن عامر، أنا أبو إسرائيل، عن زيد العمى، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا من تخليط زيد العمي. وأخرجه الدارقطني (1/ 80) والبيهقي في السنن (1/ 80) من طريق المسيب بن واضح، حدثنا حفص بن ميسرة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. قال الدارقطني: تفرد به المسيب بن واضح، عن حفص بن ميسرة، والمسيب ضعيف.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: من النظر، قالوا: إن الرأس عضو طهارته المسح، فلم يجز المسح على حائل دونه كالوجه واليد في التيمم فرضه المسح، فلم يجز على حائل دونه، وهذا مجمع عليه. وأجيب: هذا قياس في مقابلة النص فلا يعتبر، والأمور في مثل هذا لا يجري فيها القياس، فالرجلان فرضهما الغسل، ويجوز المسح عليهما، والذراع فرضه الغسل، وحين لم يتمكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إخراجه لغسله لضيق كمه نزع يده من كمه وغسله، ولم يمسح عليه. وقد يقابل هذا القياس بقياس مثله، فيقال: الرأس عضو يسقط فرضه بالتيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. الدليل الخامس: (157) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن عبد العزيز بن مسلم، عن أبي معقل، عن أنس بن مالك، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة (¬1). ¬

(¬1) سنن أبي داود (147).

وأجيب عن هذا الحديث: أولاً: إسناده ضعيف (¬1). ثانياً: وعلى فرض صحته، فإنه لا يعارض المسح على العمامة. قال ابن المنذر: لأن المسح على العمامة ليس بفرض لا يجزئ غيره، ولكن المتطهر إن شاء مسح برأسه، وإن شاء على عمامته، كالماسح على الخفين، المتطهر بالخيار، إن شاء غسل رجليه، وإن شاء مسح على خفيه (¬2) اهـ. ¬

(¬1) في إسناده أبو معقل، مجهول العين، لم يرو عنه إلا عبد العزيز بن مسلم، ولم يوثقه أحد، وجهله ابن القطان، والذهبي، وفي التقريب: مجهول. وفي إسناده أيضاً عبد العزيز بن مسلم، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (5/ 395). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 123)، ولا أعلم أحداً غيره وثقة. وفي التقريب: مقبول. أي حيث توبع، وإلا فلين. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه ابن ماجه (564) حدثنا أبو طاهر: أحمد بن عمرو بن السرح، ثنا عبد الله بن وهب، ثنا معاوية بن صالح به. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 169) من طريق عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا أحمد ابن صالح به. وقال: هذا الحديث وإن لم يكن إسناده من شرط الكتاب، فإن فيه لفظة غريبة، وهي أنه مسح على بعض الرأس، ولم يمسح على عمامته. وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 60 - 61) من طريقين عن ابن وهب به. وقال ابن السكن كما في تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (1/ 374): لا يثبت إسناده. وقال ابن القطان: لا يصح. وضعفه ابن عبد الهادي. وقال ابن حجر في التلخيص (1/ 95): " وفي إسناده نظر ". (¬2) الأوسط (1/ 469).

الدليل السادس

ثالثاً: قال ابن القيم: " مقصود أنس به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله، ولم ينف التكميل على العمامة، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه " (¬1). اهـ وهذه الأجوبة جيدة لو كان الحديث صحيحاً، وما دام أنه لم يصح فلا نتكلف الإجابة عنه. الدليل السادس: (158) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ، وعليه العمامة، يؤخرها عن رأسه، ولا يحلها، ثم مسح برأسه، فأشار الماء بكف واحد على اليافوخ قط، ثم يعيد العمامة (¬2). [ضعيف] (¬3). وأجيب: هذا الحديث مرسل، قال يحيى بن سعيد القطان: مرسلات مجاهد ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 194). (¬2) المصنف (739). (¬3) الحديث رواه ابن أبي شيبة (1/ 30) حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فرفع العمامة، فمسح مقدم رأسه. ورواه البيهقي (1/ 61) من طريق مسلم - يعني: ابن خالد ـ عن ابن جريج به. ومسلم ابن خالد وإن كان متكلماً فيه فقد توبع. وعلى كل فالحديث مرسل، والمرسل لاحجة فيه، خاصة إذا كان المرسل مثل عطاء.

الدليل السابع

أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب. وقال أحمد: ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء؛ فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. الدليل السابع: من الآثار. (159) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لا يمسح على العمامة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الأثر الثاني، عن جابر رضي الله عنه. (160) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن عباد بن إسحاق (عبد الرحمن بن إسحاق) عن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: سألت جابراً عن المسح على العمامة، فقال: أمس الماء الشعر (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬

(¬1) المصنف (1/ 29). (¬2) رجاله كلهم ثقات، ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 470) من طريق يحيى، عن سفيان به. (¬3) المصنف (1/ 29). (¬4) رجاله كلهم ثقات إلا عبد الرحمن بن إسحاق، فإنه صدوق، وتكلم فيه بسبب بدعته حيث رمي بالقدر، جاء في ترجمته: =

وسوف يأتي إن شاء الله تعالى عن عائشة وصفية بنت عبيد في المسح على الخمار نحو هذا. قال ابن المنذر: وليس في إنكار من أنكر المسح على العمامة حجة؛ لأن أحداً لا يحيط بجميع السنن، ولعل الذي أنكر ذلك لو علم بالسنة لرجع ¬

_ = قال يحيى بن سعيد القطان: سألت بالمدينة عن عبد الرحمن بن إسحاق فلم أرهم يحمدونه. الجرح والتعديل (5/ 212). وقال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن إسحاق المديني، فقال: روى عن أبي الزناد أحاديث منكرة، وكان يحيى لا يعجبه. قلت: كيف هو؟ قال: صالح الحديث. المرجع السابق. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن عبد الرحمن بن إسحاق المديني، فقال: ليس به بأس، فقلت له: إن يحيى بن سعيد يقول: سألت عنه بالمدينة فلم يحمدوه، فسكت أحمد. المرجع السابق. قلت: من أجل المذهب. وقال العباس بن محمد الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: عبد الرحمن بن إسحاق المديني ثقة صالح الحديث. المرجع السابق. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: عبد الرحمن بن إسحاق المديني كان ابن علية يرضاه. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد الرحمن بن إسحاق، فقال: يقال له عباد بن إسحاق مديني، قدم البصرة، يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو قريب من محمد بن إسحاق، صاحب المغازي، وهو حسن الحديث، وليس بثبت، ولا قوي، وهو أصلح من عبد الرحمن ابن إسحاق أبي شيبة. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق رمي بالقدر. - وأبو عبيدة بن محمد بن عمار، قال فيه الحافظ في التقريب: مقبول اهـ. قلت: هو أكبر من هذا، فقد وثقه ابن معين كما في تهذيب الكمال، وقال عبد الله ابن أحمد في مسند أبيه (2/ 219): أبو عبيدة هذا: اسمه محمد، وهو ثقة اهـ. فالإسناد حسن إلى جابر إن شاء الله تعالى.

إليها، بل غير جائز أن يظن مسلم ليس من أهل العلم غير ذلك، فكيف من كان من أهل العلم، ولا يجوز أن يظن بالقوم غير ذلك، وكما لم يضر إنكار من أنكر المسح على الخفين، ولم يوهن تخلف من تخلف عن القول بذلك إذا أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين، كذلك لا يوهن تخلف من تخلف عن القول بإباحة المسح على العمامة. والراجح من هذا الخلاف بعد النظر في أدلة كل قول، نجد القول بالمسح على العمامة أقوى دليلاً من حيث الأثر، والله أعلم.

الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الخمار

الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الخمار

الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الخمار اختلف العلماء في مسح المرأة على الخمار، فقيل: تمسح كما يمسح الرجل على العمامة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، ورجحه ابن حزم (¬2). وقيل: لا تمسح، وهو مذهب الجمهور (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: إن خافت من البرد ونحوه مسحت، مال إليه ابن تيمية (¬5). ¬

(¬1) انظر مسائل ابن هانئ (1/ 19)، ورجح أصحاب أحمد أن تكون خمر النساء مدارة تحت حلوقهن، انظر الفروع (1/ 164)، كشاف القناع (1/ 112،113)، شرح غاية المنتهى (1/ 124)، الروض المربع (1/ 283). (¬2) المحلى (1/ 303). (¬3) في المذهب الحنفية انظر أحكام القرآن- الجصاص (1/ 495)، المبسوط (1/ 101)، بدائع الصنائع (1/ 5). وفي مذهب المالكية، قال في المدونة (1/ 124): " قال مالك في المرأة تمسح على خمارها أنها تعيد الصلاة والوضوء "، وفي المنتقى للباجي (1/ 75): " وسئل مالك عن المسح على العمامة والخمار، فقال: لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة عمامة ولا خمار، وليمسحا على رؤسهما " اهـ. وانظر مواهب الجليل (1/ 207). وفي مذهب الشافعية انظر حاشية الجمل (1/ 128)، أسنى المطالب (1/ 41)، المجموع (1/ 439). (¬4) الفروع (1/ 164). (¬5) قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (21/ 218): " وإن خافت المرأة من البرد ونحوه مسحت على خمارها، فإن أم سلمة كانت تمسح على خمارها، وينبغي أن تمسح معه =

دليل من قال لا تمسح

دليل من قال لا تمسح. الدليل الأول: كل دليل استدلوا به في المنع من المسح على العمامة استدلوا به في المنع من مسح الخمار. ولكل جواب قيل عن استدلالهم هناك، يقال لهم هنا. الدليل الثاني: جاء الإذن بالمسح على العمامة، أما المسح على الخمار فلم يأت دليل في المسح عليه، والأصل المنع. وأجيب: بأن العمامة تسمى خماراً، كما جاء في الأحاديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على العمامة والخمار، راجعها في مسألة المسح على العمامة، فإذا كانت العمامة تسمى خماراً فخمار المرأة داخل في العموم اللفظي لكلمة عمامة، فلم يتعلق الحكم بالمسمى؛ لأن العمامة تسمى خماراً، ولا مانع من تسمية خمار المرأة عمامة إلا أنها خاصة بالمرأة؛ لأن كلاً منهما تخمر الرأس: أي تغطيه، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: لا يمسح إلا على العمامة، ولو قال هذا لربما سلم ما تقولون، لكن علمنا بمسحه على العمامة أنه يجوز المسح ¬

_ = بعض شعرها، وأما إذا لم يكن بها حاجة إلى ذلك ففيه نزاع بين أهل العلم ". ولا أدري لماذا رأى ابن تيمية رحمه الله أن تمسح مع الخمار بعض شعرها، مع العلم أنه يرى وجوب استيعاب الرأس بالمسح إذا لم يكن هناك خمار، فإن كان مسح الخمار كافياً لم يكن ثمة حاجة إلى مسح بعض الشعر، وإن لم يكن كافياً كمذهب الشافعية، يستحبون مسح الناصية مع العمامة فينبغي أن يرى أن مسح بعض الرأس كافياً إذا لم يكن هناك عمامة.

الدليل الثالث

على كل ما غطى الرأس، حتى الخضاب الذي على الرأس، والحناء ونحوهما إذا خمر رأس المرأة جاز المسح عليه، فمباشرة الرأس بالماء ليست فرضاً، والله أعلم بالصواب. الدليل الثالث، من الآثار. (161) روى البيهقي في السنن الكبرى، من طريق ابن وهب، أخبرك ابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، عن أم علقمة مولاة عائشة رضي الله عنها، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا توضأت تدخل يدها من تحت الرداء، تمسح برأسها كله " (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 61). (¬2) في إسناده أم علقمة: واسمها مرجانة. روى لها البخاري تعليقاً، في كتاب الحيض، باب (19): إقبال المحيض وإدباره، روى عنها ابنها علقمة كما في الموطأ (1/ 59)، وبكير بن عبد الله الأشج، كما في سنن البيهقي (1/ 61،281،423). وذكرها ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 466). وذكرها الذهبي في الميزان (4/ 610) من المجهولات. وفي التقريب: مقبولة، يعني حيث توبعت. والذي أراه أن حديثها في مرتبة الحسن لذاته. أولاً: لأنها من التابعين، والكلام في التابعين قليل، واشتراط أن يوجد فيها نص على توثيقها متعسر؛ لقلة الكلام في الرواة، ولكون الكذب في عهدهم لم يتفش. ثانياً: البخاري قد علق في كتاب الحيض، في باب (19) إقبال الحيض وإدباره أثراً عن =

دليل من قال تمسح

الأثر الثاني: (162) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن مالك بن أنس، عن نافع، قال: رأيت صفية بنت أبي عبيد توضأت، فأدخلت يدها تحت خمارها، فمسحت بناصيتها (¬1). [إسناده صحيح]. وأجيب: بأن المسح على الخمار ليس بواجب حتى يقال بأن في هذا دليلاً على أنه لا يجوز المسح على الخمار، بل المرأة في الخيار إن شاءت مسحت على رأسها، وإن شاءت مسحت على خمارها كالمسح على الخفين، ولو ورد عنهن المنع من المسح على الخمار لقيل: إن قولهما معارض بفعل أم سلمة رضي الله عنها، وقد جاء عنها المسح على الخمار. دليل من قال تمسح. الدليل الأول: القياس الجلي على العمامة، فلا فرق بين العمامة والخمار. ¬

= عائشة بصيغة الجزم، وهذا يقتضي صحته إلى من علقه عنها، وهو لا يعرف إلا من رواية أم علقمة، عن عائشة، فلو كان فيها ما يقدح في روايتها لعلقه البخاري عنها، عن عائشة. ثالثاً: أن مالكاً أخرج لها في الموطأ (1/ 59)، ومعلوم شدة الإمام مالك، وتنقيته للرجال، وهي مدنية، ومالك من أعلم الناس في أهل المدينة. والله أعلم. وأما ابن لهيعة، وإن كان فيه ضعف فقد تابعه ثقة، وهو عمرو بن الحارث. فالإسناد حسن. (¬1) المصنف (1/ 30).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، والعكس إلا ما دل الدليل باختصاصه بأحدهما، ولذلك فالنساء داخلات في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (¬1) مع أن المأمور في الآية الرجال. الدليل الثالث: (163) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبيد الله بن نمير، عن سفيان، عن سماك، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة أنها كانت تمسح على الخمار (¬2). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬3). ¬

(¬1) البقرة، آية: 43. (¬2) المصنف (1/ 29). (¬3) سماك بن حرب، قال يعقوب: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وليس من المثبتين، ومن سمع منه قديماً مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم. وفي التقريب: صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخرة فكان ربما يلقن اهـ. قلت: في هذا الأثر الرواي عنه سفيان، وهو ممن سمع منه قديماً، ولم يرو هذا الأثر عن عكرمة. - وأم الحسن، واسمها خيرة، روى لها مسلم حديث: " تقتل عماراً الفئة الباغية "، وحديث: " كنا ننبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سقاء يوكى أعلاه. وذكرها ابن حبان في ثقاته (4/ 216). وقال ابن حزم: ثقة مشهورة. المحلى (3/ 127). وفي التقريب: مقبولة اهـ. قلت: لعل إخراج مسلم حديثها في صحيحه، يجعل حديثها على أقل الأحوال حسناً، =

الراجح من هذا الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين، وبعد مناقشة الأدلة السابقة يتبين لي أن القول بجواز المسح على الخمار أرجح، وهو إما داخل في العموم اللفظي من جواز المسح على العمامة، وإما مقيس عليها بجامع أن كلاً منهما غطاء على الرأس، يشق نزعه. والله أعلم. ¬

_ = فإذا أضفت إلى ذلك توثيق ابن حبان وابن حزم تأكد الاحتجاج بها، والله أعلم. وأما عنعنة الحسن البصري، فالذي رأيته في الحسن أنه يرسل، ويطلق التدليس على الإرسال، فإذا ثبت سماعه من الرواي لم يلتفت للعنعنة، والله أعلم، فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى. والأثر رواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 468) من طريق ابن نمير به.

الفصل الثالث خلاف العلماء في المسح على القلانس

الفصل الثالث خلاف العلماء في المسح على القلانس

الفصل الثالث خلاف العلماء في المسح على القلانس (¬1). اختلف العلماء في المسح على القلانس، فقيل: لا يمسح عليها، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3) والشافعية (¬4)،والحنابلة (¬5). وقيل: يمسح عليها، هو رواية عن أحمد (¬6)، ومذهب ابن حزم (¬7). ¬

(¬1) قال في الجوهرة النيرة (1/ 28): القلنسوة شيء تجعله الأعاجم على رؤوسهم أكبر من الكوفيه. وقال الحافظ ابن حجر: القلنسوة غشاء مبطن، تستر به الرأس، قاله القزاز في شرح المفصل. وقال أبو هلال العسكري: هي التي تغطى بها العمائم، وتستر من الشمس والمطر، كأنها عنده رأس البرنس. اهـ نقلاً من الإنصاف (1/ 171). وقال ابن عابدين في حاشيته (1/ 272): ما يلبس على الرأس، ويتعمم فوقه. (¬2) المبسوط (1/ 101)، تبيين الحقائق (1/ 52)، شرح فتح القدير (1/ 157)، البحر الرائق (1/ 193)، الفتاوى الهندية (1/ 6)، حاشية ابن عابدين (1/ 272). (¬3) قال الباجي في المنتقى (1/ 76): " ولا يجزئ المسح على حائل دون الرأس ". (¬4) إذا كانوا يمنعون المسح على العمامة، فمنع المسح على القلانس من باب أولى، انظر العزو في منعهم من المسح على العمامة في الفصل الأول من هذا الباب. (¬5) الإنصاف (1/ 170)، شرح منتهى الإرادات (1/ 62)، مطالب أولي النهى (1/ 128)، الفروع (1/ 163). (¬6) الإنصاف (1/ 170)، الفتاوى الكبرى (1/ 320)، الفروع (1/ 163). (¬7) المحلى (1/ 303).

دليل من قال لا يمسح

وقيل: يمسح إن كانت مشدودة تحت حلقه، وهو رواية عن أحمد (¬1). دليل من قال لا يمسح. قالوا: الأصل وجوب مسح الرأس، لقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (¬2) وعدل عن الأصل في العمامة لورود النص بها. التعليل الثاني: قالوا: إنه لا يشق نزعها، فليست محنكة، ولا ذؤابة لها. قال ابن المنذر: " ولا نعلم أحداً قال بالمسح على القلنسوة، وقد روينا عن أنس أنه مسح عليها " (¬3). قلت: قد علمت أن الإمام أحمد قد قال بالمسح على القلنسوة في رواية عنه. دليل القائلين بالمسح. الدليل الأول: (164) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن سعيد ابن عبد الله بن ضرار، قال: رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء، ثم خرج وعليه قلنسوة بيضاء مزرورة فمسح على القلنسوة وعلى جوربين له مرعزاً أسودين ثم صلى (¬4). ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 170)، الفتاوى الكبرى (1/ 320)، الفروع (1/ 163). (¬2) المائدة، آية: 6. (¬3) الأوسط (1/ 472). (¬4) المصنف (745).

الدليل الثاني

[إسناده فيه لين] (¬1). الدليل الثاني: (165) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي عروبة، عن أشعث، عن أبيه، أن أبا موسى خرج من الخلاء، فمسح على قلنسوته (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). وفعل الصحابي إذا لم يعارض نصاً مرفوعاً، ولم يخالفه صحابي مثله، فهو حجة؛ لأن فهمهم أولى من فهمنا، وعلمهم أكمل من علمنا، وإصابتهم للحق أقرب من غيرهم، ونحن مأمورون باتباع سبيلهم، فإذا نقل الخلاف بينهم كان على الإنسان أن يتحرى أقربها للحق. الدليل الثالث: قالوا: بأن القلنسوة ملبوس معتاد يستر الرأس، فأشبه العمامة، ولم نشترط أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة كما لا نشترطه في العمامة - وسوف تأتي مناقشة هذا الشرط إن شاء الله تعالى - قال أبو بكر الخلال: إن مسح إنسان على القلنسوة لم أر به بأساً، لأن أحمد قال في رواية الميموني: أنا ¬

(¬1) هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات إلا سعيد بن عبد الله، قال أبو حاتم الرزاي: ليس بالقوي. الجرح والتعديل (4/ 36). وذكره ابن حبان في الثقات (4/ 280). ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 472) من طريق إسحاق، عن جرير، عن الأعمش به. (¬2) المصنف (1/ 29). (¬3) يحيى بن سعيد القطان سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل اختلاطه، وأشعث: هو ابن أبي الشعثاء، واسم أبيه: سليم بن أسود، فرجاله كلهم ثقات.

دليل من قال يشترط أن تكون مشدودة تحت الحلق

أتوقاه، وإن ذهب إليه ذاهب لم يعنفه. قال الخلال: وكيف يعنفه؟ وقد روي عن رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد صحاح، ورجال ثقات، فروى الأثرم بإسناده عن عمر أنه قال: إن شاء حسر عن رأسه، وإن شاء مسح قلنسوته وعمامته. وروى بإسناده عن أبي موسى أنه خرج من الخلاء فمسح على القلنسوة (¬1) اهـ. قلت: وثبت عن أنس بن مالك أيضاً، وقد خرجته عنه. الدليل الرابع: قالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: لا تمسحوا إلا على العمامة والخمار، حتى يمكن أن يقال: لا يجوز المسح على حائل إلا إذا كان عمامة أو خماراً، فحين مسح على العمامة علمنا أن مباشرة الرأس بالماء ليست فرضاً. دليل من قال يشترط أن تكون مشدودة تحت الحلق. قالوا: إن القلنسوة إذا لم تكن مشدودة لا يشق نزعها، فأشبهت الكوفية (الطاقية) أما إذا كانت مشدودة فحينئذ تشبه العمامة بمشقة النزع، فجاز المسح عليها، والشارع لا يفرق بين متماثلين، كما لا يجمع بين متفرقين، وأثر أنس الوارد أنه مسح على قلنسوة مزرورة، والمزرور: هو المشدود بالزرار، وإذا كان كذلك فإنها تشبه العمامة بمشقة النزع. هذه غالب أدلة الأقوال الثلاثة، والقول بالجواز قول قوي جداً، والقول باشتراط أن تكون مشدودة فيه احتياط، والله أعلم. ¬

(¬1) المغني (1/ 384).

الفصل الرابع في شروط المسح على العمامة

الفصل الرابع في شروط المسح على العمامة

الشرط الأول في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة

الشرط الأول في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة

دليل الحنابلة

الشرط الأول في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة اختلف العلماء في اشتراط التحنيك أو كون العمامة ذات ذؤابة، فقيل: لا يمسح عليها إلا أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يشترط، وهو اختيار ابن تيمية (¬2)، وهو الراجح. دليل الحنابلة. الدليل الأول: المسح المنقول لنا إنما جاء الإذن على العمائم المعهودة، التي يلبسها المسلمون، وصفتها بأن يكون تحت الحنك منها شيء. قال ابن قدامة: " ومن شروط المسح عليها أن تكون على صفة عمائم المسلمين، بأن يكون تحت الحنك منها شيء؛ لأن هذه عمائم العرب، وهي أكثر ستراً من غيرها، ويشق نزعها، ولأنها إذا لم تكن محنكة أشبهت الكوفية (الطاقية) والكوفية لا يمسح عليها، فكذلك غير المحنكة (¬3). الدليل الثاني: (166) قال ابن قدامة في المغني: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالتلحي، ¬

(¬1) كشاف القناع (1/ 119)، الإنصاف (1/ 186)، الفروع (1/ 162،163). (¬2) الإنصاف (1/ 186،187). (¬3) المغني (1/ 381).

الدليل الثالث

ونهى عن الاقتعاط. رواه أبو عبيد، وقال: الاقتعاط: أن لايكون تحت الحنك منها شيء، وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً ليس تحت حنكه من عمامته شيء، فحنكه بكور منها، وقال: هذه الفاسقية؟. فامتنع المسح عليها للنهي عنها (¬1) اهـ. والحديث المرفوع، والأثر عن عمر لم أقف على أسانيدهما بشيء من الكتب، فالله أعلم بصحتهما. قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: " وأما هذه الشرائط التي ذكرها ابن قدامة فلم أر ما يدل على ثبوتها من الأحاديث الصحيحة، وأما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالتلحي، ونهى عن الاقتعاط، فلم يذكر ابن قدامة سنده، ولم يذكر تحسينه ولا تصحيحه عن أحد من أئمة الحديث، ولم أقف على سنده، ولا على من حسنه أو صححه، فالله أعلم كيف هو؟ (¬2). الدليل الثالث: قالوا: إن العمائم إذا لم تكن محنكة، ولم يكن لها ذؤابة أشبهت عمائم أهل الذمة، فيكون لبسها حراماً، وما حرم لبسه لم يجز المسح عليه. وأجيب: بأنه لم يرد نهي عن لبس العمامة غير محنكة أو صماء، وإذا لم يرد نهي، وكانت العمامة بلا ذؤابة ليست من لباسهم الذي يختصون به، ويتميزون به عن غيرهم، فلا تحريم في لبسها، وقد انتشر بين التابعين في ¬

(¬1) المغني (1/ 381). (¬2) تحفة الأحوذي (1/ 294).

دليل من قال لا يشترط

المدينة من أولاد المهاجرين والأنصار لبسها بلا تحنيك كما سيأتي. ثم قولهم: كل ما حرم لبسه لم يجز المسح عليه قد ناقشت هذا في الخف المغصوب والمحرم، ورجحت جواز المسح عليه وإن كان لبسه حراماً. دليل من قال لا يشترط. الدليل الأول: قالوا: إن الإذن بالمسح ورد مطلقاً، وما ورد مطلقاً فلا يجوز تقييده إلا بدليل مثله من كتاب أو سنة أو إجماع. الدليل الثاني: أن تحنيكها زمن الصحابة كان للحاجة إلى الجهاد، قال ابن تيمية: "والسلف كانوا يحنكون عمائمهم؛ لأنهم كانوا يركبون الخيل، ويجاهدون في سبيل الله، فإن لم يربطوا العمائم بالتحنيك وإلا سقطت، ولم يمكن معها طرد الخيل، ولهذا ذكر أحمد عن أهل الشام أنهم كانوا يحافظون على هذه السنة؛ لأنهم كانوا في زمنه هم المجاهدون، وذكر إسحاق بن راهوية بإسناده أن أولاد المهاجرين والأنصار كانوا يلبسون العمائم بلا تحنيك، وهذا لأنهم كانوا في الحجاز في زمن التابعين لا يجاهدون، ورخص إسحاق وغيره في لبسها بلا تحنيك .. الخ كلامه رحمه الله (¬1). وقولهم: إن غير المحنكة لا يشق نزعها، فالجواب أن هذه العلة ليست علة منصوصاً عليها يمكن أن تخص العام، أو تقيد المطلق، والعلة المستنبطة علة مظنونة، قد تكون هي العلة، وقد تكون غيرها، فلا نستطيع ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 187).

الراجح من القولين

أن نجزم بأنها هي العلة، وقد لا تتعين في مشقة النزع، بل قد تكون الحكمة أن العمامة لو حركها انفلت أكوارها؛ ولأن لبسها في أيام البرد قد يعرق الرأس بسببها فإذا نزعها قد يصاب بضرر بسبب الهواء البارد، المهم أن العلة المستنبطة ينبغي ألا يقيد بها الأحاديث المطلقة، والله أعلم. الراجح من القولين: بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القول بعدم الاشتراط أقوى دليلاً، وأن المسح على العمامة يجوز ولو لم تكن محنكة أو ذات ذؤابة. والله الموفق.

الشرط الثاني الخلاف في اشتراط لبس العمامة على طهارة

الشرط الثاني الخلاف في اشتراط لبس العمامة على طهارة

دليل الحنابلة على اشتراط الطهارة

الشرط الثاني الخلاف في اشتراط لبسها على طهارة اختلف العلماء القائلين بالمسح على العمامة، هل يشترط الطهارة للبسها أم لا؟ على قولين: فقيل: تشترط الطهارة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا تشترط، وهو رواية عن أحمد (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). دليل الحنابلة على اشتراط الطهارة. الدليل الأول: القياس على الخف، فإذا كان يشترط للمسح على الخف الطهارة فكذلك في المسح على العمامة، بجامع أن كلاً منهما ممسوح على عضو من أعضاء الوضوء، كان الواجب مباشرة ذلك العضو لولا هذا الحائل. وأجيب: بأن القياس على الخف فيه نظر؛ لأن طهارة القدم هي الغسل، ¬

(¬1) قال أحمد في مسائل ابن هانئ (1/ 18):"سألت أبا عبد الله عن المسح على العمامة؟ قال: تمسح عليها إذا لبستها، وأنت طاهر، فإذا خلعتها أعد الوضوء ". وانظر المغني (1/ 176) الإنصاف (1/ 172)، الفروع (1/ 166). (¬2) الإنصاف (1/ 172)، الفروع (1/ 166). (¬3) المحلى (1/ 309). (¬4) الإنصاف (1/ 173).

دليل من قال لا تشترط الطهارة

وطهارة الرأس هو المسح فافترقا، فطهارة الرأس أخف من طهارة الخف، ثم إن العمامة تمسح كلها، والخف يمسح ظاهره على الصحيح، وفرق آخر عندكم: هو أن ظهور شيء من القدم يبطل المسح، وظهور شيء من الرأس كالناصية، وجوانب الرأس لا يبطل المسح على العمامة، ثم إن القياس في مثل هذه الأمور من أضعف الأقيسة. دليل من قال لا تشترط الطهارة. الدليل الأول: عدم الدليل على الاشتراط، وهذا كاف في نفيه؛ لأن من اشترط شيئاً طلب منه الدليل، ولا دليل على الاشتراط. الدليل الثاني: أن الأحاديث ليس فيها إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على العمامة، ولم تشترط للمسح عليها لبسها على طهارة كالمسح على الخف، فنقف عند حدود النص، ولا نقيد أو نخصص إلا بدليل. قال ابن حزم في الرد على من قاس العمامة على الخف: " القياس باطل، وليس هنا علة جامعة بين حكم المسح على العمامة والخمار، والمسح على الخفين، وإنما نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اللباس على الطهارة على الخفين، ولم ينص ذلك في العمامة والخمار، قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} (¬1) وقال تعالى: {وما كان ربك نسياً} (¬2)، فلو وجب هذا في ¬

(¬1) النحل، آية: 44. (¬2) مريم، آية: 64.

الدليل الثالث

العمامة والخمار لبينه عليه السلام كما بين ذلك في الخفين، ومدعي المساوة في ذلك بين العمامة والخمار مدعي بلا دليل، ويكلف البرهان على صحة دعواه في ذلك (¬1). الدليل الثالث: العادة أن من توضأ مسح رأسه، ورفع العمامة، ثم أعادها، ولا يبقى مكشوف الرأس إلى آخر الوضوء " (¬2). ¬

(¬1) المحلى (1/ 309). (¬2) الإنصاف (1/ 172).

الشرط الثالث الخلاف في توقيت المسح على العمامة

الشرط الثالث الخلاف في توقيت المسح على العمامة

دليل الحنابلة على اشتراط التوقيت

الشرط الثالث الخلاف في توقيت المسح على العمامة اختلف العلماء هل المسح على العمامة مؤقت أم لا؟ فقيل: يمسح يوماً وليلة للمقيم، والمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: بل يمسح عليها بلا توقيت، هو مذهب الظاهرية (¬2). وهو الراجح. دليل الحنابلة على اشتراط التوقيت. الدليل الأول: (167) ما رواه الطبراني في الكبير، قال: حدثنا أبو مسلم الكشي وعبد الله بن أحمد بن حنبل قالا: ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا مروان أبو سلمة، ثنا شهر بن حوشب، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين والعمامة ثلاثاً في السفر ويوماً وليلة في الحضر (¬3). ¬

(¬1) جاء في مسائل أحمد رواية أبي داود (49): " سمعت أحمد سئل: كم يمسح على العمامة؟ قال: مثل الخف سواء "، وانظر مسائل أحمد رواية ابن هانئ (1/ 21) رقم 104. (¬2) المحلى (1/ 309)، ولم أذكر المذاهب الأخرى؛ لأنها لا ترى المسح على العمامة. (¬3) المعجم الكبير (8/ 122).

الدليل الثاني

[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثاني: قال ابن حزم: " قد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوقيت في ذلك ثابتاً عنه " (¬2). يعني: التوقيت في المسح على العمامة. ولم أقف على إسناده عن عمر في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وسنن البيهقي والدارقطني، والأوسط لابن المنذر وشرح معاني الآثار وغيرها من الكتب التي تعنى بالآثار، وفعل عمر يصلح للاستدلال بثلاثة شروط: الأول: ألا يخالف المرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: ألا يعارضه قول صحابي مثله. الثالث: أن يصح عنه هذا القول. وإثبات هذه الأمور فيما ذكره ابن حزم لم أقدر عليه، وإذا كان عمر ¬

(¬1) في إسناده مروان أبو سلمة، جاء في ترجمته: قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (7/ 373)، الضعفاء الصغير (354). وقال أبو حاتم الرازي: مجهول، منكر الحديث. الجرح والتعديل (8/ 274). وقال العقيلي: الرواية في مسح العمامة فيها لين. الضعفاء الكبير (4/ 203). وقال ابن عدي: ومروان هذا قريباً من مروان بن نهيك، وليس بالمعروف. الكامل (6/ 385). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 260): " فيه مروان أبو سلمة، قال الذهبي: مجهول" اهـ. كما أن في إسناده شهر بن حوشب، مختلف فيه. (¬2) المحلى (1/ 309).

الدليل الثالث

رضي الله عنه نقل عنه عدم التوقيت في المسح على الخفين، فكيف ينقل عنه التوقيت في المسح على العمامة الذي لم يأت نص باشتراط التوقيت، والله أعلم. الدليل الثالث: القياس على الخف، بجامع أن كلا منهما ممسوح، والمسح عليه من قبيل الرخصة. وقد أجبت على القول بالقياس في المسألة التي قبل هذه فراجعه إن احتاج الأمر. دليل من قال يمسح بلا توقيت. الدليل الأول: عدم الدليل على كون المسح مؤقتاً. والأصل أن التوقيت يحتاج إلى توقيف؛ فلا يقال به إلا بدليل؛ لأنه ليس معقول المعنى، ولا دليل على التوقيت. الدليل الثاني: أن أحاديث المسح على العمامة ليس فيها إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على العمامة، ولم يوقت في ذلك وقتاً كالمسح على الخف، فنقف عند حدود النص، ولا نقيد أو نخصص إلا بدليل. وهذا القول أقوى من القول الأول لقوة دليله، والله أعلم.

الشرط الرابع لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر

الشرط الرابع لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر

الشرط الرابع لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر وهذا الشرط متفق عليه عند من يرى المسح على العمامة، وأما الحدث الأكبر فلا يجزئ المسح عليها، بل ولا على الشعر كما لو لم يكن هناك عمامة، ولا بد في الحدث الأكبر من إيصال الماء إلى ما تحت الشعر، وقد نقلت الدليل على ذلك في شروط المسح على الخفين. (168) وقد روى البخاري قال: حدثنا عبدان، قال أخبرنا: عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده الحديث (¬1). وجه الاستدلال: أنه مع كونه خلل شعره بيده حتى رأى أنه قد أروى بشرته، ومع ذلك أفاض الماء على رأسه ثلاث مرات، كل ذلك ليعلم أن الماء قد وصل إلى ما تحت الشعر، ولا يشرع التثليث في غسل البدن من الجنابة إلا الرأس. ¬

(¬1) صحيح البخاري (273)، ورواه مسلم (316) واللفظ للأول.

الشرط الخامس الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح

الشرط الخامس الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح

دليل من قال لا يجب الاستيعاب

الشرط الخامس الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح اختلف في وجوب استيعاب العمامة بالمسح فقيل: يجب الاستيعاب، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: يجزئ مسح أكثرها، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجزئ مسح بعضها، اختاره القاضي أبو يعلى (¬3). دليل من قال لا يجب الاستيعاب. أن مسح العمامة جاء على وجه الرخصة، فأجزأ مسح بعضها قياساً على الخف. دليل من قال بوجوب الاستيعاب. الدليل الأول: قالوا: يجب الاستيعاب لظاهر النصوص، فإن فيها ومسح على العمامة، فظاهر الخبر أنه شملها كلها بالمسح؛ إذ لو كان مقتصراً على البعض لنقل، ولذلك لما مسح معها الناصية أحياناً نقلوه. الدليل الثاني: أن فرض الرأس وجوب استيعابه بالمسح، (169) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن ¬

(¬1) المغني (1/ 186)، وذكره صاحب الإنصاف (1/ 187) رواية. (¬2) قال في الفروع (1/ 169): " ويجزئ مسح أكثر العمامة على الأصح "، وقال في الإنصاف: هذا المذهب، وعليه الجمهور، وجزم به كثير منهم ". (¬3) المغني (1/ 186).

يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد - وهو جد عمرو بن يحيى - أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض، واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه (¬1). قال ابن قدامة: ولأن مسح العمامة بدل من الجنس - يعني: أن المفروض في الرأس المسح، والمفروض في العمامة المسح كذلك، فهما من جنس واحد - قال: فيقدر بقدر المبدل، كقراءة غير الفاتحة من القرآن بدلاً من الفاتحة يجب أن يكون بقدرها، ولو كان البدل تسبيحاً لم يتقدر بقدرها، ومسح الخف بدل من غير الجنس؛ لأنه بدل عن الغسل، فلم يتقدر به، كالتسبيح بدلاً عن القرآن، والمنقول عن أحمد أنه قال: يمسح على العمامة كما يمسح على رأسه، فيحتمل أنه أراد التشبيه في صفة المسح دون الاستيعاب، وأنه يجزئ مسح بعضها؛ لأنه ممسوح على وجه الرخصة، فأجزأ مسح بعضه كالخف، ويحتمل أنه أراد التشبيه في الاستيعاب فيخرج فيها من الخلاف ما في وجوب استيعاب الرأس، وفيه روايتان: أظهرهما: وجوب استيعابه بالمسح (¬2). هذا فيما يتعلق بالعمامة، أما ما يتعلق بجوانب الرأس التي لم تشمله العمامة، فهل يجب مسحه أم لا؟ ¬

(¬1) صحيح البخاري (185)، ومسلم (235). (¬2) المغني (1/ 382).

دليل من قال بالوجوب

فقيل: يجب، وهو وجه في مذهب الحنابلة. وقيل: يستحب، ولا يجب، وهو رواية في مذهب أحمد. دليل من قال بالوجوب. أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على الناصية والعمامة دليل على وجوب الاستيعاب، (170) فقد روى مسلم، قال: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن حاتم جميعاً، عن يحيى القطان، قال ابن حاتم: حدثنا يحيى بن سعيد، عن التيمي، عن بكر بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه. قال بكر: وقد سمعت من ابن المغيرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين (¬1). فلم يكتف بالمسح على العمامة حتى مسح الناصية. وأجيب: بأنه ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح بالعمامة وحدها، فلا يدل على الوجوب. الدليل الثاني: أن العمامة نابت عما استتر فقط، فوجب مسح الباقي، كما لو ظهر سائر رأسه. دليل من قال لا يجب. التعليل الأول: قالوا: إن العمامة نابت مناب الرأس، فانتقل الفرض إليها، وتعلق ¬

(¬1) مسلم (83 ـ 274).

التعليل الثاني

الحكم بها، فلم يبق لما ظهر حكم. التعليل الثاني: أن الجمع بينهما يفضي إلى الجمع بين البدل والمبدل في عضو واحد، فلم يجز من غير ضرورة كالمسح على الخفين. وأجيب: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما في مسحه على الناصية والعمامة كما نقلنا قبل قليل. الراجح والله أعلم استحباب مسح الناصية مع العمامة، أما جوانب الرأس فلم ينقل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسحها، فلا أرى استحباب مسحها، والله أعلم، ولا يترجح لي قياس جوانب الرأس على الناصية؛ لأنه لو كان مشروعاً لنقل فعله عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو مرة واحدة، والله أعلم. وهل تمسح الأذنان مع العمامة. قال في الشرح الكبير: " ولا يجب مسح الأذنين مع العمامة، لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنه لم ينقل، وليستا من الرأس إلا على وجه التبع " (¬1) اهـ. قلت: نفي الوجوب لايدل على نفي الاستحباب لكن ظاهر استدلاله نفي المشروعية، فإن ثبت ما يحكيه من الإجماع فهو حجة، وإلا فلادليل على كونهما لايمسحان إلا سكوت الراوي، وعدم تعرضه لذلك، وسكوته لا يلغي ما ثبت من مشروعية مسحهما، وقد ذكر في الفروع (¬2)، وفي الإنصاف (¬3)، رواية عن أحمد بوجوب مسح الأذنين مع العمامة، فأين دعوى الإجماع. ¬

(¬1) الشرح الكبير (1/ 167). (¬2) الفروع (1/ 163). (¬3) الإنصاف (1/ 187).

الشرط السادس يشترط أن تكون العمامة مباحة

الشرط السادس يشترط أن تكون العمامة مباحة

الشرط السادس يشترط أن تكون العمامة مباحة فإن كانت العمامة محرمة، سواء كانت محرمة لحق الله، كما لو كانت من حرير أو ذهب. أو كانت العمامة محرمة لحق الغير، كما لو كانت مسروقة أو مغصوبة، ففي المسح عليها خلاف (¬1)، والخلاف فيه كالخلاف في الخف المحرم، وقد ذكرنا أدلة كل قول هناك، وما رجحناه هناك نرجحه هنا، وهو جواز المسح على العمامة المحرمة؛ لأن التحريم ليس عائداً إلى المسح، وإنما هو لأمر خارج عنه، والله أعلم. ¬

(¬1) قال ابن قدامة في المغني (1/ 186): " والعمامة المحرمة كعمامة الحرير والمغصوبة لا يجوز المسح عليها؛ لما ذكرنا في الخف المغصوب، وإن لبست المرأة عمامة لم يجز المسح عليها لما ذكرنا من التشبه بالرجال، فكانت محرمة في حقها، وإن كان لها عذر فهذا يندر، لم يرتبط الحكم به " اهـ. وقال في الفروع (1/ 164): " ولا تمسح امرأة عمامة، ولحاجة برد وغيره وجهان. قال المرداوي في تصحيح الفروع تعقيباً: ولحاجة برد وغيره وجهان: أحدهما: لا يجوز، وهو الصحيح، وجزم به في المغني، والشرح، وشرح ابن رزين ومجمع البحرين وغيرهم، وهو ظاهر العمدة، وقدمه ابن تميم وابن حمدان، وصححه غيرهم. الوجه الثاني: يجوز، ويصح، قال المرداوي: والنفس تميل إلى ذلك، وهي شبيهة بما إذا لبس نجس العين في الضرورة على ما تقدم اهـ.

الشرط السابع أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره

الشرط السابع أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره

الشرط السابع أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره اختلف العلماء في العمامة، هل يشترط أن تكون العمامة ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، كمقدام الرأس والأذنين وشبههما من جوانب الرأس، فإنه يعفى عنه، على قولين. والحنابلة رغم أنهم كانوا يتشددون في الخف المخرق، وأنه لا يمسح عليه ولو كان الخرق يسيراً إلا أنهم في العمامة قد قبلوا الانكشاف اليسير: قال أحمد: إذا زالت عن رأسه فلا بأس ما لم يفحش. وقال ابن عقيل: ما لم يرفعها بالكلية. وقال صاحب المحرر: إن رفع العمامة يسيراً لم يضر. وظاهر المستوعب: تبطل لظهور شيء من رأسه (¬1). وما رجحناه في المسح على الخف المخرق نرجحه هنا، وأنه لا يوجد دليل من الكتاب أو السنة على اشتراط أن تكون العمامة ساترة لما يجب مسحه، والشروط لا تثبت إلا بدليل، ولا دليل هنا. ¬

(¬1) الفروع (1/ 169،170)، وقال في الإنصاف (1/ 185): " ويجوز المسح على العمامة المحنكة إذا كانت ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، وهذا المذهب بشرطه، لا أعلم فيه خلافاً، وهو من مفرادت المذهب " اهـ. وقوله: لا أعلم فيه خلافاً: يقصد في المسح على العمامة، وليس المقصود لا يعلم فيه خلافاً بالنسبة لاشتراط كونها ساترة لجميع الرأس. وانظر كشاف القناع (1/ 119).

الفصل الخامس إذا خلع العمامة فما حكم المسح عليها

الفصل الخامس إذا خلع العمامة فما حكم المسح عليها

الفصل الخامس إذا خلع العمامة فما حكم المسح عليها اختلف العلماء القائلون بالمسح على العمامة إذا نزعها من رأسه، فقيل: تبطل الطهارة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا تبطل، اختاره ابن حزم (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3)، وهو الصحيح. وقيل: يجب عليه مسح رأسه مباشرة وغسل قدميه، هو رواية عن أحمد (¬4). وقيل: بل يجب عليه مسح رأسه، ولو لم يكن مباشرة، وهو قول آخر في مذهب الحنابلة (¬5). ¬

(¬1) قال أحمد في مسائله رواية ابنه عبد الله (1/ 123): " سألت أبي عن الرجل يمسح على عمامته، ثم يخلع العمامة؟ قال: يعيد الوضوء. وفيه أيضاً: إن خلعها، وهو في الصلاة؟ قال: يعيد الوضوء والصلاة اهـ. وانظر مسائل ابن هانئ (1/ 18)، ومسائل أبي داود (1/ 15) رقم 50. ومسائل صالح (92،1323)، وانظر كشاف القناع (1/ 121)، مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (1/ 136). (¬2) قال ابن حزم في المحلى (1/ 337): " ولو مسح على عمامة أو خمار، ثم نزعهما فلي عليه إعادة وضوء، ولا مسح رأسه، بل هو طاهر، كما كان، ويصلي كذلك ". (¬3) الفتاوى الكبرى (5/ 305)، الإنصاف (1/ 190). (¬4) قال ابن قدامة (1/ 178): " وعلى الرواية الأخرى: يلزمه مسح رأسه، وغسل قدميه؛ ليحصل الترتيب ". (¬5) الإنصاف (1/ 190) وانظر الأقوال في مسألة لو نزع الخف قبل تمام المدة.

واختلف أصحاب أحمد في مبنى هذه الروايات على أقوال: فقيل: مبنية على الموالاة، قال المرداوي: اختاره ابن الزاغوني، وقطع به المصنف في المغني، والشارح، وابن رزين في شرح، وقدمه في الرعاية الكبرى، فعلى هذا لو حصل ذلك قبل فوات الموالاة، أجزأه مسح رأسه وغسل قدميه قولاً واحداً لعدم الإخلال بالموالاة (¬1). وقيل: الخلاف مبني على أن المسح هل يرفع الحدث أم لا؟ قال المرداوي: قطع بهذه الطريقة القاضي أبو الحسين، واختاره وصححه المجد في شرحه، وابن عبيدان، وصاحب مجمع البحرين، والحاوي الكبير، وقدمه الشيخ تقي الدين في شرح العمدة، وقال هو وأبو المعالي وحفيده: وهو الصحيح من المذهب عند المحققين، واعلم أن المسح يرفع الحدث على الصحيح من المذهب - يعني: مذهب الحنابلة - نص عليه، وجزم به في التلخيص، والبلغة، وقدمه في الفروع ... الخ كلامه (¬2). وقيل: مبني على أن الطهارة لا تتبعض في النقض، وإن تبعضت في الثبوت، كالصلاة والصيام (¬3). وانظر دليل كل قول في مسألة نزع الخف، فإن القول واحد، والدليل واحد. والله أعلم. ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 190). (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق.

فرع لو انتقضت العمامة دون أن ينزعها قال ابن قدامة في المغني: وإن انتقضت العمامة بعد مسحها، بطلت طهارته؛ لأن ذلك بنزلة نزعها. وإن انتقض بعضها ففيه روايتان ذكرهما ابن عقيل: أحدهما: لا تبطل طهارته؛ لأنه زال بعض الممسوح عليه مع بقاء العضو مستوراً، فلم تبطل الطهارة، ككشط الخف مع بقاء البطانة. والثانية: تبطل. قال القاضي: لو انتقض منها كور واحد بطلت؛ لأنه زال الممسوح عليه، فأشبه نزع الخف (¬1). وإذا كنا رجحنا في مسألة نزع الخف أن الطهارة لا تبطل، فكذلك الراجح هنا أن العمامة لو سقطت كلها فالطهارة باقية على حالها، انظر مسألة نزع الخف، فقد بسطت الأدلة هناك. ¬

(¬1) المغني (1/ 185)، وقال ابن مفلح في الفروع (1/ 172): " وان انتقض بعض العمامة فروايتان. ورجح المرداوي في تصحيح الفروع: رواية البطلان. والله أعلم.

الباب التاسع في المسح على الجبيرة

الباب التاسع في المسح على الجبيرة وفيه أربعة فصول

الفصل الأول خلاف العلماء في جواز المسح على الجبيرة

الفصل الأول خلاف العلماء في جواز المسح على الجبيرة اختلف العلماء في جواز المسح على الجبيرة، فقيل: يجب المسح عليها، وهو مذهب المالكية (¬1)، والقول القديم للشافعي (¬2)، واختاره أبو يوسف ومحمد من الحنفية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقال أبو حنيفة: ليس المسح على الجبيرة بفرض. واختلف أصحابه في فهم عبارته. فقيل: معناه أن المسح واجب، وليس بفرض (¬5). وقيل: بل معنى عبارة الإمام أن المسح مستحب، وليس بواجب (¬6). ¬

(¬1) المدونة (1/ 129،130)، مواهب الجليل (1/ 361)، الخرشي (1/ 200)، حاشية الدسوقي (1/ 162،163)، التاج والإكليل (1/ 530). (¬2) المجموع (2/ 367)،. (¬3) بدائع الصنائع (1/ 13)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 493)، حاشية ابن عابدين (1/ 279)، تبيين الحقائق (1/ 52،53). (¬4) مسائل ابن هانئ (1/ 18،20)، المقنع في شرح مختصر الخرقي (1/ 258)، شرح الزركشي (1/ 204)، المبدع (1/ 151،152)، الإنصاف (1/ 187،188)، تنقيح التحقيق (1/ 540)، كشاف القناع (1/ 120). (¬5) شرح فتح القدير (1/ 159)، البحر الرائق (1/ 194)، مراقي الفلاح (ص: 55)، تبيين الحقائق (1/ 52 - 53)، الفتاوى الهندية (1/ 35)، حاشية ابن عابدين (1/ 279). (¬6) انظر المراجع السابقة.

دليل القائلين بجواز المسح على الجبيرة

وقيل: يجمع بين المسح والتيمم، وهو قول الشافعي في الأم، وعليه جمهور أصحابه (¬1). وقيل: لا يشرع المسح، واختلف القائلون به. فقيل: يسقط المسح إلى غير بدل، وهو اختيار ابن حزم (¬2). وقيل: بل يكفيه التيمم، ولا يمسح، وهو قول للشافعية، ونسبه النووي إلى الحناطي وصاحب العدة، واختاره القاضي أبو الطيب (¬3). دليل القائلين بجواز المسح على الجبيرة. الدليل الأول: (171) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء، عن جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده (¬4). ¬

(¬1) المجموع (2/ 367). (¬2) المحلى (1/ 316). (¬3) المجموع (1/ 367). (¬4) سنن أبي داود (336).

[إسناده ضعيف، وزيادة ويعصر أو يعصب ثم يمسح عليها زيادة منكرة] (¬1). ¬

(¬1) في إسناده الزبير بن خريق. ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/ 580). ونسب الحافظ ابن حجر إلى أبي داود أنه قال في سننه: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (3/ 271). ولم أقف عليه في المطبوع، فلعله نسخة. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. المرجع السابق، والكاشف (1619). وذكره ابن حبان في الثقات. (4/ 262)، وفي التقريب: لين الحديث. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه الدارقطني (1/ 189ـ190) من طريق موسى بن عبد الرحمن، نا محمد ابن سلمة به. وأخرجه البيهقي (1/ 227) والبغوي في شرح السنة (2/ 120) من طريق أبي داود به. واختلف على عطاء فيه، فرواه الزبير بن خريق، عن عطاء، عن جابر كما سلف. ورواه الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، وليس فيه ذكر التيمم مع المسح على الجبيرة، فتكون زيادة جمع التيمم مع المسح على الجبيرة زيادة منكرة، إلا أنه قد اختلف فيه على الأوزاعي: فرواه أبو مغيرة كما عند أحمد (1/ 330) والدارمي (752) والدارقطني (1/ 192) ويحيى بن عبد الله كما عند الدارقطني (1/ 192). ومحمد بن شعيب كما عند أبي داود (337). والوليد بن مزيد، كما عند الدارقطني (1/ 192)، والبيهقي (1/ 227) أربعتهم عن الأوزاعي، بلغني عن عطاء أنه سمع ابن عباس يخبر أن رجلاً أصابه جرح في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أصابه احتلام، فأمر بالاغتسال، فمات، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال. هذا لفظ أحمد. زاد أبو المغيرة كما عند الدارمي، والوليد بن مزيد كما عند الدارقطني والبيهقي قال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عطاء: فبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك، فقال: لو غسل جسده، وترك رأسه، حيث أصابه الجرح. وهذه الزيادة مرسلة، وليس فيها إلا ترك موضع الجرح إلى غير بدل من مسح أو تيمم. والحديث كله عن ابن عباس ليس فيه المسح على الجبيرة. وأخرجه عبد الرزاق (867) ومن طريقه الدارقطني (1/ 191) عن الأوزاعي، عن رجل، عن عطاء، بنحو الرواية السابقة، وذكر الزيادة المرسلة عن عطاء. وأخرجه الطبراني (11472) عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن الأوزاعي، سمعته منه، أو أخبرته عن عطاء به، وقال في آخره: " ألا يمموه ". فهنا عبد الرزاق تارة يرويه عن الأوزاعي، عن رجل، عن عطاء. وتارة يرويه بالشك، سمعته أو أخبرته عن عطاء. وقال بعضهم، عن الأوزاعي، عن عطاء، أخرجه الدارقطني (1/ 191) من طريق أيوب بن سويد، وأبو نعيم في الحلية (3/ 317،318) من طريق محمد بن كثير، كلاهما عن الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح به. وأخرجه أبو يعلى (2420)، والدارقطني (1/ 190)، والحاكم (1/ 178) من طريق الهقل بن زياد، قال: سمعت الأوزاعي، قال: قال عطاء: قال ابن عباس. وهذه الروايات لا تعارض من رواه عن الأوزاعي، قال: بلغني عن عطاء، وذلك لأن الأوزاعي لم يصرح بالتحديث فيها. وقد أخرجه الحاكم (1/ 178) من طريق بشر بن بكر، حدثني الأوزاعي، حدثنا عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد الله بن عباس، وساق في آخره مرسل عطاء. وضعف الحاكم رواية بشر، حيث قال: وقد رواه الهقل بن زياد، وهو من أثبت أصحاب الأوزاعي، ولم يذكر سماع الأوزاعي عن عطاء. قلت: قد جاء في التهذيب: قال مسلمة بن صلة، عن بشر بن بكر: روى عن الأوزاعي أشياء انفرد بها، وهو لا بأس به إن شاء الله اهـ. فالتصريح بالتحديث في روايته شاذة، فالراجح في رواية الأوزاعي أنها منقطعة. وقد رواه عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين، عن الأوزاعي، واختلف على =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عبد الحميد فيه: فجاء في العلل لابن أبي حاتم (1/ 37) عن أبي حاتم وأبي زرعة قالا: روى هذا الحديث ابن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، وأفسد الحديث. اهـ فقولهما: وأفسد الحديث: أي بين أن الواسطة بين الأوزاعي وعطاء هذا الرجل الضعيف، وهو إسماعيل بن مسلم المكي. وقد رواه ابن ماجه (572) حدثنا هشام بن عمار، ثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين، ثنا الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح به، ولم يذكر إسماعيل بن مسلم. وطريق الأوزاعي وإن كان ضعيفاً إلا أنه تابعه الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، وزاد فيه ذكر التيمم، ولم يذكر الأوزاعي فيه التيمم، رواه ابن الجارود في المنتقى (128) قال: حدثنا محمد بن يحيى، ومن طريق محمد بن يحيى أخرجه ابن خزيمة (273) وابن حبان (1314) قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: أنبأني الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، أن عطاء حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلاً أجنب في شتاء، فسأل، فأمر بالغسل، فاغتسل، فمات، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما لهم قتلوه، قتلهم الله ثلاثاً، قد جعل الله الصعيد أو التيمم طهوراً، شك ابن عباس، ثم أثبته بعد. والوليد بن عبيد الله ضعفه الدارقطني، ووثقه يحيى بن معين، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما. انظر الجرح والتعديل (9/ 9)، ولسان الميزان (6/ 223). وليس في هذا الطريق المسح على الجبيرة، فلا يكون فيه دليل للمسح على الجبيرة. تلخص من هذه الروايات ما يلي: أولاً: الحديث من مسند جابر منكر، فالمعروف أن الحديث من مسند ابن عباس. ثانياً: المسح على الجبيرة بقوله: " يعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده .. " زيادة منكرة، تفرد بها الزبير بن خريق، وهو ضعيف. ثالثاً: هذا الحديث أعني حديث جابر، الذي استدلوا به، هم لا يقولون بدلالته، فإن الحديث جمع بين المسح والتيمم، وهم لا يرون مشروعية الجمع بينهما، بل يقولون: المشروع: هو المسح فقط. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (172) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب قال: انكسر إحدى زندي، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرني أن أمسح على الجبائر (¬1). [ضعيف جداً، بل موضوع] (¬2). ¬

= رابعاً: رواية الأوزاعي، عن عطاء لم يذكر فيها التيمم، ورواية الوليد بن عبيد الله ابن أبي رباح، عن عطاء، ذكر فيها التيمم، كما أن حديث جابر فيه ذكر التيمم، وصح عن ابن عباس موقوفاً عليه ذكر التيمم، فيكون الموقوف مقوياً للمرفوع، خاصة أنه من طريق آخر، فيكون ذكر التيمم في الحديث محفوظاً، وسوف أذكر قول ابن عباس الموقوف عليه عند ذكر أدلة من يرى التيمم إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم. (¬1) المصنف (623). (¬2) كما أخرجه من طريق عبد الرزاق أخرجه ابن ماجه (657)، والدارقطني (1/ 226)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 268). وأخرجه ابن الجوزي في التحقيق من طريق الدارقطني (1/ 220). وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 124) والبيهقي (1/ 228) من طريق سعيد بن سالم القداح، حدثني إسرائيل به. وهذا الحديث ضعيف جداً بل موضوع، فيه عمرو بن خالد الواسطي، جاء في ترجمته: قال أحمد: متروك الحديث، ليس يسوى شيئا. الجرح والتعديل (6/ 230). قال عباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين قال: عمرو بن خالد كذاب غير ثقة ولا مأمون. المرجع السابق. قال إسحاق بن راهويه: كان عمرو بن خالد الواسطي يضع الحديث. المرجع السابق. قال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، ذاهب الحديث، لا يشتغل به. المرجع =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = السابق. قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن عمرو بن خالد الواسطي، فقال: كان واسطياً، وكان يضع الحديث، ولم يقرأ علينا حديثه، وقال: اضربوا عليه. المرجع السابق. ورماه وكيع بالكذب كما في تقريب التهذيب. وكذبه أحمد، كما في المجروحين لابن حبان (2/ 76). وقال ابن عدي: ولعمرو بن خالد غير ما ذكرت من الحديث، وعامة ما يرويه موضوعات. الكامل (5/ 123). قال الشافعي: لو عرفت إسناده بالصحة قلت به. الأم (1/ 44) وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 46): سألت أبي عن حديث رواه عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه أن علياً انكسرت إحدى زنديه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمسح على الجبائر، فقال أبي: هذا حديث باطل لا أصل له، وعمرو بن خالد متروك الحديث اهـ. وقال البوصيري في مصباح الزجاجه (1/ 84): " هذا إسناد فيه عمرو بن خالد كذبه أحمد وابن معين وقال البخاري منكر الحديث وقال أبو زرعة وكيع يضع الحديث وقال الحاكم يروي عن زيد بن علي الموضوعات " اهـ. قال البيهقي (1/ 228): تابعه على ذلك عمر بن موسى بن وجيه، فرواه عن زيد بن علي مثله، وعمر بن موسى متروك، منسوب إلى الوضع، نعوذ بالله من الخذلان، وروي بإسناد آخر مجهول عن زيد بن علي، وليس بشيء، ورواه أبو الوليد خالد بن يزيد المكي بإسناد آخر عن زيد بن علي، عن علي مرسلاً، وأبو الوليد ضعيف، ولا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء، وأصح ما روي فيه حديث عطاء بن أبي رباح الذي قد تقدم، وليس بالقوي، وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين فمن بعدهم، مع ما روينا عن ابن عمر في المسح على العصابة، والله أعلم. اهـ كلام البيهقي. وجاء عن عبد الرزاق من طريق آخر، جاء في العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (3/ 15): سمعت رجلاً يقول ليحيى: تحفظ عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الجبائر، فقال: =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (173) ما رواه الدراقطني، قال: ثنا دعليج بن أحمد، نا محمد بن علي بن زيد الصائغ بمكة، حدثنا أبو الوليد ـ وهو خالد بن يزيد المكي ـ نا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثنا الحسن بن زيد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ صاحبها؟ وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يمسحان بالماء عليهما في الجنابة والوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا اغتسل؟ قال: يمر على جسده، وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (¬1) يتيمم إذا خاف (¬2). [إسناده ضعيف جداً] (¬3). ¬

= باطل، ما حدث به معمر قط، سمعت يحيى يقول: عليه بدنة مقلدة مجللة، إن كان معمر حدث بهذا قط، هذا باطل، ولو حدث بهذا عبد الرزاق كان حلال الدم، من حدث بهذا عن عبد الرزاق؟ قالوا له: فلان، فقال: لا والله ما حدث به معمر، وعليه حجة من ههنا يعني المسجد إلى مكة إن كان معمر حدث بهذا اهـ. (¬1) النساء، آية: 29. (¬2) سنن الدارقطني (1/ 226). (¬3) وهذا الإسناد له علتان: أحدهما: خالد بن يزيد المكي ضعيف، جاء في ترجمته: قال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبو زرعة، وترك الرواية عنه. الجرح والتعديل (3/ 360). =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (174) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا أبو بكر الشافعي، نا أبو عمارة محمد بن أحمد بن المهدي، ثنا عبدوس بن مالك العطار، نا شبابة، نا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الجبائر. قال الدارقطني: لا يصح مرفوعاً، وأبو عمارة ضعيف جداً (¬1). ¬

= قال يحيى بن معين: خالد بن يزيد العمري كذاب. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن خالد بن يزيد العمري المكي، فقال: كان كذاباً أتيته بمكة، ولم أكتب عنه، وكان ذاهب الحديث. المرجع السابق. وقال ابن عدي: ولخالد بن يزيد العدوي غير هذا من الحديث، ومقدار ما يرويه عن من رواه لا يتابع عليه. الكامل (3/ 16). وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا أكثر من كتب عنه أصحاب الرأي لا يشتغل بذكره لأنه يروي الموضوعات عن الأثبات. المجروحين (1/ 284). العلة الثانية: زيد بن علي بن الحسين لم يدرك جده علي بن أبي طالب. قال البيهقي (1/ 228): " ورواه أبو الوليد خالد بن يزيد المكي بإسناد آخر، عن زيد بن علي، عن علي مرسلاً، وأبو الوليد ضعيف؛ ولا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء اهـ. وقال عبد الله بن أحمد في العلل لأحمد (3/ 16): " وهذا الحديث يروونه عن إسرائيل، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الجبائر وعمرو بن خالد لا يسوي حديثه شيئاً " اهـ. (¬1) سنن الدارقطني (1/ 205)، ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 361) وفي التحقيق (1/ 219). ورواه الخطيب في تاريخه (11/ 115) من طريق عبد الله بن إبراهيم الشافعي، أخبرنا محمد بن أحمد بن المهدي به. =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (175) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (¬1). [رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (¬2). وأجيب: بأن المراد بالعصائب: العمائم، والتساخين: كل ما يسخن القدم من جورب ونحوه، فلا حجة فيه. الدليل السادس: من الآثار. (176) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا سماغ، ثنا الوليد، نا سعيد بن أبي عروبة، حدثني سليمان بن موسى، عن نافع، قال: جرحت إبهام رجل ابن عمر، فألقمها مرارة، فكان يتوضأ ¬

= قلت: جاء في ترجمة أبي عمارة: محمد بن أحمد بن مهدي ما يلي: قال الدارقطني: متروك. لسان الميزان (5/ 37). وقال الخطيب: في حديثه مناكير وغرائب. تاريخ بغداد (3/ 360). (¬1) المسند (5/ 277). (¬2) سبق تخريجه.

عليها (¬1). وأجيب: بأن فعل ابن عمر، وإن كان صحيحاً فقد عارضه قول ابن عباس كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن ابن عباس يرى أن يتيمم، بل يعارض فعل ابن عمر ظاهر القرآن، قال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2) فذكر أن التيمم يشرع إذا كان الإنسان مريضاً، والجرح: نوع من المرض. قال ابن حزم: " فإن قيل: قد رويتم عن ابن عمر أنه ألقم أصبعه ¬

(¬1) الأوسط (2/ 24). وأخرجه البيهقي (1/ 228) من طريق أبي عامر موسى بن عامر، ثنا الوليد بن مسلم به. وفي الإسناد سعيد بن أبي عروبة، وقد اختلط، والراوي عنه: الوليد بن مسلم، ولم أقف هل سمع الوليد قبل الاختلاط، أو بعد الاختلاط، وقد ذكر صاحب الكواكب النيرات تسعة من الحفاظ ممن سمع من سعيد قبل الاختلاط، وألحق المحقق خمسة عشر آخرين، ولم يذكرا الوليد بن مسلم منهم، كما لم يذكروا الوليد بن مسلم ممن سمع منه بعد الاختلاط، لكن جاء المسح عن ابن عمر من طريق آخر، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 126) حدثنا شبابة، قال: حدثنا هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر، قال: من كان به جرح معصوب، فخشي عليه العنت، فليمسح ما حوله، ولا يغسله. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عمر، وقد رواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 24) من طريق إسحاق والبيهقي في السنن (1/ 228) من طريق أبي عامر موسى بن عامر، كلاهما عن الوليد بن مسلم، قال: أخبرني هشام بن الغاز به، بلفظ: إن كان عليه عصاب مسحه، وإن لم يكن عليه عصاب غسل ما حوله، ولم يمسه الماء. هذا لفظ ابن المنذر. (¬2) المائدة، آية: 6.

الدليل السابع

مرارة، فكان يمسح عليها. قلنا: هذا فعل منه، وليس إيجاباً للمسح عليها، وقد صح عنه رضي الله عنه أنه كان يدخل الماء في باطن عينيه في الوضوء والغسل، وأنتم لا ترون ذلك، فضلاً عن أن توجبوه فرضاً " (¬1) اهـ. فقد يكون ابن عمر فعل ذلك احتياطاً، ويبقى ما دام أن ابن عباس خالفه، يطلب مرجح لأحد القولين من دليل آخر. الدليل السابع: من النظر، قالوا: إن المسح على الجبيرة أولى من التيمم من وجهين: الأول: أن المسح يكون بالماء، والتيمم بالتراب، والأصل: استعمال الماء. الثاني: المسح يكون في ما يغطي موضع الغسل، وأما التيمم في عضوين فقط، وقد يكونا أجنبين عن موضع الجرح، فالجرح إما أن يكون مكشوفاً أو مستوراً، فإن كان مكشوفاً، فالواجب غسله، فإن تعذر غسله بالماء، انتقل إلى مسحه بالماء، فإن تعذر المسح، فالتيمم. وإن كان العضو مستوراً ففرضه المسح، فإن تضرر انتقل إلى التيمم. وأجيب: بأن هذا الترتيب لا دليل عليه، وهو استحسان في مقابل النص، أعني آية المائدة، فلا يقبل. ¬

(¬1) المحلى (1/ 317).

الدليل الثامن

الدليل الثامن: قالوا: يشرع المسح على الجبيرة قياساً على العمامة والخفين؛ لأن هذا العضو ستر بما يسوغ شرعاً، فجاز المسح عليه كالخفين والعمامة. وأجيب: بأن هناك فرقاً بين الجبيرة والخفين، فلا يصح القياس، فمن ذلك: أن المسح على الجبيرة واجب، والمسح على الخفين جائز. الثاني: المسح على الجبيرة في الطهارتين الصغرى والكبرى، وفي الخف في الطهارة الصغرى فقط. الثالث: المسح على الجبيرة لا توقيت فيها، بخلاف الخف. الرابع: المسح على الجبيرة يستوعبها بالمسح، كما يستوعب الجلد، بخلاف الخف. الخامس: أن المسح على الخفين يشترط له الطهارة، بخلاف الجبيرة على قول. وإذا تبين بينهما هذه الفروق فكيف يصح قياس الجبيرة على الخف؟! أدلة القائلين بالتيمم. من القرآن قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1). وإذا لم يكن هذا الجرح مرضاً، فما هو المرض المبيح للتيمم؟ فهل يشترط أن يكون مرضاً مانعاً من استعمال الماء مطلقاً؟ أين الدليل على هذا ¬

(¬1) المائدة، آية: 6.

الشرط، وهذا الشرط لو قالوه مخالف لقولهم: إذا كان معه ماء يكفي بعض طهره، استعمله، وتيمم عن الباقي. الدليل الثاني: (177) ما رواه ابن الجارود، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: أنبأني الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، أن عطاء حدثه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً أجنب في شتاء، فسأل، فأمر بالغسل، فاغتسل، فمات، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما لهم قتلوه؟ قتلهم الله ثلاثاً قد جعل الله الصعيد، أو التيمم طهوراً، شك ابن عباس، ثم أثبته بعد (¬1). [إسناده حسن] (¬2). والغريب أن القائلين بالمسح تركوا هذا الحديث، وأخذوا بحديث جابر، وهو غلط من راويه الزبير بن خريق؛ لأن الأوزاعي والوليد بن عبيد الله قد خالفاه، فروياه عن عطاء من مسند ابن عباس، وليس فيه المسح على ¬

(¬1) المنتقى (128). (¬2) في إسناده الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، جاء في ترجمته: والوليد بن عبيد الله ضعفه الدارقطني، ووثقه يحيى بن معين، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما. انظر الجرح والتعديل (9/ 9)، ولسان الميزان (6/ 223). وجرح الدارقطني غير مفسر، فلا يعارض توثيق ابن معين، وابن معين معروف بتشدده، ومع ذلك وثقه، وقد أخرج له ابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما، وهذا تصحيح منهما لحديثه، فأقل أحواله أن يكون حسناً جمعاً بين إعمال الجرح وإعمال التعديل.

الجبيرة، ومع تقديمهم لحديث جابر على نكارته، لم يقولوا بمقتضاه من الجمع بين المسح والتيمم، بل أخذوا بعضه، وتركوا بعضه، وهذا من غرائب الاستدلال!!. الدليل الثالث: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أهل جهاد، فكانت تكثر فيهم الجروح والقروح، فلو كان المسح على الجبيرة مشروعاً لجاء مبيناً في السنة تبييناً واضحاً لا إشكال فيه، كما بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الريح حدث يبطل الوضوء، ولا ينازع في ذلك منازع، خاصة أن الأمر يتعلق بالصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام العملية، فلما لم يأت المسح إلا من حديث رجل إما متهم بالكذب، وإما ضعيف قد خالفه من هو أوثق منه، علم أن المسح ليس مشروعاً. الدليل الرابع: صح عن ابن عباس موقوفاً عليه القول بالتيمم، (178) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا أجنب الرجل، وبه الجراحة والجدري، فخاف على نفسه إن هو اغتسل، قال: يتيمم بالصعيد (¬1). [حديث حسن] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 96). (¬2) جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/ 26): " قال: ورواه أبو عوانة وورقاء وغيرهما، =

الدليل الخامس: إذا كان الجنب قد رخص له إذا خاف على نفسه الضرر من الاغتسال أن يتيمم، فكذلك إذا خاف على جرحه، ولا فرق، ولا يقال له: امسح جسدك بالماء إذا خفت من الاغتسال؛ لأنه أولى من التيمم، فهذا بالماء، وذاك بالتراب، وهذا في عضوين، وذاك في الجسم كله، بل نقول له: تيمم، وهذا يكفيك، فكذلك إذا خاف على عضو من أعضائه. ¬

_ = عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفاً، وهو الصحيح " اهـ. وقد اختلف فيه على عطاء، فرواه ابن خزيمة (272) ومن طريقه ابن الجارود في المنتقى (129) قال: ثنا يوسف بن موسى، ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 165) من طريق إسحاق بن إبراهيم، كلاهما قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، يرفعه في قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري، فيجنب، فيخاف إن اغتسل أن يموت، فليتيمم اهـ. ورفعه ضعيف. أولاً: لأنه انفرد به جرير بن عبد الحميد، عن عطاء، وهو ممن روى عنه بعد الاختلاط. وثانياً: أن الجماعة قد رووه عن عطاء موقوفاً على ابن عباس، منهم أبو الأحوص وأبو عوانة، وورقاء. ورواه عبد الرزاق في المصنف (869) عن الثوري، عن عاصم الأحول، عن قتادة، عن ابن جبير، عن ابن عباس، قال: رخص للمريض في الوضوء التيمم بالصعيد، وقال ابن عباس: أرأيت إن كان مجدراً: كأنه صمغه ـ كيف يصنع؟ وقد رواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 19) من طريق عبد الرزاق به. وقد سقط من المصنف الثوري وعاصم، والتصحيح من الأوسط لابن المنذر. كما أن متن عبد الرزاق فيه سقط أكملته من الأوسط.

وفي المسألة قصة عمرو بن العاص، لكن اختلف فيه، هل تيمم أو غسل مغابنه وتوضأ؟ فرواه عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص بذكر الوضوء، وغسل المغابن (¬1). ورواه عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص، بذكر التيمم، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (335) حدثنا محمد بن سلمة المرادي، أخبرنا ابن وهب، عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص كان على سرية وذكر الحديث نحوه، قال: فغسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم، فذكر نحوه، ولم يذكر التيمم. وأخرجه ابن حبان (1315) قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم، قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث به، ولم يذكر ابن لهيعة. واختلف على حرملة بن يحيى، فرواه عنه ابن حبان كما سبق. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 27) حدثنا أحمد بن داؤد، ثنا حرمله به بإسناد ابن حبان إلا أنه ذكر التيمم، ولم يذكر غسل المغابن ولا الوضوء، ولعله اختلط عليه رواية عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص، برواية عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس أن عمرو بن العاص ... ألخ وأخرجه الدارقطني (1/ 179) من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثني عمي (ابن وهب) عن عمرو بن الحارث وحده به. وأخرجه الحاكم (1/ 177) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 226) من طريق أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم، أنبأ ابن وهب، حدثني عمرو بن الحارث ورجل آخر، عن يزيد بن أبي حبيب به. قال البيهقي: ورجل آخر أظنه ابن لهيعة.

ولم يسمعه من عمرو (¬1). ¬

(¬1) رواه أحمد في مسنده (4/ 203،204) قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً. وهذا الإسناد له علتان: الأولى: ضعف ابن لهيعة، لكن تابعه على ذلك يحيى بن أيوب المصري، فقد أخرجه أبو داود (334) والدارقطني (1/ 178) والحاكم (1/ 177،178) من طريق يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب به. العلة الثانية: أخشى أن يكون منقطعاً بين عبد الرحمن بن جبير وعمرو بن العاص، فإن صح سماع عبد الرحمن بن جبير من عمرو، فالإسناد صحيح إن شاء الله تعالى. وذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض، في باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم، قال البخاري: ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم، وتلا {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف. قال الحافظ في الفتح (1/ 454): " وإسناده قوي، لكن علقه بصيغة التمريض؛ لكونه اختصره. الخ كلامه. واختلف على ابن لهيعة، فرواه حسن بن موسى عنه كما سبق. ورواه زيد بن الحباب كما في فتوح مصر لابن عبد الحكم (ص: 249) عن ابن لهيعة، فزاد في إسناده بين عبد الرحمن بن جبير، وبين عمرو بن العاص أبا فراس يزيد بن رباح. =

دليل من قال يسقط فرضه ولا يمسح ولا يتيمم

والطريق الأول: أوصل. والطريق الثاني: أوفق لمقتضى القواعد، ولعله فعل الأمرين. قال البيهقي: ويحتمل أن يكون قد فعل ما نقل في الروايتين جميعا، غسل ما قدر على غسله، وتيمم للباقي، والله أعلم (¬1). دليل من قال يسقط فرضه ولا يمسح ولا يتيمم. استدل ابن حزم بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (¬2). وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". قال ابن حزم فسقط بالقرآن والسنة كل ما عجز عنه المرء، وكان التعويض منه شرعاً، والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة، ولم يأت قرآن ولاسنة بتعويض المسح على الجبائر " (¬3). ¬

= وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (878) عن ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أبي أمامة سهل بن حنيف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص أنه أصابته جنابة، وهو أمير الجيش، فترك الغسل من أجل آية، قال: إن اغتسلت مت، فصلى بمن معه جنباً، فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عرفه بما فعل، وأنبأه بعذره، فسكت. وأورده الهيثمي في المجمع (1/ 263)، وقال: رواه الطبراني في الكبير، وقال: وفيه أبو بكر بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، ولم أجد من ذكره. وقال ابن حجر تغليق التعليق (2/ 191): هذا إسناد جيد، لكني لم أعرف حال إبراهيم هذا. (¬1) سنن البيهقي (1/ 226). (¬2) البقرة، آية: 286. (¬3) المحلى (1/ 316).

دليل من قال يجمع بين المسح والتيمم

وفي ما قاله رحمه الله نظر؛ لأن القرآن والسنة جاءت بالبدل، وهو التيمم كما ذكرنا من سورة المائدة، ومن حديث ابن عباس، والله أعلم. دليل من قال يجمع بين المسح والتيمم. الدليل الأول: حديث جابر في صاحب الشجة، وفيه: " إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده ". [سبق تخريجه في أدلة القول الأول] وقد ذكرنا أن هذه الزيادة زيادة منكرة، تفرد بها الزبير بن خريق مخالفاً لمن هو أوثق منه. الدليل الثاني: قالوا: إن ما تحت الجبيرة عليل لا يمكن غسله، فأشبه الجريح بوجوب التيمم، ولبسه لهذا الحائل أشبه الخف بمشقة النزع، فلما أشبههما وجب الجمع بين المسح والتيمم. الدليل الثالث: قالوا: ولأن في الجمع بينهما احتياطاً للعبادة، وخروجاً من الخلاف. وهذا القول ضعيف أيضاً؛ لأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالف لقواعد الشرع، فإن كان المسح مطهراً، فلماذا التيمم؟ وإن كان التيمم مطهراً فلماذا المسح؟ ولا يكلف الله عبداً بعبادتين سببهما واحد.

الراجح

الراجح: بعد استعراض أدلة الفريقين لا أرى في المسح على الجبيرة نصاً مرفوعاً يمكن أن يعول عليه، وجاء عن ابن عمر بسند صحيح موقوفاً عليه، وعارضه قول ابن عباس، والقول بالمسح هو قول عامة الفقهاء من التابعين وغيرهم، وأرى أن القول بالتيمم أرجح من المسح على الجبيرة؛ لآية المائدة، ولأثر ابن عباس الموافق لآية المائدة، وهو أحب إلى نفسي، ولو مسح أحد متبعاً بذلك الصحابي الجليل ابن عمر، فلا بأس عليه إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني في شروط المسح على الجبيرة

الفصل الثاني في شروط المسح على الجبيرة

الشرط الأول أن يكون الغسل مما يضر بالعضو أو الجروح

الشرط الأول أن يكون الغسل مما يضر بالعضو أو الجروح

الشرط الأول أن يكون الغسل مما يضر بالعضو أو الجروح من شروط المسح على الجبيرة أن يكون الغسل مما يضر بالعضو المنكسر، أو بالجروح والقروح، أو لا يخاف الضرر من جهة أخرى بسبب نزع الجبائر. فإن كان لا يضره الغسل، ولا يخاف ضرراً بنزع الجبيرة، وجب الغسل؛ لأن الغسل فرض، سقط إلى بدل، وهو المسح لوجود العذر، فإذا لم يوجد العذر لم يسقط الغسل. وهذا لا خلاف فيه (¬1). فإن خاف من المسح على الجبيرة، فإن أمكن وضع جبيرة أخرى ليمسح، وضع أخرى، وإن لم يمكن سقط المسح، كما سقط الغسل، وهل يسقط إلى بدل، وهو التيمم، أو يسقط إلى غير بدل سبق لنا ذكر الخلاف في جواز المسح على الجبيرة، فارجع إليه إن شئت. ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 13)، الخرشي (1/ 200)، وقال ابن قدامة في المغني (1/ 172): " لا يجوز المسح عليها إلا عند الضرر بنزعها ".

الشرط الثاني الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة

الشرط الثاني الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة

دليل الحنفية والمالكية على عدم اشتراط الطهارة

الشرط الثاني الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة اختلف العلماء هل يشترط في المسح على الجبيرة أن يلبسها على طهارة. فقيل: لا يشترط، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: لا تلبس الجبيرة إلا على طهارة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، فإن كان لا يضره نزعها وجب، وإن كان يضره تيمم، ولم يمسح عند الحنابلة (¬3)، وعند الشافعية يمسح مع الإثم، ويعيد الصلاة إذا برئ (¬4). دليل الحنفية والمالكية على عدم اشتراط الطهارة. الدليل الأول: عدم الدليل على اشتراط الطهارة، فالأحاديث التي جاء فيها المسح ¬

(¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 14): " لا تشترط الطهارة لوضع الجبائر، حتى لو وضعها، وهو محدث، ثم توضأ، جاز له أن يمسح عليها "، وانظر مراقي الفلاح (ص: 56)، المبسوط (135)، تبيين الحقائق (1/ 54)، شرح فتح القدير (1/ 158). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 164)، منح الجليل (1/ 163)، الخرشي (1/ 201). (¬3) المحرر (1/ 13)، كشاف القناع (1/ 114)، الفروع (1/ 160،161)، شرح الزركشي (1/ 402)، المبدع (1/ 140)، الإنصاف (1/ 173،174)، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/ 258). (¬4) المجموع (2/ 369)، أسنى المطالب (1/ 82)، شرح البهجة (1/ 203)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 111).

الدليل الثاني

على الجبيرة مطلقة، لم تشترط تقدم الطهارة. الدليل الثاني: المسح على الجبيرة يقع فجأة، أو في وقت لا يعلم الماسح وقوعها فيه، وبدون اختياره، بخلاف الخف، فإنه يلبسه مختاراً. الدليل الثالث: لو تأخر في لبس الجبيرة لتحصيل الطهارة، لحصل له ضرر بذلك، والشرع لا يأتي بمثل هذا. الرابع: أن اشتراط الطهارة فيه حرج ومشقة، والحرج والمشقة مرفوع عن هذه الأمة بنص القرآن والسنة. دليل الحنابلة والشافعية على اشتراط الطهارة. قالوا: لأن الجبيرة حائل يمسح عليه، فكان من شرط المسح عليه تقدم الطهارة كالخفين. وأجيب: بأنه لا يمكن قياس الجبيرة على الخف؛ لأن لبس الخف ترفه، وطلب كمال، ولبس الجبيرة ضرورة، ومرض، ولذا وقت في الخف، ولم يوقت في الجبيرة، وكان مسح الجبيرة واجباً عند من يراه، بخلاف الخف، وتستوعب الجبيرة بالمسح، ولا يستوعب الخف، ويجمع بين غسل ومسح في عضو واحد، ولا يجمع ذلك في الخف إلى آخر الفروق المعلومة، فلا يتأتى القياس على الخف. وهذا القول أرجح، إلا أنه مبني على القول بالمسح على الجبيرة.

الشرط الثالث الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة

الشرط الثالث الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة

الشرط الثالث الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة اختلف العلماء هل يشترط في الجبيرة ألا تتجاوز قدر الحاجة؟ فقيل: يشترط ألا تتجاوز قدر الحاجة (¬1)، فإن تجاوز بالجبيرة موضع الحاجة، فإن كان لايضره حلها، حلها وغسل ما تحت الصحيح، وإن كان يضره، فقيل: يمسح عليها كلها بلا تيمم وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: يمسح عليها، ويتيمم، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬

(¬1) والحاجة: هي موضع الكسر، وكل ما قرب منه مما يحتاج إليه في شدها للإستمساك. فالجبيرة توضع على طرفي الصحيح؛ لينجبر الكسر، فلا بد أن تغطي موضعاً من الصحيح. قال النووي في المجموع (1/ 369): " ولا يجوز أن يضع الجبيرة على شيء من الصحيح إلا القدر الذي لا يتمكن من ستر الكسر إلا به " اهـ. (¬2) الاختيار لتعليل المختار (1/ 26)، حاشية ابن عابدين (1/ 280،281)، البحر الرائق (1/ 197)، بدائع الصنائع (1/ 13). (¬3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 164)، مواهب الجليل (1/ 362)، منح الجليل (1/ 163). (¬4) الإنصاف (1/ 188). (¬5) أسنى المطالب (1/ 82)، روضة الطالبين (1/ 106)، المجموع (2/ 369). (¬6) المبدع (1/ 140)، الإنصاف (1/ 188)، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/ 259).

دليل من قال بالمسح فقط

دليل من قال بالمسح فقط. التعليل الأول: لما كانت الجبيرة زائدة عن موضع الجرح، وكان حل الجبيرة يضره، أصبح وجود الجبيرة ضرورة، فجاز المسح على الجميع. التعليل الثاني: قالوا: ولأن إيجاب المسح والتيمم معاً إيجاب طهارتين لعضو واحد، وهذا مخالف لقواعد الشرع. التعليل الثالث: قالوا: إن تقدير الموضع الزائد على الحاجة قد يتعسر، ولا ينضبط، ولذلك قال ابن قدامة في المغني: " كأن أبا عبد الله استحب أن يتوقى أن يبسط الشد على الجرح بما يجاوزه، ثم سهل في مسألة الميموني والمروذي؛ لأن هذا مما لا ينضبط، وهو شديد جداً، ولا بأس بالمسح على العصائب كيف شدها " اهـ. دليل من قال بالجمع بين المسح والتيمم. قالوا: إن شد الجبيرة على موضع لا يحتاج إليه، كشدها على موضع لا كسر فيه، فيبقى ما على موضع الحاجة يقتضي المسح، والزائد يقتضي التيمم. وأجيب: بأن الشيء قد يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، لما سبق ذكره من وجود الحرج في ضبط مقدار الحاجة.

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف بعد استعراض الخلاف نجد أن قول الجمهور في هذه المسألة أقوى، إلا أني لا أراه، لكونه مبنياً على القول بالمسح على الجبيرة، وقد ناقشت هذه المسألة في فصل مستقل، والله أعلم.

الشرط الرابع هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة

الشرط الرابع هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة

الشرط الرابع هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة؟ إذا كانت الجبيرة من حرير أو غصب، ففي جواز المسح عليها قولان: أحدهما: لا يصح المسح عليه. والثاني: يصح المسح عليها. والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في الخف المحرم، وقد سبق بحثه، والصحيح جواز المسح على الجبيرة، ولو كانت محرمة، لأن الجهة منفكة، والتحريم ليس من قبل الصلاة، وإنما هو لأمر خارج، وهذا الترجيح مبني على القول بجواز المسح على الجبيرة، وقد سبق لك الخلاف.

الشرط الخامس هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحا

الشرط الخامس هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحاً

الشرط الخامس هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحاً؟ ذهب المالكية إلى أنه يشترط للمسح على الجبيرة أن يكون غالب البدن في الطهارة الكبرى أو غالب الأعضاء الأربعة في الطهارة الصغرى صحيحاً، أو يكون نصفه صحيحاً ونصفه جريحاً، فإن كان البدن كله جريحاً، أو غالبه جريحاً، فلا يمسح على الجبائر، بل يتيمم، حتى ولو لم يضره غسل ذلك الصحيح (¬1). قالوا: إذا كان الصحيح من البدن، هو القليل، فلا حكم له، فكأن البدن أصبح كله جريحاً، وإذا كان البدن كله جريحاً وجب التيمم بنص القرآن، قال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2). وهذا دليل على ضعف القول بالمسح على الجبيرة؛ لأن البدن إذا كان نصفه جريحاً يتيمم، ولا يمسح، استدلالاً بآية المائدة، فكذلك إذا كان غالبه صحيحاً يتيمم، ولا يمسح، ولا فرق، خاصة إذا علمنا أن المسح على الجبيرة ليس فيها نص صحيح يصار إليه. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 362)، حاشية الدسوقي (1/ 164)، الخرشي (1/ 201،202) التاج والإكليل (1/ 532،533) الفواكه الدواني (1/ 163)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 204)، منح الجليل (1/ 163). (¬2) المائدة، آية: 6.

الشرط السادس هل يشترط أن توضع جبيرة على الجرح حتى يمسح

الشرط السادس هل يشترط أن توضع جبيرة على الجرح حتى يمسح

الشرط السادس هل يشترط أن توضع جبيرة على الجرح حتى يمسح إذا كان الجرح ليس عليه عصابة، ولا جبيرة، فالمشهور من مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، أنه يتيمم للجرح ولا يمسح عليه، حتى لو كان يمكنه مسحه بلا ضرر. وهذا مما يضعف القول بالمسح؛ لأنه إذا كان المسح لا يشرع مع مباشرة الممسوح بدون حائل، فكونه لا يشرع مع الحائل من باب أولى. واختار الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، وهو رواية في مذهب أحمد (¬5)، أن الفرض غسل الجرح بالماء، فإن خاف ضرراً مسح على الجرح بدون حائل، ¬

(¬1) المجموع (1/ 371)، روضة الطالبين (1/ 107). (¬2) مسائل أحمد رواية عبد الله (1/ 128،129)، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/ 253)، شرح الزركشي (1/ 381). (¬3) شرح فتح القدير (1/ 161)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 26)، بدائع الصنائع (1/ 13). (¬4) مواهب الجليل (1/ 361)، الخرشي (1/ 200). (¬5) قال في المغني (1/ 173) رواه حنبل عنه. قلت: ما تفرد به حنبل لا يعتبر على التحقيق رواية، لكن لم يتفرد به، فقد جاء في مسائل ابن هانئ (1/ 20): " سألته عن الرجل به جرح، تصيبه جنابة؟ قال: إذا خاف على نفسه، يمسح عليه " اهـ. وقال في (1/ 18): " سألت أبا عبد الله عن رجل بعقبه علة، لا يستطيع أن يغسله إذا توضأ؟ قال: له عذر، وأمرني أن أمسح عليه، وكنت قد أريته الرجل ".

فإن خاف ضرراً من وصول البلل إلى الجرح مسح على الجبيرة أو العصابة. وهذا القول أقوى من الأول إلا أنه مبني على القول بالمسح على الجبيرة، والله أعلم.

الشرط السابع هل يشترط أن تكون الجبيرة من خشب أو يلحق بها اللصوق ونحوها

الشرط السابع هل يشترط أن تكون الجبيرة من خشب أو يلحق بها اللصوق ونحوها

الشرط السابع هل يشترط أن تكون الجبيرة من خشب أو يلحق بها اللصوق ونحوها لا يشترط أن تكون الجبيرة من خشب، وحكم اللصوق على الجروح حكم الجبيرة (¬1). قال المرداوي: اللصوق حيث تضرر بقلعه يمسح عليه إلى حله كالجبيرة، وينبغي أن لا يكون فيه خلاف " (¬2). (179) قلت: أصل ذلك ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا سماغ، ثنا الوليد، نا سعيد بن أبي عروبة، حدثني سليمان بن موسى، عن نافع، قال: جرحت إبهام رجل ابن عمر فألقمها مرارة، فكان يتوضأ عليها (¬3). [سبق بحثه]. قال ابن قدامة: ولا فرق بين كون الشد على كسر أو جرح. قال أحمد: إذا توضأ، وخاف على جرحه الماء مسح على الخرقة. وحديث جابر في صاحب الشجة إنما هو في المسح على عصابة جرح؛ لأن الشجة اسم ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (1/ 373): " قال أصحابنا حكم اللصوق وغيره حكم الجبيرة في جميع ما سبق ". وانظر نهاية المحتاج (1/ 286) (¬2) الإنصاف (1/ 177). (¬3) الأوسط (2/ 24).

لجرح الرأس خاصة؛ ولأنه حائل مضوع يخاف الضرر بغسله فأشبه الشد على الكسر، وكذلك إن وضع على جرحه دواء، وخاف من نزعه، مسح عليه، نص عليه أحمد. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن الجرح يكون بالرجل يضع عليه الدواء، فيخاف إن نزع الدواء إذا أراد الوضوء أن يؤذيه؟ قال: ما أدري ما يؤذيه، ولكن إذا خاف على نفسه، أو خُوِّف من ذلك مسح عليه " (¬1) اهـ. ¬

(¬1) المغني (1/ 172)، وانظر أسنى المطالب (1/ 81)، شرح البهجة (1/ 189).

الفصل الثالث إذا سقطت الجبيرة أو أبدلها فهل يعيد المسح؟

الفصل الثالث إذا سقطت الجبيرة أو أبدلها فهل يعيد المسح؟

الفصل الثالث إذا سقطت الجبيرة أو أبدلها فهل يعيد المسح؟ اختلف العلماء القائلون بالمسح على الجبيرة في الحكم إذا سقطت الجبيرة. فقيل: إذا سقطت الجبيرة قبل البرء، فلا شيء عليه، وإن سقطت بعد البرء، فإن كان محدثاً توضأ وغسل محل الجبيرة، وإن لم يكن محدثاً غسل موضع الجبيرة لا غير. وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: نزع الجبيرة مؤثر بكل حال، سواء كان عن برء أو لا، واختلفوا فيما يترتب على الكشف. فقيل: إذا سقطت الجبيرة، ولو كان في صلاة قطعها مطلقاً، فإن كان عن برء غسل ذلك الموضع مباشرة، وإن كان لم يبرأ فإنه يعيد الجبيرة، ويمسح عليها إن فعل ذلك بالقرب، وإن لم يفعل ذلك حتى طال الفصل بغير عذر، استأنف الوضوء، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: سقوطها مبطل للطهارة مطلقاً، سواء كان سقوطها عن برء ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 14)، تبيين الحقائق (1/ 53،54)، العناية شرح الهداية (1/ 159)، شرح فتح القدير (1/ 159)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 26) البحر الرائق (1/ 198)، وقال صاحب مراقي الفلاح (ص: 56): " ويجوز تبديلها بغيرها، ولا يجب إعادة المسح ". اهـ (¬2) مواهب الجليل (1/ 364)، حاشية الدسوقي (1/ 166)، التاج والإكليل (1/ 534)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 206).

دليل الحنفية على التفريق بين كون السقوط عن برء وبين غيره

أو عن غيره، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: لا تبطل الطهارة مطلقاً، سواء سقطت عن برء، أو عن غيره، وهو اختيار ابن حزم (¬3). دليل الحنفية على التفريق بين كون السقوط عن برء وبين غيره. قالوا: إن الجرح إذا لم يبرأ فالعذر قائم، فلا يجب عليه شيء، وزوال الممسوح لا يبطل المسح إذا كان العذر قائماً، كما لو توضأ وحلق شعره، وإن كان سقوطها عن برء، فقد قدر على الأصل، وهو الغسل، فسقط حكم البدل، وهو المسح، فوجب غسل ذلك الموضع. ويشكل عليه: إن كان سقوط الجبيرة حدثاً، فلا فرق بين كون الجرح قد برئ أم لم يبرأ، وإن لم يكن حدثاً فطهارته تامة حتى لو سقط عن برء، والله أعلم. دليل المالكية على وجوب مسحها أو غسل الموضع مباشرة. قالوا: إن المسح على الجبيرة ناب عن غسل ذلك الموضع، فإذا سقطت الجبيرة انتقضت طهارة ذلك الموضع، فوجب غسله إن كان قد برئ، أو إعادة مسحه إن لم يبرأ، وانظر دليلهم في خلع الخف، فإن الباب واحد عندهم. ¬

(¬1) المجموع (2/ 374)، روضة الطالبين (1/ 108)، فتاوى الرملي (1/ 83) (¬2) الإنصاف (1/ 191، 192)، كشاف القناع (1/ 121)، مطالب أولي النهى (1/ 137)، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/ 259)، المحرر (1/ 13). (¬3) المحلى (1/ 316، 317).

دليل من قال تبطل الطهارة مطلقا

دليل من قال تبطل الطهارة مطلقا. سقنا أدلتهم في مسألة بطلان الطهارة بخلع الخف، فإن الباب عندهم واحد. الراجح أن الطهارة لا تبطل، وليس سقوط اللصقة أو الجبيرة حدثاً، ولا جاء نص بإيجاب الوضوء من ذلك، والوجوب يحتاج إلى دليل، ولا دليل، وهذا الترجيح مبني على القول بالمسح على الجبيرة، وقد رجحت أن القول بالتيمم أقوى.

الفصل الرابع في صفة المسح

الفصل الرابع في صفة المسح

المبحث الأول هل يجب استعياب الجبيرة بالمسح

المبحث الأول هل يجب استعياب الجبيرة بالمسح

دليل من قال بوجوب التعميم

المبحث الأول هل يجب استيعاب الجبيرة بالمسح؟ اختلف العلماء في صفة المسح، فقيل: يمسح أكثر الجبيرة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب استيعاب الجبيرة بالمسح، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأصح الوجهين عند الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يكفي مسح ما يطلق عليه اسم مسح، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5). دليل من قال بوجوب التعميم. الدليل الأول: ظاهر الأحاديث التي جاءت بالمسح على الجبائر، فإنها تفيد التعميم، ومنها حديث صاحب الشجة، وفيه: " إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ". ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 13)، العناية في شرح الهداية (1/ 161، 162)، تبيين الحقائق (1/ 53). (¬2) الخرشي (1/ 200،201)، مواهب الجليل (1/ 362)، حاشية الدسوقي (1/ 163). (¬3) المجموع (1/ 367، 368)، مغني المحتاج (1/ 94)، نهاية المحتاج (1/ 287). (¬4) كشاف القناع (1/ 120)، الإنصاف (1/ 193)، الكافي (1/ 41). (¬5) المجموع (1/ 367، 368).

الدليل الثاني

والحديث ضعيف، وسبق تخريجه. فقوله: " ثم يمسح عليها " ظاهره المسح على جميعها. الدليل الثاني: قالوا: إن مسح الجبيرة مسح ضرورة، فأشبه مسح الوجه واليدين في التيمم في وجوب الاستيعاب. الدليل الثالث: ولأنه لا يشق تعميمها بالمسح، بخلاف الخف فإنه يشق تعميم جميعه. الدليل الرابع: الأصل أنه بدل عن غسل العضو، وإذا كان يجب تعميم العضو بالغسل لو كان صحيحاً، وجب تعميمه بالمسح، وإنما لم نقل ذلك بالخف؛ لأنه جاء الدليل على الاكتفاء بالبعض، وهو خلاف القياس، ولم يأت دليل بالاكتفاء ببعض الجبيرة، فلم تلحق بالخف. دليل الحنفية بالاكتفاء بالأكثر. قالوا: لم يأت في المسح على الجبائر تقدير من جهة الشرع، بل ورد المسح على الجبائر، فظاهره يقتضي الاستيعاب، إلا أن ذلك لا يخلو من حرج ومشقة، فأقيم الأكثر مقام الجميع. دليل من قال يكفي مطلق المسح. قاسوه على الخف، انظر دليلهم في الكلام على صفة مسح الخف. الراجح: وجوب الاستيعاب لو قلنا بالمسح على الجبيرة.

المبحث الثاني إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثا فهل يستحب له أن يمسح ثلاثا

المبحث الثاني إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثاً فهل يستحب له أن يمسح ثلاثاً

المبحث الثاني إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثاً فهل يستحب له أن يمسح ثلاثاً؟ سبق لنا أن تكلمنا عن تكرار المسح على الخفين، وسقنا الخلاف في تكرار المسح عليه، فقيل: لا يسن تكرار المسح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: يكره، وهو مذهب المالكية (¬3) والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يشرع تكراه المسح ثلاثاً قياساً على الغسل، وهو اختيار عطاء (¬5). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 48)، المبسوط (1/ 100)، شرح فتح القدير (1/ 148) وقال: " إن تكرار المسح على الخفين غير مشروع ". وانظر الفتاوى الهندية (1/ 33). (¬2) المجموع (1/ 549)، روضة الطالبين (1/ 130). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 145)، مواهب الجليل (1/ 322)، وحاشية العدوي على الخرشي (1/ 181،182) التاج والإكليل (1/ 472)، الشرح الصغير (1/ 156). والمالكية إنما يكرهون تكرار المسح إذا كان بماء جديد، فإن كان بدون أخذ ماء جديد فلا كراهة عندهم، وقد نص عليه في حاشية الدسوقي (1/ 145)، وإذا جفت يد الماسح أثناء المسح لم يجدد، وكَمُلَ العضو الذي حصل فيه الجفاف. (¬4) مسائل أحمد رواية أبي داود (1/ 16) رقم 53، وانظر الإنصاف (1/ 185)، شرح الزركشي (1/ 404)، حاشية العنقري (1/ 64)، كشاف القناع (1/ 118). (¬5) رواه عبد الرزاق في المصنف عن عطاء بسند صحيح (856)، وانظر الأوسط (1/ 456).

وأظن الخلاف في تكرار المسح على الجبيرة كالخلاف في الخف؛ بجامع أن كلاً منهما مسح على حائل. قال في مواهب الجليل: " إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل في الوضوء ثلاثاً، فإنه يمسح عليه مرة واحدة، لا ثلاثاً، قاله عبد الحق في النكت، قال: ودليله المسح على الخفين، إنما يمسح مرة واحدة، وهو بدل عن مغسول ثلاثاً؛ وذلك لأن شأن المسح التخفيف " (¬1). ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 361).

الخاتمة

الخاتمة بعد نهاية التطواف في أحكام المسح على الخفين والعمامة والجبيرة نخرج من هذا البحث بفوائد منها: الفائدة الأولى: أن جل مسائل أحكام المسح على الخفين نجد أن قول الجمهور فيها خلاف القول الراجح، مما يؤكد لطالب العلم أن الكثرة لا تدل على الإصابة، فكم من قول تبناه الجمهور، وهو قول ضعيف من جهة الأثر والنظر، فينبغي لطالب العلم أن يكون نظره في الدليل، وفي الدليل فقط ولا ينظر من قال به، وكنت أزعم أن طالب العلم لو جمع في أحكام العبادات ما خالف فيها الجمهور القول الراجح لخرج من ذلك بمجلد كبير، بل مجلدات. الفائدة الثانية: أن مسائل الإجماع في هذا الباب قليلة جداً، وذلك لأن أصل الباب، وهو المسح على الخفين أنكره بعض السلف، وبعضهم ادعى أنه منسوخ بآية المائدة. الفائدة الثالثة: أكثر شروط المسح على الخفين لا دليل عليها من الأثر، ولا من النظر الصحيح. الفائدة الرابعة: كثرة الأحاديث في المسح على الخفين، بل إن الأحاديث الواردة في المسح على الخفين أعظم بكثير من أحاديث الحيض والاستحاضة والنفاس، وأكثر من أحاديث التيمم، مع أن هذين البابين أهم بكثير من المسح على الخفين، كل ذلك من أجل توكيد المسح على الخفين، ورفع الريبة في حكمهما، والله أعلم. الفائدة الخامسة: ما رجحته في مباحث هذا الكتاب كالتالي

رجحت جواز المسح على الخفين والجوربين والنعل والعمامة والخمار، كما ملت إلى ترجيح الغسل على المسح من بعض الوجوه. كما رجحت أن المسح على الخفين رافع للحدث. وأن من به حدث دائم يحق له المسح كغيره. وأنه يجوز المسح على الخف المتنجس في استباحة مس المصحف ونحوه مما لا تشترط له الطهارة من النجس، بخلاف الصلاة، فإن يجب عليه أن يكون طاهراً في بدنه وثوبه وبقعته، والله أعلم. ورجحت المسح على الخف المحرم، سواء كان التحريم لحق الله أم لحق الآدمي، وذلك لأن التحريم عائد على أمر خارج عن المسح. كما رجحت جواز المسح على الخف المخرق، سواء كان الخرق يسيراً أم كبيراً ما دام يمكن له أن يلبسه، وينتفع به. كما رجحت جواز المسح على الجوارب التي تصف البشرة لرقتها، وأنه لا يوجد دليل على اشتراط أن يكون الجورب صفيقاً. كما بينت ضعف مذهب المالكية في اشتراط كون الخف من جلد. ورجحت أن يكون لبسه للخف على طهارة مائية، فلو تيمم، ولبس الخف، فإذا وجد الماء وجب خلع الخف، لعود الحدث السابق للبدن. كما رجحت جواز لبس الخف بعد طهارة إحدى القدمين، وأنه لايشترط أن تكون القدمان كلاهما طاهرتين، وإن كان الأحوط مراعاة ذلك. والمسح على الحائل لا مجال للقياس فيه، فلا يمسح إلا ما ورد به النص من خف وجورب وعمامة، فلا يجوز أن يمسح على القفازين، ولا

على ما تطلي به المرأة أظفارها، ونحو ذلك. كما رجحت بأن النية شرط في المسح على الخفين. وأما صفة المسح فيكفي مسح أكثر ظاهر الخف، وأكره غسل الخف بدلاً من مسحه، ولا يشرع تكرار المسح على الخفين، وأن يبدأ باليمنى حال المسح، وإن بدأ بهما معاً فلا حرج، وأن ابتداء المدة من أول مسح بعد الحدث، وأن الراجح في المسح على الخفين بأنه عبادة مؤقتة، يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ورجحت جواز لبس الخف على الخف، وإذا مسح خفاً تعلق الحكم به، فإذا خلعه، ثم أعاده، لم يمسح عليه إلا إن لبسه على طهارة مائية، ولا تنتقض الطهارة بمجرد خلع الخف. ورجحت جواز المسح على العمامة، وعلى خمار المرأة، وعلى القلانس، وأن المسح على العمامة لا يتشرط أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة، ولا يشترط لبس العمامة على طهارة، ومسحها غير مؤقت على الصحيح، وإذا خلع العمامة لم تبطل طهارته، ولا يشترط استيعاب العمامة بالمسح. وفي المسح على الجبيرة رجحت أن المسح لم يرد في نص مرفوع مع كثرة ما يصيب المسلمين من جراح، وهم أهل جهاد، فلو كان مشروعاً لجاء ما يبين هذا الحكم، خاصة أنه يتعلق بأعظم العبادات العملية، وهي الصلاة، وأن المشروع هو التيمم، لأنه نوع من المرض، والله أعلم. وهذه المسائل التي رجحتها لا تعدو أن يكون فهماً معرضاً للخطأ والصواب، والتقصير والقصور، وهذا الفهم قد توافقني عليه، وقد تخالفني، ولا يكلف الإنسان إلا بما ظهر له، فإن أصاب فله أجران، وإلا كان له أجر، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى حيث لم يحرم المجتهد إذا أخطا من

الأجر، فهو على النصف من أجر المصيب، وما على الإنسان إلا أن يستفرغ وسعه في البحث والتحري للقول الراجح، وأن يبذل ما يستطيع في فهم النصوص، وأن يتحرى العدل والإنصاف، وأن يكون كالقاضي بين الخصوم، ينظر في حجة كل قول، ويتحرى أقربها للحق والعدل، وأن يبتعد عن التقليد الأعمى، فما وهنت الأمة، ولا ذلت، إلا بتركها الجهاد والاجتهاد في دينها، ففي الجهاد كمال القوة، وفي الاجتهاد كمال العلم والمعرفة. قال سبحانه وتعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}. وفي الختام أسأل الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته وكرمه وعفوه أن يتجاوز عني، وأن يغفر لي ذنبي كله، وأن يسددني في القول والعمل، وأن يجعل ما علمنا حجة لنا لا علينا، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. تمت

[الحيض والنفاس]

تمهيد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ولقد قال الدارمي رحمه الله: "الحيض كتاب ضائع لم يصنف فيه تصنيف يقوم بحقه" (¬4). ¬

_ (¬1) آل عمران: 102. (¬2) النساء: 1. (¬3) الأحزاب: 70، 71. (¬4) المجموع (2/ 180).

وقال النووي: "اعلم بأن باب الحيض من عويص الأبواب، ومما غلط فيه كثيرون من الكبار لدقة مسائله، واعتنى به المحققون، وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة". وقال أيضاً: "وقد رأيت ما لا يحصى من المرات، من يسأل من الرجال والنساء عن مسائل دقيقة وقعت فيه، لا يهتدى إلى الجواب الصحيح فيها إلا أفراد من الحذاق المعتنين بباب الحيض" (¬1). وقال ابن نجيم: "معرفة مسائل الحيض من أعظم المهمات، لما يترتب عليها ما لا يحصى من الأحكام، كالطهارة، والصلاة، وقراءة القرآن، والصوم، والاعتكاف، والحج، والبلوغ، والوطء، والطلاق، والعدة، والاستبراء وغير ذلك من الأحكام. وكان من أعظم الواجبات، لأن عظم منزلة العلم بالشيء، بحسب منزلة ضرر الجهل به: وضرر الجهل بمسائل الحيض أشد من ضرر الجهل بغيرها" (¬2). وترجع صعوبة الحيض لأمور منها: الأول: كون الحيض مما يختص به النساء. ويتعذر على الفقيه الوقوف على طبيعة الحيض بالحس والمشاهدة. الثاني: تكلف الفقهاء في تقعيد قواعد مرجوحة لا دليل عليها، ثم رد ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 180). (¬2) البحر الرائق (1/ 199)، ولعله يقصد بالنسبة للأحكام الفقهية، وإلا فضرر الجهل بمسائل الاعتقاد أشد من غيرها. والله أعلم.

مسائل الحيض المختلفة إلى تلك القواعد المرجوحة، مما زاد الموضوع تشعباً وتعقيداً. وقد أحسن الشوكاني حين قال: "وقد أطال المصنفون في الفقه الكلام في المستحاضة، واضطربت أقوالهم اضطراباً يبعد فهمه على أذكياء الطلبة، فما ظنك بالنساء الموصوفات بالعي فى البيان، والنقص فى الأديان وبالغوا في التعسير حتى جاءوا بمسألة المتحيرة فتحيروا، والأحاديث الصحيحة قد قضت بعدم وجودها" اهـ (¬1). والملاحظ أن أحاديث الحيض أحاديث معدودة كلها تدل على يسره وسهولته، ولو كانت أحكام الحيض متشعبة كما يراه الفقهاء لكثرت الأحاديث التي تبين أحكامه بياناً تقوم به الحجة، وتفهمه عامة النساء. الثالث: تناول المرأة حبوباً فى منع الدورة والحمل مما قد يسبب اضطراباً في عادتها يصعب أحياناً ردها إلى كلام أهل العلم. ويتحير في أمرها طالب العلم. الرابع: عدم تحكيم السنن الواردة في الحيض، ومعارضتها بأقوال الرجال والتكلف فى صرفها عن ظاهرها. الخامس: قلة الكتب الطبية المتخصصة من الأطباء الموثوق بهم والتي يستعين بها الفقيه على فهم طبيعة الحيض، وتنزيل الأحكام الشرعية بناء على فهمها. ¬

_ (¬1) النيل (1/ 335) ح 368.

منهجي في ذكر الأدلة

وقد كانت أحكام الحيض موضوع اهتمامي ضمن مشروع فقهي مقارن بلغ أحكام الطهارة منه ثلاثة عشر مجلداً، وحين رأيت أن الكتب المتخصصة في أحكام الحيض نادرة، وأكثرها يقع ضمن كتب الفقه أو شروح أحاديث الصحاح والسنن رأيت أن أكتب رسالة فى أحكام الحيض تجمع بين أقوال الفقهاء، وبين أدلة المحدثين، وتعتمد من الأقوال على أرجحها، دون تقيد بمذهب معين وتتناول الأحاديث على قواعد المحدثين، ليتبين الصحيح منها من الضعيف وقد سلكت في هذه الرسالة المنهج التالي: منهجي في ذكر الأدلة: أولاً: بالنسبة للأحاديث قمت بدراستها، وتخريجها، والكلام عليها صحة وضعفاً، ولم أكتف بدراسة الأسانيد، بل صرفت عناية كبيرة لدراسة المتون، وسقت الاختلاف على الرواة في ألفاظها، وبيان الراجح منها والمرجوح، ولقد حَكَّمت في الزيادات الواردة فى بعض الأحادث منهج جمهور المحدثين، ولم أقبل منهج جمهور الفقهاء والأصوليين، والمتأخرين من المحدثين الذين يقبلون كل زيادة تأتي من صدوق أو ثقة ما دام أن الزيادة ليست منافية لرواية الباقين. ولهذا المنهج ضعفت كثيراً من أحاديث الاستحاضة، وقد أكون بتضعيفي هذا خالفت من سبقني إلى هذا العلم العزيز، وممن هو في سن مشايخي، وأعلم مني، ولكن الحق قد يدركه المفضول ويغيب عن الفاضل. وحسبي أني قد ذكرت حجتي، وهذا مبلغ علمي، واستفراغ وسعي، ولأن أخطئ في اجتهاد معذور فيه، أحب إليَّ من أن أصيب في تقليدٍ ألام عليه.

ولم أذكر في هذا البحث، ولا في غيره خطأ عالم من العلماء المعاصرين، سواء كان في سن مشايخي، أو كان من أقراني، وسواء في المسائل الفقهية، أو البحوث الحديثية، ولا أرى أنه يسوغ لطالب العلم أن يسود صفحات كتابه بجمع أخطاء العلماء وإبرازها، وتنقصهم لذلك في مسائل يسوغ فيها الاختلاف، وأعني بالعلماء العلماء السلفيين من أهل السنة والجماعة. ولا أقصد بهم أهل البدع والضلال. ثانياً: إذا كان فى المسألة أحاديث مرفوعة، اكتفيت بها عن ذكر آثار الصحابة فإن لم يكن هناك أحاديث حرصت على ذكر آثار الصحابة رضي الله عنهم، وتكلمت عليها صحة وضعفاً، فإن لم يكن في المسألة أقوال للصحابة، ربما ذكرت أقوال التابعين، وأقوال التابعين لا أسوقها في معرض الاحتجاج بخلاف أقوال الصحابة. ثالثاً: بالنسبة لأدلة المذاهب تارة أنقلها من كتبهم، وتارة أستدل بها لهم وإن لم يذكروها من ضمن أدلتهم. فكل شيء أراه صالحاً بأن يكون دليلاً للقول أذكره، وإن لم يستدل به أهله. رابعاً: أعطيت حكماً مختصراً على الحديث، ليكتفي به غير المتخصص وجعلته في صلب الكتاب، وأما تخريج الحديث فجعلته في حاشية الكتاب حتى يمكن طيه ممن لا يريد قراءته. خامساً: إذا كان الحديث في الصحيحين، أو في أحدهما اكتفيت به، إلا أن تكون هناك حاجة كأن أكون مضطراً لبيان زيادة، وأريد أن أدلل على كونها

منهجي في ذكر أقوال العلماء.

محفوظة أو شاذة. سادساً: قمت بترقيم الأحاديث والآثار. منهجي في ذكر أقوال العلماء. أولاً: حررت أقوال الفقهاء، خاصة الأئمة الأربعة من أمهات كتبهم المعتمدة، والتي تعتبر مرجعاً في تحرير مذهبهم، ولم أنقل قط من كتب الحنابلة مذهب الشافعية أو العكس، طلباً للدقة في نسبة الأقوال وتحرير المذاهب. ثانياً: إذا كان فى المذهب الواحد أكثر من قول لأصحابه، اخترت المشهور من المذهب، وأما بقية الأقوال في المذهب، فإن كانت هذه الأقوال توافق مذهباً من مذاهب الأئمة اكتفيت بمذهب هذا الإمام عن ذكرها، وإن كانت لا توافق ذكرتها تحرياً فى حصر الأقوال في المسألة قدر الإمكان. ثالثاً: أذكر الأقوال حسب ترتيبها الزمني، خاصة بالنسبة للمذاهب الأربعة، بصرف النظر عن الراجح منها. رابعاً: أحياناً أذكر أقوال بعض المحققين كابن حزم من الظاهرية وابن تيمية، وابن القيم من الحنابلة، والشوكاني من المتأخرين وغيرهم. خامساً: لا أرى الحق محصوراً في المذاهب الأربعة، ولهذا قد أرجح في بعض المسائل خلاف قول الجمهور، ولو جمع طالب العلم المسائل التي خالف فيها الجمهور القول الراجح في العبادات فقط لجاء مجلداً ضخماً، بل ربما مجلدات. ولا يعني هذا القول بأني أدعو إلى الاعتماد اعتماداً كلياً على كتب السنة

وعدم الاستفادة من أقوال الأئمة؛ فإن كتبهم ومؤلفاتهم من أعظم الأسباب التي تعين طالب العلم على فهم الأدلة الشرعية، ومراد الشارع منها، وبيان المخصص، والمقيد للأدلة العامة والمطلقة، ومنهجي في هذا البحث شاهد على ما أقول، ولكني في الوقت نفسه لا أرى الاكتفاء بكتب الفقه، والاقتصار على المتون، وعدم النظر في كتب السنة، وترك العناية في البحث فيها، وبيان صحيحها من ضعيفها. ولقد أحسن الخطابي في مقدمة معالم السنن حيث قال: "رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا على حزبين، وانقسموا إلى فريقين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع. وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب. ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه - إخواناً متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين. فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الحديث والأثر، فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات، وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذى أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا

يستنبطون سيرها ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون. وأما الطبقة الأخرى - وهم أهل الفقه والنظر - فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آرائهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف، والحديث المنقطع، إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبت فيه، أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي، وغبناً فيه، وهؤلاء - وفقنا الله وإياهم - لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم، وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاد من قبل نفسه، طلبوا فيه الثقة، واستبرؤوا فيه العهدة، فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم، والأشهب، وضربائهم من تلاد أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلاً. وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية إلا ما حكاه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والعلة من أصحابه، والأجلة من تلاميذه، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه.

وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني، والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها، ولم يعتدوا بها في أقاويله. وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأستاذيهم، فإذا كان هذا دأبهم، وكانوا لا يقتنعون في أمر هذه الفروع ورواياتها عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والثبت، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم، والخطب الأعظم؟ وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة، ورسول رب العزة، الواجب حكمه، اللازمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه، والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجاً مما قضاه، ولا في صدورنا إلا من شيء مما أبرمه وأمضاه" (¬1). إلى آخر كلامه رحمه الله، وهو كلام نفيس نقلته رغم طوله، وهو يدل على أن أهل الحديث لا غنى لهم عن الفقه، وكذلك العكس، لذا حاولت في هذه الرسالة أن أجمع بين أقوال الفقهاء، وبين أدلة المحدثين. سادساً: حاولت قدر الإمكان أن أقر بعض الكتب الطبية في الحيض والنفاس، خاصة في تلك المسائل التي هي محل خلاف بين الفقهاء، ومردها إلى الأطباء، وذلك مثل نحو حيض الحامل، وتخلق الجنين، وتكرار الحيض في الشهر أكثر من مرة ونحوها، وقد رجعت عن اختياري في بعض المسائل حين ¬

_ (¬1) معالم السنن (1/ 5).

اطلعت على كتب الطب، ومن أَهم الكتب الطبية التي رجعت إليها مجموعة من مؤلفات الدكتور: محمد علي البار. خاصة كتابيه: خلق الأنسان بين الطب والقرآن. والجنين المشوه، والأمراض الوراثية. ومنها كتاب الإنسان هذا الكائن العجيب. للدكتور تاج الدين الجاعوني. في ثلاثة أجزاء ومنها كتاب الآيات العجاب في رحلة الإنجاب. د. حامد أحمد حامد. ومنها كتاب روعة الخلق. ترجمة ماجد طيفور. ومنها كتاب 100 سؤال وجواب في النساء والولادة للدكتورة سلوى بهكلي. ومنها كتاب: أبحاث فقهية فى قضايا طبية معاصرة. د محمد نعيم ياسين. ومنها كتب فقهية اعتنت بنقل كلام الأطباء، مثل كتاب الحيض والنفاس بين الفقه والطب. د. عمر الأشقر، والمرأة الحامل في الشريعة الإسلامية ليحيى بن عبد الرحمن الخطيب.

خطة البحث في هذا الكتاب

خطة البحث في هذا الكتاب: يشتمل الكتاب على مقدمة، وخاتمة، وعلى ثمانية أبواب، ويشتمل كل باب منها على فصول، والفصول على مباحث وفروع ومسائل، على النحو التالي: المقدمة: وتشتمل على مباحث: المبحث الأول: تعريف الحيض. المبحث الثاني: أسماء الحيض. المبحث الثالث: خلاف العلماء في تاريخ الحيض. المبحث الرابع: الحيض دليل على بلوغ المرأة. الباب الأول: في أحكام الحيض من حيث وقته ومقداره. ويشتمل على تسعة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء فى السن الذي تحيض به المرأة. الفصل الثاني: الخلاف في منتهى سن الحيض عند النساء. الفصل الثالث: هل الحمل زمن صالح للحيض. الفصل الرابع: خلاف العلماء في أقل الحيض. الفصل الخامس: خلاف العلماء في أكثر الحيض. الفصل السادس: خلاف العلماء في غالب الحيض. الفصل السابع: خلاف العلماء في أقل الطهر. الفصل الثامن: القول في أكثر الطهر. الفصل التاسع: القول في غالب الطهر.

الباب الثاني: في المبتدأة. ويشمل على فصلين: الفصل الأول: في حكم المبتدأة. وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم المبتدأة التي انقطع دمها لأكثر الحيض فما دون. المبحث الثاني: حكم المبتدأة الذي عبر دمها أكثر الحيض. الفصل الثاني: متى تثبت للمبتدأة عادة. الباب الثالث: في الطوارئ على الحيض. ويشتمل على ستة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء في المرأة إذا زاد الدم على عادتها. الفصل الثاني: خلاف العلماء في المرأة إذا طهرت قبل تمام عادتها. الفصل الثالث: كلام أهل العلم في انتقال عادة المرأة بأن تقدمت أو تأخرت. الفصل الرابع: في النقاء المتخلل بين الدمين. الفصل الخامس: خلاف العلماء في الصفرة والكدرة. الفصل السادس: في تعاطي المرأة أدوية ترفع الحيض أو تستعجل نزوله.

الباب الرابع: في طهارة الحائض. ويشتمل على ثلاثة فصول، وسبعة مباحث، وتسعة فروع، وستة مسائل. الفصل الأول: في طهارة عرق الحائض، وسؤرها، ومخالطتها، وطهارة ثيابها. الفصل الثاني: في طهارة الحائض من الحدث. ويشتمل على مباحث: المبحث الأول: في حكم غسل المرأة من الحيض. المبحث الثاني: خلاف العلماء في الموجب للغسل. المبحث الثالث: في صفة الغسل من المحيض. وفيه فروع: الفرع الأول: خلاف العلماء في حكم النية. الفرع الثاني: هل تشرع التسمية في غسل المحيض؟ الفرع الثالث: وفي وضوء الغسل. وفيه مسائل: المسألة الأولى: حكم الوضوء. المسألة الثانية: محل الوضوء، هل يكون قبل الاغتسال أو بعده. المسألة الثالثة: هل يغسل أعضاء الوضوء مرة ثانية في الاغتسال، أم يكفي فيها الوضوء؟ المسألة الرابعة: حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل إذا لم يتوضأ. المسألة الخامسة: هل يمسح رأسه في هذا الوضوء، أم يكتفي بغسله؟ المسألة السادسة: هل يشرع للمرأة في الوضوء التثليث، أم المشروع في

الوضوء أن يكون مرة؟ الفرع الرابع: هل تنقض المرأة رأسها في غسل المحيض؟ الفرع الخامس: في المسترسل من الشعر، هل يجب غسل ظاهره وباطنه؟ الفرع السادس: في غسل البدن، وهل يغسل ثلاثاً؟ الفرع السابع: هل يكون غسل الرجلين، فى الوضوء، أو يغسلهما إذا فرغ من الغسل؟ الفرع الثامن: الفرق بين غسل الجنابة، وغسل الحيض. الفرع التاسع: في ذكر صفة الغسل من الحيض الكامل والمجزئ بإيجاز. الفصل الثالث: في طهارة الحائض من دم الحيض. المبحث الأول: فى نجاسة دم الحيض. المبحث الثاني: هل يتعين الماء في إزلة دم الحيض؟ المبحث الثالث: هل يجب عدد معين في غسل دم الحيض؟ المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض. الباب الخامس: فيما يتعلق بالحائض من أحكام العبادات. ويشتمل على خمسة فصول. الفصل الأول: فى الحائض، وتعبدها بكتاب الله. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في قراءة القرآن للحائض. المبحث الثاني: في مس الحائض المصحف.

المبحث الثالث: الحائض هل تسجد للتلاوة والشكر؟ الفصل الثاني: فى أحكام الحيض من حيث الصلاة. ويشتمل على سبعة مباحث: المبحث الأول: يحرم على الحائض فعل الصلاة، ولا يستحب لها القضاء. المبحث الثاني: هل يستحب للحائض أن تتوضأ وقت الصلاة، وتجلس في مصلاها تذكر الله مقدار الصلاة؟ المبحث الثالث: هل تثاب الحائض على ترك الصلاة؟ المبحث الرابع: هل يستحب للحائض قضاء الصلاة، أو هل يباح؟ المبحث الخامس: إذا حاضت المرأة في وقت الصلاة، وقبل أن تصلي، فهل يجب عليها قضاء تلك الصلاة إذا طهرت؟ المبحث السادس: في طهر المرأة من الحيض قبل خروج وقت الصلاة. المبحث السابع: هل تحصيل الطهارة شرط في إدراك الوقت؟ الفصل الثالث: في أحكام الحيض من حيث الصوم. ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: يحرم على الحائض فعل الصوم، ويجب عليها القضاء. المبحث الثاني: إذا طهرت الحائض في نهار رمضان، فهل يلزمها الإمساك بقية النهار؟ المبحث الثالث: في المرأة تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح.

المبحث الرابع: إذا أفطرت المرأة بالجماع، ثم نزل الحيض، هل تسقط الكفارة؟ الفصل الرابع: في أحكام الحيض من حيث المسجد. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في خلاف العلماء في مكث الحائض في المسجد. المبحث الثاني: في مرور الحائض في المسجد بلا مكث. المبحث الثالث: في اعتكاف الحائض. فرع: إذا حاضت المرأة وهي معتكفة. الفصل الخامس: في أحكام الحيض من حيث المناسك. ويشتمل على ثمانية مباحث: المبحث الأول: فى إحرام الحائض والنفساء. المبحث الثاني: خلاف العلماء فى اشتراط الطهارة للطواف. المبحث الثالث: في المرأة إذا اضطرت للطواف، وهي حائضة المبحث الرابع: هل للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة؟ المبحث الخامس: في المرأة المتمتعة إذا حاضت قبل طواف العمرة وخشيت فوات الحج. المبحث السادس: في سقوط طواف الوداع عن الحائض. المبحث السابع: إذا نفرت الحائض قبل طواف الوداع، وطهرت قبل مفارقة البنيان.

المبحث الثامن: في طواف المستحاضة. الباب السادس: في أحكام الحائض من حيث العلاقات الزوجية. ويشتمل على فصول: الفصل الأول: تحريم وطء الحائض في فرجها. الفصل الثاني: خلاف العلماء فى مباشرة الحائض فيما بين السرة والركبة. الفصل الثالث: إذا جامع الرجل امرأته وهي حائض هل عليه كفارة؟ وفيه فروع: الفرع الأول: هل يكفر من استحل جماع الحائض في فرجها؟ الفرع الثاني: هل جماع المرأة في حال الحيض من كبائر الذنوب، أم يعد من الصغائر؟ الفرع الثالث: إذا قيل بوجوب الكفارة على من أتى امرأته وهي حائض فهل تجب على الجاهل والناسي؟ الفرع الرابع: إذا قلنا بوجوب نصف الدينار فهل تخرج القيمة؟ الفرع الخامس: هل تلزم المرأة كفارة؟ الفصل الرابع: في حكم طلاق الحائض وهل يقع؟ الفصل الخامس: في حكم الخلع في زمن الحيض. الفصل السادس: خلاف العلماء في خلع الحائض. الباب السابع: في أحكام الاستحاضة. ويشتمل على سبعة فصول، وعشرة مباحث، وأربعة فروع.

تمهيد: ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في تعريف الاستحاضة المبحث الثاني: في الفرق بين دم الحيض والاستحاضة الفصل الأول: في حكم المستحاضة إذا كانت مبتدأة ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: تعريف المبتدأة، ومتى تكون مستحاضة؟ المبحث الثاني: خلاف العلماء فى المستحاضة المبتدأة ويشتمل على فرعين: الفرع الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة إذا كانت مميزة. الفرع الثاني: خلاف العلماء فى المستحاضة المبتدأة إذا كانت غير مميزة. الفصل الثاني: خلاف العلماء فى تقدير طهر المستحاضة. الفصل الثالث: فى المستحاضة المعتادة ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في خلاف العلماء فى المستحاضة المعتادة المميزة المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المعتادة غير المميزة الفصل الرابع: في المرأة المستحاضة المتحيرة ويشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: خلاف العلماء فى المستحاضة المتحيرة بالعدد. المبحث الثاني: خلاف العلماء فى المستحاضة المتحيرة بالوقت. المبحث الثالث: خلاف العلماء في المتحيرة بالعدد والوقت. الفصل الخامس: في طهارة المستحاضة ويشتمل على المبحث الأول: خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة. الفرع الأول: وجوب غسل فرج المستحاضة عند الوضوء. الفرع الثاني: شد عصابة الفرج عند الوضوء. الفصل السادس: خلاف العلماء فى وجوب الغسل على المستحاضة الفصل السابع: خلاف العلماء في وطء المستحاضة. الباب الثامن: في أحكام النفاس ويشتمل على تمهيد، وإحدى عشر فصلاً، وثلاثة مباحث، وثلاثة فروع. التمهيد: في تعريف النفاس لغة واصطلاحاً. الفصل الأول: بأي شيء يثبت حكم النفاس الفصل الثاني: فى أحكام السقط. ويشتمل على: المبحث الأول: في أسباب السقط. المبحث الثاني: في الحكم التكليفي للإسقاط.

ويشتمل على: الفرع الأول: في إسقاط الجنين بعد نفخ الروح. الفرع الثاني: حكم الإسقاط قبل نفخ الروح الفرع الثالث: في حكم الإسقاط للضرورة بعد نفخ الروح. المبحث الثالث: متى يبدأ الجنين بالتخلق؟ الفصل الثالث: في خلاف العلماء في الدم مع الولادة. الفصل الرابع: في خلاف العلماء في الدم التي تراه الحامل قبل الولادة. الفصل الخامس: في النقاء المتخلل بين الدمين. الفصل السادس: إذا ولدت المرأة ولم تر دماً الفصل السابع: في جماع النفساء إذا طهرت قبل الأربعين. الفصل الثامن: خلاف العلماء فى أقل النفاس. الفصل التاسع: في خلاف العلماء فى أكثر النفاس. الفصل العاشر: إذا وضعت المرأة توأمين فالنفاس من أيهما؟ الفصل الحادي عشر: في الأحكام المترتبة على النفاس. الخاتمة: وتشتمل على نتائج البحث. هذا وأسأل الله العظيم أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله من عملي الذي لا ينقطع بموتي، وأن يكتب له القبول. وإن هذا الكتاب كما أسلفت كتاب من سلسة بحوث فقهية، وإني أتمنى على علمائنا، ومشايخنا، وطلاب العلم أن يمدونني باقتراحاتهم حول منهج

الكتاب حتى يستفاد منها في الكتب اللاحقة إن شاء الله تعالى، ولكم مني دعوة في ظهر الغيب. كما لا أنسى أن أشكر كل من قرأ الكتاب، وأمدني بملحوظاته وتصويباته، جعل الله ذلك في ميزان حسناتهم، ونفع الله بعلمهم. كتبه أبو عمر الدبيان

المقدمة

المقدمة وتشتمل على: المبحث الأول: تعريف الحيض. المبحث الثاني: أسماء الحيض. المبحث الثالث: خلاف العلماء في تاريخ الحيض. المبحث الرابع: الحيض دليل على بلوغ المرأة.

المبحث الأول: تعريف الحيض

المبحث الأول: تعريف الحيض تعريف الحيض لغة: جاء في اللسان، وفي تاج العروس: "حاضت المرأة تحيض، حيضاً، ومحيضاً فهي حائض، والمحيض يكون اسماً ويكون مصدراً. وقال المبرد: سمي الحيض حيضاً، من قولهم: حاض السيل إذا فاض. وجمع الحائض: حوائض وحُيَّض. والحيضة: المرة الواحدة من دفع الحيض ونوبه. والحِيضَه بالكسر الاسم. وقيل: الدم نفسه، وفي حديث أم سلمة: "ليست حيضتك في يدك" (¬1). وقيل: الحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض، كالجلسة والقعدة. وتحيضت المرأة: تركت الصلاة أيام حيضها. وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للمرأة: "تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً" (¬2). أي عدى نفسك حائضاً، وافعلي ما تفعل الحائض. ¬

_ (¬1) الحديث ورد من مسند عائشة في مسلم (298)، ومن مسند أبي هريرة في مسلم أيضاً (299)، ومن مسند ابن عمر عند أحمد (2/ 70، 86)، ومن مسند أم أيمن عند الطبراني في المعجم الكبير (25/ 87) ح 224، 225، ولم أقف عليه من حديث أم سلمة. والله أعلم (¬2) انظر تخريجه رقم 456

وتحيضت المرأة: إذا قعدت أيام حيضتها تنتظر انقطاعه. ويقال: تحيضت: شبهت نفسها بالحائض. والحِيضَة: الخرقة التي تستثفر بها المرأة. قالت عائشة رضي الله عنها: "ليتني كنت حيضة ملقاة" وكذلك المَحِيضة، والجمع: المحايض وفي حديث بئر بضاعة: "تلقي فيها المحايض" (¬1). وحاضت: بلغت سن المحيض. ومنه الحديث: "لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار" (¬2). ويقال: حائض. وهل يقال: حائضة؟ قال ابن منظور: الأصل أن الهاء إنما للحق للفرق بين المذكر والمؤنث. وأما ما لا يكون للمذكر فقد استغنى فيه عن علامة التأنيث فإذا قيل: امرأة حامل: فهذا نعت لا يكون إلا للمؤنث، وأما إذا حملت المرأة شيئاً على ظهرها فهي حاملة لا غير، لأنه يشترك فيه المذكر والمؤنث. هذا قول أهل الكوفة، وأما أهل البصرة، فإنهم يقولون: هذا غير مستمر، لأن العرب قالت: رجل أيم، وامرأة أيم، ورجل عانس وامرأة عانس. اهـ. وحكى الجوهري: حاضت فهي حائضة، وأنشد: كحائضة يزنى بها غير طاهر. اهـ. بتصرف (¬3). ¬

_ (¬1) اللسان (7/ 142)، وتاج العروس (10/ 44). (¬2) انظر تخريجه رقم (10). (¬3) اللسان (11/ 177).

تعريف الحيض اصطلاحا

تعريف الحيض اصطلاحاً: لا يمكن أن نقدم تعريفاً للحيض يكون محل اتفاق بين الفقهاء، لاختلافهم فى اشتراط بعض الأوصاف، فبعضهم يرى أن الحامل قد تحيض، وبعضهم لا يراه حيضاً، وبعضهم يرى أن الدم قبل تسع سنوات حيض، وبعضهم يراه دم فساد. لذا سأقتصر على تعريف واحد للحيض لكل مذهب من المذاهب وسأحاول اختيار أتمها وأشملها ما أمكن. تعريف الحنفية: الحيض: دم ينفضه رحم امرأة سليمة عن داء وصغر (¬1). قال ابن الهمام: "فقيد (الرحم): يخرج دم الاستحاضة، والجراح". (والسليمة من الداء): يخرج النفاس، لأن النفاس في حكم المريضة ولذا اعتبر تبرعاتها من الثلث (¬2). قلت: ولفظ (الصغر): يخرج الدم الذي تراه صغيرة لا يمكن أن تحيض؛ فإنه دم فساد. وقد اعترض على هذا التعريف باعتراضات، لا داعي لذكرها؛ لأنه لا طائل من ورائها. ¬

_ (¬1) انظر: البحر الرائق (1/ 199)، شرح فتح القدير (1/ 160) تبيين الحقائق للزيلعي (1/ 54) البناية للعيني (1/ 612). (¬2) شرح فتح القدير (1/ 160).

تعريف المالكية

تعريف المالكية: عرف الحيض ابن جزي من المالكية، فقال: "هو الدم الخارج من فرج المرأة، التي يمكن حملها عادة، من غير ولادة ولا مرض، ولا زيادة على الأمد" (¬1). فقوله: (الخارج من فرج المرأة): خرج به الدم الخارج من الدبر. وقوله: (التي يمكن حملها): خرج بذلك الصغيرة جداً التي لا يمكن أن تحيض. وقوله: (من غير ولادة): خرج بذلك دم النفاس. وقوله: (ولا مرض): أخرج دم النزيف وشبهه. وقوله: (ولا زيادة على الأمد): خرج بذلك دم الاستحاضة (¬2). تعريف الشافعية: قال في مغنى المحتاج: "هو الخارج من فرج المرأة على سبيل الصحة، من غير سبب الولادة في أوقات معلومة" (¬3). ¬

_ (¬1) القوانين الفقهية (ص: 31). (¬2) انظر: تعريفات أخرى للمالكية، مواهب الجليل (1/ 367)، منح الجليل (1/ 165)، الشرح الصغير (1/ 207)، الشرح الكبير (1/ 167)، أسهل المدارك (1/ 65)، المقدمات (1/ 124). (¬3) مغني المحتاج (1/ 108)، وانظر: تعريفات أخرى نهاية المحتاج (1/ 323)، الحاوي الكبير (1/ 378)، المجموع (2/ 378).

تعريف الحنابلة

تعريف الحنابلة: قال البهوتي: "دم طبيعة وجبلة، يرخيه الرحم، يعتاد أنثى إذا بلغت، في أوقات معلومة" (¬1). فزاد على تعريف الشافعية كونه من علامات البلوغ، وعليه فتعريف البهوتي يكاد يكون أكمل التعريفات. فقوله: (دم جبلة وطبيعة): أي خلقة كتبه الله على بنات آدم. فخرج بذلك دم الاستحاضة، والنزيف؛ فإنه دم مرض. وقوله: (ترخيه الرحم): قال الفقهاء المراد به قعر الرحم، فخرج بذلك ما يخرج من أدنى الرحم كالاستحاضة. وقوله: (يعتاد أنثى): إشارة إلى أنه ليس بدم فساد، بل خلقه الله لحكمة غذاء الولد وتربيته. وقوله: (إذا بلغت): إشارة إلى أن دم الحيض علامة من علامات البلوغ، كما جاء في حديث عائشة مرفوعاً (لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار) وسيأتي تخريجه، إن شاء الله تعالى (¬2). وقوله: (في أيام معلومة): إشارة إلى أن دم الحيض لا يكون مستمراً ¬

_ (¬1) شرح منتهى الإرادات (1/ 110). (¬2) انظر: رقم (10).

بخلاف الاستحاضة فقد يستمر مع المرأة سنوات (¬1). هذا ما تيسر لي جمعه في تعريف الحيض، والتوسع في التعريف غير محمود. ¬

_ (¬1) انظر: المبدع شرح المقنع (1/ 258)، كشاف القناع (1/ 196).

المبحث الثاني في أسماء الحيض

المبحث الثاني في أسماء الحيض الدم المعتاد الذي يخرج من المرأه أسماء كثيرة منها: الأول: الحيض، وهو أشهرها. الثاني: الطمث، والمرأة طامث. قال الفراء: الطمث الدم. وكذلك قيل: إذا افتض الرجل البكر، قد طمثها، أي أدماها (¬1) قال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} (¬2). الثالث: العراك. [1] جاء في حديث جابر عند مسلم قال رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد، ومحمد بن رمح جميعاً، عن الليث بن سعد، قال قتيبة: حدثنا ليث، عن أبي الزبير، ¬

_ (¬1) ظاهر الكلام أن الطمث من أسماء الدم، لا من أسماء الحيض، كما هو ظاهر الآية الكريمة، لكن جاء في اللسان (7/ 142)، وتاج العروس (10/ 44): قال ابن خالوية حاضت، ونَفِست، ونُفِست، ودرست، وطمثت، وضحكت، وكادت، وأكبرت، وصامت" فذكر الطمث من أسماء الحيض. (¬2) الرحمن: 56.

عن جابر، أنه قال: "أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد، وأقبلت عائشة رضي الله عنها بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت ... الحديث" (¬1). وفي اللسان: العراك: الحيض. ونساء عوارك: أي حيض. وأنشد ابن بري أيضاً: أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك (¬2) الرابع: الضحك، والمرأة ضاحك. واستدل على هذا بقول الله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} (¬3) حكى ابن جرير الطبري في تفسيره للآية: عدة تفسيرات: أحدهما: معنى ضحكت: أي حاضت. والثاني: قيل: ضحكت تعجباً من أنها وزوجها إبراهيم يخدمان ضيفانهم بأنفسهم تكرمة لهم، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون (¬4). قال في اللسان: ضحكت المرأة: حاضت، وبه فسر بعضهم قوله تعالى: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} (¬5). وقد فسر على معنى العجب: أي عجبت من فزع إبراهيم عليه السلام. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1213). (¬2) اللسان (10/ 467). (¬3) هود: 71. (¬4) تفسير الطبري (7/ 70). (¬5) هود: 71.

وروى الأزهري عن الفراء في تفسير هذه الآية: لما قال الله تعالى: لعبده وخليله: {لَا تَخَفْ} ضحكت عند ذلك امرأته، ثم قال الفراء: وأما قولهم: فضحكت: حاضت، فلم أسمع من ثقة (¬1). قلت: وما دام لم يسمع من ثقة، فلا يصح أن معنى ضحكت: حاضت. الخامس: الإكبار، واستدلوا على أن الإكبار بمعنى الحيض. [2] رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، من طريق علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عن جده في قوله: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} (¬2)، قال: حضن. [وسنده ضعيف] (¬3). واستدلوا أيضاً من اللغة، قال ابن جرير في تفسيره: "وقد زعم بعض الرواة: أن بعض الناس أنشده في: أكبرن بمعنى حضن بيتاً، ¬

_ (¬1) اللسان (10/ 460). (¬2) يوسف: 31. (¬3) لأنه من طريق عبد الصمد، وعبد الصمد، ذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: عبد الصمد، عن أبيه، عن جده، حديثه غير محفوظ، ولا يعرف إلا به. الضعفاء الكبير (3/ 84). وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر شيئاً. الجرح والتعديل (6/ 50). وقال الذهبي: حدث عن أبيه، بحديث: "أكرموا الشهود" وهذا منكر، وما عبد الصمد بحجة. الميزان (2/ 620). وترجم له الخطيب، وأطال في سيرته. تاريخ بغداد (11/ 37).

لا أحسب أن له أصلاً؛ لأنه ليس بمعروف عند الرواة وذلك قوله: نأتي النساء على أطهارهن ولا ... نأتي النساء إذا أكْبَرْن إكباراً وزعم أن معناه: إذا حضن. وجاء في اللسان: "وأما قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} (¬1). فأكثر المفسرين يقولون: أعظمنه. وروى عن مجاهد أنه قال: أكبرنه: حضن، وليس ذلك بالمعروف في اللغة. قال أبو منصور: إن صحت هذه اللفظة في اللغة بمعنى الحيض، فلها مخرج حسن، وذلك أن المرأة أول ما تحيض فقد خرجت من حد الصغر إلى حد الكبر، فقيل لها: أكبرت: أي حاضت، فدخلت في حد الكبر الموجب عليها الأمر والنهي. وروى عن أبي الهيثم أنه قال: سألت رجلاً من طيء، فقلت له: يا أخا طيء ألك زوجة؟ قال: لا والله ما تزوجت، وقد وعدت في ابنة عم لي. قال: وما سنها؟ قال: قد أكبرت، أو كَبرت. قال: وما أكبرت؟ قال: حاضت. قال أبو منصور: فلغة طيء تصحح أن إكبار المرأة أول حيضها، إلا أن هاء الكناية في قوله تعالى: {أَكْبَرْنَهُ} تنفي هذا المعنى، فالصحيح أنهن لما رأين يوسف راعهن جماله، فأعظمنه. وروى الأزهري بسنده عن ابن عباس، في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ ¬

_ (¬1) يوسف: 31.

أَكْبَرْنَهُ} (¬1)، قال: حضن. فإن صحت الرواية عن ابن عباس سلمنا له (¬2)، وجعلنا الهاء في قوله: {أَكْبَرْنَهُ} هاء وقفة لا هاء الكناية. والله أعلم بما أراد. اهـ (¬3). السادس: الإعصار. قال في اللسان: "المعصر: التى بلغت عصر شبابها وقيل: أول ما أدركت وحاضت. وقال منصور بن مرثد الأسدي. جارية بسفوان دارها تمشي الهوينا ساقطاً خمارها قد أعصرت أو قد دنا إعصارها" (¬4). السابع: النفاس. [3] روى البخاري، قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن زينب بنت أم سلمة حدثته، أن أم سلمة حدثتها، قالت: بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة إذ حضت، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، قال: أنفست؟ قلت: نعم. فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. ¬

_ (¬1) يوسف: 31. (¬2) وسبق أنه لا يصح انظر: رقم (2). (¬3) اللسان (5/ 126). (¬4) اللسان (4/ 576).

ورواه مسلم (¬1) قال في الفتح: قال الخطابي: أصل هذه الكلمة من النفس وهو الدم (¬2). قال ابن عبد البر: قوله: "نفست" لعلك أصبت بالدم، يعني الحيضة، والنفس: الدم. ألا ترى إلى قول إبراهيم النخعي، وهو عربي فصيح، كل ما لا نفس له سائلة يموت في الماء لا يفسده. يعني: دماً سائلاً (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (298) ومسلم (296). (¬2) فتح الباري (1/ 536). (¬3) انظر: التمهيد كما في فتح البر (3/ 456) وانظر في أسماء الحيض اللسان (4/ 142) (5/ 126)، وتاج العروس (10/ 44)، والحاوي الكبير (1/ 378) والمجموع (2/ 378)، وعارضة الأحوذي لابن العربي (1/ 203، 204).

المبحث الثالث: خلاف العلماء في تاريخ ابتداء الحيض

المبحث الثالث: خلاف العلماء في تاريخ ابتداء الحيض اختلف العلماء في ابتداء الحيض على قولين: الأول: أن ابتداء الحيض لم يزل في النساء منذ خلقهن الله. الثاني: قالوا: إن أول ما أرسل الحيض على نساء بني إسرائيل. أدلة القول الأول: [4] قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا علي بن عبد الله يعني: المديني قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم قال: سمعت القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف حضت، فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أبكي، قال: "مالك، أنفست؟ " قلت: نعم: قال: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت". ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله في الحديث: "كتبه الله على بنات آدم" فهذا دليل على أن الحيض لازم للنساء منذ خلقهن الله، وأنه لم يحدث أول ما حدث في بني إسرائيل. وقوله: "كتبه الله" تدل على اللزوم والثبوت، والكتابة نوعان: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (294)، ومسلم (119 - 1211).

الدليل الثاني

الأول: كتابة شرعية، كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬1). والثاني: كتابة قدرية. كما في قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (¬2). قال ابن رجب: "وقد استدل البخاري لذلك بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم". وهو استدلال ظاهر حسن. ونظيره استدلال الحسن على إبطال قول من قال: أول من رأى الشيب إبراهيم عليه السلام بعموم قول الله عز وجل. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} (¬3) (¬4). [5] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم" جاء من حديث جابر عند مسلم (¬5). الدليل الثاني: [6] روى ابن المنذر في الأوسط، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، ثنا أبو الربيع، ثنا عباد بن العوام، ثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن ¬

_ (¬1) البقرة: 183. (¬2) المجادلة: 21. (¬3) الروم: 54. (¬4) شرح البخاري (2/ 12). (¬5) صحيح مسلم (136 - 1213).

سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: "لما أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها، قال آدم: رب زينته لي حواء، قل: فإني قد أعقبتها ألا تحمل إلا كرهاً، ولا تضع إلا كرهاً، وأدميتها في الشهر مرتين (¬1)، فرنت (¬2) حواء عند ذلك. فقيل لها: الرنة عليك وعلى بناتك" (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ومثله لا يقال بالرأي. [7] وروى ابن جرير الطبري في تفسيره قال: حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} (¬5). قال: المطهرة التي لا تحيض. ثم قال ابن بزيد: وكذلك خلقت حواء حتى عصت، فلما ¬

_ (¬1) المعروف أن غالب النساء تحيض، وتطهر في كل شهر مرة، فقوله: أدميتها في الشهر مرتين، يتأمل. ثم وجدت في الطب ما يؤكد أن المرأة لا تحيض إلا في الشهر مرة واحدة فقط، وسوف أنقل كلام الأطباء في هذه المسألة أثناء البحث إن شاء الله. (¬2) رنت: من رن يرن، والرنة، والرنين: أي الصياح عند البكاء، والصوت الحزين عند البكاء أو الغناء. قال الشاعر: عمداً فعلت ذاك بَيْد أني ... خشيت إن هلكت لم ترني (¬3) الأوسط (2/ 201). (¬4) وأخرجه الحاكم (2/ 381) من طريق عمرو بن محمد الناقد، ثنا عباد بن العوام به. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الحافظ في الفتح (1/ 532): "وروى الحاكم وابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس: "أن ابتداء الحيض كان على حواء، بعد أن هبطت من الجنة" وإذا كان كذلك فبنات آدم بناتها. (¬5) البقرة: 25.

عصت، قال الله: إني خلقتك مطهرة، وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة (¬1). [إسناده صحيح إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم] (¬2). أدلة القول الثاني: [8] روى عبد الرزاق في المصنف: عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: "كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعاً فكانت المرأة لها الخليل، تلبس القالبين تطول بهما لخليلها، فألقي عليهن الحيض، فكان ابن ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (550). (¬2) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ضعفه على بن المديني جداً. التاريخ الكبير (5/ 284)، الضعفاء الصغير (208). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين له (360). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ضعيفاً جداً. الطبقات الكبرى (5/ 413). وقال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء، ضعيف. تهذيب الكمال (17/ 114). وقال الدوري ومعن: عامة أهل المدينة لا تريد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، إنه كان لا يدري ما يقول. ضعفاء العقيلي (2/ 331). وقال أبو حاتم الرزاي: ليس بالقوي، كان في نفسه صالحاً، وفي الحديث واهياً، ضعفه ابن المديني جداً. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (5/ 233). وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأخبار، وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك. المجروحين (2/ 57). وضعفه هنا لا يؤثر، لأن المتن من كلامه، وقد صح عنه، ولم يروه هو عن غيره، وفرق بين الاستشهاد بكلامه، وبين الاحتجاج بروايته، وقد ترجمت له للفائدة.

الدليل الثاني

مسعود يقول: أخروهن حيث أخرهن الله. فقلنا لأبي بكر: ما القالبين؟ (¬1) قال: دفيصين من خشب". [إسناده صحيح] (¬2). وصحح إسناده الحافظ في الفتح (¬3). الدليل الثاني: [9] روى عبد الرزاق في المصنف، قال: عن معمر، عن هشام ابن عروة، عن أبيه: عن عائشة، قالت: "كان نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلاً من خشب، يتشرفن للرجال في المساجد، فحرم الله عليهن المساجد، وسلطت عليهن الحيضة". [رجاله ثقات، إلا أن رواية معمر عن هشام فيها كلام. وهو شاهد لأثر ابن عباس] (¬4). الجمع بين القولين: ليس في الأثرين ما يدل على أن ابتداء وجود الحيض كان في بني إسرائيل ¬

_ (¬1) جاء في اللسان (1/ 689) القوالب: جمع قالب، وهو نعل من خشب كالقبقاب، وتكسر لامه وتفتح، وقيل: إنه معرب. (¬2) المصنف (5115)، واعتبر الحافظ تدليس الأعمش من المرتبة الثانية كما في مراتب المدلسين. وأبو معمر: اسمه عبد الله بن سخبرة الكوفي. (¬3) الفتح، كتاب الحيض، باب كيف كان بدء الحيض (1/ 527). (¬4) المصنف (5114).

فأثر ابن مسعود فيه: "فألقى عليهن الحيضة". وأثر عائشة فيه: "وسلطت عليهن الحيضة". قال ابن حجر في الفتح: ويمكن أن يجمع بينهما، مع القول بالتعميم بأن الذي أرسل على نساء بني إسرائيل، طول مكثه، عقوبة لهن لا ابتداء وجوده (¬1). هذا جمع من رجح أن الحيض كان لازماً للنساء منذ خلقهن الله. وأما جمع من رجح أن أول وجوده كان في بني إسرائيل، فقال كما في الفتح: "وليس بينهما مخالفة، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم، فيكون قوله: "بنات آدم" عام أريد به الخصوص" اهـ (¬2). قلت: يمنع منه ما صح عن ابن عباس، وأن الحيض كان في حواء، فالجمع الأول أرجح، والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) فتح الباري (1/ 532). (¬2) فتح الباري (1/ 532). (¬3) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (2/ 12) فتح الباري (1/ 532) الأوسط لابن المنذر (2/ 201).

المبحث الرابع: الحيض دليل على بلوغ المرأة

المبحث الرابع: الحيض دليل على بلوغ المرأة تعريف البلوغ: أما تعريفه لغة: فهو الوصول. يقال: بلغ الشيء يبلغ بلوغاً وبلاغاً: وصل وانتهى. وبلغ الصبي: احتلم وأدرك وقت التكليف، وكذلك بلغت الفتاة، ومنه قوله تعالى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} (¬1). وتأتي بلغ: شارف على الوصول. كما في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬2). والبلوغ اصطلاحاً: وصول صغير وجارية وقت التكليف بعلامة من علامات البلوغ. اهـ. وهل يقال: جارية بالغ بدون هاء. قال الشافعي كما في تاج العروس: جارية بالغ: ذكر ذلك في كتاب النكاح، هكذا روى الأزهري عن عبد الملك، عن الربيع، عنه. قال الأزهري: والشافعي فصيح، وقوله حجة في اللغة، قال: وسمعت فصحاء العربي يقولون: جارية بالغ، وهكذا قولهم: امرأة عاشق ولو قال قائل: ¬

_ (¬1) النحل، آية: 7. (¬2) الطلاق، آية: 2.

الدليل الأول

جارية بالغة لم يكن خطأ، لأنه الأصل (¬1) وللبلوغ علامات طبيعية، منها ما هو محل فاق، ومنها ما هو محل خلاف ومنها ما هو مشترك بين الذكر والأنثى، ومنها ما هو خاص بأحدهما. ومن هذه العلامات: الأول: الحيض، وتختص الأنثى به. الأدلة على كون الحيض من علامات البلوغ. الدليل الأول: الإجماع. قال الحافظ في الفتح: "وأجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء" (¬2). الدليل الثاني: من السنة. [10] روى الإمام أحمد، قال: حدثنا يونس، ثنا حماد، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار" (¬3). [الحديث حسن لغيره إن شاء الله. ورواية قتادة قد اضطرب عليه فيها، والراجح فيه ابن سيرين عن عائشة، وليست بالمتصلة، لكن لها شاهد ضعيف ¬

_ (¬1) تاج العروس (12/ 7)، وانظر: اللسان (8/ 419). (¬2) فتح الباري (5/ 610). (¬3) المسند (6/ 259).

من حديث أبي قتادة] (¬1). ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه ابن أبي شيبه (2/ 40) ح 6222، حدثنا يحيى بن آدم، عن حماد بن سلمة به، وأخرجه أحمد (6/ 150) ثنا أبو كامل وعفان، قالا: ثنا حماد به. وأخرجه أيضاً (6/ 218) ثنا بهز ويونس، قالا: ثنا حماد بن سلمة به. وأخرجه أبو داود (641) حدثنا محمد ابن المثنى، ثنا حجاج بن منهال ثنا حماد به. ومن طريق حجاج بن منهال أخرجه ابن خزيمة (775) والحاكم (1/ 251) والبيهقي (2/ 233)، والبغوي في شرح السنة (2/ 436). وأخرجه الترمذي (377) حدثنا هناد، حدثنا قبيصة، عن حماد بن سلمة به، وأخرجه ابن ماجه (655) ثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو الوليد، حدثنا حماد به. ومن طريق أبي الوليد (هشام بن عبد الملك) أخرجه ابن خزيمة (775) والبيهقي (2/ 233) وابن الجارود (173) واختلف في الحديث على قتادة. فقيل: عن قتادة عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وقيل: عن قتادة موقوفاً. وقيل: كما في إسناد الباب، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة مرفوعاً. وتابع حماد بن زيد حماد بن سلمة كما في المحلى لابن حزم (مسألة: 119). فرواه من طريق محمد بن الجارود بن القطان، عن عفان، عن حماد بن زيد، عن قتادة به. وإسناد ابن حزم بقوله: (حماد بن زيد) خطأ قطعاً، لما يلي: أولاً: أن الإمام أحمد رواه في مسنده (6/ 150) عن أبي كامل وعفان كلاهما، عن حماد، عن قتادة. والمقصود به حماد بن سلمة؛ لأنه قرنه بأبي كامل، وأبو كامل ليست له رواية عن حماد ابن زيد، ولا يروى إلا عن حماد بن سلمة، وهذا من أوضح الأدلة أن عفان في رواية أحمد يروي عن حماد بن سلمة. ودليل آخر - وإن كان هذا كافياً - أن المزي في تهذيب الكمال (7/ 269) قال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ "قد اشترك في الرواية عن الحمادين جماعة، وانفرد بالرواية عن كل واحد منهما جماعة, إلا أن عفان لا يروي عن حماد بن زيد إلا وينسبه في روايته عنه، وقد يروي عن حماد بن سلمة فلا ينسبه. الخ كلامه رحمه الله. فهنا المزي رحمه الله، وقد عرف بالتتبع، يقول: إن عفان لا يروي عن حماد بن زيد إلا وينسبه، فلما لم ينسبه في رواية أحمد عن عفان عن حماد، علمنا أنه حماد بن سلمة. وجه ثالث: أن عفان لو رواها عن حماد بن زيد لذكرها أصحابه، وأشار إليها العلماء المتقدمون، فكونها لا تأتي إلا في هذا الإسناد النازل، دليل على عدم ثبوتها. رابعاً: أن حماد بن زيد قد روى الحديث، وروايته مشهورة من غير هذا الطريق، فقد رواه أبو داود (642) قال: حدثنا محمد بن عبيد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد ابن سيرين، أن عائشة رضي الله عنها نزلت على صفية أم طلحة الطلحات، فرأت بنات لها فقالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل، وفي حجرتي جارية، فألقى إليها حقوه، وقال لي: شقيه بشقتين، فأعطي هذه نصفاً، والفتاة التي عند أم سلمة نصفاً، فإني لا أراهما إلا وقد حاضتا" وهذا إسناد منقطع؛ ابن سيرين لم يسمع من عائشة. وجاءت لهذا متابعة من هشام بن حسان، فرواه ابن أبي شيبة (2/ 40) رقم 6214، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن محمد، أن عائشة قالت: وذكر القدر المرفوع من الحديث. فهنا أيوب، وهشام بن حسان يخالفان قتادة، فيرويانه عن ابن سيرين، عن عائشة مرسلاً. بينما حماد بن سلمة، رواه عن قتادة، عن ابن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة متصلاً، ولا أراه إلا من حماد بن سلمة، ورواية هشام وأيوب عن ابن سيرين أرجح، لما يلي: أولاً: أن هشام بن حسان من أثبت الناس في ابن سيرين، وقد تابعه ثقة (أيوب). ثانياً: أن حماد بن سلمة قد تغير حفظه، ولذلك قال البيهقي كما في التهذيب: "هو من أئمة المسلمين، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، فلذا تركه البخاري - يعني: في الاحتجاج - وأما مسلم فاجتهد، فأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ لا يبلغ اثني عشر حديثاً أخرجها في الشواهد" اهـ. وحاول المعلمي - رحمه الله - أن يدفع عنه تهمة التغير، فقال في التنكيل (1/ 242): "هذا - يعني: ما كان من تغيره - لم يذكره إلا البيهقي، والبيهقي أرعبته شقائق أستاذه ابن فورك المتجهم، الذي حذى ابن الثلجي في كتابه الذي صنفه في تحريف أحاديث الصفات، والطعن فيها". ثم ساق كلام البيهقي الذي نقلناه آنفاً، وقال: "وأما التغير فلا مستند له". قلت: اعتقاد أن البيهقي قال ذلك تقليداً لشيخه الخلفي ظن لا يعتمد على دليل. ولم ينفرد البيهقي بذلك، بل قاله أبو حاتم في الجرح والتعديل، ولم ينقله ابن حجر ولا المزي في ترجمة حماد بن سلمة، بل ذكرا ذلك في ترجمة أبي الوليد الطيالسي. قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/ 66): "سئل أبي عن أبي الوليد، وحجاج ابن المنهال، فقال: أبو الوليد عند الناس أكثر، كان يقال سماعه من حماد بن سلمة فيه شيء، كأنه سمع منه بآخرة، وكان حماد ساء حفظه في آخر عمره". اهـ. إلا أنه يشكل على هذا الوجه الأخير أنه قد رواه عنه عفان، وعفان من أثبت أصحاب حماد. وممن رجح رواية هشام وأيوب على رواية حماد الإمام الدارقطني، فقد نقل الزيلعي في نصب الراية (1/ 296) قال: "قال الدارقطني في كتاب العلل: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" يرويه قتادة، عن محمد بن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة. واختلف على قتادة، فرواه حماد بن سلمة عن قتادة، هكذا مسنداً مرفوعاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخالفه شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، فروياه عن قتادة موقوفاً. ورواه أيوب السختياني، وهشام بن حسان عن ابن سيرين مرسلاً، عن عائشة أنها نزلت على صفية بنت الحارث. حدثتها بذلك. ورفعا الحديث. وقول أيوب وهشام أشبه بالصواب" اهـ. ثالثاً: أن فيه اختلافاً آخر على قتادة. فقد رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 251) ومن طريقه البيهقي (2/ 233) عن يحيى بن أبي طالب، ثنا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ عبد الوهاب ابن عطاء، ثنا سعيد - يعني: ابن أبي عروبة - عن قتادة، عن الحسن، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار". وفي هذا الإسناد يحيى بن أبي طالب. وثقه الدارقطني، وضعفه بعضهم، وانظر ترجمته في حديث رقم (49) وعبد الوهاب ابن عطاء من أصحاب سعيد القدماء، وممن سمع منه قبل تغيره، وهو من المكثرين عنه. وهذا الإسناد وإن كان فيه لين إلا أنه قد توبع. فقد أخرج عبد الرزاق (5038) عن معمر، عن عمرو، عن الحسن رفعه، ورواه ابن أبي شيبة (2/ 39) ح 6212 قال: حدثنا عيسى بن يونس عن الحسن رفعه. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 40) من طريق ربيع، وهشام بن حسان عن الحسن موقوفاً عليه. فعلى هذا روى الحديث عن الحسن مرسلاً وموقوفاً. ومرسلات الحسن كما قال الإمام أحمد وغيره: شبه الريح، وهي من أضعف المرسلات. وأشار أبو داود بالرواية المرسلة إلى إعلال الحديث بها، فقال بعد أن ذكر رواية حماد عن قتادة، عن صفية، عن عائشة مرفوعاً. قال أبو داود: ورواه سعيد - يعني: ابن عروبة - عن قتادة، عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الذهبي في تلخيص المستدرك المطبوع معه (1/ 251): "وعلته ابن أبي عروبة - عنى بها روايته عن قتادة عن الحسن مرسلاً". وفيه أيضاً اختلاف ثالث على قتادة، فقد رواه شعبة، وسعيد بن بشير، عن قتادة موقوفاً، كما ذكره الدارقطني في العلل، ونقلته قريباً من نصب الراية (1/ 296). وشعبة من أثبت الناس في قتادة وقد توبع. فتلخص من هذا أن الاختلاف على قتادة على هذا النحو. يرويه حماد بن سلمة، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن صفية بنت الحارث عن عائشة مرفوعاً. ويرويه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وقد توبع ابن أبي عروبة.

العلامة الثانية من علامات البلوغ: الاحتلام. والمقصود به خروج المني من الرجل أو المرأة بلا علة، يقظة، أو مناماً. الدليل على كون الاحتلام علامة من علامات البلوغ. الدليل عليه من الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا ¬

_ ويرويه شعبة، وسعيد بن بشير، عن قتادة موقوفًا. فالحديث فيه اضطراب من رواية قتادة، فالراجح رواية ابن سيرين عن عائشة، ولم يسمع منها وقد رجح الدارقطني رواية ابن سيرين المنقطعة، ولعل سبب الترجيح، ما يلي: أولًا: الاضطراب في رواية قتادة. ثانياً: أن رواية ابن سيرين عن عائشة جاءت من طريق هشام بن حسان، وأيوب، وهشام من أثبت الناس في ابن سيرين، وإذا ضعفنا رواية ابن سيرين عن عائشة؛ فإن لها شاهداً ضعيفاً من حديث أبي قتادة، يرتقي بها الحديث إلى كونه حسناً لغيره. فقد أخرجه الطبراني في الصغير (ص 542): "حدثنا محمَّد بن أبي حرملة الكلابي، بمدينة قلزم، حدثنا إسحاق بن إسماعيل بن عبد الأعلى الأيلي، حدثنا عمرو بن هشام البيروتي، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها، ولا من جارية بلغت المحيض حتى تختمر". والحديث فيه عنعنه يحيى بن أبي كثير، وهو مدلس مكثر، وعمرو بن هشام البيروتي، قال عنه العقيلي: عمرو بن هشام، عن ابن عجلان مجهول بالنقل، لا يتابع على حديثه. وقال ابن أبي حاتم: كتبت عنه، وكان قليل الحديث، ليس بذاك، كان صغيراً حين كتب عن الأوزاعي. وفيه إسحاق بن إسماعيل، له ترجمة في التهذيب، وسكت عليه الحافظ ولم يذكر أن أحداً وثقه. وفي الباب آثار عن أم سلمة، وعن ابن عمر، وعن أبي هريرة، وعن غيرهم وفيها الصحيح، وفيها الضعيف المنجبر، والله أعلم.

اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية (¬1). وجه الاستدلال: أنه حين بلغ الأطفال الحلم كلفوا بوجوب الاستئذان، بينما قبل البلوغ كان الخطاب موجهاً إلى أوليائهم. فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُم} الآية (¬2). وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬3). وجه الاستدلال: جعل الله سبحانه وتعالى بلوغ النكاح موجباً لارتفاع الولاية عن اليتيم، بشرط كونه راشداً. [11] ومن السنة ما رواه مسلم، حدثنا عمرو بن سواد العامري، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أن سعيد ابن أبي هلال، وبكير بن الأشج حدثاه، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سليم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدرى، عن أبيه، - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه". ¬

_ (¬1) النور: 59. (¬2) النور: 58. (¬3) النساء: 6.

رواه البخاري، ومسلم واللفظ له (¬1) وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - "على كل محتلم" فجعل الاحتلام محلاً للتكليف. وأما الإجماع، فقال الحافظ في الفتح: "أجمع العلماء على إن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات، والحدود وسائر الأحكام" (¬2). العلامة الثالثة: الإنبات. وقد اختلف الفقهاء في اعتبار الإنبات علامة من علامات البلوغ. إلى ثلاثة أقوال: الأول: ليس بعلامة مطلقاً، لا في الحقوق الواجبة للخالق، ولا في حقوق الآدميين. وهو مذهب الحنفية (¬3). الثاني: أن الإنبات علامة مطلقاً في حق المسلم والكافر، وفي حق الله وحق المخلوق. وهو مذهب الحنابلة (¬4)، ورواية عن أبي يوسف من الحنفية (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (846)، ومسلم (7 - 846). (¬2) فتح الباري (5/ 610). (¬3) رد المحتار (5/ 97). وقال: "لا اعتبار لنبات العانة، خلافاً للشافعي ورواية عن أبي يوسف". وانظر: البحر الرائق (3/ 96) شرح فتح القدير كتاب الحجر، فصل في حد البلوغ (9/ 276). (¬4) المحرر (1/ 347) الفروع (4/ 312) الإنصاف (5/ 320) المبدع (4/ 332) معونة أولى النهي شرح المنتهى (4/ 560). (¬5) رد المحتار (5/ 97) المسمى بحاشية ابن عابدين.

واعتبر المالكية الإنبات علامة إلا أنهم اختلفوا فيها على قولين: فقيل: الإنبات علامة مطلقاً. قال في الشرح الكبير وهو المذهب (¬1). وقال بعضهم: الإنبات علامة على البلوغ فيما بين الشخص، وبين غيره من الآدميين من قذف، وقطع، وقتل. وأما فيما بين الشخص وبين الله تعالى من حقوق فليس بعلامة (¬2). وقالت الشافعية: الإنبات علامة على البلوغ في حق صبيان الكفار. وأما المسلمون فاختلفوا فيهم على وجهين: الوجه الأول: أنه علامة على البلوغ في حقهم كالكفار. الوجه الثاني: وهو الصحيح عندهم أنه ليس علامة على البلوغ عندهم (¬3). ¬

_ (¬1) الشرح الكبير المطبوع بحاشية الدسوقي (3/ 293) ولم يذكر غيره الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (3/ 404). وقال في أسهل المدارك (2/ 159): "ومتى نبت شعر العانة الخشن، كان ذلك علامة على التكليف بالنسبة لحقوق الله تعالى، من صلاة وصوم ونحوهما، وحقوق عباد الله على التحقيق". (¬2) مواهب الجليل (5/ 59) وانظر: بهامشه التاج والإكليل (5/ 59) وقال عن ابن رشد: "بأنه لا خلاف عنده أنه لا يعتبر البلوغ بالإنبات فيما بينه وبين الله تعالى. واختلف في قول مالك فيمن وجب عليه حد وقد أنبت، ولم يبلغ أقصى سن من لا يحتلم، وادعى أنه لم يحتلم والأصح عندي من القولين أن يصدق، ولا يقام عليه حد للشك فاحتلامه". (¬3) مغني المحتاج (2/ 167) روضة الطالبين (4/ 178) التهذيب (/337 - 338) الوجيز (1/ 176).

الدليل على اعتبار الإنبات من علامات البلوغ. [12] ما رواه أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت عطية القرظي، يقول: عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي (¬1). [صحيح لغيره] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (4/ 310). (¬2) هذا الإسناد مداره على عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي. وعبد الملك قد روى له الجماعة. وعن أحمد: أنه ضعيف جداً، كما في رواية إسحاق بن منصور. الجرح والتعديل (5/ 360). وقال أيضاً: مضطرب الحديث جداً مع قلة روايته، ما أرى له خمسمائة حديث. تهذيب الكمال (18/ 370). وقال ابن معين: مخلط. كما في رواية إسحاق بن منصور عنه، يشير إلى أنه اختلط في آخر عمره، وإلا فقد قال: ثقة، إلا أنه أخطأ في حديث أو حديثين. كما في رواية ابن البرقي عنه. تهذيب التهذيب (6/ 364). وقال أبو حاتم: ليس بحافظ، وهو صالح الحديث. تغير حفظه قبل موته. الجرح والتعديل (5/ 360). وقال مرة: لم يوصف بالحفظ. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (18/ 370). قال ابن نمير: كان ثقة ثبتاً. التهذيب (6/ 364). وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة, ثقات العجلي (2/ 104). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 116).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وفي التقريب: ثقة فصيح، عالم تغير حفظه، وربما دلس. قلت: أما التدليس فقد صرح بالتحديث في بعض طرقه، وأما الاختلاط فقد روى عنه الثوري، وشعبة، وأبو عوانة، وقد خرج الشيخان حديث عبد الملك بن عمير من رواية هؤلاء عنه. ولعل من ضعفه أنما ضعفه بسبب تغيره، ولذلك قال الحافظ في هدي الساري (ص 592) أخرج له الشيخان من رواية القدماء عنه في الاحتجاج، ومن رواية بعض المتأخرين عنه في المتابعات، وإنما عيب عليه أنه تغير حفظه لكبر سنه, لأنه عاش 103 سنين، ولم يذكره ابن عدي في الكامل، ولا ابن حبان. اهـ. قلت: لم أجعله ثقة، بل هو أدنى مرتبة، إعمالاً لجرح الإِمام أحمد، وقول أبي حاتم: ليس بالحافظ". اهـ. لكنه ليس ضعيفاً، وقد احتجا به في الصحيح، فتوسطت وجعلته في مرتبة الحسن. والله أعلم. تخريج الحديث: الحديث كما سبق وقلت: مداره على عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي، وله طرق كثيرة إلى عبد الملك بن عمير. الطريق الأول: الثوري، عن عبد الملك بن عمير. أخرجه أحمد، كما في إسناد الباب (4/ 310)، وابن أبي شيبة (6/ 487) رقم 33114، 33688، قالا: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان به. وأخرجه عبد الرزاق (18742) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبراني (17/ 163) ح 428. وأخرجه أبو داود (4404) حدثنا محمَّد بن كثير، أخبرنا سفيان به. وأخرجه الترمذي (1584) حدثنا هناد، حدثنا وكيع به. وأخرجه ابن ماجه (2541) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمَّد قالا: ثنا وكيع به. الطريق الثاني: سفيان بن عيينة، عن عبد الملك به. أخرجه أحمد (5/ 312)، والحميدي في مسنده (888) قالا: حدثنا سفيان، قال: ثنا عبد الملك بن عمير به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأخرجه النسائي (3430) أخبرنا محمَّد بن منصور، قال: حدثنا سفيان به. وفي الكبرى (8621) عن طريق وكيع، عن سفيان به. وأخرجه ابن ماجه (2542) حدثنا محمَّد بن الصباح، حدثنا سفيان بن عيينة به. وأخرجه الطبراني في الكبير (17/ 164) ح 432 من طريق الحميدي، عن سفيان به، الطريق الثالث: شعبة عن عبد الملك بن عمير به. أخرجه الطيالسي (1284) قال: حدثنا شعبة به، وأخرجه النسائي (4981) أخبرنا إسماعيل ابن مسعود، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا شعبة به. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (1045) حدثنا محمَّد بن يحيى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة به. وأخرجه الطبراني (17/ 163) 429، 430 من طريق محمَّد بن إسحاق، قال: حدثني شعبة به. الطريق الرابع: أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير به. أخرجه أبو داود (4405) حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة به. وأخرجه النسائي في الكبرى (8620)، عن قتيبة، عن أبي عوانة به. وأخرجه الطبراني (17/ 164) من طريق أبي النعمان، حدثنا أبو عوانة به. والطريق الخامس: هشيم، عن عبد الملك بن عمير. أخرجه أحمد (4/ 383) ومن طريق أحمد أخرجه الطبراني (17/ 165) قال: أحمد: ثنا هشيم، أنا عبد الملك بن عمير به. وقد أخرجه الطبراني (17/ 164) ح 431، 434، 435, 436، 437 من طريق معمر، وزهير، وحماد بن سلمة، ويزيد بن عطاء، وشريك كلهم عن عبد الملك بن عمير به. وأما المتابعة لعبد الملك بن عمير. فقد أخرجه النسائي في الكبرى, في السير (8619) من طريق ابن جريج وأخرجه الحميدي (889) والطبراني في الكبير (17/ 165) ح 439 من طريق سفيان بن عيينة، كلاهما عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد. قال النسائي: عن عطية (رجل من بني قريظة).

وأما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم. [13] فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن لا تقتلوا امرأة، ولا صبيان، وأن تقتلوا من جرت عليه المواسي. [إسناده صحيح] (¬1). [14] وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع، عن أسلم مولى عمر أن عمر كتب إلى عماله، فذكر نحوه (¬2). [وإسناده صحيح]. فالحنابلة فهموا من حديث عطية، وأثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الإنبات علامة على البلوغ مطلقاً. وهو الراجح. ¬

_ وقال الحميدي، والطبراني، عن مجاهد، سمعت رجلًا في مسجد الكوفة يقول: كنت يوم حكم سعد في بني قريظة غلاماً ... وذكر الحديث بنحوه. والحديث فيه عنعنة ابن جريج، وابن أبي نجيح، وهما مدلسان. أما عنعنة ابن جريج فقد زال أثرها بمتابعة سفيان، فبقي عنعنة ابن أبي نجيح، وقد قال ابن حبان كما في التهذيب: لم يسمع التفسير من مجاهد وجعله الحافظ في المرتبة الثالثة (77). فهذه متابعة صالحة لعبد الملك بن عمير، كما يشهد لذلك أيضاً ما ذكرته من الآثار. والله أعلم. (¬1) المصنف (6/ 487) ح 33109. (¬2) المصنف (33119).

وأما الشافعية فحملوا الحديث على الكفار، باعتبار أن ذلك كان مع بني قريظة. والذي حمل الشافعية أيضاً على اعتبار الإنبات بلوغاً في حق الكفار فقط دون المسلمين، ما يلي: أولاً: سهولة مراجعة آباء المسلم وأقاربه لمعرفة سنه. وثانياً: أن المسلم ربما تعجل الإنبات بدواء دفعاً للحجر عن نفسه وتشوفاً للولايات، بخلاف الكافر فإنه لا يستعجله. وهذا التفريق ضعيف. فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن قتل الصبيان من الكفار، وحين سفك دم من أثبت علم أنه قد حكم ببلوغه، وخرج عن حد الصبي. وكيف يصح أن يكون علامة حسية على بلوغ صبيان الكفار ولا يكون علامة في حق المسلمين. وأما بعض المالكية فخصوه فيما بين الآدميين من حقوق. وهذا ضعيف أيضاً لأن النهي عن قتل النساء في الجهاد، وكذلك النهي عن قتل الصبيان هو حق لله سبحانه وتعالى. وحكم منه، ولا يقال: إن هذا حق خالص للآدمي حتى يقال بالتفريق بين حقوق الخالق، وحقوق المخلوق. والله أعلم. العلامة الرابعة: البلوغ بالسن. اختلف الفقهاء في سن البلوغ. فقيل: تمام خمس عشرة سنة، للذكر والأنثى.

وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، واختاره ابن وهب من المالكية (¬3). وأبو يوسف ومحمد من الحنفية (¬4)، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬5). وقيل: للغلام أن يتم له ثماني عشرة سنة. وللجارية أن يتم لها سبع عشرة سنة (¬6). وفي المذهب المالكي أقوال. المشهور منها بلوغ ثماني عشرة سنة للذكر الأنثى (¬7). وقيل: تسع عشرة. وقيل: سبع عشرة. وقيل: ست عشرة (¬8). واختار ابن حزم: تمام تسع عشرة (¬9). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (2/ 165) روضة الطالبين (4/ 178) المهذب (1/ 337 - 338). (¬2) المحرر (1/ 347) الفروع (4/ 312) الإنصاف (5/ 320) المبدع (4/ 332)، معونة أولى النهى شرح المنتهى (4/ 560). (¬3) أسهل المدارك (2/ 159) مواهب الجليل (5/ 59). (¬4) البحر الرائق (3/ 96) شرح فتح القدير (9/ 276). (¬5) انظر: المرجع السابق. (¬6) البحر الرائق، شرح فتح القدير (9/ 276). (¬7) لم يذكر الصاوي غيره في حاشيته على الشرح الصغير (3/ 404). وقال في أسهل المدارك (3/ 159): "ومنها بلوع ثماني عشرة سنة على المشهور". (¬8) مواهب الجليل (5/ 59). حاشية الدسوقي (3/ 293). (¬9) المسألة (119) من المحلى.

دليل الشافعية والحنابلة

دليل الشافعية والحنابلة: استدل الشافعية والحنابلة على أن البلوغ بالسن يكون بتمام خمس عشرة سنة. [15] بما رواه مسلم، قال: حدثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: عرضني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ خليفة، فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا لحد بين الصغير والكبير، فكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن كان ابن خمس عشرة سنة، ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال. وأخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر به. وليس فيه قوله: فاجعلوه في العيال (¬1). اعتراض: اعترض ابن حزم على الاستدلال بهذا الحديث، بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إني أجزتهما من أجل أنهما ابنا خمس عشرة سنة، فإذا كان ذلك كذلك فلا يجوز لأحد أن يضيف إليه عليه السلام ما لم يخبر به عن نفسه، وقد يمكن أن يجيزهما يوم الخندق, لأنه كان يوم حصار في المدينة، ينتفع به بالصبيان في رمي الحجارة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2664)، ومسلم (1868).

دليل من قال: إن البلوغ بالسن يكون بثماني عشرة.

وغير ذلك، ولم يجزه يوم أحد؛ لأنه كان يوم قتال بعدوا فيه عن المدينة، فلا يحضره إلا أهل القوة والجلد (¬1). قلت: فهم نافع وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أولى من فهم ابن حزم. دليل من قال: إن البلوغ بالسن يكون بثماني عشرة. جاء في الهداية، شرح بداية المبتدي: قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أشد الصبي ثماني عشرة سنة. هكذا قاله ابن عباس (¬2). [لم أقف على إسناده] (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: المحلى (مسألة: 119). (¬2) الهداية (9/ 277). (¬3) لم يذكر إسناده، ورجعت إلى تخريجه في نصب الراية للزيلعي (4/ 166) فاكتفى بقوله: غريب، ولم يذكر إسناده. وقال الحافظ في الدراية: لم أجده. وأفادني بعض الأخوة: "أن طريقة الزيلعي في نصب الراية أنه يقول: غريب في كل حديث لم يقف له على أصل أو إسناد، وليس مقصوده الغريب الاصطلاحي" اهـ. ووجدت في تفسير ابن أبي حاتم ما يخالفه فقد روى في تفسيره (5/ 1419) رقم 8086. حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو إدريس، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس (أشده) قال: ثلاث وثلاثون. قال: وروي عن مجاهد وقتادة نحو ذلك. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا عبد الله بن عثمان بن خثيم. قال يحيى بن معين: ثقة حجة. وقال أيضاً: أحاديثه ليست بالقوية، كما في رواية عبد الله بن الدورقي عنه. الكامل (4/ 161)، تهذيب التهذيب (5/ 275).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال أبو حاتم الرازي: ما به بأس. صالح الحديث. الجرح والتعديل (5/ 111). وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (15/ 279). وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وإنما خرجت هذا لئلا يجعل ابن جريج عن أبي الزبير، وما كتبناه إلا عن إسحاق بن إبراهيم، ويحيى بن سعيد القطان لم يترك حديث ابن خثيم ولا عبد الرحمن، إلا أن علي بن المديني قال: ابن خثيم منكر الحديث، وكأنَّ علياً خلق للحديث. سنن النسائي (5/ 248). وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث حسنة. الطبقات (5/ 487). وقال ابن عدي: هو عزيز، وأحاديثه حسان، مما يجب أن يكتب. الكامل (4/ 161). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 281). وقال العجلي: مكي ثقة. ثقات العجلي (2/ 46). وقال ابن حبان: كان من أهل الفضل والنسك والفقه. مشاهير علماء الأمصار (1/ 87). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (5/ 34). وفي التقريب: صدوق. وقد اختلف في إسناده على عبد الله بن خثيم: فرواه ابن إدريس عنه، عن مجاهد، عن ابن عباس كما سبق. ورواه الطبراني في الأوسط (6829) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا صدقة بن يزيد، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال: ثلاث وثلاثون، وهو الذي رفع عليه عيسى بن مريم. فجعل بدلاً من مجاهد سعيد بن جبير. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ابن خيثم إلا صدقة بن يزيد، تفرد به الوليد بن مسلم. وقد علمت أن ابن إدريس قد رواه عن ابن خيثم. وفي إسناده الوليد بن مسلم، وهو إن صرح بالتحديث من شيخه إلا أنه متهم بتدليس التسوية، فلا بد من التصريح بالتحديث في جميع طبقات السند، وهو ما لم يتوفر هنا. وفي الإسناد: صدقة بن يزيد.

[16] وروى ابن أبي حاتم في تفسيره، قال: حدثنا أبو زرعة، ثنا يحيى ابن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد ابن جبير: قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال: ثماني عشرة سنة (¬1). [إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة، وعطاء بن دينار روايته عن سعيد ابن جبير صحيفة]. وقيل في تفسير الأشد غير ذلك. ومن الأدلة النظرية: قالوا: إن أقصى سن لا يحتلم فيها الإنسان ثمانية عشر عاماً (¬2) يعني فإذا ¬

_ قال أحمد: حديثه ضعيف. التاريخ الكبير (4/ 295)، الجرح والتعديل (4/ 431). وقال البخاري: منكر الحديث. الكامل - ابن عدي (4/ 77)، الضعفاء الكبير (2/ 206). وذكره ابن الجارود، والعقيلي, والساجي في الضعفاء. اللسان (3/ 187). وقال ابن عدي: هو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق، وحديثه بعضها مما يتابع عليها، وبعضها مما لا يتابعه أحد عليها. الكامل (4/ 79). وقال ابن حبان: كان مما يحدث عن الثقات بالأشياء المعضلات، على قلة روايته، لا يجوز الاشتغال بحديثه، عند الاحتجاج به. الثقات (1/ 374). وقال أبو زرعة الدمشقي: ثقة. اللسان (3/ 187). وقال أبو حاتم: صالح. الجرح والتعديل (4/ 431). وقال يعقوب بن سفيان: حسن الحديث. اللسان (3/ 187). وتجنبه أصحاب الكتب الستة. (¬1) تفسير أبي حاتم (8089). (¬2) مواهب الجليل (5/ 59).

بلغها فلا بد من الاحتلام إلا لعلة، ولذلك حدوه بثمانية عشرة عاماً. وهذا الكلام لا يصلح أن يكون دليلاً يعتمد عليه في التحديد بالسن, لأنه قد يقال: ما الدليل على أن الثمانية عشر عاماً هي أقصى سن من لا يحتلم. دليل من فرق بين الذكر والأنثى. استدل من فرق بين الذكر والأنثى، فجعل الذكر أن يتم له ثماني عشرة سنة، وللأنثى أن يتم لها سبعة عشر عاماً. بأن الأنثى أسرع نمواً من الغلام، فزادوا سنة في حق الغلام لاشتمالها على الفصول الأربع التي منها ما يوافق المزاج لا محالة (¬1). وكون الأنثى أسرع نمواً هذا أمر محسوس، لكن تحديده بالسنة يحتاج إلى توقيف. ولا دليل هنا. دليل ابن حزم على أن البلوغ بالسن لا يكون إلا بتمام تسع عشرة. قل ابن حزم: "وأما استكمال التسعة عشر عاماً، فإجماع متيقن، وأصله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد المدينة، وفيها صبيان، وشبان، وكهول، فألزم الأحكام من خرج عن الصبا إلى الرجولة، ولم يلزمها الصبيان، ولم يكشف أحداً من كل من حواليه من الرجال: هل احتلمت يا فلان؟ وهل أشعرت؟ وهل أنزلت؟ وهل حضت يا فلانة؟ هذا أمر متيقن لا شك فيه، فصح يقيناً أن هناك سناً إذا بلغها الرجل أو المرأة فهما ممن ينزل، أو ينبت، أو يحيض إلا أن يكون فيهما آفة تمنع ¬

_ (¬1) البحر الرائق (8/ 96).

من ذلك، كما بالأطلس آفة منعته من اللحية لولاها لكان من أهل اللحى بلا شك. هذا أمر يعرف بما ذكرنا من التوقف وبضرورة الطبيعة الجارية في جميع أهل الأرض، ولا شك في أن من أكمل تسع عشرة سنة، ودخل في عشرين سنة، فقد فارق الصبا ولحق بالرجال - لا يختلف اثنان من أهل كل ملة وبلدة في ذلك (¬1). والجواب على ما ذكر ابن حزم. أن يقال: الاستدلال بالإجماع لا يصح إلا لو كان الإجماع منهم على أن من نقص عن تسع عشرة عاماً لم يصل إلى مرحلة البلوغ، أما كونهم اتفقوا على أن من أتم تسع عشرة سنة فقد بلغ، فلا يصح هذا دليلاً لرد ما دونها من مسائل الخلاف، وهذا بين. أرأيت لو أنهم اتفقوا على استحباب شيء واختلفوا في وجوبه، فكونهم اتفقوا على استحبابه لا يكون دليلاً لرد خلافهم في الوجوب، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة: 119).

الباب الأول: في أحكام الحيض من حيث مقداره ووقته

الباب الأول: في أحكام الحيض من حيث مقداره ووقته ويشتمل على تسعة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء في السن التي تحيض فيها المرأة. الفصل الثاني: الخلاف في منتهى سن الحيض عند النساء. الفصل الثالث: هل الحمل زمن صالح للحيض؟ الفصل الرابع: خلاف العلماء في أقل الحيض. الفصل الخامس: خلاف العلماء في أكثر الحيض. الفصل السادس: خلاف العلماء في غالب الحيض. الفصل السابع: خلاف العلماء في أقل الطهر. الفصل الثامن: القول في أكثر الطهر. الفصل التاسع: القول في غالب الطهر.

الفصل الأول: خلاف العلماء في السن التي تحيض فيها المرأة

الفصل الأول: خلاف العلماء في السن التي تحيض فيها المرأة اختلف العلماء في الزمن الذي تحيض فيه المرأة. فقيل: لا حيض قبل تسع سنين. وهو المعتمد عند الحنفية (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2)، والمشهور من مذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4). وقيل: يمكن أن تحيض البنت وعمرها ست سنوات!! وهو قول أبي النصر محمَّد بن سلام من الحنفية (¬5). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 160) وقد ذكر الخلاف في المذهب الحنفي، في أقل سن تحيض فيه المرأة، ثم قال: "والمختار تسع". وانظر: المبسوط للسرخسي (3/ 149). البناية - العيني (1/ 614). البحر الرائق (1/ 200). تبيين الحقائق (1/ 54) بدائع الصنائع (1/ 41) مراقي الفلاح (ص 57). (¬2) الخرشي (1/ 204) منح الجليل (1/ 167) حاشية الدسوقي (1/ 168) الشرح الصغير (1/ 208) أسهل المدارك (1/ 87). (¬3) المجموع (2/ 400) روضة الطالبين (1/ 134) مغني المحتاج (1/ 108) نهاية المحتاج (1/ 324) الحاوي الكبير (1/ 388). (¬4) كشاف القناع (1/ 202) شرح منتهى الإرادات (1/ 113) المغني (1/ 447) المحرر (1/ 26) الكافي (1/ 74) الروض المربع (1/ 424) الإنصاف (1/ 355) الفروع (1/ 265) المبدع شرح المقنع (1/ 267) شرح العمدة (1/ 480). (¬5) المبسوط - السرخسي (3/ 149).

دليل من قال: لا حيض قبل تسع سنين

وقيل: أدنى سن تحيض به المرأة سبع سنين اختاره بع الحنفية (¬1). وقيل: اثنتا عشرة سنة. وهو قول بعض الحنفية (¬2) ورواية عن الإمام أحمد اختارها أبو يعلى من الحنابلة (¬3). وقيل: لا حد لأدنى سن تحيض فيه المرأة. اختاره ابن رشد من المالكية (¬4) وابن تيمية من الحنابلة (¬5). دليل من قال: لا حيض قبل تسع سنين الدليل الأول: [17] روى الترمذي (¬6)، والبيهقي (¬7)، كلاهما تعليقاً: قال البيهقي: وروينا عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. قال البيهقي: تعني - والله أعلم - فحاضت فهي امرأة. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق. (¬2) انظر: شرح فتح القدير (1/ 160). وانظر: ما أحلتك عليه من المراجع في المذهب الحنفي. (¬3) انظر: الإنصاف (1/ 355)، والفروع (1/ 265). (¬4) مقدمات ابن رشد (1/ 130). (¬5) مجموع الفتاوى (19/ 237). (¬6) سنن الترمذي (3/ 418) (¬7) سنن البيهقي (1/ 320).

[ضعيف لتعليقه، ومع كونه معلقاً فهو موقوف على عائشة] (¬1). ولا دلالة فيه على المسألة؛ لأننا نسأل: هل إذا بلغت الجارية تسع سنين صارت امرأة مطلقاً، أو بشرط الحيض. فإن قيل: إنها امرأة مطلقاً حتى ولو لم تر الحيض، فهذا لا أعلم أحداً قال به. وإن قيل: بشرط الحيض، فهو لا يعارض القول الراجح، القائل بعدم التحديد؛ لأنهم يقولون أيضاً إذا رأت الجارية الحيض، وهي ابنة تسع سنين فهي امرأة، والله أعلم. وربما قالت عائشة هذا بما عرفت من نفسها. [18] فقد روى البخاري، قال: حدثنا محمَّد بن يوسف، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: ¬

_ (¬1) وروي مرفوعاً: أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 273) من طريق عبيد بن شريك، حدثني سليمان بن شرحبيل، حدثنا عبد الملك بن مهران، ثنا سهل بن أسلم العدوي، عن معاوية ابن قرة، قال: سمعت ابن عمر فذكره مرفوعاً. وفيه عبد الملك بن مهران. قال ابن عدي: مجهول، ليس بالمعروف. الكامل (5/ 307). وقال العقيلي: صاحب مناكير، غلب عليه الوهم، لا يقيم شيئاً من الحديث. الضعفاء الكبير (3/ 34). وقال أبو حاتم: مجهول. الجرح والتعديل (5/ 370). وقال أبو علي بن السكن: منكر الحديث. اللسان (4/ 69). ومن دونه لا يعرفون. انظر: إرواء الغليل (185).

الدليل الثاني

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها، وهي بنت ست سنين، وأدخلت عليه، وهي بنت تسع، ومكثت عنده تسعاً. وهو في مسلم (¬1). ولا يفهم من الحديث التحديد. الدليل الثاني: من النظر. قل ابن قدامة: "دم الحيض إنما خلقه الله لحكمة تربية الحمل به، فمن لا تصلح للحمل لا توجد فيها حكمته، فينتفي لانتفاء حكمته، كالمني فإنهما متقاربان في المعنى، فإن أحدهما يخلق منه الولد، والآخر يربيه ويغذيه، وكل واحد منهما لا يوجد من صغير. ووجودهما علم على البلوغ. وأقل سن تبلغ له الجارية تسع سنين فكان ذلك أقل سن تحيض له الجارية" اهـ (¬2). الدليل الثالث: قالوا: إن المرجع في هذه المسألة إلى الوجود. لأنه لم يأت تحديد ذلك من الشرع، ولم يوجد من النساء من يحضن عادة فيما دون هذا السن (¬3). قال الشافعي: "أعجل من سمعت من النساء تحيض نساء تهامة، يحضن لتسع سنين، وقد رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5133)، ومسلم (1422). (¬2) المغني (1/ 447). (¬3) المغني (1/ 447) وما ذكره ابن قدامة، هو دليل عليهم لا لهم, لأن الحيض إذا كان مرجعه إلى الوجود، فلماذا التحديد بالسن، لماذا لا يكون المرجع إلى وجود الدم الذي يصلح بأن يكون حيضاً بسبب لونه أو رائحته أو ثخونته؟ (¬4) الحاوي (1/ 388)، هاتان روايتان عن الشافعي: أما الأولى فهي قوله: "أعجل من سمعت من النساء ... " فهي ثابتة عنه، ذكرها في الأم (1/ 64). وأما الرواية الثانية، وهي

دليل من قال: يمكن أن تحيض الجارية وعمرها ست سنوات.

قلت: بل جاء في المبسوط للسرخسي: "ابنة أبي مطيع البلخي، صارت جدة ولها من العمر تسعة عشر عاماً" اهـ (¬1). وحساب ذلك أن يكون أبو مطيع زوج ابنته، وهي ابنة تسع سنين فوضعت لأقل الحمل: أي بعد ستة أشهر، وكانت أنثى، وزوجها هي الأخرى، وعمرها تسع سنين، فوضعت لأقل الحمل هي الأخرى، فأصبحت الأم جدة، وعمرها تسعة عشر عاماً. دليل من قال: يمكن أن تحيض الجارية وعمرها ست سنوات. لا أعلم له دليلاً، لا من الأثر، ولا من النظر. وإنما قال ذلك أبو نصر محمَّد بن سلام، وقد سئل كما في المبسوط: عن ابنة ست سنين إذا رأت الدم، فهل يكون هذا دم حيض؟ فأجاب: إن تمادى بها مدة الحيض، ولم يكن نزوله لآفة، فهو حيض (¬2). فهذا جواب على سؤال افتراضي لا دليل عليه لا من الأثر، ولا من النظر ولم يكن سؤالاً عن أمر واقع حتى يبنى عليه حكم. والله أعلم. ¬

_ قوله: "وقد رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة ... " فهذه لم تثبت عنه، فقد رواها البيهقي (1/ 319) من طريق أحمد بن طاهر ابن حرملة، قال: حدثني جدي، عن الشافعي قال: رأيت بصنعاء جدة لها إحدى وعشرين سنة. وأحمد بن طاهر هذا كذبه الدارقطني، وقال ابن عدي: حدث عن جده، عن الشافعي حكايات بواطيل، يطول ذكرها. انظر الميزان (1/ 105). (¬1) المبسوط (3/ 149). (¬2) المبسوط (3/ 149).

دليل من حدد سن الحيض بسبع سنين. [19] استدلوا بما رواه أَحمد، قال: حدثنا محمَّد بن عبد الرحمن الطفاوي، وعبد الله بن بكر السهمي، المعنى واحد قالا: حدثنا سوار أبو حمزة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه: عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع. وإذا أنكح أحدكم عبده فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإنما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته" (¬1). [صحيح لغيره] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (2/ 187). (¬2) الإسناد مداره على سوار بن داود المزني أبي حمزة الصيرفي. قال أحمد: شيخ بصري، لا بأس به. روى عنه وكيع فقلب اسمه، وهو شيخ يوثق بالبصرة. لم يرو عنه غير هذا الحديث. يعني: حديثه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده "علموا أولادكم الصلاة". الجرح والتعديل (4/ 272)، تهذيب الكمال (12/ 236). ووثقه يحيى بن معين، كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (4/ 272)، تهذيب التهذيب (4/ 253). وقال الدارقطني: لا يتابع على حديثه فيعتبر به. تهذيب الكمال (12/ 236) تهذيب (4/ 253). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 167). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. الثقات (1/ 422). وفي التقريب: صدوق له أوهام. قلت: إذا كان الأمر كما قال أحمد: لم يرو عنه إلا حديث واحد: "مرو أبناءكم بالصلاة ... " فكيف يمكن أن يقال: له أوهام. ولعل الحافظ تابع ابن حبان حين ذكره في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الثقات، وقال: يخطئ، ولو اقتصر الحافظ على كلمة (صدوق) لكان أولى. أما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. فقد اختلف الناس فيه: فمنهم من ضعفه مطلقاً. ومنهم من وثقه مطلقاً. ومنهم من وثق عمراً في روايته عن غير أبيه. والحق أن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده من قبيل الحسن لذاته. وإليك تفصيل هذه الأقوال: أما من ضعفه مطلقاً، فمنهم يحيى بن سعيد، فقد نقل عنه علي بن المديني أنه قال: حديثه عندنا واهٍ. الجرح والتعديل (6/ 238)، الكامل (5/ 114). وقال ابن عيينة: حديثه عند الناس فيه شيء. تهذيب الكمال (22/ 64). وقال أيضاً: غيره خير منه. وهذا من الجرح. الضعفاء الكبير - العقيلي (3/ 273). وقال أحمد: له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه، يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا. تهذيب الكمال (22/ 64). وقال يحيى بن معين: ليس بذاك، كما في رواية أبي بكر بن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (6/ 238). وقال الآجري: قيل لأبي داود, عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، حجة عندك؟ قال: لا, ولا نصف حجة. قلت: ينبغي أن يحمل تضعيفه على روايته عن أبيه، عن جده، فهذا يحيى القطان يقول فيما رواه صدقة بن الفضل عنه: إذا روى عنه الثقات، فهو ثقة يحتج به. ومنهم من وثقه مطلقاً. قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: من الناس بعدهم؟ تهذيب الكمال (22/ 69)، والتاريخ الكبير (6/ 342) وليس في التاريخ قوله: "من الناس بعدهم". وانظر الترمذي (2/ 140). وقال يحيى بن معين: ثقة، كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (6/ 238)،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ولعله يقصد روايته عن غير أبيه, لأني نقلت عنه قبل قليل قوله: ليس بذاك. وقال العجلي: ثقة. ثقات العجلي (2/ 178). ومن الناس من فصل: قال ابن حبان: فليس الحكم عندي إلا مجانبة ما روى عن أبيه، عن جده، ولاحتجاج بما روى عن الثقات غير أبيه، ولولا كراهة التطويل لذكرت من مناكير أخباره التي رواه عن أبيه، عن جده أشياء يستدل بها على وهن هذا الإسناد. المجروحين. (2/ 71). وقال يحيى بن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فهو كتاب ومن هنا جاء ضعفه، وإذا حدث عن سعيد بن المسيب، أو سليمان بن يسار أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء. وقال أبو زرعة: روى عنه الثقات مثل أيوب السختياني وأبي حازم والزهري والحكم ابن عتيبة، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه، عن جده، وقال: إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها. وقال أبو زرعة: ما أقل ما نصيب عنه مما روى عن أبيه عن جده من المنكر وعامة هذه المناكير التي تروى عنه إنما هي عن المثنى بن الصباح وابن لهيعة، والضعفاء. وقال أبو رزعة أيضاً: مكي كأنه ثقة في نفسه، وإنما تكلم فيه بسبب كتاب عنده. الجرح والتعديل (6/ 238). قال ابن حجر: فأما روايته عن أبيه فربما دلس ما في الصحيفة بلفظ: "عن" فإذا قال: حدثني أبي فلا ريب في صحتها، كما يقتضيه كلام أبي زرعة. وقال: "والمقصود بجده الجد الأعلى: عبد الله بن عمرو، لا محمَّد بن عبد الله. وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله، ثم ساق جملة من الأحاديث في التهذيب يصرح فيها شعيب بسماعه من عبد الله بن عمرو. تهذيب التهذيب (8/ 43). وقال ابن عدي: روى عنه أئمة الناس وثقاتهم، وجماعة من الضعفاء, إلا أن أحاديثه عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتنبه الناس مع احتمالهم إياه، ولم يدخلوه في صحاح ما خرجوه، وقالوا: هى صحيحة. الكامل (5/ 114). وقال ابن معين: هو ثقة في نفسه، ومما روى عن أبيه عن جده لا حجة فيه وليس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ بمتصل، وهو ضعيف من قبل أنه مرسل. وجد شعيب كتب عبد الله بن عمرو فكان يرويها عن جده أرسالاً، وهي صحاح عن عبد الله غير أنه لم يسمعها. تهذيب التهذيب (8/ 43). قال ابن حجر: فإذا شهد ابن معين أن أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل. اهـ. وهذا هو غاية التحرير. وبناء عليه يكون إسناد حديثنا: "مروا أبناءكم بالصلاة" حسناً إن شاء الله تعالى. تخريج الحديث: الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 304) ح 3482: حدثنا وكيع، عن داود بن سوار. به، انقلب اسمه على وكيع، كما لم يرو زيادة: "إذا نكح أحدكم عبده": لكن أخرجه أبو داود (496): حدثنا زهير بن حرب, حدثنا وكيع به، بذكر الزيادة. وأخرجه أبو داود (495): حدثنا مؤمل بن هشام - يعني: اليشكري - حدثنا إسماعيل، عن سوار أبي حمزة به، بدون ذكر الزيادة. وأخرجه الدارقطني (1/ 230) من طريق النضر بن شميل، ومن طريق عبد الله بن بكر السهمي، فرقهما، عن سوار أبي حمزة به. بذكر الزيادة من كليهما. وأخرجه الحاكم (1/ 197) عن طريق عبد الله بن بكر السهمي به. ومن طريق عبد الله بن بكر، أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/ 167) والخطب في تاريخه (2/ 278) والبيهقي (3/ 84). وله شاهد ضعيف. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 304) ح 3481، وأحمد (3/ 404) والدارمي (1431) وابن الجارود في المنتقى (147) وأبو داود (494) والترمذي (407) وقال: حسن صحيح. والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 231) والدارقطني (1/ 230) والحاكم (1/ 201) وقال: صحيح على شرط مسلم!! وأقره الذهبي!! وأخرجه البيهقي (2/ 14) (3/ 83) كلهم من طريق عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الغلام سبع سنين أمر بالصلاة، فإذا بلغ عشراً ضرب عليها". هذا لفظ أحمد. والحديث إسناده ضعيف. فيه عبد الملك بن الربيع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ قال ابن معين: أحاديث عبد الملك، عن أبيه، عن جده ضعاف. الجرح والتعديل (5/ 350). وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً يروي عن أبيه ما لم يتابع عليه. المجروحين (2/ 132). ووثقه العجلي. وقال أبو الحسن بن القطان: لم تثبت عدالته، وإن كان مسلم أخرج له، فغير محتج به. تهذيب التهذيب (6/ 349). يقصد أن مسلماً لم يحتج به. وإنما أخرج له حديثاً واحداً في المتعة متابعة، فليس على شرط مسلم. ولهذا لم يصب الحاكم عندما قال: على شرط مسلم. ومع ضعف إسناده إلا أنه صالح في الشواهد. فيكون الحديث صحيحاً لغيره. وقد روي من حديث أنس. أخرجه الحارث في مسنده, كما في بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (ص 48) قال: حدثنا داود بن المحبر، ثنا عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لثلاث عشرة". وأخرجه الطبراني كما في مجمع البحرين (537): من طريق أبي بكر الأعين، ثنا داود ابن المحبر، ثنا أبي، عن ثمامة به. وأخرجه الدارقطني (1/ 231) من طريق الفضل بن سهل، ثنا داود بن المحبر، ثنا عبد الله ابن المثنى به. فالحديث ضعيف جداً، وأورده الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (349) من مسند أنس. وقال: فيه داود بن المحبر، متروك، وقد خالف في هذا الحديث سنداً ومتناً. يقصد الحافظ: مخالفته في الإسناد: وذلك بجعله من مسند أنس، وهو غير معروف، والمخالفة في المتن، فإن المعروف في لفظه: "واضربوهم عليها لعشر" وهذا قال: "لثلاث عشرة". قلت: داود بن المحبر، قال فيه أبو حاتم: غير ثقة، ذاهب الحديث، منكر الحديث. الجرح

وجه الاستدلال: قالوا: إن الأصل في الأمر الوجوب، ولا يؤمرون إلا إذا كانوا بالغين؛ لأن غير البالغ قد رفع عنه القلم. وهذا الاستدلال فيه ضعف؛ لأن الأمر لم يوجه للصبيان، وإنما خوطب به الأولياء، من باب التربية، وتعويدهم على الصلاة وتدريبهم عليها، حتى إذا بلغوا كان قيامهم بالأمر سهلاً, ولو كان الخطاب موجهاً إليهم لكان ممكن أن يصح الاستدلال. ¬

_ والتعديل (3/ 424). وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (3/ 173). وكذبه أحمد. ضعفاء الأصبهاني (61). وقال أيضاً: شبه لا شيء، لا يدري ما الحديث. التاريخ الكبير (3/ 242) وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (3/ 244). وقال أيضاً: منكر الحديث، شبه لا شيء، كان لا يدري ما الحديث. الضعفاء الصغير (110). وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على "الثقات" ويروي عن المجاهيل المقلوبات. وقال الدارقطني: كتاب العقل وضعه أربعة: أولهم ميسرة بن عبد ربه، تم سرقه منه داود ابن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة .. الخ كلام الدارقطني. تاريخ بغداد (8/ 359). وقال يحيى بن معين: ثقة. فتعقبه الخطيب، وقال: حال داود ظاهرة في كونه غير ثقة، ولو لم يكن له غير وضعه كتاب العقل بأسره لكان دليلًا كافياً على ما ذكرته. تاريخ بغداد (8/ 359). ومع شدة ضعفه فإن داود بن المحبر تارة يحدث به عن عبد الله بن المثنى وتارة يحدث به عن أبيه، والله أعلم.

دليل من قال: أدنى سن تحيض به المرأة اثنا عشر سنة.

ولذلك في سورة النور. قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} (¬1). وحين بلغوا وجه الخطاب إليهم مباشرة فقال سبحانه: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (¬2). دليل من قال: أدنى سن تحيض به المرأة اثنا عشر سنة. [20] استدلوا بما روى مرفوعاً عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: "ذراري المسلمين يوم القيامة تحت العرش، شافع ومشفع، من لم يبلغ اثنتي عشرة سنة، ومن بلغ ثلاث عشرة سنة فعليه وله". [ضعيف جداً]. ظاهره أن التكليف منوط ببلوغ هذا السن، ولأن لفظ الذراري يشمل الذكر والأنثى (¬3). ¬

_ (¬1) النور: 58. (¬2) النور: 59. (¬3) الحديث رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 15): وعنه الديلمي في مسنده من طريق ركن أبي عبد الله، عن مكحول، عن أبي أمامة مرفوعاً. ونسبه السيوطي في الجامع الصغير كما في فيض القدير (1/ 560) إلى أبي بكر في الغيلانيات. قال السيوطي في الجامع الكبير (1/ 526) فيه ركن بن عبد الله، وهو متروك. اهـ قلت: قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (3/ 343). وقال أبو نعيم: لا شيء. ضعفاء الأصبهاني (72). وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به في حال، روى عن مكحول، عن أبي أمامة بنسخة

دليل من قال بعدم التحديد

دليل من قال بعدم التحديد: الدليل الأول: عدم الدليل المقتضي للتحديد، فلا يوجد دليل من الكتاب، ولا من السنة على القول بالتحديد، فمتى وجد الدم الذي يمكن أن يحكم له بأنه حيض في لونه، ورائحته، وثخونته، فهو حيض، ولو كان التحديد شرعاً، بحيث لا يعتبر الدم قبله، ولا بعده حيضاً، لوجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبينه للأمة، ولو بينه لنقلوه، ولحفظه الله سبحانه وتعالى لنا؛ حيث تعهد سبحانه وتعالى بحفظ الشريعة. الدليل الثاني: قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬1). وجه الاستدلال: علق الله سبحانه وتعالى الحكم بوجود الدم، الذي هو أذى، فإذا وجد ¬

_ أكثرها موضوع. المجروحين (352). قال فيه النسائي: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بثقة. الكامل (3/ 160). وقال الحاكم: يروي عن مكحول أحاديث موضوعة. وقال الدارقطني: متروك. انظر: اللسان (3425). كما أن فيه علة أخرى، فمكحول لم يسمع من أبي أمامة، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه في المراسيل (ص: 212). (¬1) البقرة: 222.

الأذى وجد الحيض. قال شيخ الإسلام في الفتاوى: "لا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة، ولا لأكثره، فمتى رأت الأنثى الحيض فهي حائض، وإن كانت دون تسع سنين، أو فوق خمسين، وذلك لأن أحكام الحيض علقها الله سبحانه وتعالى على وجوده، ولم يحدد الله سبحانه وتعالى، ولا رسوله سناً معيناً، فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي علق عليه الأحكام، وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة، ولا دليل في ذلك" اهـ (¬1). وقيل ابن رشد في المقدمات الممهدات: "فأما الطفلة الصغيرة فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة وفساد لانتفاء الحيض مع الصغر، وليس له حد من السن، إلا ما يقطع النساء أن مثلها لا تحيض، وأما اليفعة التي تشبه أن تحيض فما رأت من الدم حكم له بأنه حيض، وكان ذلك دلالة على البلوغ" اهـ (¬2). وقال في مواهب الجليل: "وسن النساء قد يختلف في البلوغ، فالواجب أن يرجع في ذلك إلى ما يعرفه النساء، فهن على الفروج مؤتمنات، فإن شككن أخذ في ذلك بالأحوط" اهـ (¬3). وفي كتاب فقه الشيخ السعدي رحمه الله، قال: "الحيض هو دم طبيعة وجبلة، وذلك يختلف باختلاف النساء والأحوال والفصول، والقوة والضعف، وغيرها، فكونه يربط بسن معين، ومقدار معين، ويلغى ما سواه مع مماثلته له، ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (19/ 237). (¬2) المقدمات (1/ 130). (¬3) مواهب الجليل (1/ 367).

ومع كونه مخالفاً لظاهر النصوص الشرعية، فإنه مناف للأحوال الطبيعية. يوضح هذا القول الصحيح، أن القول الذي تقولونه، مع أنه لا يدل عليه كتاب ولا سنة، فإنه لا يمكن أن يبنى على قاعدة من القواعد، ولا أصل من الأصول ... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى (¬1). وهذا القول هو الراجح، إلا أنني أقطع أن سن السابعة لا يمكن أن يكون زمن حيض؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل الخطاب فيه للأولياء، فقال: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع" وسبق تخريجه، ولم يؤمر الولي بعقاب الولد في تلك السن؛ لأنها ليست سناً صالحة للتكليف. ¬

_ (¬1) فقه الشيخ السعدي (1/ 347).

الفرع الأول

الفرع الأول: قول الجمهور: لا حيض قبل تسع سنين هل هو تحديد أم تقريب؟ في هذا خلاف بين أهل العلم. قال البساطي، محمَّد بن عثمان الطائي كما في مواهب الجليل: اختلف في انتهاء الصغر. فقيل: تسع. قيل: بأولها، وقيل: بوسطها، وقيل: بآخرها (¬1). قلت: هذه الأقوال ثلاثة أوجه في مذهب الشافعية. قال النووي في المجموع: "والأصح استكمال التسع". وقال أيضاً: "والمذهب الذي عليه التفريع استكمال التسع. وهل هو تحديد أم تقريب؟ وجهان، حكاهما صاحب الحاوي والدارمي، وغيرهما؟ أحدهما: تحديد، فلو نقص عن التسع ما نقص فليس بحيض، وهذا مقتضى إطلاق كثيرين. الثاني: وهو أصحها أنه تقريب. صححه الروياني، والرافعي، وغيرهما. فعلى هذا قال صاحب الحاوي: لا يؤثر نقص اليوم، واليومين. قال الدارمي: لا يؤثر الشهر، والشهران" (¬2). ¬

_ (¬1) مواهب الجليل (1/ 367). (¬2) المجموع (2/ 401).

وقال النووي في الروضة: "وهذا الضبط للتقريب على الأصح، فلو كان بين رؤية الدم، واستكمال التسع على الصحيح، ما لا يسع حيضاً وطهراً، كان ذلك الدم حيضاً، وإلا فلا" (¬1). وأما المشهور من مذهب الحنابلة، فإنهم يرون أنه تحديد، فلا بد من تمام تسع سنين. قال في الإنصاف: "وحيث قلنا: أقل سن تحيض له كذا فهو تحديد، فلا بد من تمام تسع سنين" اهـ (¬2). وهذا الخلاف مبني على قول من يرى تحديد السن التي تحيض به المرأة وأما من يرى عدم التحديد، وهو الراجح، فليس بحاجة إلى هذا التفصيل. والمراد بالسنين: السنون القمرية. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬3). فقوله سبحانه: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} إشارة إلى أنها مواقيت عالمية، لعموم الناس مسلمهم وكافرهم. ولا عبرة بتوقيت غير التوقيت القمري. وقد أشار سبحانه بأنه توقيت منذ خلق السموات والأرض. {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ¬

_ (¬1) الروضة (1/ 134). (¬2) الإنصاف (1/ 355). (¬3) البقرة: 189.

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} الآية (¬1). [21] ومن السنة ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً". ورواه البخاري (¬2). ¬

_ (¬1) التوبة: 36. (¬2) صحيح مسلم (17 - 1081)، ورواه البخاري بنحوه (1909).

الفرع الثاني

الفرع الثاني إذا قلنا بالتحديد، وإن أدنى سن تحيض فيه المرأة تسع سنين، أو اثنتا عشرة سنة، فرأت الدم قبل ذلك. فماذا يكون؟ فقيل: دم علة وفساد. وقيل: دم استحاضة. وقيل: لا فرق بين دم العلة والفساد، وبين دم الاستحاضة، فكل واحد منهما يطلق على الآخر؛ لأن دم الاستحاضة دم علة ومرض. وإذا كان الفساد يقابله الصحيح، أو الصحة؛ فإن دم الاستحاضة ليس عن صحة، بل هو عن علة ومرض فيكون فساداً. وهل الخلاف لفظي، لا يتجاوز المصطلح؟ أم بينهما فرق في الأحكام؟ قد يقال: إن الخلاف لفظي, لأن دم الفساد، ودم الاستحاضة كل منهما لا يمنع الصلاة والصيام ونحوهما. وقد يقال: إن الخلاف ليس لفظياً؛ فإن دم الاستحاضة له أحكام من العمل بالعادة إذا أقبلت، أو العمل بالتمييز، بينما دم الفساد هو كالجرح، وكمن به سلس بول, لأنه قد يحصل من الصغيرة التي لا تحيض فلا يمكن أن ينزل عليه أحكام الحيض، كما لا يمكن أن ينزل عليه أحكام الاستحاضة. إذا عرفت ذلك، فإليك النقول عن أهل العلم. قال ابن نجيم في البحر الرائق: "قال بعضهم إن ما تراه المرأة قبل استكمال

تسع سنين فهو دم فساد، ولا يقال له استحاضة؛ لأن الاستحاضة لا تكون إلا على صفة لا تكون حيضاً؛ ولهذا قال الأزهري: الاستحاضة سيلان الدم في غير أوقاته المعتاد" (¬1). قلت: التعليل ليس بجيد؛ لأن الدم الذي تراه قبل تسع سنين على القول بالتحديد يصدق عليه أنه على صفة لا تكون حيضاً. وقيل الشافعي كما في المجموع: "لو رأت الدم قبل استكمال تسع سنين، فهو دم فساد. ولا يقال له استحاضة؛ لأن الاستحاضة لا تكون إلا على إثر حيض - ثم قال في فصل المميزة -: "ولو رأت الدم خمسة عشر يوماً دماً أسود، ثم رأت أحمر، فالأسود حيض وفي الأحمر وجهان: قال أبو إسحاق: هو استحاضة. وقيل ابن جريج: هو دم فساد لا استحاضة؛ لأن الاستحاضة ما دخل على إثر حيض في زمانه، ثم جاوز خمسة عشر" اهـ (¬2). وقيل المرداوي في الحاوي الكبير: "النساء على أربعة أضرب: طاهر، وحائض، ومستحاضة، وذات فساد. فأما الطاهر فهي التي ترى النقاء، ومعناه أن تستدخل القطن فيخرج نقياً. وأما الحائض فهي التي ترى الدم في زمان يكون حيضاً. وأما المستحاضة فهي التي ترى الدم في إثر الحيض على صفة ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 20). (¬2) المجموع (2/ 381).

لا تكون حيضاً. وأما ذات الفساد فهي التي تبتدئ بدم لا يكون حيضاً" (¬1) قال النووي بعد نقله لك محمد الحاوي: "وحاصله أن الاستحاضة لا تطلق إلا على دم متصل بالحيض، وليس بحيض، وأما ما لا يتصل بالحيض فدم فساد، ولا يسمى استحاضة، وقد وافقه عليه جماعة. وقال الأكثرون: يسمى الجميع استحاضة. قالوا: والاستحاضة نوعان: نوع يتصل بدم الحيض. وقد سبق بيانه. ونوع لا يتصل به، كصغيرة لم تبلغ تسع سنين، رأت الدم، وكبيرة رأته وانقطع لدون يوم وليلة. فحكمه حكم الحدث. قال النووي: وهو الأصح الموافق لما سبق عن الأزهري وغيره من أهل اللغة، أن الاستحاضة دم يجري في غير أوانه" (¬2) وقال ابن رشد في المقدمات: "والدم الذي تراه المرأة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: دم حيض، ودم استحاضة ويسمونه دم علة وفساد، ودم نفاس". اهـ (¬3). ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (1/ 390). (¬2) المجموع (2/ 381). (¬3) المقدمات (1/ 124).

الفصل الثاني: خلاف العلماء في منتهى سن الحيض عند النساء

الفصل الثاني: خلاف العلماء في منتهى سن الحيض عند النساء اختلف العلماء في منتهى سن الحيض إلى أقوال: فقيل: لا حيض بعد خمسين سنة. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، وبه قال إسحاق بن راهويه (¬2)، واختاره بعض الحنفية (¬3)، وابن شعبان من المالكية (¬4). وقيل: منتهى الحيض خمس وخمسون سنة. وهو قول أكثر الحنفية. وقال العيني: الفتوى في زماننا عليه (¬5). وقيل: لا حيض بعد ستين سنة. حكاه ابن نجيم عن أكثر المشايخ (¬6)، ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 202)، شرح منتهى الإرادات (1/ 114، 113)، المحرر (1/ 26)، المغني (1/ 445)، الكافي (1/ 75)، شرح الزركشي (1/ 453)، مسائل أحمد رواية ابنه عبد الله (ص 46)، الروض المربع (1/ 425)، الإنصاف (1/ 356)، الفروع (1/ 265)، شرح العمدة (1/ 481). (¬2) انظر: المغني (1/ 445). (¬3) البحر الرائق (1/ 206). (¬4) مواهب الجليل (1/ 367). (¬5) البناية - العيني (1/ 614)، البحر الرائق (1/ 201)، شرح فتح القدير (1/ 160)، حاشية ابن عابدين (1/ 303)، مراقي الفلاح (ص 57)، بدائع الصنائع (1/ 41). (¬6) البحر الرائق (1/ 206).

وهو رواية عن أحمد (¬1) , واختاره المحاملي من الشافعية (¬2). وقيل: لا حيض بعد سبعين سنة. واختاره ابن شاس من المالكية (¬3). وقيل: إن رأت الدم بعد الخمسين إلى الستين فمشكوك فيه، تصوم، وتصلي، وتقضي الصوم احتياطاً وهو اختيار الخرقي من الحنابلة (¬4). وقيل: نساء العجم إلى خمسين، ونساء العرب إلى الستين؛ لأنهن أقوى جبلة وهو رواية عن أحمد (¬5). وقيل: لا تحديد لمنتهى سن الحيض عند النساء، وهو الراجح. وهو رواية عن أبي حنيفة (¬6)، واختاره ابن رشد من المالكية (¬7)، والماوردي من الشافعية (¬8) وكذلك ابن تيمية من ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 356)، الفروع (1/ 256)، المغني (1/ 445). (¬2) نهاية المحتاج (1/ 325). (¬3) مواهب الجليل (1/ 325). (¬4) شرح الزركشي (1/ 453)، المغني (1/ 445). (¬5) الإنصاف (1/ 356)، المغني (1/ 446). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 304، 303). (¬7) مقدمات ابن رشد (1/ 130). (¬8) الحاوي (1/ 388)، قال: "فأما زمان الحيض، فأقل زمان تحيض فيه النساء تسع سنين، وأكثره غير محدود؛ لأن ما كان الحد فيه معتبراً، ولم يكن في الشرع محدوداً، كان الرجوع في حده وتبيانه إلى الوجود، وهو يختلف باختلاف البلاد لحرها وبردها".

دليل من قال: لا حيض بعد الخمسين

الحنابلة (¬1). دليل من قال: لا حيض بعد الخمسين قال ابن قدامة: [22] روي عن عائشة أنها قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض (¬2). قال الزركشي: ذكره أحمد في رواية حنبل عنه (¬3). وروي عنها أنها قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين. قال الزركشي: رواه الدارقطني (¬4). اهـ ولم أقف عليه (¬5). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (19/ 240)، الاختيارات الفقهية (ص: 28). (¬2) المغني (1/ 436). (¬3) شرح الزركشي لمختصر الخرقي (1/ 435). (¬4) انظر المرجع السابق. (¬5) لم أقف عليهما في الكتب المؤلفة عن أحمد، ولا في سنن الدارقطني، وقد سبقني من بحث عنهما فلم يجدهما. انظر إرواء الغليل (1/ 200)، شرح الزركشي (1/ 453)، والروض المربع (1/ 425) بل الوارد عن أحمد ما يخالف هذين الأثرين، ففي مسائل عبد الله بن أحمد لابنه (ص: 46) "سألت أبي عن امرأة قد أتى عليها نيف وخمسون سنة، ولم تحض منذ سنة، وقد رأت منذ يومين دماً ليس بالكثير، ولكنها إذا استنجت رأت دماً قليلاً، ولم تفطر ولم تترك الصلاة. ما ترى لها؟ فقال أبي: لا تلتفت إليه، تصوم وتصلي، فإن عاودها بعد ذلك مرتين أو ثلاثاً فهذا حيض، وقد رجع، تقضي الصوم. قلت: فالصلاة؟ قال: لا تقضي". اهـ فعلى هذه الرواية يرى الإمام أحمد أن المرأة قد يحكم لها بالحيض ولو بعد

دليل من حد سن اليأس بالستين أو السبعين أو نحوهما.

ولا يعلم ثبوت ذلك عن عائشة، وعلى فرض ثبوت ذلك عنها؛ فإنها قد تكون قالت ذلك بناء على غالب النساء، أو بناء على من التقت بهن من النساء، وليس عاماً في كل النساء. قال ابن قدامة: "وما ذكر عن عائشة لا حجة فيه؛ لأن وجود الحيض أمر حقيقي، المرجع فيه إلى الوجود، والوجود لا علم لها به، ثم قد وجد بخلاف ما قالته؛ فإن موسى بن عبد الله بن حسن قد ولدته أمه بعد الخمسين، ووجد الحيض بعد الخمسين فلا يمكن إنكاره. فإن قيل: هذا الدم ليس بحيض مع كونه على صفته وفي وقته وعادته بغير نص، فهذا تحكم لا يقبل". اهـ دليل من حد سن اليأس بالستين أو السبعين أو نحوهما. قال في شرح العمدة: "لا يختلف المذهب أن لانقطاع الحيض غاية إذا بلغتها المرأة لم تحض بعدها، بل يكون الدم حينئذٍ دم فساد؛ لأن الله تعالى قال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} (¬1)، ولو أمكن أن الحيض لا ينقطع أبداً، لم ييئسن أبداً؛ ولأنه لم يوجد حيض معتاد في بنت المائة ونحوها فإن وجود شيء من ذلك فهو دم فساد كالصغيرة. وهذه الغاية ستون سنة في إحدى الروايات؛ لأن ما قبل ذلك قد وجد حيض معتاد بنفل نساء ثقات" اهـ. ¬

_ الخمسين. (¬1) الطلاق، آية: 4.

دليل من قال: الدم من الخمسين إلى الستين مشكوك فيه.

وإذا رأيت هذا الاختلاف بينهم، فبعضهم يقول: خمس وخمسون سنة، وبعضهم ستون، وبعضهم سبعون. رأيت أن كل واحد منهم قال بحسب ما كان غالباً في بيئته، ومشهوراً بين نسائه، وكلها تدل على أنه ليس في المسألة نص وإلا لما كان هذا الاختلاف، واليأس ليس سناً محدداً متى ما بلغته أصبحت يائسة، بل هو وصف يلحق المرأة، كما أن الحيض ليس سناً بمجرد بلوغه تكون حائضاً حتى تتصف به. فاليأس من المحيض كما تقتضيه معنى الكلمة لغة: هو القنوط من رجوعه، وانقطاع الرجاء بنزوله، ولهذا سوى الله في العدة بين المرأة التي لا تحيض، وبين المرأة اليائسة من المحيض بجامع أن كلاً منهما قد انقطع حيضها. دليل من قال: الدم من الخمسين إلى الستين مشكوك فيه. قال الخرقي: "وإذا رأت الدم ولها خمسون سنة، فلا تدع الصوم ولا الصلاة، وتقضي الصوم احتياطاً. فإن رأته بعد الستين فقد زال الإشكال، وتيقن أنه ليس بحيض، فتصوم وتصلي ولا تقضي" (¬1). ولعل الخرقي حين رأى أن في مذهب أحمد قولين: الأول: أنه لا حيض بعد خمسين سنة. الثاني: أن الغاية في الحيض ستون سنة. تعارض عنده هذان القولان، فأعرض عنهما، وقال: إن ما بينهما مشكوك ¬

_ (¬1) المغني (1/ 445).

دليل من قال: لا حد بالسن لمنتهى الحيض.

فيه، لا تترك له الصلاة ولا الصوم؛ لأن وجوبهما متيقن فلا يسقط بالشك، وتقضي الصوم المفروض احتياطاً؛ لأن وجوبه كان متيقناً، وما صامته في زمن الدم مشكوك في صحته، فلا يسقط به ما تيقن وجوبه (¬1). وقال الزركشي: "كأن الخرقي رحمه الله تعارضت عنده هذه الأقوال فأعرض عنها وقيل: إن ما بينهما مشكوك فيه، فتصوم وتصلي؛ لاحتمال كونه دم حيض، وأداء الصلاة لا يلزمها، والصوم الواجب تقضيه لعدم صحته منها على هذا التقدير" اهـ (¬2). قلت: هذا القول في غاية الضعف؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يوجب على العبد صيام يوم واحد مرتين؛ ولأن الشك ليس في أحكام الله، وإنما هو وصف عارض يطرأ على الباحث إما لقصور في البحث، أو لتردد في أدلة ظاهرها التعارض، وما يكون عند فلان من شك وتردد لا يكون عند الآخر. دليل من قال: لا حد بالسن لمنتهى الحيض. الدليل الأول: من القرآن الكريم قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (¬3). فأخبر الله سبحانه وتعالى عن المحيض بأنه هو الأذى الخارج من ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق. (¬2) الزركشي في شرح الخرقي (1/ 453). (¬3) البقرة، آية: 222.

الدليل الثاني

الفرج، فإذا وجد هذا الأذى وجد حكمه، فكيف نحكم لهذا الدم قبل تمام الخمسين بشهر بأنه حيض وبعد تمام الخمسين نحكم بأنه دم فساد، مع أن الدم هو الدم، والرائحة هي الرائحة، ومثله يقال لمن حد سن اليأس بالستين أو بالسبعين أو بغيرهما. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} (¬1). فعلق الله سبحانه نهاية الحيض باليأس، ولم يعلقه ببلوغ سن معينة، والمرأة التي ما زال حيضها مطرداً مستمراً على صفته ولونه كيف يقال عنها بأنها آيسة من المحيض لمجرد بلوغها خمسين سنة أو ستين سنة ولو كان لليأس سن معين لقال: واللائي بلغن خمسين سنة. قال ابن تيمية: "واليأس المذكور في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} (¬2) ليس هو بلوغ سن، ولو كان بلوغ سن لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو أن تيأس المرأة نفسها من أن تحيض، فإذا انقطع دمها ويئست من أن يعود فقد يئست من المحيض، ولو كانت بنت أربعين، ثم إذا تربصت وعاد الدم تبين أنها لم تكن آيسة" حتى قال: ومن لم يجعل هذا هو اليأس فقوله مضطرب" (¬3). ¬

_ (¬1) الطلاق، آية: 4. (¬2) الطلاق، آية: 4. (¬3) مجموع الفتاوى (19/ 240).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: إن تفسير اليأس بالآية في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} (¬1) ببلوغ سن معينة ليس معروفاً باللغة، والمرجع إنما هو إلى اللغة حيث لم ترد له حقيقة شرعية، واليأس في اللغة هو القنوط، وهو نقيض الرجاء (¬2). فكيف يقال للمرأة وهي ترجو الحيض في أوقاته، ويأتيها على صفته المعهودة بأنها يائسة. قال تعالى {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} (¬3): أي لما يئسوا من استخلاصه. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (¬4) أي لا يقنط من رحمته وفرجه (¬5)، فإذا انقطع رجاء المرأة من نزول الحيض فقد بلغت سن اليأس منه. الدليل الرابع: لم يأت في الكتاب ولا في السنة تحديد لمنتهى سن الحيض بغير اليأس، فأحكام الحيض علقها الله وسوله على وجوده، وأحكام الطهارة علقت على ¬

_ (¬1) الطلاق، آية: 4. (¬2) انظر اللسان (6/ 259). (¬3) يوسف، آية: 80. (¬4) يوسف، آية: 87 (¬5) انظر تفسير القرطبي (7/ 284).

الدليل الخامس

إدباره، ولم يحدد الله ورسوله لذلك سناً معيناً، فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي علقت الأحكام عليه، وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من السنة، ولا دليل على ذلك. الدليل الخامس: [23] ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إنى امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعى الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي، قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. ورواه مسلم إلا قوله: قال أبي: ثم توضئي لكل صلاة ... الخ (¬1) وجه الاستدلال: علق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحكام الحيض على إقباله، كما علق أحكام الطهارة على إدباره، ولم يعلقها على بلوغ سن معين، فإذا أقبل الحيض في أي زمن حتى ولو بعد الخمسين تركت الصلاة، وإذا أدبر الحيض حكم بطهارتها. ¬

_ (¬1) البخاري (228)، ومسلم (334، 333).

الدليل السادس

الدليل السادس: [24] ما رواه أبو داود قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن محمد، يعنى - ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، قالت: إنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان دم الحيض، فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فامسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي". [الحديث فيه انقطاع واضطراب بالاسناد، ومخالف لما في الصحيحين من قصة فاطمة] وسيأتي بيان ذلك مفصلاً في أحكام الاستحاضة إن شاء الله تعالى. وجه الاستدلال: في الحديث أمر المرأة إذا رأت الدم الأسود المعروف بأنه دم حيض بأن تترك الصلاة، وإن كانت مسنة. الدليل السابع: اضطراب أقوال القائلين بالتحديد دليل على ضعفها، فبعضهم حدد ذلك بخمسين، وبعضهم بالستين، وبعضهم بالسبعين، كل هذا يدل على أنه ليس في المسألة نص قاطع، وسنة واضحة، وهي أقوال مبنية على الرأي المحض وأحسن أحوالها أن يكون كل واحد منهم حكم بحسب أهل بلده، وهذا يختلف

باختلاف حرارة البلاد وبرودتِها، وقوة طبيعة النساء وضعفها في تلك البلاد (¬1). فالقول الراجح هو القائل بعدم التحديد لعدم الدليل على التحديد. قال ابن رشد: "وأما العجوز التي لا تشبه أن تحيض فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة وفساد لانتفاء الحيض مع الكبر!! كما ينتفي مع الصغر، وليس لذلك حد من السنين إلا ما يقطع النساء على أن مثلها لا تحيض" (¬2). وقال ابن حزم: "وإذا رأت العجوز المسنة دماً أسود، فهو حيض مانع من الصلاة والطواف والوطء" (¬3). وقال ابن تيمية: "لا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة، ولا لأكثره .. الخ كلامه (¬4). ¬

_ (¬1) نقل الشيخ جاسم مهلهل في كتابه (الطهارة عند المرأة ص: 14) عن الدكتور عبد الله ابن محمد العجمان، دكتور قسم النساء في مستشفى بالكويت قال: "أقل سن تحيض له المرأة تسع سنوات عندنا في الكويت، وسبع سنوات في الهند، وهذا الفارق في السنوات نتاج أولاً: طبيعة الطقس. وثانياً: طبيعة الأكل والمستوى الاقتصادي للشعوب. وثالثاً: طبيعة الحياة الاجتماعية. اهـ (¬2) المقدمات (1/ 130). (¬3) المحلى (مسألة: 265). (¬4) الاختيارات (ص: 28).

فرع: إذا انقطع الدم عن المرأة الكبيرة، ثم عاد

فرع: إذا انقطع الدم عن المرأة الكبيرة، ثم عاد إذا انقطع الدم عن المرأة الكبيرة لكونها كبيرة، ودام انقطاعه سنوات ثم عاودها الدم فما الحكم؟. الجواب: إذا كانت صفرة أو كدرة فلا تلتفت إليه؛ لأن الصفرة والكدرة في زمن الحيض، ووقت العادة حيض، أما هذه فقد يئست، كما أن الدم إن كان مجرد قطعة من الدم لم يكن متصلاً فكذلك لا تلتفت إليه؛ لأن ذلك ربما كان ناتجاً عن حمل المرأة شيئاً ثقيلاً نزل على أثره قطعة من الدم. فإن كان الدم جارياً، ولا تعلم له سبب، فقد اختلف العلماء هل يكون دم فساد مثله مثل من به سلس بول، أو يكون حيضاً؟. والأقوال لا تخرج عن ثلاثة أقوال: الأول: أنه دم فساد، يكون حكمه حكم من به حدث دائم. قال أحمد في المرأة الكبيرة ترى الدم: لا يكون حيضاً، هو بمنزلة الجرح، وإن اغتسلت فحسن (¬1). فلم يجعل حكمها كحكم الاستحاضة، وذلك بالعمل بالتمييز، أو العادة؛ لأنه لا يرى أن يتأتى منها الحيض، وهي بهذا السن. وقال ابن رشد: "وأما العجوز التي لا يشبه أن تحيض، فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة وفساد لانتفاء الحيض مع الكبر، كما ينتفي مع الصغر" (¬2). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 447). (¬2) المقدمات (1/ 30).

القول الثاني: إن كان الدم على صفة دم الحيض، فإنه حيض، وهو اختيار ابن حزم، قال: "وإن رأت العجوز المسنة دماً أسود فهو حيض مانع من الصلاة والصوم والطواف والوطء، برهان ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكرناه قبل بإسناده -: "إن دم الحيض أسود يعرف". وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأته بترك الصلاة، وقوله عليه السلام في الحديث: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" فهذا دم أسود، وهي من بنات آدم، ولم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس حيضاً، كما جاء به النص فى الحامل، فإن ذكروا قول الله عز وجل {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (¬1). قلنا: إنما أخبر الله تعالى عنهن بيأسهن، ولم يخبر تعالى أن يأسهن حق قاطع لحيضهن، ولم ننكر يأسهن من الحيض لكن قلنا: إن يأسهن من الحيض ليس مانعاً من أن يحدث الله تعالى لهن حيضاً، ولا أخبر تعالى بأن ذلك لا يكون ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} (¬2) فأخبر تعالى أنهن يائسات من النكاح، ولم يكن ذلك مانعاً من أن ينكحن بلا خلاف من أحد ولا فرق بين ورود الكلامين من الله تعالى من اللائي يئسن من المحيض، واللائي لا يرجون نكاحاً، فكلاهما حكم وارد في اللواتي يظنن هذين الظنين، وكلاهما لا يمنع مما يئسن منه من ¬

_ (¬1) الطلاق، آية: 4. (¬2) النور، آية: 60.

المحيض والنكاح. اهـ (¬1). وقال ابن تيمية: "إذا انقطع دمها ويئست من أن يعود، فقد يئست من المحيض، ولو كانت بنت أربعين، فإذا تربصت وعاد الدم، تبين أنها لم تكن آيسة" اهـ (¬2). ودليل آخر أن الله سبحانه وتعالى علق أحكام الحيض على وجوده، فقال سبحانه وتعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬3). فإذا وجد الأذى وجد حكمه، ولا فرق بين كونه يتقدمه طهر طويل، أو طهر قصير، ما دام أن هذا الدم له لون دم الحيض، ورائحته النتنة التي تعرفها المرأة من عادتها. القول الثالث: لا نحكم له بأنه حيض حتى يتكرر ثلاث مرات، وقد جاء في مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله "سألت أبي عن امرأة قد أتى عليها نيف وخمسون سنة، ولم تحض منذ سنة، وقد رأت منذ يومين دماً ليس بالكثير، ولكنها إذا استنجت رأته، ولم تفطر، ولم تترك الصلاة. ما ترى لها؟ ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة: 265). (¬2) مجموع الفتاوى (19/ 24) (¬3) البقرة، آية: 222.

فقال أبي: لا تلتفت إليه، تصوم وتصلي، فإن عاودها بعد ذلك مرتين أو ثلاثاً فهذا حيض، وقد رجع تقضي الصوم. قلت: فالصلاة؟ قال: لا" اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله (ص: 46).

الفصل الثالث: خلاف العلماء في حيض الحمل

الفصل الثالث: خلاف العلماء في حيض الحمل اختلف العلماء في الحامل هل تحيض أم لا؟. فقيل: لا تحيض. وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2) والقديم من قول الشافعي (¬3). وقيل: بل تحيض. وهو مذهب المالكية (¬4)، والشافعية في الجديد (¬5). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 186)، تبيين الحقائق (1/ 67)، بدائع الصنائع (1/ 42)، البحر الرائق (1/ 229)، مراقي الفلاح (ص: 57)، حاشية ابن عابدين (1/ 285)، البناية (1/ 691). (¬2) الإنصاف (1/ 357)، المحرر (1/ 26)، المغني (1/ 443)، شرح الزركشي (1/ 450)، كشاف القناع (1/ 202)، شرح منتهى الإرادات (1/ 114)، زاد المعاد (4/ 235)، تنقيح التحقيق (1/ 616). (¬3) قال النووي في الروضة (1/ 74): "مما تراه الحامل من الدم فيه قولان: القديم: أنه دم فساد. والجديد: الأظهر أنه حيض". (¬4) الموطأ (1/ 60)، المدونة (1/ 155)، التمهيد (فتح البر) (3/ 497)، الاستذكار (3/ 197)، القوانين الفقهية (ص: 31)، الخرشي (1/ 205)، مختصر خليل (ص: 19)، المنتقى للباجي (1/ 120)، الشرح الصغير (1/ 211)، حاشية الدسوقي (1/ 169)، مواهب الجليل (1/ 369)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 134)، منح الجليل (1/ 168). (¬5) المجموع (2/ 411)، روضة الطالبين (1/ 174)، مغني المحتاج (1/ 119، 118)، نهاية المحتاج (1/ 355)، المبسوط لابن المنذر (2/ 238)، حاشية القليوبي وعميرة (1/ 108).

أدلة من قال: الحامل لا تحيض.

ورواية عن أحمد، بل حكي أنه رجع إليه (¬1). أدلة من قال: الحامل لا تحيض. [الدليل الأول] (*) [25] روى الدارقطني، قال: نا أبو محمد بن صاعد، نا عبد الله بن عمران العائذي بمكة، نا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن مسلم الجندي، عن عكرمة عن ابن عباس قال: نهى - صلى الله عليه وسلم - أن توطأ حامل حتى تضع أو حائل حتى تحيض. قال لنا ابن صاعد: وما قال لنا في هذا الإسناد أحد عن ابن عباس إلا العائذي (¬2) اهـ يعني أنه انفرد بوصله وغيره يرسله. [والحديث صحيح بمجموع طرقه] (¬3). ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية في الاختيارات (ص: 30): "الحامل قد تحيض، وهو مذهب الشافعي، وحكاه البيهقي رواية عن أحمد، بل حكى أنه رجع إليه". (¬2) سنن الدارقطني (3/ 257). (¬3) في هذا الحديث عمرو بن مسلم. ضعفه أحمد. الجرح والتعديل (6/ 259)، ضعفاء العقيلي (3/ 291). وقال مرة: ليس بذاك. المراجع السابقة، وانظر الكامل (5/ 119). وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/ 92). وقال يحيى بن معين: ليس بالقوي كما في رواية عباس الدوري. تهذيب الكمال (22/ 243). وقال أيضاً: لا بأس به كما في رواية إبراهيم الجندى عنه. تهذيب التهذيب (5/ 119). وقال ابن عدي: ليس له حديث منكر جداً فأذكره. الكامل (5/ 119). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث. الثقات (8/ 488). وقال ابن حزم: ليس بشيء. المحلى (10/ 239). وقال الذهبي في (من تكلم وهو موثق): "صدوق". وقال أيضاً: لينه أحمد وغيره، ولم يترك، وقواه ابن معين. الكاشف (4232). وفي التقريب: صدوق له أوهام. وقد اختلف عليه في هذا: فرواه الدارقطني: كما في هذا الإسناد من طريق ابن عيينة، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً. وروى ابن أبي شيبة (4/ 30) ح 17460 حدثنا معتمر بن سليمان، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن طاووس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر منادياً ..... فذكر نحوه مرسلاً. والذي يظهر أن الوصل ليس من ابن عيينة، ولكنه من الراوي عنه، عبد الله بن عمران العائذي، ولذا نقل الدارقطني عن شيخه ابن صاعد: "قال لنا ابن صاعد، وما قال في هذا الإسناد أحد: عن ابن عباس، إلا العائذي". يشير إلى تفرده بوصله، وأن الراجح فيه المرسل. ولم يتعقب الدارقطني شيخه كالموافق له. والعائذي له ترجمة في الجرح والتعديل (5/ 130)، قال أبو حاتم: صدوق. وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، رواه أحمد (3/ 62) حدثنا يحيى ابن إسحاق، وأسود بن عامر، قالا: أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق وقيس بن وهب، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في سبي أوطاس: لا توطأ حامل - قال أسود حتى تضع - ولا غير حامل حتى تحيض حيضة - قال يحيى: أو تستبري بحيضة -. وهذا إسناد ضعيف أيضاً من أجل شريك؛ فإنه سيء الحفظ، لكنه إذا أضيف إلى الشاهد السابق صار صالحاً للاحتجاج بمجموع طرقه. تخريج الشاهد: قد أخرجه أبو داود (2157)، والدارمي (2295)، والدارقطني (4/ 112)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 449)، والحاكم في المستدرك (2/ 195) من طريق شريك، عن قيس بن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وهب وحده به. قال الحاكم: هذا حديث على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. قلت: لا ينبغي أن يكون على شرط مسلم، فإن مسلماً إنما أخرج لشريك مقروناً. وقال ابن عبد الهادي (1/ 617)، والحافظ في التلخيص (1/ 304): "إسناده حسن" ولو قالا: حديث حسن لحمل على المجموع، أما أن يكون إسناده حسناً فإن شريكاً لا يبلغ حديثه حديث الحسن لذاته، وله شاهد مرسل رواه ابن أبي شيبة (4/ 29) ح 17451 حدثنا أبو خالد الأحمر، عن داود، عن الشعبي، قال: قلت له: إن أبا موسى نهى حين فتح تستر: لا توطأ الحبالى، ولا نشارك المشركين في أولادهم، فإن الماء يزيد في الولد. أشيء قاله برأيه؟ أو شيء رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع أو غير حامل حتى تستبرأ. إسناده حسن، رجاله ثقات، إلا أبا خالد الأحمر. قال: ابن عدي: له أحاديث صالحة، ما أعلم له غير ما ذكرت مما فيه كلام ويحتاج فيه إلى بيان، وإنما أتي هذا من سوء حفظه، فيغلط ويخطئ. وهو في الأصل كما قال ابن معين: صدوق، وليس بحجة. الكامل (3/ 281). وقال أَبو بكر البزار: اتفق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظاً. تهذيب التهذيب (4/ 159). وقال الذهبي: من مشاهير المحدثين، وغيره أثبت منه. تذكرة الحفاظ (1/ 272). وذكره العقيلي في الضعفاء (2/ 124). هذا أسوأ ما قيل فيه. وقد قيل فيه ما يلي: قال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (11/ 394). ووثقه ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. الطبقات (6/ 391). وقال ابن المديني: ثقة. الجرح والتعديل (4/ 106). وقال أَبو حاتم الرازي: صدوق. المرجع السابق. وقال ابن معين: صدوق، وليس بحجة، كما في رواية الدوري عنه (الكامل (3/ 281). وقال أيضاً: ليس به بأس، كما في رواية الدارمي عنه الجرح والتعديل (4/ 106). وقال العجلي: كوفي ثقة. ثقات العجلي (1/ 427).

وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم، ولو كانت الحامل تحيض ما جاز وطؤها بمجرد الحيض. وأجيب: قال ابن عبد البر: "ليس في قوله عليه السلام: "لا توطأ حامل ¬

_ وقال إسحاق بن راهوية: سألت وكيعاً عن أبي خالد الأحمر، فقال: أَبو خالد ممن يسأل عنه. تهذيب الكمال (11/ 394)، وتهذيب التهذيب (4/ 159). وفي التقريب: صدوق يخطئ. فهذا المرسل حسن الإسناد. وله شاهد آخر، وهو ما رواه أحمد (4/ 108) حدثنا يحيى بن إسحاق وقتيبة بن سعيد، قالا: ثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن حنش الصنعاني، عن رويفع بن ثابت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لأحد - وقال قتيبة: لرجل - أن يسقي ماءه ولد غيره، ولا يقع على أمة حتى تحيض، أو يبين حملها. وأخرجه أَبو داود (2158) حدثنا النفيلي، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حنش الصنعاني، عن رويفع بن ثابت الأنصاري، قال: قام فينا خطيباً، فقال: أما إني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم حنين، قال: لا يحل لإمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره - يعني إتيان الحبالى - ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتي يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنماً حتى يقسم. وإسناد أحمد فيه ابن لهيعة، إلا أن الراوي عنه قتيبة بن سعيد، وهو ممن روى عنه قبل احتراق كتبه، كما أفاده الذهبي في السير (8/ 17)، فتكون روايته أعدل من غيرها، وقد توبع ابن لهيعة كما في إسناد أبي داود، وهو سند حسن، وقد صرح بالتحديث ابن إسحاق، فيكون حديث رويفع. بمجموع الطريقين صحيحاً لغيره، فيتقوى به حديث ابن عباس، وحديث أبي سعيد، ومرسل الشعبي، فقد ذكر الحافظ في التلخيص شواهد أخرى ضعيفة ارجع إليها (1/ 304). والله أعلم.

حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض" ما ينفي أن يكون حيض على حمل؛ لأن الحديث إنما ورد في سبي أوطاس، حين أرادوا وطأهن، فأخبر أن الحامل لا براءة لرحمها بغير الوضع، والحائل لا براءة لرحمها بغير الحيض، لا أن الحامل لا تحيض" (¬1). وقال ابن القيم: "النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم النساء إلى قسمين: - حامل، فعدتها وضع الحمل. - وحائل، فعدتها بالحيض. ونحن قائلون بموجب هذا، غير منازعين فيه، ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصوم وتصلي، هذا أمر آخر لا تعرض للحديث به. ولهذا يقول القائل بأن دمها دم حيض هذه العبارة بعينها، ولا يعد هذا تناقضاً ولا خللاً في العبارة. وقال من قبل: قولكم إنه جعله دليلاً على براءة الرحم من الحمل في العدة والاستبراء. جعله دليلاً ظاهراً أو قطعياً؟ الأول: صحيح. والثاني: باطل؛ فإنه لو كان دليلاً قطعياً لما تخلف عن مدلوله، ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض، وهذا لم يقله أحد، بل أول مدة الحمل من حين الوطء، ولو حاضت بعده عدة حيض، فلو وطئها، ثم جاءت لولد لأكثر من ستة أشهر من حين الوطء، ولأقل منها من ¬

_ (¬1) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 499، 498).

الدليل الثاني

حين انقطاع الحيض لحقه نسبه اتفاقاً، فعلم أنه أمارة ظاهرة، وقد يتخلف عنها مدلولها تخلف المطر عن الغيم الرطب. وبهذا يخرج الجواب عما استدللتم به من السنة، فإنّا بها قائلون، وإلى حكمها صائرون، وهي الحكم بين المتنازعين (¬1). الدليل الثاني: [26] ما رواه مسلم رحمه الله، قال: وحدثنا أَبو بكر بن أبي شيبة وزهير ابن حرب وابن نمير - واللفظ لأبي بكر - قالوا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سالم، عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهى حائض فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا (¬2). جاء في التنقيح: "قال أَبو بكر الأثرم لأبي عبد الله ما ترى في الحامل ترى الدم تمسك عن الصلاة؟ قال: لا. قلت: أي شيء أثبت في هذا الباب؟ فقال: أنا أذهب في هذا إلى حديث محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سالم، عن أبيه، أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مره فاليراجعها، ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً فأقام الطهر مقام الحمل. فقلت: فإنك ذهبت بهذا الحديث إلى أن الحامل ¬

_ (¬1) زاد المعاد (4/ 236، 235). (¬2) مسلم (5 - 1471).

الدليل الثالث

لا تكون إلا طاهراً؟ قال: نعم" (¬1). الدليل الثالث: قالوا: طلاق الحامل ليس ببدعة في زمن الدم وغيره إجماعاً، ولو كانت تحيض لكان طلاقها في زمن الدم وفي طهرها بعد المسيس بدعة عملاً بعموم الخبر (¬2). وأجيب بما يلي: قال ابن القيم: في حديث ابن عمر إباحة الطلاق إذا كانت حائلاً بشرطين: الطهر، وعدم المسيس. فأين هذا التعرض لحكم الدم الذي تراه على حملها. وقولكم: إن الحامل لو كانت تحيض لكان طلاقها في زمن الدم بدعة، وقد اتفق الناس على أن طلاق الحامل ليس ببدعة، وإن رأت الدم. قلنا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أحوال النساء التي يراد طلاقها إلى: - حال حمل. - حال خلو منه. وجواز طلاق الحامل مطلقاً من غير استثناء، وأما غير ذات الحمل فإنما اباح طلاقها بالشرطين المذكورين، وليس في هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد، بل على أن الحامل تخالف غيرها في الطلاق، وأن غيرها إنما تطلق ¬

_ (¬1) التنقيح - ابن عبد الهادي (1/ 616) (¬2) زاد المعاد (4/ 236).

الدليل الرابع

طاهراً غير مصابة، ولا يشترط في الحمل شيء من هذا، بل تطلق عقيب الإصابة، وتطلق وإن رأت الدم فكما لا يحرم طلاقها عقيب إصابتها، لا يحرم حال حيضها، وهذا الذي تقتضية حكمة الشرع في وقت الطلاق إذناً ومنعاً، فإن المرأة متى استبان حملها كان المطلق على بصيرة من أمره، ولم يعرض له من الندم ما يعرض له بعد الجماع ولا يشعر بحملها، فليس ما مُنِع منه نظير ما أذن فيه لا شرعاً ولا واقعاً ولا اعتباراً، ولا سيما من علل المنع من الطلاق فى الحيض بتطويل العدة، فهذا لا أثر له في الحمل (¬1). الدليل الرابع: قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بانقلاب دم الطمث لبناً وغذاء للحمل، فالخارج وقت الحمل يكون غيره، فهو دم فساد. وأجيب: قال ابن القيم: "وهذا من أكبر حجتنا عليكم؛ فإن هذا الإنقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم عند الوضع، وهو زمن سلطان الرضاع، وارتضاع المولود، وقد أجرى الله العادة بأن المرضع لا تحيض، ومع هذا لو رأت دماً في وقت عادتها لحكم له بحكم الحيض بالاتفاق، فلأن يحكم له بحكم الحيض في الحال التي لم ¬

_ (¬1) زاد المعاد (4/ 236).

الدليل الخامس

يستحكم فيها انقلابه ولا تغذي الطفل به أولى وأحرى. وهب أن هذا كما تقولون، فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن، وهذا بعد أن ينفخ فيه الروح، فأما قبل ذلك فإنه لا ينقلب لبناً لعدم حاجة الحمل إليه. وأيضاً فإنه لا يستحيل كله لبناً، بل يستحيل بعضه، ويخرج الباقي (¬1). الدليل الخامس: قال تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2). وقال سبحانه {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬3). قالوا: فلو كانت الحامل تحيض لكانت عدتها ثلاث حيض، فلما كان الدم الذى قد تراه الحامل لا ينقضي به العدة لم يكن حيضاً بل استحاضة. ورد هذا الاستدلال: بأن الله سبحانه وتعالى جعل عدة الحامل بوضع الحمل، وعدة الحائل بالأقراء، ولو أمكن انقضاء عدة الحامل بالأقراء لأفضى ذلك بأن يملكها الثاني أو يتزوجها وهي حامل من غيره، فيسقي ماؤه زرع غيره (¬4). ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق، والصفحة نفسها. (¬2) البقرة، آية: 228. (¬3) الطلاق، آية: 4. (¬4) زاد المعاد (4/ 236).

الدليل السادس

والحمل يسيطر على ما عداه من العدد، فهو يلغي بأن يكون عدة ويلغي غيره كما لو مات رجل عن امرأته، وهي حامل، ووضعت بعد موته بلحظة فإن عدتها تنقضي بينما المتوفى عنها زوجها بلا حمل، عدتها أربعة أشهر وعشرا، ولهذا لو حاضت الحامل ثلاث حيض مطردة كعادتها تماماً فإن عدتها لا تنقضي. تبين من هذا أن إلغاء الاعتداد بالحيض زمن الحمل، ليس لأنه ليس حيضاً، وإنما لأن الحيض لا يصلح أن يكون عدة مع الحمل. الدليل السادس: [27] روى الدارمي، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - ثنا خالد بن الحارث، وعبدة بن سليمان، عن سعيد، عن مطر، عن عائشة في الحامل ترى الدم، قالت: تغتسل وتصلي. [حسن لغيره] (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في سننه (933)، وأخرجه أيضاً (934) أخبرنا يزيد بن هارون، ثنا همام، عن مطر، عن عطاء، عن عائشة في الحامل ترى الدم. قالت: تغتسل وتصلي. قال يزيد: لا تغتسل. قال عبد الله: أقول بقول يزيد. وفي هذين الإسنادين: مطر بن طهمان الوراق. وقال يحيى بن معين: ضعيف في حديث عطاء بن أبي رباح، كما في رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل. الجرح والتعديل (8/ 287). وقال أيضاً: صالح، كما في رواية إسحاق بن منصور.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الجرح والتعديل (8/ 287). وقال أَبو حاتم: هو صالح الحديث، أحب إلي من عقبة الأصم، ومن سليمان بن الأشدق ... الخ المرجع السابق. وقال ابن أَبى حاتم: قال أَبو زرعة: صالح، وكأنه لين أمره. الجرح والتعديل (8/ 287). وقال ابن سعد: كان فيه ضعف في الحديث. الطبقات الكبرى (7/ 254). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (567). وقال أَبو داود: ليس هو عندي بحجة، ولا يقطع به في حديث إذا اختلف. تهذيب التهذيب (10/ 152). وكان يحيى بن سعيد القطان يشبه مطر الوراق بابن أبي ليلي في سوء الحفظ. ضعفاء العقيلي (4/ 219). وقال ابن عدي: ولمطر عن قتادة وعطاء أحاديث صالحة، وكان يكتب المصحف بالبصرة، ولذا سمي بالوراق، وهو مع ضعفه يكتب حديثه ويجمع. الكامل (6/ 396). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ، وكان معجباً برأيه. الثقات (5/ 435). وذكر الحاكم أن مسلماً أخرج له في المتابعات دون الأصول. تهذيب التهذيب (10/ 152). وقال أحمد: مطر في عطاء ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (8/ 287). وفي التقريب: صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف. قلت: وهذا الأثر هو من حديثه عن عطاء. وأخرجه الدارقطني (1/ 219) من طريق يعقوب بن القعقاع، عن مطر، عن عطاء به. وأخرجه عبد الرزاق (1214) ومن طريقه أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 239) قال: أخبرنا محمد بن راشد، قال: حدثنا سليمان بن موسى، عن عطاء به. بلفظ: "إذا رأت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الحامل الصفرة توضأت وصلت، وإذا رأت الدم اغتسلت وصلت، ولا تدع الصلاة على كل حال" اهـ. وهذا الاغتسال عند رؤية الدم لعلها اعتبرها مستحاضة، وهو من قبيل الندب لا الوجوب. وفي إسناد عبد الرزاق: سليمان بن موسى. قال البخاري: عنده مناكير. الضعفاء الصغير (146)، وانظر التاريخ الكبير (4/ 38)، ضعفاء العقيلي (2/ 140). وقال النسائي: أحد الفقهاء، وليس بالقوي في الحديث. تهذيب التهذيب (4/ 197)، تهذيب الكمال (12/ 92). وقال في موضع آخر: في حديثه شيء. المرجع السابق. وقال أَبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحداً من أصحاب مكحول أفقه منه، ولا أثبت منه. الجرح والتعديل (4/ 141). وقال أَبو داود لا بأس به ثقة. تهذيب التهذيب (4/ 197). وذكره أَبو زرعة في كتاب أسامي الضعفاء، وكذلك العقيلي، وابن الجارود. المرجع السابق. وقال الزهري: إن مكحولاً يأتينا، وسليمان بن موسى يأتينا، وأيم الله لسليمان أحفظ الرجلين. الجرح والتعديل (4/ 141). وقال دحيم: أوثق أصحاب مكحول سليمان بن موسى. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان فقيهاً ورعاً، كانوا إذا اجتمعوا عند عطاء هو الذي كان يتولى لهم السؤال. الثقات (6/ 379). وقال ابن سعد: كان ثقة، واثنى عليه ابن جريج. الطبقات (7/ 457). وقال ابن عدي: فقيه راوٍ، حدث عنه الثقات من الناس، وهو أحد علماء أهل الشام، وقد روى أحاديث ينفرد بها، لا يرويها غيره، وهو عندي: ثبت صدوق. الكامل (3/ 263).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 140). وفي التقريب: صدوق فقيه في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل. وفي الإسناد: محمد بن راشد. اختلف فيه. قال الدارقطني: ضعيف عند أهل الحديث. السنن (3/ 176). وهذا من الدارقطني ليس مجرد حكم على الرجل، بل حكم منه، ونقل عن رجال أهل الحديث. وقال الدارقطني أيضاً: يعتبر به. تاريخ بغداد (5/ 271)، تهذيب الكمال (25/ 186). واختلف قول النسائي فيه. فقال مرة: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (548). وقال في موضع آخر: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (9/ 140). وقال أيضاً: ثقة. اللسان (7/ 519)، تهذيب التهذيب (9/ 140). وقال يحيى بن معين: ليس به بأس، وكان يقول بالقدر كما في رواية ابن الجنيد. تهذيب الكمال (25/ 186). وقال أيضاً: ثقة، كما في رواية إسحاق بن منصور. الجرح والتعديل (7/ 253) ورواية الدوري عنه أيضاً. الكامل - ابن عدي (6/ 201). وقال أحمد بن حنبل: ثقة. كما في رواية أبي طالب عنه. الجرح والتعديل (7/ 253). ورواية عبد الله بن أحمد، كما في تاريخ بغداد (5/ 271). وقال دحيم: ثقة، وكان يميل إلى هوى. الكامل (6/ 201). تهذيب الكمال (25/ 186). وقال ابن المديني: ثقة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ تهذيب التهذيب (9/ 140). وقيل لعبد الرحمن بن مهدي: إنك تحدث عن كل أحد. قال: عمن؟ فذكر له محمد ابن راشد، فقال: احفظ عن الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا يختلف فيه أحد. وآخر يهم، والغالب على حديثه الصحة، فهذا لا يترك حديثه، وآخر يهم، والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه. ضعفاء العقيلي (4/ 65). وقال ابن حبان: كان من أهل الورع والنسك، ولم يكن صناعة الحديث من بزره، فكان يأتي بالشيء على الحسبان، ويحدث على التوهم، فكثر المناكير في روايته، فاستحق ترك الاحتجاج به. المجروحين (2/ 253). وقال يعقوب بن شيبة: صدوق. تهذيب التهذيب (9/ 140). وقال ابن المبارك: صدوق اللسان. الكامل (6/ 201). وقال ابن عدي: ليس بروايته بأس، إذا حدث عنه ثقة فهو مستقيم الحديث. الكامل (6/ 201). وفي التقريب: صدوق يهم، ورمي بالقدر. وخلاصة البحث: أن الأثر بمجموع الطريقين يكون ثابتاً عن عائشة قولها: إن الحامل لا تحيض، ومع كونه موقوفاً على عائشة إلا أنه ثبت عنها أن الحامل تحيض، بل رجحه أحمد على هذا الأثر. ففي زاد المعاد (4/ 234): "قال إسحاق بن راهوية: قال لي أحمد بن حنبل: ما تقول في الحامل ترى الدم؟ فقلت: تصلي، واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضي الله عنها. قال: فقال لي: أين أنت من خبر المدنيين، خبر أم علقمة مولاة عائشة رضي الله عنها فإنه أصح.

الدليل السابع

الدليل السابع: [28] قال الزركشي في شرحه للخرقي: "روى عن ابن شاهين، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إن الله رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقاً للولد (¬1). [لم أقف على إسناده لأنظر في ثبوته عن ابن عباس] (¬2). وقد ناقشت كون الحامل لا تحيض من أجل تغذية الجنين. أولاً: أن هذا يتصور بعد نفخ الروح فيه. وثانياً: أنه منتقض بالمرضع، فالمرضع لا تحيض غالباً من أجل إرضاع الولد، وإذا رأت الدم فهو حيض بالاتفاق. الدليل الثامن: الحس والواقع يشهد بأن الحامل لا تحيض. ¬

_ قال إسحاق: فرجعت إلى قول أحمد رحمه الله". وهذا كالصريح من أحمد رحمه الله بأن دم الحامل دم حيض، وسوف نأتي على أثر أم علقمة عن عائشة في أدلة القول الثاني. وقال ابن قدامة في المغني (1/ 443): "وروي عن عائشة - يعني القول بأن الحائض تصلي إذا رأت الدم - ثم قال: "والصحيح عنها إذا رأت الدم لا تصلي". (¬1) شرح الزركشي (1/ 451). (¬2) قال محقق شرح الزركشي وفقه الله (1/ 451) "ولم أجد هذا الأثر في كتب الحديث المطبوعة مسنداً، ولم أقف على شيء من مؤلفات ابن شاهين" اهـ.

الدليل التاسع

قال أحمد: إنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم. (¬1) قلت: كونه عادة في الغالب لا يمنع إذا نزل الدم أن يحكم له بأنه حيض، كالمرضع غالباً لا تحيض، وإذا نزل الدم حكم له بأنه حيض إجماعاً. الدليل التاسع: قياس الحامل على الآيسة. فما تراه الآيسة من الدم لا يحكم له بأنه حيض؛ لأنه زمن لا يعتادها الحيض غالباً، فكذلك الحامل إذا رأت الدم لا يحكم له بأنه حيض؛ لأنه زمن لا يعتادها غالباً. والجواب على هذا ما رجحته في المسألة التى قبل هذه، وأن الآيسة إذا عاد لها دم الحيض بعد انقطاعه تركت الصلاة والصيام، وإذا انهدم المقيس عليه انهدم المقيس، فالفرع لا يثبت مع عدم التسليم في الأصل. هذا ما تيسر لي جمعه من أدلة القائلين بأن الحامل لا تحيض. ونسبه ابن قدامة بأنه قول جمهور التابعين، منهم عطاء (¬2)، والحسن (¬3)، وجابر بن زيد، ¬

_ (¬1) المغني (1/ 444). (¬2) سنن الدارمي (938) بإسناد صحيح عنه وانظر (943، 944, 937) فقد ساقه من طرق كثيرة عن عطاء، وبعضها عن عطاء والحكم بن عتيبة. (¬3) انظر سنن الدارمي (939) بإسناد صحيح عنه (941، 935) ورواه الدارمي (932) من طريق هشام عن الحسن، قال: إن كانت تريه كما كانت تريه قبل ذلك في أقرائها تركت الصلاة، وإن كان إنما هو في اليوم أو في اليومين لم تدع الصلاة.

أدلة القائلين بأن الحامل تحيض.

وعكرمة، ومحمد بن المنكدر، والشعبي (¬1) ومكحول، وحماد، والثوري، والأوزاعي (¬2)، وأبو حنيفة، وابن المنذر، وأبو عبيد، وأبو ثور، واختلف فيه على عائشة (¬3). أدلة القائلين بأن الحامل تحيض. الدليل الأول: قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬4)، فإذا وجد الأذى وجد حكمه، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. الدليل الثاني: [29] روى البخاري، ومسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فى الحيض: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم" الحديث قطعة من حديث طويل (¬5). وجه الاستدلال: خرجت الصغيرة جداً التي لم تبلغ؛ لأن الحيض علامة على البلوغ كما ¬

_ (¬1) سنن الدارمي (930) وإسناده صحيح. (¬2) سنن الدارمي (931). (¬3) المغني (1/ 443). (¬4) البقرة، آية: 222. (¬5) البخاري (294)، ومسلم (1211).

الدليل الثالث

بينا، وخرجت الآيسة كما في قوله تعالى {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} (¬1) وبقي ما عداهما. ومن أراد إخراج الحامل، وأنها لا تحيض فعليه الدليل من الكتاب أو من السنة، ولا دليل. الدليل الثالث: قال ابن القيم: "لا نزاع أن الحامل قد ترى الدم على عادتها، ولا سيما في أول حملها، وإنما النزاع في حكم هذا الدم لا في وجوده، وقد كان حيضاً قبل الحمل بالإتفاق، فنحن نستصحب حكمه حتى يأتي دليل من الشرع يرفع حكمه، والحكم إذا ثبت فى محل فالأصل بقاؤه حتى يأتي ما يرفعه، فكيف نحكم له بأنه حيض قبل الحمل، وبعده لا نثبت له نفس الحكم، مع أن الدم هو الدم، والرائحة هي الرائحة. هذا تفريق بين متماثلين. اهـ (¬2). الدليل الرابع: الدم الخارج من الفرج الذى رتب الشارع عليه الأحكام قسمان: حيض، واستحاضة. ولم يجعل لهما ثالثاً. وهذا ليس باستحاضة؛ فإن الاستحاضة الدم المطلق، والزائد على أكثر الحيض، أو الخارج عن العادة، وهذا ليس واحداً منها فبطل أن يكون استحاضة فهو حيض، ولا يمكنهم إثبات قسم ثالث في هذا ¬

_ (¬1) الطلاق، آية: 4. (¬2) انظر بتصرف يسير زاد المعاد (4/ 235).

الدليل الخامس

المحل، وجعله دم فساد؛ فإن بها لا يثبت إلا بنص أو إجماع، أو دليل يجب المصير إليه، وهو منتف (¬1). الدليل الخامس: حيض المرأة: خروج دمها في أوقات معلومة لغة وشرعاً، وهذا كذلك، وقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - المستحاضة إلى قدر عادتها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجلسي قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها"، فدل على أن عادة النساء معتبرة فى وصف الدم وحكمه، فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة ووقتها من غير زيادة ولا نقصان، ولا انتقال دلت عادتها على أنه حيض، ووجب تحكيم عادتها وتقديمها على الفساد الخارج عن العادة (¬2). الدليل السادس: [30] ما أخرجه الدارمي، قال: أخبرنا حجاج، ثنا حماد، عن يحيى ابن سعيد، عن عائشة، أنها قالت: إذا رأت الحبلى الدم فلتمسك عن الصلاة فإنه حيض (¬3). [صحيح لغيره] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق. (¬2) زاد المعاد (4/ 235). (¬3) سنن الدارمي (928). (¬4) ورواه الدارمي أيضاً (294): أخبرنا أَبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ سعيد، قال: أمر لا يختلف فيه عندنا عن عائشة: المرأة الحبلى إذا رأت الدم أنها لا تصلي حتي تطهر. وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات إلا أن فيه انقطاعاً؛ فإن يحيى بن سعيد لم يدرك عائشة. قال علي بن المديني: لا أعلمه سمع من صحابي غير أنس. قلت: لم يذكر المزي من شيوخه عائشة، بل ولا ذكر من شيوخه امرأة غير عمرة بنت عبد الرحمان، وهي تابعية. وليحيى متابع فقد روته أم علقمة عن عائشة. أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 239) من طريق ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة والليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله، عن أم علقمة، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها سئلت عن الحامل ترى الدم. أتصلي؟. قالت: لا تصلى، حتى يذهب الدم. وابن لهيعة هنا الراوي عنه عبد الله بن وهب، وهو ممن أمسك عن الرواية عنه بعد احتراق كتبه، وقد تابعة ثقة الليث بن سعد. وفي الإسناد: أم علقمة واسمها مرجانة. روى لها البخاري تعليقاً، في كتاب الحيض، باب (19): إقبال المحيض وإدباره، روى عنها ابنها علقمة كما في الموطأ (1/ 59)، وبكير بن عبد الله الأشج، كما في سنن البيهقي (1/ 423, 281, 61). وذكرها ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 466). وذكرها الذهبي في الميزان (4/ 610) من المجهولات. وفي التقريب: مقبولة، يعني حيث توبعت. والذي أراه أن حديثها في مرتبة الحسن لذاته. أولاً: لأنها من التابعين، والكلام في التابعين قليل، واشتراط أن يوجد فيها نص على توثيقها متعسر؛ لقلة الكلام في الرواة، ولكون الكذب في عهدهم لم يتفش. ثانياً: البخاري قد علق في كتاب الحيض، في باب (19) إقبال الحيض وإدباره أثراً عن عائشة بصيغة الجزم، وهذا يقتضي صحته إلى من علقه عنها، وهو لا يعرف إلا من رواية أم علقمة، عن عائشة، فلو كان فيها ما يقدح في روايتها لعلقه البخاري عنها، عن عائشة. ثالثاً: أن مالكاً أخرج لها في الموطأ (1/ 59)، ومعلوم شدة الإمام مالك، وتنقيته

أجاب أصحاب القول الأول عن أثر عائشة: بأن كلامها محمول على ما تراه قريباً من الولادة بيوم أو يومين، وأنه نفاس جمعاً بين قوليها. قلت: هذا الجواب من الممكن أن يقبل لو قالت: لا تصلي، وأما مع التصريح بأنه حيض كما في رواية يحيى بن سعيد، عنها فلا يصح هذا الاحتمال. والراجح من الأقوال أن الحامل تحيض، لكن لما كان الغالب في الحامل ¬

_ للرجال، وهي مدنية، ومالك من أعلم الناس في أهل المدينة. والله أعلم. وقد نقلت في أدلة القول الأول ترجيح الإمام أحمد لرواية أم علقمة عن عائشة، على رواية عطاء عنها. وبالتالي فالأثر عن عائشة إذا انضم إلى الطريق الأول يكون صحيحاً لغيره. وروى مالك في الموطأ (1/ 60) أنه سأل ابن شهاب عن المرأة الحامل ترى الدم قال تكف عن الصلاة قال يحيى: قال مالك وذلك الأمر عندنا. وقد رواه الدارمي (921) حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا مالك به. وهذا إسناد صحيح. وروى الدارمي (927) أخبرنا حجاج، ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: امرأتي تحيض، وهي حبلى. [إسناده صحيح]. قال أَبو محمد الدارمي: سمعت سليمان بن حرب يقول: امرأتي تحيض، وهي حبلى. وروى الدارمي أيضاً (926) أخبرنا أَبو النعمان، ثنا أَبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} [الرعد: 8]، قال: إذا حاضت المرأة، وهي حامل، قال: يكون ذلك نقصاناً من الولد، فإذا زادت على تسعة أشهر كان تماماً لما نقص من ولدها. وهذا سند صحيح عن مجاهد. وثبت مثله عن عكرمة. وممن قال إن الحامل تحيض: قتادة وربيعة، ومالك والليث بن سعد، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهوية، وجماعة. انظر التمهيد كما في فتح البر (3/ 499)، وزاد المعاد (4/ 234).

أنها لا تحيض كان الواجب على المرأة أن تتأكد بأنه دم حيض، بحيث يمكن أن نقول: إن استمرت عادتها، ولم تنقطع أبداً بسبب الحمل بحيث تأتيها في وقتها من كل شهر، فهذا واضح أنه حيض يمنعها من الصلاة والصيام، وإن انقطعت عادتها بسبب الحمل، ثم عاودها الدم نظرت: فإن كان صفرة أو كدرة لم تلتفت إليه؛ لأن الصفرة والكدرة بعد الطهر لا يلتفت إليها. وإن كان دماً، فإن كان إنما نزل عليها قطعة من الدم ثم توقف لم تلتفت إليه أيضاً لاحتمال أن تكون حملت شيئاً ثقيلاً، فنزل معها هذا الدم. وإن كان دماً استمر معها نزوله نظرت المرأة إلى طبيعة الدم، وما تعرفه من عادتها، لأن هذا الدم قد يكون مقدمة لسقوط الجنين، وهو ما يسمى عند نسائنا (العوار) وإن كان الدم دم الحيض بلونه ورائحته وثخونته التي تعهدها المرأة من دم الحيض كفت عن الصلاة، وإن شكت المرأة لم تمتنع عن الصلاة، وإنما قلت: لم تمتنع بالشك، لأمرين: الأول: أن وجوب الصلاة متيقن، ووجود المانع مشكوك فيه، والشك لا يقضي على اليقين. الثاني: أن دم الحيض قد ارتفع بسبب الحمل، فيُسْتَصحب هذا الحكم حتى يتيقن نزوله. والله أعلم بالصواب. هكذا كان الرأي قبل مراجعة كلام الأطباء، وهم أهل الاختصاص، وبعد مراجعة المراجع الطبيه تبين لي أن الحامل لا يمكن أن تحيض بحال، وأن ما تراه المرأة من الدم لا ينطبق عليه أنه حيض، وإليك كلامهم:

لا بد من التصور أولاً كيف يحدث الحيض؟ ثم بعد ذلك إذا عرف مصدر دم الحيض كان من السهولة معرفة هل الحامل تحيض أم لا؟ يقرر الأطباء أن الدورة تبدأ مباشرة بعد الحيض؛ حيث يكون الغشاء المبطن للرحم رقيقاً وبسيطاً، ولا تزيد ثخونته عن نصف ميليمتر، ثم تأتي مرحلة النمو بواسطة تأثير هرمون الانوثة (الاوستروجين) الذي تفرزه حويصلة جراف من المبيض، فينمو الرحم وأوعيته الدموية، وكذلك تنمو غدد الرحم، وتبدو كالأنابيب ... ويبلغ ثخونة غشاء الرحم في هذه المرحلة خمسة ميليمترات ... ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الافراز بواسطة تأثير هرمون الحمل (البروجسترون) الذى تفرزه حويصلة جراف بالمبيض بعد خروج البويضة منها، وتدعى الحويصلة عندئذٍ الجسم الأصفر .. وينمو غشاء الرحم نمواً عظيماً، ويبطن الغشاء بطبقات وثيرة من الدماء والغذاء، وتنمو غدد الرحم نمواً هائلاً استعدداً لعلوق البويضة الملقحة (النطفة الامشاج) .. وتبلغ ثخونة غشاء الرحم في هذه المرحلة ثمانية ميليمترات (أي 16 ضعف ما كان عليه عند بدء الدورة) (¬1). ¬

_ (¬1) يقول الدكتور البار في كتابه خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 75): "ينمو الرحم نمواً هائلاً، وينمو حجمه من شق صغير لا يتسع لأكثر من ميليمترين ونصف إلى عضو ضخم تبلغ سعته سبعة آلاف ميليمتر". ويقول أيضاً: باختصار إن نمو الرحم أثناء الحيض هو أعظم وأسرع نمو في جسم الإنسان، حي أخطر السرطانات، وأسرعها نمواً لا تنمو مثل نموه. إن الرحم الذي يبلغ طوله

فإذ حصل الحمل بإذن الله، وعلقت البويضة استمر الرحم في النمو، ويصبح الجسم الأصفر هو جسم الحمل المُنَمِّي له بواسطة إفراز هرمون الحمل، إما إذا قدر الله ولم يحصل الحمل فإن الرحم تنقبض أوعيته الدموية انقباضاً شديداً تمنع فيه تغذية الغشاء حتى يتفتت ويسقط الغشاء المبطن بالدماء والغدد على شكل دم الحيض، وينهار البناء بكامله، ويبكي الرحم دماً هو دم الحيض (¬1). هكذا يحصل حيض المرأة، فإذا كان كذلك ففي ضوء هذه المعطيات الطبية لا يمكن أن يكون الدم الخارج من المرأة، وهي حامل أن يعتبر حيضاً: يقول الدكتور محي الدين كحالة اختصاصي أمراض وجراحة النساء والتوليد، يؤكد أن الدورة الشهرية للمرأة (الطمث) هى القاعدة التي تهيء الرحم للحمل، وبالتالي فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار ما ينزل من دم على المرأة الحامل هو الحيض الطبيعي للمرأة، بل هو دم مرضي، يسمى في الفقه استحاضة وذكر أن ما تتوهمه الحامل حيضاً: هو في حقيقته دم خلاف طبيعة الحيض، وله أسباب كثيرة منها: 1 - نزول الدم الناتج عن انفجار حويصلة البويضة، يظهر بعد أسبوعين من حمل المرأة. ¬

_ ثلاث بوصات، وعرضه بوصتين، وسمكه بوصة، قبيل الحمل ينقلب كيانه انقلاباً تاماً أثناء الحمل ... ويتضاعف وزنه بما يحمله مئات المرات" اهـ (¬1) انظر خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 77).

2 - نزول دم ناتج عن انغماد البويضة في الرحم بشكل يؤثر على جدار الرحم، ويسبب نزيفاً، وذلك بعد ثلاثة أسابيع من الحمل. 3 - نزول دم قد يستمر من ثلاثة أسابيع إلى تسعة: الأولى من الحمل بسبب عدم امتلاء تجويف الرحم بالجنين. 4 - نزيف ناتج عن التهاب في عنق الرحم في أي وقت من الحمل. 5 - نزيف ناتج عن لحمية في عنق الرحم في أي وقت من الحمل. 6 - جرح في المشيمة يؤدي إلى نزيف. 7 - مرضي سرطاني. 8 - نزف فى حالة حمل هاجر في الأنبوب، حيث يكون الرحم خالياً، وينمو الجنين فى أنبوب الرحم (¬1). ¬

_ (¬1) نقله صاحب كتاب أحكام المرأة الحامل (ص: 27) من بحث في أقل مدة الحيض والنفاس والحمل وأكثرها وقائع الندوة الثالثة الطبية للفقه الطبي. نبيه الجيار. الكويت 18/ 4/ 1987 م.

الفصل الرابع: خلاف العلماء في أقل الحيض

الفصل الرابع: خلاف العلماء في أقل الحيض اختلف العلماء في أقل الحيض. فقيل: أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليها. وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة (¬1). وقيل: أقل مدة الحيض ثلاثة أيام بليلتيها المتخللتين. وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬2). وقيل: لا حد لأقله ولو دفعة. وهذا مذهب مالك (¬3)، وهو الراجح. وقيل: أقل الحيض يوم وليلة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وعليه ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 284)، شرح فتح القدير (1/ 160) تبيين الحقائق (1/ 55) البحر الرائق (1/ 201)، البناية (1/ 614) مراقي الفلاح (ص: 57)، بدائع الصنائع (1/ 40)، المبسوط (3/ 147)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 26). (¬2) المبسوط (3/ 147)، البحر الرائق (1/ 201)، تبيين الحقائق (1/ 55). (¬3) المدونة (1/ 152)، مقدمات ابن رشد (1/ 128)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 31)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 493)، الخرشي (1/ 204)، الشرح الصغير (1/ 208)، حاشية الدسوقي (1/ 168)، أسهل المدارك (1/ 87 ت)، القوانين الفقهية (ص: 31)، بداية المجتهد مع الهداية (2/ 37)، منح الجليل (1/ 167). (¬4) المغني (1/ 388)، الكافي (1/ 74)، المحرر (1/ 24)، الإنصاف (1/ 358)، الإقناع (1/ 65)، كشاف القناع (1/ 203)، شرح منتهى الإرادت (1/ 114)، شرح الزركشي (1/ 406)، الروض المربع (1/ 426)، الفروع (1/ 265)، شرح العمدة (1/ 474).

أدلة القائلين بأن أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليها.

جماهير الشافعية (¬1) وقيل: أقل الحيض يوم بدون ليلة، وهو رواية عن الشافعي (¬2) وأحمد (¬3) أدلة القائلين بأن أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليها. الدليل الأول: [31] روى الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن بشير الطيالسي، ثنا الفضل ابن غانم، ثنا حسان بن إبراهيم، عن عبد الملك، عن العلاء بن الحارث (¬4) , عن مكحول، عن أَبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر". [إسناده ضعيف جداً. فيه العلاء بن كثير، وهو متروك] (¬5). ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 402)، روضة الطالبين (1/ 134)، مغني المحتاج (1/ 109)، نهاية المحتاج (1/ 325)، الأم (1/ 64)، الحاوي الكبير (1/ 432)، متن أبي شجاع (ص: 7)، حاشية القليوبي وعميرة (1/ 99). (¬2) انظر المراجع السابقة. (¬3) الإنصاف (1/ 358)، الفروع (1/ 265). (¬4) قوله العلاء بن الحارث خطأ، فقد أخرجه الطبراني في الأوسط (603) فسماه العلاء ابن كثير، وقال ابن حبان في المجروحين (2/ 182) ومن أصحابنا من زعم أنه العلاء بن الحارث، وليس كذلك؛ فإن العلاء بن الحارث حضرمي، وهذا من موالي بني أمية، وذاك صدوق، وهذا ليس بشيء. اهـ وممن قال: أنه العلاء بن كثير الدارقطني. (¬5) المعجم الكبير (7586)، ورواه الدارقطني (1/ 218) من طريق عمرو بن عون،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ومن طريق إبراهيم بن مهدي المصيصي، كلاهما عن حسان بن إبراهيم به. ولفظ المصيصي: "أقل ما يكون من المحيض للجارية البكر والثيب ثلاث، وأكثر ما يكون من المحيض عشرة أيام، فإذا رأت الدم أكثر من عشرة أيام، فهي مستحاضة، تقضي ما زاد على أيام أقرائها، ودم الحيض لا يكون إلا دماً أسود عبيطاً تعلوه حمرة، ودم المستحاضة رقيق تعلوه صفرة. فإن أكثر عليها في الصلاة فلتحشي كرسفاً فإن ظهر الدم علتها بأخرى، فإن هو غلبها فلا تقطع الصلاة، وإن قطر، ويأتيها زوجها، وتصوم. قال الدارقطني: وعبد الملك هذا رجل مجهول، والعلاء هو ابن كثير، وهو ضعيف الحديث. ومكحول لم يسمع من أبي أمامة شيئاً. قلت: قول الدارقطني رحمه الله عن العلاء هو ضعيف. قلت: هو يستحق أكثر من ذلك. قال النسائي عنه: متروك الحديث. تهذيب التهذيب (8/ 170). وقال أَبو زرعة: ضعيف الحديث، واهي الحديث. الجرح والتعديل (6/ 360). وقال أَبو حاتم الرازي: هو ضعيف الحديث، منكر الحديث. المرجع السابق. وقال البخاري: العلاء بن كثير، عن مكحول منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/ 520)، الكامل (5/ 219)، ضعفاء العقيلي (3/ 347). والمنقول في تهذيب الكمال، وتهذيب التهذيب: منكر الحديث، ولم يقيد بمكحول. وقال علي بن المديني: ضعيف الحديث جداً. الكامل (5/ 219). وقال أحمد: ليس بشيء. كما في رواية حنبل بن إسحاق. تهذيب الكمال (22/ 535). وقال: ليس حديثه بشيء. كما في رواية معاوية بن صالح عنه. الضعفاء الكبير (3/ 347). وقال ابن عدي: وللعلاء بن كثير، عن مكحول، عن الصحابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نسخ، كلها

الدليل الثاني

الدليل الثاني: [32] ما رواه الدارقطني، قال حدثنا أَبو حامد محمد بن هارون، نا محمد ابن أحمد بن أنس الشامي، حدثنا حماد بن المنهال البصري، عن محمد بن راشد، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام". [ضعيف جداً] (¬1). ¬

_ غير محفوظة، وهو منكر الحديث. الكامل (5/ 219). وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل الإحتجاج به وإن وافق فيها الثقات. المجروحين (2/ 181). ورواه ابن حبان في المجروحين (1/ 182) من طريق سليمان بن عمر أبي داود النخعي، عن يزيد بن جابر، عن مكحول به. ولا يفرح بهذه المتابعة؛ فإنها أشد ضعفاً، ففيها سليمان ابن عمر. قال أحمد: كذاب. وقال البخاري: هو معروف بالكذب. انظر الميزان (2/ 216)، واللسان (3/ 97). (¬1) سنن الدارقطني (1/ 219)، وقال: ابن منهال مجهول، ومحمد بن أحمد بن أنس ضعيف. قلت: ومكحول لم يسمع من واثلة كما أفاده أَبو حاتم في المراسيل لابنه (ص: 213)، كما أن في الإسناد محمد بن راشد مختلف فيه: قال ابن حبان: كثرة المناكير في روايته فاستحق ترك الاحتجاج به. انظر أقوال أهل العلم فيه في الكلام على حديث 27.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: [33] ما رواه ابن عدي (¬1)، ثنا أحمد بن الحسن الكرخي، ثنا الحسن بن شبيب المقرئ، ثنا أَبو يوسف، عن الحسن بن دينار، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحيض ثلاثة أيام، وأربعة وخمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة وعشرة، فإذا جاوزت العشرة فمستحاضة". [ضعيف جداً] (¬2). ¬

_ (¬1) الكامل (2/ 301). (¬2) في الإسناد الحسن بن دينار. قال البخاري: تركه يحيى وعبد الرحمن (ابن مهدي) وابن المبارك، ووكيع. التاريخ الكبير (2/ 292)، وفي الضعفاء الصغير (64): تركه وكيع وابن المبارك. وقال ابن سعد: ضعيف في الحديث، ليس بشيء. الطبقات الكبرى (7/ 279). وقال الفلاس: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه. اللسان (2/ 203). تهذيب التهذيب (2/ 240). وقال أَبو خيثمة كذاب. المرجع السابق. وقال أَبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (2/ 240). وقال أَبو حفص: اجتمع أهل العلم من أهل الحديث أنه لا يروى عن الحسن بن دينار. الجرح والتعديل (3/ 11). وقال أَبو حاتم: متروك الحديث، كذاب. الجرح والتعديل (3/ 11). وقال ابن أبي حاتم: ترك أَبو زرعة حديث الحسن بن دينار، ولم يقرأه علينا، فقيل له:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ عندنا مكتوب، قال: اضربوا عليه. المرجع السابق. وقال ابن حبان: يحدث الموضوعات عن الأثبات، ويخالف الثقات في الرويات، حتى يسبق إلى القلب أنه كان يتعمد لها، تركه ابن المبارك ووكيع، وأما أحمد ويحيى بن معين فكانا يكذبانه. المجروحين (1/ 231). وقال يحيى بن معين: الحسن بن دينار لا شيء. الجرح والتعديل (3/ 11)، ضعفاء العقيلي (1/ 222). وقال ابن المبارك: اللهم لا أعلم إلا خيراً، ولكن وقف أصحابي فوقفت. تهذيب التهذيب (2/ 240). وقال ابن عدي: أجمع من تكلم في الرجال على ضعفه، على أني لم أر له حديثاً قد جاوز الحد في الإنكار، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق. الكامل (2/ 176). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 613): "وفيه الحسن بن دينار، وقد كذبه العلماء منهم شعبة. وروه ابن عدي في الكامل (2/ 176) من طريق حماد بن زيد، عن الجلد بن أيوب، عن معاوية بن قرة، عن أنس مرفوعاً. قال حماد بن زيد وذُكِر الجلد بن أيوب، فقال: عمدوا إلى شيخ لا يميز بين قرء وحيض، فحملوه على أمر عظيم، فكان في أوله يقول: عن غير أنس، فحملوه إلى أن قاله عن أنس. الجرح والتعديل (2/ 548)، تعجيل المنفعة (145). وقال الدارقطني: متروك اللسان (2/ 133)، تعجيل المنفعة (145). وقال عبد الله سمعت أبي وذكر الجلد بن أيوب، فقال: ليس يسوي حديثه شيئاً. قلت له: الجلد ضعيف؟ قال: نعم، ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (2/ 548). قال ابن علية: الجلد أعرابي لا يعرف الحديث. اللسان (2/ 133). وكان ابن علية يرميه بالكذب. المجروحين (1/ 210). وقال ابن المبارك: أهل البصرة يضعفون حديث الجلد. التاريخ الكبير (2/ 257)، الضعفاء الصغير (57). وقال النسائي: جلد بن أيوب بصري ضعيف. الضعفاء والمتروكين (97).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال ابن حبان: هو صاحب حديث الحيض، يرويه عن معاوية بن قرة، عن أنس، وهذا موضوع عليه، ما أعلم أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفتى بهذا. المجروحين (1/ 210). وقال أَبو حاتم: شيخ أعرابي ضعيف، يكتب حديثه ولا يحتج به. الجرح والتعديل (2/ 548). وقال أَبو زرعة: ليس بالقوي. المرجع السابق. ورواه الدارقطني (1/ 210, 209) من طرق عن الجلد بن أيوب به. وساق الدارقطني (1/ 210) بسنده عن حماد بن زيد، قال: دهبت أنا وجرير بن حازم إلى الجلد بن أيوب، فحدثنا بهذا الحديث في المستحاضة تنظر، ثلاثاً، خمساً، سبعاً، عشراً، فذهبنا نوقفه، فإذا هو لا يفصل بين الحيض والاستحاضة. وقال الدارقطني (1/ 210): حدثنا محمد بن إسماعيل الفارسي، نا أَبو زرعة الدمشقي، قال: رأيت أحمد بن حنبل ينكر حديث الجلد بن أيوب هذا، وسمعت أحمد بن حنبل يقول: لو كان هذا صحيحاً لم يقل ابن سيرين استحيضت أم ولد لأنس بن مالك، فأرسلوني أسأل ابن عباس رضي الله عنه. اهـ قلت: ولو صح، فهو موقوف. وروى الدارقطني (1/ 210) حدثنا أَبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، نا عبد الله بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن المنذر، عن إسماعيل بن داود، عن عبد العزيز بن محمد الداروردي، عن عبيد الله بن عمر، عن ثابت، عن أنس قال: هى حائض فيما بينها وبين عشرة، فإذا زادت، فهي مستحاضة. أحمد بن موسى: شيخ الدارقطني له ترجمة في تاريخ بغداد (5/ 144)، وهو ثقة. وعبد الله بن شبيب: قال الذهبي: إخباري علامة، لكنه واهٍ. ميزان الاعتدال (2/ 438). قال أَبو أحمد الحاكم ذاهب الحديث. تذكرة الحفاظ (2/ 613). وقال الدارقطني: غيره أثبت منه. اللسان (3/ 299). وقال: فضلك الرازي: يحل ضرب عنقه. الكامل (4/ 262). وقال الحافظ عبدان: قلت لعبد الرحمن بن خراش هذه الأحاديث التي يحدث بها غلام

الدليل الرابع

الدليل الرابع: [34] روى ابن عدي (¬1)، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زنجوية، ثنا محمد ابن إبراهيم أَبو أمية، ثنا حفص بن عمر بن ميمون، ثنا محمد بن سعيد الشامي، ¬

_ خليل من أين له قال: سرقها من عبد الله بن شبيب وسرقها ابن شبيب من النضر بن سلمة شاذان ووضعها شاذان بن عدي. الكامل (4/ 262)، اللسان (3/ 299). وقال ابن أبي حاتم: كان رفيق أبي بمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسمع منه أبي. اهـ ولم يذكر فيه جرحاً. الجرح والتعديل (5/ 83). قال أَبو علي الحافظ: كتب عنه ابن خزيمة ثم لم يحدث عنه قط. تاريخ بغداد (9/ 474). وقال ابن حبان: يقلب الأخبار، ويسرقها، لا يجوز الاحتجاج به لكثرة ما خالف أقرانه في الروايات عن الاثبات. المجروحين (2/ 47). وفي الإسناد: إسماعيل بن داود بن مخراق. قال البخاري: إسماعيل بن مخراق - نسبه إلى جده - منكر الحديث. التاريخ الكبير (1/ 374)، الضعفاء للعقيلي (1/ 93). وقال أَبو حاتم: ضعيف الحديث جداً. الجرح والتعديل (2/ 168، 167). وقال أَبو داود: لا يساوي شيئاً. اللسان (1/ 403). وقال ابن حبان: يسرق الحديث، ويسويه. المجروحين (1/ 129). وقال الخليلي: يتفرد عن مالك بأحاديث، روى عنه الكبار، ولا يرضى حفظه. الإرشاد (1/ 234). وقال الدارقطني: ليس بالقوي. انظر اللسان (1/ 403). كما أنه من رواية الداروردي قد ذكر الأئمة بأن روايته عن عبيد الله بن عمر منكرة، قلب أحاديث عبد الله العمري، وهو ضعيف، فجعلها عن عبيد الله الثقة. (¬1) الكامل (6/ 141).

حدثني عبد الرحمن بن غنم، قال: سمعت معاذ بن جبل يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا فوق عشرة أيام، فما زاد على ذلك فهي مستحاضة، فما زاد تتوضأ لكل صلاة إلى أيام أقرائها، ولا نفاس دون أسبوعين، ولا نفاس فوق أربعين، فإن رأت النفساء الطهر دون الأربعين صامت وصلت، ولا يأتيها زوجها إلا بعد الأربعين". [هذا حديث موضوع، والإجماع على أنه لا حد لأقل النفاس] (¬1). ¬

_ (¬1) فيه محمد بن سعيد المصلوب. قال أحمد: قتله أَبو جعفر في الزندقة. حديثه حديث موضوع. الجرح والتعديل (7/ 262). وقال أيضاً: عمداً كان يضع الحديث كما في رواية أبي داود عنه. ضعفاء العقيلي (4/ 7)، الكشف الحثيث (668). وقال أيضاً: كان كذاباً. المجروحين (2/ 247). وقال النسائي: الكذابون المعروفون بوضع الحديث أربعة: وذكره منهم. الكشف الحثيث (668). وقال أيضاً: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (518). وقال أحمد بن صالح المصري: زنديق، ضربت عنقه، وضع أربعة الآف حديث عند هؤلاء الحمقى فاحذروها. وقال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء. كما في رواية أبي بكر بن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (7/ 262) وقال أيضاً: منكر الحديث. كما في رواية الدوري عنه. ضعفاء العقيلي (4/ 70). وقال أَبو حاتم وأبو زرعة: متروك الحديث. الجرح والتعديل (7/ 262).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: [35] روى ابن الجوزي في العلل المتناهية، من طريق أبي داود النخعي، حدثني أَبو طوالة، عن أَبي سعيد الخدرى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر، وأقل ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً (¬1). [وأبو داود النخغي تقدمت ترجمته (¬2)، واسمه سليمان بن عمرو وكان معروفاً بالكذب عياذاً بالله]. ¬

_ وقال عمرو بن علي: محمد بن سعيد يحدث بأحاديث موضوعة. المرجع السابق. وقال ابن حبان: صلب في الزندقة، كان يضع الحديث على الثقات، ويروي عن الأثبات ما لا أصل له، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه ولا الرواية عنه بحال من الأحوال. المجروحين (2/ 247). وفي التقريب: كذبوه، ثم نقل كلام أحمد بن صالح المصري وابن حنبل في قتله على الزندقة وصلبه. ورواه العقيلي في الضعفاء (4/ 51) ومن طريقه ابن الجوزي في العلل (1/ 383) مختصراً من طريق محمد بن الحسن الصدفي، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ ابن جبل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حيض أقل من ثلاث، ولا فوق عشر. وأعله العقيلي بمحمد ابن الحسن الصدفي، وقال: ليس بمشهور بالنقل، وحديثه غير محفوظ. وقال الذهبي في الميزان (3/ 513) عن محمد بن الحسن، عن عبادة بن نسي في الحيض لا يصح حديثه. (¬1) العلل المتناهية (640). (¬2) انظر حديث (31).

الدليل السادس

الدليل السادس: [36] ذكر ابن حبان في الثقات، ولم يصل سنده، وابن الجوزي في التحقيق (¬1)، والعلل المتناهية (¬2)، معلقاً قالا: روى حسين بن علوان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكثر الحيض عشر، وأقله ثلاث". [موضوع] (¬3). فكل هذه الأحاديث كما رأيت ضعفها شديد، وفيها الموضوع، وأصح حديث استدلوا به إلا أنهم أخطأوا الاستدلال به، الحديث الآتي: الدليل السابع: [37] ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: ¬

_ (¬1) التحقيق (1/ 261). (¬2) العلل المتناهية (1/ 386). (¬3) الحسين بن علوان. قال يحيى بن معين: الحسين بن علوان كذاب، كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (3/ 61). وقال أَبو حاتم: هو واه ضعيف متروك الحديث اهـ. المرجع السابق. قال فيه ابن حبان: كان يضع الحديث على هشام بن عروة وغيره، لا تحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب، كذبه أحمد رحمه الله. المجروحين (1/ 245، 244). قال النسائي: متروك الحديث الكامل لابن عدي (2/ 359). وانظر تاريخ بغداد (8/ 62).

حدثنا أَبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: قالت إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال: لا؛ إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قدر الأيام" فالأيام جمع، وأقل الجمع ثلاثة. وأجيب: بأن الحديث قد يكون جرى مجرى الأغلب، فلا يراد به التحديد. أو يكون ذلك في امرأة عرف أن حيضها كان أياماً، وعلى كل فالحديث ما قيل في أقل الحيض حتى يكون دليلاً على الحصر، ولذا جاء في الأحاديث الأخرى: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، وبعضها حده في الإقبال والإدبار بدون تحديد، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل لم يصح الاستدلال. قال ابن عبد البر: وليس هذا عندي حجة تمنع من أن يكون الحيض أقل من ثلاث؛ لأنه كلام خرج في امرأة علم أن حيضها أيام، فخرج جوابها على ذلك، وجائز أن يكون الحيض أقل من ثلاث؛ لأن ذلك موجود في النساء غير مدفوع. اهـ (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (325). (¬2) التمهيد كما في فتح البر (3/ 493)

الدليل الثامن

وقال ابن رجب: "وأجاب من خالفهم بجوابين: أحدهما: أن المراد بالأيام الأوقات؛ لأن اليوم قد يعبر به عن الوقت، قلَّ أو كثر. قال تعالى {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} (¬1). والمراد: وقت يجيء العذاب. وقد يكون ليلاً، وقد يكون نهاراً، وقد يستمر، وقد لا يستمر. ويقال: يوم الجمل، ويقال: يوم صفين. وكل منهما كان عدة أيام. والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد امرأة واحدة إلى عادتها، والظاهر أن عادتها كانت أياماً متعددة من الشهر، إما ستة أيام، أو سبعة. فليس فيه دليل على أن حيض كل امرأة يكون كذلك" (¬2). الدليل الثامن: حكى بعض الحنفية الإجماع من الصحابة على أن أقل الحيض ثلاثة أيام. قال الكاساني: "روى هذا عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم عبد الله بن مسعود، وأنس بن ملك، وعمران بن حصين، وعثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنهم أنهم قالوا: الحيض ثلاث، أربع، خمس، ست، سبع، ثمان، تسع، عشر، ولم يرد عن غيرهم خلافه فيكون إجماعاً" (¬3). ¬

_ (¬1) هود، آية: 8. (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 154). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 40).

الدليل التاسع

قلت: قد علمت بأنه لا يصح في هذا الباب شيء، والأحاديث فيه تدور على وضاع أو متهم، ولو كان هناك إجماع ما صح خلافه عن عطاء، ومالك، وأحمد، والشافعي، وجمهور العلماء. الدليل التاسع: من القياس، ولولا أنهم ذكروه ما ذكرته؛ لأنه من الضعف بحيث لا يحتاج إلى جواب عنه، وكلامهم هذا يقدح في القياس، وهو من أدلة الشرع المعتبرة على الراجح إذا أحسن الاستدلال به. قال السرخسي رحمه الله في المبسوط: "إن أقل مدة الحيض ثلاثة أيام اعتباراً بأقل مدة السفر، فإن كل واحد منهما يؤثر في الصوم والصلاة، وقد ثبت أن أقل مدة السفر ثلاثة أيام ولياليها فكذلك هذا" (¬1). دليل من قال: أقل الحيض ثلاثة أيام بليلتيها المتخللتين. استدلوا بالأدلة السابقة من أقل الحيض ثلاثة أيام، كما روي من حديث أَبي أمامة، ومعاذ، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم. وجه الاستدلال: أن الأحاديث ذكرت ثلاثة أيام، واليوم غير الليلة، فالأصل هي الأيام، وما يتخللها من الليالي، فإنه يتبعها ضرورة، والضرورة ترتفع بالليلتين ¬

_ (¬1) المبسوط (3/ 147).

دليل من قال: أقل الحيض يوم وليلة.

المتخللتين، واليوم الثالث لا ضرورة في إدخال ليلته، والدليل على أن الليلة لا تدخل فى اليوم، قوله تعالى {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} (¬1) فاليوم الثامن لم تدخل ليلته. وهذا مسلم لو سلم لهم كون الحيض أقله ثلاثة أيام أما إذا علمنا أن أدلتهم ضعيفة جداً كان وجه الاستدلال ضعيفاً تبعاً (¬2). دليل من قال: أقل الحيض يوم وليلة. الدليل الأول: قال ابن قدامة: "الحيض ورد في الشرع مطلقاً من غير تحديد، ولا حد له في اللغة، ولا في الشريعة فيجب الرجوع فيه إلى العرف والعادة كما في القبض والإحراز والتفرق وأشباهها، وقد وجد حيض معتاد يوماً. قال عطاء: رأيت من النساء من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً وقال ابن المنذر: قال الأوزاعي: عندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشياً ¬

_ (¬1) الحاقة، آية: 7. (¬2) وهناك قول ثالث في مذهب الحنفية أعرضت عن ذكره ضمن الأقوال في المسألة، ولا مانع من الإشارة إليه. فقد قال أَبو يوسف: أقل مدة الحيض يومان، والأكثر من الثالث. وجهه: أن أكثر الشيء يقام مقام الكل، وقد رده الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 40)، فقال: "وهذا على الإطلاق غير سديد، فإنه لو جاز إقامة يومين وأكثر اليوم الثالث مقام الثلاثة لجاز إقامة يومين مقام الثلاثة لوجود الأكثر" اهـ.

الدليل الثاني

يرون أنه حيض تدع له الصلاة. وقال الشافعي: رأيت امرأة أثبت لي أنها لم تزل تحيض يوماً". اهـ (¬1). الدليل الثاني: التتبع والاستقراء، حيث لم يوجد حيض أقل من ذلك عادة مستمرة في عصر من الأعصار، فلا يكون حيضاً. قال الشافعي: "قد رأيت امرأة أثبت لي أنها لم تزل تحيض يوماً، ولا تزيد عليه" (¬2). وأجيب بما يلي: قال الشيخ إبراهيم البيجوري: "الاستقراء كان من الإمام الشافعي رحمه الله لنساء العرب، ومعلوم أنه لم يتتبع نساء العالمين حتى يكون استقراء تاماً، بل ولا نساء زمانه كلهن، بل تتبع بعضهن حتى غلب على ظنه عموم الحكم، فهو استقراء ناقص، وهو إنما يفيد الظن، فهو دليل ظني" اهـ (¬3). قلت: حتى كلمة الشافعي لا تدل على أنه كان عن بحث واستقراء، بل إنه أفاد أنه وجد امرأة تحيض يوماً، ولا يعني أن هذا كان نتيجة بحث، واستقراء، ولذا وجد غيره من تحيض أقل من يوم، فقد روى الدارقطني (¬4) والبيهقي (¬5) من ¬

_ (¬1) المغني (1/ 389). (¬2) الأم (1/ 64). (¬3) حاشية البيجوري (1/ 141). (¬4) سنن الدارقطني (1/ 209). (¬5) السنن الكبرى (1/ 320).

طريق العباس بن محمد، ثنا محمد بن مصعب، قال: سمعت الأوزاعي يقول: "عندنا امرأة تحيض غدوة، وتطهر عشية" (¬1). ¬

_ (¬1) فيه محمد بن مصعب. قال النسائي: ضعيف. تهذيب التهذيب (9/ 404). وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، كما في رواية عبد الله بن أحمد، ومعاوية بن صالح. الجرح والتعديل (8/ 102). وقال أيضاً: لم يكن محمد بن مصعب من أصحاب الحديث، كان مغفلاً. كما في رواية عبد الله بن أحمد الضعفاء الكبير (4/ 138). وقال الخطيب البغدادي: كان كثير الغلط لتحديثه من حفظه، ويذكر عنه الخير والصلاح. تاريخ بغداد (3/ 276). وقال أبو زرعة: صدوق، ولكنه حدث بأحاديث منكرة. فقيل له: أليس هذا مما يضعفه. قال: نظن أنه غلط فيها. فعرض كلام أبي زرعة على أبي حاتم، فقال: ليس هو عندي كذا، ضعف لا حدث بهذه المناكير. الجرح والتعديل (8/ 102). وقال أحمد: حديثه عن الأوزاعي مقارب، وأما عن حماد بن سلمة ففيه تخليط، فقيل: تحدث عنه؟ قال: نعم. تهذيب الكمال (26/ 460). وقال صالح بن محمد: عامة أحاديثه عن الأوزاعي مقلوبة، وقد روى عن الأوزاعي غير حديث، وكلها مناكير ليس لها أصول. تهذيب التهذيب (9/ 404). وقال ابن حبان: كان مما ساء حفظه، حتى كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، فأما فيما يوافق الثقات، فإن احتج به محتج، وفيما لم يخالف الأثبات إن اعتبر به معتبر لم أر بذلك بأساً المجروحين (2/ 293). وفي التقريب: صدوق كثير الغلط وكتب لي الشيخ ناصر الفهد معلقاً على هذا بقوله: مثل محمد بن مصعب هذا، يظهر من ترجمته أنه عدل في نفسه، سيء الحفظ، ومثل هذا يخاف من سوء حفظه في الأسانيد والمتون المرفوعة والموقوفة، أما شيئاً سمعه هو من الأوزاعي نفسه، وليس بحديث مرفوع، فيظهر صحته، خصوصاً وأن الإمام أحمد ذكر أن حديثه عن الأوزاعي

الدليل الثالث

وقول الشافعي: تحيض يوماً، الظاهر أنه يعني مع ليلته، فإنه إذا اطلق اليوم دخلت الليلة، وإذا اطلقت الليلة دخل اليوم. قال تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} (¬1)، مع قوله سبحانه: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (¬2). فأطلق اليوم وأريد به مع ليلته. الدليل الثالث: [38] ما رواه الدارمي (¬3) أخبرنا يعلى، ثنا إسماعيل، عن عامر - يعني الشعبي - قال: جاءت امرأة إلى عليّ، تخاصم زوجها طلقها. فقالت: قد حضت في شهر ثلاث حيض. فقال علي لشريح: اقض بينهما. قال: يا أمير المؤمنين، وأنت ها هنا. قل: اقض بينهما. قال: إن جاءت من بطانة أهلها ممن يرضى دينه وأمانته، تزعم أنها حاضت ثلاث حيض، تطهر عند كل قرء وتصلي، جاز لها، وإلا فلا. قال علي: قالون. وقالون بلسان الروم ¬

_ مقارب، ومثل كلام الأوزاعي هذا لا أعتقد أن أحداً سوف يخطئ في نقله ما لم يتعمد. والله أعلم. أهـ (¬1) آل عمران، آية 41. (¬2) مريم، آية: 10. (¬3) سنن الدارمي (855).

أحسنت. [رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً، فالشعبي لم يسمعه من علي] (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: قد اتفق شريح وعلي رضي الله عنهما، وعلي له سنة متبعة على أن أقل الحيض يوم وليلة، ولا يمكن أن تحيض في شهر ثلاث مرات إلا في هذه الصورة؛ وذلك بأن تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، وتطهر ثلاثة عشر يوماً، فالمجموع ثمانية وعشرون يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة فتخرج من العدة بعد تسعة وعشرين يوماً. ويجاب عن هذا: أولاً: أن الأثر إسناده منقطع، والمنقطع ضعيف. ثانياً: ليس في القصة ما يدل على أنها حاضت يوماً وليلة, وطهرت ثلاثة عشر يوماً، ولذلك جاء في شرح ابن رجب لصحيح ¬

_ (¬1) ذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض، في كتاب الحيض (6)، باب (24) إذا حاضت في شهر ثلاث حيض. قال: ويذكر عن علي وشريح. قال الحافظ في الفتح: وإنما لم يجزم به للتردد في سماع الشعبي من علي، ولم يقل: إنه سمعه من شريح فيكون موصولاً. قال الدارقطني في العلل (4/ 97) سمع منه حرفاً - يعني عامراً من علي - ما سمع غير هذا، يعني: حديث "جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن الفرائض التي رواها الشعبي عن علي. قال: عندي ما قاسه الشعبي على قول علي، وما أرى علياً كان يتفرغ لهذا.

البخاري (¬1): "قال حرب الكرماني، ثنا إسحاق، نا أبي، قال: سألت ابن المبارك، فقال: أرأيت قول سفيان: تصدق المرأة في انقضاء عدتها في شهر، كيف هذا؟، وما معناه؟. قال: قل ثلاثاً حيضاً، وعشراً طهراً، وثلاثاً حيضاً. كذا قال". اهـ وبناء على هذا التفسير على أن أقل الحيض ثلاث، فيكون مجموع الحيض ثلاث مرات، كل واحد منها ثلاثة أيام، فمجموعها تسعة أيام، ويكون مجموع الطهر عشرين يوماً، كل طهر عشرة أيام، فالمجموع تسعة وعشرون يوماً. وهذا أيضاً تفسير إسحاق بن راهوية، كما ذكره ابن رجب عنه في شرحه. وثالثاً: الأثر لا يدل على التحديد، فلو ادعت المرأة انقضاء عدتها بأقل من شهر، فأين الدليل من الأثر على أنه لن يسمع بينتها، فقد يقع من امرأة أقل من شهر. والأثر لا يمنع منه. وممن قال بأن أقل الحيض يوم وليلة عطاء بن أبي رباح. [39] فقد روى الدارمي، أخبرنا الحكم بن المبارك، نا مخلد بن يزيد، عن معقل بن عبيد الله، عن عطاء، قال: أدنى الحيض يوم (¬2). [قال الحافظ: "إسناده صحيح" (¬3)، والحق أنه حسن، الحكم، ومخلد كل ¬

_ (¬1) (2/ 148). (¬2) سنن الدارمي (845). (¬3) الفتح (1/ 565).

دليل من قال: أقل الحيض يوم بدون ليلة.

واحد منهما صدوق له أوهام، ومعقل: صدوق يخطئ]. والقول بتحديد أقل الحيض قول ضعيف. قال ابن رجب: "لم يصح عند أكثر الأئمة في هذا الباب توقيت مرفوع، ولا موقوف، وإنما رجعوا فيه إلى ما حكي من عادات النساء خاصة، وعلى مثل ذلك اعتمد الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم" (¬1). قلت: تحكيم عادة النساء إنما تعطي حكماً أغلبياً، وهي لا تدل على التحديد، وأين الدليل على أن المرجع في هذا غالب النساء، بحيث يبقى هذا الحكم الأغلبي حداً، فما نقص عنه فلا يمنع من الصلاة ولا من الصيام، حتى ولو كان في لون دم الحيض، وطبيعته، ورائحته، فلا شك في ضعف هذا القول. دليل من قال: أقل الحيض يوم بدون ليلة. قال المرداوي: "كان الشافعي يرى أن أقله يوم وليلة، إلى أن أخبره عبد الرحمن بن مهدي أن عندهم امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية" (¬2). وقد قال الشافعي: "قد رأيت امرأة أثبت لي أنها لم تزل تحيض يوماً، ولا تزيد عليه" (¬3). وقد اختلف أصحاب الشافعي في تفسير عبارة الشافعي: "لم تزل تحيض ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 151). (¬2) الحاوي الكبير (1/ 433). (¬3) الأم (1/ 64).

دليل من قال: لا حد لأقله.

يوماً" مع قوله أقل الحيض يوم وليلة، هل هما قول واحد، أم قولان؟ قال في المهذب (¬1): "وأقل الحيض يوم وليلة. وقال في موضع آخر: يوم. فمن أصحابنا من قال: هما قولان. ومنهم من قال: هو يوم وليلة قولاً واحداً، وقوله: يوم، أراد بليلته. ومنهم من قال: يوم قولاً واحداً، وإنما قال: يوم وليلة قبل أن يثبت عنده اليوم، فلما ثبت عنده رجع إليه. والدليل عليه أن المرجع في ذلك إلى الوجود، وقد ثبت الوجود في هذا القدر. وقال الأوزاعي: رحمه الله: عندنا امرأة تحيض غدوة، وتطهر عشية. وقال عطاء رحمه الله: رأيت من النساء من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً. وقال أبو عبد الله الزبيري رحمه الله: كان في نسائنا من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً" اهـ (¬2) دليل من قال: لا حد لأقله. الدليل الأول: قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬3) فإذا وجد الأذى وجد الحيض، سواء كان أكثر من يوم وليلة أو أقل، فالحكم يدور مع علته ¬

_ (¬1) المهذب المطبوع مع المجموع (2/ 402). (¬2) هذه الأقوال فيها رد على من ادعى أن أقل الحيض ثلاثة أيام. (¬3) البقرة، آية 222.

الدليل الثاني

وجوداً وعدماً، وقَد أمر الله باعتزال النساء في المحيض، ولم يحده بحد، بل علق الحكم على وجوده، فيِجب اعتزالها ولو كان الدم أقل من يوم وليلة. الدليل الثاني: قال تَعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬1) وجه الاستدلال: نهى الله سبحانه وتعالى عن إتيان الحائض حتى تطهر، ولو كان الحيض له حد معين إذا نقص أو زاد بحيث يتحول إلى استحاضة، لجعل غاية النهي إلى مضي أيام معينة: عشرة أيام، أو خمسة عشر يوماً، ولم يعلقه على الطهارة. الدليل الثالث: القول بالتحديد يحتاج إلى دليل، وما دام لم يثبت في هذا دليل فلا يجوز القول به. قال ابن القيم: "ولم يأت عن الله ولا عن رسوله، ولا عن الصحابة تحديد أقل الحيض بحد أبداً، ولا في القياس ما يقتضية" (¬2). والذين قالوا: بأن أقله يوم وليلة معترفون بأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الصحابة في هذا شيء، وإنما حكموا العادة. ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 222. (¬2) أعلام الموقعين (1/ 297).

الدليل الرابع

وأين الدليل على تحكيم العادة في مثل هذا حتى يصير حداً إن نقص عنه لم يمنعها الصلاة والصيام الدليل الرابع: [40] ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إني لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علق أحكام الحيض على إقبال الحيض وإدباره، ولم يعلقه بمضي مدة معينة، فعلم أن لا تحديد لأقل الحيض. الدليل الخامس: لو كان تحديد الفقهاء معتبراً لوجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبينه، لحاجة الأمة إليه، ولعموم البلوى فيه، فلما لم يبينه، علم أنه ليس من الشرع. قال ابن تيمية: "علق الله باسم الحيض أحكاماً متعددة، في الكتاب وفي السنة، ولم يقدر لأقله، ولا لأكثره، ولا الطهر بين الحيضتين. مع عموم بلوى ¬

_ (¬1) صحيح البخارى (306)، ورواه مسلم (333).

الدليل السادس

الأمة في ذلك واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرق بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك حداً فقد خالف الكتاب والسنة" (¬1). الدليل السادس: الحيض نوع من الحدث، فلا يتقدر أقله بشيء كسائر الأحداث (¬2) الدليل السابع: القياس على النفاس، فكما أن النفاس لا حد لأقله، فكذلك الحيض. والحيض والنفاس أحكامهما متشابهة. هذه مجمل الأدلة التي استدلوا بها، وأرى - والله أعلم - أن القول الراجح هو القول بعدم التحديد، لأنه لم يثبت فيه شيء، وكل شيء ورد في الشرع مطلقاً فهو على إطلاقه، وكذا النصوص العامة هي على عمومها حتى يأتي ما يخصصها، وتقييد المطلق، وتخصيص العام لا يجوز إلا بنص مثله أو إجماع؛ لأنه إخراج لبعض أفراده، وتحكيم الوجود في أقل الحيض وأكثره ضعيف. والباحث يتساءل إذاً كيف كانت الأحكام قبل أن يستقر الوجود ويظهر لمن ادعاه؟ هل كانت الأحكام متروكة هكذا يتخبط الناس سنوات حتى يستقروا على حكم أو رأي؟ وكيف كان للرجال أن يقفوا على حقيقة الوجود ومنتهاه، والأمر يتعلق بالنساء والرجال لا يشبهونهن في ذلك؟!! ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (19/ 237). (¬2) المبسوط (3/ 147).

الفرع الأول

الفرع الأول القائلون بتحديد أقل الحيض، وهم الجمهور اعترضوا على من قال: بأنه لا حد لأقل الحيض، بأن المرأة المطلقة قد تدعي خروجها من العدة خلال ثلاثة أيام، بل ربما أقل، وبالتالي فلا بد من القول بتحديد أقل الحيض، وأقل الطهر. وللجواب على هذا الإشكال، أن يقال: القائلون بأنه لا حد لأقل الحيض قد اختلفوا في هذه المسألة إلى فريقين أو ثلاثة: فريق فرق بين العدة والاستبراء، وبين العادة كالمالكية. وفريق آخر لم يفرق بينهما مطلقاً كابن حزم. وآخر وقف موقفاً متوسطاً، قال: إذا ادعت خلاف الظاهر كلفت البينة، وهذا رأي ابن تيمية. وهذا الرأي وإن كان يبدو قوياً إلا أن البينة في مثل هذا تكاد تتعذر، ثم إن المرأة مؤتمنة على عدتها، والمؤتمن على شيء يقبل قوله. هذا ملخص الأقوال، وإليك النقول عنهم جميعاً، سواء من ادعى بأن أقل الحيض له حد معين، أو من قال: بأنه لا حد لأقل الحيض. كلام القائلين بأنه لا حد لأقل الحيض. قال الكشناوي من المالكية: "وأقله - يعني الحيض - في العبادة دفعة

واحدة، فيجب عليها الغسل بالدفعة، ويبطل صومها، وتقضي ذلك اليوم، وأما في العدة والاستبراء فلا يعد حيضاً إلا ما استمر يوماً، أو بعض يوم له بال" (¬1). فإذا كان أقل الطهر عند المالكية خمسة عشر يوماً، فلا يمكن أن تنقضي عدتها إلا بأكثر من شهر، سواء قلنا: (القرء) هو الحيض، أو قلنا: المراد به الطهر. وقال ابن تيمية: "قال في المحرر: وإذا ادعت انقضاء عدتها بالأقراء، أو الولادة قبل قولها إذا كان ممكناً، إلا أن تدعيه بالحيض في شهر فلا يقبل قولها إلا ببينة. قال أبو العباس: قياس المذهب المنصوص: أنها إذا ادعت ما يخالف الظاهر كلفت البينة، لا سيما إذا أوجبنا عليها البينة فيما إذا علق طلاقها بحيضها، فقالت: حضت، فإن التهمة في الخلاص من العدة كالتهمة في الخلاص من النكاح، فيتوجه أنها إذا ادعت الانقضاء في أقل من ثلاثة أشهر كلفت البينة" (¬2). ويشكل على قول ابن تيمية رحمه الله أن الله سبحانه وتعالى جعل النساء مؤتمنات على عددهن. قال تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي ¬

_ (¬1) أسهل المدارك (1/ 87). (¬2) الاختيارات (ص:

أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬1). وذكر ابن رجب قال: روى الأعمش، عن مسروق، عن أبي ابن كعب، قال: إن من الأمانة أن ائتمنت المرأة على رحمها (¬2). وكل من كان مؤتمناً فإنه يقبل قوله مع يمينه. ووافق ابن القيم شيخه ابن تيمية، فقال رحمه الله: "فإن قيل: ينبغي إن كان ليس لأقله حد لو ادعت انقضاء عدتها فى أربعة أيام تباح للأزواج. قيل: إن العدة ليس من هذا؛ لأن قوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} يريد الأقراء الكاملة، وأقل الكاملة أن تكون في شهر، لحديث علي مع شريح" (¬3). قلت: لا أعلم أن هناك قرءاً كاملاً، وآخر ناقصاً، فالقرء هو القرء، قد يطول وقد يقصر، لكن لا يوصف بالكمال والنقص. وخالفهم ابن حزم، فلم يفرق بين العبادة، وبين العدة والاستبراء، فقال رحمه الله: وأما من فرق بين الصلاة والصوم وتحريم الوطء، وبين العدة، فقول ظاهر الخطأ، ولا نعلم له حجة أصلاً، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة، ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 228. (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (1/ 143). (¬3) سبق تخريجه في رقم (38)، وبينت إن في إسناده انقطاعاً.

كلام القائلين بتحديد أقل الحيض.

ولا سقيمة، ولا إجماع، ولا من قول صاحب، ولا من قياس، ولا من احتياط، ولا من رأي له وجه!! فوجب تركه. وأشار ابن حزم إلى أن القول بعدم التفريق بين العبادة وبين العدة هو قول الأوزاعي، وداود الظاهري، وأحد قولي الشافعي (¬1). كلام القائلين بتحديد أقل الحيض. اختلف الجمهور القائلون بتحديد أقل مدة الحيض، متى تصدق المرأة في دعوى انقضاء عدتها، وذلك لاختلافهم في أقل الحيض، وفي أقل الطهر. وإليك النقول عنهم. قال ابن رجب: "ومذهب أبي حنيفة لا تصدق في دعوى انقضاء العدة في أقل من ستين يوماً. واختلف عنه في تعليل ذلك، فنقل عنه أبو يوسف أنها تبدأ بطهر كامل خمسة عشر يوماً، ويجعل كل حيضة خمسة أيام، والأقراء عندهم حيض. ونَقَلَ عنه - أي عن أبي حنيفة - الحسن بن زياد أنه اعتبر أكثر الحيض، وهو عندهم عشرة أيام، وأقل الطهر، وهو خمسة عشر يوماً، وبدأ بالحيض. وقال صاحباه: أبو يوسف ومحمد: لا تصدق إلا في كمال تسعة وثلاثين ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة 266).

يوماً؛ بناء على أقل الحيض، وهو عندهم ثلاثة، وأقل الطهر وهو خمسة عشر. وقال سفيان الثوري: لا تصدق في أقل من أربعين يوماً، وهو أقل ما تحيض النساء فيه وتطهر، وهذا كقول أبي يوسف ومحمد" ثم قال: ومنهم من قال: إنما يقبل ذلك بغير بينة في حق من ليس لها عادة مستقرة، وأما من لها عادة منتظمة فلا تصدق إلا ببينة على الأصح. كذا قال صاحب الترغيب. وقال ابن عقيل فى فنونه: "لا يقبل مع فساد النساء، وكثرة كذبهن دعوى انقضاء العدة فى أربعين ولا خمسين يوماً إلا ببينة تشهد أن هذه عادتها، أو أنها رأت الحيض على هذا المقدار، وتكرر ثلاثاً. وقال إسحاق وأبو عبيد: لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر، إلا أن تكون لها عادة معلومة قد عرفها بطانة أهلها المرتضى دينهن وأمانتهن فيعمل بها حينئذٍ، ومتى لم يكن كذلك فقد وقعت الريبة فتحتاط، ويعدل الأقراء بالشهور، كما في حق الآيسة والصغيرة". انتهى كلامه رحمه الله (¬1) وأما المذهب الحنبلي فيقسمون الوقت إلى ثلاثة أقسام: وقت لا تسمع دعواها مطلقاً، ولا ينظر فيها، حتى ولو ادعت بينة، كما لو ادعت انقضاء عدتها بثمانية وعشرين يوماً؛ لأنهم بنوا على قواعدهم بأن أقل ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (2/ 147).

الحيض يوم وليلة، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً، فلا يمكن بناءً عليه أن تنقضي عدتها بهذه المدة فأقل. والثاني: تقبل عادتها بلا بينة، كما لو ادعتها بزمن معتاد، كشهرين ونصف مثلاً؛ لأن المرأة مؤتمنة على عادتها. والثالث من الأوقات: لو ادعت انقضاء عادتها بشهر مثلاً تسمع دعواها، وينظر فيها، ولا يقبل قولها إلا ببينة، اعتماداً على قصة شريح مع علي، وسندها منقطع. كما مر معنا (¬1). والذي يترجح لي أن التفريق بين العبادة والعدة قول لا دليل عليه، فما دام يحكم له بأنه حيض مانع من الصلاة والصيام فهو معتبر في العدة إلا أن قبول قول المرأة في الصورة النادرة ينبغي الاحتياط فيه، لا تفريقاً بين العبادة والعدة، وإنما حفظاً للحقوق. فإن كانت عادتها مطردة مستمرة لا تحيض إلا يوماً، أو أقل أو أكثر، كان قبولها فى العادة جارياً على أن هذه عادتها. وإن ادعت خلاف عادتها المعلومة المستمرة فالظاهر لا يؤيد دعواها، فكونها تدعي خلاف عادتها، وأنها جاءتها بهذه الصورة النادرة المستمرة، ثم ¬

_ (¬1) الروض المربع مع حاشية العنفري (3/ 186)، الكافي (3/ 305)، المبدع (7/ 399).

تكررت ثلاث مرات متتالية، وهي على هذه الصورة النادرة على خلاف ما يعلم من عادتها، فهذا يحدث في النفس شيئاً من قبول دعواها، فتكلف البينة، إن لم يصدقها زوجها. والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر زيادة بحث في مسألة أقل الطهر.

الفرع الثاني

الفرع الثاني إذا قيل: إن أقل الحيض يوم وليلة على المذهب المرجوح، ثم وجدنا امرأة يأتيها الدم مستمراً ومطرداً أقل من ذلك بلون دم الحيض ورائحته المعهودة. فهل يجعلونه دم حيض، وفد خالف قواعدهم؟ أم يجعلونه دم فساد؟ اختلفوا في هذه المسألة، وذكرها النووي، وذكر فيها أوجهاً: أحدها: لا يعتبر حال هذه، بل الحكم على ما عهد، لأن بحث الأولين أوفى. قال إمام الحرمين: والذي أختار، ولا أرى العدول عنه الاكتفاء بما استقرت عليه مذاهب الماضين من أئمتنا في الأقل والأكثر، ولو فتحنا باب اتباع الوجود في كل ما يحدث، وأخذنا في تغيير ما يعهد تقليلاً وتكثيراً، لاختلطت الأبواب، وظهر الاضطراب، والوجه اتباع ما تقرر للعلماء الباحثين قبلنا. قلت: هذا القول إما دليل على ضعف اعتبار الوجود دليلاً في أقل الحيض؛ لأنه ثبت أنه يوجد أقل من ذلك، وأن اعتبار الوجود يؤدي إلى اضطراب الأقوال، وإما أن يكون هذا القول دعوة إلى التقليد المحض، وعدم الأخذ بالدليل، وأن بحث الأولين مقدم مطلقاً؛ لكونه صدر منهم فقط. والتقليد بدعة، وقد بدأت الأمة تتخلص من مستنقعه، معظمة للدليل الصحيح، والقول المبني عليه. ثم قال النووي: والوجه الثاني: أنه يعتبر حال هذه المرأة ليكون هذا

حيضها وطهرها؛ لأن الاعتماد على الوجود، وقد حصل، وهذا القول يتمشي مع القول الراجح، بأنه لا حد لأقل الحيض، بل العبرة بالوجود، فمتى وجد الأذى وجد الحيض (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع - النووي (2/ 407).

الفصل الخامس: خلاف العلماء في أكثر الحيض

الفصل الخامس: خلاف العلماء في أكثر الحيض اختلف العلماء في أكثر الحيض إلى أقوال. فقيل: أكثر الحيض خمسة عشر يوماً. وهو مذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) وقيل: أكثر الحيض عشرة أيام، وهو مذهب الحنفية (¬4). ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 151)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 493)، مقدمات ابن رشد (1/ 127)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 31). الخرشي (1/ 204)، الشرح الصغير (1/ 209)، حاشية الدسوقي (1/ 168)، أسهل المدارك (1/ 87)، بداية المجتهد مع الهداية (2/ 37)، القوانين الفقهية (ص: 31)، منح الجليل (1/ 167). (¬2) المجموع (2/ 403)، روضة الطالبين (1/ 134)، مغني المحتاج (1/ 109)، نهاية المحتاج (1/ 326)، المبسوط لابن المنذر (1/ 227)، الحاوي الكبير (1/ 434)، متن أبي شجاع (ص: 7). (¬3) الإنصاف (1/ 358)، المحرر (1/ 24)، الكافي (1/ 75)، الشرح الكبير (1/ 161)، المبدع (1/ 270) كشاف القناع (1/ 203)، شرح منتهى الإرادات (1/ 114)، شرح الزركشي (1/ 409)، حاشية ابن قاسم (1/ 374)، الفروع (1/ 265)، تنقيح التحقيق (1/ 615). (¬4) شرح فتح القدير (1/ 161)، المبسوط - السرخسي (3/ 148)، البناية (1/ 620)، حاشية ابن عابدين (1/ 284)، تبيين الحقائق (1/ 55)، البحر الرائق (1/ 201)، مراقي الفلاح (ص: 57)، بدائع الصنائع (1/ 40) المبسوط (3/ 147)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 26).

أدلة الجمهور على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما.

وقيل: أكثر الحيض سبعة عشرة يوماً، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬1). وابن حزم من الظاهرية (¬2) وقيل: لا حد لأكثر الحيض، وهو اختيار ابن تيمية (¬3) أدلة الجمهور على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً. الدليل الأول: [41] قال السخاوي: روى عن ابن عمر مرفوعاً: "النساء ناقصات عقل ودين. قيل: وما نقصان دينهن؟ قال: تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي". وبعضهم يقول: شطر عمرها. [لا أصل له] (¬4). ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 265)، الإنصاف (1/ 358)، المبدع (1/ 270). (¬2) المحلى (مسألة: 267). (¬3) مجموع الفتاوى (19/ 237)، الاختيارات الفقهية (ص: 28). (¬4) قال البيهقي في معرفة السنن (2/ 145): طلبته كثيراً فلم أجده في كتب أصحاب الحديث، ولم أجد له إسناداً بحال. وقال ابن الجوزي في التحقيق (1/ 263): "وهذا لفظ لا أعرفه. وقال الحافظ في التخليص (1/ 278): لا أصل له بهذا اللفظ، وقال الحافظ أبو عبد الله ابن منده فيما حكاه ابن دقيق العيد في الإلمام عنه: ذكر بعضهم هذا الحديث، ولم يثبت بوجه من الوجوه، ثم نقل كلام البيهقي وابن الجوزي. ثم قال: الحافظ: وقال الشيخ أبو إسحاق في المهذب: لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقهاء. وقال النووي: في شرحه: باطل لا يعرف.

الدليل الثاني

وجه الاستدلال عندهم: الشطر النصف، ومعلوم أن المرأة تحيض غالباً في كل شهر مرة، ولهذا جعل الله عدتها ثلاث حيض، والآيسة والتي لا تحيض لصغر ثلاثة أشهر، ومن جلست في حيضها من كل شهر خمسة عشر يوماً لا تصلي، فقد جلست شطر عمرها عن الصلاة. الدليل الثاني: قال ابن قدامة: "الحيض ورد في الشرع مطلقاً من غير تحديد، ولا حد له في اللغة، ولا في الشريعة فيجب الرجوع فيه إلى العرف والعادة كما في القبض ¬

_ وقال في الخلاصة: باطل لا أصل له. وقال المنذري: لا يوجد له إسناد بحال. أهـ قلت: حديث ابن عمر في مسلم، وليس فيه موضع الشاهد، وهو قوله: "شطر دهرها "فقد روى مسلم عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: ومالنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لذي لب منكن" فقالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل، فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل. وتمكث الليالي، وما تصلي وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين. وفي البخاري (304) ومسلم (80) من حديث أبي سعيد الخدري نحوه. وفيه: قلن وما نقصان ديننا وعقلن يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل"؟ قلن: بلى. قال: "فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" قلن: بلى. قال: "فذلك من نقصان دينها". وهذه الأحاديث لا دلالة فيها على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً.

الدليل الثالث

والإحراز والتفرق وأشباهها، وقد وجد حيض معتاد يوماً خمسة عشر يوماً. قال عطاء: رأيت من النساء من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً وقال أحمد: حدثني يحيى بن آدم، قال: سمعت شريكاً يقول: عندنا امرأة تحيض كل شهر خمسة عشر يوماً حيضاً مستقيماً" (¬1). الدليل الثالث: لا يمكن أن يزيد الحيض عن خمسة عشر يوماً لأمرين: الأول: لو زاد الحيض عن خمسة عشر يوماً كان حيض المرأة في الشهر الواحد أكثر من طهرها، وهذا محال!! وتعقبه ابن حزم، فقال: "من أين لكم أنه محال؟ وما المانع إن وجدنا ذلك ألا يوقف عنده؟ فما نعلم منع من هذا قرآن ولا سنة أصلاً، ولا إجماع، ولا قياس، ولا قول صاحب" (¬2). الأمر الثاني: أن الحيض لو كان أكثر الشهر؛ فإن الأكثر يثبت له حكم الكل، وإذا ثبت له حكم الكل صارت مستحاضة؛ لأن من أطبق عليها الشهر كاملاً صارت مستحاضة. وتعقب: بأن هذا فيه تكلف إذ كيف يلحق من زاد يوماً واحداً على خمسة عشر مثلاً، فيكون حكمها حكم من أطبق عليها الدم كل الشهر. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 389). (¬2) المحلى (مسألة 267).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: التتبع والاستقراء، فقد تتبع السلف أكثر الحيض فوجدوه لا يزيد على خمسة عشر يوماً. قال النووي: "ثبت مستفيضاً عن السلف من التابعين فمن بعدهم أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً, وأنهم وجدوه كذلك عياناً، وقد جمع البيهقي أكثر ذلك في كتابه الخلافيات، وفي السنن الكبير، منهم عطاء، والحسن، وعبيد الله بن عمر، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وشريك، والحسن بن صالح، وعبد الرحمن بن مهدي رحمهم الله" (¬1) أدلة القائلين بأن أكثر الحيض عشرة أيام. الدليل الأول: [42] روى ابن عدي في الكامل (¬2). عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحيض ثلاثة أيام، وأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة، ثمانية، وتسعة، وعشرة، فإذا جاوز العشرة فهي مستحاضة". [ضعيف جداً] (¬3). ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 411). (¬2) الكامل في الضعفاء (2/ 301). (¬3) انظر تخريجه في حديث رقم (33).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: [43] روى الطبراني (¬1). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر. [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: [44] روى الدارقطني، من حديث واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقل الحيض ثلاث أيام، وأكثره عشرة أيام". [ضعيف جداً] (¬3). الدليل الرابع: [45] روى ابن عدي، قال: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا فوق عشرة أيام، فما زاد على ذلك فهي مستحاضة. ¬

_ (¬1) المعجم الكبير (7586). (¬2) انظر تخريجه في حديث رقم (31). (¬3) انظر تخريجه في حديث (32).

الدليل الخامس

[والحديث موضوع] (¬1). الدليل الخامس: [46] حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر، وأقل ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً .. [موضوع] (¬2). الدليل السادس: [47] حديث عائشة رضي الله عنها، رواه ابن حبان معلقاً بلفظ: أكثر الحيض عشر، وأقله ثلاث (¬3). وهذه الأحاديث ضعفها شديد لا ينجبر، وبعضها موضوع. قال ابن المنذر: "ذكر الميموني أنه قال: قلت لأحمد بن حنبل: أيصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء في أقل الحيض وأكثره. قال: لا. قلت: فحديث أنس؟ قال: ليس بشيء. أو قال: ليس يصح. قلت: فأعلى شيء فى هذا الباب حديث معقل، عن عطاء: الحيض يوم وليلة" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في رقم (34). (¬2) انظر تخريجه في حديث رقم (35). (¬3) انظر الكلام عليه في حديث رقم (36). (¬4) الأوسط (2/ 229).

الدليل السابع

وقال ابن رجب: "هذه الأحاديث المرفوع منها باطل، لا يصح، وكذلك الموقوف طرقه واهية، وقد طعن فيها غير واحد من الأئمة الحفاظ" (¬1). قلت: الطرق الموقوفه سأذكر تخريجها في الأدلة الآتية - إن شاء الله تعالى -. الدليل السابع: [49] ما رواه الطبراني (¬2) حدثنا موسى بن زكريا، ثنا عمرو بن الحصين، ثنا محمد بن عبد الله بن علاثة، ثنا عبدة بن أبي لبابة، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "للحائض ما بينها وبين عشر، فإذا رأت الطهر فهي طاهر، وإن جاوزت العشر فهي مستحاضة، تغتسل وتصلي، فإن غلبها الدم احتشت واستثفرت، وتوضأت لكل صلاة، وتنتظر النفساء ما بينها وبين الأربعين، فإن رأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر، وإن جاوزت الأربعين فهي مستحاضة تغتسل وتصلي، فإن غلبها الدم احتشت واستثفرت وتوضأت لكل صلاة". قال الطبراني: لم يروه عن عبدة إلا ابن علاثة، تفرد به عمرو. [الإسناد ضعيف جداً] (¬3). ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 150). (¬2) في الأوسط، كما في مجمع البحرين (503). (¬3) فيه عمرو بن الحصين العقيلي. قال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي، وقال: تركت الرواية عنه، ولم يحدثنا بحديثه، وقال:

الدليل الثامن

الدليل الثامن: [49] روى الدارقطني (¬1) حدثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا خلاد ابن أسلم، نا محمد بن فضل، عن أشعث، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص، قال: لا تكون المرأة مستحاضة في يوم ولا يومين، ولا ثلاثة أيام، حتى تبلغ عشرة أيام، فإذا بلغت عشرة أيام كانت مستحاضة. ¬

_ هو ذاهب الحديث ليس بشيء. أخرج أول شيء أحاديث مشتبهة حساناً، ثم أخرج بعد لابن علاثة أحاديث موضوعة، فأفسد علينا. الجرح والتعديل (6/ 229). وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عندما امتنع من التحديث عنه، فقال: ليس هو في موضع يحدث عنه، هو واهي الحديث. المرجع السابق. وقال ابن عدي: حدث بغير حديث عن الثقات، منكر، ثم قال: وهو مظلم الحديث. الكامل (5/ 150). وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (8/ 19). وقال الخطيب في ترجمة ابن علاثة: قد أفرط أبو الفتح في الميل على ابن علاثة، وأحسبه وقعت إليه روايات لعمرو بن الحصين، عن ابن علاثة، فنسبه إلى الكذب لأجلها، والعلة في تلك من جهة عمرو بن الحصين؛ فإنه كان كذاباً. تاريخ بغداد (5/ 388). وقال الذهبي: وهوه. الكاشف (4143). وقال الذهبي في ترجمة محمد بن عبد الله بن علاثة، على حديث: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً، الظاهر أنه من وضع ابن حصين. الميزان (3/ 595). وفي التقريب: متروك. (¬1) سنن الدارقطني (1/ 210).

الدليل التاسع

[ضعيف] (¬1). ومع ضعفه هو موقوف. الدليل التاسع: [50] ما رواه الدارقطني (¬2) من طريق هارون بن زياد القشيري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: "الحيض ثلاث، وأربع، وخمس، وست، وسبع، وثمان، وتسع، وعشر، ¬

_ (¬1) الإسناد فيه عنعنة الحسن البصري، وهو مدلس مكثر، وإن صح سماعه من عثمان إلا أنه لم يصرح بالسماع هنا، وفيه أيضاً: أشعث بن سوار الكندي، وهو ضعيف. وقد رواه الدارقطني (1/ 210)، قال: حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا يحيى بن أبي طالب، نا عبد الوهاب، أنا هشام بن حسان، عن الحسن أن عثمان بن أبي العاص الثقفي، قال .... فذكر نحوه. فهذه متابعة من هشام بن حسان لأشعث، إلا أن علة العنعنة باقية، وهشام بن حسان في روايته عن الحسن فيها كلام، إلا أنها منجبرة بروية أشعث. وفي الإسناد: يحيى بن أبي طالب. قال الدارقطني: لا بأس به عندي، لم يطعن فيه أحد بحجة. تاريخ بغداد (14/ 220). وقال الحافظ: وثقه الدارقطني، وهو من أخبر الناس به. لسان الميزان (6/ 262). وقال أبو حاتم: محله الصدق. الجرح والتعديل (9/ 134). وقال موسى بن هارون: أشهد أنه يكذب. تاريخ بغداد (14/ 220)، قال ابن حجر: عنى في كلامه، ولم يعن في الحديث. قلت: هو جرح، ومن كذب في كلامه فقد اتهم. وقال أبو عبيد الآجري: خط أبو داود على حديث يحيى بن أبي طالب. تاريخ بغداد (14/ 220). وقال أبو أحمد محمد بن إسحاق الحافظ: ليس بالمتين. المرجع السابق. وقال مسلمة بن قاسم: ليس به بأس، تكلم الناس به. انظر اللسان (9229). (¬2) سنن الدارقطني (1/ 209).

دليل من قال: أكثر الحيض سبعة عشر يوما.

فإن زاد فهي مستحاضة". قال الدارقطني: لم يروه عن الأعمش بهذا الإسناد غير هارون ابن زياد القشيري، وهو ضعيف الحديث. وليس لهذا الحديث عند الكوفيين أصل عن الأعمش. والله أعلم. هذا ما وقفت عليه من أدلة الحنفية، وعلى كثرتها إلا أن المرفوع فيها ضعفه لا ينجبر، والموقوف ضعيف وليس فيه حجة. والله أعلم. دليل من قال: أكثر الحيض سبعة عشر يوماً. الدليل الأول: يرى ابن حزم أن ما زاد على سبعة عشر يوماً فإنه ليس بحيض إجماعاً!! قال رحمه الله: "قد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دم الحيض أسود، فإذا رأته المرأة لم تصل، ووجب الانقياد لذلك، وصح أنها ما دامت تراه فهي حائض، لها حكم الحيض ما لم يأت نص أو إجماع فى دم أسود أنه ليس حيضاً، فقد صح النص بأنه قد يكون دم أسود، وليس حيضاً، ولم يوقت لنا فى أكثر عدة الحيض من شيء، فوجب أن نراعي أكثر ما قيل، فلم نجد إلا سبعة عشر يوماً، وقلنا بذلك، وأوجبنا ترك الصلاة برؤية الدم الأسود هذه المدة لا مزيد فأقل، وكان ما زاد على ذلك إجماعاً متيقناً أنه ليس حيضاً!! (¬1). ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة: 267).

الدليل الثاني

قلت: لا تثبت دعوى الإجماع مع وجود الخلاف؛ لأن هناك من قال: لا حد لأكثر الحيض ما لم يطبق عليها الدم كل الشهر، ثم أن قوله: إن دم الحيض دم أسود يعرف، إن كان مبنياً على حديث: "إن دم الحيض دم أسود يعرف" كما هو معلوم من تصحيح ابن حزم له، فالراجح أنه حديث ضعيف، مضطرب الإسناد، ومنكر المتن، كما سيأتي بيانه إن شاء الله في باب الإستحاضة. وقد ضعفه أبو حاتم والنسائي. وإن كان مبنياً على الرأي المحض؛ فإنه مخالف لما جاء من أن الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض، ولهذه المسألة بحث مستقل إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: قال ابن حزم: "قد روي من طريق عبد الرحمن بن مهدي أن الثقة أخبره أن امرأة كانت تحيض سبعة عشر يوماً. ورويناه عن أحمد بن حنبل، قال: أكثر ما سمعناه سبعة عشر يوماً. وعن نساء الماجشون: أنهن كن يحضن سبعة عشر يوماً (¬1). قلت: ليس في هذا ما يدل على التحديد. دليل من قال: لا حد لأكثر الحيض. الدليل الأول: قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬2). فعلق الله أحكام الحيض على وجود هذا الأذى، فمتى وجد الأذى ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق، نفس الصفحة. (¬2) البقرة، آية: 222.

الدليل الثاني

فالحيض موجود، ولم يعلقه على مضي خمسة عشر يوماً، أو على سبعة عشر يوماً، أو أقل أو أكثر. الدليل الثاني: القول بالتحديد يحتاج إلى دليل، وما دام لم يثبت في هذا شيء فلا يجوز القول به. والقائلون بالتحديد معترفون بأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء عدا الحنفية وأدلتهم شديدة الضعف، وإنما حكموا العادة والوجود في زمانهم، ولا دليل من القرآن ولا من السنة على الرجوع إلى العادة حتى تصير حداً بحيث يُجْعل الدم الذي قبل تمام خمسة عشر يوماً بساعة يُجْعَل حيضاً مانعاً من الصلاة والصوم، والدم الذى بعد تمام خمسة عشر يوماً يُجْعَل استحاضة. والدم هو الدم، واللون هو اللون، والرائحة هي الرائحة. فهذا تفريق في الحكم بين متماثلين، بلا دليل واضح من الشرع. الدليل الثالث: [51] ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. ورواه

الدليل الرابع

مسلم إلا قوله: قال أبي: ثم توضئي لكل صلاة .. الخ (¬1) وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علق أحكام الحيض على إقباله، وعلق أحكام الطهارة على إدباره، ولو كان له حد لا يتجاوزه لقال: فإذا مضى خمسة عشر يوماً، أو سبعة عشر يوماً فاغتسلي وصلي. الدليل الرابع: لو كان التحديد معتبراً لوجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبينه للأمة، لكونه يتعلق به أعظم العبادات وهي الصلاة، بل يتعلق به ركنان من أركان الإسلام: الصلاة والصيام، ويتعلق به ما يتعلق من استحلال الفروج، وخروج المرأة من عدتها، والحكم لها ببراءة رحمها إلى غير ذلك من الأحكام، فلو كان التحديد معتبراً لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعموم البلوى به، فلما لم يبينه علم أن هذا التحديد غير معتبر شرعاً. قال ابن تيمية: "اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة من الكتاب والسنة، ولم يقدر لأكثره ولا لأقله، ولم يقدر لأكثره ولا لأقله بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك، واحتياجهم إليه. واللغة لا تفرق بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك قدراً، فقد خالف الكتاب والسنة، وهذا القول هو القول الراجح، ومع ذلك إذا اطبق على المرأة الحيض، واستمر شهراً كاملاً فهي مستحاضة؛ لأن ¬

_ (¬1) البخاري (228)، ومسلم (334، 333).

الله تبارك وتعالى جعل عدة المرأة ذات الأقراء في الطلاق ثلاثة قروء، فقال سبحانه {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1) وجعل عدة اليائسة من المحيض والصغيرة التي لا تحيض ثلاثة أشهر، فقال سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬2) فجعل بإزاء كل شهر طهراً وحيضاً، فكونه يطبق عليها الدم الشهر كاملاً نعلم أن هذا الدم منه ما هو حيض، ومنه ما هو استحاضة وليس بحيض" (¬3). والطب يؤكد حقيقة أن الحيض لا يمكن أن يأتي في الشهر مرتين: ففي سؤال وجه لأحدى أخصائيات النساء والولادة، يقول السؤال: دورتي الشهرية منتظمة، ولكنها تأتي في الشهر مرتين: أي في بدايته ونهايته، فهل يمكن أن يتم التبويض مرتين في الشهر؟ وكان جواب الدكتورة: لا يمكن أن تتم عملية التبويض مرتين في الشهر الواحد، حتى وإ جاءت الدورة الشهرية مرتين أو ثلاث مرات في الشهر الواحد، كما في بعض الحالات المرضية. الخ كلامها (¬4). ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 228. (¬2) الطلاق، آية: 4. (¬3) مجموع الفتاوى (19/ 237). (¬4) مائة سؤال وجواب في النساء والولادة - الدكتورة سلوى محمد بهكلي (ص: 136) السؤال 53.

الفصل السادس: خلاف العلماء في غالب الحيض

الفصل السادس: خلاف العلماء في غالب الحيض ذهبت الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن غالب الحيض ستة أيام أو سبعة. وحكاه النووي اتفاقا (¬3). الأدلة على أن غالب الحيض ستة أيام أو سبعة. الدليل الأول (*): [52] ما رواه أحمد (¬4) ثنا عبد الملك بن عمرو، قال ثنا زهير - يعني ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 403)، روضة الطالبين (1/ 134)، نهاية المحتاج (1/ 327)، متن أبي شجاع (ص: 7)، مغني المحتاج (1/ 109). (¬2) المحرر (1/ 27)، المبدع (1/ 271)، المغني (1/ 402)، كشاف القناع (1/ 203)، شرح منتهى الإرادت (1/ 114)، الكافي (1/ 75)، حاشية ابن قاسم (1/ 375)، الفروع (1/ 267)، وقال في الإنصاف (1/ 364) "غالب الحيض ست أو سبع، لكن لا تجلس أحدهما إلا بالتحري على الصحيح من المذهب". (¬3) المجموع (2/ 404). ولم أقف على نص في المسألة في كتب الفقه لدى الحنفية ولا المالكية من خلال المراجع المتوفرة لدي والتي أحيل عليها في مسائل الخلاف. وقد رمز لها ابن مفلح في الفروع بحرف الواو (و) أي وفاقاً للأئمة، وهذا يعني أن المسألة ليست إجماعاً، وإلا لرمز لها بحرف العين (ع). والله أعلم (¬4) المسند (6/ 439)، وانظر تخريجه رقم 456. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم يرد بعد هذا أدلة أخرى

بن محمد الخراساني - عن عبد الله بن محمد يعني ابن عقيل بن أبي طالب، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش قالت: كنت استحاض حيضة شديدة كثيرة، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، قالت: فقلت: يا رسول الله إن لي حاجة، فقال: وما هي؟ فقلت: يا رسول الله إني استحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيِها، قد منعتني الصلاة والصيام قال: أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم. قالت: هو أكثر من ذلك قال فتلجمي قالت: إنما أثج ثجا، فقال لها: سآمرك بأمرين أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الآخر فان قويت عليهما فأنت أعلم، فقال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت انك قد طهرت واستيقنت واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فان ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن بميقات حيضهن وطهرهن، وان قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعا ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين وكذلك فافعلي وصلي وصومي إن قدرت على ذلك وقال رسول الله: وهذا أعجب الأمرين إلى. [والحديث قد اختلف في صحته، والراجح أنه ضعيف، وله أكثر من علة سوف أذكرها بشيء من التفصيل في باب الاستحاضة إن شاء الله تعالى].

قوله في الحديث: "تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام" ثم قال: "كما تحيض النساء وكما يطهرن". والمقصود به: غالب النساء؛ لاستحالة إرادة كلهن لاختلافهن. قال النووي: "واختلفوا في "أو" في قوله (ستة أيام أو سبعة أيام). فقيل: شك من الراوي، هل قال: هذا، أو قال: هذا. وقيل: (أو) للتخيير، واختلفوا في معناه. فقيل: تخيير تشهي. إن شاءت جلست ستة أيام، وإن شاءت جلست سبعة. وقيل: تخيير بما يليق بالمرأة، وذلك بأن ترجع إلى عادة أختها وأمها وما أشبه ذلك لغالب النساء، فإذا كان أكثر أقاربها ستة أيام قدمتها، أو سبعة فكذلك. وقيل: يحتمل أن تكون هذه المرأة قد ثبت لها عادة فيما تقدم ستة أيام أو سبعة أيام إلا أنها قد نسيتها، فلا تدري أيهما كانت، فأمرها أن تتحرى وتجتهد، وتبني أمرها على ما تيقنته، أو غلب على ظنها من أحد العددين، لقوله: "في علم الله" أي فيما علم الله من أمرك. وقيل: إن هذه المرأة عادتها تارة تكون ستة أيام، وتارة تكون سبعة أيام. والقولان الأخيران فيهما ضعف؛ لأنهما على افتراض أمر، والظاهر خلافه.

الفصل السابع: خلاف العلماء في أقل الطهر

الفصل السابع: خلاف العلماء في أقل الطهر اختلف العلماء في أقل الطهر فقيل: أقل الطهر خمسة عشر - يوماً. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 40)، المبسوط (3/ 148)، شرح فتح القدير (1/ 172)، تبيين الحقائق (1/ 62)، رد المحتار (1/ 285)، البحر الرائق (1/ 216)، مراقي الفلاح (ص: 58, 57)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 29). (¬2) المدونة (1/ 152)، المقدمات لابن رشد (1/ 126) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 31)، الشرح الصغير (1/ 209)، أسهل المدارك (1/ 87)، القوانين الفقهية (ص: 32)، الخرشي (1/ 204)، وقال: أقل الطهر خمسة عشر يوماً على المشهور. وقيل: عشرة أيام، وقيل: خمسة أيام، وتظهر فائدة التحديد لأقل الطهر فيما لو حاضت مبتدأة، وانقطع عنها دون خمسة عشر يوماً، ثم عاودها قبل تمام طهر تام فتضم هذا الثاني للأول، لتتم منه خمسة عشر يوماً، بمثابة ما إذا لم ينقطع، ثم هو دم علة، وإن عاودها بعد تمام الطهر فهو حيض مؤتنف". وانظر الشرح الكبير (1/ 168). (¬3) المجموع (2/ 404)، روضة الطالبين (1/ 134)، مغني المحتاج (1/ 109)، نهاية المحتاج (1/ 326)، متن أبي شجاع (ص: 7)، الحاوي الكبير (1/ 435). (¬4) الإنصاف (1/ 358)، الفروع (1/ 267). (¬5) الإنصاف (1/ 358)، الفروع (1/ 267)، الكافي (1/ 57)، المحرر (1/ 24)،

دليل من قال: أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما.

وقيل: أقل الطهر بين الحيضتين تسعة عشر يوماً. اختاره من الحنفية أبو حازم القاضي، وأبو عبد الله البلخي (¬1). وقيل: أقله خمسة أيام، وهذا القول هو رواية ابن الماجشون عن مالك (¬2). وقيل: أقله ثمانية أيام. وهي رواية سحنون عن مالك (¬3) وقيل: أقله عشرة أيام، وهى رواية ابن القاسم عن مالك (¬4) وقيل: لا حد لأقل الطهر. وهو اختيار ابن تيمية (¬5)، وهو الراجح. دليل من قال: أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً. الدليل الأول: [53] ما يروى عن ابن عمر مرفوعاً: "تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي". ¬

_ الإقناع (1/ 65)، المغني (1/ 390)، كشاف القناع (1/ 203)، شرح منتهى الإرادات (1/ 114)، حاشية ابن قاسم (1/ 375)، شرح العمدة (1/ 478)، شرح الزركشي (1/ 411). (¬1) بدائع الصنائع (1/ 40). (¬2) انظر المقدمات لابن رشد (1/ 126)، الكافي - ابن عبد البر (ص: 31)، الشرح الصغير (1/ 209)، القوانين الفقهية (ص: 32). (¬3) انظر المرجع السابق. (¬4) انظر المرجع السابق. (¬5) مجموع الفتاوى (19/ 237).

الدليل الثاني

[لا أصل له] (¬1). فإذا كنت المرأة تمكث شطر (نصف) عمرها لا تصلي، والحيض مرة واحدة في الشهر، معنى ذلك أنها تحيض خمسة عشر يوما من كل شهر، وإذا كان كذلك كان الطهر خمسة عشر يوماً. الدليل الثاني: قالوا: الشهر لا يخلو غالباً من حيض وطهر، وقد أثبتنا أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وإذا كان كذلك لزم أن يكون أقل الطهر ما تبقى من الشهر، وهو خمسة عشر يوماً. الدليل الثالث: قال النووي: لأنه - يعني كون الطهر خمسة عشر يوماً - أقل ما ثبت وجوده (¬2). وهذه الأدلة ضعيفة؛ لأنها مبنية على أمر ضعيف، فليس مسلماً أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، كما أنه غير مسلم أنه أقل ما ثبت وجوده، بل الكلام دعوى لا دليل عليها. دليل من قال: أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً. الدليل الأول: [54] ما رواه الدارمي (¬3)، قال: أخبرنا يعلى، ثنا إسماعيل، عن عامر قال: جاءت امرأة إلى علي تخاصم زوجها طلقها، فقالت: قد حضت في شهر ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في حديث رقم (41). (¬2) انظر المجموع (2/ 404). (¬3) سنن الدارمي (855).

ثلاث حيض فقال علي لشريح: اقض بينهما. قال يا أمير المؤمنين، وأنت ههنا. قال: اقض بينهما. قال: يا أمير المؤمنين، وأنت ههنا. قال: اقض بينهما، فقال: إن جاءت من بطانة أهلها ممن يرضى دينه وأمانته تزعم انها حاضت ثلاث حيض تطهر عند كل قرء وتصلي جاز لها وإلا فلا، فقال علي: قالون، وقالون بلسان الروم أحسنت. [ضعيف] (¬1). وجه الاستدلال: أن هذه المرأة حاضت أقل الحيض يوماً وليلة، وطهرت ثلاثة عشر يوماً، ئم حاضت أقل الحيض يوماً وليلة، ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً، فالمجموع ثمانية وعشرون يوماً، ثم حاضت يوماً وليلة، فخرجت من العدة بشهر. وأجيب بما يلي: أولاً: أن هذا الأثر ضعيف، وإسناده منقطع. ثانياً: قدمنا في بحث أقل الحيض أنه على فرض صحة الأثر فإن هذا التفسير لا يتعين، ولذا فسره ابن المبارك كما فى شرح صحيح البخاري لابن رجب أنها حاضت ثلاثاً وطهرت عشراً، وذكر هذا التفسير عن إسحاق أيضاً (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في حديث رقم (38). (¬2) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (2/ 148).

الدليل الثاني

ثالثاً: من أين لكم من الأثر أنها لو ادعت أقل من شهر أنه لن يسمع دعواها، ولن يطلب منها بينة، فهذا لا سبيل إليه من الأثر. الدليل الثاني: لقد ثبت أن أكثر الحيض سبعة عشر يوماً. قال الإمام أحمد: أكثر ما سمعناه سبعة عشر يوماً. وقد خرجته في بحث أكثر الحيض، وإذا كان أكثر الحيض كذلك، والمرأة تحيض وتطهر في الشهر، فعليه يكون الباقي من الشهر ثلاثة عشر يوماً، وهو أقل الطهر. وقد ضعفت القول بأن أكثر الحيض سبعة عشر يوماً في بحث أكثر الحيض. دليل من قال: أقل الطهر تسعة عشر يوماً. استدل له بما ذكره النووي: "أكثر الحيض عندهم عشرة، والشهر يشتمل على طهر وحيض، وقد يِكون الشهر تسعة وعشرين يوماً، منها عشرة للحيض، فيكون الباقي للطهر (¬1). وأجيب: بأن هذا القول مبني على أن أكثر الحيض عشرة أيام، وقد استدلوا لذلك بأحاديث باطلة، وآثار موقوفة ضعيفة، وإذا كان لا يثبت في أكثر الحيض شيء كما قدمنا، يكون ما بنى عليه ضعيفاً أيضاً. ¬

_ (¬1) النووي (2/ 411).

دليل من قال: أقل الطهر عشرة أو ثمانية أو خمسة.

دليل من قال: أقل الطهر عشرة أو ثمانية أو خمسة. هذا الأقوال ساقها ابن رشد في المقدمات (¬1)، وضعفها، ورجح عليها ما روى عن مالك موافقاً لقول الجمهور، ثم تلمس دليلاً لهذه الأقوال، فقال: "وأما سائر الأقاويل - يعني بأن أقل الطهر عشرة أو ثمانية، أو خمسة - لا ملحظ عليها فى القياس وإنما أخذت من عادة النساء؛ لأن كل ما وجب تحديده في الشرع، ولم يرد به نص لزم الرجوع فيه إلى العادة كنفقة الزوجات وشبه ذلك، وقد حكى ابن المعدل عن ابن الماجشون أنه وجد من النساء من يكون طهرها خمسة أيام وعرف ذلك بالتجربة من جماعة النساء" اهـ. قلت: كونه يوجد من النساء من يكون طهرها خمسة أيام دليل على أنه لا يوجد حد لأقل الطهر، فهو شاهد على ضعف القائلين بالتحديد، ولا يصح دليلاً على أن أقله خمسة أيام؛ لأنه قد يوجد من يكون طهرها أقل من ذلك. دليل من قال: لا حد لأقل الطهر. الدليل الأول: القول بالتحديد لا يجوز إلا بدليل، ولا دليل على التحديد. الدليل الثاني: الحيض هو إقبال دم الحيض، والطهر هو انقطاعه، إما بالجفاف أو برؤية القصة البيضاء. هذه حقيقة الطهر، سواء طال أم قصر، إلا أن انقطاع دم الحيض الساعة والساعتين لا يسمى طهراً. ¬

_ (¬1) المقدمات الممهدات (1/ 126).

[55] روى البخارى (¬1) ومسلم (¬2) من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة فاطمة بنت أبي حبيش. قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي". إلا أن أصحاب هذا القول قد اختلفوا فيما لو ادعت انقضاء عدتها فى شهر فأقل هل تكلف البينة أم لا؟ على قولين: الأول: رأي ابن حزم، بأنه لا فرق في أقل الطهر بين العبادة والعدة. الثاني: رأي ابن تيمية رحمه الله أنها إن ادعت خلاف الظاهر كلفت البينة. قال ابن تيمية كما في الاختيارات: "ويتوجه أنها إذا ادعت الانقضاء في أقل من ثلاثة أشهر كلفت البينة". وقد فصلت الخلاف في هذه المسألة في بحث مستقل. ورجحت أن المرأة مصدقة مؤتمنة على ما في رحمها. قال سبحانه وتعالى {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬3). والأصل أن ما كان مؤتمناً يقبل قوله مع يمينه، لكن إن كان لها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (306). (¬2) صحيح مسلم (333). (¬3) البقرة، آية: 228.

عادة مستقرة، وادعت خلافها كلفت البينة؛ لأن الأصل بقاء عادتها على ما هي عليه، فكونها تدعي خلاف عادتها، ويتكرر ذلك ثلاث مرات منها فهذا بعيد جداً لا يؤيده الظاهر.

الفصل الثامن: القول في أكثر الطهر

الفصل الثامن: القول في أكثر الطهر أجمعوا على أن أكثر الطهر لا حد له، وإليك النقول من كتب الفقهاء. قال في بدائع الصنائع، وهو من الحنفية: "وأما أكثر الطهر فلا غاية له، حتى إن المرأة إذا طهرت سنين كثيرة فإنها تعمل ما يعمل الطاهرات بلا خلاف بين الأئمة؛ لأن الطهارة في بنات آدم أصل، والحيض عارض، فإذا لم يظهر العارض يجب بناء الحكم على الأصل، وإن طال" اهـ (¬1). وقال ابن رشد، وهو من المالكية، في المقدمات: "وأما أكثر الطهر فلا حد له؛ لأن المرأة ما دامت طاهرة تصلي وتصوم، ويأتيها زوجها، طال زمان ذلك أو قصر" اهـ (¬2). وقال النووي من الشافعية في المجموع: "أكثر الطهر لا حد له، ودليلها في الإجماع، ومن الاستقراء أن ذلك موجود ومشاهد، ومن أظرفة ما نقله القاضي أبو الطيب في تعليقه، قال: أخبرتني امرأة عن أختها أنها تحيض في كل سنة يوماً وليلة، وهي صحيحة تحبل وتلد" (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 40). (¬2) المقدمات (1/ 126). (¬3) المجموع (2/ 409)

وقال ابن تيمية الحنبلي رحمه الله: "وأما أكثر الطهر فلا حد له؛ لأن من النساء من تطهر الشهر والسنة، كما أن منهن من لا تحيض أبداً" (¬1). فصارت مسألة لا حد لا كثر الطهر محل إجماع لا خلاف فيه. ¬

_ (¬1) شرح العمدة (1/ 478).

الفصل التاسع: في القول في غالب الطهر

الفصل التاسع: في القول في غالب الطهر نص الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) على أن غالب الطهر ثلاثة وعشرون، أو أربعة وعشرون يوماً؛ لأنه سبق أن دللنا أن في كل شهر حيضاً وطهراً، وإذا كان غالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام، فالباقي من الشهر يكون طهراً. [56] لما رواه أبو داود (¬3) قال: حدثنا زهير بن حرب وغيره، قالا ثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد ابن عقيل، عن إبراهيم ابن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش قالت: كنت استحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله إني امرأة استحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصوم، فقال: ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (1/ 134)، المجموع (2/ 404) قال النووي: "غالب الحيض ست أو سبع بالاتفاق". نهاية المحتاج (1/ 327)، قال: "وغالب الحيض ست أو سبع، وباقي الشهر غالب الطهر، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش: "تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام كما تيحض النساء ويطهرن ميقات حيضهن وطهرهن "أي التزمي الحيض وأحكامه فيما علمك الله من عادة النساء من ستة أيام أو سبعة. والمراد غالبهن لاستحالة اتفاق الكل عادة." اهـ وانظر مغني المحتاج (1/ 109). (¬2) الفروع (1/ 267)، المبدع (1/ 271)، كشاف القناع (2/ 203). (¬3) سنن أبي داود (287)، وانظر تخريجه رقم 456.

أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم. قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فاتخذي ثوبا. فقالت: هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم، فقال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أعجب الأمرين إلي. [والحديث فيه ضعف وقد اختلف العلماء في صحته]، وسيأتي تحريره في باب ذكر المستحاضة إن شاء الله تعالى.

الباب الثاني: في المبتدأة

الباب الثاني: في المبتدأة ويشمل على فصلين: الفصل الأول: في حكم المبتدأة. وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم المبتدأة التي انقطع دمها لأكثر الحيض فما دون. المبحث الثاني: حكم المبتدأة الذي عبر دمها أكثر الحيض. الفصل الثاني: متى تثبت للمبتدأة عادة.

حكم المبتدأة، ومتى تكون معتادة تعريف المبتدأة: هي من كانت في أول حيض، ولم يتقدم لها حيض قبل ذلك. أقسام المبتدأة: تنقسم المبتدأة إلى ثلاثة أقسام: الأولى: أن يأتيها الدم ويتجاوز أقل الحيض، ولا يتجاوز أكثره. الثاني: أن يأتيها الدم ويتجاوز أكثر الحيض. الثالث: أن يأتيها الدم، وينقطع قبل أن يبلغ أقل الحيض (¬1). ¬

_ (¬1) القول بأقل وأكثر الحيض مبني على القول بذلك، وقد بينت فيما سبق أن الراجح عدم التحديد.

الفصل الأول: خلاف العلماء في المبتدأة إذا انقطع دمها لأكثر الحيض فما دون

الفصل الأول: خلاف العلماء في المبتدأة إذا انقطع دمها لأكثر الحيض فما دون فقيل: إن الدم الذي تراه حيض، فتترك له الصلاة والصيام، ما دام أنه لم يتجاوز أكثر الحيض، على خلاف بينهم في أكثر الحيض. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: تترك الصلاة والصيام يوماً وليلة، ثم تغتسل وتصلي، وتتوضأ لوقت كل صلاة، ولا توطأ، فإذا انقطع دمها لأكثر الحيض فما دونه اغتسلت مرة ثانية عند انقطاعه، ثم تفعل ذلك في الشهر الثاني والثالث، فما تكرر ثلاثاً فهو عادتها، ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 225)، تبيين الحقائق (1/ 64)، المبسوط (3/ 153)، البناية (1/ 669)، شرح فتح القدير (1/ 178)، وانظر العناية مطبوعاً في حاشيته. بدائع الصنائع (1/ 41). (¬2) بداية المجتهد مع الهداية (2/ 38)، مقدمات ابن رشد (1/ 131)، المدونة (1/ 151). مواهب الجليل (1/ 367)، وانظر بهامشه التاج والإكليل (1/ 367)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 169, 168)، منح الجليل (1/ 167)، أسهل المدارك (1/ 87) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 491)، الكافي - ابن عبد البر (ص: 32). (¬3) الحاوي (1/ 406)، المجموع (2/ 415)، مغني المحتاج (1/ 113)، روضة الطالبين (1/ 142)، الوجيز (1/ 26)، حلية العلماء (1/ 284). (¬4) المبدع (1/ 277، 276)، الفروع (1/ 270، 269)، الانصاف (1/ 360).

ووجب عليها إعادة ما صامته فيه من صيام واجب؛ لأنه تبين أنها صامته في زمن الحيض. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا تترك الصلاة ولا الصيام حتى يستمر بها الدم أقل مدة الحيض. وهذا القول هو رواية عن محمد بن الحنفية، ووجه لابن سريج من الشافعية (¬2). وقيل: تترك الصلاة والصوم ستة أيام أو سبعة أيام، ثم تغتسل وتصلي وتصوم وإن استمر بها الدم. وهو رواية عن أحمد (¬3). وقيل: تجلس عادة نسائها كأمها، وعمتها، وخالتها. وهذا القول رواية عن أحمد (¬4). والراجح أن دم المبتدأة حيض، سواء كان أقل من يوم وليلة، أو أكثر من خمسة عشر يوماً، حتى يطبق عليها الشهر كاملاً فيكون استحاضة، وهو اختيار ابن تيمية (¬5). ¬

_ (¬1) المحرر (1/ 24)، كشاف القناع (1/ 204)، معونة أولي النهي شرح المنتهى (1/ 477)، المغني (1/ 408)، شرح الزركشي (1/ 325)، الإقناع (1/ 65)، المبدع (1/ 276 - 277). (¬2) الحاوي (1/ 406)، المجموع (2/ 417). (¬3) انظر الإنصاف (1/ 360)، الفروع (1/ 270، 296)، المغني (1/ 408). (¬4) انظر الفروع (1/ 269، 270)، المغني (1/ 409، 408)، الإنصاف (1/ 360)، المبدع (1/ 277، 276). (¬5) الاختيارات (ص: 28).

دليل الجمهور على أن المبتدأة لا تصلي ولا تصوم حتى يتجاوز أكثر الحيض.

دليل الجمهور على أن المبتدأة لا تصلي ولا تصوم حتى يتجاوز أكثر الحيض. الدليل الأول: قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬1). فالأصل في الدم الذي تراه المرأة أنه أذى، وأنه حيض حتى نتيقن أنه استحاضة. قال ابن رشد (¬2): "ما تراه المرأة من الدم محمول على أنه دم حيض، ومحكوم له بحكمه حتى يعلم أنه ليس دم حيض". الدليل الثاني: قالوا: لأننا حكمنا بأن ابتداء الدم حيض، مع جواز أن يكون استحاضة، فكذلك اثناؤه ما دام لم يتجاوز أكثر الحيض، فكل دم في أيام الحيض يمكن أن يجعل حيضاً فإنه حيض (¬3). الدليل الثالث: دم الحيض دم جبلة وطبيعة، ودم الاستحاضة دم عارض لمرض عارض، والأصل الصحة والسلامة من المرض (¬4). ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 222. (¬2) في المقدمات (1/ 129): (¬3) انظر المغني (1/ 409)، الممتع في شرح المقنع - التنوخي (1/ 268). (¬4) المغني (1/ 409).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: احتمال كونه دم استحاضة، وأنه قد يستمر معها، هذا احتمال وشك، والاحتمال والشك لا يقضي على الأصل، وهو أن الأصل في الدم أنه دم جبلة وطبيعة وصحة، لا دم مرض وعلة وفساد. دليل الحنابلة على التكرار ثلاثاً. الحنابلة يقولون: تجلس أقل الحيض يوماً وليلة، ثم تغتسل وتصلي ولو كان الدم جارياً، ودليلهم على جلوسها أقل الحيض؛ لأن الصلاة واجبة في ذمتها بيقين، وقد شكت في الزائد، فقد يكون حيضاً، وقد يكون استحاضة، فلا تترك اليقين بالشك. وأما كونها تغتسل بعد مضي يوم وليلة؛ فلأنه آخر حيضها حكماً، أشبه آخر حيضها حساً. وأما كون زوجها لا يطأها؛ لاحتمال أن تكون حائضاً، وإنما أوجبنا العبادات احتياطاً. وأما كونها تغتسل وتصلي عند انقطاع دمها إذا انقطع لأكثر الحيض فما دون؛ فإنه يحتمل أن ذلك آخر حيضها، فلا تكون طاهراً بيقين إلا بالغسل حينئذ. وأما كونها تفعل ذلك ثلاثاً، فالتعليل فيه أن التكرار اعتبر فيه الثلاث كالمعتدة لا يحكم ببراءة ذمتها من العدة بأول حيضة، وكالمعتدة في الشهور، وخيار المصراة، ونحوها.

فعلى هذا إن تكرر في الثلاث على قدر واحد، صار ذلك عادة لتكراره ثلاثاً، وإلا فلا لما ذكرنا. وإن تكرر مختلفاً، مثل أن يكون في الشهر عشرة، وفي الثاني اثني عشرة، وفي الثالث ثلاثة عشر، فالعشرة متكررة ثلاثاً، فهي عادة، وما عدا ذلك ليس بعادة إلا أن يتكرر بعد ذلك. ولو فرضنا أن عادتها أصبحت عشرة أيام، وكانت تصلي وتصوم فيما بين اليوم والليلة وبين العشرة، وتبين لنا بالتكرار أنها أيام حيض، فيجب عليها أن تقضي كل صوم واجب صامت فيه؛ لأنها تبين أنها صامت وهى حائض، فلا يصح الصوم منها، وعلى هذا يلزمها إعادة الصيام مرة أخرى، أما الصلاة فلكونها لا تقضى، لا يجب عليها إعادتها. هذا ملخص مذهب الحنابلة، وهو من أضعف الأقوال، وفيه حرج ومشقة، وأظن أن هذا المذهب مهجور عملياً، وإن كان هو المشهور من المذهب، ولولا أن هذا الكتاب يعنى بذكر مذهب الأئمة ما عرجت عليه. قال ابن تيمية: "وهذا القول باطل لوجوه: أحدها: أن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (¬1). فالله تعالى بين للمسلمين في المستحاضة وغيرها ما تتقيه من الصلاة والصيام، في زمن الحيض، فكيف يقال: إن في الشريعة شكاً مستمراً يحكم به ¬

_ (¬1) التوبة: 150.

دليل من قال لا تصلي ولا تصوم حتى يستمر بها الدم أقل مدة الحيض.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته، نعم قد يكون شك خاص ببعض الناس، فأما أن يكون شك في نفس الشريعة فهذا باطل. الثاني: أن الشريعة ليس فيها إيجاب الصلاة مرتين، ولا الصيام مرتين إلا بتفريط من العبد، فالصواب الذي عليه جمهور المسلمين أن من فعل العبادة كما أمر بحسب وسعه، فلا إعادة عليه (¬1) دليل من قال لا تصلي ولا تصوم حتى يستمر بها الدم أقل مدة الحيض. قالوا: لأن رؤية الدم قد يجوز أن تكون حيضاً تدع فيه الصلاة، ويجوز أن يكون دم فساد، تلزم فيه الصلاة، فلم يجز إسقاط فرض الصلاة بالشك والتجويز (¬2). ورده الماوردي، فقال: هذا التعليل فاسد من وجهين: أحدهما: غير المبتدأة إذا بدأت برؤية الدم تدع الصلاة، وإن كان هذا التجويز موجوداً. والثاني: المعتادة إذا تجاوز دمها قدر العادة تدع الصلاة، وإن كان هذا التجويز موجوداً. وإذا بطل بهذين ما علل به من هذا التجويز، وجب أن يعتبر الغالب من حالها، وهو أن ما ابتدأت برؤيته حيض (¬3). ¬

_ (¬1) في مجموع الفتاوى (21/ 632) (¬2) الحاوي (1/ 406) (¬3) انظر المرجع السابق.

دليل من قال: تترك الصلاة والصيام ستة أيام أو سبعة أيام فقط.

دليل من قال: تترك الصلاة والصيام ستة أيام أو سبعة أيام فقط. هذا القول رواية عن أحمد كما تقدم، وظاهره أنها تجلس ستة أيام أو سبعة أيام، ثم تغتسل وتصلي، ولو كان الدم جارياً، ثم تغتسل عند انقطاعه حتى يتكرر ذلك ثلاثاً، ويتبين لها عادة ووقت، على قاعدة الحنابلة في معرفة العادة. قال ابن قدامة: "روى حرب، قال: سألت أبا عبد الله، قلت: امرأة أول ما حاضت استمر بها الدم. كم يوماً تجلس؟ قال: إن كان مثلها من النساء من يحضن فإن شاءت جلست ستاً أو سبعاً حتى يتبين لها حيض ووقت، وإن أرادت الاحتياط جلست يوماً واحداً أول مرة حتى يتبين وقتها" (¬1). ودليلهم على اعتبار ستة أيام أو سبعة أيام: [57] حديث حمنة بنت جحش عند أحمد، وفيه: "فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي" (¬2). والحديث ضعيف. وسيأتي تخريجه في باب الاستحاضة، وقد ضعفه أبو حاتم الرازي وغيره (¬3) (¬4). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 409) (¬2) المسند (6/ 439)، وانظر تخريجه رقم 456. (¬3) العلل لابنه (1/ 51) (¬4) ضعفه أبو حاتم الرازي في العلل لابنه (1/ 51)، كما ضعفه الدارقطني، وابن منده، ونقل الاتفاق على تضعيفه من جهة عبد الله بن محمد بن عقيل، فإنه تفرد بروايته، والمعروف

دليل من قال: تجلس المبتدأة عادة أمها، وأختها وعمتها وخالتها.

ولا يلزم من كون الإمام أحمد قال به فقهاً أن يكون عنده صحيحاً، أو حسناً. لأن المجتهد قد يضعف الحديث من حيث السند، ويعمل به من حيث النظر، أو من حيث عمومات أخرى. والله أعلم. وفي التمهيد (¬1) لابن عبد البر: "قال أبو داود: سمعت أحمد ابن حنبل يقول في الحيض: حديثان، والآخر في نفسي منه شيء". قال أبو داود: يعني أن في الحيض ثلاثة أحاديث، هي أصول هذا الباب. أحدها: مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار. والآخر: حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. والثالث: الذي في قلبه منه شيء، هو حديث حمنة بنت جحش، الذي يرويه ابن عقيل. دليل من قال: تجلس المبتدأة عادة أمها، وأختها وعمتها وخالتها. قالوا في تعليل ذلك: إن شبه المرأة بقريباتها أقرب من شبهها بغالب النساء. قال ابن قدامة: "روى الخلال بإسناده عن عطاء: في البكر تستحاض، ولا ¬

_ عن الإمام أحمد أنه ضعفه، ولم يأخذ به، وقال: ليس بشيء. وقال مرة: ليس عندي بذلك وحديث فاطمة أصح منه، وأقوى إسناداً. وقال مرة: في نفسي منه شيء لكن ذكر أبو بكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بحديث حمنة، والأخذ به. انظر شرح ابن رجب للبخاري (2/ 64). (¬1) (16/ 61).

تعلم لها قرءاً، قال: لتنظر قرء أمها، أو أختها، أو عمتها، أو خالتها، فلتترك الصلاة عدة تلك الأيام، ولتغتسل وتصلي. قال حنبل: قال أبو عبد الله: هذا حسن. واستحسنه جداً" (¬1). والراجح قول الجمهور، أنها تترك الصلاة إذا رأت الدم؛ لأن الأصل في الدم الذي تراه المرأة قد خرج من رحمها أنه دم حيض، ولا تترك هذا الأصل حتى نتيقن أنه استحاضة؛ ولأن ما خرج من فرج المرأة الأصل فيه أنه أذى، وقد قال سبحانه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬2). والأصل السلامة، وأنه دم طبيعة لا دم علة ومرض، إلا أن قول الجمهور إذا تجاوز أكثر الحيض، وهو عند الأحناف عشرة أيام، وعند المالكية والشافعية إذا تجاوز خمسة عشر يوماً، حكم له بأنه استحاضة، هذا القول ضعيف كما رجحت، أنه لا حد لأكثر الحيض، لكن إن أطبق الدم على المرأة جميع الشهر، فقد علم أنه استحاضة. وحكم الاستحاضة سوف يأتى إن شاء الله في كتاب مستقل. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 409) (¬2) البقرة، آية: 222.

الفصل الثاني: الحالة الثانية للمبتدأة أن يتجاوز الدم أكثر الحيض

الفصل الثاني: الحالة الثانية للمبتدأة أن يتجاوز الدم أكثر الحيض إذا تجاوز الدم مع المبتدأة أكثر الحيض، على القول بأن لأكثره حداً، فكم تجلس المرأة وهي ليست لها عادة معلومة. فقيل: تجلس عشرة أيام. والباقي من الشهر طهر. وهو مذهب الحنفية (¬1)؛ لأنه أكثر الحيض عندهم. وقيل: تجلس خمسة عشر يوماً، وهو مذهب المالكية (¬2)؛ لأنه أكثر الحيض عندهم. وتعليلهم: أن الدم إذا زاد على أكثر الحيض، لا يمكن جعله حيضاً، فجعلناه استحاضة. وقيل: لا تخلو المبتدأة إما أن تكون مميزة. أو لا. فإن كانت غير مميزة، وهى التي بدأ بها الدم على صفة واحدة، ففيها قولان: الأول: قيل تجلس أقل الحيض؛ لأنه متيقن، وما زاد مشكوك فيه، فلا يحكم بكونه حيضاً. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 41)، البحر الرائق (1/ 225)، مراقي الفلاح (ص: 58)، تبيين الحقائق (1/ 62)، المبسوط (3/ 153)، البناية (1/ 669). (¬2) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 32)، أسهل المدارك (1/ 87)، بداية المجتهد مع الهداية (2/ 38)، المدونة (1/ 151).

وهو أحد القولين في مذهب الشافعية، وصححه جمهورهم (¬1). وقيل: ترد إلى غالب عادة النساء، وهو ست أو سبع، أو غالب عادة نسائها. وهذا مذهب الحنابلة (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3) [58] لحديث حمنة بنت جحش، وفيه: "تحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي" وسبق الكلام عليه في الحالة الأولى للمبتدأة. وإن كانت المبتدأة مميزة، بحيث يكون بعض دمها أسود، وبعضه أحمر، ولم يعبر الأسود أكثر الحيض، ولم ينقص عن أقله، فالأسود حيضها، والأحمر استحاضة. هذا هو مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). واستدلوا بأحاديث سوف يأتي بسطها ومناقشتها في باب الاستحاضة، إن شاء الله تعالى. والراجح أن المبتدأة لا تكون مستحاضة بمجرد أن الدم جاوز خمسة عشر ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 422)، روضة الطالبين (1/ 143، 140)، مغني المحتاج (1/ 113، 114)، نهاية المحتاج (1/ 341، 343). (¬2) كشاف القناع (1/ 206)، الإنصاف (1/ 362 - 363)، المبدع (1/ 277، 274)، الفروع (1/ 270). شرح منتهى الإرادات (1/ 116)، المغني (1/ 411). (¬3) انظر المجموع (2/ 428) روضة الطالبين (1/ 140، 143). (¬4) المجموع (2/ 428)، روضة الطالبين (1/ 140)، مغني المحتاج (1/ 113). (¬5) كشاف القناع (1/ 206)، وشرح منتهى الإرادات (1/ 116)، المغني (1/ 411).

يوماً، بل لا بد أن يستغرق الدم الشهر كاملاً، أو الشهر إلا يوماً أو يومين، فحينئذ تكون مستحاضة. وإذا حكمنا باستحاضتها، فماذا تعمل؟ وهي ليس لها عادة. سوف يأتي بسط ذلك في كتاب الاستحاضة.

الفصل الثالث: الحالة الثالثة للمبتدأة أن يأتيها الدم وينقطع قبل أن يبلغ أقل الحيض

الفصل الثالث: الحالة الثالثة للمبتدأة أن يأتيها الدم وينقطع قبل أن يبلغ أقل الحيض إذا انقطع دم المبتدأة قبل أن يبلغ أقل الحيض فليس بحيض عند الحنفية (¬1) , والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يعتبر حيضاً، وهو مذهب المالكية (¬4). وسبب الخلاف خلافهم في أقل الحيض. فمن حد أقل الحيض بزمن معين، وهم الجمهور، قالوا: إذا نقص عن أقله فلا يعتبر حيضاً. أما الذين قالوا: لا حد لأقله، بل تعتبر الدفعة من الدم حيضاً، فلا تأتي هذه المسألة على قواعدهم. وقد فصلنا هذه المسألة، وأدلة كل فريق في الباب الأول: في الخلاف في مقدار الحيض ووقته، فارجع إليها إن شئت غير مأمور. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 202)، البناية (1/ 614)، مراقي الفلاح (ص: 57)، شرح فتح القدير (1/ 160). (¬2) مغني المحتاج (1/ 109)، روضة الطالبين (1/ 134)، المجموع (1/ 402). (¬3) المغني (1/ 388)، الإنصاف (1/ 358)، المحرر (1/ 24)، كشاف القناع (1/ 203). (¬4) المدونة (1/ 152)، مقدمات ابن رشد (1/ 201)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 31).

الفصل الرابع: متى تثبت للمبتدأة عادة

الفصل الرابع: متى تثبت للمبتدأة عادة اختلف العلماء في ثبوت العادة: فقيل: تثبت العادة بمرة للمبتدأة. وهو مذهب المالكية (¬1)، وقول أبي يوسف من الحنفية (¬2)، وقيل الفتوى عليه عندهم (¬3). والمشهور من مذهب الشافعية (¬4) وقيل: تثبت العادة بمرتين. وهو قول أبي حنيفة ومحمد (¬5)، ووجه للشافعية (¬6)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬7). وقيل: لا تثبت العادة حتى تتكرر ثلاث مرات، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬8). ¬

_ (¬1) شرح الزرقاني لمختصر خليل (1/ 134)، حاشية الدسوقي (1/ 169)، مواهب الجليل (1/ 368). (¬2) تبيين الحقائق (1/ 64)، بدائع الصنائع (1/ 42)، البحر الرائق (1/ 224). (¬3) البحر الرائق (1/ 224). (¬4) المجموع (2/ 443)، روضة الطالبين (1/ 145). (¬5) تبيين الحقائق (1/ 64)، بدائع الصنائع (1/ 42)، البحر الرائق (1/ 224). (¬6) المجموع (2/ 422). (¬7) الفروع (1/ 269) , الإنصاف (1/ 361). (¬8) الممتع شرح المقنع - التنوحي (1/ 287)، الإنصاف (1/ 371).

أدلة من قال: تثبت العادة بمرة.

أدلة من قال: تثبت العادة بمرة. من القرآن قوله تعالى {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (¬1). فسمى الثاني عوداً، وهو لم يسبق إلا مرة واحدة. [59] من السنة: ما رواه مالك (¬2): عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التى كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلي". [الحديث، وإن كان رجاله ثقات، إلا أنه أعل بالانقطاع، وفي إسناده اضطراب] (¬3). ¬

_ (¬1) الأعراف، آية: 29. (¬2) الموطأ (1/ 62) (¬3) الحديث فيه اختلاف في إسناده. فقيل: عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. وقيل: عن سليمان، عن رجل، عن أم سلمة. وقيل عن سليمان، أن فاطمة بنت حبيش استحيضت، فأمرت أم سلمة أن تسأل لها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: عن سليمان، عن مرجانة، عن أم سلمة. أما رواية سليمان بن يسار، عن أم سلمة مرفوعاً .. فرواها أيوب، عن سليمان به. ورواه نافع عن سليمان، واختلف على نافع:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فرواه مالك عن نافع، عن سليمان، عن أم سلمة، كرواية أيوب عن سليمان. وخالف مالك جماعة، منهم الليث، وصخر بن جويرية، وجويرية بن أسماء، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، كل هؤلاء رووه عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن رجل، عن أم سلمة، فجعلوا بين سليمان، وبين أم سلمة رجلاً مبهماً. ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع بالوجهين: تارة يذكر بين سليمان وأم سلمة واسطة كرواية الجماعة، وتارة لا يذكر واسطة كرواية مالك وأيوب. وقد يقدم مالك على غيره لولا رواية عبيد الله بن عمر العمري، فلا أجد مرجحاً بين الروايتين، وعبيد الله بن عمر مقدم على مالك في نافع عند أكثرهم. وأما رواية سليمان عن مرجانة، عن أم سلمة. فرواها البيهقي (1/ 334) من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن سليمان بن يسار، به. وأما رواية سليمان بن يسار، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، حتى كان المركن ينقل من تحتها، وأعلاه الدم. قال: فأمرت أم سلمة أن تسأل لها النبي - صلى الله عليه وسلم -. فرواه حماد بن زيد عن أيوب، عن سليمان بن يسار به عند الدارقطني (1/ 208)، وقد سبق لك رواية مالك عن أيوب. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 118) حدثنا إسماعيل بن عليه، عن أيوب، عن سليمان بن يسار، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال سئل له النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم تذكر أم سلمة. ومن طريق إسماعيل أخرجه الدارقطني (1/ 208). فرجح بعض العلماء أن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة. قال البيهقي (1/ 333): هذا حديث مشهور، أودعه مالك بن أنس الموطأ، وأخرجه أبو داود في كتاب السنن، إلا أن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة. وكذا قال المنذري. وخالفهما ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 333)، فقال: "أخرجه أبو داود في سننه من حديث أيوب السختياني، عن سليمان، عن أم سلمة، كرواية مالك, عن نافع،. وقد ذكره البيهقي فيما بعد. قال صاحب الإمام: وكذلك رواه أسيد، عن الليث. وراه أسيد أيضاً عن أبي خالد الأحمر: سليمان بن حيان، عن الحجاج بن أرطاة، كلاهما عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. وذكر صاحب الكمال أن سليمان سمع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ من أم سلمة، فيحتمل أنه سمع هذا الحديث منها، ومن رجل عنها" اهـ قلت: هذا احتمال، والاحتياط للرواية ألا يقبل فيها ما كان من باب الاحتمالات، فالاحتمال غالباً يسقط الدليل لا يقويه. وقال النووي: إسناده على شرطهما. اهـ والنووي رحمه الله على طريقة الفقهاء يحكم دائماً للزيادة سواء كانت في الاسناد أو في المتن، فإذا أرسله جماعة، ووصله ثقة، أو أوقفه بعضهم ورفعه آخر، أو زاد لفظة لا يذكرها غيره ممن روى هذا الحديث، اعتبر النووي الاتصال، والرفع، والزيادة مقبولة، وهذا لا يتأتى على منهج جمهور أهل الحديث. هذا فيما يتعلق بالحديث على سبيل الإجمال، وإليك تخريج ما ذكر على سبيل التفصيل: تخريج الحديث أما رواية أيوب، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة: فأخرجها أحمد (6/ 321، 322) حدثنا، عفان، حدثنا وهيب، قال: ثنا أيوب، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة بلفظ: أن فاطمة استحيضت، وكانت تغتسل في مركن لها، فتخرج، وهي عالية الصفرة والكدرة، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: تنظر أيام قرئها، أو أيام حيضها، فتدع الصلاة، وتغتسل فيما سوى ذلك، وتستثفر بثوب، وتصلي" وليس في هذا اللفظ موضع شاهد للباب، وهو قوله: "قبل أن يصيبها الذي أصابها". ولم يرد هذا اللفظ إلا في رواية مالك عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. وأخرجه أبو داود (278) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب به. وأخرجه الدارقطني (1/ 208) من طريق معلى بن أسد، أخبرنا وهيب به. وقرنه برواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن سليمان بن يسار، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت حتى كان المركن ينقل من تحتها، وأعلاه الدم، فأمرت أم سلمة تسأل لها النبي - صلى الله عليه وسلم - .... وذكر الحديث. وأخرجه الدارقطني (1/ 207) من طريق سفيان، وأخرجه أيضاً (1/ 208) من طريق عبد الوارث، كلاهما عن أيوب به. أما رواية نافع، عن سليمان عن رجل عن أم سلمة فرواه أبو داود (275) حدثنا قتيبة بن سعيد، ويزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب، قالا: حدثنا الليث، عن نافع به. ومن طريق الليث أخرجه البيهقي (1/ 333). وأخرجه أبو داود (277) حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ صخر بن جويرية، عن نافع به. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 333). وأخرجه الدارقطني (1/ 217) من طريق ابن مهدي، عن صخر بن جويرية به. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (113) حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، ثنا عبد الرحمن بن مهدي. وأخرجه البيهقي (1/ 333) من طريق جويرية بن أسماء، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، فرقهما، عن نافع به. واختلف على نافع: فرواه الليث، وصخر بن جويرية، وجويرية بن أسماء، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، كلهم رووه عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن رجل، عن أم سلمة. وخالفهم مالك، فرواه عن نافع, عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. أخرجها مالك في الموطأ (1/ 62) وأحمد في المسند (6/ 320) قرأت على عبد الرحمن، مالك به. وأخرجه أبو داود (274) حدثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا مالك به. وأخرجه النسائي (355, 208)، وفي الكبرى (214) أخبرنا قتيبة، عن مالك به. ومن طريق مالك أخرجه البغوي (325). ورواه عبيد الله بن عمر. واختلف على عبيد الله فيه: فرواه أبو أسامة، وعبد الله بن نمير، كلاهما، عن عبيد الله، عن نافع، عن سليمان، عن أم سلمة، ولم يذكرا واسطة بين سليمان، وبين أم سلمة. وخالفهما أنس بن عياض، فرواه عن عبيد الله، عن نافع، عن سليمان، عن رجل، عن أم سلمة. فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 118) ح 1346 حدثنا ابن نمير، وأبو أسامة، عن عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. وأخرجه أحمد (6/ 293) حدثنا ابن نمير، ثنا عبيد الله به. وأخرجه النسائي (354) أنبأنا محمد بن عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا أبو أسامة به. وأخرجه ابن ماجه (623) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: ثنا أبو أسامة به. ومن طريق أبي أسامة أخرجه الدارقطني (1/ 217). وخالفهما أنس بن عياض فرواه عن عبيد الله بن عمر بزيادة الرجل المبهم بين سليمان، وبين أم سلمة. فقد أخرجه أبو داود (276) ومن طريقه البيهقي (1/ 333) حدثنا عبيد الله ابن مسلمة، حدثنا أنس بن عياض به.

دليل من قال: إن العادة تثبت بمرتين.

دليل من قال: إن العادة تثبت بمرتين. الدليل الأول: قال الشوكاني: "قد تقرر في كتب اللغة أن العادة مأخوذة من عاد إليه يعود: إذا رجع، فدل ذلك على أنه لا يقال عادة إلا لما تكرر، وأقل التكرار يحصل بمرتين" (¬1) وقال ابن قدامة: "والعادة مأخوذة من المعاودة، ولا تحصل المعاودة بمرة واحدة" (¬2). دليل من قال: العادة تثبت بثلاث مرات. الدليل الأول: [60] ما رواه أبو داود (¬3): حدثنا، محمد بن جعفر بن زياد، حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، قال، ثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي ابن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة". ¬

_ وأما رواية سليمان بن يسار، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أو سئل لها ... الحديث. فرواه ابن أبي شيبة (1/ 118) حدثنا أسماعيل بن علية، عن أيوب، عن سليمان به. ومن طريق ابن علية أخرجه الدارقطني (1/ 208). والله أعلم (¬1) السيل الجرار (1/ 145) (¬2) المغني (1/ 397) (¬3) السنن (297)

[والحديث ضعيف جداً] (¬1). ¬

_ (¬1) فيه شريك بن عبد الله النخعي. قال ابن معين: شريك ثقة، من يسأل عنه؟ كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (4/ 365). وقال أيضاً: صدوق ثقة، إلا أنه إذا خولف فغيره أحب إلي منه. كما في رواية معاوية بن صالح. تاريخ بغداد (9/ 279)، تهذيب التهذيب (4/ 293). وقال أيضاً: شريك ثقة إلا أنه كان لا يتقن ويغلط، ويذهب بنفسه على سفيان وشعبة. تاريخ بغداد (9/ 279). تهذيب التهذيب (4/ 293). قيل ليحيى بن سعيد القطان: يقولون: إنما خلط شريك بآخرة. فقال: ما زال مخلطاً. الجرح والتعديل (4/ 365). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن شريك وأبي الأحوص. فقال: شريك أحب إلي، شريك صدوق، وهو أحب إلي من أبي الأحوص، وقد كان له أغاليط. الجرح والتعديل (4/ 365). وقال أبو زرعة: كان كثير الحديث، صاحب وهم، يغلط أحياناً، فقيل له: إن شريكاً حدث بواسط بأحاديث بواطيل، فقال أبو زرعة: لا تقل بواطيل. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 193). وقال ابن المبارك: شريك أعلم بحديث الكوفه من سفيان. الجرح والتعديل (4/ 365). وقال ابن حبان: كان في آخر عمره يخطئ فيما يروي، تغير حفظه، فسماع المتقدمين عنه الذين سمعوا منه بواسط ليس فيه تخليط، مثل يزيد بن هارون، وإسحاق الأزرق، وسماع المتأخرين عنه بالكوفة، فيه أوهام كثيرة. الثقات (6/ 444). وقال ابن عدي: الغالب على حديثه الصحة والاستواء، والذي يقع في حديثه من النكرة إنما أتي فيه من سوء حفظه، لا أنه يتعمد في الحديث شيئاً مما يستحق أن ينسب إلى شيء من الضعف. الكامل (4/ 6). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (4/ 293). وحدد ابن حبان تاريخ توليه القضاء عام خمسين ومائة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة. اهـ. ووصفه عبد الحق الإشبيلي بالتدليس. وقال القطان: كان مشهوراً بالتدليس. تهذيب التهذيب (4/ 293). وفي الإسناد: أبو اليقظان: اسمه عثمان بن عمير. قال ابن معين: ليس حديثه بشيء في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (6/ 161). الضعفاء الكبير (3/ 211). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، كان شعبة لا يرضاه. وذكر أنه حضره، فروى عن شيخ. فقال له شعبة: كم سنك؟. فقال كذا. فقال شعبة: فإذاً قد مات الشيخ وهو ابن سنتين. الجرح والتعديل (6/ 161) .. وقال عنه البخاري في الأوسط: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (7/ 132). وقال في الكبير: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه. التاريخ الكبير (6/ 245). وقال الدارقطني: متروك، كما في سؤالات البرقاني (356). وقال أيضاً: زائغ لم يحتج به. كما في سؤالات الحاكم (407). وقال ابن حبان: كان ممن اختلط، حتى لا يدري ما يحدث، لا يجوز الاحتجاج بخبره الذي وافق الثقات، ولا الذي انفرد به عن الأثبات، لاختلاط البعض بالبعض. المجروحين (2/ 95). وقال ابن عدي: ردئ المذهب، غال في التشيع، يؤمن بالرجعة، على أن الثقات قد رووا عنه، ويكتب حديثه مع ضعفه. الكامل (5/ 166). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 211). وقال أحمد: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (6/ 161). وقال أيضاً: ترك ابن مهدي حديث أبي اليقظان. المرجع السابق. وفي الإسناد أيضاً: جد عدي بن ثابت الأنصاري. قال الترمذي: سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقلت: عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، جدُّ عدي، ما اسمه؟، فلم يعرف محمد اسمه، وذكرت لمحمد قول يحيى بن معين: أن اسمه دينار، فلم يعبأ به. سنن الترمذي (1/ 221) ح 126. وقال الحربي في العلل: ليس لجد عدي بن ثابت صحبة.

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: قوله: "أيام أقرائها" الإقراء: جمع، وأقل الجمع ثلاثة. الدليل الثاني: كل شيء اعتبر فيه التكرار، اعتبر فيه الثلاث، فالأقراء في عدة الحرة لا بد ¬

_ وقال أبو علي الطوسي: جدي عدي مجهول، لا يعرف، ويقال: اسمه دينار، ولا يصح. تهذيب التهذيب (2/ 17). وقال البرقي: لم نجد من يعرف جده معرفة صحيحة. تهذيب التهذيب (2/ 17). وساق الحافظ ابن حجر الاختلاف في اسمه على خمسة أقوال، ثم قال: ولم يترجح في اسم جده إلى الآن شيء من هذه الأقوال، وأقربها للصواب أن جده، هو جد أمه: عبد الله ابن يزيد الخطمي. والله أعلم. تهذيب التهذيب (2/ 17). كما أن والده ثابت الأنصاري. قال أبو حاتم: مجهول الحال. الجرح والتعديل (2/ 460). وقال الذهبي: والد عدي بن ثابت مجهول الحال؛ لأنه ما روى عنه إلا ولده. الميزان (1/ 369). وفي التقريب: مجهول الحال. تخريج الحديث: الحديث مداره على شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، أخرجه الدارمي (793) أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا شريك به. وأخرجه الترمذي (126) حدثنا قتيبة، حدثنا شريك به.، وأخرجه أيضاً (127) حدثنا علي بن حجر، أخبرنا شريك به. وأخرجه ابن ماجه (625) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسماعيل بن موسى، قالا حدثنا شريك به. وأخرجه الطحاوي (1/ 102) حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، قال: أنا شريك به. ورواه الطحاوي بالإسناد نفسه، إلا أنه جعله من مسند علي. وأظن الأختلاط فيه من شريك، فإنه قد تغير.

فيها من ثلاثة قروء، والشهور في عدة الآيسة، والتي لا تحيض لا بد فيها من ثلاثة شهور، وخيار المصراة جعل له الخيار ثلاثة أيام، ومهلة المرتد، وتعليم الكلب في الوجه الصحيح (¬1). والراجح - والله أعلم - أن المرأة المبتدأة التي جاءتها العادة مرة واحدة، ثم استحاضت فكونها ترد إلى عادتها أقرب من كونها ترد إلى عادة غالب النساء أو إلى أقل الحيض. وأما المرأة إذا كان لها عادة مستقرة كخمسة أيام من كل شهر ثم زادت يومين في آخر حيضة حاضتها قبل استحاضتها فإنها ترد إلى عادتها المستقرة، ولا ترد إلى آخر عادتها؛ لأن ما كان متكرراً مدة طويلة لا يقدم عليه ما كان معها مرة واحدة، خاصة أن لفظ العادة اسم لما يعتاد، ولا يعتاد إلا إذا عاود مرة، ومرتين، وثلاثاً. والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر الممتع شرح المقنع - التنوخي (1/ 287).

الباب الثالث: في الطوارئ على الحيض

الباب الثالث: في الطوارئ على الحيض ويشتمل على ستة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء في المرأة إذا زاد الدم على عادتها. الفصل الثاني: خلاف العلماء في المرأة إذا طهرت قبل تمام عادتها. الفصل الثالث: كلام أهل العلم في انتقال عادة المرأة بأن تقدمت أو تأخرت. الفصل الرابع: في النقاء المتخلل بين الدمين. الفصل الخامس: خلاف العلماء في الصفرة والكدرة. الفصل السادس: في تعاطي المرأة أدوية ترفع الحيض أو تستعجل نزوله.

الباب الثالث: في الطوارئ على الحيض المقصود بالطواري على الحيض ما يطرأ على عادة المرأة من زيادة أو نقص أو تقدم أو تأخر، أو تغير للون الدم من الصفرة والكدرة ونحوهما، أو ما يحدث بفعل المرأة من استعجال للدم قبل أوانه، أو رفع له قبل نزوله إلى غير ذلك، وسوف أذكر كلام الفقهاء في هذه المسائل إن شاء الله، مبيناً الراجح منها حسب ما ظهر لي. والله أعلم.

الفصل الأول: خلاف العلماء في المرأة إذا زاد الدم على عادتها

الفصل الأول: خلاف العلماء في المرأة إذا زاد الدم على عادتها مثاله: امرأة عادتها خمسة أيام من كل شهر، فاستمر معها الدم ثمانية أيام أو أكثر أو أقل، فماذا تصنع؟ اختلف فيها العلماء إلى أقوال منها: القول الأول: مذهب الحنفية (¬1). قالوا: إذا زادت عادة المرأة، فإن كانت عادتها عشرة أيام - وهي عندهم أكثر الحيض - فما زاد فهو استحاضة؛ لأن الحيض عندهم لا يمكن أن يكون أكثر من عشرة أيام. وستأتي إن شاء الله أحكام المستحاضة. وإن كانت عادتها أقل من عشرة أيام، فاستمر معها الدم وزاد على عادتها وانقطع لعشرة أيام فما دون، قال ابن الهمام: "فالكل حيض بالاتفاق، وإنما الخلاف هل يصير عادة لها، أم لا؟ " (¬2). قلت: من اشترط في انتقال العادة التكرار، كأبي حنيفة، ومحمد لم يعتبرا الزيادة عادة، وإن اعتبراها حيضاً، حتى تتكرر الزيادة مرتين. ومن لم يشترط في انتقال العادة التكرار، اعتبر الزيادة عادة، والغى العادة السابقة كأبي يوسف. وقد فصلت أدلتهم في مسألة مستقلة. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 224)، شرح فتح القدير (1/ 176، 177)، تبيين الحقائق (1/ 64)، البناية - للعيني (1/ 665)، بدائع الصنائع (1/ 41). (¬2) شرح فتح القدير (1/ 177).

وإذا زاد الدم على عادتها، فهل تستمر على ترك الصلاة والصيام؟ وجهان في مذهب الحنفية: الأول: أنها تصلي وتصوم؛ لاحتمال أن يجاوز الدم عشرة أيام، فتكون مستحاضة، فما دام أن الزيادة مترددة بين الحيض والاستحاضة، فلا تترك من أجلها الواجبات حتى يعلم أن الزيادة حيض، وذلك بانقطاعها لعشرة أيام فما دون، وهذا اختيار أئمة بلخ (¬1). وقيل: تترك الصلاة والصيام استصحاباً للحال؛ ولأن دم الحيض دم صحة، ودم الاستحاضة دم علة، والأصل هو الصحة والسلامة من المرض. وصححه ابن الهمام في شرح فتح القدير والزيلعي في تبيين الحقائق وصححه في المجتبى. واشترط ابن نجيم أن يكون بعده طهر صحيح، وهو خمسة عشر يوماً فأكثر، قال في البحر الرائق: "لو زاد عن العادة - يعني الدم - ولم يزد على الأكثر، فالكل حيض اتفاقاً بشرط أن يكون بعده طهر صحيح، وإنما قيدناه به؛ لأنها لو كانت عادتها خمسة أيام مثلاً من أول كل شهر، فرأت ستة أيام، فإن السادس حيض أيضاً، فإن طهرت بعد ذلك أربعة عشر يوماً، ثم رأت الدم؛ فإنها ترد إلى عادتها خمسة أيام، واليوم السادس استحاضة (¬2) أما إذا زاد الدم على عشرة أيام؛ فإنها مستحاضة. فهل ترد إلى عادتها، أو ¬

_ (¬1) البناية (1/ 665). (¬2) البحر الرائق (1/ 224).

إلى أكثر الحيض؟ الجواب: ترد إلى عادتها [61] لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها" (¬1). ولأن ما رأته من الدم في أيام عادتها حيض بيقين، وما زاد على العشرة فهو استحاضة بيقين. وما بين ذلك متردد بين أن يلحق بما قبله فيكون حيضاً فلا تصلي، وبين أن يلحق بما بعده فيكون استحاضة، والصلاة والصيام واجبان بيقين، فلا يتركان بمجرد الشك. هذا مذهب الحنفية فيما إذا زادت عادة المرأة وكانت الزيادة متأخرة عن العادة. أما إذا زادت عادة المرأة، وكانت الزيادة متقدمة عن العادة فإن الحكم عندهم يختلف. وإليك تفصيله. فقد ساق السرخسي في المبسوط مذهب الحنفية، وأسوقه ببعض التصرف. قال السرخسي: صاحبة العادة إذا رأت قبل عادتها دماً، فهو على ثلاثة أوجه: أحدها: حيض بالإتفاق. وفي وجه: اختلفوا فيه. وفي وجه: روايتان عن أبي حنيفة. الوجه الأول: رأت قبل عادتها مالا يمكن أن يجعل حيضاً بانفراده، مثل أن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه.

ترى قبل عادتها يوماً أو يومين - لأن أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام - ورأت في عادتها ما يمكن أن يجعل حيضاً بانفراده ثلاثة أيام فأكثر، ولم يجاوز الكل عشرة أيام، فالكل حيض بالاتفاق؛ لأن ما رأته قبل أيامها غير مستقل بنفسه، فيجعل تبعاً لما رأته في أيامه. الوجه الثاني: أن ترى قبل عادتها يوماً أو يومين، وترى في عادتها يوماً أو يومين، بحيث لا يمكن جعل كل واحد منهما حيضاً بانفراده، ما لم يجتمعا، أو ترى قبل عادتها ثلاثة أيام، ولا ترى في عادتها شيئًا، فعند أبي يوسف ومحمد الكل حيض، وعند أبي حنيفة لا يكون شيء من ذلك حيضاً. وجه قولهما: إن الحيض مبني على الإمكان، والمتقدم قياس المتأخر، فكما جعل المتأخر عند الإمكان حيضاً، فكذلك المتقدم. ووجه قول أبي حنيفة: أن المتقدم دم مستنكر، مرئي قبل وقته، فلا يكون حيضاً، كالصغيرة جداً إذا رأت الدم؛ ولأن العادة لا تثبت إلا بالتكرار، ولا يقاس المتقدم على المتأخر؛ لأن المتأخر استبقاء، والمتقدم ابتداء، والاستبقاء أقوى من الابتداء. الوجه الثالث: إذا رأت قبل عادتها ما يكون حيضاً بانفراده، ورأت عادتها، فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا إشكال فالجميع حيض بشرط ألا يجاوز الدم أكثر الحيض عندهم - ومقداره عشرة أيام - واعتبروه حيضاً قياساً على ما إذا كانت الزيادة متأخرة عن العادة. وعن أبي حنيفة روايتان:

فرواية محمد عن أبي حنيفة أن أيام عادتها حيض، وأما المتقدم فلا يثبت حتى يتكرر. ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة: الجميع حيض، والمتقدم تبع للأصل (¬1). قلت: هذا القول ضعيف: أولاً: لأنه مبني على أن أكثر الحيض عشرة أيام، وما عداه فهو استحاضة، وقد بينت في مسألة مستقلة بأنه لا حد لأكثر الحيض. ثانياً: اشتراط أن يكون ما بعد الدم الزائد طهراً صحيحاً، وهو خمسة عشر يوماً فأكثر، لا دليل عليه. وقد سبق أن بينت في مسألة مستقلة بأنه لا حد لأقل الطهر. القول الثاني: مذهب المالكية (¬2). مذهب المالكية فيه عدة أقوال سنذكرها إن شاء الله، وهي كالتالي: القول الأول: أنها تجلس عادتها، وتستظهر ثلاثة أيام، ومحل الاستظهار بالثلاثة، ما لم تجاوز نصف الشهر، فمن اعتادت نصف الشهر فلا استظهار عليها، ومن عادتها أربعة عشر يوماً استظهرت بيوم فقط، ومن كانت عادتها ستة أيام استظهرت بثلاثة أيام، ثم اغتسلت، وصامت، وصلت. هذا قول مالك، وأصل مذهبه، والمذكور في المدونة، ولم يبين مالك رحمه الله إن كان يطؤها زوجها فيما بينها وبين الخمسة عشر يوماً أم لا. ومن ثم ¬

_ (¬1) المبسوط - ببعض التصرف (3/ 180). (¬2) مواهب الجليل (1/ 368) المنتقى للباجي (1/ 124)، المدونة (1/ 151).

اختلف أصحابه على قولين: الأول: أنها بعد الاستظهار تكون مستحاضة، فتغتسل وجوباً، وتصلي، وتصوم، وتطوف إن كانت حاجة، ويأتيها زوجها، وهو ظاهر رواية ابن القاسم، عن مالك في المدونة. وعلى هذه الرواية، تغتسل عند تمام خمسة عشر يوماً استحباباً لا إيجاباً. الثاني: أنها تجلس أيامها المعتادة والاستظهار، ثم تغتسل استحباباً وتصلي احتياطاً، وتصوم، وتقضي الصيام، ولا يطؤها زوجها، ولا تطوف طواف الإفاضة، إلا بعد تمام الخمسة عشر يوماً، فإذا بلغت الخمسة عشر يوماً اغتسلت إيجاباً، وكانت مستحاضة، وهذا دليل رواية ابن وهب عن مالك في كتاب الوضوء من المدونة. والقول الأول هو الراجح من مذهب مالك، اختاره صاحب الشرح الصغير (¬1)، ومختصر خليل (¬2). وقال في حاشية الدسوقي: "هذا مذهب المدونة" (¬3) وبقي في مذهب مالك ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تقعد إلى تمام الخمسة عشر يوماً، ثم تغتسل، وتصلي، وتكون مستحاضة، وهذا القول مبني على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً فما زاد فهو ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 210). (¬2) مختصر خليل (ص: 19) (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 169).

استحاضة. الثاني: أنها تقعد أيامها المعتادة، ثم تغتسل وتصلي، وتكون مستحاضة من غير استظهار، وهذا قول محمد بن مسلمة. الثالث: أنها تقعد أيامها المعتادة، ثم تغتسل، وتصلي، وتصوم، ولا يأتيها زوجها، فإن انقطع عنها الدم ما بينها وبين خمسة عشر يوماً، علم أنها حيضة, وانتقلت إليها، ولم يضرها ما صامت، ولا ما صلت. يريد: وتغتسل عند انقطاعه. وإن تمادى بها الدم على خمسة عشر يوماً علم أنها كانت مستحاضة، وأن ما مضى من الصلاة والصيام كان في موضعه. هذه ملخص الأقوال في مذهب المالكية، وقد ساقها ابن رشد في المقدمات (¬1). [وجه اعتبار الاستظهار بثلاثة أيام] قل الباجي في المنتقي: "وجه رواية الاستظهار أن هذا خارج من الجسد أريد التمييز بينه وبين غيره، فجاز أن يعتبر فيه بثلاثة أيام. أصل ذلك لبن المصراة" اهـ (¬2). ويقصدون بلبن المصراة ما رواه مسلم، قال: [62] حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب - يعني ابن عبد الرحمن ¬

_ (¬1) المقدمات (1/ 130). (¬2) المنتقى شرح الموطأ - للباجي (1/ 124).

القاري، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر (¬1). وهذا من أعجب الاستدلالات، ولا أدري ما وجه الشبه بين المصراة، وبين من زادت عادتها، ويحق في العجب، ويطول عجبي على من فتح باب القياس، ولو لم يكن هناك أصل جامع. وهذا الغلو في القياس هو الذي فتح الباب للجمود على ظاهر النصوص، وعدم قبول القياس الصحيح. وأما دليل من قال: تقعد إلى تمام خمسة عشر يوماً، ثم تغتسل، وتصلي، وتكون مستحاضة، فدليله ما قدمناه في مسألة مستقلة من أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وقد أوضحت أنه لا حد لأكثر الحيض، فارجع إلى المسألة إن شئت. وأما دليل من قال تجلس عادتها، ثم تغتسل، وتصلي، وتكون مستحاضة، فوجهه، والله أعلم - أن العادة عنده لا تزيد، وأن المرأة مأمورة أن تجلس قدر عادتها، كما في الحديث الصحيح: "اجلسي قدر ما كانت تحبسك حيضتك" لكن هذا في امرأة ثبت أنها استحاضت، لا في امرأة زادت عادتها فقط. وأما من قال: تجلس قدر عادتها، ثم تغتسل، وتصلي، فإن انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً، فإنها تعيد الصيام الواجب الذي صامته؛ لأنها تبين أنها صامت وهي حائض، وإن تجاوز خمسة عشر يوماً حكمنا بأنها مستحاضة، فهذا قول ضعيف؛ لأنه يوجب على المرأة الصيام مرتين، فمن صام وامتثل الأمر الشرعي ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1524).

بحسب طاقته فلا يلزم بالاعادة، ولم يوجب الله - سبحانه وتعالى - صيام يوم مرتين. القول الثالث: مذهب الشافعية (¬1) إذا كانت للمرأة عادة، دون خمسة عشر يوماً، فرأت الدم وجب عليها الإمساك، كما تمسك عنه الحائض لاحتمال الانقطاع قبل مجاوزة خمسة عشر يوماً، ويكون الجميع حيضاً. قل النووي في المجموع: "ولا خلاف - يعني في المذهب - في وجوب هذا الإمساك، ثم إن انقطع من خمسة عشر يوماً، فما دونها، فالجميع حيض، وإن جاوز خمسة عشر يوماً، علمنا أنها مستحاضة، فترد إلى عادتها، فتغتسل بعد الخمسة عشر يوماً، فتقضي صلاة ما زاد على عادتها، وإن استمر بها الدم في الشهر الثاني، وجاوز العادة اغتسلت عند مجاوزة العادة، لأننا علمنا في الشهر الأول أنها مستحاضة (¬2). وهذا القول جيد، إلا أن تحديده بخمسة عشر يوماً ضعيف؛ لأنه مبني على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، والصحيح أنه لا حد لأكثره. القول الرابع: مذهب الحنابلة (¬3). أن من زادت عادتها مثل أن يكون حيضها خمسة أيام من كل شهر فيصير ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 442، 440). (¬2) المجموع (2/ 440، 442). (¬3) الإنصاف (1/ 368) المبدع (1/ 285)، المغني (1/ 432)، المحرر (1/ 24)، شرح منتهى الإرادات (1/ 119)، كشاف القناع (1/ 212).

الدليل الأول

ثمانية، فلا تلتفت إلى الزيادة الخارجة عن العادة، فإذا مضت عادتها اغتسلت وصلت، وصامت ما وجب فيه، ثم تغتسل في المرة الثانية وجوباً عند انقطاعه، فإذا تكررت الزيادة ثلاثة مرات، صارت الزيادة عادة، وتعيد ما صامته أو طافته من طواف فرض. فالخلاصة: أن الزيادة في مذهب الحنابلة، لا تعتبر حتى تتكرر ثلاثاً، وهذا المذهب ضعيف أيضاً، وهو مذهب مهجور. والراجح أن الزيادة حيض، ما دام أن الدم لم يستمر معها الشهر كاملاً، فإن استمر معها الشهر كاملاً، صارت مستحاضة. وسيأتي إن شاء الله تعالى أحكام المستحاضة. والأدلة على ذلك: الدليل الأول: [63] ما رواه مالك في الموطأ، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين، انها قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم الحيضة، فتقول لهن: لا تعجلن، حتى ترين القصة البيضاء" (¬1). [وإسناده حسن، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في الخلاف في الصفرة والكدرة]. وجه الاستدلال: ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 59).

الدليل الثاني

قال ابن قدامة في المغني: "لو لم تعد الزيادة حيضاً للزمها الغسل عند انقضاء العادة، وإن كان الدم جارياً" (¬1). الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬2) فما دام الدم موجوداً، فالأذى موجود. وكيف يقال بأن الدم قبل تمام العادة بدقائق حيض وبعد تمامها ليس بحيض، والرائحة هي الرائحة واللون هو اللون. الدليل الثالث: لو كان ما زاد على خمسة عشر، أو ما زاد على عشرة أيام استحاضة. أو لا يعتبر حيضاً حتى يتكرر ثلاثاً، لو كان ذلك معتبراً لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته ولما وسعه تأخير بيانه؛ إذ لا يجوز تأخيره عن وقته كيف وأزواجه وغيرهن من النساء يحتجن إلى بيان ذلك في كل وقت فلم يكن ليغفل بيانه، وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام ذكر العادة ولا بيانها إلا في حق المستحاضة لا غير (¬3). وهذا هو الذي اختاره ابن تيمية: "وكذلك المنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة، أو نقص، أو انتقال فذلك حيض حتى تعلم أنها استحاضة باستمرار الدم ... " (¬4). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 434). (¬2) البقرة، آية (222). (¬3) المغني (1/ 434 - 436) (¬4) في الاختيارات (ص 28)

وقال السعدي رحمه الله: "وأما ما ذكره الحنابلة أنها لا تنتقل إليه حتى يتكرر ثلاثاً، فهو قول ليس العمل عليه، ولم يزل عمل الناس جارياً على القول الصحيح الذي قاله في الإنصاف: لا يسع الناس إلا العمل به، وهو أن المرأة إذا رأت الدم جلست فلم تصل ولم تصم وإذا رأيت الطهر البين تطهرت واغتسلت وصلت سواء تقدمت عادتها أو تأخرت، وسواء زادت مثل أن تكون عادتها خمسة أيام، وترى الدم سبعة، فإنها تنتقل إليها من غير تكرار، وهذا هو الذي عليه عمل نساء الصحابة رضي الله عنهن والتابعين من بعدهم، حتى الذي أدركنا من مشايخنا لا يفتون إلا به، لأن القول الذي ذكروا لا تنتقل إلا بتكراره ثلاثاً قول لا دليل عليه، وهو مخالف للدليل" (¬1). ¬

_ (¬1) فقه السعدي (1/ 338).

الفصل الثاني: في طهارة المرأة قبل تمام عادتها.

الفصل الثاني: في طهارة المرأة قبل تمام عادتها. اتفق الفقهاء على أن المرأة المعتادة إذا انقطع دمها دون عادتها فإنها تطهر بذلك، ولا تتم عادتها بشرط ألا يكون انقطاع الدم دون أقل الحيض عندهم (¬1). إلا أن الحنفية كرهوا للزوج وطأها حينئذ حتى تمضي عادتها وإن اغتسلت. التعليل عندهم: لأن عود الدم في العادة غالب فكان الاحتياط في الاجتناب (¬2). وذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، إلى أنه لا يكره وطؤها ¬

_ (¬1) والصحيح أن هذا الشرط لا حاجة له مع الترجيح أنه لا حد لأقل الحيض. (¬2) شرح فتح القدير (1/ 170، 171) البناية للعيني (1/ 651، 653) قال في شرح فتح القدير (1/ 170): "إذا انقطع دم المرأة دون عادتها المعروفة في حيض أو نفاس، اغتسلت حين تخاف فوت الصلاة وصلت، واجتنب زوجها قربانها احتياطاً، حتى تأتي على عادتها، لكن تصوم احتياطاً، ولو كانت هذه هي الحيضة الثالثة انقطعت الرجعة احتياطاً، ولا تتزوج بزوج آخر احتياطاً، فإذ تزوجها رجل إن لم يعاودها الدم جاز ... ، وإن عاودها إن كان في العشرة ولم يزد على العشرة فسد نكاح الثاني ... إلخ ما ذكره رحمه الله. وانظر الأصل (1/ 337). (¬3) الكافي في فقه أهل المدينة (ص 32) وانظر المقدمات (1/ 128) واشترط أن يكون قبله وبعده طهر فاصل. (¬4) المجموع (2/ 447) الحاوي (1/ 429). (¬5) حاشية ابن قاسم (1/ 395) كشاف القناع (1/ 204، 205)، الممتع شرح المقنع - التنوخي (1/ 296)، كشاف القناع (1/ 208) وقال: "ونقص العادة لا يحتاج إلى تكرار؛

وحكمها حكم الطاهرة بعد تمام عادتها. ولا وجه لمنع الحنفية، لأننا إذا أذنا لها في الصلاة والصيام فالجماع كذلك. ولأننا حكمنا لها أنها حائض حين كان الأذى موجوداً فحين ارتفع الأذى أصبحت طاهرة، ولأنه ما منع زوجها من الجماع إلا لوجود الأذى. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬1). فإذا ارتفع الأذى لم يكن هناك حكمة من منع زوجها. بل إذا كان يؤذن للزوج أن يجامعها وهى مستحاضة، ودم الاستحاضة ينزل فكونه يؤذن له والمحل طاهر لا أذى فيه من باب أولى. وكون الدم قد يعود في العادة لا يكفي لمنع زوجها. لأن الأصل استصحاب الحال، وإذا تحققنا من رجوع الدم منع الزوج من الجماع. ¬

_ لأنه رجوع إلى الأصل، وهو العدم". وانظر الفروع (1/ 261)، شرح منتهى الإرادات (1/ 114)، وقال: "ولا يكره وطؤها: أي من انقطع دمها أثناء عادتها، واغتسلت زمنه إلى زمن طهرها في أثناء حيضها؛ لأنه تعالى وصف الحيض بكونه أذى، فإذا انقطع الدم، واغتسلت فقد زال الأذى". اهـ وانظر المبدع (1/ 286)، المحرر (1/ 24). (¬1) البقرة آية (222).

الفصل الثالث: في النقاء المتخلل بين الدمين

الفصل الثالث: في النقاء المتخلل بين الدمين إذا كانت المرأة أحياناً ترى دماً، وأحياناً ترى نقاء. فهل هذا النقاء يعتبر له حكم الحيض أم تعتبر فيه المرأة طاهرة؟. في هذا خلاف كبير بين الفقهاء .. وأحياناً في المذهب الواحد عدة أقوال. والذي يهمني أولاً أن أحرر الأقوال في كل مذهب دون أن أتعرض لها بالنقاش حتى يمكن أن يستوعبها القارئ، ثم أختم هذه الأقوال بالقول الراجح الذى أراه. وإليك أقوال المذاهب. القول الأول: مذهب الحنفية (¬1). في مذهب الحنفية خمسة أقوال رواها خمسة من أصحاب أبي حنيفة. القول الأول: رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: إذا كان الطهر الفاصل بين الدمين أقل من خمسة عشر يوماً، لا يكون فاصلاً بين الدمين بل يجعل كالدم المتوالي. مثاله: مبتدأة رأت يوماً دماً، وثلاثة عشر طهراً، ويوماً دماً. فالفاصل أقل من خمسة عشر يوماً. فعلى رواية أبي يوسف أن عشرة الأيام الأولى منذ رأت ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 172) البناية - العيني (1/ 655) البحر الرائق (1/ 216) الاختيار لتعليل المختار (1/ 27) تبيين الحقائق (1/ 60) المبسوط (3/ 157) الأصل (1/ 407) حاشية ابن عابدين (1/ 290) بدائع الصنائع (1/ 43 - 44).

الدم يعتبر حيضاً (¬1)، ويحكم ببلوغها. التعليل لهذا القول: أن الطهر بين الدمين يعتبر طهراً فاسداً، لأن أقل الطهر الصحيح خمسة عشر يوماً. ولأن الطهر إذا كان لا يصلح للفصل بين الحيضتين، فلا يصلح للفصل بين الدمين. قال في الهداية: "والأخذ بهذا القول أيسر" (¬2). القول الثاني: عند الحنفية: رواية محمد عن أبي حنيفة ولمحمد روايتان (¬3): الأولى: قال: الطهر إذا تخلل بين الدمين في مدة الحيض، عشرة فأقل فهو كالدم المتوالي، وإلا فلا. مثاله: رأت امرأة مبتدأة يوماً دماً، وثمانية أيام طهراً، ويوماً دماً فالعشرة حيض. مثال آخر: امرأة مبتدأة رأت الدم يوماً، وتسعة أيام طهراً، ثم رأت يوماً دماً، فالجميع إحدى عشرة، فلا يصلح أن يكون حيضاً، لأن أكثر الحيض ¬

_ (¬1) فإن قيل: لماذا لم يعتبروا إلا بعشرة أيام، مع أنهم اشترطوا أن يكون الفاصل أقل من خمسة عشر يوماً، فالجواب: أن الحيض عندهم لا يزيد عن عشرة أيام، وإنما اشترطوا أقل من خمسة عشر يوماً؛ لأن أقل الطهر عندهم خمسة عشر يوماً، فأشترطوا أن يكون أقل منه، حتى لا يبلغ أقل الطهر. والله أعلم (¬2) الهداية (1/ 173). (¬3) الأصل (1/ 407) والبحر الرائق (1/ 216) وذكر أن لمحمد روايتين. والمبسوط (3/ 157).

عندهم عشرة أيام. دليل هذا القول: قالوا: استيعاب الدم مدة الحيض ليس بشرط بالإجماع، فيعتبر أوله وآخره. دليل آخر: قالوا: قياساً على اشتراط النصاب في الزكاة، فكمال النصاب وحده شرط لوجوب الزكاة، ونقصانه في أثناء الحول لا يؤثر. ورده ابن نجيم، فقال: "قياسها على النصاب غير صحيح؛ لأن الدم منقطع في أثناء المدة بالكلية، وفي المقيس عليه يشترط بقاء جزء من النصاب في أثناء الحول، وإنما الذى اشترط وجوده في الابتداء والانتهاء تمامه" (¬1). الرواية الثانية لمحمد: قال: إذا كان الطهر المتخلل أقل من ثلاثة أيام، فإنه لا يعتبر فاصلاً مطلقاً حتى ولو كان الطهر أكثر من مجموع الدم الأول والثاني، ويكون الطهر بمنزلة الدم المتوالي. وإن كان الطهر ثلاثة أيام فصاعداً فينظر: فإن كان مقدار الطهر مساوياً لمجموع الدم الأول والثاني، أو كان الطهر أقل منهما في العشرة أيام، فإن الطهر في هذه الحال لا يكون فاصلاً، ويعتبر حيضاً. وجه هذا القول: اجتمع مبيح وحرام فغلب جانب الحرام، فالدم يوجب حرمتها، والطهر يوجب حلها، فغلب جانب التحريم. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 217)

وإن كان الطهر أكثر من مجموع الدم الأول والثاني، فإن الطهر حينئذ يعتبر فاصلاً. ويبقى النظر: إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضاً بنفسه جعل حيضاً، والآخر استحاضة، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضاً بنفسه جعل أسرعهما حيضاً، والثاني استحاضة. وإن لم يمكن أن يجعل أحدهما حيضاً بنفسه، إلا أن يجمع الدم الأول مع الثاني، كان الجميع استحاضة، ولم يجعل شيء من ذلك حيضاً. أمثلة لما سبق: رأت امرأة مبتدأة يومين دماً، وسبعة أيام طهراً، ويوماً دماً فلا يعتبر شيء من هذا حيضاً؛ لأن الطهر أكثر من مجموع الدم الأول والثاني، فلا يضم الثاني إلى الأول؛ لأن الطهر في هذه الحال فاصل بين الدمين، والدم الأول بنفسه لا يعتبر حيضاً، وكذلك الدم الثاني بنفسه لا يعتبر حيضاً؛ لأن أقل واحد منهما لم يبلغ أقل الحيض. مثال آخر: رأت امرأة مبتدأة الدم ثلاثة أيام، ثم طهرت خمسة أيام، ثم رأت يوماً دماً، فالطهر خمسة أيام، فهو أكثر من مجموع الدمين، فيعتبر فاصلاً، فلا يضم الأول للثاني، والدم الأول يصلح لأن يكون حيضاً؛ لأنه ثلاثة أيام، فهو حيضها والثاني استحاضة. مثال ثالث: رأت ثلاثة أيام حيضاً، وثلاثة أيام طهراً، ثم رأت يوماً دماً، فالجميع حيض؛ لأن مجموع الدم الأول والثاني أكثر من الطهر. مثال رابع: رأت يومين دماً، وثلاثة أيام طهراً، ويوماً دماً. فالجميع

حيض؛ لأن مجموع الدم مساو للطهر، فغلب جانب الدم. هذان قولان لمحمد بن الحسن. ولا أدري كيف تعقل المرأة الأمية هذا التفصيل! وما كانت مسائل الحيض بهذا التعقيد. القول الثالث: رواية ابن المبارك وزفر عن أبي حنيفة. قالوا: إذا بلغ مجموع الدم في أيام الحيض العشرة أقل الحيض، وهو ثلاثة أيام، ولا عبرة بالطهر في العشرة. فلو رأت يوماً دماً في أول العشرة، ثم سبعة أيام طهراً، ثم رأت يومين دماً كان الجميع حيضاً. لأن الدم بلغ أقل الحيض وهو ثلاثة أيام. أما لو رأت يوماً دماً في أول العشر ثم رأت ثمانية أيام طهراً ثم رأت يوماً دماً فلا يعتبر الدم حيضاً؛ لأنه لم يبلغ أقل الحيض. ولو رأت يوماً دماً في أول العشر، ويوماً في وسطها، ويوماً في آخر العشر كان الجميع حيضاً. وجه هذه الرواية: أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام، فإذا رأت دماً أقل من ثلاثة أيام، لم يكن الدم صالحاً لأن يكون حيضاً، فكذلك الطهر لا يصلح أن يكون حيضاً من باب أولى. وإذا كان الدم صالحاً لأن يكون في نفسه حيضاً كان الطهر حيضاً تبعاً لذلك.

القول الرابع: رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة. قال: إذا كان الطهر المتخلل بين الدمين، دون ثلاثة أيام، لا يصير فاصلاً، فكان كله كالدم المتوالي ... وإذا بلغ الطهر ثلاثة أيام بلياليها كان فاصلاً مطلقاً، سواء كان الدم أكثر من الطهر، أو مساوياً له، أو أقل منه. أمثلة: لو رأت ساعة دماً، وثلاثة أيام إلا ساعة طهراً، وساعة دماً، فالكل حيض؛ لأن الطهر لم يبلغ ثلاثة أيام فلم يعتبر فاصلاً، واعتبر الجميع حيضاً. مثال آخر: لو رأت يومين دماً، وثلاثة أيام طهراً ويومين دماً، لم يكن شيء منه حيضاً؛ لأن الطهر حين بلغ ثلاثة أيام كان فاصلاً، فلم يضم الأول للثاني، والأول بنفسه لا يصلح أن يكون حيضاً. وكذا الثاني لا يصلح بنفسه أن يكون حيضاً، فلم يعتبر الجميع حيضاً علماً أن مجموع الدم الأول والثاني أكثر من الطهر. مثال ثالث: رأت ثلاثة أيام دماً، وثلاثة أيام طهراً، ثم ثلاثة أيام دماً فالطهر فاصل بين الدمين، لأنه بلغ ثلاثة أيام، ولما كان الدم الأول والدم الثاني يصلح كل واحد منهما أن يكون حيضاً بنفسه، اعتبر الأول لأنه أسرعهما إمكاناً، والثاني استحاضة. هذه هي الروايات في مذهب الحنفية، وقد أكثرت من الأمثلة ليتضح القول للقارئ، وكلها مبنية إما على مجرد الرأي المحض، أو بناء على أن أقل

الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام، وقد بينت أنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره في مسألة مستقلة فارجع إليها إن شئت. والمتأخرون من الحنفية يرجحون رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة. على رواية محمد بن الحسن، قال ابن نجيم: "الأخذ بقول أبي يوسف أيسر، وكثير من المتأخرين أفتوا به، لأنه أسهل على المفتي، والمستفتي، ولأن في قول محمد وغيره، تفاصيل يحرج الناس في ضبطها، وقد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما خير بين أمرين إلا اختار أَيسرهما" (¬1). وقال الزيلعي والعيني: نحوه (¬2). المذهب المالكي في الحيضة المتقطعة (¬3). قالوا: المرأة إذا أتاها دم، ثم انقطع، ثم نزل دم آخر، فإن كان بين الدمين طهر صحيح خمسة عشر يوماً فالدم الثاني حيض مستأنف، وإن كان الطهر لا يبلغ نصف شهر كأن يأتيها الدم يوماً ثم تطهر يومين ثم يأتيها يوماً آخر وهكذا، فإنها تلفق أيام الدم بعضها على بعض .. فإن كانت مبتدأة فإنها تلفق أيام الدم فقط خمسة عشر يوماً ولا تلفق الطهر. وإن كانت معتادة تلفق مقدار عادتها وأيام الاستظهار ثلاثة أيام، فما نزل ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 216). (¬2) تبيين الحقائق (1/ 60) والبناية (1/ 656). (¬3) الشرح الصغير (1/ 212)، أسهل المدارك (1/ 89) مقدمات ابن رشد (1/ 132) مواهب الجليل (1/ 369 - 370) منح الجليل (1/ 169 - 170).

عليها بعد ذلك فاستحاضة لا حيض. وحكم الملفقة أنها تغتسل وجوباً كما انقطع دمها وتصوم، وتوطأ. هذا ملخص مذهب المالكية. المذهب الشافعي إذا رأت يوماً دماً ويوماً نقاء (¬1). وقبل التفصيل في المذهب نبين أن القول في المسألة كما قال النووي: فيما إذا كان النقاء زائداً على الفترات المعتادة بين دفعات الحيض، فأما الفترات فحيض بلا خلاف. والفرق بين الفترة والنقاء، هو ما نص عليه الشافعي في الأم والشيخ أبو حامد الاسفرائيني، وصاحبه القاضي أبو الطيب الطبري على أن الفترة: هى الحالة التي ينقطع فيها جريان الدم، ويبقى لوث وأثر بحيث لو أدخلت فى فرجها قطنة يخرج عليها أثر الدم من حمرة أو صفرة أو كدرة، فهي في هذه الحالة حائض قولاً واحداً طال ذلك أم قصر. وأما النقاء: هو أن يصير فرجها بحيث لو جعلت القطنة فيه لخرجت بيضاء (¬2). وذكر النووي أيضاً: أن الخلاف إنما هو في الصلاة والصوم والطواف والقراءة والغسل، والاعتكاف والوطء ونحوها، وأما في العدة فلا خلاف أن النقاء ليس بطهر في انقضاء العدة، وكون الطلاق سنياً (¬3)، وحكاه إجماعاً ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 517) مغني المحتاج (1/ 119) الحاوي (1/ 424). (¬2) المجموع (2/ 522). (¬3) المجموع أيضاً (2/ 518).

صاحب مغني المحتاج (¬1). هذا إذا لم يعتبر خلاف ابن حزم، فإن ابن حزم لا يمانع أن تنقضي العدة بثلاثة أو أربعة أيام كما قدمنا في الخلاف في أقل الطهر. إذا تصور هذا، نأتي إلى المسألة في مذهب الشافعية فنقول: المرأة إذا رأت يوماً دماً ويوماً نقاء فلها حالان: الأولى: أن ينقطع دمها، ولا يتجاوز خمسة عشر يوماً. الثاني: أن يتجاوز دمها خمسة عشر يوماً. الحال الأولى: إذا لم يتجاوز ففيه قولان مشهوران. أحدها: أن أيام الدم حيض، وأيام النقاء طهر. التعليل: لأن الدم إذا دل على الحيض، وجب أن يدل النقاء على الطهر. وهذا يسمى قول اللفظ أو التلفيق. الثاني: أن أيام الدم وأيام النقاء كلها حيض. ويسمى قول السحب واختلف الشافعية في الأصح منهما. قال النووي: "صحيح الأكثرون قول السحب" (¬2). وقال المرداوي: "الذى صرح به الشافعي في سائر كتبه أن كل ذلك حيض أيام الدم وأيام النقاء" (¬3). ووجهه: أن عادة النساء في الحيض مستمرة بأن يجري الدم زماناً، ويرقأ ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 119). (¬2) المجموع (2/ 518). (¬3) الحاوي (1/ 424).

زماناً، وليس من عادته أن يستديم جريانه إلى انقضاء مدته، فلما كان زمان إمساكه حيضاً، لكونه بين دمين، كان زمان النقاء حيضاً لحصوله بين دمين. فعلى هذا تكون الخمسة عشر كلها حيضاً. يحرم عليها فى أيام النقاء ما يحرم عليها في أيام الحيض. وسواء قلنا بالتلفيق أو بالسحب إذا رأت النقاء في اليوم الثاني عملت عمل الطاهرت بلا خلاف؛ لأنا لا نعلم أنها ذات تلفيق لاحتمال دوام الانقطاع، قالوا: فيجب عليها أن تغتسل وتصوم، وتصلي، ولها قراءة القرآن، ومس المصحف والطواف، والاعتكاف، وللزوج وطؤها. فإذا عاودها الدم في اليوم الثالث تبينا أنها ملفقة فإن كلنا بالتلفيق، تبين لنا صحة الصوم والصلاة، ونحوها، وإن قلنا بالسحب تبين لنا بطلان العبادات التي فعلتها في اليوم الثاني فيجب عليها قضاء الصوم والاعتكاف والطواف، والمفعولات عن واجب. هذا حكم الشهر الأول، فإذا جاء الشهر الثاني فرأت اليوم الأول وليلته دماً، والثاني وليلته نقاء. فقيل: تعمل كالشهر الأول، وهكذا لو جاءها في الشهر الثالث والرابع. وقيل: البناء فيها على القول بثبوت العادة بمرة أو مرتين، فإن أثبتنا العادة بمرة، وقلنا بالسحب، فلا تغتسل ولا تصلي ولا تصوم فى فترة النقاء. الحال الثاني: أن ترى يوماً دماً ويوماً نقاء ويتجاوز خمسة عشر يوماً، فهذه مستحاضة اختلط حيضها باستحاضتها. قال النووي: "هذا هو الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي فى كتاب الحيض، وقطع به جماهير الأصحاب

دليل الحنابلة على كون النقاء طهر نص، ونظر.

المتقدمين والمتأخرين" (¬1). وسيأتي أحكام المستحاضة في باب مستقل إن شاء الله تعالى. المذهب الحنبلي فيما إذا رأت المرأة يوماً دماً ويوم نقاء (¬2). المشهور من مذهب الحنابلة أن الدم حيض والنقاء طهر إلا أن يتجاوز مجموعهما أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوماً، فيكون الدم المتجاوز استحاضة، ويكره وطؤها في أيام النقاء. دليل الحنابلة على كون النقاء طهر نص، ونظر. أما النص فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ...} (¬3). فإذا ارتفع الأذى زال حكمه. [64] ومن الأثر ما رواه الأثرم عن أحمد كما في شرح ابن رجب للبخاري (¬4) قال أحمد: حدثنا ابن علية، ثنا خالد الحذاء، عن أنس ابن سيرين، قال: استحيضت امرأة من آل أنس فأمروني فسألت ابن عباس، فقال: أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل ولتصلي. [إسناده صحيح]. ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 523). (¬2) كشاف القناع (1/ 214)، المحرر (1/ 24)، المبدع (1/ 289, 288). (¬3) البقرة: 222. (¬4) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 176).

وأما النظر؛ فإننا إنما حكمنا على المرأة بكونها حائضاً لوجود الدم، فكذلك نحكم على المرأة بالطهارة لانقطاعه، فإذا كان الدم دليلاً على وجود الحيض، فكذلك انقطاعه دليل على الطهارة. وقيل: إذا كان انقطاع الدم أقل من يوم فليس بطهر، وإن بلغ يوماً فأكثر فهو معتبر. وهو رواية عن أحمد (¬1). دليلهم: قالوا: لأن الدم يجري مرة، وينقطع أخرى، وفي إيجاب الغسل على من تطهر ساعة حرج، ينتفي بقوله سبحانه وتعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). ولأننا لو جعلنا انقطاع الدم ساعة طهراً، ولا تلتفت إلى ما بعده من الدم أفضى إلى أن لا يستقر لها حيض، فعلى هذا لا يكون انقطاع الدم أقل من يوم طهراً إلا أن ترى ما يدل عليه، مثل أن يكون انقطاعه في آخر عادتها، أو ترى القصة البيضاء (¬3). وإذا قلنا بانقطاع الدم لا نعني مجرد وقوف جريان الدم فقط، بل المقصود أنها لو احتشت بقطنة في فرجها رجعت القطنة بيضاء، لا أثر فيها من صفرة أو كدرة، أما إذا عادت القطنة وفيها أثر صفرة أو كدرة أو نحوهما فلا يعتبر ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 177)، المغني (1/ 437). (¬2) الحج الآية الأخيرة. (¬3) المغني (1/ 437).

الحيض منقطعاً كما أسلفنا في الكلام على مذهب الشافعية، وكما سوف نبين أن الصفرة والكدرة حيض. وهذا القول أقربها للصواب. والله أعلم.

الفصل الرابع: إذا تقدمت عادة المرأة أو تأخرت.

الفصل الرابع: إذا تقدمت عادة المرأة أو تأخرت. إذا تقدمت عادة المرأة أو تأخرت، وهو ما يسمى بانتقال العادة عن موضعها، وقد سبق لنا بحث بما تثبت عادة المبتدأة؟ هل تثبت بمرة؟ أو بمرتين؟ أو بثلاث؟ وهذه المسألة مفرعة عليها، لأن من يرى أن العادة تثبت بمرة يقول: إذا تقدمت العادة أو تأخرت وصلح الدم أن يكون حيضاً لها فهو عادتها، وكذا إذا تأخرت، وأما من يرى التكرار فلا يراه عادة حتى تتكرر. والحنفية يفرقون بين تقدم العادة بالموضع، وبين تقدمها بالعدد ... فإذا رأت قبل عادتها دماً أو بعد عادتها متصلة بها، فهذا عندهم يبحث في زيادة العادة ونقصها، وقد بحثناه في مسألة مستقلة، لكن الكلام على الانتقال في الموضع لا على زيادة العادة والأقوال في المسألة كالتالي: قيل: إذا تقدمت العادة أو تأخرت فهي عادتها بشرط أن يتقدمها طهر صحيح. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، وأبي يوسف من الحنفية (¬3) وقيل: لا يكون عادة حتى يتكرر مرتين. ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 210)، مواهب الجليل (1/ 368). (¬2) المجموع (2/ 443)، روضة الطالبين (1/ 145). (¬3) تبيين الحقائق (1/ 64)، بدائع الصنائع (1/ 42).

دليل القائلين بأن العادة إذا تقدمت أو تأخرت فهي حيض.

وهو مذهب أبي حنيفة، وصاحبه محمد (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). وقيل: لا يكون حيضاً حتى يتكرر ثلاث مرات. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). دليل القائلين بأن العادة إذا تقدمت أو تأخرت فهي حيض. الدليل الأول: من القرآن، قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬4). فإذا وجد الأذى وجد الحيض، سواء تقدم أو تأخر. الدليل الثاني: [65] ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أبكي، فقال ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نفست؟ قلت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. ¬

_ (¬1) انظر المراجع السابقة، وأنظر أيضاً البحر الرائق (1/ 224). (¬2) الفروع (1/ 269)، الإنصاف (1/ 361). (¬3) الإنصاف (1/ 371)، الممتع شرح المقنع - التنوخي (1/ 287). (¬4) البقرة آية (222).

الدليل الثالث

والحديث رواه أيضاً مسلم (¬1) وجه الاستدلال: قال ابن قدامة: "والظاهر أنه لم يأت في العادة، لأن عائشة استكرهته، واشتد عليها، وبكت حين رأته، وقالت: وددت أني لم أكن حججت العام، ولو كانت لها عادة تعلم مجيئه فيها، وقد جاء فيها ما أنكرته، ولا صعب عليها (¬2). الدليل الثالث: لو كانت العادة إذا تقدمت أَو تأخرت لا تعتبر عادة ولا حيضاً حتى يتكرر مرتين أو ثلاثاً، لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته، ولو بينه لنقل إلينا، وما دام أنه لم يبينه فليس التكرار بشرط، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط. دليل من قال يشترط التكرار مرتين. الدليل الأول: قال السرخسي: "العادة مشتقة من العود، ولن يحصل العود بدون تكرار" (¬3). قلت: تسميتها عادة تسمية عرفية، ولم أقف على هذه التسمية من الشارع ¬

_ (¬1) البخاري (305)، ومسلم (119 - 1211). (¬2) المغني (1/ 435). (¬3) المبسوط (3/ 175).

الدليل الثاني

وقد راجعت في الحاسب الآلي الموسوعة الحديثية لأربعمائة كتاب، كما راجعت المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى فلم أجد فيه تسمية الحيض عادة مرفوعاً، أو موقوفاً، ولم أجد إلا قولاً لعطاء في سنن الدارمي: قال: إن كان للنفساء عادة، وإلا جلست أربعين ليلة (¬1). ومثل هذا التعليل المشتق من تسمية عرفيه لا يصلح أن يلغي الدم الذي تراه المرأة مطابقاً لدم الحيض في اللون والصفة والرائحة ثم لا تعتبره حيضاً لمجرد تقدمه أو تأخره. الدليل الثاني: قال السرخسي: "الشيء لا ينسخه إلا ما هو مثله أو فوقه. قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬2). والأول متأكد بالتكرار فلا ينسخه إلا ما هو مثله في التأكد. والاستدلال هذا عجيب، والقياس ما على الآية أعجب، لأن المذكور في النسخ هو في الآيات، لا في الدماء، وعلى التنزل فإن عادة تكررت سنوات. يلغيها عندهم عادة جديدة تكررت مرتين، فلا هي مثلها ولا هي خير منها". دليل الحنابلة على اشتراط التكرار. انظر أدلة الحنابلة على اشتراط التكرار ثلاث مرات فى مبحث، متى تكون المبتدأة معتادة. ¬

_ (¬1) سنن الدارمي (951). (¬2) البقرة آية (106).

والعجيب أن الحنابلة لا يعتبرون التكرار فى نقص العادة ويشترطونه في زيادتها وتقدمها وتأخرها. مع أن النقص نوع من تغير العادة فإذا نقصت عادة المرأة ولو مرة واحدة انتقلت إليها وأصبحت هي عادتها. وألغت عادتها السابقة فلو استحيضت بعده جلست عادتها الناقصة، ولم تجلس عادتها المتكررة. والراجح القول الأول بأن العادة إذا تقدمت أو تأخرت فهي حيض وأن الحكم يدور مع علته، فإذا انقطع الدم فهى طاهرة، وإذا جاءها الدم فهي حائض هذا هو الأصل. ولا نجعله دم استحاضة إلا إذا تبين أنه دم علة ومرض كما لو استمر عليها الشهر كاملاً. والله أعلم.

الفصل الخامس: في حكم تعاطي المرأة دواء يقطع حيضها، أو يعجل نزوله

الفصل الخامس: في حكم تعاطي المرأة دواء يقطع حيضها، أو يعجل نزوله أولاً: تعاطي المرأة ما يقطع حيضها. أما تعاطي المرأة ما يقطع حيضها، فإن الحكم يختلف تبعاً للحامل على ذلك. فقد يكون الحامل على ذلك المحافظة على صحة الأم، أو على مصلحة الولد. وقد يكون الحامل على ذلك تنظيم الحمل. وقد يكون الحامل عليه الحرص على إتمام المناسك. وقد تتعاطاه من أجل قطع النسل إما لعدم رغبة في الولد مطلقاً او اكتفاء بعدد معين، أو لغير ذلك من الدوافع، وسوف أناقش هذه الأمور حالة حالة. الأول: إذا تعاطت المرأة ما يقطع الحيض عنها خوفاً على صحتها بأن أخبرها طبيب ثقة أن الحمل فيه خطورة على حياتها سواء كان ذلك أثناء الحمل أو عند الولادة، فإنه يجوز للمرأة بل قد يتعين منع الحمل؛ لأن تعاطي ما يضر بحياتها لا يجوز، وكذلك لو أخبرها طبيب ثقة أنها إذا حملت فسوف يولد الولد متشوهاً تشوهاً غير محتمل يصعب معه الحياة. ولكن يجب التأكد من خبر الطبيب؛ فإنه كثيراً ما يقرر الطبيب شيئاً ولا يتحقق، وكم من امرأة أخبرها طبيب بأنه سوف يكون لها كذا وكذا وكتب الله لها الحمل ولم يعرض لها شيء

مما قالوا، فمن المهم أن يكون الطبيب قوياً أميناً غير متهم، ولا يشترط أن يكون مسلماً جاء في قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، جاء فيه: "أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق، ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية لإخراج الجنين، فإنه لا مانع من ذلك شرعاً، وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخر شرعية أو صحية يقررها طبيب مسلم ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين (¬1). الحالة الثانية: إذا كان الحامل على ذلك تنظيم الحمل. إذا كان الحامل على ذلك كون المرأة يتتابع حملها، وتريد أن تباعد بين فترات الحمل لتتمكن من القيام بحق الحضانة والرعاية لطفلها، وكان ذلك برضى الزوج، وكان الدواء المتعاطى لا ضرر فيه على صحة المرأة، ولا يتسبب فى منع الحمل مستقبلاً، وكان ذلك مبنياً على خبر طبيب ثقة، والمقصود بالثقة أن يكون قوياً بعمله أميناً فيه غير متهم. ولا يكون في هذا الدواء عدوان على حمل قائم فلا بأس. والخلاف في هذه المسألة مبني على حكم جواز العزل عن المرأة. وهي مسألة اختلف فيها أهل العلم. ¬

_ (¬1) نيل المآرب (4/ 414).

دليل من منع العزل.

فقيل: لا يجوز العزل مطلقاً. اختارها ابن حزم! (¬1). وقيل: بالجواز مطلقاً، إلا أن تركه أفضل. وهو أصح القولين في مذهب الشافعي (¬2). وقيل: يجوز إن أذنت الزوجة الحرة. وهو قول الجمهور (¬3). دليل من منع العزل. [66] ما رواه مسلم (¬4)، قال: حدثنا عبيد الله بن سعيد ومحمد ابن أبي عمر، قالا: حدثنا المقرئ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة، قالت: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس، وهو يقول لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا، ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الوأد الخفي. زاد عبيد الله في ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة 1907). (¬2) إحياء علوم الدين (2/ 52). (¬3) انظر في مذهب الحنفية شرح فتح القدير (3/ 400 - 401)، البناية (4/ 758). وانظر في مذهب مالك البيان والتحصيل (18/ 151) قال ابن رشد: "والذي عليه جمهور العلماء بالأمصار مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة إباحة العزل". وقال قبل: "والذي عليه جمهور الصحابة إباحة العزل". وانظر في مذهب الحنابلة الإنصاف (8/ 348)، المبدع (7/ 194). (¬4) صحيح مسلم (1442).

دليل جواز العزل.

حديثه عن المقرئ وهي {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (¬1) دليل جواز العزل. [67] ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال عمرو: أخبرني عطاء سمع جابراً رضي الله تعالى عنه، قال: كنا نعزل والقرآن ينزل. ورواه مسلم (¬2) وزاد: قال سفيان: "لو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن". وقد بينت فيما سبق: أن قول سفيان: قاله من عند نفسه استنباطاً (¬3). [68] وفي رواية لمسلم، قال: حدثني أبو غسان المسمعي، حدثنا معاذ يعني بن هشام، حدثني أبي، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا (¬4). دليل من علقه بإذن الزوجة الدليل الأول: قال ابن عبد البر: "لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة ¬

_ (¬1) التكوير: آية (8). (¬2) صحيح البخاري (5208)، ومسلم (1440). (¬3) انظر بيانه في فائدة: قول الصحابي كنا نفعل، هل له حكم الرفع أم لا؟ (¬4) صحيح مسلم (138 - 1440).

الدليل الثاني

إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل ووافقه في نقل الإجماع ابن هبيرة" (¬1). وسبق لك أن الشافعية يرون جواز العزل مطلقاً في أصح القولين في مذهبهم، فلا يصح الإجماع. الدليل الثاني: [69] ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن محرر بن أبي هريرة، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها" (¬2). الدليل الثالث: من الآثار: [70] أخرج ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن مهدي، ويزيد ابن هارون، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير عن سوار الكوفي، عن عبد ¬

_ (¬1) نقله ابن حجر في فتح الباري (10/ 385). (¬2) إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة. ومحرر بن أبي هريرة ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/ 408). وذكره ابن حبان فى الثقات، ولم يوثقه غيره. الثقات (5/ 460). وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان قليل الحديث. الطبقات الكبرى (5/ 254). وقال الذهبي: وثق. الكاشف (5308) وهذه طريقة غالباً فيمن وثقهم ابن حبان وحده. وفي التقريب: مقبول. والحديث أخرجه ابن ماجه (1928) حدثنا الحسن بن علي الخلال، ثنا إسحاق بن عيسى به، وضعفه البوصيري في الزوائد. وانظر علل الدارقطني (2/ 93).

الدليل الرابع

الله قال: يستأمر الحرة، ويعزل عن الأمة. [ضعيف] (¬1). الدليل الرابع: [71] ما رواه عبد الرزاق، قال: عن الثوري، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "تستأمر الحرة في العزل، ولا تستأمر الأمة". [رجاله ثقات، وتكلم ابن معين في حديث عبد الكريم عن عطاء] (¬2). ¬

_ (¬1) المصنف (3/ 504) رقم 16608. وفيه سوار الكوفي. قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد القطان عن سوار الكوفي الذي روى عن ابن مسعود في العزل، وروى عنه يحيى بن أبي كثير، فقال يحيى هو شبه لا شيء. الجرح والتعديل (4/ 270)، والضعفاء للعقيلي (2/ 169). وقال ابن عدي تعليقاً على هذه القصة: "ولا أعلم لسوار الكوفي إلا ما ذكر في هذه الحكاية - يعني في العزل - من رواية يحيى بن أبي كثير عنه. الكامل (3/ 451). وذكره ابن حبان في الثقات. (4/ 33). وقال ابن حجر: لا يعرف. اللسان الميزان (4070). وأخرج الحديث العقيلي في الضعفاء (2/ 169) من طريق مسلم - يعني بن إبراهيم - قال: حدثنا هشام الدستوائي به. (¬2) المصنف (14562). قال أبن معين: حديث عبد الكريم عن عطاء حديث ردئ. فظاهره أن عبد الكريم ضعيف في شيخه عطاء. انظر تهذيب الكمال (18/ 252)، وتهذيب التهذيب (6/ 333). وحمله ابن عدي على حديث معين لا مطلقاً. حديث عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلها ولا يحدث وضوءاً. وقال: إنما أراد ابن معين هذا الحديث؛ لأنه ليس بمحفوظ. الكامل (341). وقد صحح إسناده الحافظ في الفتح، وله شاهد ضعيف من قول ابن عمر. أخرجه

ولا تعارض بين حديث جابر، وبين حديث جدامة بنت وهب، لأن الرجل إنما يعزل هرباً من الحمل، فأجرى قصده ذلك مجرى الوأد، لا أنه وأد شرعاً. وأن حقيقة الوأد أن يجتمع فيه القصد والفعل، والعزل ليس فيه إلا مجرد القصد، ولهذا وصفه بكونه خفياً، فجعله وأداً من جهة اشتراكهما في قطع الولادة. وإذا لم يكن وأداً ظاهراً لم يكن له حكم الوأد. نعم يدل على كراهية العزل؛ لأن تكثير النسل مقصود من جهة الشرع، مرغب فيه، وإذا كان هناك حاجة للعزل لم يكن هناك كراهية لأن من القواعد أن لا كراهة مع الحاجة ولا تحريم مع الضرورة. الحالة الثالثة: إذا كان الحامل على منع الحيض منع الولد خوف الفقر. إذا كان الحامل على منع الدورة خوف الفقر. سواء كان الفقر متحققاً أو مخوفاً، فإن هذا لا يجوز؛ وهو من سوء الظن بالله سبحانه وتعالى فإن الله سبحانه ¬

_ البيهقي (7/ 231) من طريق أبي معاوية، عن أبي عرفجة، عن عطية العوفي، عن ابن عمر قال: يعزل عن الأمة وتستأمر الحرة. وإسناده ضعيف. فيه عطية العوفي. قال أحمد: ضعيف الحديث، بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، وكان الثوري وهشيم يضعفان حديث عطية. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: كوفي لين. الجرح والتعديل (6/ 382). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين له (481). وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وليس بالقوي. ثقات العجلي (2/ 140). وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (5/ 369). وقال ابن حجر: تابعي، معروف، ضعيف الحفظ، مشهور بالتدليس القبيح. مراتب المدلسين (122).

وتعالى هو الرزاق ذو القوة المتين. قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬1). وأنكر الله سبحانه وتعالى على أهل الجاهلية قتل أولادهم دفعاً للفقر أو خوفاً منه. فقال سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (¬2). وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (¬3). الحالة الرابعة: إذا كان منع الحيض من أجل إتمام النسك. إذا كان الحامل على المرأة في تعاطيها ما يمنع عادتها من أجل حرصها على إتمامها مناسكها وتخشى أن تعيق رفقة. أو تخشى عدم تمكنها من إتمام مناسكها فلا حرج عليها إن شاء الله تعالى. [72] روى عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سئل عطاء عن امرأة تحيض يجعل لها دواء فترتفع حيضتها، وهي في قرئها كما هيَّ. تطوف؟ قال: نعم، إذا رأت الطهر فإذا هي رأت خفوقاً ولم تر الطهر الأبيض فلا. [سنده صحيح إلى عطاء، وابن جريج مكثر عن عطاء فلا يشترط تصريحه بالسماع] (¬4). ¬

_ (¬1) هود آية (6). (¬2) الأنعام آية (151). (¬3) الإسراء، آية (31). (¬4) المصنف (1219).

[73] وروى عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنا واصل، مولى ابن عيينة، عن رجل سأل ابن عمر، عن امرأة تطاول بها دم الحيضة فأرادت أن تشرب دواء يقطع الدم عنها فلم ير ابن عمر بأساً، ونعت ابن عمر ماء الأراك. قال معمر: وسمعت ابن أبي نجيح يسأل عن ذلك فلم ير به بأساً (¬1). [ضعيف عن ابن عمر للرجل المبهم، صحيح إلى ابن أبي نجيح]. مع أن الدم إذا تطاول بالمرأة حتى صارت مستحاضة، فإنها تكون مريضة، وتعاطي ما يقطع الدم عنها يكون من قبيل التداوي المباح. الحالة الخامسة: إذ كان منع الحيض من أجل الصيام في شهر رمضان إذا كان تعاطيها المانع من أجل الصيام مع المسلمين، فإني أكره لها هذه لأن الحيض أمر كتبه الله عليها. [74] روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، قال: سمعت القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج فلما كنا بسرف حضت فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، قال: ما لك أنفست؟ قلت: نعم، قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. قالت: وضحى رسول الله ¬

_ (¬1) المصنف (1220).

- صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر. والحديث رواه مسلم (¬1) وجه الشاهد من الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم". وقلنا فيما سبق: أن الكتابة هذه قدرية، فلترضَ المرأة بما قدر الله لها. وقد تضطرب عادة المرأة بعد تركها لهذه الأدوية، ولا تنتظم لها عادة، وقد تقلق في عباداتها من صلاة وغيره بحيث لا يستقيم لها طهر فالأولى اجتنابها في مثل هذه الحالة. الحالة السادسة: إذا كان منع الحيض لقطع النسل مطلقاً. إذا كان الحامل على تعاطيها ما يمنع حيضها منع الحمل منعاً مستمراً فإن هذا لا يجوز، حتى ولو رضي الزوج. وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي (¬2)، وفيه: أن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد فى دورة مؤتمره الخامس في الكويت من: 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409 هـ بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تنظيم النسل واستماعه للمناقشات التي دارت حوله وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد، لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل، والحافظ عليه، والعناية به باعتبار حفظ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (285)، ومسلم (1211). (¬2) رقم (1/ د. 5/ 9./ 88.)

النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها. قرر ما يلي: أولاً: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب. ثانياً: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يعرف بـ "الإعقام" أو "التعقيم" ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثاً: يجوز التحكم الموقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعاً، بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط ألا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة. ولا يكون فيها عدوان على حمل قائم. والله أعلم (¬1). الحالة السابعة: إذا كان منع الحيض بنية الإضرار بالآخرين. إذا كان الحامل لمنع الحيض يتضمن إضراراً بالآخرين فلا يجوز كما لو تناولت المانع وكانت معتدة لرجل يجب عليه نفقتها فأرادت إطالة المدة لتزداد النفقة فهذا الفعل محرم. هذا فيما يتعلق بصنع نزول الحيض. ثانياً: الكلام فيما إذا تناولت المرأة دواء يعجل بنزول دم الحيض. إذا تناولت المرأة دواء يعجل بنزول دم الحيض، جاز لها إذا كان لها غرض صحيح، والغرض الصحيح لا يكون إلا بشرطين: ¬

_ (¬1) نيل المآرب (4/ 412).

الأول: ألا يكون ذلك حيلة لإسقاط حق عليها، سواء كان هذا الحق لله أو لآدمي. فمثال حق الله: أن تتناول ما يعجل بعادتها. أو يطيلها هرباً من صيام رمضان في أيام الحر، وتريد أن يكون قضاؤها في أيام البرد. فهذا لا يجوز لأن التحايل على إسقاط الواجبات لا يسقطها، والتحايل على فعل المحرمات لا يبيحها ومثال حق الآدمي: أن تكون مطلقة طلاقاً رجعياً. وتحاول أن تعجل بحيضها لتسقط حق الزوج في الرجعة فهذا أيضاً لا يجوز. وقد ذهب الحطاب في مواهب الجليل: أن الدم يكون ملغياً في باب العدة، وإن كان مانعاً من أداء الصلاة والصيام (¬1). الشرط الثاني: أن يكون ذلك بموافقة الزوج، لأن الحيض يمنعه من كمال الاستمتاع، والله أعلم. ¬

_ (¬1) مواهب الجليل (1/ 365).

الفصل السادس: خلاف العلماء في الصفرة والكدرة

الفصل السادس: خلاف العلماء في الصفرة والكدرة قبل أن نبحث عن حكم الصفرة والكدرة ينبغي أن نعرف ألوان الدم في كل مذهب الأول: مذهب الحنفية: قسموا الدم إلى ستة أقسام: الأول: الأسود، الثاني: الحمرة، الثالث: الصفرة، الرابع: الكدرة، الخامس: التربية، السادس: الخضرة. والدم الأسود، والأحمر معروفان، وهما الأصل في لون الدم، بل الأصل في الدم أن يكون لونه أحمر، إلا أنه قد يغلب عليه السواد فيصير دم الحيض أسود. وأما الصفرة والكدرة، فقال النووي: نقلاً عن الشيخ أبي حامد، هما ماء أصفر وماء كدر، وليسا بدم. وقال إمام الحرمين: هما شيء كالصديد يعلوه صفرة وكدرة، وليس على لون شيء من الدماء القوية ولا الضعيفة. وأما التربية: وهو ما يكون لونه كلون التراب، وهو نوع من الكدرة (¬1). وأما الخضرة فلم يثبت هذا اللون إلا الحنفية، وهم مختلفون فيه، فأنكره بعضهم، وقال مستبعداً وجوده: كأنها أكلت فصيلاً، لأن الدم في الأصل لا يكون أخضر، وقيل: هو نوع من الكدرة (¬2). ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 416)، وانظر المبسوط للسرخسي (3/ 150). (¬2) المبسوط (3/ 150).

هذه ألوان الدماء عند الحنفية. القول الثاني: ألوان الدماء عند المالكية أربعة أنواع (¬1). الأول: الأسود، الثاني: الصفرة، الثالث: الكدرة، الرابع: الترية. وقد تم تفسير الثلاثة الأول، أما الترية فقيل: دم فيه غبرة يشبه لون التراب، فيكون على هذا مساويا للتربية عند الحنفية. وقيل: الماء المتغير دون الصفرة. وقل أحمد بن المعدل: الترية، هي الدفعة من دم الحيض لا يتصل بها من دم الحيض ما يكون حيضة كاملة (¬2). وقال ابن عبد البر: (¬3) أول الحيض دم، ثم صفرة، ثم ترية، ثم كدرة، ثم يكون ريقاً كالفضة، ثم ينقطع (¬4). والذي يظهر أن الترية ترجع إلى الصفرة والكدرة، فقد روى الدارقطني، قال: حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق، نا يحيى بن أبي طالب، ثنا عبد الوهاب، أنا هشام بن حسان عن حفصة، عن أم عطية أنها قالت: كنا لا نرى الترية بعد الطهر شيئاً، وهي الصفرة ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 197)، الخرشي (1/ 203)، المنتقى للباجي (1/ 119). (¬2) انظر المراجع السابقة. (¬3) شرح البخاري لابن رجب (2/ 124). (¬4) وقد وجدت هذا النص في الاستذكار، وليس فيه ذكر الترية، انظر الاستذكار (3/ 195). والخلاصة: أن الترية ترجع إلى الصفرة والكدرة، وقد دمج المالكية بين الدم الأسود والأحمر فلم يذكروا اللون الأحمر من ألوان الدماء.

خلاف العلماء في الصفرة الكدرة.

والكدرة (¬1). [والإسناد فيه ضعف]، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. القول الثالث: مذهب الشافعية في ألوان الدم. قسم بعض الشافعية الدماء إلى خمسة: الأول الأسود، الثاني الأحمر، الثالث الأشقر، الرابع الأصفر، الخامس الأكدر (¬2). القول الرابع: قسم الحنابلة الدماء إلى أربعة أقسام: الأول: الأسود. الثاني: الحمرة. الثالث الصفرة. الرابع: الكدرة (¬3). خلاف العلماء في الصفرة الكدرة. اختلف العلماء في الصفرة والكدرة: فقيل: الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، وفي غيرها ليست بحيض. وهو مذهب الحنفية (¬4)، ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (1/ 219). (¬2) قال في مغني المحتاج (1/ 113) عن المميزة: "فإن ترى في بعض الأيام دماً قوياً، وفي بعضها دماً ضعيفاً، يعني بأن ترى ذلك في أول الحيضة كالأسود والأحمر، فهو ضعيف بالنسبة للأسود، قوي بالنسبة للأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر، وهو أقوى من الأكدر". (¬3) كشاف القناع (1/ 213)، شرح منتهى الإرادات (1/ 120). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 39)، حاشية ابن عابدين (1/ 289)، المبسوط - السرخسي (3/ 150)، تبيين الحقائق (1/ 55)، البناية - العيني (1/ 623)، شرح فتح القدير (1/ 162)،

والحنابلة (¬1)، واختاره ابن الماجشون من المالكية (¬2). وجعله المازي والباجي هو المذهب عند المالكية (¬3). واختار أبو يوسف أن الكدرة في أول الأيام ليست بحيض، وفي آخر أيام الحيض حيض (¬4). وقيل: الصفرة والكدرة حيض مطلقاً، وهو مذهب المدونة (¬5)، وهو أصح الأوجه عند الشافعية بشرط أن يكون في زمان الإمكان (¬6). وقيل: الصفرة والكدرة ليست بحيض مطلقا، وهو اختيار ابن حزم (¬7). ¬

_ البحر الرائق (1/ 202)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 27). (¬1) كشاف القناع (1/ 213)، شرح منتهى الإرادات (1/ 120)، المحرر (1/ 24)، المبدع (1/ 288)، المغني (1/ 413)، شرح الزركشي (1/ 430)، الفروع (1/ 272)، حاشية ابن قاسم (1/ 396)، الإنصاف (1/ 376)، الإقناع (1/ 69). (¬2) مواهب الجليل (1/ 364)، مقدمات ابن رشد (1/ 133)، الخرشي (1/ 203)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 31)، الشرح الصغير (1/ 207). (¬3) المنتقى للباجي (1/ 118). (¬4) المبسوط - السرخسي (3/ 150)، بدائع الصنائع (1/ 39)، تبيين الحقائق (1/ 55). (¬5) المدونة (1/ 152)، وقال في حاشية الدسوقي (1/ 167): وهو المشهور، مقدمات ابن رشد (1/ 133)، المنتقى للباجي (1/ 118)، الاستذكار (3/ 193)، مواهب الجليل (1/ 364)، منح الجليل (1/ 165)، شرح الزرقاني (1/ 132). (¬6) قال النووي في روضة الطالبين عن الصفرة والكدرة (1/ 152): والصحيح أن لها حكم السواد. وانظر المجموع (2/ 421)، مغني المحتاج (1/ 113)، نهاية المحتاج 1/ 340)، وانظر المبسوط لابن المنذر (2/ 233). (¬7) انظر المحلى لابن حزم (مسألة: 266، 269).

دليل من قال: الصفرة والكدرة حيض مطلقا.

دليل من قال: الصفرة والكدرة حيض مطلقاً. [الدليل الأول] (*) [75] استدلوا بما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنا في حجرها مع بنات ابنتها، فكانت إحدانا تطهر، ثم تصلي، ثم تنكس بالصفرة اليسيرة، فتسألها، فتقول: اعتزلن الصلاة ما رأيتن ذلك، حتى لا ترين إلا البياض خالصاً. [إسناده حسن] (¬1). ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 90) رقم 1008 سنده حسن، رجاله كلهم ثقات إلا ابن إسحاق فإنه صدوق، وقد صرح بالتحديث عند الدارمي (861) وعند ابن المنذر في الأوسط (2/ 234). وقد رواه الدارمي (861): أخبرنا محمد بن عبد الله الرقاشي، عن يزيد بن زريع، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثتني فاطمة بنت المنذر به. ورواه البيهقى (1/ 336) من طريق ابن أبي شيبة به. وقد أنكر هشام بن عروة زوج فاطمة بنت المنذر أن يكون ابن إسحاق سمع من زوجته شيئاً. وقال هشام: أهو كان يدخل على امرأتي. وجاء في الميزان (3/ 471) من أبي بشر الدولابي، ومحمد بن جعفر بن يزيد، حدثني أبو داود سليمان بن داود، قال: قال يحيى القطان: أشهد أن محمد بن إسحاق كذاب، قلت: وما يدريك؟. قال: قال لي وهيب، فقلت لوهيب: وما يدريك؟ قال: قال لي مالك بن أنس. فقلت لمالك: وما يدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة. قال: قلت لهشام بن عروة: وما يدريك؟ قال: حدث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، وأدخلت علي وهي بنت تسع، وما رآها رجل حتى لقيت الله تعالى. قال الذهبي في الميزان (3/ 471): "وهذا غلط بين، ما أدري ممن وقع من رواة الحكاية، فإنها أكبر من هشام بثلاث عشرة سنة، ولعلها ما زفت إليه إلا وقد قاربت بضعاً وعشرين سنة، وأخذ عنها ابن إسحاق وهى بنت بضع وخمسين سنة أو أكثر" اهـ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: أن أسماء رضي الله عنها أمرتهن باعتزال الصلاة من الصفرة، ولو كانت بعد الطهر والاغتسال حتى ولو كانت الصفرة يسيرة. وأجيب: بأن هذا مخالف لما روي عن عائشة، وعلي بن أبي طالب، وأم عطية، بل ظاهر كلام أم عطية أن له حكم الرفع كما سيأتي تقريره. وقد يفسر قولها: "كانت إحدانا تطهر" أى تطهر بالجفاف لا برؤية البياض، فكانت الواحدة منهن إذا طهرت بالجفاف اغتسلت وصلت ثم يرين بعد ذلك الصفرة اليسيرة فتنهاهن عن الاستعجال، وأن يعتزلن الصلاة حتى يرين البياض خالصاً، والمقصود بها القصة البيضة، ليكون مطابقاً لما روى عن عائشة. والله أعلم. الدليل الثاني: إذا كانت الصفرة والكدرة فى زمن الحيض حيضا، فكذلك إذا كانت بعد ¬

_ قلت: اتهامه بالكذب من أجل هذه القصة فيه جناية، وقد صرح بالتحديث، وقد عرف بالتدليس، وقد قال عنه شعبة: ابن إسحاق إمام من أئمة المسلمين. قال الذهبي: وما يدري هشام بن عروة، فلعله سمع منها في المسجد، أو سمع منها وهو صبي، أو دخل عليها فحدثته من وراء حجاب، فأي شيء في هذا، وقد كانت امرأة قد كبرت وأسنت. وقال أيضاً: "أفبمثل هذا يعتمد على تكذيب رجل من أهل العلم". اهـ. ثم إنه ليس الرجل الوحيد الذي روى عنها، فقد ذكر المزي في تهذيبه ممن روى عنها محمد بن سوقة. فإسناده حسن، ولا يلتفت لما قيل.

دليل من قال: بأن الصفرة والكدرة ليست حيضا مطلقا.

الطهر، لأنكم إما أن تقولوا: بأنها حيض مطلقاً، في العادة وبعدها. أو تقولوا: ليست بحيض مطلقاً، فأما أن تعتبروها في زمن مانعة من الصلاة والصيام، وفي زمن ليست مانعة، فهذا خطأ يخالف القواعد. وأجيب: بأن التفريق بين زمن العادة وغيرها إنما قلناه تبعاً للنصوص، لا أن ذلك وفقاً للقياس، والنص مقدم على القياس، وقد يقال: إن الصفرة والكدرة على وفق القياس، وذلك أنهما إذا كانا في زمن العادة والحيض، كان هذا وقت سلطان الدم، فهما أثر من آثاره، لأن العادة تبدأ ضعيفة، ثم تشتد ثم تتدرج بالضعف حتى تطهر المرأة، وما دامت في وقت الدم فقد أعطيت حكمه، لأن الكدرة أثر من آثاره، بخلاف ما إذا كان بعد الطهر فإنها ليست من أثر الحيض. والله أعلم. دليل من قال: بأن الصفرة والكدرة ليست حيضاً مطلقاً. [الدليل الأول] (*) [76] استدلوا بما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد ابن أبي عدي، عن محمد - يعني: ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة ابن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، قال: إنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي (¬1). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (286). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

[ضعيف] (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بالإمساك عن الصلاة إلا إذا رأت الدم الأسود، وأما إذا رأت غيره فإنها تصلي، والصفرة والكدرة ليست دماً أسوداً، وبالتالي فهي مأمورة بالصلاة إذا رأته. وأجيب: أولاً: الحديث ضعيف. ثانياً: أن هذا الحكم خاص بالمستحاضة، وهي التي اختلط دم حيضها بدم استحاضتها وكان التمييز بين الدمين لا يمكن إلا باللون، لا أن هذا حكم مطلق لكل امرأة ولو لم تكن مستحاضة. ثالثاً: أنه مقيد بحديث أم عطية: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً". وسيأتي تخريجه، وبأثر عائشة: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" وسيأتى، وعليه فيكون ما عدا الدم الأسود ليس حيضاً، إلا في زمن العادة فإنه ¬

_ (¬1) الحديث ضعيف لاضطرابه في السند، فمرة حدث به محمد بن أبي عدي فجعله من مسند فاطمة، ومرة جعله من مسند عائشة، والأول من كتابه، والثاني من حفظه، فإن رجحنا ما كان في كتابه فهو منقطع، لأن عروة لم يسمعه من فاطمة. وإن رجحنا كونه من حفظه فهو وإن كان متصل السند، إلا أنه مخالف لكل من رواه عن عروة عن عائشة في متنه كما في الصحيحين وغيرهما، ولم يقل أحد ممن رواه عن عروة: "إن دم الحيض دم أسود يعرف" إلا محمد بن عمرو، وهو ممن لا يحتمل تفرده. وقد ضعف الحديث أبو حاتم والنسائي، وسوف أتكلم عليه بشيء من التفصيل إن شاء الله في باب الاستحاضة، وأذكر من خرجه مع أبي داود إن شاء الله، وأقارنه بحديث الصحيحين.

الدليل الثاني

حيض حتى ولو كان صفرة وكدرة جمعاً بين هذا الحديث وما روى عن أم عطية وعائشة. والله أعلم. الدليل الثاني: [77] ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا إسماعيل، عن أيوب، عن محمد - يعني ابن سيرين - عن أم عطية قالت: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئا" (¬1). فكلمة "شيء" نكرة في سياق النفي فتعم، فلا تعد الصفرة شيئاً لا قبل الطهر ولا بعد الطهر. قلت: قد روته حفصة بنت سيرين عن أم عطية بزيادة: "كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً". وهي زيادة وإن لم يخرجها البخاري، إلا أنه اعتمدها في فقه ترجمته، فقال: باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض. وعلى التسليم بأن الزيادة غير محفوظة فإننا نجمع بين هذا وبين حديث عائشة في قولها: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء". فيحمل حديث أم عطية على غير أيام الحيض، ويحمل أثر عائشة على ما تراه الحائض من صفرة وكدرة في أيام الحيض. الدليل الثالث: قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (326).

أَذًى} (¬1). فالأذى: هو النجس، ولا نجس إلا الدم. وأجيب: على التسليم بأن الصفرة والكدرة ليست بنجسة، فإن الأذى يطلق على غير النجاسة، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} (¬2). س فالأذى يطلق على ما يتأذى منه، سواء كان طاهراً أو نجساً على أننا لا نسلم بطهارة الصفرة والكدرة، وهي من بقايا دم الحيض، فإذا كنا عرفنا كيف يحدث الحيض للمرأة، وأن الحيض عبارة عن انهدام الغشاء المبطن للرحم، وهو متكون من أوعية دموية وغدد، ونحوها لم يكن الحيض هو الدم الخالص بل كل ما نزل من جدار الرحم يعتبر حيضاً، وهو يتفاوت في أول الحيض وفورته، وآخره. هذا دليل من رأى أن الصفرة والكدرة ليست حيضاً. وممن رأى ذلك ابن حزم، فقال: "إذا رأت المرأة الدم الأسود من فرجها أمسكت عن الصلاة والصوم، وحرم وطؤها على بعلها وسيدها، فإن رأت أثر الدم الأحمر، أو كغسالة اللحم، أو الصفرة، أو الكدرة أو البياض، أو الجفوف التام فقد طهرت" (¬3). وقال أيضا: "وجدنا النص قد ثبت وصح أنه لا حيض إلا الدم الأسود، ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 222. (¬2) البقرة: 196 (¬3) المحلى مسألة (266)

دليل من فرق بين كون الكدرة في أول الحيض وبين كونها آخر الحيض.

وما عداه ليس حيضاً، لقوله عليه السلام: "إن دم الحيض أسود يعرف" فصح أن المتلونة الدم طاهرة تامة الطهارة، لا مدخل لها في حكم الاستحاضة، وأَنه لا فرق بين الدم الأحمر، والقصة البيضاء". اهـ (¬1). وهذا الكلام منه رحمه الله مخالف لأثر عائشة وسيأتي. دليل من فرق بين كون الكدرة في أول الحيض وبين كونها آخر الحيض. قال أبو يوسف: إن الكدرة لا تكون حيضاً إلا إذا كانت فى آخر أيام الحيض وجه ذلك ما ذكره الكاساني، قال: "إن الحيض، هو الدم الخارج من الرحم، لا من العرق، ودم الرحم يجتمع فيه زمان الطهر، ثم يخرج الصافي منه، ثم الكدر، ودم العرق يخرج الكدر منه أولاً ثم الصافي، فينظر: إن خرج الصافي أولاً علم أنه من الرحم فيكون حيضاً، وإن خرج الكدر أولاً علم أنه من العرق فلا يكون حيضاً" اهـ (¬2). وهذا التعليل مبني على الرأي المحض، لا على قَول الأطباء، ولا على نص شرعي، والنصوص لم تفرق إلا بين الكدرة في زمن العادة، وبين الكدرة بعد الطهر، بل إن دم المرأة ينزل أول ما ينزل ضعيفاً فى غزارته ولونه، ثم يشتد، ثم يضعف حتى ينقطع، والضعف كما يكون في سيلانه، يكون في لونه ورائحته. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المحلى مسألة (269). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 39).

دليل من قال: الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض وفي غيرها فلا.

دليل من قال: الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض وفي غيرها فلا. [78] استدلوا بما رواه مالك، قال: عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين أنها قالت: "كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم الحيضة، فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: أنها اعتبرت الصفرة في زمن العادة حيضاً، حتى ترى علامة الطهر. وأما الدليل على أن الصفرة والكدرة ليست حيضاً بعد الطهر. [79] ما رواه أبو داود، قل: حدثنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد، عن قتادة عن أم الهذيل (حفصة بنت سيرين) عن أم عطية - وكانت بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 59). (¬2) صححه النووي في المجموع (2/ 416)، وسكت عليه الحافظ في الفتح (1/ 588) وفي التلخيص (1/ 301)، وعلقه البخاري عن عائشة جازماً به في كتاب الحيض باب (19) إقبال الحيض وإدباره، وقد علم أن البخاري إذا علق شيئاً بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علقه عنه، فإذا علقه عن عائشة كان صحيحاً إلى عائشة. والأثر فيه أم علقمة، ذكرها ابن حبان في ثقاته (5/ 466). وفي التقريب: مقبولة، يعني بالمتابعة، وإلا فلينة الحديث. وذكرها الذهبي في الميزان من المجهولات (4/ الترجمة 944). والراجح أنها حسنة الحديث. انظر دليل ذلك في خلف العلماء في مسألة حيض الحامل.

- قالت: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً" (¬1) [سنده صحيح] (¬2). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (307). (¬2) ورواه الدارمي (871): أخبرنا حجاج، ثنا حماد به، إلا أنه قال: "بعد الغسل" بدلاً من قوله "بعد الطهر" والمعنى قريب، وحجاج هو ابن المنهال. وأخرجه الحاكم (1/ 174) من طريق حجاج بن المنهال به. وأخرجه البيهقي (1/ 337) من طريق أبي داود نفسه. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه!! وأقره الذهبي!. والصحيح أنه ليس على شرط البخاري، ولكن هل يكون على شرط مسلم، فمسلم خرج لحماد بن سلمة، لكن قال الحاكم: لم يخرج مسلم لحماد بن سلمة في الأصول، إلا ما كان من حديثه عن ثابت، وقد خرج له في الشواهد عن طائفة، وانظر مزيد بحث لهذه النقطة في تخريجي للحديث السابع، وقد اختلف فيه على حماد بن سلمة: فرواه موسى بن إسماعيل، وحجاج بن المنهال كلاهما عن حماد، عن قتادة عن حفصة بنت سيرين (أم الهذيل) عن أم عطية. ورواه عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أم الهذيل، عن عائشة. أخرجها أحمد في العلل، كما في رواية ابنه عنه (1967) حدثني أبي، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي به. قال: قال أبي: إنما هو قتادة عن حفصة عن أم عطية. اهـ. ولعل هذا بسبب تغير حماد بن سلمة في آخر عمره. وقد رواه ابن سيرين عن أم عطية فلم يذكر قيد الطهر. رواه عبد الرزاق (1216)، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبن سيرين، عن أم عطية قالت: "لم نكن نرى الصفرة والكدرة شيئاً". ومن طريق عبد الرزاق، أخرجه أبن ماجه (647).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وتابع معمراً فيه إسماعيل بن علية، فأخرجه البخاري (326): حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا إسماعيل، عن أيوب به. ومع أن لفظه: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئاً" ولم يقل: (بعد الطهر)، إلا أن البخاري ترجم له بقوله: "باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض". وهذا ذهاب من البخاري رحمه الله إلى تصحيح زيادة: "بعد الطهر". وأخرجه أبو داود (308): حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب به. وأخرجه النسائي (368): أخبرنا عمرو بن زرارة، قال: أنبأنا إسماعيل، عن أيوب به. وأخرجه الحاكم (1/ 174) والبيهقي (1/ 337) من طريق مسدد به. واختلفت على أيوب فيه: فرواه معمر، وإسماعيل بن علية - كما تقدم - عن أيوب، عن ابن سيرين عن أم عطية. وخالفهم وهيب، كما في رواية ابن ماجه (647) قال: حدثنا محمد بن يحيى - يعني: الذهلي - ثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، ثنا وهيب، عن أيوب، عن حفصة، عن أم عطية قالت: "كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً". قال محمد بن يحيى. وهيب أولاهما عندنا بهذا. فهذا ترجيح من محمد بن يحيى الذهلي لرواية وهيب، عن أيوب عن حفصة، على رواية معمر، وابن علية عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية. قال ابن رجب في شرح البخاري (2/ 155): وفيه نظر، يعني: ترجيح الذهلي. وقال الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (326): "وما ذهب إليه البخاري من تصحيح رواية إسماعيل أرجح لموافقة معمر له، ولأن إسماعيل أحفظ لحديث أيوب من غيره، ويمكن أن أيوب سمعه منهما". اهـ. قلت: وهناك ترجيح من جهة المتن لم يشر إليها الحافظان، وهو أن لفظ "ابن سيرين" ليس فيه "بعد الطهر" ولفظ حفصة كما رواه عنها قتادة، بزيادة "بعد الطهر" فلما رواه أيوب، واختلف عليه. فقيل: عن: ابن سيرين، وقيل: عن حفصة. رجعنا إلى المتن، فوجدنا رواية أيوب عن حفصة عن أم عطية ليس فيها لفظة "بعد الطهر" والمحفوظ من رواية حفصة زيادة هذه اللفظة، فتقوى عندنا أن ذكر حفصة في رواية أيوب وهم. وأن المتن هو لفظ ابن سيرين عن أم عطية. والله أعلم.

وأما عنعنة قتادة، فقد رواه عنه شعبة، وهو ممن لا يحمل عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث، فقد ذكر ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري، قال: رواه حرب في مسائلة (259 - أ/ ق) عن الإمام أحمد، عن غندر، عن شعبة، عن قتادة به. وهذه متابعة من شعبة لحماد (¬1) كما تابع حماداً أبان عند البيهقي (¬2)، فرواه عن قتادة به. وتابعه أيضاً سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، كما في رواية الطبراني (¬3)، عن ¬

_ ورواه يحيى بن أبي طالب، واختلف عليه فيه: فرواه الحاكم (1/ 174) حدثنا الحسن بن يعقوب العدل، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا عبد الوهاب بن عطاء ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين عن أم عطية. ورواه الدارقطني (1/ 219) حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا عبد الوهاب، أنا هشام بن حسان، عن حفصة عن أم عطية أنها قالت: "كنا لا نرى الترية بعد العشاء شيئاً، وهى الصفرة والكدرة". فهنا جعل رواية هشام عن حفصة، بينما سند الحاكم جعل رواية هشام عن ابن سيرين. ومدار هذا الاختلاف على يحيى بن أبي طالب وهو مختلف فيه، وقد تقدمت ترجمته في خلاف العلماء في أكثر الحيض، في حاشية الدليل الثامن من القول الثاني. والأثر ثابت عن حفصة وابن سيرين، وقد رواه الطبراني (25/ 64) من طريق زائدة عن هشام بن حسان عن حفصة به. وهذا الطريق يرجح أن رواية هشام عن حفصة، وليست عن ابن سيرين. والله أعلم. (¬1) شرط ابن رجب للبخاري (2/ 157). (¬2) سنن البيهقي (1/ 373). (¬3) المعجم الكبير (25/ 64) ح 152.

طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. ويزيد ممن روى عن ابن أبي عروبة قبل اختلاطه. فصار مجموع من يرويه عن قتادة: شعبة، وحماد بن سلمة، وأبان، وسعيد ابن أبي عروبة. هذه هي أهم الأقوال في المسألة، مع بيان أدلتها، وهناك أقوال أخرى مبنية على الرأي المحض، أسوقها في ختام هذا البحث استكمالاً للفائدة، وقد ساقها النووي أوجُهاً في الروضة فقال: أحدها: إن سبق الصفرة والكدرة دم قوي من سواد أو حمرة فالصفرة والكدرة بعد حيض، وإلا فلا. وقيل: إن سبقها دم قوي، وتعقبها دم قوي، فهما حيض، وإلا فلا. ويكفي في تقديم القوي وتأخره أي قدر كان ولو لحظة على الأصح. وقيل: لا بد من يوم وليلة (¬1). هذا أهم ما ورد في المسألة من أقوال. الراجح كما أشرت أن الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض، وأما في غير زمن العادة فليست بحيض. والله أعلم. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (1/ 152).

الفرع الأول

الفرع الأول إذا رأت المرأة الصفرة والكدرة، وقد تحققت أنها حائض بنزول دم الحيض المعروف فلا إشكال فيه على القول الراجح. أما لو رأت صفرة وكدرة قبل التحقق من نزول دم الحيض، فهل يحكم له بأنه دم حيض؟ وللجواب على هذا نقول: أولاً: إن كانت في وقت العادة فلا إشكال، لأن الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض كما رجحنا. وإن كانت في غير وقت العادة، فقد نقول: بأنها ليست حيضاً، اعتباراً بأنها رأتها بعد الطهر، وقد ثبت لنا حديث: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئاً بعد الطهر". وقد يقول قائل: بأن العادة قد تتقدم، وقد تتأخر، وقد تزيد، وقد تنقص، فلماذا لا تعتبر حيضاً؟. وللجواب على هذا أن نقول: إن كانت الصفرة والكدرة مصحوبة بأوجاع العادة المعروفة لدى غالب النساء، وكانت الصفرة والكدرة متصلة بالعادة المعروفة، بحيث رأت الصفرة أو الكدرة في اليوم الأول، والثاني، وفي اليوم الثالث نزل معها دم الحيض، فإنها تعتبرها حيضاً، وإن تقدمت عن زمن العادة المعروف. أما إذا لم تكن مصحوبة بالآم العادة، أو لم يتصل بها دم الحيض، بحيث رأت صفرة أو كدرة ثم انقطعت فلا تعتبر حيضاً.

وإن شكت المرأة، فالأصل أنها طاهرة، لأن هذه الصفرة قد جاءت بعد الطهر ومن غير زمن العادة فلا تعتبر حيضاً. والله أعلم.

الفرع الثاني

الفرع الثاني قوله الصحابي: "كنا نفعل" أو "كانوا يفعلون". كقول أم عطية رضي الله عنها: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً". هل يكون له حكم الرفع؟ أو يكون موقوفاً؟ وهل يكون حكاية للإجماع؟ أو حكاية لأكثرهم؟ هذه مسألة اختلف فيها أهل الأصول وبُحثت في مصطلح الحديث، وسوف أشير إلى مقاصد كلامهم بإيجاز .. والأقوال فيها كالآتي: قيل: إنه مرفوع مطلقاً - يعني له حكم الرفع - قال الحافظ: "وهو الذى اعتمده الشيخان في صحيحيهما، وأكثر منه البخاري (¬1). وقيل: موقوف مطلقاً. وقيل: التفصيل بين أن يضيفه إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون مرفوعاً، أو لا يضيفه فلا يكون له حكم الرفع، ونسبه الحافظ إلى الجمهور (¬2). وقيل في التفصيل: الفرق بين أن يكون ذلك الفعل مما لا يخفى غالباً فيكون مرفوعاً، أو يخفى فيكون موقوفاً. وعلى تقدير كونه موقوفاً فهل هو من قبيل نقل الإجماع أو لا؟ فجزم بعضهم بأنه إن كان في اللفظ ما يشعر به مثل: كان الناس يفعلون كذا فمن قبيل الإجماع وإلا فلا. ¬

_ (¬1) النكت (2/ 515). (¬2) المرجع السابق.

هذه عمدة الأقوال في المسألة. وأرجحها قول الجمهور بأنه: إن أضيف إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو على الصحيح له حكم الرفع، وأقوى دليل في ذلك: [80] ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال عمرو: أخبرني عطاء سمع جابراً رضي الله تعالى عنه، قال: كنا نعزل والقرآن ينزل. ورواه مسلم (¬1). وزاد: قال سفيان: "لو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن". قال الحافظ في الفتح: "استدلال جابر بالتقرير من الله غريب، ويمكن أن يكون استدل بتقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه مشروط بعلمه بذلك. ويكفي في علمه به قول الصحابي إنه فعله في عهده. والمسألة مشهورة في الأصول، وفي علم الحديث، وهي: أن الصحابي إذا أضافه إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حكم الرفع عند الأكثر، لأن الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك وأقره، لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، وإذا لم يضفه فله حكم الرفع عند قوم. وهذا من الأول، فإن جابراً صرح بوقوعه في عهده - صلى الله عليه وسلم -. وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك، والذي يظهر في أن الذي استنبط ذلك سواء كان هو جابراً أو سفيان أراد بنزول القرآن ما يقرأ، أعم من المتعبد بتلاوته أو غيره، مما يوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع، ولو كان حراماً لم نقر عليه .. " ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5208)، ومسلم (1440).

وأقوي دليل للمانعين من الاحتجاج.

الخ كلامه رحمه الله (¬1). قلت: الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنهم، وحرصهم على إصابة الحق، والسؤال عنه أنهم لا يقدمون على أمر من أمور الدين والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم إلا إذا كان عالماً به، فيكون من السنة التقريرية. والذين ردوه إنما حجتهم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلع على ذلت حتى يكون إقراراً. وعلى التسليم أنه لم يطلع، فقد اطلع الله سبحانه وتعالى، والزمن زمن تشريع، فسكوت الوحي عن ذلك إقرار من الله سبحانه لهذا الفعل. وأقوي دليل للمانعين من الاحتجاج. [81] ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا زهير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حبيبة، عن عبيد بن رفاعة بن رافع، عن رفاعة بن رافع, وكان عقبياً بدرياً قال: كنت عند عمر، فقيل له: إن زيد بن ثابث يفتي الناس برأيه في المسجد، في الذي يجامع ولا ينزل. فقال: أعجل به، فأتى به، فقال: يا عدو نفسه أوقد بلغت أن تفتي فى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيك؟! قال: ما فعلت، ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: أي عمومتك؟. قال: أبي بن كعب، وأبو أيوب، ورفاعة بن رافع. فالتفت إلي: ما يقول هذا الغلام؟. ¬

_ (¬1) الفتح (10/ 382).

فقلت: كنا نفعله في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فسألتم عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. قال: كنا نفعله في عهده فلم نغتسل. قال: فجمع الناس، واتفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء إلا رجلين، علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، قالا: إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل. فقال علي: يا أمير المؤمنين، إن أعلم الناس بهذا أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا علم لي. فأرسل إلى عائشة ففالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. قال: فتحطم عمر - يعني: تغيظ - ثم قال: لا يبلغني أن أحداً فعله ولا يغتسل إلا أنهكته عقوبة (¬1). [وهذا الإسناد فيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، إلا أنه تابعه الليث عند الطبراني (¬2)، وابن لهيعة عند الطحاوي (¬3)، وبقية رجاله ثقات] (¬4). ¬

_ (¬1) المسند (5/ 115). (¬2) الطبراني في الكبير (4536) (¬3) شرح معاني الآثار (1/ 58). (¬4) والحديث أخرجه أحمد (5/ 115) ثنا يحيى بن آدم، ثنا ابن إدريس قرنه بزهير عن ابن إسحاق به. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 85)، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده (5/ 115)، حدثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق به. وأخرجه الطحاوي (1/ 58) من طريق عياش بن الوليد، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى به، وعياش ثقة وتابع ابن لهيعة محمد بن إسحاق، فأخرجه الطحاوي (1/ 58) من طريق أبي عبد الرحمن المقرئ قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب به. والراوي عن

وجه الشاهد من القصة.

وجه الشاهد من القصة. أن الصحابة أو كثير منهم، وهم من أهل بدر، كانوا يرون أن الماء من الماء وكان بعضهم يفعل ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك لم يأت الوحي بإنكار فعلهم، وما خالفهم من الصحابة إلا رجلان وعائشة، وكان الصواب مع هذا العدد القليل. ثم إن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين حين قال له رفاعة: كنا نفعله في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتبر ذلك حجة، واكتفى به، بل قال: هل سألتم عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فلم ير عمر فعل الشيء في عهده - صلى الله عليه وسلم - زمن التشريع حجة إلا إذا علم بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد اطلع عليه. والذي أرى أن هذه القصة ليس فيها حجة، لأن قوله: "كنا نفعله على عهد رسول الله، من الجماع وعدم الاغتسال كان من الممكن أن يكون حجة لو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ أحداً من الأمة بخلافه، أما وقد بلغ فلا يلزم أن يبلغ كل فرد بعينه، فهؤلاء الذين لم يغتسلوا استصحبوا حكماً سابقاً قد ثبت نسخه، وقد قام ¬

_ ابن لهيعة عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ممن أمسك عن الرواية عن ابن لهيعة لا ظهر لهم اختلاطه، ولذا عُدَّ مع العبادلة ممن جعلت روايتهم عن ابن لهيعة أعدل من غيرها. كما تابعهما الليث بن سعد، وأختلف على الليث، فرواه الطبراني (4536) من طريق عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب به. وخالفه يحيى بن عبد الله بن بكير، فرواه الطحاوي (1/ 59) عنه عن الليث، قال: حدثني معمر بن أبي حبيبة، عن عبيد الله بن عدي عن خيار قال: تذاكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند عمر بن الخطاب الغسل من الجنابة، فقال بعضهم: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. وقال بعضهم: إنما الماء من الماء. وذكر نحو الحديث السابق، إلا أنه ليس في القصة ذكر زيد بن ثابت ولا أبي بن كعب، أو رفاعة بن رافع.

الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ بعض أفراد الأمة نسخه، فكأنه بلغ الأمة كلها. ومثل هذه القصة ما رواه البخاري: [82] , قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يكري مزارعه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية، ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء المزارع، فذهب ابن عمر إلى رافع، فذهبت معه، فسأله، فقال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كراء المزارع، فقال ابن عمر: قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الأربعاء وبشيء من التبن (¬1). [83] وفي رواية له، قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل عن ابن شهاب، أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنت أعلم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأرض تكرى، ثم خشي عبد الله أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحدث في ذلك شيئا لم يكن يعلمه فترك كراء الأرض (¬2). والحديث في مسلم (¬3). وجه الاستدلال: أن ابن عمر حكى عن بعض الصحابة بأنهم كانوا يكرون الأرض، ولم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2343). (¬2) صحيح البخاري (2345). (¬3) صحيح مسلم (1547).

يكن هناك نهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه أضاف الفعل إلى زمن التشريع، واستصحب ابن عمر هذا الحكم فكان يفعله في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستمر على فعله زمن الخلفاء الراشدين من غير نكير، ثم علم فيما بعد من رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن ذلك، وكون ابن عمر حين بلغه النهي ترك ذلك إنما فعله من باب: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ولذلك كان ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال: زعم ابن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، ولم ينسب ذلك إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وكما أن هذا يفهم من قوله: "زعم" ولم يقل أخبرنا، أو قال لنا. والله أعلم. ولكن الجواب عن هذا هو ما ذكرناه عن الحديث الأول، وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يلزمه أن يبلغ كل فرد بالأمة، فإذا بلغ من تقوم به الحجة، وتحفظ به الشريعة كفى. والذي تلخص لي أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، غير مضاف إلى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يكون مرفوعاً، لأن الإقرار منه - صلى الله عليه وسلم - منتف في غير عهده - صلى الله عليه وسلم -، وهل يكون حجة؟ الجواب: إن خالف مرفوعاً لم يلتفت إليه أبداً. وإن خالف موقوفاً على صحابي آخر نظر في أدلة كل قول. وإن لم يخالف فإنه حجة لا لاعتبار كونه مرفوعاً ولكن باعتبار أنه قول لبعض الصحابة لا يعلم له مخالف، وقول الصحابة مقدم على قول غيرهم، فهم أقرب من غيرهم لفهم الشرع، وقد عاصروا الوحي، وهم أهل اللسان. وقد اختلف العلماء في عده إجماعاً.

فحكى الآمدي فى الإحكام أن جمهور العلماء يعدونه إجماعاً، لأن الصحابي إذا قال: "كانوا يفعلون كذا" فإن هذا يفيد إضافة الفعل المحكي إلى جميع أهل الإجماع من ذلك العصر، فيكون الصحابي بتلك الصيغة قد نقل لنا الإجماع، وقد ذهب إلى ذلك أبو الخطاب في التمهيد، وشيخه أبو يعلى في العدة. واختار بعض الأصوليين بأنه لا يفيد الإجماع ما لم يصرح الصحابي بنقل الإجماع عن أهله، وهم أهل الحل والعقد.

الباب الرابع: في طهارة الحائض

الباب الرابع: في طهارة الحائض ويشتمل على ثلاثة فصول، وسبعة مباحث، وتسعة فروع، وستة مسائل. الفصل الأول: في طهارة عرق الحائض وسؤرها ومخالطتها، وطهارة ثيابها. الفصل الثاني: في طهارة الحائض من الحدث. الفصل الثالث: في طهارة الحائض من دم الحيض. المبحث الأول: في نجاسة دم الحيض. المبحث الثاني: هل يتعين الماء في إزلة دم الحيض؟ المبحث الثالث: هل يجب عدد معين في غسل دم الحيض؟ المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض.

الفصل الأول: في طهارة سؤر الحائض وعرقها ومخالطتها وطهارة ثيابها

الفصل الأول: في طهارة سؤر الحائض وعرقها ومخالطتها وطهارة ثيابها لا خلاف بين العلماء في طهارة جسد الحائض، وعرقها، وسؤرها، وجواز النوم معها، وأكل طبخها، وعجنها، وما مسته من المائعات، ومساكنتها من غير كراهة، إلا خلافاً لا يثبت عن ابن عباس (¬1)، وقولاً شاذاً لعبيدة السلماني (¬2). والأدلة على هذه المسألة كثيرة. الدليل الأول: [84] ما رواه مسلم، قال حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬3)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا كل شيء إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن ¬

_ (¬1) انظر المصنف لعبد الرزاق (1234)، ومسند أحمد (6/ 332)، وسأخرج ما روى عنه إن شاء الله في القول الثاني. (¬2) انظر قوله منسوباً ومخرجاً في أدلة القول الثاني. (¬3) البقرة، آية: 222.

الدليل الثاني

قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما (¬1). وفي رواية للنسائي: "وأن يصنعوا بهن كل شيء مما خلا الجماع". [85] قال النسائي: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوهن ولم يشاربوهن ولم يجامعوهن في البيوت فسألوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} الآية (¬2) فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤاكلوهن، ويشاربوهن، ويجامعوهن في البيوت، وأن يصنعوا بهن كل شيء ما خلا الجماع (¬3). [رجاله ثقات]. الدليل الثاني: [86] ما رواه البخاري، قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة أن زينب بنت أم سلمة حدثته أن أم سلمة حدثتها قالت: بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة إذ حضت فانسللت فأخذت ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (302) (¬2) البقرة آية (222). (¬3) سنن النسائي (288).

ثياب حيضتي. قال: أنفست؟ قلت: نعم فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. والحديث رواه مسلم (¬1). قال النووي: "فيه جواز النوم مع الحائض، والاضطجاع معها في لحاف واحد، إذا كان هناك حائل يمنع من ملاقاة البشرة فيما بين السرة والركبة، أو يمنع الفرج وحده عند من لا يحرم إلا الفرج. قال العلماء: لا تكره مضاجعة الحائض، ولا قبلتها، ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة وتحت الركبة، ولا يكره وضع يدها في شيء من المائعات، ولا يكره غسلها رأس زوجها، أو غيره من محارمها، وترجيله، ولا يكره طبخها وعجنها، غير ذلك من الصنائع، وسؤرها وعرقها طاهران. وكل هذا متفق عليه، وقد نقل الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري في كتابه، في مذاهب العلماء إجماع المسلمين على هذا كله ودلائله من السنة ظاهرة مشهورة. وأما قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬2). فالمراد: اعتزال وطئهن، ولا تقربوا وطأهن". والله أعلم. اهـ (¬3). وقال ابن قدامة في المغني: كره النخعي الوضوء بسؤر الحائض، وقال جابر بن زيد: لا يتوضأ به للصلاة (¬4). قلت: السؤر هو البقية من الشيء، فلعلهما قالا ذلك: لحديث: "نهى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (298)، مسلم (296). (¬2) البقرة، آية: 222. (¬3) شرح النووي لصحيح مسلم (3/ 267). (¬4) المغني (1/ 282).

الدليل الثالث

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء بفضل المرأة" وفضل المرأة وسؤرها بمعنى واحد، لكن لا ينبغي أن يخص هذا بالحائض، بل هو حكم معلق بالمرأة سواء كانت طاهرةً أو جنباً أو حائضاً وليس هذا موضع بحث هذه المسألة، والراجح أن النهي ليس للتحريم، وعليه فيكون تخصيص هذا بالحائض ليس سديداً. الدليل الثالث: [87] ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالا: حدثنا وكيع، عن مسعر وسفيان، عن المقدام بن شريح عن أبيه، عن عائشة، قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيِّ فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيّ. ولم يذكر زهير فيشرب (¬1). قال القرطبي: قولها: "أتعرق العرْق": أي العظم الذي عليه اللحم، وجمعه عراق، وأتعرقه: آكل ما عليه من اللحم، وهذه الأحاديث متفقة الدلالة على أن الحائض لا ينجس منها شيء، ولا يجتنب إلا موضع الأذى فحسب (¬2). الدليل الرابع: [88] ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (300). (¬2) المفهم (1/ 559).

الدليل الخامس

مالك، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلي رأسه من المسجد، وهو مجاور، فأغسله وأنا حائض. ورواه البخاري (¬1). قال الحافظ: وهو دال على أن ذات الحائض طاهرة، وعلى أن حيضها لا يمنع ملامستها (¬2) الدليل الخامس: [89] ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب - قال: يحيى أخبرنا وقال الآخران حدثنا - حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخمرة من المسجد. قالت: فقلت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك (¬3) ففي هذا الحديث دلالة على أنه لا ينجس من الحائض إلا موضع الأذى، فكما أن حيضتها ليست في يدها، فهي ليست في شيء من جسمها إلا موضع خروج الأذى. والله أعلم. ¬

_ (¬1) البخاري (299)، ومسلم (297). (¬2) الفتح في شرحه لحديث (299) (¬3) صحيح مسلم (298).

الدليل السادس

الدليل السادس: [90] ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قال زهير حدثنا وكيع، حدثنا طلحة بن يحيى، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: سمعته عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض وعلي مرط وعليه بعضه إلى جنبه (¬1) قال النووي في شرحه لمسلم: "وفيه جواز الصلاة بحضرة الحائض، وجواز الصلاة في ثوب بعضه على المصلي وبعضه على حائض أو غيرها". الدليل السابع: [91] ما رواه أحمد (¬2) قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن جابر بن الصبح، قال: سمعت خلاساً الهجري يقول: سمعت عائشة قالت: كنت أبيت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعار الواحد، وانا طامث حائض، فإن أصابه مني شيء غسله، لم يعدُ مكانه وصلى فيه. [إسناده صحيح] (¬3) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (514). (¬2) المسند (6/ 44). (¬3) رجاله ثقات. وقال الأزدي عن جابر بن الصبح: لا تقوم به حجة. اهـ. تهذيب التهذيب (2/ 36).

قال ابن منظور في اللسان: "الشعار: ما ولي شعر جسد الإنسان، والجمع: أشعره، وشعر" (¬1). وفي المثل: هم الشعار دون الدثار، يصفهم بالمودة والقرب. وفي حديث الأنصار: أنتم الشعار، والناس الدثار (¬2) أي أنتم الخاصة والبطانة كما سماهم عيبته، وكرشه، والدثار: الثوب الذي فوق الشعار" اهـ. قلت: جاء في البخاري ومسلم، في قصة غسل ابنته زينب، وفي آخره: ¬

_ والأزدي نفسه غير مرضي، ولم يتابع على ذلك. قال ابن معين: ثقة. كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (2/ 500). وقال البخاري: سمع منه يحيى بن سعيد القطان، وقال: هو أحب إلى من المهلب بن أبي حبيبة. التاريخ الكبير (2/ 207). ووثقه النسائي. تهذيب التهذيب (2/ 36). فالراجح أن إسناده صحيح. تخريج الحديث أخرجه أبو داود (2166، 269) ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 313) قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد القطان به. وأخرجه النسائي (372, 384) أخبرنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن سعيد به. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (4802) حدثنا موسى - يعني: ابن محمد بن حبان - حدثنا يحيى به. وأخرجه الدارمي (1013) أخبرنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا يحيى بن سعيد به. ومن طريق أبي الوليد أخرجه النسائي (773). (¬1) اللسان (4/ 412). (¬2) قوله: "أنتم شعار، والناس دثار". رواه البخاري (4330)، ومسلم (1061) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم.

فألقى إلينا حقوه، فقال: "أشعرنها إياه" (¬1). فإذا كان الشعار هو الثوب الذي يلي الجسد، وكانت تبيت هي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعار واحد، وهي حائض، فإما أن يقال: هذا بالنسبة لغالب الجسم، لأن عائشة لا بد أن تكون قد لبست الإزار، لأنه ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يباشر الحائض حتى تلبس الإزار. وقد يقال: إن هذا لمن أراد أن يباشر، وهو أخص من حالة النوم. والظاهر من حال النساء إذا حضن أن يلبسن على فروجهن ما يمنع انتشار النجاسة على سائر ثيابهن. فإن قيل: هذه الأدلة يعارضها حديث عائشة، وهو: (92) ما رواه أبو داود (¬2)، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا الأشعث، عن محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي في شعرنا أو لحفنا". قال عبيد الله: شك أبي. [إسناده صحيح، والمحفوظ فيه ذكر اللحاف فقط] (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1254) ومسلم (939). (¬2) سنن أبي داود (367). (¬3) تخريج الحديث: الحديث رواه الترمذي (600) حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا خالد بن الحارث، عن أشعث - هو ابن عبد الملك - عن محمد بن سيرين به. ورواه النسائي (5366) أخبرنا الحسن بن قزعة، عن سفيان بن حبيب ومعتمر بن سليمان، عن أشعث به. وأخرحه الحاكم (1/ 252)، والبغوي (520) من طريق معاذ بن معاذ، ثنا الأشعث به. وأخرجه البغوي (521) من طريق خالد بن الحارث عن أشعث به،

والجواب عنه أحد أمرين: أولا: بأن ترك لحاف النساء مستحب، وليس بواجب، لأننا قد نقلنا قبل قليل حديث عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض وعلي مرط، وعليه بعضه. وقد اختار هذا الشوكاني، ونقله عنه أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي فقال: "كل ذلك يدل على عدم وجوب تجنب ثياب النساء، وإنما هو مندوب فقط، عملاً بالاحتياط. وبهذا يجمع بين الأحاديث" (¬1). الثاني: أن ذلك مباح، وهو ما اختاره أحمد شاكر، فقال متعقباً لكلام الشوكاني: "لا دليل على الندب، لأنه لم يطلب ذلك في حديث نعلمه، وإنما كان تارة يفعل، وتارة يترك، وهو الجمع الصحيح بين الروايات، فهو أمر مباح". اهـ (¬2). قلت: يفيد الفعل الناقص (كان لا يصلي في لحف نسائه) أن ذلك كان ¬

_ وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (134) من طريق خالد بن الحارث، قال: ثنا الأشعث به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والصحيح أنه ليس على شرط واحد منهما، فإن أشعث بن عبد الملك لم يخرج له مسلم. وخرج له البخاري تعليقاً. فصار الحديث مداره على أشعث. ويرويه خالد بن الحارث، وسفيان بن حبيب، ومعتمر بن سليمان عن أشعث بذكر اللحاف فقط دون ذكر الشعار. ويرويه معاذ بن معاذ عن أشعث بالشك، يعني "قال في شعرنا أو لحفنا" وربما جمعهما دون شك. فتبين أن الراجح في الحديث ذكر اللحاف دون الشعار. (¬1) سنن الترمذي (1/ 497). (¬2) انظر المرجع السابق.

على سبيل الدوام والاستمرار، وعلى الأقل: أن هذا هو الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم -، بينما حديث عائشة: "وعليّ مرط، وعليه بعضه" يدل على أن ذلك وقع منه، فلعله لحاجة من برد ونحوه، حيث تقاسما المرط، فالاستحباب أظهر من الإباحة وقد يقوي الاستحباب إذا كان يغلب على ظنه وقوع مذي ونحوه. وحديث: "كان لا يصلي في لحف نسائه" يدل على جواز النوم مع الحائض تحت لحاف واحد لأن توقي النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في لحاف نسائه كان من قبيل الاحتياط مخافة أن يكون أصابه شيء من مذي، أو دم حيض، وطهارة الثوب واجبة أو شرط في صحة الصلاة، بخلاف النوم مع الحائض. والله أعلم. وبهذا نكون قد انتهينا من أدلة القول الأول في المسألة. القول الثاني: قول ابن عباس وعبيدة السلماني بوجوب اعتزال الحائض. روي هذا عن ابن عباس، ولا يثبت عنه، وروي عن عبيدة السلماني وهو شاذ، واستدلوا بما يلي: الدليل الأول: قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬1). واعتزال النساء: اعتزال لجميع بدنها. ومن باشرها لا يصدق عليه أنه اعتزلها. ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 222.

وأجيب: بأن الذي يوضح القرآن هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد بعثه الله سبحانه وتعالى ليبين للناس ما نزل إليهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس عند مسلم (¬1)، وقد ذكرته بطوله: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". وسيأتي في بحث ما يحل للرجل من امرأته استقصاء الأدلة على ذلك. الدليل الثاني: [93] أخرج عبد الرزاق (¬2)، وأحمد (¬3)، وأبو داود (¬4)، والنسائي (¬5)، وابن جرير الطبري (¬6)، والبيهقي (¬7)، واللفظ للبيهقي، رووه كلهم من طريق الزهري، عن حبيب مولى عروة بن الزبير، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس في رسالة، فدخلت عليه فإذا فراشه معزول عن فراش امرأته فرجعت إلى ميمونة فبلغتها رسالتها، ثم ذكرت ذلك. فقالت لها ميمونة: ارجعي إلى امرأته فسليها عن ذلك، فرجعت إليها ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (302). (¬2) المصنف (1234). (¬3) المسند (6/ 336, 332). (¬4) السنن (267). (¬5) سنن النسائي (1/ 189). (¬6) في التفسير (4243). (¬7) السنن الكبرى (1/ 313)

فسألتها عن ذلك، فأخبرتها أنها إذا طمثت عزل فراشه عبد الله عنها، فأرسلت ميمونة إلى عبد الله بن عباس فتغيظت عليه. وقالت: أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوالله إن كانت المرأة من أزواجه لتأتزر بالثوب ما يبلغ أنصاف فخذيها، ثم يباشرها بسائر جسده. [إسناده ضعيف] (¬1). وعلى فرض صحته فإنه لا يتوقع من ابن عباس رضي الله عنهما أن تبلغه سنة المصطفى ثم يبقى على رأيه المخالف لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل والمخالف لقوله. فكونه لم يعترض على ميمونة دليل منه على التسليم والقبول لما أخبرته، وإذا رجحنا رجوعه عنه لم يبق قولاً له. والله أعلم. وممن رأى هذا الرأي عبيدة السلماني: [94] فقد أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره: من طريقين، عن محمد ابن سيرين، قال: قلت لعبيدة السلماني: ما يحل لي من امرأتي إذا كانت حائضاً، قال: الفراش واحد، ¬

_ (¬1) في الإسناد حبيب مولى عروة، روى له مسلم حديثاً واحداً، ولم يوثق، وفي التقريب: مقبول. يعني: إن توبع. قلت: إخراج مسلم حديثه يرفعه درجة، لكن في الإسناد ندبة مولاة ميمونة، لم يرو عنها إلا حبيب وذكرها ابن حبان في الثقات (5/ 487). وفي التقريب مقبولة، يعني: في المتابعات. وذكرها الذهبي في المجهولات كما في الميزان (4/ 610). فالإسناد ضعيف إلى ابن عباس.

واللحاف شتى (¬1). [إسناده صحيح]. وهذا موقوف عليه، ولا حجة في قول أحد مع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وقول عبيدة لا يخرق الإجماع المؤيد بالسنة الصحيحة الصريحة ما دام أن الأمر لم يثبت عن ابن عباس. بل الثابت عن ابن عباس خلافه. [95] فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره: من طريق محمد بن عمرو، عن محمد بن ابراهيم بن الحارث قال: قال ابن عباس: إذا جعلت الحائضُ ثوباً، أو ما يكف الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدها زوجها (¬2) [إسناده حسن لغيره] (¬3) ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (4244، 4242). (¬2) تفسير الطبري (4252). (¬3) وهذا إسناد حسن، لولا أن ابا حاتم قال في الجرح والتعديل (7 / ت 1042) رواية محمد بن إبراهيم بن الحارث عن ابن عباس مرسلة، لكنه قد توبع. فقد روى ابن أبي شيبة (16813) وابن جرير الطبري (4253)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 207): عن ابن إدريس، عن يزيد بن أبي زياد، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بنحوه. ويزيد ضعيف فهذه متابعة صالحة للطريق الأول. ورواه ابن جرير الطبري (4254) من طريق الحكم بن فضيل، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس. والحكم بن فضيل، قال فيه يحيى بن معين: لا بأس به، كما فى رواية إسحاق بن

قال النووي: "وأما ما حكي عن عبيدة السلماني وغيره، من أنه لا يباشر شيئاً منها بشيء منه فشاذ منكر غير معروف، ولا مقبول، ولو صح عنه لكان مردوداً بالأحاديث الصحيحة المشهورة، المذكورة فى الصحيحين وغيرها من مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق الإزار، وإذنه في ذلك بإجماع المسلمين قبل المخالف وبعده" اهـ (¬1). وقال الشوكاني: "وأما ما يروى عن ابن عباس، وعبيدة السلماني، أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش امرأته إذا حاضت فليس بشيء" (¬2) ¬

_ منصور. الجرح والتعديل (3/ 126). وقال أيضاً: ثقة، كما في رواية العباس بن محمد عنه. تاريخ بغداد (8/ 221). وقال عاصم: كان أعبد أهل زمانه. لسان الميزان (2/ 337). وقال الآجري: سألت أبا داود عن الحكم بن فضيل، فقال: ثقة. اللسان (2/ 337). وقال أبو زرعة: شيخ، ليس بذاك. الجرح والتعديل (3/ 126). وقال ابن عدي: هو قليل الرواية، وما تفرد به لا يتابعه عليه الثقات. الكامل (2/ 215). وقال الأزدي: منكر الحديث. انظر لسان الميزان (2/ 337). (¬1) شرح مسلم (3/ 204) (¬2) تفسير فتح القدير (1/ 226).

الفصل الثاني: في طهارة الحائض من الحدث

الفصل الثاني: في طهارة الحائض من الحدث المبحث الأول: في حكم غسل المرأة من الحيض اتفق العلماء على أن الغسل يجب من الحيض. الدلالة عليه من القرآن، والسنة، والإجماع. أما من القرآن: فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬1) وجه الاستدلال: أن المرأة يلزمها تمكين زوجها من الوطء، ولا يجوز ذلك إلا بالغسل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإن قيل: أين الدلالة من الآية على أنه لا يجوز الوطء إلا بعد الاغتسال؟ فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بجواز إتيان الزوجة بشرطين: الأول: انقطاع الدم. ويؤخذ من قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى ¬

_ (¬1) البقرة آية (222).

الدليل من السنة على وجوب الاغتسال

يَطْهُرْنَ} (¬1). فقوله: {يَطْهُرْنَ} بالتخفيف. كلمة "طهر" تستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان وهو انقطاع دم الحيض. الشرط الثاني: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} وكلمة (تطهرن) بالتشديد: أي اغتسلن. لأن كلمة (تطهرّ) تستعمل فيما يكتسبه الإنسان بفعله، وهو الاغتسال من الماء. وسيأتي تحرير الخلاف في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. الدليل من السنة على وجوب الاغتسال: (96) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إني استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا، إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم اغتسلي وصلي" أمر بالاغتسال، والأصل في الأمر الوجوب. (97) ودليل آخر رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 222. (¬2) صحيح البخاري (325). وقد رواه الشيخان أيضاً بلفظ: "فاغسلي عنك الدم ثم صلي".

الدليل من الإجماع

عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة بنت جحش ختنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه ليست بالحيضة ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي. قالت عائشة فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو حمرة الدم الماء. قال بن شهاب فحدثت بذلك أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: يرحم الله هنداً لو سمعت بهذه الفتيا، والله إن كانت لتبكي؛ لأنها كانت لا تصلي (¬1). وجه الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاغتسلي وصلي". (98) وفي رواية: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي. وأما الدليل من الإجماع: فقد نقل الإجماع جماعة، منهم الكاساني الحنفي (¬2). وقال النووي: "أجمع العلماء على وجوب الغسل بسبب الحيض، وبسبب النفاس، وممن نقل الإجماع فيهما ابن المنذر، وابن جرير الطبري وآخرون" (¬3). ونقل الإجماع ابن مفلح الحنبلي (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (334). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 138). (¬3) المجموع (2/ 168). (¬4) المبدع (1/ 185).

المبحث الثاني: خلاف العلماء في الموجب للغسل

المبحث الثاني: خلاف العلماء في الموجب للغسل اختلف العلماء في الموجب للغسل: هل الموجب خروج الدم؟ أم انقطاعه؟ أم إرادة الصلاة؟ أم الموجب الجميع (خروج الدم وانقطاعه وإرادة الصلاة)؟ إلى أقوال: فقيل: الموجب للغسل خروج الدم. اختاره بعض الحنفية (¬1)، وقول العراقيين من الشافعية (¬2). وقيل: الموجب انقطاع دم الحيض. اختاره بعض الحنفية (¬3)، وأبو حامد من الشافعية (¬4)، وهو مفهوم كلام الخرقي (¬5). وقيل: الموجب للغسل خروج الدم، لكن الانقطاع شرط لصحته. وهو مذهب المالكية (¬6)، والحنابلة (¬7) ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق للزيلعي (1/ 17)، البحر الرائق (1/ 63)، العناية شرح الهداية مطبوع بهامش فتح القدير (1/ 65)، البناية للعيني (1/ 278)، حاشية ابن عابدين (1/ 165). (¬2) انظر روضة الطالبين (1/ 81)، المجموع (2/ 168)، مغني المحتاج (1/ 69). (¬3) انظر البحر الرائق (1/ 63)، وانظر المراجع السابقة للأحناف. (¬4) انظر المجموع (2/ 168). (¬5) انظر المغني (1/ 276)، والإنصاف (1/ 238)، الفروع (1/ 200). (¬6) الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 130)، منح الجليل (1/ 123)، مواهب الجليل (1/ 374)، الشرح الصغير (1/ 166)، أسهل المدارك (1/ 65). (¬7) كشاف القناع (1/ 146)، شرح منتهى الإرادات (1/ 81)، الفروع (1/ 200)،

دليل من قال: الموجب للغسل خروج الدم.

وقيل: الموجب للغسل إرادة القيام إلى الصلاة. اختاره بعض الحنفية (¬1)، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: الغسل يجب بمجموع خروج الدم وانقطاعه والقيام إلى الصلاة. وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). دليل من قال: الموجب للغسل خروج الدم. التعليل الأول: قالوا: إذا خرج الدم فقد نقض الطهارة الكبرى، وإن لم يجب الغسل مع سيلان الدم، لأنه ينافيه، فإذا انقطع أمكن الغسل. فوجوبه من أجل الحدث السابق. التعليل الثاني: أن الحيض الذي أوجب الغسل من وجهين: الأول: من حيث كونه سبباً في منع الصلاة والصيام ونحوهما. الثاني: أننا لا يمكن أن نعتبر انقطاع الدم، وهو نوع من الطهارة موجباً للطهارة، فمحال أن الطهارة توجب الطهارة، وإنما الموجب للطهارة هو النجاسة، إنما أجل الاغتسال إلى حين انقطاع الحيض، لأنه لا فائدة من الاغتسال حينئذ. ¬

_ الإنصاف (1/ 238). (¬1) شرح فتح القدير (1/ 64). (¬2) المجموع (2/ 168)، الروضة (1/ 81). (¬3) انظر المراجع السابقة.

دليل من قال: الموجب للغسل انقطاع الدم.

دليل من قال: الموجب للغسل انقطاع الدم. قالوا: لأن الدم ما دام باقياً لا يمكن الغسل، وما لا يمكن لا يجب. ورد عليهم: بأن الحائض يحرم عليها الصلاة والصيام بخروج الدم، ولو كان الموجب هو الانقطاع لما حرم عليها حتى ينقطع. ولأن النجاسة حصلت بخروج الدم، فوجب التطهير عنده، إذ التنجس ووجوب التطهير متلازمان. دليل من قال: يجب بإرادة القيام إلى الصلاة. ولعل ملحظ هذا القول رأى بأن الإنسان لا تجب عليه الطهارة الصغرى والكبرى إلا إذا وجب عليه فعل عبادة تشترط لها الطهارة، فإذا طهرت المرأة بعد طلوع الشمس لم يجب عليها الاغتسال إلا عند إرادة فعل صلاة الظهر في وقتها، ولعلهم ذكروا الصلاة وأرادوا بها المثال. أي ومثل الصلاة سائر العبادات التي تشترط لها الطهارة، ولأن الحدث الأصغر والأكبر إنما أمرنا بالطهارة منهما عند القيام إلى الصلاة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ..} إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). دليل من قال: لا يجب الغسل إلا بخروج الدم وانقطاعه والقيام إلى الصلاة. أدلته: مجموع أدلة الأقوال السابقة، وهي أن خروج الدم موجب للحدث الأكبر وانقطاعه وإرادة الصلاة موجبان للغسل كذلك. والراجح من هذه الأقوال: أن خروج الدم موجب للغسل، لكن انقطاعه ¬

_ (¬1) المائدة آية (6).

شرط للصحة، وهذا الوجوب على التراخي، وليس على الفور، فإذا وجبت عبادة تشترط لها الصلاة وضاق بوقتها ولم يبق من وقتها إلا ما يكفي للغسل والصلاة وجب الغسل حينئذ. والله أعلم.

المبحث الثالث: في صفة الغسل من المحيض

المبحث الثالث: في صفة الغسل من المحيض صفة الغسل من الحيض، كصفة الغسل من الجنابة إلا في أشياء يسيرة اختلف الفقهاء فيها وسوف نأتي على أحكام الغسل من الجنابة حكماً حكماً مبيناً هل هو فرض، أو سنة؟ وخلاف العلماء في ذلك.

الفرع الأول: خلاف العلماء في حكم النية

الفرع الأول: خلاف العلماء في حكم النية اختلف العلماء هل النية شرط في الطهارة من الحيض أم لا؟ فقيل: النية شرط لطهارة الحدث الأصغر والأكبر، بالماء والتيمم. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وهو الراجح. وقيل: سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في التيمم، وهو مذهب الحنفية (¬4). وقيل: يجزئ الوضوء، والغسل، والتيمم بلا نية. وهو قول الأوزاعي (¬5). أدلة الجمهور على أن النية شرط. الدليل الأول: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 93)، الخرشي (1/ 129)، الشرح الصغير (1/ 115, 114)، القوانين الفقهية (ص: 19)، منح الجليل (1/ 84)، مواهب الجليل (1/ 230)، الكافي (1/ 19). (¬2) المجموع (1/ 355)، الروضة (1/ 47)، مغني المحتاج (1/ 47)، نهاية المحتاج (1/ 156)، الحاوي الكبير (187)، متن أبي شجاع (ص: 5). (¬3) معونة أولي النهى شرح المنتهى (1277)، الممتع شرح المقنع (1/ 176)، المحرر (1/ 11)، كشاف القناع (1/ 85)، المغني (1/ 156)، الكافي (1/ 23)، المبدع (1/ 116). (¬4) شرح فتح القدير (1/ 32)، البناية في شرح الهداية (1/ 173)، تبيين الحقائق (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 24)، بدائع الصنائع (1/ 19)، مراقي الفلاح (ص: 29). (¬5) الأوسط لابن المنذر (1/ 370).

الدليل الثاني

إلى أن قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى قد شرط في صفة فعل الطهارة الصغرى والكبرى إرادة الصلاة، والشرطية ماخوذة من لفظ: "إذا" في قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} فإذا كان قد شرط إرادة الصلاة في فعل الطهارة كان من فعله مريداً للتبرد، أو النظافة لم يفعله على الشرط الذي شرطه الله، وذلك يوجب أن لا يجزئه. وقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬2). أي أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (¬3). أى إذا أردت قراءته. قال ابن قدامة: "قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أى للصلاة،: ما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل: أي له. وإذا رأيت الأسد فاحذر: أي منه" (¬4). الدليل الثاني: (99) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: ¬

_ (¬1) المائدة: 6. (¬2) المائدة: 6. (¬3) النحل: 98. (¬4) المغني (1/ 157).

الدليل الثالث

سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي: "لفظة: (إنما) للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ودليل آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لكل امرئ ما نوى" هذا لم ينو الوضوء، فلا يكون له" (¬2). وقال ابن قدامة: "نفى أن يكون له عمل شرعي بدون نية" (¬3). الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬4). والإخلاص: إنما هو النية، والوضوء من الدين، فوجب أن لا يجزئ بغير نية. فإن قيل: ما دليلكم على أن الوضوء من الدين؟ فالجواب: (100) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان بن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6689)، ومسلم (1907). (¬2) المجموع (1/ 356) (¬3) المغني (1/ 156) (¬4) البينة، آية: 5.

هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها (¬1). فإذا كان الإيمان عبادة فشطره كذلك. والوضوء عبادة مستقلة رتب الشارع عليها ثواباً عظيماً، وإذا كانت عبادة كانت مفتقرة إلى نية حتى تتميز عن العادة. والدليل على أنه رتب على الوضوء ثواباً ما جاء من الأحاديث في فضل وثواب هذه العبادة ومنها (101) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سويد بن سعيد عن مالك ابن أنس ح وحدثنا أبو الطاهر واللفظ له، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (223). (¬2) صحيح مسلم (244).

الدليل الرابع

فدل على أن الوضوء عبادة، وإذا كانت كذلك لا تصح إلا بنية، لأنها قربة إلى الله تعالى، وطاعة له، وامتثال لأمره، ولا يحصل ذلك بغير نية. الدليل الرابع: القياس على طهارة التيمم، بجامع أن كلاً منها طهارة عن حدث. الدليل الخامس: الشريعة كلها إما مطلوب أو مباح، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى، فلا معنى للنية فيه، والمطلوب نواه وأوامر، فالنواهي يخرج الإنسان من عهدته وإن لم يشعر بها، فضلاً عن القصد إليها. فزيد المجهول حرم الله علينا دمه وعرضه، وقد خرجنا عن العهدة وإن لم نشعر به. نعم إن شعرنا بالمحرم ونوينا تركه حصل لنا الثواب مع الخروج من العهدة. والأوامر منها ما يكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون، والودائع، ونفقة الزوجات والأقارب، فإن المقصود من هذه الأمور انتفاع أربابه، وذلك لا يتوقف على قصد الفاعل، فيخرج الإنسان من عهدتها وإن لم ينوها. ومنها ما لا يكون صورة فعله كافية في حصول المقصود كالصلوات، والصيام، والنسك، فإن المقصود منها تعظيم الله تعالى والخضوع له، وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله، وهذا هو الذي أمر الشرع فيه بالنيات، والطهارة من هذا الباب (¬1). ¬

_ (¬1) مواهب الجليل (1/ 132).

أدلة من قال: إن النية مستحبة وليست بشرط.

أدلة من قال: إن النية مستحبة وليست بشرط. الدليل الأول: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالوضوء والغسل أمراً مطلقاً دون قيد النية، ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل، فمن غسل أعضاءه، ومسح رأسه فقد امتثل الأمر وصح وضوءه، وكذلك من غسل بدنه (¬2). الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬3). وجه الاستدلال: نهى الجنب عن قربان الصلاة إذا لم يكن عابر سبيل إلى غاية الاغتسال، وأطلق ولم يشترط النية، فيقتضي انتهاء حكم النهي عند الاغتسال، ولو لم يكن معه نية (¬4). ¬

_ (¬1) المائدة آية (6). (¬2) انظر بدائع الصنائع (1/ 19). (¬3) النساء آية (43) (¬4) انظر المرجع السابق، ونفس الصفحة.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: قال تعالى بعد أن ذكر طهارة الوضوء والغسل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬1). وحصول الطهارة لا يقف على النية، بل على استعمال المطهر في محل قابل للطهارة (¬2). يوضح ذلك أيضاً أن النية إن اعتبرت بجريان الماء على الأعضاء فهو حاصل نوى أو لم ينو. وإن اعتبر لإزالة الحدث المتعلق بالأعضاء فإن الخبث المتعلق بها أقوى من الحدث، وزوال هذا الأقوى لا يتوقف على النية، فكيف للأضعف. الدليل الرابع: (102) ما رواه أبو داود (¬3)، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟. فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر اذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد ¬

_ (¬1) المائدة آية (6). (¬2) انظر بدائع الصنائع (1/ 19). (¬3) سنن أبي داود (135).

أساء وظلم. أو "ظلم وأساء". [إسناده حسن] (¬1). ¬

_ (¬1) الحديث مداره على موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وقد تكلمت على إسناد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في حديث رقم (19) وبينت أن إسناده حسن إذا صح الإسناد إلى عمرو. وأما موسى بن أبي عائشة قال الحميدي، عن ابن عيينة: حدثني موسى بن أبي عائشة، وكان من الثقات. الجرح والتعديل (29/ 90). وقال ابن معين: ثقة، كما في رواية إسحاق بن منصور، وعباس الدوري. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان ثبتاً. مشاهير علماء الأمصار (787). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 404). وقال يعقوب بن سفيان كوفي ثقة. تهذيب التهذيب (10/ 314). وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: تريبني رواية موسى بن أبي عائشة حديث عبيد الله بن عبد الله، في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: ما تقول فيه. قال: صالح الحديث. قلت: يحتج بحديثه؟ قال: يكتب حديثه. الجرح والتعديل (29/ 90). قال ابن حجر تعقيباً: عنى أبو حاتم: أنه اضطرب فيه، وهذا من تعنته، وإلا فهو حديث صحيح. تهذيب التهذيب (10/ 314). وفي التقريب: ثقة عابد وكان برسل. ويرويه عن موسى رجلان أبو عوانة، وسفيان الثوري. أما رواية أبي عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري، فأخرجها أبو داود كما هو في إسناد الباب (135). ومن طريقه البغوي في شرح السنة (1/ 445, 444) والبيهقي في السنن (1/ 79) حدثنا مسدد. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 36) قال حدثنا أحمد ابن داود، ثنا مسدد، قال ثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة به. وهذا الإسناد رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، إلا أن فيه "زيادة" "أو نقص".

وجه الاستدلال: فهذا الرجل وهو أعرابي كما في بعض الروايات، كان يجهل الطهور، وقد سأل عن الوضوء فلو كانت النية من شرائطه التي يتوقف عليها صحة الوضوء لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - النية له. فلما لم يذكرها علم أنها ليست بشرط. ¬

_ وبعضهم يقتصر على قوله: "فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم" وهذه الزيادة وهم في الحديث ولا شك أن الوضوء جائز مرة مرة، ومرتين مرتين. قال السندي في حاشيته على سنن النسائي (1/ 88): "والمحققون على أنه وهم، لجواز الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين". ولم يختلف على أبي عوانة في ذكر كلمة: "أو نقص". ورواه سفيان عن موسى بن أبي عائشة وأختلف على سفيان. فرواه ابن أبي شيبة (1/ 16) ح 58 حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة به بلفظ: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء، فدعا بماء فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: "هكذا الطهور، فمن زاد أو نقص فقد تعدى وظلم". وهذه متابعة لأبي عوانة بذكر كلمة (أو نقص). وخالفه يعلى بن عبيد، والأشجعي فروياه عن سفيان به بدون قوله: (أو نقص). فقد أخرجه أحمد (2/ 180): حدثنا يعلى - يعني ابن عبيد - حدثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة به، ولفظه: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: "هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم". وأخرجه النسائي في الصغرى (140) وفي الكبرى (173، 90) أخبرنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا يعلى به. وأخرجه في الكبرى أيضاً (89) أخبرنا أحمد بن سليمان الرهاوي، قال: حدثنا يعلى به. وأخرجه ابن ماجه (422) حدثنا علي بن محمد، حدثنا خالي يعلى به، إلا أنه قال: "فقد أساء أو تعدى أو ظلم" فعبر بـ (أو) ولفظ الجماعة بالواو. وأما رواية الأشجعي فقد رواها ابن الجارود (75) وابن خزيمة (174) قالا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا الأشجعي، عن سفيان به.

الدليل الخامس

وأجيب: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم المسيء صلاته كيفية الصلاة، ولم يذكر له النية، وقد قلتم بوجوبها للصلاة فما الفرق؟. الدليل الخامس: (103) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الاستدلال: قوله: "إنما يكفيك" ساقه مساق الحصر، ولم يذكر النية. قلت: السؤال عن الكيفية، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - لعمار (104) كما في البخاري، ومسلم (¬2) في صفة التيمم: "إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا" وذكر صفة التيمم، ولم يذكر له النية، وأنتم تقولون باشتراط النية في التيمم. ¬

_ (¬1) مسلم (330). (¬2) البخاري (347) ومسلم (368).

الدليل السادس

الدليل السادس: القياس على إزالة النجاسة، فإذا كانت طهارة الخبث لا تتوقف على نية فعدم توقف طهارة الحدث على النية أولى؛ وإنما قلنا إن طهارة الخبث أولى؛ لأن سببها وموجبها أمر حسي، وخبث مشاهد؛ ولأنه لا بدل لها من التراب، فقد ظهرت قوتها حساً وشرعاً. وأجيب: هناك فرق بين طهارة الحدث، وطهارة الخبث، فالأولى من باب فعل المأمور، ولم يكن الموجب لها نجاسة حسية، وتخصيصها بالأعضاء الأربعة في الصغرى تعبد، أما طهارة الخبث فالمطلوب التخلي منها، فهي من باب التروك، ولهذا لو صلى ناسياً حدثه أعاد، بخلاف طهارة الخبث، فما كان من باب فعل المأمور وجبت له النية كالصلاة، وما كان من باب التروك لم تجب كالنجاسة وترك الزنا ونحوهما. الدليل السابع: قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}. فإذا كان الماء خلق طهوراً، فهذه صفته وطبيعته، كما خلق الماء مروياً، وخلق مبرداً سائلاً، كل ذلك طبعه ووصفه الذي جعل عليه، فكما أنه لا يحتاج إلى النية فى حصول الري والتبريد، فكذلك في حصول التطهير، فإذا كان الماء خلق طاهراً، وطاهريته لا نتوقف على نية، فكذلك طهوريته (¬1). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد - ابن القيم (3/ 186).

الدليل الثامن

الدليل الثامن: المراد من الوضوء النظافة والوضاءة، وقيام العبد بين يدي الرب تبارك وتعالى على أكمل أحواله، مستور العورة، متجنباً للنجاسة، نظيف الأعضاء وضيئها، وهذا حاصل باتيانه بهذه الأفعال، نواها أو لم ينوها، يوضحه أن الوضوء غير مراد لنفسه، بل مراد لغيره، والمراد لغيره لا يجب أن ينوى؛ لأنه وسيلة. وإنما تعتبر النية في المراد لنفسه إذ هو المقصود المراد (¬1). فالراجح قول الجمهور أن النية شرط في طهارة الحدث، وقياسها على طهارة الخبث لا يصح. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد (3/ 178).

الفرع الثاني: هل تشرع التسمية في غسل الحيض

الفرع الثاني: هل تشرع التسمية في غسل الحيض أما إذا توضأت قبل الغسل، فإنه لا شك عندي في مشروعية التسمية للوضوء، أما إذا لم نتوضأ فهل تسمي لغسل الحيض أم لا؟ فالحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، يستحبون لها التسمية. وأما المالكية فيجعلونها من الفضائل (¬3). وقيل: تجب التسمية: وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4) والراجح أنها لا تشرع. دليل الجمهور على استحباب التسمية. [الدليل الأول] (*) (105) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله، فهو أبتر أو قال: أقطع (¬5). ¬

_ (¬1) مراقي الفلاح (ص: 43) حاشية ابن عابدين (1/ 156) وقال في بدائع الصنائع: "وأما آدابه - يعني الغسل - فما ذكرنا في الوضوء" فجعل آداب الوضوء آداباً للغسل، ومعلوم أن من آداب الوضوء عندهم التسمية. انظر البدائع (1/ 35). (¬2) المجموع (2/ 210)، مغني المحتاج (1/ 73). (¬3) الشرح الصغير (1/ 171)، القوانين الفقهية (ص: 22). (¬4) الإنصاف (1/ 257)، معونة أولي النهي شرح المنتهى (1/ 404)، كشاف القناع (1/ 154)، الروض المربع (1/ 342). (¬5) المسند (2/ 359). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

[إسناده ضعيف ومتنه مضطرب] (¬1). ¬

_ (¬1) أما ضعف إسناده ففيه قرة بن عبد الرحمن، وفي التقريب يقال: اسمه يحيى. قال أحمد: منكر الحديث جداً. الكامل (6/ 53)، لسان الميزان (7/ 492). وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، كما في رواية ابن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (7/ 131)، تهذيب التهذيب (8/ 333). وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال أبو زرعة: الأحاديث التي يرويها مناكير. الجرح والتعديل (7/ 131). وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/ 333). وذكره ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار (526). وذكره في الثقات. ثقات ابن حبان (7/ 382) ورد قول ابن السمط أن قرة بن عبد الرحمن أعلم الناس بالزهري، وقال: كيف يكون أعلم الناس بالزهري، وكل شيء روى عنه لا يكون ستين حديثاً. قلت ما نسبه ابن حبان من قول ابن السمط إنما هو من قول الأوزاعي. انظر الجرح والتعديل (7/ 131)، وتهذيب التهذيب (8/ 333). وقال الآجري عن أبي داود: في حديثه نكارة. تهذيب التهذيب (8/ 333). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 485) وفي التقريب: صدوق له مناكير. وقد اضطرب إسناده ومتنه. أما اضطراب الإسناد فقيل فيه كما في إسناد الباب: الأوزاعي عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقيل: الأوزاعي، عن الزهري به، سقط منه قرة. وقيل: الأوزاعي، عن يحيى (قرة بن عبد الرحمن) عن أبي سلمة به، سقط منه الزهري. وقيل: عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وأما اضطراب المتن، فقيل: "كل أمر لا يفتح بذكر الله ... "

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقيل: "لا يبدأ فيه بحمد الله .. ". وقيل: "لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". وقيل: "لا يبدأ بحمد الله والصلاة عليَّ - أي على النبي - صلى الله عليه وسلم -" فزاد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإليك تفصيل ما أجمل من الإسناد والمتن: أما رواية: [لا يبدأ فيه بذكر الله]: فرواها ابن المبارك كما عند أحمد (2/ 359)، وموسى بن أعين كما في سنن الدارقطني (1/ 129) كلاهما عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأما رواية: [لا يبدأ فيه بحمد الله]: فرواها جماعة الأول: الوليد بن مسلم، كما في سنن أبي داود. (4840)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (494)، والدارقطني (1/ 229). الثاني: عبيد الله بن موسى، كما في سنن ابن ماجه (1849). الثالث: عبد الحميد بن أبي العشرين، كما في صحيح أبن حبان رقم (1). الرابع: شعيب بن إسحاق، كما في صحيح ابن حبان رقم (2). الخامس: أبو المغيرة: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني كما في سنن البيهقي (3/ 209, 208) خمستهم رووه عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة به، فتبين أن أكثر الرواة يروونه بلفظ "الحمد" وليس فيها شاهد على مسألتنا، ولذا قال الحافظ في الفتح (8/ 220) في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} في الكلام على حديث هرقل، قال: "وصححه ابن حبان وفي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته، فالمشهور فيه بلفظ: حمد الله". وأما الرواية بلفظ: [لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] فقد رواه الخطيب في الجامع (1210) من طريق مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، عن الزهري به. وهذا الطريق كما أن فيه مخالفة في المتن، فيه مخالفة في الإسناد، حيث أسقط من سنده قرة بن عبد الرحمن.

الدليل الثاني

الدليل الثاني من القياس: قالوا: إذا كانت التسمية مشروعة في الطهارة الصغرى كانت مشروعة في الطهارة الكبرى من باب أولى، لأنها صغرى وزيادة (¬1). دليل الحنابلة على وجوب التسمية. لما كان الحنابلة يوجبون التسمية في الطهارة الصغرى أوجبوها في الطهارة الكبرى من باب القياس (¬2). والراجح عندي أنها لا تشرع: ¬

_ وأما رواية: [لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة عليَّ]: فقد أخرجها الخليلي في الإرشاد (1/ 449) من طريق إسماعيل بن أبي زياد الشامي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة به. قال المناري في فتح القدير (5/ 14): "وقال الرهاوي غريب تفرد بذكر الصلاة. فيه إسماعيل بن أبي زياد، وهو ضعيف جداً، لا يعتبر بروايته ولا بزيادته". قال الدارقطني: يضع الحديث، كذاب متروك. الضعفاء والمتروكين له (85). الكشف الحثيث (142)، اللسان (1/ 1/ 406). وقال الخليلي: ليس بالمشهور، كان يكون في دار المهدي. يقال: إنه كان يعلم ولد المهدي، وهو من جملة الحواشي، ويشحن هذا التفسير بأحاديث مسندة يرويها عن شيوخه عن ثور بن يزيد، وعن يونس الأيلي أحاديث لا يتابع عليها. الإرشاد (1/ 391). [وأما رواية الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً] فأخرجها النسائي (496) في عمل اليوم والليلة عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري مرسلاً، وأخرجه (495) عن محمود بن خالد، حدثنا الوليد، حدثنا سعيد ابن عبد العزيز، عن الزهري به. (¬1) المبدع (1/ 194). (¬2) المرجع السابق.

أولا: الأصل في العبادات الحضر، حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث الاغتسال من الجنابة ومن الحيض ليس فيها ذكر التسمية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬1). واستحباب التسمية في كل شيء ليس على إطلاقه، فهناك أمور تكون التسمية فيها من البدع: كالتسمية للأذان، والتسمية للصلاة، والتسمية لرمي الجمرات، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسمي لهذه العبادات، فإذا لم ترد التسمية في غسل الجنابة لم تستحب في غسل الحيض، لأن صفة الغسل الواجبة فيهما واحدة، وقد ينفرد الحيض باستحباب بعض الأفعال الخاصة كما سيأتي إن شاء الله. وإليك بعض أحاديث الاغتسال من الحيض والجنابة، لترى أن التسمية لم ترد فيهما. الحديث الأول: (106) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث، عن عائشة، أن أسماء بنت شكل سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض؟ فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فَتَطهَّر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً، حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم ¬

_ (¬1) مريم آية (64).

تاخذ فرصة ممسكة فتَطَهَّرُ بها. فقالت أسماء وكيف تَطَهَّرُ بها؟ فقال: سبحان الله تطهرين بها. فقالت عائشة، وكأنها تخفي ذلك: تتبعين أثر الدم. وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال: تأخذ ماءً فتطهر فتحسن الطهور، أو تبلغ الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليه الماء. فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (¬1). ورواه البخاري بأخصر من هذا (¬2). ووجه الدلالة ظاهرة، هو أنه قد وقع هذا الحديث جواباً عن كيفية الغسل من المحيض، وقد ذكر أموراً مستحبة كالسدر، فلو كانت التسمية مشروعة لأرشد عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث الثاني: (107) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده. ورواه مسلم (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (332). (¬2) صحيح البخاري (314)، وسيأتي تخريجه في حكم الوضوء لغسل الجنابة. فانظر هناك. (¬3) البخاري (272) ومسلم (316)

فهذه صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة وليس فيها ذكر البسملة. الحديث الثالث: (108) ما رواه مسلم، قال: حدثني علي بن حجر السعدي، حدثني عيسى بن يونس، حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: حدثتني خالتي ميمونة، قالت: أدنيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسله من الجنابة، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا، ثم أدخل يده فى الإناء، ثم أفرغ بها على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بمنديل فرده. ورواه البخاري (¬1). وهذا الحديث كغيره ليس فيه التسمية، فيبعد أن تكون التسمية مشروعة ثم لا تنقل من قوله - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعله. الحديث الثالث: (109) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن ¬

_ (¬1) البخاري (257) ومسلم (317).

رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأس ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (330).

الفرع الثالث: في وضوء الغسل

الفرع الثالث: في وضوء الغسل المسألة الأولى: خلاف العلماء في حكم الوضوء في غسل الحيض والجنابة اختلف العلماء في حكم الوضوء في الحدث الأكبر كالحيض والجنابة. فقيل: الوضوء سنة. وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: الوضوء شرط في صحة الغسل، وهو رأي داود الظاهري (¬5). وقيل: سنة في غسل الجنابة، وليس مشروعاً في غسل الحيض. ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 56)، تبيين الحقائق (1/ 14) بدائع الصنائع (1/ 34)، حاشية ابن عابدين (1/ 156)، البناية (1/ 258)، البحر الرائق (1/ 52). (¬2) مختصر خليل (ص: 15)، منح الجليل (1/ 128)، الكافي (ص: 24)، الشرح الصغير (1/ 172)، حاشية الدسوقي (1/ 136)، القوانين الفقهية (ص: 23). (¬3) المجموع (2/ 215)، روضة الطالبين (1/ 89)، مغني المحتاج (1/ 73)، نهاية المحتاج (1/ 225). (¬4) كشاف القناع (1/ 152) الإنصاف (1/ 252)، معونة أولي النهى شرح المنتهى (1/ 403)، الممتع شرح المقنع (1/ 233)، المغني (1/ 287)، الفروع (1/ 204). (¬5) انظر المجموع (2/ 215) الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي (ص: 496).

أدلة الجمهور على أن الوضوء في الغسل سنة.

وهو اختيار ابن حزم (¬1) أدلة الجمهور على أن الوضوء في الغسل سنة. الدليل الأول: لم يذكر الوضوء في القرآن، بل قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬2) ولو كان الوضوء واجباً لذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه. الدليل الثاني: (110) ما رواه البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فافرغه عليك (¬3). ولو كان الوضوء واجباً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ولم يطلب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا مجرد إفراغه عليه. الدليل الثالث: (111) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله ابن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر ¬

_ (¬1) المحلى (المسألة 188). (¬2) المائدة، آية: 6. (¬3) صحيح البخاري (337).

الدليل الرابع

رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الدلالة: عبر بـ "إنما" الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر الوضوء. الدليل الرابع: حكى بعضهم الإجماع على عدم وجوب الوضوء. قال الحافظ في الفتح: "قام الإجماع على أن الوضوء في غسل الجنابة غير واجب" (¬2). وقال ابن عبد البر: الله عز وجل إنما فرض على الجنب الغسل دون الوضوء، بقوله عز وجل: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬3) , وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬4) (¬5). ولا تصح دعوى الإجماع مع خلاف داود الظاهري. دليل داود الظاهري بأن الوضوء شرط في صحة الغسل. لعل داود الظاهري رأى أن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬6) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (330). (¬2) في شرحه لحديث (259) (¬3) النساء، آية: 43. (¬4) المائدة، آية: 6. (¬5) التمهيد (3/ 415) كما في فتح البر. (¬6) المائدة، آية: 6.

دليل ابن حزم على أن الوضوء لا يشرع في غسل الحيض.

فقوله سبحانه: {فَاطَّهَّرُوا} أمر، وهو مجمل، وبيانه يؤخذ من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حافظ على الوضوء قبل الغسل، فإذا كان قوله: {فَاطَّهَّرُوا} أمر، والأصل فى الأمر الوجوب، كان الفعل الذي وقع بياناً لهذا المجمل له حكم المجمل، فيكون واجباً مثله. وهذا الاستدلال ممكن أن يسلم لو أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على صحة الغسل بلا وضوء، كحديث الأعرابي، وحديث أم سلمة، وقد سقناهما في أدلة الجمهور. دليل ابن حزم على أن الوضوء لا يشرع في غسل الحيض. رأى ابن حزم أن الدليل الذي جاء فيه ذكر الوضوء في غسل الحيض كان عن طريق إبراهيم بن المهاجر وهو ضعيف. ولا يرى ابن حزم قياس الحيض على الجنابة (¬1). والحديث الذي ضعفه ابن حزم رواه ابن أبي شيبة، قال: (112) حدثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية ابنة شيبة، عن عائشة قالت: دخلت أسماء بنت شكل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من المحيض؟. قال: تأخذ سدرتها وماءها فتوضأ وتغسل رأسها وتدلكه حتى تبلغ الماء أصول شعرها، ثم تفيض الماء على جسدها، ثم تأخذ فرصتها فتطهر بها. فقالت: يا رسول الله كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها. قالت: عائشة: ¬

_ (¬1) انظر المحلى المسألة (189).

فعرفت الذي يكني عنه فقلت لها تتبعي أثر الدم (¬1). [صحيح، وذكر الوضوء فيه حسن] (¬2). ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 78) ح 864 (¬2) الحديث مداره على صفية بنت شيبة، عن عائشة. ويرويه عنها اثنان: الأول: ابنها منصور، وروايته مخرجة في الصحيحين، وفي غيرهما، وليس في روايته ذكر الوضوء. الثاني: إبراهيم بن مهاجر، وقد زاد فيه ذكر الوضوء، وتارة يذكر الوضوء بلفظ مجمل، يحتمل أنه أراد الوضوء، ويحتمل أنه أراد به إزالة النجاسة. وتارة يصرح بذكر الوضوء كما في رواية أبي الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر عند أبي داود (314) وابن شيبة (1/ 78) ح 864. فرواية مسلم (61 - 332) قال: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً .. " الحديث. فقوله: "فتطهر فتحسن الطهور" جاء في شرح النووي (4/ 21): "التطهر الأول تطهر من النجاسة، وما مسها من دم الحيض، هكذا قال القاضي عياض قال: والأظهر والله أعلم أن المراد بالتطهر الأول الوضوء". قلت: حمله على الوضوء أولى كما جاء مفصلاً في رواية أبي الأحوص التي قدمناها في الباب ولفظها: "تأخذ سدرتها وماءً فتوضأ وتغسل رأسها". وإذا كان الراجح ذلك، ولم يأت ذكر الوضوء إلا في رواية إبراهيم بن مهاجر مخالفاً من هو أوثق منه أعني منصوراً فهل تعتبر زيادته محفوظة؟ أو تعتبر شاذة لمخالفتها لمن هو أوثق؟ خاصة أن إبراهيم بن مهاجر أيضاً قد زاد فيه صفة الغسل من الجنابة أيضاً، ولم يذكر في رواية منصور. ولا شك أن منصوراً مقدم على إبراهيم بن مهاجر في الحفظ والإتقان، فمنصور أخرج له الشيخان، أما إبراهيم بن مهاجر فقد تجنبه البخاري، وتكلم فيه جماعة، وإليك أهم ما قيل فيه:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ قال أحمد: ليس به بأس. وكذا قال الثوري. الجرح والتعديل (2/ 132). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (7). وقال في موضع آخر: لا بأس به. تهذيب الكمال (2/ 211). وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة، ويحمل بعضها بعضاً، وهو عندي أصلح من إبراهيم الهجري، وحديثه يكتب في الضعفاء. الكامل (1/ 213). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت أبي يقول: إبراهيم بن مهاجر ليس بقوي، هو وحصين بن عبد الرحمن، وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض، فمحلهم عندنا محل الصدق، يكتب حديثهم، ولا يحتج بحديثهم. قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم؟. قال: كانوا أقواماً لا يحفظون, فيحدثون بما لا يحفظون، فيغلطون. ترى في حديثهم اضطراباً ما شئت. الجرح والتعديل (2/ 132). وسأل الحاكم الدارقطني قلت: فإبراهيم بن مهاجر؟. قال: ضعفوه، تكلم فيه يحيى ابن سعيد وغيره. قلت: بحجة؟. قال: بلى، حدث بأحاديث لا بتابع عليها، وقد غمزه شعبة أيضاً. تهذيب التهذيب (1/ 146). وقال يحيى القطان: لم يكن بالقوي. الجرح والتعديل (2/ 132). وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، كما في رواية عباس الدوري عنه. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق، لين الحفظ. هذا ما قيل في إبراهيم بن مهاجر، فهل ترى زيادته الوضوء في حديث صفية شاذة. لمخالفته منصوراً وهو أوثق منه؟ فإن حكمنا بشذوذ الزيادة فإن مشروعية الوضوء لغسل الحيض ثابت في قياسه على غسل الجنابة. وإن حكمنا بحفظها فالأمر ظاهر. ونفسي تميل إلى كون الوضوء محفوظاً في رواية إبراهيم، لأن رواية منصور فيها اختصار. فلفظ البخاري من حديث منصور عن أمه عن عائشة (315): أن امرأة من الأنصار قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف أغتسل من المحيض؟ قال: "خذي فرصة ممسكة فتوضئي ثلاثاً" ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحيى وأعرض بوجهه، أو قال: "توضئي بها" فأخذتها فجذبتها فأخبرتها بما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فهنا الصحابية رضي الله عنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية الاغتسال من المحيض، واقتصر منصور في روايته عن أمه بذكر تطهير الفرج، وهو لا يكفي في الغسل من المحيض. ويبعد أن تسأل المرأة عن صفة الغسل من المحيض ولا يجيبها إلا على تطهير الفرج من أثر الدم، فالباحث هنا يجزم بوقوع اختصار في رواية منصور، وترجمة البخاري تشير إلى قبول ما ورد من الحديث ممن ليس على شرطه، ولهذا ترجم البخاري للحديث بثلاثة أشياء، دلك المرأة نفسها عند غسل الحيض، والثاني كيف تغتسل والثالث أخذها فرصة ممسكة، قال ابن رجب رحمه الله في شرح البخاري (2/ 94) وليس في حديث منصور سوى الفرصة الممسكة، ولكنه أشار إلى أن الحكمين الآخرين قد رويا في حديث صفية عن عائشة من وجه آخر لكن ليس هو على شرطه، فخرج الحديث بالإسناد الذي على شرطه، ونبه بذلك على الباقي. قلت: فاعتماد البخاري صفة الغسل في فقه ترجمته ذهاب منه إلى تصحيح ما ورد في طريق إبراهيم بن مهاجر. بل جاء في مسلم (60 - 332) من طريق سفيان عن منصور الإشارة إلى تعمد الاختصار ولفظه: عن عائشة قالت: سألت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف تغتسل من حيضتها؟ قال: فذكرت أنه علمها كيف تغتسل، ثم تأخذ فرصة من مسك فتطهر بها. فقولها: (علمها كيف تغتسل ثم تأخذ فرصة من مسك) إشارة إلى أن رواية منصور لم تقتصر على ذكر تطهير الفرج بفرصة من مسك. وأنه طوى صفة الغسل للعلم به. ولفظ النسائي (251): فأخبرها كيف تغتسل ثم قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها. تخريج الحديث: أما رواية منصور بن عبد الرحمن الحجي، عن أمه صفية بنت شيبة، عن عائشة، فيرويها عنه، سفيان بن عيينة، ووهيب، والفضيل بن سليمان النميري، وإليك هي: أما طريق سفيان: فأخرجه الحميدي (167) حدثنا سفيان، ثنا منصور به. وأخرجه البخاري (314) حدثنا يحيى، نا ابن عيينة به، وكرر إسناده في (7357). وأخرجه مسلم (332) حدثنا عمرو بن محمد الناقد، وابن أبي عمر جميعاً، عن ابن عيينة به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأخرجه النسائي (251) أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان به. وأخرجه أبو عوانة (1/ 317) من طريق شعيب بن عمرو، قال: ثنا سفيان به. وأخرجه أيضاً (1/ 317) من طريق الشافعي، عن سفيان به. وأخرجه ابن حبان (1199) من طريق عبد الجبار بن العلاء، حدثنا سفيان به. وأخرجه البيهقي (1/ 183) من طريق سعدان بن نصر، ثنا سفيان بن عيينة به. وأما طريق وهيب، عن منصور به. أخرجه أحمد (6/ 122) حدثنا عفان، حدثنا وهيب به. وأخرجه البخاري (315) حدثنا مسلم - يعني ابن إبراهيم - حدثنا وهيب به. وأخرجه مسلم (332) حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، حدثنا حبّان، حدثنا وهيب به. وأخرجه النسائي (427) أخبرنا الحسن بن محمد، حدثنا عفان، قال: حدثنا وهيب به. وأما طريق الفضل بن سليمان عن منصور به: فأخرجه البخاري (7357) حدثنا محمد - هو ابن عقبة - حدثنا الفضل بن سليمان النميري، حدثنا منصور به. وأخرجه ابن حبان (1200) من طريق حميد بن مسعدة، حدثنا الفضل بن سليمان، عن منصور به. هذا فيما يتعلق بطريق منصور عن أمه. وأما طريق إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة به فيرويه جماعة عنه منهم أبو عوانة، وأبو الأحوص، وشعبة، وإسرائيل، وقيس بن الربيع. يزيد بعضهم على رواية بعض. وإليك تخريج رواياتهم: فأخرجه أبو داود الطيالسي (1563) عن قيس بن الربيع، عن إبراهيم بن مهاجر به. وأخرجه أحمد (6/ 188) حدثنا عبد الرحمن، وعفان قالا: ثنا أبو عوانة، عن إبراهيم. وأخرجه أبو داود (315) حدثنا مسدد بن مسرهد، أخبرنا أبو عوانة به. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 78) ح 864 حدثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم به. وأخرجه أبو داود (314) حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا سلام بن سليم (أبو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الأحوص) به. وأخرجه البغوي (253) من طريق أبي داود، وساق مسلم سند أبي الأحوص (232) ولم يذكر متناً. وأخرجه أحمد (6/ 147): ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، وزاد فيه ذكر صفة الغسل من الجنابة. وأخرجه مسلم (61 - 232) حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، حدثنا محمد بن جعفر به. وأخرجه أبو داود (316) حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، أخبرنا أبي، عن شعبة به. وأخرجه ابن ماجة (642) حدثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة به. ومن طريق شعبة أخرجه البيهقي (1/ 180). وأخرجه الدارمي (773) وابن الجارود في المنتقى (117) من طريق إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر به.

المسألة الثانية: هل يكون الوضوء قبل الاغتسال أو بعده

المسألة الثانية: هل يكون الوضوء قبل الاغتسال أو بعده أما في الجنابة فالأحاديث صريحة في أن الوضوء قبل الاغتسال. وأما في الحيض فهل يكون الوضوء قبل الاغتسال أم بعده؟ فالأصل أن الحيض مقيس على الجنابة، لكن قال ابن رجب: "وقال يعقوب بن بختان: سألت أحمد عن الحائض متى تتوضأ؟ قال: إن شاءت توضأت إذا بدأت واغتسلت، وإن شاءت اغتسلت ثم توضأت. وظاهر هذا أنها مخيرة بين تقديم الوضوء وتأخيره، فإنه لم يرد في السنة تقديمه كما في غسل الجنابة، وإنما ورد في حديث أبي الأحوص عن إبراهيم بن المهاجر: (توضأ وتغسل رأسها وتدلكه) بالواو، وهي لا تقتضي ترتيباً، فيحصل من هذا أن غسل الحيض والنفاس يفارق غسل الجنابة من وجوه. أحدها: أن الوضوء فى غسل الحيض لا فرق بين تقديمه وتأخيره، وغسل الجنابة السنة تقديم الوضوء فيه على الغسل" (¬1). قلت: حديث أبي الأحوص جاء بالترتيب أيضاً في رواية أبي داود، قال: [113] حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا سلام بن سليم، عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: دخلت أسماء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من المحيض؟ فقال: تأخذ سدرتها وماءها ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 98).

فتوضأ ثم تغسل رأسها وتدلكه حتى يبلغ الماء أصول شعرها .. وذكر الحديث (¬1). فقوله: "توضأ ثم تغسل رأسها" دليل على تقديم الوضوء على الغسل، إلا أن الحديث قد رواه البغوي من طريق أبي داود نفسه (¬2) ورواه ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص به (¬3) بلفظ: "توضأ وتغسل رأسها" ورواية (الواو) لا تعارض رواية (ثم) خاصة أنه قد قدم الوضوء بالذكر، وعلى فرض أن الترتيب بين الوضوء والاغتسال لم يرد في الحيض، فإنه مقيس على الجنابة. ولا أرى لها أن تتوضأ بعد الاغتسال إذا لم تتوضأ قبله؛ لأنه لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ بعد غسله من الجنابة، والغسل وحده كاف في رفع الحدث إلا إن مست فرجها فقد انتقضت الطهارة الصغرى ومس الفرج على الراجح ناقض للوضوء مطلقاً سواء كان بشهوة أم بغير شهوة. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (314). (¬2) شرح السنة (253) (¬3) المصنف (1/ 78).

المسألة الثالثة: هل تغسل المرأة أعضاء الوضوء مرة ثانية في الاغتسال أم يكفي غسلها في الوضوء قبل الغسل.

المسألة الثالثة: هل تغسل المرأة أعضاء الوضوء مرة ثانية في الاغتسال أم يكفي غسلها في الوضوء قبل الغسل. إذا توضأت المرأة لغسل الحيض، فهل تغسل بقية بدنها دون أعضاء الوضوء؟ أو يلزمها غسل بدنها مع أعضاء الوضوء؟ فتكون غسلت أعضاء الوضوء مرتين، مرة فى الوضوء، ومرة في الغسل. هاتان مسألتان: الأولى: هل تكرر غسل أعضاء الوضوء مرة في الوضوء، ومرة في الغسل. والثانية: هل يشرع التثليث في غسل البدن، بحيث يغسل بدنه ثلاثاً عند الغسل. وسوف أناقش المسألة الأولى أعني: هل تكرر غسل أعضاء الوضوء مرة في الوضوء، ومرة في الغسل، وأما المسألة الثانية فسوف يأتي الحديث عنها في مبحث خاص. (114) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بين شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. ورواه مسلم (¬1). ¬

_ (¬1) البخاري (272)، ومسلم (316).

فقولها: "ثم غسل سائر جسده" أى بقية جسده، وقد ذكر الزبيدي: أن كلمة سائر الناس: أي الباقي من الناس (¬1). وله شاهد من حديث ميمونة من رواية مسلم له، في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة. (115) وفيه: "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس (6/ 489). وفي حديث أبي موسى في البخاري (3411) ومسلم (2431)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. فمعنى "سائر الطعام" أي على بقيته. وقال ابن الأثير في النهاية (2/ 327): "والسائر: الباقي، والناس يستعملونه بمعنى الجميع، وليس بصحيح، وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، وكلها بمعنى باقي الشيء". اهـ وذكر الزبيدي في تاج العروس (6/ 489) إلى أن في السائر قولين: الأول: وهو قول الجمهور من أئمة اللغة وأرباب الاشتقاق أنه. بمعنى الباقي، ولا نزاع فيه بينهم، واشتقاقه من السُّوْر، وهو البقية. والثاني: أنه بمعنى الجميع، وقد اثبته جماعة وصوبوه، وإليه ذهب الجوهري، والجواليقي، وحققه ابن بري في حواشي الدرة، وأنشد عليه شواهد كثيرة، وأدلة ظاهرة، وانتصر لهم الشيخ النووي في مواضع من مصنفاته، وسبقهم إمام العربية أبو علي الفارسي، ونقله بعضٌ عن تلميذه ابن جني ... الخ كلامه رحمه الله. ولا مانع أن يكون معنى كلمة (سائر) مشتركاً بين المعنيين، والأصل فيها أن تكون بمعنى الباقي إلا إن دلت قرينة على أن المراد. بمعنى سائر: الكل فيقبل. (¬2) مسلم له (317).

وقال ابن رجب: الجنب له حالتان: إحداهما: أنه لا يلزمه سوى الغسل، وهو من أجنب من غير أن يوجد منه حدث أصغر، فهذا لا يلزمه أكثر من الغسل، فإن بدأ بأعضاء الوضوء فغسلها لم يلزمه سوى غسل بقية بدنه بغير تردد، وينوي بوضوئه الغسل لا رفع الحدث الأصغر، وهو ظاهر. الثاني: أن يجتمع عليه حدث أصغر وجنابة، كأن يحدث، ثم يجنب، فهل يتداخل الوضوء مع الغسل أم لا؟ في ذلك خلاف بين العلماء. اهـ بتصرف (¬1). قلت: وملخص الأقوال في المسألة كالآتي: قيل: إذا نوى الطهارة الكبرى، أجزأه عن نية الطهارة الصغرى. وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: يجزئ ولو لم ينو أحدهما، باعتبار أن النية ليست بشرط. وهو مذهب الحنفية (¬4). ¬

_ (¬1) في شرحه للبخاري (1352). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 140)، فتح البر بترتيب تمهيد ابن عبد البر (3/ 415) القوانين الفقهية (ص: 23)، شرح الزرقاني لمختصر خليل (1/ 105)، مختصر خليل (ص: 15)، منح الجليل (1/ 132)، التاج والإكليل المطبوع بهامش مواهب الجليل (1/ 318). (¬3) الأم (1/ 40)، المجموع (2/ 223)، الحاوي الكبير (1/ 221)، روضة الطالبين (1/ 89، 54). (¬4) البناية (1/ 173)، تبيين الحقائق (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 24)، بدائع الصنائع

وقيل: لا تتداخل الطهارتان الكبرى والصغرى إلا بنية، فعلى هذا إما أن يتوضأ قبل الغسل أو ينوي بغسله الطهارة من الحدثين. وهو مذهب الحنابلة (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: يجب الوضوء، إما قبل الغسل وإما بعده، ولا تتداخل النيتان، وسواء وجد منه الحدث الأصغر أو لم يوجد. وهو رواية في مذهب أحمد (¬3)، ووجه في مذهب الشافعية (¬4). وعلى هذه الرواية تغسل أعضاء الوضوء مرتين، مرة في الوضوء، ومرة في الغسل. وقيل: يجب الوضوء وغسل بقية البدن. وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5). وفرق ابن حزم بين غسل الجنابة وبين غيره كغسل الجمعة ونحوها فقال في غسل الجنابة: إذا نوى الوضوء أجزأه، وإن لم ينوه لم يجزه، وقال في غيره ¬

_ (1/ 19). (¬1) كشاف القناع (1/ 131)، المحرر (1/ 20)، شرح منتهى الإرادات (1/ 88)، الإنصاف (1/ 259)، المبدع (1/ 201، 200)، الفروع (1/ 205)، المغني (1/ 289). (¬2) المجموع (2/ 223)، روضة الطالبين (1/ 89، 54). (¬3) الفروع (1/ 205)، الإنصاف (1/ 259). (¬4) الروضة (/ 54)، المجموع (1/ 223). (¬5) انظر المصدر السابق.

دليل القائلين بأن نية الطهارة الكبرى تجزئ عن نية الطهارة الصغرى.

من الاغتسالات: لا بد أن يأتي بالوضوء مفرداً بنية الوضوء (¬1). هذا ملخص الأقوال في المسألة، وإليك الأدلة. دليل القائلين بأن نية الطهارة الكبرى تجزئ عن نية الطهارة الصغرى. الدليل الأول: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬2). وجه الاستدلال: جعل الله سبحانه وتعالى الغسل غاية المنع من الصلاة، فإذا اغتسل يجب ألا يمنع منها، ولو كانت نية الحدث الأصغر شرطاً لذكرها سبحانه. الدليل الثاني: (116) ما رواه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وفيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي أصابته جنابة "خذ هذا فأفرغه عليك" (¬3). وجه الاستدلال: أن هذا الرجل كان يجهل التيمم حتى أخبره - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت نية الحدث الأصغر شرطاً لأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن جهله بذلك قد يكون أولى من جهله ¬

_ (¬1) المحلى المسألة (195). (¬2) النساء، آية: 43. (¬3) البخاري (344).

الدليل الثالث

مشروعية التيمم. الدليل الثالث: (117) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟. قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يكفيك" فهذا دليل على الحصر، وقوله: "فتطهرين" الطهارة هنا مطلقة، فتشمل جميع أنواعها، الصغرى والكبرى، فدل على أن فعلها هذا يجزئ في حصول الطهارة ولو كانت نية الحدث الأصغر شرطاً لبينه لها النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الرابع: (118) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجين بن المثنى، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، عن جبير بن مطعم قال: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (330).

الدليل الخامس

تذاكر غسل الجنابة عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فآخذ ملء كفي ثلاثاً، فأصب على رأسي، ثم أفيضه بعد على سائر جسدي (¬1). وقد صرح أبو إسحاق بالتحديث عند البخاري (¬2). الدليل الخامس: (119) ما رواه عبد الرزاق (¬3) , عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير. [حديث حسن] (¬4). ¬

_ (¬1) المسند (4/ 81). (¬2) الحديث في البخاري (254)، ومسلم (327) دون قوله: "ثم أفيض بعد على سائر جسدي". ولفظ مسلم عن جبير بن مطعم قال: تماروا في الغسل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض القوم: أما أنا فإني أغسل رأسي كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث أكف. اهـ ولفظ الصحيحين لا دلالة فيه على مسألتنا، لكن لفظ أحمد ظاهر الدلالة، ولو كان هو الدليل الوحيد في المسألة لحققت هل زيادة أحمد محفوظة أو شاذة؟ ولكن الأدلة في هذه المسألة كما قرأت كثيرة مستفيضة. (¬3) المصنف (913). (¬4) الإسناد فيه: عمرو بن بجدان. ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/ 171).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال العجلي: بصري، تابعي، ثقة. ثقات العجلي (2/ 172). وصحح حديثه الحاكم، ومن قبله الترمذي. وذكره البخاري في التاريخ الكبير (6/ 317) ولم يورد جرحاً ولا تعديلاً. وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/ 222). وقال الذهبي: حسنه الترمذي، ولم يرقه إلى الصحة للجهالة بحالة عمرو، وقال: وقد وثق عمرو مع جهالته. الميزان (3/ 247) بينما صحح حديثه في المستدرك (1/ 176)، وقال في الكاشف: وثق. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي عمرو بن بجدن معروف؟ قال: لا. تهذيب التهذيب (8/ 7). وقال ابن القطان: لا يعرف. المرجع السابق. وقال ابن حجر في التقريب: لا يعرف حاله. قلت: من عادة الحافظ في الراوي إذا كان لم يرو عنه إلا واحد، وكان من التابعين ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وقد وثقه ابن حبان أن يقول في حقه: مقبول، أي حين يتابع، كيف وقد صحح حديثه الترمذي، والحاكم والبيهقي وابن حبان، فهذا توثيق ضمني، وقد أجاب ابن دقيق العيد على قول ابن القطان في عمرو بن بجدان: لا يعرف له حال، فقال كما في نصب الراية (1/ 149): "ومن العجب كون ابن القطان لم يكتف بتصحيح الترمذي في معرفة حال عمرو بن بجدان، مع تفرده بالحديث، وهو قد نقل كلامه: هذا حديث حسن صحيح، وأي فرق بين أن يقول: هو ثقة، أو يصحح له حديثاً انفرد به. وإن كان توقف في ذلك لكونه لم يرو عنه إلا أبو قلابة، فليس هذا بمقتضى مذهبه، فإنه لا يلتفت إلى كثرة الرواة في نفي جهالة الحال، فذلك لا يوجب جهالة الحال بانفراد راو واحد عنه بعد وجود ما يقتضي تعديله، وهو تصحيح الترمذي له. قلت: تصحيح الترمذي قد لا يكتفى فيه بالتوثيق لأنه معروف بالتساهل، لكن تصحيح الحاكم والبيهقي وابن حبان مع الترمذي يفيد الراوي قوة، مع كون حديثه هذا له شاهد من حديث أبي هريرة. وسيأتي ذكره. فالحديث إسناده لا ينزل عن مرتبة الحسن. والله أعلم. [تخريج الحديث]: مداره على أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ويرويه عن أبي قلابة خالد الحذاء، وأيوب السختياني. أما طريق خالد الحذاء فله طرق كثيرة إليه. الأول: يزيد بن زريع عن خالد الحذاء به. أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (6/ 317) من طريق هشام بن عبد الملك، عن يزيد ابن زريع به، وأخرجه البيهقي (1/ 220) من طريق إبراهيم بن موسى. وأخرجه (1/ 220) من طريق مسدد، كلاهما عن يزيد بن زريع به، وأخرجه ابن حبان (1312) من طريق الفضيل بن الحسين الجحدري، قال: حدثنا يزيد بن زريع به. الطريق الثاني: خالد بن عبد الله الواسطي عن خالد الحذاء به. أخرجه أبو داود (332) حدثنا عمرو بن عوف، ومسدد، قالا: أخبرنا خالد - يعني ابن عبد الله الواسطي - عن خالد الحذاء به. قال أبو داود: حديث عمرو أتم. وأخرجه البيهقي (1/ 220) والحاكم (1/ 177، 176) من طريق مسدد به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، إذ لم نجد لعمرو بن بجدان راوياً غير أبي قلابة الجرمي، وهذا مما شرطت فيه، وثبت أنهما قد خرجا مثل هذا في مواضع من الكتابين. الطريق الثالث: الثوري عن خالد الحذاء به. منه إسناد الباب، أعني: عبد الرزاق (913) عن الثوري به، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (5/ 155)، وأخرجه أحمد أيضاً (5/ 180) ثنا أبو أحمد - يعني: الزبيري - ثنا سفيان، عن خالد الحذاء به. وأما رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة به: فأخرجه أحمد (5/ 155) ثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن أيوب السختياني وخالد الحذاء به، وأخرجه النسائي (322) أخبرنا عمرو بن هشام، قال: ثنا مخلد، عن سفيان، عن أيوب به، وأخرجه الدارقطني (1/ 186) من طريق مخلد بن يزيد، حدثنا سفيان، عن أيوب وخالد به. وأخرجه البيهقي (1/ 212) من طريق أحمد بن بكار، حدثنا مخلد بن يزيد به. وأخرجه ابن حبان كما في الموارد (197) من طريق عبد الحميد بن محمد المستام، حدثنا مخلد بن يزيد به. وجاء الحديث (عن أيوب عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبي ذر).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 144): حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة به. وأخرجه أحمد (5/ 146) حدثنا إسماعيل - يعني: ابن علية - به. وأحرجه الدارقطني (1/ 187) من طريق يعقوب بن إبراهيم، نا ابن علية به. وأخرجه الطيالسي (484) حدثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، عن أيوب به. وأخرجه أبو داود (133) حدثنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد، عن أيوب به. (وقيل: عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني قشير عن أبي ذر) أخرجه عبد الرزاق (912) عن معمر، عن أيوب به. وأخرجه أحمد (5/ 147, 146) ثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد، عن أيوب به. (وقيل: عن أيوب عن أبي قلابة عن عمه أبي المهلب عن أبي ذر) أخرجه الدارقطني (1/ 187) من طريق خلف بن موسى العمي، أخبرنا أبي، عن أيوب عن أبي قلابة، عن عمه أبي المهلب به. فتبين من هذا أن رواية خالد الحذاء لم يختلف عليه في إسناده، وأما رواية أيوب فقد اختلف عليه كما سبق، ففي بعض طرقها ما يوافق رواية خالد، والبعض الآخر يخالفه في الإسناد، فهل ما خالف فبه أيوب خالداً يطرح؟ أو أن الخلاف على أيوب لا يضر؟ قال أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي (1/ 215): "عن رجل من بني قشير، عن أبي ذر، وهذا الرجل هو الأول نفسه، لأن بني قشير من بني عامر كما في الاشتقاق لابن دريد (ص: 181)، وهو عمرو بن بجدان نفسه". اهـ قلت: فعلى هذا قوله: "عن رجل من بني قشير، أو عن رجل من بني عامر" لا فرق بينهما وهو عمرو بن بجدان؛ لأنه قشيرى من بني عامر. فيبقى رواية أبي المهلب، فإن لم تكن كنية لعمرو بن بجدان، فقد تفرد بها خلف بن موسى بن خلف العمي، حدثني أبي، وخلف وأبوه، كل واحد منهما صدوق له أوهام، فيكون هذا من أوهامه لمخالفته من هو أوثق منه. وضعفه ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (3/ 327) وقال: "لا يعرف لعمرو بن بجدان هذا حاله، وإنما روى عنه أبو قلابة واختلف عنه: فيقول: خالد الحذاء عنه، عن عمرو بن بجدان ولا يختلف ذلك على خالد. وأما أيوب فإنه رواه عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ومنهم من يقول: عن رجل فقط. ومنهم من يقول: عن رجاء بن عامر. ومنهم من يقول: عن عمرو بن بجدان كقول خالد. ومنهم من يقول: عن أبي المهلب. ومنهم من لا يجعل بينهما أحداً، فيجعله عن أبي قلابة، عن أبي ذر. ومنهم من يقول: عن أبي قلابة أن رجلاً من بني قشير، قال: يا نبي الله. هذا كله اختلاف على أيوب في روايته إياه عن أبي قلابة، وجميعه في علل الدارقطني وسننه، وهو حديث ضعيف لا شك فيه". اهـ. وتعقبه ابن دقيق العيد في (الإمام) فقال: "أما الاختلاف الذي ذكره من كتاب الدارقطني، فينبغي على طريقته، وطريقة الفقه أن ينظر في ذلك، إذ لا تعارض بين قولنا: عن رجل، وبين قولنا عن رجل من بني عامر، وبين قولنا: عن رجل من بني بجدان. وأما من أسقط ذكر هذا الرجل فيؤخذ بالزيادة ويحكم بها. وأما من قال: عن أبي المهلب، فإن كان كنية لعمرو فلا اختلاف، وإلا فهي رواية واحدة مخالفة احتمالاً لا يقيناً. وأما من قال: عن رجل من بني قشير، قال: يا نبي الله، فهي مخالفة، فكان يجب أن ينظر في إسنادها على طريقته، فإن لم يكن ثابتاً لم يعلل بها". اهـ. قال أحمد شاكر معلقاً في تحقيقه للسنن (1/ 217, 215): وهذا الذي حققه ابن دقيق العيد بديع ممتع، وهو الصواب المطابق لأصول هذا الفن، وأنا أظن أن رواية من قال: إن رجلاً من بني قشير قال: يا نبي الله. فيها خطأ، وأن أصله ما ذكرته من رواية ابن أبي عروبة، عند أحمد في المسند، عن رجل من بني قشير، فذكر القصة في كونه أتى أبا ذر، وسأله، وأجابه وأن يكون سقط من بعض الرواة ذكر أبي ذر خطأ فقط. اهـ وأما شاهده من حديث أبي هريرة، فقد رواه البزار، كما في مختصر زوائد البزار (193) قال: حدثنا مقدم بن محمد بن علي بن مقدم المقدمي، حدثنا عمي القاسم بن يحيى ابن عطاء بن مقدم ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله ويمسه بشرته, فإن ذلك خير.

الدليل السادس

وجه الاستدلال من الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليمسه بشرته ولم يذكر اشتراط نية الحدث الأصغر، فإذا مسه بشرته فقد تطهر. الدليل السادس: قال ابن عبد البر: "المغتسل من الجنابة إذا لم يتوضأ، وعم جميع جسده ورأسه، ويديه ورجليه، وسائر بدنه بالماء، وأسبغ ذلك وأكمله بالغسل، ومرر يديه، فقد أدى ما عليه إذا قصد الغسل ونواه، وتم غسله، لأن الله عز وجل إنما فرض على الجنب الغسل دون الوضوء بقوله عز وجل: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬1). وبقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬2). قال: وهذا إجماع لا خلاف فيه بين العلماء" (¬3). ¬

_ قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه. ومقدم ثقة معروف النسب. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 261): رجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (478): حدثنا أحمد - يعني ابن محمد بن صدقه، ثنا مقدم به. وفي تلخيص الحبير (1/ 271) صححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل: إن إرساله أصح. (¬1) النساء، آية: 43. (¬2) المائدة، آية: 6. (¬3) التمهيد، كما في فتح البر (3/ 415).

الدليل السابع

وقال في الفتح: "نقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل. قال الحافظ: "وهو مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور، وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للحدث" (¬1). الدليل السابع: من حيث التعليل، قالوا: بأنهما عبادتان من جنس واحد، فتدخل الصغرى في الكبرى كما لو حج قارناً. وهذا هو القول الراجح. دليل الحنفية بأن نية الحدث الأصغر والأكبر ليست واجبة. ذكرت أدلة الحنفية في خلاف العلماء عن حكم النية في الاغتسال من الحيض، وأجبت عنها، فارجع إليها، فلا داعي لإعادتها. دليل الحنابلة على وجوب الوضوء أو نيته في غسل الحيض. (120) ما رواه البخاري حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على المنبر، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬2). ¬

_ (¬1) في شرحه لحديث (248). (¬2) رواه البخاري (1)، واللفظ له، ورواه مسلم (1907).

دليل من قال لا يجب غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى.

وجه الاستدلال: أنه إذا لم ينو الحدث الأصغر لم يصح منه، لأن الحديث صريح بأن صحة الأعمال متوقفة على النية، وأن لكل امرئ ما نوى، وما دام أنه لم ينوه فكيف يحسب له عمل. واستثنوا الموت، فإنه يجب غسل الميت، والوضوء في غسله سنة فقط. وعللوا هذا الاستثناء: بأن غسل الميت تعبد، وليس عن حدث، لأنه لو كان حدثاً لم يرتفع مع بقاء سببه كالحائض لا تغتسل مع جريان الدم، وليس غسل الميت عن نجاسة، لأنه لو كان عنه لم يطهر مع بقاء سبب التنجيس، وهو الموت، وكون الوضوء مستحباً في حق الميت (121) لما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا خالد، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن في غسل ابنته: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها. ورواه مسلم (¬1). دليل من قال لا يجب غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى. استدلوا بدليلين: أثري ونظري. (122) الأول: ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، ¬

_ (¬1) البخاري (167) ومسلم (939).

الدليل الثاني

عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده (¬1). وقد قدمت أن كلمة: "سائر جسده"، تعني: بقية جسده. الدليل الثاني: قد يستدل له بأنه لا يمكن رفع الحدث الأصغر والأكبر باق، وعليه فتكون نيته في الوضوء، هي نية الغسل، وإنما بدأ بمواضع الوضوء لشرفها، وإذا كانت نيته هي الغسل لم يحسن تكرار غسل مواضع الوضوء، لأن الحدث قد ارتفع عنها، ولا يشرع التكرار إلا في حق الرأس. والفرق بين أن يتوضأ بنية رفع الحدث الأصغر، وبين أن يغسل أعضاء الوضوء بنية الغسل أنه لو أحدث أثناء الوضوء فمن قال: يتوضأ بنية رفع الحدث عليه أن يعيد الوضوء إذا أراد أن يأتي بسنة الوضوء، أما من قال: أنه مجرد تقديم أعضاء الوضوء لشرفها، والنية هى نية الغسل فإنه لو أحدث في أثنائه بنى. قال النووي: "لم يذكر الجمهور ماذا ينوي بهذا الوضوء، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: لم أجد فى مختصر ولا مبسوط تعرضاً لكيفية نية هذا الوضوء إلا لمحمد بن عقيل الشهرزوري فقال: يتوضأ بنية الغسل، قال: إن كان جنباً من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (272) واللفظ له، ومسلم (316).

دليل ابن حزم في التفريق بين غسل الجنابة وبين غيره.

غير حدث أصغر فهو كما قال (¬1)، وإن كان جنباً محدثاً كما هو الغالب، فينبغي أن ينوي هذا بوضوئه هذا رفع الحدث الأصغر، لأنا إن أوجبنا الجمع بين الوضوء والغسل فظاهر، لأنه لا يشرع وضوءان، فيكون هذا هو الواجب، وإن قلنا بالتداخل كان فيه خروج من الخلاف" (¬2). دليل ابن حزم في التفريق بين غسل الجنابة وبين غيره. قال ابن حزم: "وأما غسل الجنابة والوضوء فإنه أجزأ فيهما عمل واحد بنية واحدة لهما جميعاً، للنص الوارد في ذلك، ثم ذكر حديث ميمونة من رواية مسلم له وفيه: ثم غسل سائر جسده، فقال: فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعد غسل أعضاء الوضوء فى غسله للجنابة، ونحن نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ضيع نية كل عمل افترضه الله عليه، فوجب ذلك فى غسل الجنابة خاصة، وبقيت سائر الاغسال على حكمها. اهـ (¬3). يعني: فلا يجزئ عمل واحد عن عملين أو عن أكثر. ويناقش ابن حزم فى كون نية الحدث الأصغر فرضاً من حديث ميمونة، ¬

_ (¬1) قد ضرب النووي للجنب من غير حدث صوراً أشهرها: أن ينزل المتطهر المني من غير مباشرة تنقض الوضوء، بنظر أو استمناء، أو مباشرة فوق حائل، أو في النوم قاعداً، فهذا جنب لا خلاف، وليس محدثاً على المذهب الصحيح المشهور، الذي قطع به الجمهور. (¬2) المجموع (2/ 211). (¬3) المحلى (مسألة: 95).

فلا يستطيع أن يثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نوى الحدث الأصغر، وإذا لم يثبت ذلك فليس في الحديث حجة له. والله أعلم. الراجح: بعد استعراض الأقوال والأدلة أجد أن القول بأن نية الحدث الأكبر تكفي عن نية الحدث الأصغر أقوى من حيث الدليل، والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) في شرح الزركشي (312 - 314) حكى قولاً آخر لم أذكره ضمن الأقوال في المسألة، حيث قال (1/ 314): "وتوسط أبو بكر الشيرازي، فقال: يتداخلان فيما يتفقان فيه، ولا يسقط ما ينفرد به الوضوء عن الغسل من الترتيب، والموالاة، والمسح، وإن لم يقل بإجزاء الغسل عن المسح، كما لا يسقط ما ينفرد به الغسل من تعميم البدن ونحوه. اهـ.

المسألة الرابعة: في حكم المضمضة والاستنشاق في غسل الحيض إذا لم تتوضأ

المسألة الرابعة: في حكم المضمضة والاستنشاق في غسل الحيض إذا لم تتوضأ إذا رجحنا بأن الوضوء ليس بواجب في غسل الجنابة والحيض، فهل المضمضة والاستنشاق واجبان فيهما، أو حكمهما حكم الوضوء باعتبار أنهما جزء من الوضوء. هذه مسألة اختلف فيها العلماء: فقيل: المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل مسنونان في الوضوء وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: مسنونان فيهما. وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: واجبان في الطهارتين الصغرى والكبرى. وهو مذهب الحنابلة (¬4). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 56, 25)، البناية (1/ 250)، تبيين الحقائق (1/ 13, 4)، البحر الرائق (1/ 47)، حاشية ابن عابدين (1/ 156)، مراقي الفلاح (ص: 42)، بدائع الصنائع (1/ 34)، رؤوس المسائل (ص: 101). (¬2) الخرشي (1/ 133 - 170)، منح الجليل (1/ 128)، مواهب الجليل (1/ 313)، القوانين الفقهية (ص: 22)، مقدمات ابن رشد (1/ 82)، بداية المجتهد مع الهداية (2/ 12)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 24, 23)، حاشية الدسوقي (1/ 136)، الشرح الصغير (1/ 118 - 170). (¬3) الأم (1/ 41)، المجموع (1/ 396)، روضة الطالبين (1/ 58, 88)، مغني المحتاج (1/ 73 - 57). (¬4) الفروع (1/ 144)، الإنصاف (1/ 153، 152)، المحرر (1/ 20، 11)، كشاف

أدلة القائلين بأن المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل مسنونان في الوضوء.

وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل (¬1). وقيل: الاستنشاق واجب فيهما، والمضمضة سنة (¬2). أدلة القائلين بأن المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل مسنونان في الوضوء. الدليل الأول: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬3) وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتطهير جميع البدن من المكلف، فيدخل كل ما يمكن الإيصال إليه إلا ما كان فيه حرج ومشقة كداخل العينين، والقلفة، لنفي الحرج عن هذه الملة ولا حرج فى داخل الفم والأنف، فشملهما نص الكتاب من غير معارض، ولهذا افترض غسلهما عن النجاسة الحقيقية، فيفترض أيضاً في غسل الجنابة والحيض (¬4). ¬

_ القناع (1/ 154)، معرفة أولي النهى شرح المنتهى (1/ 403)، البدع (1/ 122)، الكافي (1/ 26)، الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (1/ 59). (¬1) انظر الفروع (1/ 144 - 145)، المبدع (1/ 122)، الإنصاف (1/ 152 - 153). (¬2) انظر المصدر السابق. (¬3) المائدة، آية: 6. (¬4) الهداية مع شرح فتح القدير (1/ 65)، بدائع الصنائع (1/ 34).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (123) ما رواه أبو داود (¬1) قال: حدثنا نصر بن علي، أخبرنا الحارث بن وجيه، حدثنا مالك بن دينار، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة". [الحديث إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (248). (¬2) في إسناده: الحارث بن وجيه. قال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء. الجرح والتعديل (3/ 92)، الضعفاء الكبير (1/ 216). وقال البخاري: في حديثه بعض المناكير. الضعفاء الصغير (44). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، في حديثه بعض المناكير. الجرح والتعديل (3/ 92). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/ 216). وقال: يعقوب بن سفيان: بصري لين الحديث. تهذيب التهذيب (2/ 141) وضعفه الدارقطني في العلل (8/ 103). وفيه مالك بن دينار: قال النسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (10/ 13)، اللسان (7/ 347). وقال الدارقطني: ثقة. تهذيب التهذيب (10/ 13). وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وكان يكتب المصاحف. الطبقات الكبرى (7/ 243). قال الأزدي: يعرف وينكر. تهذيب التهذيب (10/ 13). وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (8/ 208).

وجه الاستدلال عندهم: أن الأنف لا يخلو من شعر، فيجب إيصال الماء إلى أصول هذا الشعر، لأن ¬

_ قال ابن حبان: كان من زهاد التابعين، والأخيار الصالحين، كان يكتب المصاحف بالأجرة، ويتقوت بأجرته، وكان يجانب الاباحات جهده، ولا يأكل شيئاً من الطيبات، وكان من المتعبدة الصبر، والمتقشفة الخشن. الثقات (5/ 383). وفي التقريب: صدوق عابد. [تخريج الحديث]: أخرجه الترمذي (106) حدثنا نصر بن علي به. قال الترمذي: حديث الحارث بن وجيه، حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديثه، وهو شيخ ليس بذاك. وقد روى عنه غير واحد من الأئمة، وقد تفرد بهذا الحديث عن مالك ابن دينار. ورواه ابن ماجه في سننه (597) حدثنا نصر بن علي به. ورواه العقيلي في الضعفاء (1/ 216) وقال: لا يتابع عليه، وله غير حديث منكر، وذكره ابن أبي حاتم في العلل (53) قال: "سألت أبي عن حديث رواه الحارث بن وجيه، عن مالك بن دينار، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة .. وذكر الحديث. قال أبي: هذا حديث منكر، والحارث ضعيف الحديث. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 175) من طريق نصر بن علي، ومحمد بن أبي بكر، قالا: ثنا الحارث بن وجيه به. وأخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 193) في ترجمة الحارث، من طريق أبي عمر الحوضي، ثنا الحارث بن وجيه به. وقال الدارقطني في العلل (8/ 103): هذا الحديث" يرويه الحارث بن وجيه، عن مالك ابن دينار، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وغيره يرويه عن مالك بن دينار عن الحسن مرسلاً. ورواه أبان العطار، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة. ولا يصح مسنداً. والحارث بن وجيه من أهل البصرة ضعيف.

الدليل الثالث

تحت كل شعرة جنابة، وقوله: "وأنقوا البشرة" ففي الفم بشرة، وعليه فيجب ايصال الماء إلى داخل الفم، وهذا يعني: وجوب المضمضة والاستنشاق. وأجيب: بأن الحديث ضعيف، ولو صح لحمل على الشعر النابت على البشرة الظاهرة. وقوله: "وأنقوا البشرة" أي البشرة الظاهرة. الدليل الثالث: (124) ما رواه الدارقطني (¬1) , من طريق بركة بن محمد، أخبرنا يوسف ابن أسباط، عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، (عن ابن سيرين) (¬2) , عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثاً فريضة. [الحديث موضوع] (¬3). ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (1/ 115). (¬2) سقطت كلمة (ابن سيرين) من المطبوع في السنن، والتصحيح من العلل (3/ 108)، وابن عدي في الكامل (2/ 47). (¬3) قال الدارقطني (1/ 115): "هذا باطل لم يحدث به إلا بركة، وبركة هذا يضع الحديث، ثم صوب الدارقطني ما رواه من طريقين عن وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين، قال: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستنشاق في الجنابة ثلاثاً. وتابع وكيعاً عبيد الله بن موسى، عند الدارقطني (1/ 115) قال: ثنا جعفر بن أحمد المؤذن، نا السري بن يحيى، نا عبيد الله بن موسى، نا سفيان عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاستنشاق من الجنابة ثلاثاً.

الدليل الرابع

ومتنه يدل عليه، فإنه المضمضة والاستنشاق ثلاثاً فريضة، ومعلوم أن الواجب على صحة القول به مرة إجماعاً. الدليل الرابع: (125) ما رواه أحمد (¬1) , قال: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله: من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها ماء، فعل الله به كذا وكذا من النار. قال علي: ومن ثم عاديت شعري. [المرفوع ضعيف، وصُحح وقفه] (¬2). ¬

_ وقال الدارقطني في العلل (1/ 104) يرويه بركة بن محمد بن زيد الحلبي، وقيل الأنصاري عن يوسف بن أسباط، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتابعه سليمان بن الربيع النهدي، عن همام بن مسلم، عن الثوري. وكلاهما متروك. وهو وهم. والصواب ما رواه وكيع وغيره، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سن الاستنشاق في الجنابة ثلاثاً. وبركة الحلبي متروك". اهـ. ورواه ابن عدي في الكامل (2/ 47) من طريق بركة بن محمد الحلبي به. وقال ابن الجوزي في التحقيق (1/ 368): "وهو حديث موضوع، لم يروه غير بركة ابن محمد، وكان كذاباً، وقد ذكرته في الموضوعات". (¬1) المسند (1/ 94). (¬2) فيه عطاء بن السائب. وقد اتفقوا على أن شعبة، وسفيان ممن سمع منه قديماً. قال يحيى بن سعيد القطان: ما حدث سفيان وشعبة عن عطاء بن السائب صحيح إلا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ حديثين، كان شعبة يقول: سمعتهما منه بآخرة عن زاذان. الجرح والتعديل (6/ 332)، الضعفاء الصغير (276)، والتاريخ الكبير (6/ 465). واستثنى بعض العلماء حماد بن زيد، وقال: إنه سمع منه قديماً، منهم يحيى بن سعيد القطان، والنسائي، وأبو حاتم. الضعفاء الكبير (3/ 398)، الكاشف - الذهبي (3798)، الكواكب النيرات (ص: 61). واختلفوا في سماع حماد بن سلمة: فقال ابن معين، وأبو داود، والطحاوي، وحمزة الكتاني، وابن الجارود، ويعقوب ابن سفيان وغيرهم: حماد بن سلمة قديم السماع عن عطاء. الكامل (5/ 361)، الكواكب النيرات (ص: 61). وخالفهم عبد الحق في الأحكام، فقال: سمع منه بعد الاختلاط، واعتمد كلام العقيلي. ورجح الحافظ في التهذيب (7/ 183) أن حماداً سمع من عطاء قبل الاختلاط وبعده، إلا أنه في التلخيص (1/ 248) ح 190 رجح أن سماع حماد بن سلمة كان قبل الاختلاط. وكتب لي الشيخ ناصر الفهد، يقول: تتبعت أقوال عبد الحق في الأحكام في الرجال والأحاديث فوجدته غالباً يقلد ابن حزم في كثير من أقواله وأحكامه، ومنها هذا الحكم، فإن ابن حزم اعتمد كلام العقيلي في أنه لم يصح سماع أحد من عطاء قبل الاختلاط إلا سفيان وشعبة وحماد ابن زيد". اهـ كلامه وفقه الله وسواء رجحنا أن سماع حماد بن سلمة كان قبل الاختلاط، أو بعده، فقد تابعه شعبة، وحتى إن رجحنا أن حديث شعبة هذا هو أحد الحديثين الذين سمعهما شعبة من عطاء بعد اختلاطه، فإن متابعة حماد بن سلمة تقوي رواية شعبة. وقد رواه حماد بن زيد عن عطاء بن السائب به موقوفاً على عليّ. وابن زيد أرجح من ابن سلمة، فمخالفة حماد بن سلمة لحماد بن زيد تجعل رواية حماد ابن سلمة شاذة لمخالفته من هو أوثق. وإعلال رواية حماد بن سلمة بالمخالفة عندي أقوى من إعلالها بأنه سمع من عطاء بعد الاختلاط، خاصة أن أكثر العلماء على أن سماعه من عطاء كان قبل الاختلاط. فإن قيل: أليس شعبة وحماد بن سلمة مجتمعين أرجح من حماد بن زيد؟ فالجواب: أن حماد بن زيد أرجح من حماد بن سلمة في الحفظ، فحماد بن سلمة تجنب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ البخاري الاحتجاج به، بخلاف حماد بن زيد فحديثه في الصحيحين، وأما متابعة شعبه فقد كان من الممكن أن يجعل الحديث محفوظاً بها لولا ما قيل: إن هذا الحديث رواه شعبة عن عطاء بعد الاختلاط فبقيت رواية حماد بن زيد أرجح، ويكون الحديث موقوفا على عليّ. ورواية شعبة التي ذكرتها، قال يحيى القطان: لم أسمع أحداً يقول في حديثه القديم شيئا - يعني: عن عطاء بن السائب - وحديث سفيان وشعبة عنه صحيح، إلا حديثين من حديث شعبة سمعهما بآخره عن زاذان. قال ابن الكيال: والعجب منه أنه لم يذكرهما. قال عبد القيوم محقق الكواكب النيرات: وقد بذلت مجهودي أن اقف على الحديثين الذين سمعهما شعبة عن عطاء، عن زاذان، فوجدت في غرائب شعبه لابن المظفر حديثاً واحداً بهذا السند، وهو حديث علي رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ترك موضع شعرة من جسده من جنابة لم يصبها الماء فعل به كذا وكذا من النار. قال عليّ: فمن ثم عاديت رأسي. غرائب شعبة [ل 26 - أ]. ولم أجد الحديث الثاني. اهـ [تخريج الحديث]: الحديث أخرجه الطيالسي (175): حدثنا حماد بن سلمة به، وأخرجه عبد الله بن أحمد (1/ 133) في زوائد المسند. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 96) حدثنا أسود بن عامر، قال: ثنا حماد بن سلمة به. وأخرجه الدارمي (751) أخبرنا محمد بن الفضل، حدثنا حماد بن سلمة به. وأخرجه أبو داود (249) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد به. وأخرجه ابن ماجه (599) من طريق ابن أبي شيبة به. وأخرجه البيهقي (1/ 175) من طريق حماد بن سلمة به. وفي العلل للدارقطني (3/ 208) قال: "يرويه عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي. حدث به عنه حماد بن سلمة، وشعبة وحفص بن عمر. ورواه عبد الله بن رشيد، عن حفص بن غياث، عن الأعمش وليث، عن زاذان عن علي.

الدليل الخامس

وجه الاستدلال: قوله: "من ترك موضع شعرة .. "، فكلمة "شعرة" نكرة في سياق الشرط، فيعم كل شعرة، حتى شعر الأنف. وأجيب: بأن الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته فإنه محمول على الشعر الظاهر، ولذلك قال علي بن أبي طالب: ومن ثم عاديت شعر رأسي. الدليل الخامس: قالوا: الفم والأنف عضوان يجب غسلهما من النجاسة، فكذا من الجنابة كما في الأعضاء. وأجيب بما يلي: قال النووي: "هذا منتقض بداخل العين، أما قولهم: داخل الفم والأنف ¬

_ وروي عن حماد بن زيد، عن عطاء، عن زاذان عن علي موقوفاً. وكذلك قال الأسود بن عامر، عن حماد بن سلمة. ورفعه عفان عن حماد بن سلمة، وشعبة عن عطاء، وعطاء تغير حفظه، والمحفوظ عنه عفان عن حماد قال: سمعته يذكر عن عطاء بن السائب فصحفه الراوي فقال: شعبة. وقال ابن حجر في التلخيص (1/ 249) ح 190: وإسناده صحيح، فإنه من رواية عطاء ابن السائب. وقد سمع منه حماد بن سلمة قبل الاختلاط، لكن قيل إن الصواب وقفه على علي. وقال الصنعاني في سبل السلام (1/ 93): "وسبب اختلاف الأئمة في تصحيحه وتضعيفه أن عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره، فمن روى عنه قبل اختلاطه فروايته عنه صحيحة، ومن روى عنه بعد اختلاطه فروايته عنه ضعيفة، وحديث عليّ هذا اختلفوا هل رواه قبل الاختلاط أو بعده؟. فلذا اختلفو في تصحيحه وتضعيفه حتى يتبين الحال فيه. وقيل: الصواب وقفه على عليّ رضي الله عنه".

أدلة القائلين بأن المضمضة والاستنشاق سنة في غسل الحيض والجنابة.

في حكم ظاهر البدن، بدليل عدم الفطر، ووجوب غسل نجاستهما. فجوابه: أنه لا يلزم من كونهما في حكم الظاهر في هذين الأمرين أنه يجب غسلهما، فإن داخل العين كذلك بالاتفاق، فإنه لا يفطر بوضع طعام فيها، ولا يجب غسلها في الطهارة، ويحكم بنجاستها بوقوع نجاسة فيها. وأما قول: لا تنجس العين عند أبي حنيفة، فإنه لا يوجب غسلها. قال الشيخ أبو حامد: قلنا هذا غلط، فإن العين عنده تنجس، وإنما لا يجب غسلها عنده لكون النجاسة الواقعة فيها لا تبلغ قدر درهم ...... " الخ كلامه رحمه الله (¬1) أدلة القائلين بأن المضمضة والاستنشاق سنة في غسل الحيض والجنابة. استدلوا بأدلة كثيرة سقناها في مسألة: هل تكفي نية الطهارة الكبرى، عن نية الطهارة الصغرى، وذكرنا تلك الأدلة للاحتجاج للمالكية والشافعية على أن نية الطهارة الكبرى كافية في رفع الحدثين: الأصغر والأكبر. ومن تلك الأدلة: قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬2). ولم يذكر مضمضة ولا استنشاقاً. (126) ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمران بن حصين الطويل للرجل الذي أصابه جنابة ولا ماء: فناوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماءً، وقال له: "اذهب فأفرغه عليك". ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 403). (¬2) النساء آية (43).

رواه البخاري (¬1). (127) ومنها ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم عن ابن عيينة - قال إسحاق أخبرنا سفيان - عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة قال لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬2). (128) وحديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته. [وهو حديث حسن]، ولم يطلب مضمضة ولا استنشاقاً (¬3). وإذا كان الوضوء ليس واجباً في الطهارة الكبرى، فكذلك المضمضة والاستنشاق لأنهما جزء منه. ولا يقال: إذا وجبت المضمضة والاستنشاق في الطهارة الصغرى وجبت في الطهارة الكبرى من باب أولى، لأن هناك فروضاً في الطهارة الصغرى لا تجب في الكبرى كالترتيب، والموالاة، وهذا القول هو الراجح. والله أعلم. ¬

_ (¬1) البخاري (344)، والحديث في مسلم (682) باختلاف يسير. (¬2) صحيح مسلم (330). (¬3) راجع تخريجه في بحث (هل تكفي نية الطهارة الكبرى عن نية الطهارة الصغرى).

دليل من قال: بوجوب المضمضة والاستنشاق في الطهارتين الصغرى والكبرى.

دليل من قال: بوجوب المضمضة والاستنشاق في الطهارتين الصغرى والكبرى. هذا القول هو مذهب الحنابلة، ولما كان دليل الحنابلة في وجوب المضمضة والاستنشاق في الطهارة الكبرى اعتماداً على وجوبهما في الطهارة الصغرى أصبحت مضطراً لذكر أدلتهم على وجوب المضمضة الاستنشاق في الطهارة الصغرى لينظر أولاً هل يصح القول بوجوبهما في الطهارة الصغرى؟ وإذا صح هل يسلم لهم قياس الكبرى على الصغرى؟ وإليك أدلتهم. الدليل الأول: (129) ما رواه أبو داود (¬1)، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، قالوا: ثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق - أو في وفد بني المنتفق - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم نصادفه في منزله وصادفنا عائشة أم المؤمنين قال: فأمرت لنا بخزيرة فصنعت لنا، قال: وأتينا بقناع - ولم يقل قتيبة القناع - والقناع الطبق فيه تمر ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل أصبتم شيئا، أو أمر لكم بشيء، قال: قلنا: نعم يا رسول الله قال فبينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح ومعه سخلة تيعر، فقال: ما ولدت يا فلان؟ قال: بهمة، قال: فاذبح لنا مكانها شاة، ثم قال: لا تحسِبن ولم يقل لا تحسَبن أنا من أجلك ذبحناها لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد فإذا ولد الراعي بهمة ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (142).

ذبحنا مكانها شاة، قال: قلت: يا رسول الله إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا يعني البذاء، قال: فطلقها إذاً. قال: قلت يا رسول الله إن لها صحبة، ولي منها ولد قال: فمرها يقول عظها فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك كضربك أميّتك. فقلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما. الشاهد من هذا الحديث الطويل، قوله "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً". وفي رواية لأبي داود، وزاد فيه: "إذا توضأت فمضمض" (¬1). [الحديث صحيح والزيادة شاذة] (¬2). ¬

_ (¬1) السنن (144). (¬2) الحديث مداره على إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه. ورجاله ثقات، ويرويه عن إسماعيل جماعة منهم يحيى بن سليم، وسفيان الثوري، وابن جريج، وداود ابن عبد الرحمن العطار، والحسن بن علي. ويرويه ابن جريج ويحيى بن سليم مطولاً ومختصراً. ويرويه الثوري مختصراً، إلا أن رواية الثوري عند عبد الرزاق (79) والبيهقي (1/ 50) فيها إشارة إلى تعمد اختصارها، فإن لفظه قال: عن لقيط بن صبرة أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر أشياء، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع .. الحديث. فقوله: "فذكر أشياء" هذه الأشياء المبهمة هي ما جاء مفصلاً في رواية ابن جريج ويحيى ابن سليم المطولة. ثم إن في رواية داود بن عبد الرحمن العطار، عند الحاكم (1/ 148). ورواية الحسن بن علي عند الطيالسي (1341) النهي عن ضرب الضعينة كما يضرب الأمة، وهي جزء من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الرواية المطولة مما يشهد أن الحديث لم يكن مقتصراً على إسباغ الوضوء، بل إن البخاري في الأدب المفرد قد أخرج الرواية المطولة من طريق داود بن عبد الرحمن العطار، فهذه متابعة ثانية على ذكر الرواية مطولة، ويكفي متابعة ابن جريج ليحيى بن سليم على الرواية المطولة لنعلم أن الرواية بقصتها الطويلة محفوظة في الحديث. إلا أن الحديث فيه زيادتان انفرد فيها بعض الرواة، ولم يُتابع عليها، فأجدني أرجح كونهما شاذتين. الأولى: رواية أبي داود: "إذا توضأت فمضمض". الثانية: زيادة: "إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً" فزاد فيه المبالغة في المضمضة. وسوف أبين وجه كونهما شاذتين بعد تخريج الحديث. [تخريج الحديث] الحديث كما سبق مداره على إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه مرفوعاً، وله طرق كثيرة إلى إسماعيل. [الطريق الأول: يحيى بن سليم عن إسماعيل به] رواه ابن أبي شيبة (1/ 33, 19) حدثنا يحيى بن سليم به. مختصراً بلفظ الباب ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (407) وابن حبان (1087). وأخرجه أبو داود (142) حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، حدثنا يحيى بن سليم به مطولاً. وأخرجه أبو داود (2366) والنسائي (87) كلاهما عن قتيبة بن سعيد به مختصراً. فصار قتيبة تارة يذكر الحديث بطوله، وتارة يختصره. وأخرجه النسائي (114) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثني يحيى بن سليم به مختصراً. وأخرجه الترمذي (788) حدثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم البغدادي الوراق، وأبو عمار الحسين بن حريت قالا: حدثنا يحيى بن سليم به مختصراً. وأخرجه ابن خزيمة (150) من طرق كثيرة عن يحيى بن سليم به مختصراً. وأخرجه ابن حبان (1054) من طريق شريح بن يونس، قال: حدثنا يحيى بن سليم به

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ مطولاً. وأخرجه الحاكم (1/ 148) ومن طريقه البيهقي (1/ 76) من طريق يحيى بن يحيى عن يحيى بن سليم به مختصراً. [الطريق الثاني: داود بن عبد الرحمن العطار، عن إسماعيل بن كثير به] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (166) حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا داود بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن، قال: سمعت إسماعيل به يذكر القصة. وأخرجه الحاكم (1/ 148) من طريق سعيد بن منصور، حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار به. والعطار ثقة. [الطريق الثالث: الحسن بن علي، عن إسماعيل به] أخرجه أبو داود الطيالسي (1341) حدثنا الحسن بن علي أبي جعفر، عن إسماعيل به بزيادة: "ولا تضرب ضعينتك كما تضرب أمتك". [الطريق الرابع: سفيان الثوري عن إسماعيل به] أخرجه عبد الرزاق (79) عن الثوري به، بلفظ: "أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر أشياء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وإذا استنثرت فأبلغ إلا أن تكون صائماً". وقوله: "إذا استنثرت" المقصود به الاستنشاق، لأن المبالغة في الاستنثار لا تؤثر في الصائم، فالذي يؤثر هو الاستنشاق، وهو جذب الماء بقوة إلى داخل الأنف. وأخرجه أحمد (4/ 33) حدثنا وكيع، ثنا سفيان به بلفظ: "إذا توضأت فخلل الأصابع". وأخرجه الترمذي (38) حدثنا قتيبة وهناد، قالا: حدثنا وكيع عن سفيان به. وأخرجه النسائي (87) أنبأنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا وكيع به بلفظ: "أسبغ الوضوء، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً". وأخرجه النسائي (114) أنبأنا محمد بن رافع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان به، مختصراً. وأخرجه البيهقي (1/ 50) من طريق محمد بن كثير، حدثنا سفيان به. واختلف على سفيان بهذا اللفظ موافقة لرواية يحيى بن سليم، وداود بن عبد الرحمن العطار، وابن جريج والحسن بن علي عن إسماعيل به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ورواه أبو بشر الدولابي كما في كتاب (الوهم والإيهام) (5/ 593) فخالف فيه، قال ثنا محمد بن بشار ثنا ابن مهدي، عن سفيان عن إسماعيل به بلفظ: "إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً" فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة. وذكره الزيلعي في نصب الراية (1/ 16) وصححه ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (5/ 193) وقال: ابن مهدي أحفظ من وكيع وأجل قدراً. وهذا الكلام من ابن القطان فيه نظر كبير. أولاً: لأن وكيعاً تابعه يحيى بن آدم، ومحمد بن كثير، ولم يتابع ابن مهدي. ثانياً: أن رواية وكيع، ويحيى بن آدم، ومحمد بن كثير عن سفيان موافقة لرواية يحيى ابن سليم، وابن جريج، وداود بن عبد الرحمن العطار، والحسن بن علي في روايتهم عن إسماعيل بن كثير. ثالثاً: إن المخالفة قد لا تكون من ابن المهدي، حتى تكون المقارنة بينه وبين غيره. والذي أميل إليه أن المخالفة من أبي بشر الدولابي، فقد قال الدارقطني: تكلموا فيه. وقال أبو سعيد بن يونس: إنه من أهل الصنعة وكان يضعف. وقال ابن عدي: متهم. انظر شذرات الذهب (2/ 260). [الطريق الخامس: ابن جريج عن إسماعيل بن كثير به] أخرجه عبد الرزاق (80): أخبرنا ابن جريج، ثنا إسماعيل به، وذكره بالقصة مطولاً وأخرجه أحمد (4/ 211) حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج به. وأخرجه الحاكم (1/ 148) من طريق حجاج بن محمد ويحيى بن سعيد عن ابن جريج حدثنا إسماعيل به. وأخرجه البيهقي (1/ 52، 51) من طريق مسدد، عن يحيى بن سعيد به. واختلف على ابن جريج فيه: فرواه عنه جماعة: منهم يحيى بن سعيد القطان. كما في رواية أحمد (4/ 211)، والحاكم (1/ 148)، والبيهقي (1/ 51). الثاني: عبد الرزاق كما في المصنف (80). الثالث: حجاج بن محمد كما عند الحاكم (1/ 148).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (130) ما رواه الدارقطني، قال: ثنا أبو بكر بن أبي داود، ثنا الحسين بن علي بن مهران، نا عصام بن يوسف، نا عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه (¬1). [ضعيف، وروي عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وهو على ضعفه أرجح من المتصل] (¬2). ¬

_ وفيه: المبالغة بالاستنشاق إلا للصائم، ولم يذكروا المضمضة. وخالفهم أبو عاصم (الضحاك بن مخلد) , فرواه عن ابن جريج، واختلف على أبي عاصم فيه. فرواه الدارمي (705) عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن إسماعيل به بلفظ: "إذا توضأت فأسبغ وضوءك، وخلل بين أصابعك" ولم يذكر المضمضة كرواية الجماعة. ورواه أبو داود (144) حدثنا محمد بن يحيي بن فارس، قال حدثنا أبو عاصم به. وزاد: "إذا توضأت فمضمض" فخالف فيه جميع من رواه عن ابن جريج، كمثل يحيى ابن سعيد القطان، وعبد الرزاق، وحجاج بن محمد، بل خالف جميع من رواه عن إسماعيل ابن كثير، كسفيان الثوري، ويحيى بن سليم, وداود بن عبد الرحمن العطار والحسن بن علي فكلهم لم يذكروا قوله: "إذا توضأت فمضمض". ولهذا حكمت بشذوذها. والله أعلم. وإذا كانت شاذة لم يكن فيه دليل على وجوب المضمضة. (¬1) سنن الدارقطني (1/ 84). (¬2) دراسة الإسناد: الأول: أبو بكر بن أبي داود، واسمه عبد الله بن سليمان بن الأشعث، له ترجمة في تاريخ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ بغداد (9/ 464) وفيه كان فهماً عالماً حافظاً. وفي لسان الميزان (3/ 293) الحافظ، الثقة، صاحب التصانيف، وثقه الدارقطني، وقال: إلا أنه كثير الخطأ في الكلام على الحديث. ولم أتعرض لما قيل فيه؛ لأنه كلام صادر من الأقران، وقال الحافظ تعليقاً على من جرحه، قال: لا يسمع قول الأعداء بعضهم ببعض. وهذا هو الحق. الثاني: الحسين بن علي بن مهران. ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/ 56) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. الثالث عصام بن يوسف البلخي. قال ابن عدي: روى عصام عن الثوري، وغيره أحاديث لا يتابع عليها. الكامل (5/ 371). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان صاحب حديث، ثبتاً في الرواية. ربما أخطأ الثقات (8/ 521). وقال ابن سعد: كان عندهم ضعيفاً في الحديث. لسان الميزان (4/ 168). وقال الخليلي كما في الإرشاد (3/ 937): "وهو مشهور، لكن البخاري لم يخرجه في التاريخ، ولا في الصحيح، وهو صدوق، سمع منه القدماء أبو شهاب معمر بن محمد وأقرانه، ولا يروي حديثاً منكراً. الثالث: سليمان بن موسى. اختلف فيه، وقد حررت الكلام فيه فيما سبق انظر الحديث رقم (27). وفي التقريب: صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل. وبقية الإسناد: رجاله كلهم ثقات. والحديث رواه البيهقي (1/ 52) من طريق أبي بكر بن أبي داود (عبد الله ابن سليمان ابن الأشعث) وقال: رواه إسماعيل بن بشر البلخي، عن عصام نحوه إلا أنه قال: من الوضوء الذي لا تتم الصلاة إلا به. والحديث له علتان أو أكثر. الأولى: عنعنة ابن جريج وهو مدلس مكثر. الثانية: المخالفة في وصله وإرساله، فقد رواه الدارقطني (1/ 84): حدثنا محمد بن مخلد، نا محمد بن إسماعيل الحساني، نا وكيع، عن ابن جريج عن

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (131) ما رواه الدارقطني: حدثنا علي بن الفضل بن طاهر البلخي، نا أحمد بن حمدان العائذي أبو الحسن الأنطاكي، نا الحسين بن الجنيد الدامغاني - وكان رجلاً صالحاً - نا علي بن يونس عن إبراهيم بن طهمان، عن جابر، عن ¬

_ سليمان ابن موسى مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من توضأ فليتمضمض وليستنشق". وهذا الإسناد فيه عنعنة ابن جريج وهو مدلس، إلا أن رجاله أقوى من رجال المتصل. - فمحمد بن مخلد قال الدارقطني فيه: ثقة مأمون. وقال الذهبي: كان معروفاً بالفقه والصلاح، والاجتهاد في الطلب، انظر تذكرة الحفاظ (3/ 828). - محمد بن إسماعيل الحساني: وثقه الدارقطني. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أحمد بن سنان: صدوق عندنا. وقال الذهبي في الميزان (3/ 481): غلط غلطة ضخمة، فروى الحديث بسنده إلى جابر: "كنا إذا حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان". والصواب رواية أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن ابن نمير، ولفظه: حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن النساء ورمينا عنهم. وبقي من الإسناد: ابن جريج وهو ثقة مدلس. وسليمان بن موسى وسبقت ترجمته. فصار الحديث يرويه عصام بن يوسف عن ابن المبارك، ويرويه وكيع كلاهما, عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، وعصام يرفعه إلى عائشة، ووكيع يرسله عن سليمان بن موسى. قال الدارقطني (1/ 48): تفرد به عصام، عن ابن المبارك، ووهم فيه، والصواب عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحسب عصاماً حدث به من حفظه فاختلط عليه، فاشتبه عليه بإسناد حديث: ابن جريج عن سليمان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل". والله أعلم. وقال البيهقي (1/ 52): "وهكذا - يعني رواه مرسلاً - سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وغيرهما عن ابن جريج".

عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا يتم الوضوء إلا بهما، والأذنان من الرأس" (¬1). [الحديث ضعيف جداً] (¬2). ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (1/ 100). (¬2) في إسناده جابر بن يزيد الجعفي. وثقه بعضهم، ورماه بالكذب آخرون. قال شعبة: جابر الجعفي صدوق. الجرح والتعديل (2/ 497). وقال الثوري: كان جابر ورعاً في الحديث، ما رأيت أورع من جابر. المرجع السابق. وقال زهير بن معاوية: كان إذا قال: سمعت، أو سألت، فهو من أصدق الناس. تهذيب الكمال (4/ 467). وقال وكيع: مهما شككتم في شيء، فلا تشكوا في أن جابراً ثقة. المرجع السابق. واتهمه بالكذب يحيى بن معين في رواية، كما في ضعفاء العقيلي (1/ 191). واتهمه إسماعيل بن أبي خالد، وأبي حنيفة وآخرون. وقال أبو حنيفة: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفى، ما أتيته بشيء قط من رأى إلا جاءني فيه بحديث وزعم أنه عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينطق بها. المجروحين (1/ 208)، الكامل (2/ 113). قال الشعبي: يا جابر لا تموت حتي تكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال إسماعيل بن أبي خالد فما مضت الأيام حتي اتهم بالكذب. التاريخ الكبير - البخاري (2/ 210). وقال زائدة: كان جابر الجعفي كذاباً، يؤمن بالرجعة. الكامل (2/ 113)، ضعفاء العقيلي (1/ 191). قال: عمرو بن علي يقول كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن جابر الجعفي وكان عبد الرحمن يحدثنا عنه قبل ذلك ثم تركه. الجرح والتعديل (2/ 497). قال الدوري سمعت يحيى بن معين يقول جابر الجعفي هو ضعيف الكامل (2/ 113).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (132) ما رواه الدارقطني، من طريق هدبة بن خالد، وداود بن المحبر، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة والاستنشاق (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬

_ وقال أيضاً: جابر الجعفي لا يكتب حديثه ولا كرامة المجروحين (1/ 208). واتهمه بالكذب في رواية. انظر تهذيب التهذيب (2/ 41). قال أبو زرعة جابر الجعفي لين انظر الكامل لابن عدي (2/ 113). قال ابن حبان: كان سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبأ وكان يقول إن عليا عليه السلام يرجع إلى الدنيا. ثم قال: فإن احتج محتج بأن شعبة والثوري رويا عنه فإن الثوري ليس من مذهبه ترك الرواية عن الضعفاء بل كان يؤدي الحديث على ما سمع لأن يرغب الناس في كتابة الأخبار ويطلبوها في المدن والأمصار - قلت: بل وثقه كما قدمت - ثم قال ابن حبان: وأما شعبة وغيره من شيوخنا فإنهم رأوا عنده أشياء لم يصبروا عنها وكتبوها ليعرفوها فربما ذكر أحدهم عنه الشيء بعد الشيء على جهة التعجب فتداوله الناس والدليل على صحة ما قلنا أن محمد بن المنذر قال ثنا أحمد بن منصور ثنا نعيم بن حماد قال سمعت وكيعا يقول قلت لشعبة مالك تركت فلانا وفلانا ورويت عن جابر الجعفي قال روى أشياء لم نصبر عنها. المجروحين (1/ 208). وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (2/ 41). وقال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث. تهذيب التهذيب (2/ 41). ومع شدة ضعف جابر فقد اختلف عليه فيه، فرواه الدارقطني (1/ 101) من طريق أبي مطيع (الحكم بن عبد الله) عن إبراهيم عن طهمان، عن جابر، عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. قال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب. (¬1) سنن الدارقطني (1/ 116). (¬2) قال الدارقطني (1/ 116): لم يسنده عن حماد غير هذين، وغيرهما يرويه عنه، عن عمار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يذكر أبا هريرة. وقال البيهقي (1/ 52) بأن هدبة يرسله مرة، ويوصله أخرى، وقد رواه غير هدبة مرسلاً لم يختلف عليه. اهـ. وأما متابعة داود بن المحبر فلا يفرح بها، لأنه ضعيف جداً. تقدمت ترجمته في حاشية حديث رقم (19) فارجع إليه غير مأمور. فإذا كان هدبة قد اختلف عليه في وصله وإرساله، ومتابعة داود وجودها كعدمها، فلا شك أن رواية الإرسال عن هدبة أرجح من رواية الوصل لموافقتها رواية غيره عن حماد. والله أعلم. ورجح ابن عبد الهادي قي التنقيح (1/ 366) رواية الإرسال، وقال: "إذا روى بعض الثقات حديثاً فأرسله، ورواه بعضهم فأسنده، فقد اختلف أهل الحديث في ذلك، فحكى الخطيب أن أكثر أصحاب الحديث يرون أن الحكم في هذا للمرسل. وعن بعضهم أن الحكم للأكثر. وعن بعضهم أن الحكم للأحفظ. وصحح الخطيب أن الحكم لمن أسنده إذا كان عدلاً ضابطاً، وسواء كان المخالف واحداً أو جماعة. والصحيح أن ذلك يختلف، فتارة يكون الحكم للمرسل، وتارة يكون للمسند، وتارة للأحفظ، ورواية من أرسل هذا أشبه بالصواب، وقد صحح الدارقطني وغيره إرساله. والله أعلم.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: أحاديث الأمر بالاستنشاق، هي دليل على وجوب الاستنشاق صراحة والمضمضة ضمناً، لأنهما كالعضو الواحد. فإيجاب أحدهما إيجاب للآخر. ألا ترى أنه لا يفصل بين المضمضة والاستنشاق، ومن عادة الأعضاء المستقلة في الوضوء ألا ينتقل إلى عضو حتى يفرغ من العضو الذي قبله،

بخلاف المضمضة والاستنشاق فإنه يمضمض ثم يستنشق ثم يرجع إلى المضمضة فالاستنشاق وهكذا. فهذا يدل على أنهما في حكم العضو الواحد، فالأمر بأحدهما أمر بالآخر. ومن الأحاديث الآمرة بالاستنشاق والاستنثار: (133) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده. (134) وفى رواية لمسلم، قال: حدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق ابن همام، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، قل: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر أحاديث منها وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر" (¬1). وحاول النووي أن يحمل الأمر على الاستحباب، مع أنه خلاف الأصل، فقال: "من لم يوجبه حمل الأمر على الندب، بدليل أن المأمور به حقيقة وهو الانتثار ليس بواجب بالاتفاق، فإن قالوا: ففي الرواية الأخرى: إذا توضأ فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر، فهذا فيه دلالة ظاهرة للوجوب، لأن حمله على الندب محتم ليجمع بينه وبين الأدلة الدالة على الاستحباب". ¬

_ (¬1) البخاري (162) ومسلم (237).

وتعقب الشوكاني في النيل (¬1) "دعوى النووي حكاية الإجماع على أن الانتثار ليس بواجب فقال: "ذهب أحمد، وإسحاق، وأبو عبيد وأبو ثور، وابن المنذر، ومن أهل البيت الهادي، والقاسم، والمؤيد بالله إلى وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار، وبه قال ابن أبي ليلى، وحماد بن سليمان". ثم قال الشوكاني: "وما نقل من الإجماع على عدم وجوب الاستنثار متعقب بهذا" (¬2). قلت: يسلم بوجوب الاستنشاق للأمر به، لكن لا يسلم قياس المضمضة على الاستنشاق، فإن الأنف يحتاج إلى التنظيف أكثر من الفم، وهو موضع أذى، وهو بمثابة منق للهواء، مما يحمله من أتربة وغبار، فيحتاج إلى تعاهده بالتنظيف، ولذلك أمر المسلم إذا استيقظ من نوم الليل كما في الصحيحين أن يستنثر ثلاثاً، بينما الفم هو نظيف أبداً بما فيه من اللعاب، ولذا لم أقف على حديث صحيح يأمر بالمضمضة بخلاف الاستنشاق. هذه أدلة الحنابلة على وجوب المضمضة والاستنشاق، ورأينا أن الأدلة على وجوب المضمضة ضعيفة، فإذا كانت كذلك فلا يصح قياس الحدث الأكبر ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (1/ 177). (¬2) لم أقف على قول لأحمد يقول بوجوب الاستنثار في كتب الحنابلة كالمغني، والفروع، والإنصاف، وغيرهم. وأما أبو عبيد فالموجود في كتابه (الطهور ص: 337) وجوب المضمضة والاستنشاق، والاستنشاق آكد. وكذلك الثابت عن ابن المنذر كما في كتابه الأوسط (1/ 379) وجوب الاستنشاق دون المضمضة، كما سوف أعرض رأيه عند ذكر هذا القول.

دليل من قال بوجوب الاستنشاق دون المضمضة.

على الحدث الأصغر، على أنها لو كانت الأدلة صحيحة وسالمة من القدح لم يسلم لهم قياس الحدث الأكبر على الأصغر، فإن هناك فروضاً في الحدث الأصغر لا تجب في الحدث الأكبر، والعكس، وجميع أحاديث الغسل ليس فيها الأمر في المضمضة والاستنشاق، ولو كانا واجبين لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. دليل من قال بوجوب الاستنشاق دون المضمضة. (135) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر. ورواه مسلم (¬1). قال ابن المنذر: "والذي به نقول: إيجاب الاستنشاق خاصة دون المضمضة، لثبوت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالاستنشاق، ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر بالمضمضة" (¬2). وقال ابن عبد البر: "وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل المضمضة ولم يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها، ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنثار وأمر به، وأمره على الوجوب أبداً، إلا أن يتبين غير ذلك من مراده". اهـ. (¬3) وهذا القول هو أسعد الأقوال بالوقوف عند النص وعدم تجاوزه إلى غيره، ¬

_ (¬1) البخاري (162) ومسلم (237). (¬2) الأوسط (1/ 379). (¬3) التمهيد كما في فتح البر (3/ 208).

دليل من قال: المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء سنة في الغسل.

إلا أنه يصح في الوضوء دون الغسل، ووجوب الاستنشاق في الوضوء لا يصح دليلاً على وجوبه في الغسل. فتأمل. دليل من قال: المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء سنة في الغسل. أدلة هذا القول مركبة من أدلة قولين قد سبقا. فأدلتهم على وجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء هي أدلة الحنابلة، وأدلتهم على كونها سنة في الغسل هي أدلة المالكية والشافعية. والراجح عندي أن المضمضة سنة في الوضوء والغسل، وأما الاستنشاق فواجب في الوضوء سنة في الغسل، هذا ما تدل عليه النصوص، أما القياس في العبادات والتكلف بإلحاق المضمضة بالاستنشاق فلا يقوم على أصل صحيح. والله أعلم.

المسألة الخامسة: إذا توضأت المرأة لغسل الحيض فهل تمسح رأسها أم تغسله

المسألة الخامسة: إذا توضأت المرأة لغسل الحيض فهل تمسح رأسها أم تغسله وهذه المسألة هي مقيسة على غسل الجنابة. فإذا توضأ المجنب وبلغ في الوضوء رأسه فهل يمسحه؟ أو لا داعي لمسحه ما دام أنه سوف يغسله ويكتفي بغسله؟ أما الوضوء بدون اغتسال فالمشروع فيه المسح، واختلفوا: هل يجزئ الغسل؟ على ثلاثة أقوال: الجواز مع الكراهة، والمنع مطلقاً، والجواز إن مر بيده على رأسه وليس هذا موضع بحثها. أما في الاغتسال للجنابة والحيض. فالحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، يرون مسح الرأس ¬

_ (¬1) العناية المطبوع مع شرح فتح القدير (1/ 58)، مراقي الفلاح (ص: 44)، بدائع الصنائع (1/ 35)، البحر الرائق (1/ 52)، تبيين الحقائق (1/ 14)، شرح فتح القدير (1/ 58, 57). (¬2) الشرح الكبير مطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 137)، المتقى للباجي (1/ 93)، مواهب الجليل (1/ 314)، ورجح في تنوير المقالة في شح الرسالة (1/ 540) أنه لا يمسح رأسه إذ لا فائدة في المسح مع الغسل، منح الجليل (1/ 128). (¬3) مغني المحتاج (1/ 73)، نهاية المحتاج (1/ 225)، روضة الطالبين (1/ 89)، الحاوي (1/ 219). (¬4) كشاف القناع (1/ 152)، الفروع (1/ 204)، الإنصاف (1/ 252)، معونة أولي النهى شرح المنتهى (1/ 403)، المغني (1/ 287).

لأنهم يرون إتمام الوضوء قبل غسل الرأس وإفاضة الماء. وذكر ابن رجب: عن ابن عمر بأنه لا يمسح رأسه، بل يصب عليه الماء صباً ويكتفي بذلك، ونص عليه إسحاق (¬1)، ونقله أبو داود عن أحمد كما في المسائل (¬2). وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬3)، ورواية ابن وهب عن مالك (¬4). ولم يأت دليل صريح بمسح الرأس في الوضوء، وإنما الأدلة إما أن تذكر بأنه توضأ وضوءه للصلاة، وهذا مجمل، أو تذكر بأنه توضأ غير رجليه، وهذا الاستثناء قد يكون فيه دلالة على مسح الرأس، وقد يكون الراوي لم يستثن الرأس لأنه قد غسل وهو مسح وزيادة، وأما الأحاديث التي تأتي صريحة بذكر الوضوء مفصلاً فإنها تذكر غسل الرأس بدل مسحه، فهل يقال إن في الرأس صفتين: له أن يمسحه ثم يغسله، وله أن يكتفي بغسله. أو يقال يجب رد الأحاديث المجملة بذكر الوضوء إلى الأحاديث التي فصلت الوضوء وذكرت غسل الرأس ولم تذكر مسحه، المسألة محتملة، وإن كنت أميل إلى الاقتصار على غسل الرأس، لأنه لا معنى لمسحه وهو سوف ¬

_ (¬1) في شرحه للبخاري (1/ 239). (¬2) (ص: 19). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 35)، البحر الرائق (1/ 52)، العناية (1/ 58)، شرح فتح القدير (1/ 58, 57). (¬4) المنتقى (1/ 93)، تنوير المقالة (1/ 540).

يغسل فرضاً. (136) وهذا نص حديث ميمونة كما رواه البخاري، قال: حدثنا موسى ابن إسماعيل، قال: حدثنا عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: قالت ميمونة رضي الله عنها: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه فغسل قدميه (¬1). وهو في مسلم (¬2) بغير هذا اللفظ. وأما حديث عائشة ففيه: "توضأ وضوءه للصلاة" فحملها بعضهم على أن المراد الوضوء الكامل بما في ذلك مسح الرأس. (137) لما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليها الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده رواه البخارى واللفظ له ومسلم (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (257). (¬2) صحيح مسلم (317). (¬3) البخاري (272) ومسلم (316).

فقولها: "توضأ وضوءه للصلاة". قد يراد به الوضوء الكامل، وقد يقال باعتبار الأغلب، فهذه ميمونة رضي الله عنها تقول: "توضأ وضوءه للصلاة". والمراد غير رجليه. فإذا صح إطلاق الوضوء على غسل جميع أعضاء الوضوء غير الرجلين، صح إطلاق الوضوء على الوضوء الكامل غير الرجلين والرأس، خاصة أن الرأس لم يترك بل غسل غسلاً وهو مسح وزيادة، وكوننا نحمل حديث عائشة على حديث ميمونة في صفة غسل الرأس أولى من حمله على صفتين، خاصة أننا لم نقف على حديث واحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرح بالمسح للرأس. والله أعلم. وحديث ميمونة الذي فيه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ وضوءه للصلاة وتبين أنه لم يغسل رجليه إلا في آخر غسله رواه البخارى، (138) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري اللفظ له ومسلم (¬1). فإذا صح أن تقول ميمونة: توضأ وضوءه للصلاة والمراد غير رجليه صح أن قول عائشة: "توضأ وضوءه للصلاة" أي وغسل رأسه بدل مسحه، وحمل ما ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (260)، ومسلم (317).

أجمل من حديث عائشة على ما فسر من حديث ميمونة. بل جاء الوضوء مفصلاً عند أحمد (¬1) بسند حسن من حديث عائشة وصرحت بغسل الرأس بدل مسحه. ¬

_ (¬1) المسند (6/ 96). ولفظه: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يغتسل من جنابة يغسل يديه ثلاثاً، ثم يأخذ بيمينه ليصب على شماله، فيغسل فرجه حتي ينقيه، ثم يغسل يده غسلاً حسناً، ثم يمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ثم يصب الماء على رأسه ثلاثاً، ثم يغتسل، فإذا خرج غسل قدميه. انظر تخريجه في أدلة الجمهور في المسألة التالية.

المسألة السادسة: هل يسن في وضوء الغسل غسل الأعضاء ثلاثا.

المسألة السادسة: هل يسن في وضوء الغسل غسل الأعضاء ثلاثاً (¬1). فقيل: يسن في وضوء الغسل أن يكون ثلاثاً ثلاثاً. وهو مذهب الحنفية (¬2) , والشافعية (¬3) , والحنابلة (¬4)، وبه قال سفيان الثوري (¬5)، وإسحاق بن راهويه (¬6)، ووجه في مذهب المالكية (¬7). وقيل: يتوضأ مرة مرة، وهو وجه في مذهب المالكية (¬8). وقل ابن رجب: لم ينص أحمد إلا على تثليث غسل كفيه ثلاثاً وعلى تثليث ¬

_ (¬1) سبب الخلاف الفرق بين الوضوء من الحدث الأصغر والوضوء في الغسل، فالأول يرفع الحدث، والثاني مجرد البداية بمواضع الوضوء لشرفها، وإلا فالحدث الأصغر لا يرتفع مع بقاء الحدث الأكبر. (¬2) مراقي الفلاح (ص: 44, 43)، بدائع الصنائع (1/ 34)، حاشية ابن عابدين (1/ 157, 156). شرح فتح القدير (1/ 58). (¬3) مغني المحتاج (1/ 73)، نهاية المحتاج (1/ 225)، روضة الطالبين (1/ 89)، الحاوي (1/ 219). (¬4) الكشاف (1/ 152)، الفروع (1/ 204)، الإنصاف (1/ 252)، شرح منتهى الإرادات (1/ 85)، الكافي (1/ 59)، المحرر (1/ 20). (¬5) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (1/ 238). (¬6) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (1/ 238). (¬7) الشرح الصغير (1/ 172)، حاشية الدسوقي (1/ 136)، منح الجليل (1/ 128). (¬8) تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/ 540)، مختصر خليل (ص 15)، حاشية الدسوقي (1/ 136)، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل (1/ 314).

دليل الجمهور على استحباب التثليث في وضوء الغسل من الحدث الأكبر.

صب الماء على الرأس (¬1). وهذه المسألة غير التثليث في غسل البدن. دليل الجمهور على استحباب التثليث في وضوء الغسل من الحدث الأكبر. (139) ما رواه أحمد (¬2) , قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء ابن السائب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يغتسل من جنابة يغسل يديه ثلاثاً، ثم يأخذ بيمينه ليصب على شماله، فيغسل فرجه حتى ينقيه، ثم يغسل يده غسلاً حسناً، ثم يمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ثم يصب الماء على رأسه ثلاثاً، ثم يغتسل، فإذا خرج غسل قدميه (¬3). ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (1/ 238). (¬2) المسند (6/ 96). (¬3) الحديث مداره على أبي سلمة عن عائشة، ويرويه عن أبي سلمة عطاء بن السائب، وبكير بن عبد الله الأشج، ورواية بكير في مسلم، وليس فيها التثليث، بل لم يذكر الوضوء. وأما عطاء بن السائب فقد رواه عنه زائدة، وحماد بن سلمة، وعمر بن عبيد الطناني، وذكروا فيه تثليث الوضوء، ورواه شعبة عن عطاء، ولم يذكر التثليث، بل ذكر المضمضة والاستنشاق وظاهره أنه مرة واحدة، وشعبة عندي أرجح، وعلى فرض أن عطاء بن السائب لم يختلف عليه، فقد انفرد بذكر التثليث. وقد قال فيه ابن مهدي: ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، ليث أحسنهم حالاً عندي، وقرنه ابن مهدي برجال ضعفاء، وفضل عليه ليثاً. وقال نحوه جرير. وقال ابن معين: ليث بن أبي سليم ضعيف مثل عطاء بن السائب، وجميع من روى عن عطاء روى عنه في الاختلاط إلا شعبة وسفيان. وقال شعبة: حدثنا عطاء بن السائب وكان نسياً. وأثنى عليه بعضهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ قال أحمد: من سمع منه قديماً كان صحيحاً، ومن سمع منه حديثاً لم يكن بشيء، سمع منه قديماً شعبة وسفيان وقال نحوه يحيى بن معين، وقال النسائي: ثقة في حديثه القدم إلا أنه تغير. وقد سبقت ترجمته. وليس المقصود هنا تضعيف عطاء مطلقاً، لكن انفراده. ممثل هذه السنة عن أحاديث الصحيحين، والاختلاف عليه في ذكر التثليث يجعلني لا أقبل روايته في هذا خاصة. وفي التقريب: صدوق اختلط. اهـ. وانظر تحرير من سمع منه قبل الاختلاط في أدلة القول الأول في بحث: حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل. ولهذا لم ير الإمام أحمد في المنصوص عنه التثليث في الوضوء. قال ابن رجب في شرحه للبخاري (1/ 238): "لم ينص أحمد إلا على تثليث غسل كفيه ثلاثاً، وعلى تثليث صب الماء على الرأس". ولو كان أحمد يراه ثابتاً لقال به، وإن كان أصحابه يرون التثليث حتى في البدن. وحديث ميمونة أرجح من حديث عطاء بكل حال، وإليك تخريج الحديث: الحديث كما قلنا مداره على أبي سلمة عن عائشة، يرويه عن أبي سلمة عطاء وبكير الأشج. أما رواية بكير فهي عند مسلم، وليس فيها التثليث. رواه مسلم (321): حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبي سلمة عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل بدأ بيمينه فصب عليها من الماء فغسلها ثم صب الماء على الأذى الذي به بيمينه، وغسل عنه بشماله حتي إذا فرغ من ذلك صب على رأسه. قالت عائشة: كنت اغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد ونحن جنبان. ورواه أبو عوانة (1/ 297) من طريق ابن وهب به. وأما رواية عطاء: فرواه عنه حماد بن سلمة، وزائدة، وعمر بن عبيد الطناني وشعبة .. وإليك تخريجها: الأول: حماد بن سلمة عن عطاء به. وقد سقنا لفظها، وأكثر العلماء على أن سماع حماد كان قبل الاختلاط. أخرجه الطيالسي (1474) حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب به. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 174). وأخرجه أحمد (6/ 96) حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة به.

دليل من قال: الوضوء في الغسل مرة مرة إلا الكفين والرأس.

دليل من قال: الوضوء في الغسل مرة مرة إلا الكفين والرأس. أما دليل من استحب تثليث الكفين والرأس فقط دون أعضاء الوضوء. فقد استدلوا بحديث ميمونة في البخاري. (140): قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: قالت ميمونة رضي الله عنها: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه فغسل قدميه. رواه ¬

_ الثاني: زائدة عن عطاء بن السائب به. وزائدة ممن روى عنه قبل الاختلاط. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 64) ح 686، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة به إلا أنه لم يذكر غسل الوجه واليدين، وذكر المضمضة والاستنشاق ثلاثاً. وأخرجه النسائي (243) أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا حسين، عن زائدة به. الثالث: عمر بن عبيد الطناني عن عطاء به، وعمر سمع من عطاء بعد الاختلاط. أخرجه النسائي (246): أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا عمر بن عبيد به. ومن طريق إسحاق بن إبراهيم أخرجه ابن حبان (1191). الطريق الرابع: شعبة عن عطاء به، وخالف من سبق فلم يذكر تثليث المضمضة والاستنشاق. أخرجه أحمد (1/ 174, 173) حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب به، بلفظ: قالت: كان يؤتى بإناء فيغسل يديه ثلاثاً، ثم يصب من الإناء على فرجه، فيغسله، ثم يفرغ بيده اليمنى على اليسرى فيغسلها، ثم يمضمض ويستنشق، ثم يفرغ على رأسه ثلاثاً ن ثم يغسل سائر جسده. وأخرجه أحمد (6/ 143) حدثنا يزيد، عن شعبة به. وأخرجه النسائي (244): أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا يزيد به.

البخاري ومسلم واللفظ للبخاري (¬1). فصار عندنا الآن: أولاً: غسل الكفين قبل البداءة بالوضوء. وثانيا: أعضاء الوضوء ما عدا الرأس. ثالثا: الرأس. أولاً: السنة في غسل الكفين. أما الكفان فالمشروع في حقهما غسلهما ثلاثاً كما في حديث عائشة عند مسلم، من طريق وكيع حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فبدأ فغسل كفيه ثلاثاً .. الحديث (¬2). وفي حديث ميمونة السابق: "فغسلهما مرتين أو ثلاثاً". ثانياً: السنة في أعضاء الوضوء ما عدا الرأس. أما أعضاء الوضوء ما عدا الرأس فيغسلان مرة واحدة كما قدمنا من حديث ميمونة .. حيث لم تذكر التثليث إلا في الكفين والرأس. ومعنى ذلك أن ما عداهما كان الغسل مرة واحدة. والذي يجعلنا نرجح أنه لا يثلث في وضوء الغسل، لأننا نقول لا يشرع في غسل البدن من الجنابة التثليث إلا في الرأس على الراجح من أقوال أهل العلم. ¬

_ (¬1) البخاري (265) ومسلم (317). (¬2) مسلم (36 - 316).

وإذا سلم هذا، فإن الوضوء كذلك لا يشرع فيه التثليث، لأن الوضوء يكون بنية رفع الحدث الأكبر، لا بنية رفع الحدث الأصغر؛ لأن الحدث الأصغر لا يرتفع مع بقاء الأكبر، وإذا كان كذلك فإن أعضاء الوضوء سوف يكتفى بغسلها في الوضوء، ولن تغسل مرة ثانية في غسل الجنابة بل يغسل بقية البدن، والوضوء في الحقيقة غسل للبدن من الجنابة، إلا أنه قدم أعضاء الوضوء في الغسل لشرفها كما قال - صلى الله عليه وسلم - في تغسيل ابنته في حديث أم عطية: (141): اغسلنها وابدأن بمواضع الوضوء منها. متفق عليه (¬1). وإذا كان لا يشرع التثليث في البدن على الصحيح، فلا يشرع التثليث في الوضوء. والبخاري رحمه الله لا يرى غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل يتوضأ ثم يغسل بقية بدنه، قال رحمه الله في صحيحه: "باب: من توضأ فى الجنابة ثم غسل سائر جسده، ولم يعد غسل مواضع الوضوء فيه مرة أخرى" (¬2). وقال الحافظ: "واستدل به البخارى على أن الواجب في غسل الجنابة مرة واحدة، وعلى أن من توضأ بنية الغسل، ثم أكمل باقي أعضاء بدنه لا يشرع له تجديد الوضوء من غير حدث". اهـ (¬3). (142) وقد روى البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: ¬

_ (¬1) البخاري (167)، ومسلم (939). (¬2) كتاب الغسل باب (16). (¬3) الفتح في شرحه لحديث (249).

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم (¬1). فقولها: "ثم غسل سائر جسده" أي بقية جسده. فتبين من هذا الكلام: أن الوضوء قبل الغسل نيته رفع الحدث الأكبر، وإن غسل أعضاء الوضوء لا يعاد غسلها مرة أخرى عند غسل البدن، وأن البدن كما أنه لا يشرع فيه التثليث، لا يشرع أيضاً في وضوء الغسل كما هو ظاهر حديث ميمونة، وأن التثليث في الوضوء لم يُرو في شيء من الأحاديث المرفوعة إلا ما كان من رواية عطاء بن السائب، عن أبي سلمة عن عائشة، وقد خالف بكير الأشج عطاء بن السائب فلم يذكر التثليث، وأن أصحاب عطاء قد اختلفوا عليه، فأحفظهم شعبة لم يرو عنه التثليث. والله أعلم. ثالثاً: السنة في غسل الرأس. أما السنة في الرأس: فالذي تدل عليه الأحاديث أنه يخلل أولاً شعره بالماء حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته صب الماء على شعر رأسه ثلاثاً، فكان التخليل أولاً لغسل بشرة الرأس، وصب الماء بعده ثلاثاً لغسل الشعر (¬2). وهذه الصفة مستحبة أحياناً وليست واجبة. ¬

_ (¬1) البخاري (272) واللفظ له ومسلم (316). (¬2) انظر شرح ابن رجب لصحيح البخاري (1/ 311).

وهي مما ذكر في حديث عائشة دون ميمونة. (143) فقد رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله (¬1). ورواه مسلم، من طريق أبي معاوية عن هشام به، وفيه: "ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه فى أصول الشعر حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه" (¬2). قال ابن رجب في شرحه للبخاري: "وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتنبه لها أكثر الفقهاء، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وآدابه، ولم أر من صرح به منهم إلا صاحب المغني من أصحابنا، وأخذه من عموم قول أحمد: الغسل على حديث عائشة وكذلك ذكره صاحب المهذب من الشافعية". اهـ (¬3). وصفة غسل الرأس في الثلاث غرفات، هل يعم رأسه فى كل غرفة؟ أو ¬

_ (¬1) البخاري (248). (¬2) صحيح مسلم (316). (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (1/ 311).

يفرغ واحدة على شقه الأيمن وأخرى على شقه الأيسر؟ وثالثة على وسطه؟. من غير تعميم للرأس بكل واحدة. (144) فقد رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو عاصم، عن حنظلة، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه، بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه. ولفظ البخاري: "فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر فقال بهما على وسط رأسه". ورواه مسلم (¬1). قال القرطبي كما في المفهم: "ولا يفهم من هذه الثلاث حفنات أنه غسل رأسه ثلاث مرات، لأن التكرار في الغسل غير مشروع، لما في ذلك من المشقة، وإنما كان ذلك العدد، لأنه بدأ بجانب رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم على وسط رأسه كما في حديث عائشة" (¬2). وتعقب ابن رجب كلام القرطبي في شرحه للبخاري: فقال عن كلامه "وهو خلاف الظاهر" قال: "والظاهر والله أعلم أنه يعم رأسه بكل مرة، ولكن يبدأ في الأولى بجهة اليمين، وفي الثانية بجهة اليسار، ثم يصب الثالثة على الوسطى" (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (258) ومسلم (318). (¬2) المفهم (1/ 576). (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (1/ 259).

والثلاث غرفات قد جاءت من حديث عائشة بدون تفصيل. (145) فرواه البخاري: "ثم صب على رأسه ثلاث غرف بيديه" (¬1). ولفظ مسلم: "حفن على رأسه ثلاث حفنات" (¬2). (146) وروى مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد وأبو بكر ابن أبي شيبة - قال يحيى أخبرنا وقال الآخران حدثنا أبو الأحوص -، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، عن جبير بن مطعم قال: "تماروا في الغسل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض القوم أما أنا فإني أغسل رأسي كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث أكف" رواه مسلم. ولفظ البخاري: "فأفيض على رأسي ثلاثاً" وأشار بيديه كلتيهما (¬3). وهل هناك فرق بين المرأة والرجل؟ الجواب: (147) روى البخاري، قال: حدثنا خلاد بن يحيى، قال: حدثنا إبراهيم ابن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة رضي الله عنها قال: كنا إذا أصاب إحدانا جنابة أخذت بيديها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (248). (¬2) صحيح مسلم (316). (¬3) البخاري (254)، ومسلم (327).

ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن وبيدها الأخرى على شقها الأيسر (¬1). قال ابن رجب: "وظاهر هذا أن المرأة يستحب لها بعد أن تصب على رأسها ثلاثاً، أن تأخذ حفنة بيدها فتصب على شق رأسها الأيمن، ثم تأخذ حفنة أخرى، فتصبها على شقه الأيسر، فيصير على رأسها خمس حفنات" (¬2). وهذا الاستدلال لا يسلم إلا بعد التسليم أن قول الصحابي: "كنا نفعل" ولم يضفه إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن له حكم الرفع. قال في الفتح: "وللحديث حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وهو مصير من البخاري إلى القول بأن لقول الصحابي: "كنا نفعل كذا" حكم الرفع سواء صرح بإضافته إلى زمنه - صلى الله عليه وسلم - أم لا. وبه جزم الحاكم" (¬3). وقد عرضت أقوال الأصوليين في قول الصحابي: "كنا نفعل" عند الكلام على الصفرة والكدرة، فارجع إليه. فإن سلمت دعوى أن لها حكم الرفع كان في غسل رأس المرأة صفتان: تارة بثلاث غرفات، وتارة بخمس حفنات، وإن كان قول الصحابي: "كنا نفعل" موقوفاً عليه فإن الثلاث مقدمة على الخمس لأن الثلاث صريحة بالرفع. (148) فقد روى مسلم، قال: حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (277). (¬2) شرح البخاري لابن رجب (1/ 260). (¬3) في شرحه لحديث (277).

عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). (149) وروى مسلم أيضاً، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر ابن أبي شيبة وعلي بن حجر جميعا، عن بن علية قال يحيى: أخبرنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي الزبير عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (¬2). فهذان الحديثان صريحان بالرفع، وأن المقدار للرأس ثلاث غرفات كالرجل. (150) وأما ما رواه أحمد (¬3) , قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا زائدة، عن صدقة (رجل من أهل الكوفة)، ثنا جميع بن عمير (¬4)، حدثني عبد الله بن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (330). (¬2) صحيح مسلم (331). (¬3) المسند (6/ 188). (¬4) في المطبوع: جميع بن نمير، وهو خطأ.

ثعلبة، قال: دخلت مع أمي وخالتي على عائشة فسألت إحداهما: كيف كنتن تصنعن عند الغسل؟ فقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على رأسه ثلاث مرات، ونحن نفيض على رؤوسنا خمساً من أجل الضفر. [ضعيف] (¬1). ¬

_ (¬1) في إسناده: جميع بن عمير. قال البخاري: فيه نظر. التاريخ الكبير (2/ 242). وقال ابن عدي: وما قاله البخاري كما قاله، في أحاديثه نظر، ثم قال: وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد، على أنه قد روى عنه جماعة. الكامل (2/ 166). وذكره ابن حبان في المجروحين (1/ 218) قال: "وكان رافضياً، يضع الحديث، وساق بسنده إلى ابن نمير قوله: جميع بن عمير من أكذب الناس، وكان يقول الكراخي تفرخ في السماء ولا تقع فراخها". ثم عاد ابن حبان وذكره في الثقات (4/ 115)!!. قال الذهبي: واهٍ. الكاشف (810)، وقال في المغني: وأحسبه صادقاً، وقد رماه بعضهم بالكذب. المغني (1/ الترجمة 1178). وقال أبو حاتم:، من عتق الشيعة، ومحله الصدق، صالح الحديث، كوفي من التابعين الجرح والتعديل (2/ 532). وقال العجلي: تابعي ثقة. ثقات العجلي (9/ 272). وقال الساجي: له أحاديث مناكير، وفيه نظر، وهو صدوق. تهذيب التهذيب (2/ 96) وفي التقريب: صدوق يخطئ ويتشيع. وانظر معرفة الثقات للعجلي (1/ 272)، والكامل لابن عدي (2/ 166). وفيه: صدقة بن سعيد الحنفي. قال البخاري: عنده عجائب. تهذيب التهذيب (4/ 364). وقال الساجي: ليس بشيء. المرجع السابق.

فهذا الحديث على ضعفه يشهد له ما رواه البخاري (¬1) عن عائشة، إلا أنه ليس صريحاً في الرفع، وصيغته مختلف فيها: هل تكون مرفوعة أم موقوفة؟ ¬

_ وقال أبو حاتم: شيخ. الجرح والتعديل (4/ 430). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (6/ 466). وقال ابن القطان: لم تثبت عدالته، ولم يثبت فيه جرح مفسر. الوهم والإيهام (5/ 18) ح 2254 وفي التقريب مقبول، يعني في المتابعات. وقال الذهبي: صدوق. الكاشف (2383). [تخريج الحديث] والحديث أيضاً رواه أبو داود (241): حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الرحمن - يعني: ابن مهدي - به. وأخرجه ابن ماجه (574) حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا عبد الواحد بن رياد، ثنا صدقة بن سعيد الحنفي به. (¬1) صحيح البخاري (277).

الفرع الرابع: هل تنقض المرأة رأسها في غسل الحيض

الفرع الرابع: هل تنقض المرأة رأسها في غسل الحيض اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: لا تنقض رأسها فى غسل الجنابة والحيض. وهو مذهب المالكية (¬1) , والشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: يجب على الرجل نقض شعره بخلاف المرأة، وهو مذهب الحنفية (¬4). وقيل: لا يجب نقضه في الجنابة ويجب في غسل الحيض، وهو المشهور ¬

_ (¬1) مخت ص ر خليل (ص: 15)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 24)، الشرح الصغير (1/ 169)، أسهل المدارك (1/ 68)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 101)، حاشية الدسوقي (1/ 134)، منح الجليل (1/ 127، 126)، مواهب الجليل (1/ 313، 312)، المدونة (1/ 134). (¬2) الأم (1/ 40) وقال: "إذا كانت المرأة ذات شعر تشد ظفرها، فليس عليها أن تنفضه في غسل الجنابة، وغسلها من الحيض كغسلها من الجنابة لا يختلفان"، مغني المحتاج (1/ 73)، المجموع (1/ 215)، نهاية المحتاج (1/ 224)، روضة الطالبين (1/ 88)، الحاوي (1/ 225, 224). (¬3) المغني (1/ 298)، المبدع (1/ 197)، الكافي (1/ 60)، الفروع (1/ 205)، الإنصاف (1/ 256). (¬4) مراقي الفلاح (ص: 43، 42)، بدائع الصنائع (1/ 34)، البحر الرائق (1/ 54)، تبيين الحقائق (1/ 14)، حاشية ابن عابدين (1/ 153)، شرح فتح القدير (1/ 58) وانظر العناية مطبوعة معه (1/ 59).

دليل من قال: لا تنقض رأسها مطلقا في الحيض والجنابة.

من مذهب الحنابلة (¬1). واختاره الباجي من المالكية (¬2)، وابن حزم من الظاهرية (¬3). دليل من قال: لا تنقض رأسها مطلقاً في الحيض والجنابة. الدليل الأول: (151) ما رواه مسلم: حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، عن أيوب ابن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬4). [زيادة: والحيضة شاذة] (¬5). ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 154)، الفروع (1/ 205)، الإنصاف (1/ 256)، المغني (1/ 298)، شرح منتهى الإرادات (1/ 86)، الكافي (1/ 60)، المحرر (1/ 21)، المبدع (1/ 197). (¬2) المنتقى (1/ 96). (¬3) المحلى (مسألة 192). (¬4) صحيح مسلم (330). (¬5) الحديث مداره على أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله ابن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة. ويرويه عن أيوب، سفيان بن عيينة، وروح بن القاسم، وهذان قد اتفقا على عدم ذكر الحيضة. ورواه الثوري عن أيوب بن موسى، واختلف عليه، فرواه يزيد بن هارون عن الثوري، وليس فيه ذكر الحيضة، وهى موافقة لرواية روح بن القاسم، وابن عيينة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ورواه عبد الرزاق عن الثوري واختلف عليه، فرواه إسحاق بن إبراهيم الدبري كما في رواية الطبراني (23/ 296) رقم 657، ومسند أبي عوانة (1/ 315)، والمصنف (1046) دون ذكر الحيضة. وخالفه عبد بن حميد كما عند مسلم (330)، وأحمد بن منصور الرمادي كما في سنن البيهقي (1/ 181)، فروياه عن عبد الرزاق بذكر زيادة: "والحيضة"، ورواية عبد الرزاق الموافقة لرواية يزيد بن هارون عن الثوري والموافقة لرواية ابن عيينة وروح بن القاسم أرجح، ولهذا أرجح أن زيادة: "والحيضة" في الحديث شاذة. وقد ذهب إلى شذوذها ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 295) قال: "اتفق ابن عيينة وروح بن القاسم عن أيوب، فاقتصرا على الجنابة، واختلف فيه على الثوري، فقال يزيد بن هارون عنه ما قال ابن عيينة وروح، وقال عبد الرزاق عنه: (أفأنقضه للحيضة والجنابة؟)، ورواية الجماعة أولى بالصواب، فلو أن الثوري لم يختلف عليه لرجحت رواية ابن عيينة وروح، فكيف وقد روى عنه يزيد بن هارون مثل رواية الجماعة، ومن أعطى النظر حقه علم أن هذه اللفظة ليست محفوظة. اهـ. قلت: كيف لو وقف ابن القيم على أن عبد الرزاق أيضاً قد اختلف عليه. [تخريج الحديث]: الحديث كما سبق وذكرت، مداره على أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة مرفوعاً. وله طرق إلى أيوب: الأول: سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى به. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 73) ح 792، وأحمد (6/ 289) قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى به. وأخرجه مسلم (330): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ن وعمرو الناقد, وإسحاق بن إبراهيم، وابن أبي عمر كلهم عن ابن عيينة به. وأخرجه أبو داود (251) حدثنا زهير بن حرب، وابن السرح، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة به. وأخرجه الترمذي (105) حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان به. وأخرجه النسائي (241) أخبرنا سليمان بن منصور، عن سفيان به، وأخرجه ابن ماجه (603) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، عن سفيان به، وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (98) حدثنا ابن المقرئ، قال: ثنا سفيان به. وأخرجه ابن حبان (1198) من طريق أبي خيثمة قال: حدثنا ابن عيينة به. وأخرجه البغوي (251) من طريق الشافعي، أنا ابن عيينة به.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (152) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن حجر جميعا، عن ابن علية. قال يحيى: أخبرنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي الزبير، عن عبيد بن عمير، قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء - إذا اغتسلن - أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن ¬

_ وقد أخرج الحديث الحميدي (294) قال: ثنا أيوب بن موسى، واعتقد أنه سقط من إسناده سفيان بن عيينة، لأن الحميدي لم يدرك أبا موسى؛ لأن أبا موسى من طبقة شيوخ الثوري وبين وفاة أيوب والحميد أكثر من مائة سنة. كما أن ابن خزيمة رواه في صحيحة (246) عن سفيان بن عيينة ولم يدركه، فهناك سقط في الإسناد، ولم يختلف على ابن عيينة فقد اتفق جميع من رواه عنه بذكر: "أفأنقضه للجنابة". ولم يذكروا الحيضة. الثاني: روح بن القاسم عن أيوب به. أخرجه مسلم (330) قال: حدثنيه أحمد الدارمي، حدثنا زكرياء بن عدي، حدثنا يزيد (يعني: ابن زريع) عن روح بن القاسم عن أيوب بن موسى به. قال مسلم: ولم يذكر الحيضة. الثالث: الثوري، عن أيوب بن موسى به. أخرجه أحمد (6/ 314) حدثنا يزيد (يعني ابن هارون) قال ثنا سفيان به، وليس فيه ذكر الحيضة. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1046) ومن طريقه أبو عوانة (1/ 315)، عن الثوري به، وليس فيه ذكر الحيضة. وأخرجه مسلم (330) من طريق عبد بن حميد والبيهقي (1/ 181) من طريق أحمد بن منصور الرمادي كلاهما عن عبد الرزاق عن الثوري به بزيادة ذكر الحيضة، وقد تغير حفظ عبد الرزاق بآخرة بعد ما عمي، فزيادة الحيضة شاذة. والله أعلم.

الدليل الثالث

رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (¬1). والحديث لم يتعرض لغسل الجنابة، بل للغسل، فهو مطلق يشمل كل غسل، فهي أنكرت عليه كونه يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، لو كان هناك فرق بين غسل وغسل لبينته رضي الله عنها. الدليل الثالث: (153) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث عن عائشة، أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها، فقالت أسماء: وكيف تطهر بها، فقال: سبحان الله تطهرين بها، فقالت عائشة - كأنها تخفي ذلك -: تتبعين أثر الدم. وسألته عن غسل الجنابة، فقال: تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء. فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (331). (¬2) صحيح مسلم (332). وقد سبق تخريجه، والكلام عليه.

الدليل الرابع

وجه الإستدلال: في الحديث أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسماء أن تدلك رأسها دلكاً شديداً، ولو كان النقض واجباً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - لها. والله أعلم. الدليل الرابع: (154) ما رواه ابن أبي شيبة: حدثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله - يعني العمري - عن نافع: أن نساء ابن عمر وأمهات أولاده كن يغتسلن من الجنابة والحيض، فلا ينقضن رؤوسهن، ولكن يبالغن في بلها. [وإسناد صحيح] (¬1). الدليل الخامس: (155) ما رواه أبو داود: حدثنا نصر بن علي، حدثنا عبد الله ابن داود، عن عمر بن سويد، عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نغتسل وعلينا الضماد، ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محلات ومحرمات. [صحيح] (¬2). ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 74) رقم 805. (¬2) سنن أبي داود (254). دراسة الإسناد: عبد الله بن داود. قال أبو حاتم: كان يميل إلى الرأي، وكان صدوقاً. الجرح والتعديل (5/ 47).

الدليل السادس

الدليل السادس: (156) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر ابن السراج العسكري، ثنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني، ثنا عمر بن هارون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن سالم خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجعلن رؤوسهن أربع قرون، فإذا اغتسلن جمعنه في وسط رؤوسهن ولم ينقضنه (¬1). [ضعيف جدًا] (¬2). ¬

_ وقال ابن معين: ثقة مأمون. كما في رواية عثمان بن سعيد. الجرح والتعديل (5/ 47). وقال أيضاً: ثقة صدوق، مأمون. كما في رواية معاوية بن صالح. تهذيب الكمال (14/ 458). وقال أبو زرعة: كوفي الأصل، بصري ثقة. الجرح والتعديل (5/ 47). وقال النسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (5/ 175). وقال ابن حبان: كان متقناً. مشاهير علماء الأمصار (1286). وذكره في الثقات. ثقات ابن حبان (7/ 60). وقال ابن سعد: كان ثقة، ناسكاً. الطبقات (7/ 295). وقال الذهبي في الكاشف (2706): ثقة، حجة، صالح. وعمر بن سويد، وثقه يحيى بن معين، كما في الجرح والتعديل (6/ 113). وانظر تهذيب الكمال (21/ 383). والضماد: ما يلطخ به الشعر، مما يلبده ويسكنه، فالمعني أنها تغسل رأسها وقد ضمدته لعدم نقض الضفائر. (¬1) الأوسط (7082). (¬2) في الإسناد: عمر بن هارون.

دليل من قال: يجب على الرجل نقض شعره بخلاف المرأة.

دليل من قال: يجب على الرجل نقض شعره بخلاف المرأة. (157) استدلوا بما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن عوف، قال: قرأت في أصل إسماعيل (ابن عياش)، قال ابن عوف: وحدثنا محمد ابن إسماعيل، عن أبيه، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، قال: أفتاني جبير بن نفير عن الغسل من الجنابة أن ثوبان حدثهم أنهم استفتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: ¬

_ قال يحيى بن معين: كذاب، دخل المدينة، وقد مات جعفر بن محمد، فحدث عنه. كما في رواية ابن الجنيد عنه. الجرح والتعديل (6/ 140)، المجروحين (2/ 90). وقال أيضاً: هو غير ثقة. كما في رواية أبي داود عنه. تاريخ بغداد (11/ 187). وقال مرة: ليس بشيء. تهذيب التهذيب (7/ 441)، المجروحين (2/ 90). وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المعضلات، ويدعي شيوخاً لم يرهم، وكان ابن مهدي حسن الرأي فيه، ثم قال: وكان أهل بلده يبغضونه لتعصبه في السنة، وذبه عنها، ولكن كان شأنه في الحديث ما وصفت، وفي التعديل ما ذكرت، والمناكير في روايته تدل على صحة ما قال يحيى بن معين. المجروحين (2/ 90). وقال أحمد: أكثرت عن عمر بن هارون، ولا أروي عنه شيئاً. الجرح والتعديل (6/ 140). وقال أبو حاتم: تكلم ابن المبارك فيه، فذهب حديثه، قيل: إن أبا سعيد الأشج حدثنا عن عمر بن هارون البلخي. فقال: هو ضعيف الحديث، نخسه ابن المبارك نخسة، فقال: إن عمر بن هارون يروى عن جعفر بن محمد، وقد مات قبل قدومه، وكان قد توفي جعفر بن محمد. الجرح والتعديل (6/ 140). وقال أبو داود: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (7/ 441). وقال النسائي: متروك الحديث، بصري. الضعفاء والمتروكين (475). وفي التقريب: متروك، وكان حافظاً. اهـ. انظر الجرح والتعديل (6/ 140)، وتذكرة الحفاظ (1/ 340)، والكامل في الضعفاء (5/ 30).

دليل من فرق بين الجنابة والحيض.

أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عيها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها. [إسناده حسن لغيره، وكون المرأة لا تنقض شعرها صحيح من غير هذا الحديث] (¬1). دليل من فرق بين الجنابة والحيض. [الدليل الأول] (*) (158) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لهلال ذي الحجة. وفي الحديث "فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بحج. الحديث، والحديث رواه مسلم أيضاً (¬2). وترجم له البخارى: "باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض". وانتقد ابن رجب هذا الاستدلال فقال: "وهذا الحديث لا دلالة فيه، فإن غسل عائشة الذي أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - به لم يكن من الحيض، بل كانت حائضاً، وحيضها حينئذٍ موجود، فإنه لو كان قد انقطع حيضها لطافت للعمرة، ولم تحتج ¬

_ (¬1) محمد بن عوف ثقة لكن يرويه بن إسماعيل بن عياش صحيفة من غير سماع أو إجازة فهي على الانقطاع، ثم رواه عن محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه، ولم يسمع من أبيه فهي ضعيفة أيضاً فلعل أحد الطريقين يقوي الآخر، وأما إسماعيل بن عياش فإنه صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذا منها. وانظر ترجمته في ح 223. فإن ضمضم بن زرعة حمصي، وهو صدوق يهم، وبقية رجال الإسناد ثقات. (¬2) البخاري (317) ومسلم (115 - 1211). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

إلى هذا السؤال، ولكن أمرها أن تغتسل في حال حيضها، وتهل بالحج فهو غسل الإحرام في حال الحيض، كما أمر أسماء بنت عميس لما نفست بذي الحليفة أن تغتسل وتهل" (¬1). ثم قال: "وقد يحمل مراد البخاري - رحمه الله - على وجه صحيح، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر عائشة بنقض شعرها وامتشاطها عند الغسل للإحرام، لأن غسل الإحرام لا يتكرر ولا يشق نقض الشعر فيه، وغسل الحيض والنفاس يوجد فيه هذا المعنى، بخلاف غسل الجنابة فإنه يتكرر فيشق النقض فيه، فكذلك لم يؤمر فيه بنقض الشعر" (¬2). قلت: كونه أمر عائشة بغسل الإحرام بنقضه لا يقال بأن نقضه واجب في غسل الحيض، لأنه لم يثبت إلا في غسل الإحرام، وغسل الإحرام سنة، وكونه في حديث عائشة في قصة أسماء بنت شكل لم يأمرها بنقضه دليل على أنه ليس بواجب في غسل الحيض، وكذلك لا يقال إن الحائض مأمورة بالامتشاط عند غسل المحيض. والله أعلم. ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 104). وقال ابن رجب في شرح علل الترمذي (ص: 109) في اختصار الحديث: "قد روى كثير من الناس الحديث بمعنى فهموه منه فغيروا المعنى، مثل ما اختصر بعضهم من حديث عائشة في حيضها في الحج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها، وكانت حائضاً: "انقضي شعرك، وامتشطي" وأدخله في أبواب غسل الحيض، وقد أنكر أحمد على من فعله لأنه يخل بالمعنى، فإن هذا لم تؤمر به في الغسل من الحيض عند انقطاعه، بل في غسل الحائض إذا أرادت الإحرام، وهي حائض". اهـ. (¬2) المرجع السابق (2/ 105).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (159) ما رواه الطبراني في الكبير، قال: حدثنا أحمد بن داود المكي، ثنا سلمة بن صبيح اليحمدي، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اغتسلت المرأة من حيضها، نقضت شعرها وغسلته بخطمي وأشنان، وإذا اغتسلت من جنابة صبت على رأسها الماء وعصرته (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: الأصل وجوب نقض الشعر ليتحقق وصول الماء إلى ما يجب غسله فعفي عنه في غسل الجنابة، لأنه يكثر فيشق ذلك فيه، والحيض بخلافه فبقي على ¬

_ (¬1) معجم الطبراني الكبير (1/ 260). (¬2) كذا في إسناد الطبراني (سلمة بن صبيح) ولم أجد من ذكره، وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 273)، وأظن أن أحمد بن داود المكي أخطأ في اسمه، فقد أخرجه الدارقطني في الأفراد كما في نصب الراية (1/ 80) ومن طريقه أخرجه الخطيب في تلخيص المتشابه (2/ 34). وأخرجه البيهقي (1/ 182) من طريق مسلم بن صبيح، ثنا حماد بن سلمة به، فقال (مسلم بن صبيح بدلاً من سلمة بن صبيح) والذي يرجح: أن هناك خطأ وأن الدارقطني والخطيب جزموا بأن مسلم بن صبيح قد تفرد به عن حماد، وقال الخطيب: مسلم بن صبيح بصرى يكنى أبا عثمان. ومسلم بن صبيح له ذكر في الإكمال لابن ماكولا ولم أقف على من ذكره بجرح أو تعديل. انظر الإكمال (5/ 171، 170). وسواء كان الراوي سلمة أو مسلم فالحديث ضعيف بهذا الإسناد. وقال ابن رجب في شرحه للبخاري (2/ 109) ليس بالمشهور.

الدليل الرابع

مقتضى الأصل في الوجوب (¬1) ويجاب عنه: بأن الواجب هو غسل الشعر على خلاف في هذا، فإذا تحققنا من وصول الماء إلى باطن الشعر فقد فعل الواجب، سواء كان الشعر مظفوراً، أو غير مظفور. الدليل الرابع: من القياس، وقد سبق الإشارة إليه، وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة عند الاغتسال للإحرام أن تنقض شعر رأسها، فإذا أمرت بنقض شعرها. في غسل الإحرام وهو سنة، فكونها تؤمر بنقضه في غسل الحيض وهو واجب من باب أولى (¬2). وأجيب: بأن القول باستحبابه لا بأس به، أما القول بوجوبه فليس بظاهر، وقد أمرها أن تمتشط فهل تقولون بوجوبه أيضاً؟. فالقول الراجح أنها لا تنقض رأسها لا في الحيض ولا في الجنابة. ¬

_ (¬1) انظر المغني (1/ 300). (¬2) عمدة القارئ (3/ 288).

الفرع الخامس: المسترسل من الشعر هل يجب غسل ظاهره وباطنه

الفرع الخامس: المسترسل من الشعر هل يجب غسل ظاهره وباطنه إذا رجحنا أن المرأة لا يجب عليها نقض شعرها (ضفائرها)، فهل يجب غسل ظاهر الشعر وباطنه؟ أم هل يجب غسل ظاهره فقط؟ أم يجب غسل أصول الشعر (بشرة الشعر) دون المسترسل؟ هذه مسألة اختلف فيها العلماء: فقيل: يجب غسل ما استرسل من الشعر. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3) وقيل: لا يجب. وهو مذهب الحنفية (¬4)، واختاره ابن قدامة من الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 169)، مختصر خليل (ص: 15)، أسهل المدارك (1/ 68)، حاشية الدسوقي (1/ 134)، منح الجليل (1/ 127, 126)، مواهب الجليل (1/ 312)، المدونة (1/ 134). (¬2) مغني المحتاج (1/ 73)، نهاية المحتاج (1/ 224)، روضة الطالبين (1/ 88) المجموع (1/ 215). (¬3) كشاف القناع (1/ 154)، الفروع (1/ 205)، الإنصاف (1/ 256)، شرح الزركشي (1/ 322)، شرح منتهى الإرادات (1/ 85)، الكافي (1/ 60)، المبدع (1/ 197). (¬4) مراقي الفلاح (ص: 43)، البحر الرائق (1/ 55)، تبيين الحقائق (1/ 15)، حاشية ابن عابدين (1/ 153)، وصحح الكاساني في بدائع الصنائع القول بعدم وجوب إيصال الماء إلى أثناء الشعر إن كان مضفوراً (1/ 34). (¬5) المغني (1/ 302، 301).

أدلة الجمهور على وجوب غسل المسترسل.

أدلة الجمهور على وجوب غسل المسترسل. [الدليل الأول] (*) (160) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا نصر بن علي، أخبرنا الحارث بن وجيه، حدثنا مالك بن دينار، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة (¬1). [سنده ضعيف، وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الثاني: (161) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي بن أبي طالب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ترك موضع شعره من جنابة لم يصبها ماء، فعل الله به كذا وكذا من النار. قال علي: ومن ثم عاديت شعري (¬3). [المرفوع ضعيف، وصحح وقفه، وسبق بحثه] (¬4). قلت: ولا دلالة فيه، لأن التوعد على ترك موضع الشعرة، لا ترك الشعر ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (248) (¬2) انظر رقم 123. (¬3) المسند (1/ 94). (¬4) انظر (رقم: 125). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

الدليل الثالث

نفسه، وموضع الشعر هو بشرة الرأس، وهذا يجب غسلها اتفاقاً. الدليل الثالث: (162) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا هشام بن عمار، ثنا يحيى بن حمزة، حدثني عتبة بن أبي حكيم، حدثني طلحة بن نافع، حدثني أبو أيوب الأنصاري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، وأداء الأمانة، كفارة لما بينها قلت: وما أداء الأمانة؟ قال: غسل الجنابة، فإن تحت كل شعرة جنابة (¬1). [سنده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (598). (¬2) ضعفه الحافظ في التلخيص (1/ 249) وقال البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف، لأن طلحة بن نافع لم يسمع من أبي أيوب، وانظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 100) والجرح والتعديل (4/ ت 2086). قلت: قطع أبو حاتم أن نافعاً لم يسمع من أبي أيوب رغم أن الإسناد فيه حدثني أبو أيوب. فيتأمل. وفيه: عتبة بن أبي حكيم: قال النسائي: ضعيف. تهذيب التهذيب (7/ 87). وقال أيضاً: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (436). وقال يحيى بن معين: ضعيف، كما في رواية ابن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (6/ 370). وقال أيضاً: ثقة. كما في رواية عباس الدوري والغلابي. تهذيب التهذيب (7/ 87). وقال أبو داود: والله الذي لا إله إلا هو إنه لمنكر الحديث. كما في رواية الآجري. المرجع السابق. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. الكامل (5/ 357).

الدليل الرابع

ولا دلالة فيه، فإن قوله: "تحت كل شعرة" دليل على وجوب غسل البشرة من الرأس وليس هذا محل نزاع. الدليل الرابع: ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل شعره في غسل الجنابة، وتخليل الشعر إيصال الماء إلى باطنه، وفعله - صلى الله عليه وسلم - بيان للمجمل في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). (163) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليها الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم (¬2). وأجيب: أن التخليل ليس للشعر حتى يقال: إنه من أجل إيصال الماء إلى باطنه، بل التخليل كان لغسل بشرة الرأس، وقول عائشة صريح في هذا: "حتى إذا ظن أنه ¬

_ وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: كان أحمد يوهنه قليلاً، ثم قال: وسئل أبي عنه، فقال: صالح، لا بأس به. الجرح والتعديل (6/ 370). وقال دحيم: لا أعلمه إلا مستقيم الحديث. تهذيب التهذيب (7/ 87). (¬1) (المائدة: 6). (¬2) البخاري (272) واللفظ له ومسلم (316)

الدليل الخامس

قد أروى بشرته أفاض عليه الماء". ولو سلم فإنه فعل لا يدل على الوجوب، وليس له حكم المجمل حتى يكون بياناً للمجمل، لأنكم لا تقولون بوجوب التخليل. وليس النزاع في الاستحباب. الدليل الخامس: (164) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، - يعني الثقفي -، حدثنا جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من جنابة صب على رأسه ثلاث حفنات من ماء. فقال له الحسن بن محمد: إن شعري كثير، قال جابر: فقلت له: يا ابن أخي كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من شعرك وأطيب. وهو في البخاري، بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: أن جابراً رضي الله عنه، حين اعترض عليه بأن الشعر كثير فلا تكفي ثلاث حفنات لم يقل لا يجب غسل الشعر، بل قال: إن شعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثر، مما يدل على أنه مستقر غسل الشعر. وأجيب: بأن المرفوع من حديث جابر: "صب على رأسه ثلاث حفنات" ولم يقل: "صب على شعره" فالواجب غسل الرأس، وحين اعترض الحسن بن محمد بأن شعره كثير، كان يحتمل أمرين: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (329). انظر البخاري (256).

الدليل السادس

الأول: بأن شعري كثير فيمنع وصول الماء إلى بشرة الرأس. والثاني: يحتمل قوله: "إن شعري كثير" فيتطلب ماءً أكثر من أجل غسله، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، فرجعنا إلى القدر المرفوع من الحديث وهو: "كون الصب على الرأس فقط" ثم إننا نقول بوجوب غسل الشعر، ولكن نشترط أن يكون على بشرة تجب غسلها الدليل السادس: قالوا: شعر الرأس شعر نابت في محل الغسل، فوجب غسله كشعر الحاجبين وأهداب العينين. ورده ابن قدامة: "وأما الحاجبان فيجب غسلهما، لأن من ضرورة غسل بشرتهما غسلهما، وكذا كل شعر، من ضرورة غسل بشرته غسله، فيجب غسله ضرورة لأن الواجب لا يتم إلا به" (¬1). الدليل السابع: (165) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا زائدة، عن صدقة (رجل من أهل الكوفه)، ثنا جميع بن عمير، حدثني عبد الله بن ثعلبة، قال: دخلت مع أمي وخالتي على عائشة، فسألت احداهما: كيف كنت تصنعين عند الغسل؟ فقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض علي رأسه ثلاث مرات، ونحن نفيض على رؤسنا خمساً من أجل ¬

_ (¬1) المغني (1/ 302).

الضفر (¬1). وجه الاستدلال: أنها زادت في غسل رأسها من أجل الضفر، وهذا يدل على وجوب غسله. وأجيب: بأن الحديث ضعيف، وقد سبق تخريجه (¬2). وفي الصحيحين عن عائشة وصف الغسل للرأس، ولم تذكر الضفر، (166) فقد روى البخاري، قال: حدثنا خلاد بن يحيى، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنا إذا أصاب إحدانا جنابة أخذت بيديها ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر (¬3). وفي هذا الحديث ذكرت عائشة أن ثلاثاً فوق رأسها، وواحدة لشق رأسها الأيمن، وأخرى لشقه الأيسر. (167) وروى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو عاصم، عن حنظلة، عن القاسم، عن عائشة: قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه، ¬

_ (¬1) المسند (6/ 188). (¬2) انظر رقم (150). (¬3) صحيح البخاري (277).

الدليل الثامن

فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقال بها على وسط رأسه. ورواه مسلم أيضاً (¬1). فصار الغسل لفوق الرأس، ولشقه الأيمن، لشقه الأيسر، وليس به تعرض للضفائر. الدليل الثامن: (168) ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة، قال، قال لامرأته: خللي رأسك بالماء، لا تخلله النار، قليل بقاياه عليه (¬2). [سنده صحيح] (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (258)، ومسلم (318). (¬2) المصنف (1/ 74). (¬3) ورواه عبد الرزاق (1053) عن معمر، عن الأعمش, عن إبراهيم، أن حذيفة بن اليمان ... الخ وإبراهيم لم يدرك حذيفة. وسند ابن أبي شيبة أضبط؛ فإن أبا معاوية من أثبت أصحاب الأعمش، وقد رواه عن إبراهيم، عن همام عن حذيفة. وكذا رواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 133) من طريق ابن نمير، عن الأعمش عن إبراهيم، عن همام به. وكذا رواه البيهقي (1/ 180) من طريق منصور، عن إبراهيم، عن همام به. فرواية أبي معاوية، وابن نمير، ومنصور، مقدمة علي رواية معمر, والله أعلم.

أدلة من قال: لا يجب غسل باطن الضفائر ولا المسترسل من الشعر.

والجواب عن الأثر: أولاً: أنه موقوف على صحابي. ثانياً: أنه طلب تخليل الرأس، لا تخليل الشعر، وبينهما فرق، فتخليل الرأس من أجل إيصال الماء إلى بشرة الرأس، وهو مشروع كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخلل شعره بيده حتى إذا ظن أنه أروى بشرته، أفاض الماء ثلاث مرات، ثم أفاض الماء على سائر جسده. فتبين من هذه الأدلة أن الصحيح منها ليس بصريح، وأن الصريح منها ليس بصحيح. أدلة من قال: لا يجب غسل باطن الضفائر ولا المسترسل من الشعر. الدليل الأول: أن الأحاديث كلها في غسل الجنابة تنص على غسل الرأس، وفرق بين غسل الرأس وغسل الشعر، فلو كان الواجب غسل الشعر لذكر. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬1). وهي أحاديث كثيرة أسوق بعضها: (169) حديث جبير بن مطعم في البخاري، ومسلم: ولفظ البخاري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأفيض. وقال مسلم: فأفرغ على رأسي ثلاثاً، وأشار بيديه كلتيهما. ¬

_ (¬1) مريم آية (64).

وفي رواية لمسلم: فيه أما أنا فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف (¬1). (170) ومنها حديث جابر في البخاري، ومسلم، وفيه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاث أكف فيفيضها على رأسه .. وذكر بقية الحديث. هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة صب على رأسه ثلاث حفنات من ماء (¬2). (171) وحديث جابر في مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، وإسماعيل بن سالم، قالا: أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله، أن وفد ثقيف سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن أرضنا أرض باردة فكيف بالغسل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا (¬3). (172) وفي حديث عائشة فى صفة غسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة كما في البخاري: "ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات" (¬4). ولفظ مسلم: "حفن على رأسه ثلاث حفنات" (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري (254) ومسلم (327). (¬2) البخاري (256) ومسلم (329). (¬3) صحيح مسلم (328). (¬4) البخاري (248). (¬5) صحيح مسلم مسلم (316).

(173) وفي حديث ميمونة في البخاري: "ثم أفاض على رأسه الماء" (¬1). ولفظ مسلم: "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات" (¬2). (174) وحديث أم سلمة في مسلم: إنما يكفي أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات .. الحديث (¬3). وسوف أسوقه بتمامه في الدليل الثاني. (175) وحديث عائشة في مسلم: لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (¬4). وإذا كان لا يجب مسح المسترسل من الشعر في الطهارة الصغرى، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬5). ولم يقل: بشعوركم. فكذلك لا يجب غسل المسترسل منه في الطهارة الكبرى، لأن الأحاديث لا تذكر إلا غسل الرأس، ولا تذكر غسل الشعر، وليس الاحتياط فى إيجاب غسل المسترسل منه، بل الاحتياط عدم الجزم بالوجوب، وتأثيم الناس حتى يثبت دليل صحيح صريح خال من النزاع. فإن قيل: أليس قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} يشمل جميع البدن؟ قيل: بلى، ولكن المسترسل من الشعر ليس من البدن، فنحن نوجب غسل ما كان ساتراً للبدن متصلاً به من أصول الشعر وليس المسترسل منه ¬

_ (¬1) البخاري (274). (¬2) صحيح مسلم (317). (¬3) صحيح مسلم (330). (¬4) صحيح مسلم (331). (¬5) المائدة آية (6).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (176) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم عن ابن عيينة - قال إسحاق أخبرنا سفيان - عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، افأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفي أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الاستدلال: أن أم سلمة رضي الله عنها أخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها تشد ضفر رأسها، فلم يأمرها بنقض ضفرها، ولو وجب غسل باطن الشعر، لوجب نقضه ليعلم أن الماء قد وصل إليه، ولما كفاه ثلاث حثيات. قال ابن قدامة: ومثل هذا لا يبل الشعر المشدود ضفره في العادة" (¬2). ولو كان واجباً لقال: "أن تحثي على شعرك" بدلاً من قوله: "على رأسك". الدليل الثالث: (177) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (330). (¬2) المغني (1/ 302).

الدليل الرابع

وعلي بن حجر جميعا، عن ابن علية قال يحيى: أخبرنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي الزبير، عن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (¬1). وجه الاستدلال منه كوجه الاستدلال من حديث أم سلمة. الدليل الرابع: قال ابن قدامة: "ولأن الشعر ليس من أجزاء الحيوان - يعني المتصل بل هو في حكم المنفصل - بدليل أنه لا ينجس بموته، ولا حياة فيه - يعني حياة حيوانية بل حياته كحياة الزرع - ولا ينقض الوضوء مسه من المرأة، ولا تطلق بطلاقة، فلم يجب غسله للجنابة كثيابها" (¬2). الدليل الخامس: (178) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر, قال: سمعت صفية بنت شيبة، تحدث عن عائشة أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض؟ فقال: "تأخذ إحداكن ¬

_ (¬1) رواه مسلم (331). (¬2) المغني (1/ 302).

ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم نصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرضة ممسكة فتطهر بها" فقلت أسماء: وكيف أتطهر بها؟ فقلى: "سبحان الله تطهرين بها" فقالت عائشة - كأنها تخفي ذلك -: تتبعين أثر الدم، وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال: "تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور، أو تبلغ الطهر، ثم تصب على رأسها فتدلكه، حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها من الماء" فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (¬1). وجه الاستدلال: قوله: "ثم تصب على رأسها فتدلكه" أي تدلك رأسها، فلم يأمرها إلا بدلك الشعر الذي على رأسها، بدليل قوله: "حتى تبلغ شؤون رأسها" والشؤون كما قال ابن الأثير: هي عظامه، وطرائقه ومواصل قبائله (¬2) , وكذا هو في اللسان (¬3). والمقصود من ذلك أصول شعر رأسها حتى يبلغ بشرة الرأس، ولم يذكر غسل ضفائرها. وهذا القول هو الراجح. والله أعلم. والقول الأول أحوط. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (61 - 332). (¬2) النهاية (2/ 437). (¬3) (13/ 231).

مسألة استحباب التيامن في الاغتسال

مسألة استحباب التيامن في الاغتسال أما التيامن في غسل الرأس ففيه دليل خاص: (179) فقد روى مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى العنزي، حدثني أبو عاصم، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه، بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه. رواه البخاري، ومسلم واللفظ لمسلم (¬1). وأما التيامن في البدن فليس فيه حديث صريح في غسل الجنابة والحيض، ولكن فيه حديث أم عطية رضي الله عنها: (180) قال البخاري: حدثنا مسدد، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا خالد، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن في غسل ابنته: "ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها". رواه البخاري ومسلم (¬2). (181) وفيه حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري، ومسلم (¬3) من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، سمعت أبي يحدث عن مسروق عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، ¬

_ (¬1) البخاري (258) ومسلم (318). (¬2) البخاري (167) ومسلم (42 - 939). (¬3) البخاري (168) (426) ومسلم (268).

وطهوره، وفي شأنه كله (¬1). ¬

_ (¬1) الحديث مداره على الأشعث بن سليم، سمعت أبي يحدث عن مسروق، عن عائشة مرفوعاً. وقد رواه جماعة عن الأشعث بن سليم على اختلاف في ألفاظهم، من تقديم وتأخير، وزيادة ونقص. فأحدها لفظ البخاري الذي قدمناه في الباب: "كان النبي يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله". اللفظ الثاني: ما رواه أحمد (6/ 94) من طريق بهز. والبخاري (426) من طريق سليمان بن حرب، كلاهما عن شعبة به، بلفظ: " كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره، وترجله، وتنعله". وهو عند مسلم (67 - 268) دون قوله: "ما استطاع" مع تقديم وتأخير. اللفظ الثالث: بزيادة: الواو في قوله: "وفي شأنه كله" بلفظ: "كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله". قال الحافظ في الفتع (168): "للأثر من الرواة بغير واو، وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو، وهي التي اعتمدها صاحب العمدة" اهـ. وهل بين هذه الألفاظ من اختلاف؟ فالجواب: أما على إثبات الواو، فإن الحديث ظاهره، أن التيامن سنة في جميع الأشياء، لا يختص بشيء دون شيء، ولفظ: "كل" صريح في العموم، خاصة وأنه جاء توكيداً بكلمة: "شأنه" المفردة المضافة الدالة على العموم بذاته، فكيف بعد توكيده بكلمة: "كل" إلا أن هذا العموم قد خص منه ما جاء في حديث عائشة أيضاً: "كان يد رسول - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولحاجته، وكانت اليسرى لخلائه، وما كان من أذى" - قلت: سنده صحيح - فهذا نص أن الأذى والخلاء اليسرى. وأما على الرواية بدون واو فليس فيها هذا العموم، قال صاحب الفتح (168): وأما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ على إسقاطها فقوله: "في شأنه كله" متعلق بـ يعجبه، لا بالتيمن. أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله .. الخ أي لا يترك ذلك سفراً ولا حضراً ولا في فراغه، ولا شغله، ونحو ذلك". وجاء في بعض ألفاظ الحديث من دون قوله: "في شأنه كله" فقد رواه أحمد (6/ 147) عن محمد بن جعفر، ورواه أيضاً (6/ 202) عن يحيى بن سعيد القطان. وأخرجه البخاري (5926) عن أبي الوليد، ومن طريق عبد الله بن المبارك (5380) كلهم عن شعبة به بدون قوله "في شأنه كله". ورواه مسلم (268) والترمذي (608) من طريق أبي الأحوص عن أشعث به. بدون ذكرها، والراجح والله أعلم أنها محفوظة، لأن محمد بن جعفر، وعبدان قد صرحا في آخر الحديث عن شعبة بأن أشعث كان قد قال بواسط: "في شأنه كله" فبين شعبة أن كلمة "في شأنه كله" ثبت في السماع القديم، والسماع القديم مقدم على غيره.

الفرع السادس: في غسل البدن, وهل يغسل ثلاثا

الفرع السادس: في غسل البدن, وهل يغسل ثلاثاً فقيل: يستحب، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يستحب، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬4). واختاره ابن تيمية من الحنابلة (¬5)، وهو الراجح. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 34)، شرح فتح القدير (1/ 58). (¬2) روضة الطالبين (1/ 90)، مغني المحتاج (1/ 74)، المجموع (2/ 213) قال النووي: "المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه يستحب إفاضة الماء على جميع البدن ثلاث مرات". (¬3) الإنصاف (1/ 253)، الفروع (1/ 204)، كشاف القناع (1/ 152)، المحرر (1/ 20). (¬4) نصت كتب المالكية على أن من سنن الغسل تثليث الرأس، ومعناه أنه لا يشرع التثليث لما عداه، وصرح بعضهم بأنه لا يشرع تثليث البدن. بل كره كثير منهم التثليث في أعضاء الوضوء فضلاً عن الغسل. انظر المسألة في الكتب التالية. الشرح الصغير (1/ 172)، بمختصر خليل (ص: 15)، وشروحه الخرشي (1/ 171)، وقال في حاشية العدوي المطبوع بهامش شرح الخرشي: "ليس شيء في الغسل يندب فيه التكرار غير الرأس" شرح الزرقاني (1/ 104). منح الجليل (1/ 129 - 130)، وذكر فيه كراهة تثليث أعضاء الوضوء، ونص على استحباب التثليث في الرأس. وقال في الشرح الكبير (1/ 136، 137) "يندب بدؤه بأعضاء وضوءه كاملة مرة بنية رفع الجنابة، فلا يندب التثليث بل يكره". (¬5) الإنصاف (1/ 253)، الفروع (1/ 204).

أدلة الجمهور في استحباب غسل البدن ثلاثا.

وقيل: يستحب التكرار في غسل الحيض دون الجنابة. وهو رواية عن أحمد (¬1) أدلة الجمهور في استحباب غسل البدن ثلاثاً. الدليل الأول: (182) روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا هشام، عن أبيه عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فبدأ فغسل كفيه ثلاثاً (¬2). والوضوء جزء من غسل الجنابة، فإذا ثلث فيه غسل الكفين كان التثليث في سائره مشروعاً. الدليل الثاني: (183) ما رواه أحمد، قال: ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يغتسل من جنابة يغسل يديه ثلاثاً، ثم يأخذ بيمينه ليصب على شماله، فيغسل فرجه حتى ينقيه، ثم يغسل يده غسلاً حسناً، ثم يمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ثم يصب الماء على رأسه ثلاثاً، ثم يغسل، فإذا خرج غسل قدميه (¬3). ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 99). (¬2) صحيح مسلم (36 - 316). (¬3) المسند (6/ 96). والتثليث فيه ليس. بمحفوظ، وقد سبق تخريج الحديث.

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: إذا ثبت التثليث في الوضوء، وهو جزء من غسل الجنابة، كان التثليث في سائر البدن مقيساً عليه. وأجيب: أما التثليث في الوضوء من الحدث الأصغر فهذا ثابت في السنة الصحيحة، ولكن لا يسلم القياس لاختلاف الموجب. وما يجب في هذا قد لا يجب في ذاك، كالترتيب والموالاة، وإذا اختلفا فيما يجب اختلفا فيما يستحب. وأما التثليث في وضوء الغسل من الجنابة فالصحيح أنه لا يشرع، وقد بينا في مسألة مستقلة شذوذ حديث عطاء بن السائب عن أبي سلمة فقد رواه بكير الأشج عن أبي سلمة به وليس فيه ذكر التثليث كما في مسلم، كما اختلف أصحاب عطاء في ذكر التثليث، فرواه شعبة عن عطاء، وهو من أثبت من روى عنه ولم يذكر التثليث، وحديث ميمونة فى غسل الجنابة فيه تفصيل الوضوء ولم تذكر تثليثاً. انظر مسألة الخلاف بين العلماء: هل يسن تثليث أعضاء الوضوء؟ وما هو الراجح منها؟ الدليل الثالث: (184) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا سليمان بن حرب الواشحي، ومسدد قالا: حدثنا حماد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة - قال سليمان - يبدأ فيفرغ

بيمينه على شماله، وقال مسدد: غسل يديه يصب الإناء على يده اليمنى، ثم اتفقا: فيغسل فرجه. وقل مسدد: يفرغ الإناء على شماله - وربما كنت عن الفرج - ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يدخل يديه في الإناء، فيخلل شعره، حتى إذا رأى أنه قد أصاب البشرة أو أنقى البشرة افرغ على رأسه ثلاثاً، فإذا فضل فضلة صبها عليه (¬1). [الحديث صحيح، إلا زيادة: "فإذا فضل فضلة صبها عليه فليست محفوظة] (¬2). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (242). (¬2) الحديث مداره على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعاً. رواه حماد بن زيد كما في إسناد أبي داود هذا، بزيادة: "فإذا فضل فضلة صبها عليه". ولم ينفرد حماد بن زيد بهذه الزيادة، بل تابعه عليها غيره، قال ابن رجب في شرحه للبخاري (1/ 266): وروى وهب هذا الحديث عن هشام، وقال فيه: "ثم أفاض الماء على جسده فإن بقي من الإناء شيء أفرغه عليه". ورواه أيضاً مبارك بن فضالة عن هشام بنحوه. خرجها ابن جرير الطبري. اهـ. وقد رجعت إلى تفسير الطبري ولم أجد هذه المتابعات في مظانها، فلعلها في كتب أخرى للطبري. ولم ينسب وهباً هذا فلم أعرفه، ولم أجد من تلاميذ هشام في تهذيب المزي أحداً اسمه وهب، وقد رجعت إلى أطراف المزي في رواية هشام عن أبيه عن عائشة، ولم أجد من الرواة أحداً اسمه وهب فلعله: (وهيب). وعلى كل فهذه الزيادة شاذة لأنه قد رواه جمع عن هشام ولم يذكروها، وإليك ما وقفت عليه منهم. الأول: مالك، كما في الموطأ (1/ 44)، والبخاري (248) والنسائي (1/ 200، 134)، والبيهقي (1/ 194، 175). الثاني: سفيان بن عيينة. كما في مسند الحميدي (163)، والترمذي (104)، والنسائي (1/ 135).

الدليل الرابع

وجه الاستدلال: قوله: "فإذا فضل فضلة صبها عليه". لا تسمى فضلة إلا بعد الفراغ من الاغتسال، وكونه صبها على بدنه بعد الفراغ من الاغتسال فيه تكرار الغسل للموضع الذي أصابه الماء، وإذا جاز تكراره أكثر من مرة جاز ثلاثاً. الدليل الرابع: (185) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، حدثني فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: سأله رجل عن الغسل من الجنابة، فقال: ثلاثاً، ¬

_ الثالث: وكيع بن الجراح كما في المصنف لابن أبي شيبة (1/ 64) ومسلم (316). الرابع: حماد بن سلمة. كما في مسند أحمد (6/ 101). الخامس: ابن جريج كما في مصنف عبد الرزاق (999) وقد صرح بالتحديث. السادس: عبد الله بن المبارك كما في البخاري (272). السابع: جعفر بن عون. كما في الدارمي (748) والبيهقي (1/ 73). الثامن: أبو معاوية. في صحيح مسلم (316)، البيهقي (1/ 174). التاسع، والعاشر، والحادي عشر: جرير، وعلي بن مسهر، وابن نمير. كما في مسلم (316). الثاني عشر: زائدة، كما في مسلم (316) والبيهقي (1/ 172). فهؤلاء اثنا عشر حافظاً رووه عن هشام بدون ذكر زيادة حماد، فلو كانت محفوظة لذكروها أو بعضهم.

فقال: إني كثير الشعر، قال أبو سعيد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر شعراً منك وأطيب (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (6/ 54). (¬2) ورواه ابن أبي شيبة (1/ 66) رقم 705: حدثنا وكيع، عن فضيل به، وأخرجه ابن ماجه (576) من طريق وكيع وابن فضيل جميعاً عن فضيل بن مرزوق به. وفيه عطية العوفي: قال النسائي: عطية العوفي ضعيف. الضعفاء والمتروكين (505). وقال أحمد: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (6/ 382)، ضعفاء العقيلي (3/ 359). وقال أيضاً: كان الثوري يضعف حديثه. الكامل (5/ 369). وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه، وأبو نضرة أحب إلي من عطية. الجرح والتعديل (6/ 382). وقال أبو زرعة: كوفي لين. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين: صالح، كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (6/ 382). وقال أيضاً: ضعيف، كما في رواية ابن أبي مريم. الكامل (5/ 369)، ورواية ابن الجارود. الضعفاء الكبير - العقيلي (3/ 359). وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب. المجروحين (2/ 176). وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة، ومن الناس من لا يحتج به الطبقات الكبرى (6/ 304). وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وليس بالقوي. ثقات العجلي (2/ 140). وقال أبو داود ليس بالذي يعتمد عليه. تهذيب التهذيب (7/ 226). وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيراً، وكان شيعياً مدلساً.

الدليل الخامس

وقال ابن رجب في شرح البخاري: "عطية هو العوفي، فيه ضعف مشهور، ولعله أراد الثلاث في غسل الرأس ولهذا قال له السائل: إن شعري كثير". وقد خرجه أبو نعيم: الفضل بن دكين في كتاب الصلاة له، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: سأل رجل أبا سعيد الخدري، كم يكفي لغسل رأسه؟ قال: ثلاث حفنات، وجمع يديه، وذكر بقية الحديث". اهـ (¬1). الدليل الخامس: (186) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا الحسين بن عيسى الخراساني، حدثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة - يعني مولى لابن عباس - قال: إن ابن عباس كان إذا اغتسل من الجنابة يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرار، ثم يغسل فرجه، فنسي مرة كم أفرغ، فسألني كم أفرغت؟ فقلت: لا أدري، فقال: لا أم لك وما يمنعك أن تدري؟ ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على جلده الماء، ثم يقول: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتطهر (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب (1/ 266). (¬2) سنن أبي داود (246). (¬3) فيه شعبة بن دينار القرشي مولى ابن عباس. قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/ 303).

وكأن الإمام أحمد رحمه الله فهم من الحديث التسبيع فى غسل البدن. قل ابن رجب: "وحكى الإمام أحمد أن ابن عباس كان يغتسل من الجنابة بسبع مرار وقال: هو من حديث شعبة يعني: مولى ابن عباس مشهور عنه (¬1). وهكذا فهم أبو الطيب محمد شمس الحق أبادي، قال: "الظاهر من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل أعضاءه في الغسل سبع مرار" (¬2). والظاهر أن التسبيع كان في غسل الفرج، لأنه لم يذكر التسبيع إلا في غسل اليد اليسرى، واليد اليسرى هي التي يغسل بها المرء فرجه قبل الاغتسال. قال ابن رجب: "وليس في هذه الرواية التسبيع سوى في غسل يده اليسرى قبل الاستنجاء، ويحتمل أن المراد به التسبيع في غسل الفرج خاصة، وهو الأظهر" (¬3). ¬

_ وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279)، تهذيب الكمال (12/ 497). وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال أحمد: ما أرى به بأساً. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس. وقال في رواية ابن أبي خيثمة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال ابن عدي: ولم أر له حديثاً منكراً جداً، فأحكم له بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/ 23). وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ. (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (1/ 267). (¬2) عون المعبود (1/ 288). (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (1/ 267).

دليل من قال: لا يستحب التثليث في غسل البدن من الحدث الأكبر.

وذكر ابن عبد البر في التمهيد، قال: عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعاً وفرجه سبعاً" فنص على غسل الفرج، وإن كان هذا الاحتمال يضعفه أن شعبة كان يفرغ على ابن عباس، ولا يمكن أن يكشف ابن عباس عورته لشعبة وعلى كل فالحديث ضعيف فلا حجة فيه (¬1) دليل من قال: لا يستحب التثليث في غسل البدن من الحدث الأكبر. قالوا: الأحاديث الصحيحة في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة لم يرد فيها أنه غسل بدنه ثلاثاً، وإذا لم يرد، لم يكن مشروعاً، فحديث عائشة، وحديث ميمونة في الصحيحين وحديث أم سلمة في مسلم وغيرها من الأحاديث لا تذكر التثليث. قال ابن رجب: "حكت ميمونة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم تذكر في غسل شيء من أعضائه عدداً إلا في غسل يديه في ابتداء الغسل، مع شك الراوى هل كان غسلهما مرتين أو ثلاثاً؟ وهذا الشك هو من الأعمش، ثم قال: "وأطلقت الغسل في الباقي، فظاهره أنه لم يكرر غسل شيء من جسده بعد ذلك، لا في الوضوء ولا في الغسل بعد" (¬2). ¬

_ (¬1) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 417). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (1/ 264).

دليل التفريق بين غسل الحيض وبين غسل الجنابة.

وقال البخاري: باب الغسل مرة، ثم ذكر حديث ميمونة وفيه: "ثم أفاض على جسده" (¬1). قال الحافظ: "قال ابن بطال، لم يقيده بعدد، فيحمل على أقل ما يسمى وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها". وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله (¬2). وقال السعدي رحمه الله: "والصحيح أن التثليث لا يشرع في الغسل إلا في غسل الرأس، لأن ذلك هو الوارد في صفة غسله، فلم يثبت عنه سوى هذا، وقياس الوضوء على الغسل غير مسلم لوجود الفارق من وجوه كثيرة" انتهى كلامه رحمه الله (¬3). قلت: يضاف إلى الرأس غسل الكفين ثلاثاً في ابتداء الغسل، فإنه قد ثبت فيه التثليث. دليل التفريق بين غسل الحيض وبين غسل الجنابة. وفرق بعضهم بين غسل الحيض وبين غسل الجنابة، فقال في التكرار فى غسل الحيض ولم يستحبه في غسل الجنابة. فقد نقل ابن رجب عن يعقوب بن بهتان: سألت أحمد عن النفساء والحائض كم مرة يغتسلان؟ قال: كما تغسل الميتة (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (257). (¬2) الإنصاف (1/ 253). (¬3) المختارات الجلية (ص 24). (¬4) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 98).

وقال ابن رجب أيضاً: "غسل الحيض يستحب تكراره كغسل الميتة، بخلاف غسل الجنابة. هذا ظاهر كلام أحمد" (¬1). والدليل على استحبابه التثليث في غسل الميتة. (187) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية: رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه. ورواه مسلم (¬2). ولعل من الحق الحيض بغسل الميت رأى أنهما غسلان يستحب فيهما استعمال السدر ولا يستحب في غسل الجنابة، والراجح مذهب المالكية، وأنه لا يشرع التثليث في غسل الحيض ولا في غسل الجنابة، ولا حاجة إلى استعمال القياس مع ورود صفة الغسل من الجنابة والحيض من الشارع. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق (2/ 99). (¬2) البخاري (1253) ومسلم (939).

الفرع السابع في غسل الرجلين

الفرع السابع في غسل الرجلين إذا اغتسلت المرأة للحيض، وبدأت بالوضوء، فهل تغسل رجليها مع الوضوء، أم تؤخر غسلهما إلى تمام الغسل، اختلف الفقهاء في ذلك. فقيل: لا تغسلهما مع الوضوء بل تؤخر غسلهما إلى تمام الغسل. وهو مذهب الحنفية، (¬1) وقول في مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: يغسلهما مع الوضوء. وهو مذهب المالكية (¬5)، والمشهور عند الشافعية (¬6). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 58). (¬2) قال الصاوري في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 172): "لهم - يعني أهل المذهب طريقتان في الوضوء: التثليث، وعدمه، وتقديم الرجلين قبل غسل الرأس، وتأخيرهما بعد تمام الغسل. ورجح تأخير غسل الرجلين محمد عليش في منح الجليل (1/ 128). (¬3) قال النووي في روضة الطالبين (1/ 89): "تحصل سنة الوضوء سواء أخر غسل القدمين إلى الفراغ، أو فعله بعد مسح الرأس والأذن. وأيهما أفضل؟ قولان، المشهور أنه لا يؤخر. (1/ 588). (¬4) الفروع (1/ 204)، المستوعب (1/ 240)، المغني (1/ 288). (¬5) التفريع - ابن الجلاب (1/ 194)، أسهل المدارك (1/ 67)، الشرح الصغير (2/ 172)، المعونة (1/ 132)، وقال فى جواهر الإكليل (1/ 23): "ثم أعضاء وضوءه كاملة - أي يغسلهما - فلا يؤخر غسل رجليه إلى آخر غسله" اهـ. (¬6) روضة الطالبين (1/ 89).

دليل من قال يؤخر غسل رجليه.

وقيل: يغسلهما مع الوضوء، ويعيد غسلهما بعد تمام الغسل. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم (¬2). وقيل: التقديم في غسل الرجلين والتأخير سواء. وهو رواية عن أحمد (¬3). دليل من قال يؤخر غسل رجليه. (188) استدلوا بما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب, عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه وما أصابه، ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه. ورواه مسلم أيضاً بنحوه (¬4). دليل من قال: لا يؤخر غسل القدمين. (189) استدلوا بحديث عائشة، فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 253). (¬2) الفروع (1/ 204). (¬3) المغني - ابن قدامة (1/ 289)، الفروع (1/ 204). (¬4) صحيح البخاري (281)، مسلم (317).

دليل من قال: التقديم والتأخير سواء.

زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله. ورواه مسلم بنحوه (¬1). دليل من قال: التقديم والتأخير سواء. لعل من خير بينهما رأى أن حديث عائشة وحديث ميمونة صفتان في الغسل، فأيهما فعل فقد فعل السنة. دليل من قال: إن التقديم والتأخير يتعلق بالمكان. قال: الظاهر أنه غسل قدميه في حديث ميمونة عند الحاجة كما لو كانت الأرض طيناً، ولو لم يغسلهما لتلوثت رجلاه بالطين، ويدل لهذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يغسل قدميه في حديث عائشة بعد الغسل. قال النووي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعيد غسل القدمين بعد الفراغ لإزالة الطين، لا لأجل الجنابة (¬2). دليل من قال يغسل القدمين مرتين مع الوضوء وفي نهاية الغسل. (190) استدلوا بحديث عائشة عند مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (248)، ومسلم (316). (¬2) شرح النووي لصحيح مسلم (3/ 296).

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، حتى إذا رأى أن قد استبرأ، حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (316)، وقد انفرد أبو معاوية بقوله: "ثم غسل رجليه"، وجميع من رواه عن هشام لم يذكروا هذه الزيادة، ورواية هشام بن عروة عن عائشة متكلم فيها، كما ذكرت ذلك في باب الاستحاضة في زيادة الوضوء لكل صلاة، فارجع إليها إن شئت. وقد رواه البخاري (248) من طريق مالك، ورواه (272) من طريق ابن المبارك، ورواه (262) من طريق حماد. ورواه مسلم (316) من طريق جرير، وعلي بن مسهر، وابن نمير، ووكيع، وزائدة، ثمانيتهم، رووه عن هشام به فلم يذكروا ما ذكره أبو معاوية. وهذه المقارنة فقط في الصحيحين، ولو تتبعت المسانيد والسنن والمعاجم لتحصل لي أكثر من هذا العدد. قال الحافظ في الفتح (1/ 477) ح 248: استدل لهذا الحديث - يعني حديث عائشة - على استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل، ولا يؤخر غسل رجليه إلى فراغه، وهو ظاهر من قوله: "كما يتوضأ للصلاة" وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه، لكن رواه مسلم من رواية أبي معاوية، عن هشام، فقال في آخره: "ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه "وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام، قال البيهقي: وهي غريبة صحيحة، قلت - القائل الحافظ -: لكن في رواية أبي معاوية عن هشام مقال. نعم له شاهد من رواية أبي سلمة، عن عائشة، أخرجه أبو داود الطيالسي، فذكر حديث الغسل كما تقدم عند النسائي، وزاد في آخره، فإذا فرغ غسل رجليه. فإما أن تحمل الروايات عن عائشة على أن المراد بقولها: وضوءه للصلاة: أي أكثره، وهو ما سوى الرجلين. أو يحمل على ظاهره، ويستدل برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء. ويحتمل أن يكون قوله في رواية أبي معاوية: "ثم غسل رجليه" أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في

الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم قال: ثم غسل رجليه" فالحديث ظاهره أنه غسل رجليه مرتين، مرة مع الوضوء، ومرة بعد تمام الغسل. والله أعلم. الراجح من هذه الأقوال: القولان: بتقديم الرجلين أو تأخيرهما هما اللذان لهما حظ من النظر، أما بقية الأقوال في المسألة كتعليقه بالحاجة كالطين ونحوه فلا يظهر لي رجحانه. وحديث عائشة وقوله: "ثم توضأ وضوءه للصلاة" ظاهره الوضوء كاملاً، لكن لا يمنع من اطلاق الوضوء ويراد به أكثره، كما جاء في حديث ميمونة، فإنهم لا يختلفون أنه توضأ إلا رجليه، ومع ذلك جاء في حديث ميمونة أنه توضأ للصلاة. (191) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، ¬

_ الوضوء" اهـ. قلت: الشاهد الذي أشار إليه الحافظ من رواية أبي سلمة، عن عائشة، أخرجها أبو داود الطيالسي في مسنده (1474) حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم أخذ بيمينه، فصب على شماله فغسل فرجه، حتى ينقيه، ثم مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم صب على رأسه وجسده بالماء، فإذا فرغ غسل قدميه. اهـ ورواه أحمد في المسند (6/ 96) ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة به. وقد انفرد حماد بن سلمة بهذا عن جميع من رواه عن عطاء بن السائب، وقد تكلمت على هذا الطريق في مسألة مستقلة فارجع إليها إن شئت.

قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. فهنا في الحديث ذكر أنه توضأ وضوءه للصلاة، ثم ذكر بعد تمام الغسل غسل الرجلين، فالمراد توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، فأطلق الوضوء والمراد غير رجليه، فلا يمنع أن يكون الوضوء في حديث عائشة المراد به غير رجليه. خاصة إذا قلنا إن رواية أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن عائشة في صحيح مسلم تؤيد ما ذكر، تؤيدها أيضاً رواية حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي سلمة، عن عائشة. قال الحافظ في الفتح متعقباً النووي في قوله: "أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه، قال: لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك" اهـ كلام النووي، قال ابن حجر معقباً: "كذا قال، وليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي إما محتملة كرواية: "توضأ وضوءه للصلاة" أو ظاهرة في تأخيرهما كرواية أبي معاوية المتقدمة، وشاهدها من طريق أبي سلمة، ويوافقها أكثر الروايات عن ميمونة، أو صريحة في تأخيرهما كحديث الباب - يعني رواية التصريح في رواية ميمونة: وفيه: "توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه" - وراويها مقدم في الحفظ والفقه على جميع من رواه عن الأعمش، وقول من قال: إنما فعل ذلك مرة لبيان الجواز، متعقب، فإن رواية أحمد، عن أبي

معاوية، عن الأعمش ما يدل على المواظبة: ولفظه: كان رسول إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، فذكر الحديث، وفي آخره: "ثم يتنحى فيغسل رجليه". اهـ (¬1) وأبو معاوية من أثبت الناس في الأعمش، وحديثه عنه في الصحيحين. وقول الحنفية: إن الحامل على غسل الرجلين لأن المكان كان قد اجتمع فيه ماء مستعمل، فيغسل القدمان من الغسالة (¬2) قول ضعيف؛ لأن الماء المستعمل طهور على الصحيح. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الفتح (1/ 477) ح 249. والرواية التي أشار إليها الحافظ هي في المسند (6/ 330، 329) ولفظها بتمامها: عن ميمونة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يضرب يده على الأرض، فيمسحها، ثم يغسلها، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفرغ على رأسه وعلى سائر جسده، ثم يتنحى فيغسل رجليه. وهذه الرواية فيها أيضاً قوله: "يتوضأ وضوءه للصلاة" ومع ذلك فالمراد غير رجليه، فإذا صح أن يطلق على من غسل أعضاءه غير رجليه أنه توضأ وضوءه للصلاة، لم يكن حديث عائشة صريحاً أنه أكمل الوضوء، وكان المجمل في حديث عائشة محمول على المبين. والله اعلم. (¬2) مراقي الفلاح (ص: 44).

الفرع الثامن: الفرق بين غسل الحيض وغسل الجنابة

الفرع الثامن: الفرق بين غسل الحيض وغسل الجنابة قال ابن رجب: "غسل الحيض والنفاس يفارق غسل الجنابة من وجوه: أحدهما: أن الوضوء في غسل الحيض لا فرق بين تقديمه وتأخيره، وغسل الجنابة السنة تقديم الوضوء فيه على الغسل". وأخذه ابن رجب من سؤال يعقوب بن بختان لأحمد: وسألت أحمد عن الحائض متى توضأ؟ قال: إن شاءت توضأت إذا بدأت واغتسلت، وإن شاءت اغتسلت ثم توضأت". وعلق على هذا ابن رجب فقال: وظاهر هذا أنها مخيرة بين تقديم الوضوء وتأخيره، فإنه لم يرد في السنة تقديمه - كما في غسل الجنابة - وإنما ورد في حديث أبي الأحوص، عن إبراهيم بن المهاجر: "توضأ وتغسل رأسها وتدلكه" بالواو، وهي لا تقتضي ترتيباً (¬1). قلت: قد قدمت بأن تقديم الوضوء على غسل الحيض ثابت، وناقشت هذه المسألة في فصل مستقل، وهذا الذي ذكره لا يصح ذكره من الفروق بين الغسلين والثاني: قال ابن رجب موصولاً بما تقدم: "أن غسل الحيض يستحب أن ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 98).

يكون بماء وسدر، ويتأكد استعمال السدر فيه، بخلاف غسل الجنابة". قلت: الدليل على استعمال السدر مع الماء في غسل الحيض. (192) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث عن عائشة، أن أسماء بنت شكل سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض؟ فقال: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء" وذكر بقية الحديث. وقد خرجته فيما سبق. وقد فهم القرطبي رحمه الله في المفهم أن السدر يستعمل لإزالة ما عليها من نجاسة الحيض، لا أنها تستعمله في غسل بدنها. قال رحمه الله: "قوله: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها" السدر: هنا هو الغاسول المعروف، وهو المتخذ من ورق شجر النبق، وهو السدر، وهذا التطهر الذي أمر باستعمال السدر فيه، هو لإزالة ما عليها من نجاسة الحيض، والغسل الثاني للحيض" (¬1). فجعل القرطبي أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فتطهر فتحسن الطهور" هو إزالة ما عليها من نجاسة دم الحيض بالماء والسدر. وقوله: "ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليها الماء" هذا وهو غسل الحيض ¬

_ (¬1) المفهم (1/ 588).

وهو بالماء وحده. والذي يظهر لي أن قوله: "تأخذ ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور" المقصود به الوضوء خاصة بدليل الرواية المفصلة عند أبي داود: "تأخذ سدرها وماءها فتوضأ ثم تغسل رأسها" الحديث ... (¬1). فالصحيح أن السدر تستعمله في غسل بدنها كما يستعمل في غسل الميت، فتغسل به بدنها. ففي شرح البخاري لابن رجب "قال الميموني: قرأت على ابن حنبل: أيجزئ الحائض الغسل بالماء؟ فأملى علي: إذا لم تجد إلا هو وحده اغتسلت به، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ماءك وسدرتك"، وهو أكثر من غسل الجنابة. قلت: وإن كانت قد اغتسلت بالماء ثم وجدته؟ قال: أحب إلي أن تعود لما قال" (¬2). فهذا فارق صحيح بين غسل الحيض وغسل الجنابة، وإذا لم تجد السدر يكفي ما ينوب منابه من الصابون ونحوه من المطهرات. الفارق الثالث: يستحب للحائض أن تأخذ شيئاً من مسك فتجعله في قطنة أو خرقة أو نحوها وتدخلها في فرجها بعد اغتسالها ومثلها النفساء. (193) لما روى البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (314). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 99).

منصور بن صفية، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض فأمرها أن تغتسل، قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها. قالت: كيف؟ قال: سبحان الله تطهري بها، فاجتبذتها، فقلت: تتبعي بها أثر الدم. ورواه مسلم أيضاً (¬1). قال ابن رجب: "وعلل أحمد ذلك بأنه يقطع زفورة الدم، وهذا هو المأخذ الصحيح عند أصحاب الشافعي أيضاً. وشذ الماوردي فحكى في ذلك وجهين: أحدهما: أن المقصود بالطيب تطييب المحل ليكمل استمتاع الزوج بإثارة الشهوة وكمال اللذة. والثاني: لكونه أسرع إلى علوق الولد. قال: فإن فقدت المسك، وقلنا بالأول أتت بما يقوم مقامه في دفع الرائحة. وإن قلنا بالثاني فما يسرع إلى العلوق كالقسط والأظفار ونحوهما قال: واختلف الأصحاب في وقت استعماله، فمن قال بالأول: قال: بعد الغسل. ¬

_ (¬1) البخاري (314) ومسلم (331). قال ابن رجب في شرح البخاري (2/ 96): "والمسك هو الطيب المعروف، هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور، وزعم ابن قتيبة والخطابي: أن الرواية مَسك بفتح الميم، والمراد به الجلد الذي عليه صوف، وأنه أمرها أن تدلك به مواضع الدم". ورد ابن رجب كلام الخطابي وابن قتيبة، وقال: إن أحمد والشافعي أعلم بالسنة واللغة وبألفاظ الحديث ورواياته من مثل ابن قتيبة والخطابي ومن حذا حذوهما ممن يفسر اللفظ بمحتملات اللغة البعيدة. اهـ بتصرف يسير.

ومن قال بالثاني: فقبله، ثم قال: "والصواب أن المقصود به تطييب المحل، وأنها تستعمل بعد الغسل، ثم ذكر حديث عائشة أن أسماء بنت شكل سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها" (¬1). قال: وقد اتفقوا على استحبابه للزوجة وغيرها، والبكر والثيب. والله أعلم. قال: واستعمال الطيب سنة متأكدة يكره تركه بلا عذر (¬2). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذي فرصة ممسكة فتطهري بها"، وفي رواية: "توضئي بها" يدل على أن المراد به التنظيف والتطيب والتطهير. وذلك سماه تطهيراً وتوضئاً، والمراد الوضوء اللغوي الذى هو النظافة. وقد ترجم البخاري رحمه الله فقال: باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض. (194) وساق البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حفصة، عن أم عطية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، وقد ¬

_ (¬1) رواه مسلم (232). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 99 - 100).

رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيض في نبذة من كست أظفار، وكنا ننهى عن اتباع الجنائز (¬1). قل الحافظ ابن حجر رحمه الله: المراد بالترجمة أن تطيب المرأة عند الغسل من المحيض متأكد بحيث أنه رخص للحادة التي حرم عليها استعمال الطيب في شيء منه مخصوص، ثم نقل عن النووي: "ليس القسط والظفر من مقصود الطيب، وإنما رخص فيه للحادة إذا اغتسلت من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة. وقال المهلب: رخص لها في التبخر لدفع رائحة الدم عنها لما تستقبله من صلاة" (¬2). وقال ابن رجب: "كذلك قول عائشة: "تتبعي به مجاري الدم" إشارة إلى إدخاله الفرج. واستحب بعض الشافعية استعمال الطيب في كل ما أصابه دم الحيض من الجسد أيضاً، لأن المقصود قطع رائحة الدم حيث كان. ونص أحمد على أنه لا يجب غسل باطن الفرج من حيض ولا جنابة ولا استنجاء. قال جعفر بن محمد: قلت لأحمد: إذا اغتسلت من المحيض تدخل يدها؟ قال: لا إلا ما ظهر ولم ير أن تدخل أصابعها ولا يدها في فرجها في غسل ولا وضوء" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (313). (¬2) فتح الباري في شرحه لحديث (313). (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 100).

الفرع التاسع: صفة الغسل الكامل والمجزي

الفرع التاسع: صفة الغسل الكامل والمجزي ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا فرق بين غسل الجنابة وغسل الحيض، فقد روى ابن أبي شيبة، قال رحمه الله تعالى: حدثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله - يعني: ابن عمر - عن عطاء والزهري قالا: الغسل من الجنابة والحيض واحد (¬1). وسنده صحيح. ورواه الدارمي من طريق الأوزاعي، عن عطاء، والزهري به (¬2). وقال ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر: قال مالك: اغتسال المرأة من المحيض كاغتسالها من الجنابة (¬3). وقال الشافعي في الأم: وغسلها من الحيض كغسلها من الجنابة لا يختلفان (¬4). ولعل قولهم: "غسل الجنابة والحيض واحد" يعني فيما يجب لا فيما يستحب، فالسدر، والمسك يستحبان في غسل الحيض والنفاس، ولا يستحبان في غسل الجنابة كما قد أوضحت". وإذا كان غسل الجنابة والحيض واحداً، فسوف نفصل الاغتسال من ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 74) رقم 804. (¬2) سنن الدارمي (1147). (¬3) فتح البر (3/ 421). (¬4) الأم (1/ 40).

الجنابة ما لم يرد ذكره مفصلاً في غسل الحيض، وسنعتمد إن شاء الله على مشروعيته والاستدلال عليه من وروده في غسل الجنابة. فأقول وبالله التوفيق: الغسل نوعان: كامل - ومجزي أما صفة الكامل. أولاً: أن تنوي، وقد ذكرنا موقف العلماء من حكم النية، فالجمهور على أن النية شرط، والأحناف على أن النية مستحبة، والحق مع الجمهور. ثانياً: لا يشرع لها التسمية. لكن إن توضأت المرأة قبل اغتسالها قد يستحب لها ذلك، وقد فصلنا الخلاف في هذا. ثالثاً: غسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالها في الإناء. (195) لما رواه البخاري ومسلم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ... الحديث (¬1). وهذا مستحب، إلا إن كانت قائمة من نوم الليل فالحنابلة يوجبونه (¬2). والجمهور على استحبابه (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (262)، ومسلم (316). (¬2) الإنصاف (1/ 130)، الكافي (1/ 26، 25)، الفروع (1/ 144)، كشاف القناع (1/ 92). (¬3) تبيين الحقائق (1/ 4, 3)، البحر الرئق (1/ 19, 18)، شرح فتح القدير (1/ 20)، البناية (1/ 124)، بداية المجتهد مع الهداية (1/ 105)، الشرح الصغير (1/ 118)، الخرشي

(196) وفي حديث ميمونة في البخاري، ومسلم: فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً (¬1). (197) وفي حديث عائشة عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فبدأ فغسل كفيه ثلاثاً (¬2). رابعاً: غسل الأذى الذي على البدن. (198) لما رواه مسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل بدأ بيمينه فصب عليها من الماء فغسلها ثم صب الماء على الأذى الذي به بيمينه، وغسل عنه بشماله حتى إذا فرغ من ذلك صب على رأسه (¬3). قلت: وهذا الأذى إن كان يمنع وصول الماء كانت إزالته واجبة وإلا فمستحبة. خامساً: تنظيف اليد بعد غسل الأذى. (199) لما روى البخاري، ومسلم، واللفظ له: عن ميمونة رضي الله عنها قالت: أدنيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ به على فرجه، ¬

_ (1/ 132، 133)، حاشية الدسوقي (1/ 96)، الأم (1/ 24)، مغني المحتاج (1/ 57)، نهاية المحتاج (1/ 185). (¬1) صحيح البخاري (272)، ومسلم (317). (¬2) صحيح مسلم (316). (¬3) صحيح مسلم (321).

وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً ... الحديث (¬1). فيستحب بعد غسل الأذى على البدن، أن تدلك يدها لتطهرها، إما بالأرض، أو بالحائط، أو ما يقوم مقامهما من الصابون ونحوه. سادساً: البداءة بالغسل بأعضاء الوضوء. وهو سنة، ومحله قبل الاغتسال، وتتوضأ إلا في رأسها فإنها تغسله بدل مسحه، ولا يشرع في هذا الوضوء غسل الأعضاء ثلاثاً بل تكتفي بغسلها مرة واحدة بنية رفع الحدث الأكبر، ثم تغسل بقية بدنها ولا تعيد غسل أعضاء الوضوء مرة ثانية، ولا تنقض شعرها لغسل الجنابة والحيض ولا لغيرهما، ويستحب لها غسل ما استرسل من الشعر، وسواء دخل الماء إلى باطن الضفائر أم لا. والسنة في غسل الرأس أن تخلل شرها بالماء حتى إذا ظنت أنها قد أروت بشرة رأسها أفاضت عليه الماء ثلاثاً، مبتدأة بجانب رأسها الأيمن، ثم الأيسر ثم الأوسط، تعم رأسها فى كل حفنة، ولها أن تغسل رجليها مع الوضوء، ولها أن تؤخر غسل رجليها إلا بعد الفراغ من الغسل. سابعاً: ثم تفيض الماء على ما تبقى من بدنها مرة واحدة. ثامناً: يستحب لها أن يكون مع الماء سدر أو ما يقوم مقامه من صابون وغيره، وهذه للحائض والنفساء خاصة. ¬

_ (¬1) البخاري (257)، ومسلم (317) ..

تاسعاً: فإذا فرغت من غسلها أخذت قطعة من القطن، ووضعت فيها شيئاً من المسك ونحوه وتتبعت بها أثر الدم. والغسل المجزي: أن تنوي وتعم بدنها بالغسل مرة

الفصل الثالث في طهارة الحائض من دم الحيض

الفصل الثالث في طهارة الحائض من دم الحيض وفيه مباحث: المبحث الأول: في نجاسة دم الحيض. المبحث الثاني: هل يتعين الماء في إزالة دم الحيض، أو يزال بأي مطهر. المبحث الثالث: هل يجب عدد معين في غسل دم الحيض. المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض.

المبحث الأول في نجاسة دم الحيض

المبحث الأول في نجاسة دم الحيض نقل الإجماع على نجاسة دم الحيض كثير من الفقهاء، وإليك النقول عن بعضهم. قال النووي: "والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم، لا سيما في المسائل الفقهيات" (¬1). وقال ابن عبد البر: الدم المسفوح رجس نجس، وهذا إجماع من المسلمين (¬2). وقال الشوكاني: "واعلم أن دم الحيض نجس بإجماع المسلمين" (¬3). الأدلة على نجاسة دم الحيض. الدليل الأول: (200) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 576)، وقول النووي عن نجاسة الدم بأنه إجماع غير مسلم، بل الراجح طهارة الدم إلا دم الحيض. (¬2) التمهيد (22/ 230). (¬3) نيل الأوطار (1/ 58).

فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬1). قال الحافظ رحمه الله: (تحته): أي تحكه. كذا رواه ابن خزيمة، والمراد بذلك إزالة عينه. (ثم تقرصه): أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها، ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه. (وتنضحه) قال الخطابي: أي تغسله. وقال القرطبي: المراد به الرش؛ لأن غسل الدم استفيد من قوله: "تقرصه بالماء". وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب. قال الحافظ: فعلى هذا فالضمير في قوله: تنضحه يعود على الثوب، بخلاف تحته. فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل. ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئاً؛ لأنه إن كان طاهراً فلا حاجة إليه، وإن كان متنجساً لم يطهر بذلك. فالأحسن ما قاله الخطابي (¬2). قلت: النضح يأتي في اللغة بمعنى الغسل، كما يأتي بمعنى الرش، قال ابن الأثير: قد يرد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (¬3). (201) قلت: الحديث قد رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع ومحمد بن بشر، عن الأعمش، عن شقيق، ¬

_ (¬1) البخاري (227)، ومسلم (291). (¬2) الفتح بتصرف يسير (1/ 439). (¬3) النهاية في غريب الحديث (5/ 70).

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، فهو ينضح الدم عن جبينه (¬1). قال السيوطي في شرحه للحديث ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (¬2). وقال الطحاوي: فقد يجوز أن يكون أراد بالنضح الغسل لأن النضح قد يسمى غسلا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف مدينة ينضح البحر بجانبها يعني يضرب البحر بجانبها. (¬3) اهـ. وهذا الحديث الذي ذكره الطحاوي. (202) قد رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أخبرنا جرير، أنبأنا الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد قال: خرج رجل من طاحية مهاجراً يقال له بيرح بن أسد، فقدم المدينة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأيام فرآه عمر رضي الله تعالى عنه فعلم أنه غريب، فقال له: من أنت؟. قال من أهل عمان. قال: نعم قال فأخذ بيده فأدخله على أبي بكر رضي الله تعالى عنه. فقال: هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إني لأعلم أرضاً يقال لها عمان، ينضح بناحيتها البحر، بها حي من العرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1972)، وهو في الصحيحين إلا أنه بلفظ: "وهو يمسح الدم عن وجهه". (¬2) الديباج (4/ 402). (¬3) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 53). (¬4) المسند (1/ 44).

الدليل الثاني

[وإسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثاني: (203) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك ¬

_ (¬1) أبو لبيد لم يدرك عمر فضلاً عن أبي بكر. قال ابن المديني: لم يلق أبا بكر. انظر تهذيب التهذيب (8/ 457). وقال المفضل بن غسان الغلابي: لم يلق أبو لبيد عمر، ولكنه لقى علي بن أبي طالب. انظر تهذيب الكمال (24/ 250). وقال ابن كثير: هذا إسناد منقطع من ناحية أبي لبيد، فإنه لم يلق أبا بكر وعمر، وإنما له رؤية لعلي، وإنما يحدث عن كعب بن سور وضربه من الرجال، وهو من الثقات. انظر الجامع الكبير للسيوطي (1067). وقال أحمد بن حنبل: كان أبو لبيد صالح الحديث، وأثنى عليه ثناء حسناً. انظر الجرح والتعديل (7/ 182). والحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده (106)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 18) من طريق جرير بن حازم، عن الزبير بن الخريت به. ويشهد للمرفوع ما رواه مسلم (2544)، قال: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا مهدي بن ميمون عن أبي الوازع جابر بن عمرو الراسبي، سمعت أبا برزة يقول: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا إلى حي من أحياء العرب، فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك.

الدليل الثالث

الدم ثم صلي. قال وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1) وجه الاستدلال من الحديث: قوله: "فاغسلي عنك الدم" أمر، والأصل فيه الوجوب. الدليل الثالث: (204) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، حدثه عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا تحيض، ثم تقترص الدم من ثوبها عند طهرها فتغسله، وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه (¬2). الدليل الرابع: (205) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع (¬3) ¬

_ (¬1) رواه البخاري (228)، ورواه مسلم (333) دون قوله وقال أبي ... الخ وسيأتي الكلام عليه في الاستحاضة إن شاء الله تعالى. (¬2) البخاري (308). (¬3) قال ابن حجر في التلخيص (1/ 56): قوله بصلع ضبطه بن دقيق العيد بفتح

واغسليه بالماء والند وسدر. [إسناده صحيح] (¬1). ¬

_ الصاد المهملة وإسكان اللام ثم عين مهملة: وهو الحجر، ووقع في بعض المواضع بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام، ولعله تصحيف؛ لأنه لا معنى يقضي تخصيص الضلع بذلك. كذا قال، لكن قال: الصغاني في العباب في مادة ضلع بالمعجمة وفي الحديث حتيه بضلع. قال ابن الأعرابي: الضلع ههنا العود الذي فيه اعوجاج، وكذا ذكره الأزهري في المادة المذكورة وزاد عن الليث، قال: الأصل فيه ضلع الحيوان فسمي به العود الذي يشبهه. قوله ثم اقرصيه وقع في حديث عائشة في الصحيحين فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء وقوله فلتقرصه بفتح التاء وضم الراء ويجوز كسرها وروي بفتح القاف وتشديد الراء أي فلتقطعه بالماء ومنه تقريص العجين قاله أبو عبيد، وسئل الأخفش عنه فضم بإصبعيه الابهام والسبابة وأخذ شيئا من ثوبه بهما وقال هكذا يفعل بالماء في موضع الدم. (¬1) المسند (6/ 355). أبو المقدام اسمه: ثابت بن هرمز. وثقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين كما في الجرح والتعديل (2/ 459)، وتهذيب الكمال (4/ 380). ووثقه أبو داود، ويعقوب بن سفيان وابن المديني وأحمد بن صالح كما في تهذيب التهذيب (2/ 15). ووثقه الذهبي انظر الكاشف (700). وليس له إلا هذا الحديث، وقد صححه ابن حبان، وابن خزيمة، وفي التهذيب: صححه ابن القطان، وقال عقبه لا أعلم له علة، وثابت ثقة، ولا أعلم أحداً ضعفه غير الدارقطني. قلت: كلام ابن القطان في بيان الوهم والإيهام ليس فيه تضعيف الدارقطني، فأخشى أن يكون هذا وهماً من ابن حجر، أو يكون في نسخة أخرى غير المطبوعة، ولم أقف على تضعيف الدارقطني في غيره من الكتب. وإليك كلام ابن القطان، قال في بيان الوهم والإيهام (5/ 281): "وهذا في غاية الصحة، فإن أبا المقدام: ثابت بن هرمز الحداد، والد عمرو بن أبي المقدام، ثقة، قاله أحمد بن حنبل، وابن معين، والنسائي، ولا أعلم أحداً ضعفه". اهـ

الدليل الخامس

قال السندي: حكيه بضلع بكسر معجمة وفتح لام: أي بعود وفي الأصل واحد أضلاع الحيوان أريد به العود لشبهه به، وقد تسكن اللام تخفيفا. قال الخطابي: وإنما أمر بحكه لينقلع المتجسد منه اللاصق بالثوب، ثم يتبعه الماء ليزيل الأثر وزيادة السدر للمبالغة وإلا فالماء يكفي، وذكر الماء لأنه المعتاد ولا يلزم منه أن غيره من المائعات لا تجزى كيف ولو كان لبيان اللازم لوجب السدر أيضاً ولا قائل به (¬1). الدليل الخامس: (206) ما رواه أحمد، قال: ثنا حسن، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمن الحبلي حدثه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها طرقتها الحيضة من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فأشارت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب وفيه دم فأشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة اغسليه فغسلت موضع الدم ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الثوب فصلى ¬

_ وعدي بن دينار. وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر تهذيب التهذيب (7/ 151). وباقي رجاله ثقات مشهورين. تخريج الحديث: الحديث أخرجه أحمد (6/ 356)، والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 44)، وأبو داود (363)، والنسائي في المجتبى (292، 395)، وابن ماجه (628)، وابن حبان (1392)، وابن خزيمة (277)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 407). وحسنه الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (229)، وصححه ابن القطان كما نقلنا كلامه آنفاً. (¬1) حاشية السندي على النسائي (1/ 155).

فيه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (6/ 66). (¬2) الإسناد فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، إلا أنه صالح في الشواهد. وفيه حيي بن عبد الله، مختلف فيه. فقال أحمد: حيي أحاديثه مناكير. تهذيب الكمال (6/ 488). وقال البخاري: فيه نظر انظر التاريخ الكبير (3/ 76). وقال النسائي: ليس بالقوي. انظر الضعفاء والمتروكين له (162). وقال أبو أحمد ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة. انظر الكامل في الضعفاء (2/ 449) وتهذيب الكمال (6/ 488). وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 235). وفي التقريب: صدوق يهم. وشيخ أحمد هو الحسن بن موسى الأشيب، ثقة. انظر ترجمته في الجرح والتعديل (3/ 37)، والثقات (8/ 170)، والتهذيب (2/ 323).

المبحث الثاني: هل يتعين الماء في إزالة دم الحيض، أو يكفي أي مطهر

المبحث الثاني: هل يتعين الماء في إزالة دم الحيض، أو يكفي أي مطهر اختلف العلماء في هذه المسألة. فقيل: لا تزال النجاسة إلا بالماء، ومنها دم الحيض. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، ومحمد وزفر من الحنفية (¬4). وقيل: النجاسة تزال بأي مزيل طاهر، ولا يتعين الماء. وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬5)، واختيار ابن تيمية (¬6). وقيل: إن نص الشارع على تطهيره بالماء كنجاسة دم الحيض لم يجز العدول إلى غيره. ¬

_ (¬1) المقدمات ابن رشد (1/ 86)، القوانين الفقهية - ابن جزي (ص: 25)، منح الجليل (1/ 30)، الشرح الصغير (1/ 31). (¬2) مغني المحتاج (1/ 18، 17)، المجموع (1/ 1/ 142)، روضة الطالبين (1/ 7)، نهاية المحتاج (1/ 61). (¬3) الإنصاف (1/ 309)، كشاف القناع (1/ 181)، الفروع (1/ 259). (¬4) انظر بدائع الصنائع (1/ 83)، حاشية ابن عابدين (1/ 309)، البناية (1/ 711). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 83)، البحر الرائق (1/ 233)، مراقي الفلاح (ص 65، 64)، رؤوس المسائل (ص: 93)، البناية (1/ 709). (¬6) الإنصاف (1/ 309)، الفروع (1/ 259)، مجموع الفتاوى (20/ 522)، (21/ 611، 610).

أدلة الجمهور على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء.

وإن نص الشارع على غير الماء كطهارة النعلين، فيجوز الاقتصار عليه. ويجوز العدول إلى الماء؛ لأن الماء أقوى من غيره بالتطهير. وإن كان الشارع لم ينص على مادة التطهير، وجب الاقتصار على الماء فقط. وهذا القول اختيار الشوكاني رحمه الله (¬1). أدلة الجمهور على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء. الدليل الأول: قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ...} الآية (¬2). وجه الاستدلال: قال النووي: ذكره سبحانه امتناناً، فلو حصل بغيره لم يحصل الامتنان (¬3). الجواب عليه: لا يظهر لي أن الله سبحانه عندما ذكره امتناناً أنه إذا حصل بغيره لم يحصل الامتنان، فقد يكون حصول الماء أيسر من غيره، وقد يكون ذكر الماء باعتبار أن العبد ليس له سبب في وجوده، فالله هو الذي ينزل الغيث، وقد يكون لغير ذلك. والله أعلم. الدليل الثاني: (207) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمَّد بن المثنى، نقال: حدثنا يحيى، ¬

_ (¬1) انظر نيل الأوطار (1/ 70)، والسيل الجرار (1/ 49). (¬2) الأنفال آية: 11. (¬3) المجموع (1/ 143).

الدليل الثالث

عن هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرشد في تطهير الثوب من دم الحيض إلى الماء، ولم يرشد إلى غيره، فتعين الماء لإزالة نجاسة الثوب من دم الحيض، لكونه هو المنصوص عليه، وباقي النجاسات مقيسة عليه. الدليل الثالث: (208) ما رواه البخاري، قال: حدثنا خالد، قال: وحدثنا سليمان، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت أنس بن مالك، قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء فأهريق عليه. وراه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أراد تطهير المسجد من بول الأعرابي أمر بالماء، لقوله في الحديث: "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء" فهذا الأمر دال على الوجوب. قالوا: وهذا دال على اختصاص الماء بالتطهير. ¬

_ (¬1) البخاري (227)، ومسلم (291). (¬2) البخاري (219)، ومسلم (284).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (209) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب". (¬1) فهذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث التي نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تطهيرها بالماء كحديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين في غسل آنية الكفار إذا لم نجد غيرها - كلها دليل على أن الماء هو آلة التطهير، ولا يطهر غيره. وأجيب عن هذه الأدلة: هذه الأدلة دليل على أن الماء يزيل النجاسة، وهذا لا إشكال فيه، وهو محل إجماع (¬2)، لكن ليس فيها دلالة على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء. وفرق بين المسألتين. الدليل الرابع من النظر: قالوا: إذا كانت طهارة الحدث لا تكون إلا بالماء مع وجوده، فكذلك إزالة النجاسة لا تكون إلا بالماء. وأجيب: بأن القياس على طهارة الحدث قياس مع الفارق لما يلي: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (279). (¬2) إلا خلافاً شاذاً يعتبر الماء مطعوماً محترماً، ولا حاجة للرد عليه لضعفه.

أدلة القائلين: لا يشترط الماء لإزالة النجاسة.

أولاً: طهارة الحدث تشترط لها النية على الصحيح خلافاً للحنفية، بخلاف طهارة الخبث. ثانياً: طهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان على الصحيح، بخلاف طهارة الخبث. ثالثاً: طهارة الحدث طهارة تعبدية محضة، غير معقولة المعنى، وأما طهارة الخبث فإنها طهارة معللة بوجود النجاسة الحسية. وإذا ثبت الفرق لم يصح القياس. أدلة القائلين: لا يشترط الماء لإزالة النجاسة. الدليل الأول: (210) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬1). وجه الاستدلال: أن الاستنجاء بالأحجار إزالة للنجاسة بغير الماء، وفي هذا دليل على أنه لا يتعين الماء في إزالة النجاسة. ¬

_ (¬1) مسلم (262).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (211) ما رواه أحمد، قال: يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (3/ 20، 92). (¬2) أبو نعامة، ثقة. روى له مسلم. وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لا بأس به. انظر الجرح والتعديل (6/ 41). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 155). وأبو نضرة العبدي. روى له مسلم. وقال أحمد: ما علمت إلا خيراً. ووثقه يحيى بن معين، وأبو زرعة. انظر الجرح والتعديل: (10/ 268). ووثقه النسائي كما في لسان الميزان (7/ 398). وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، كثير الحديث، وليس كل أحد يحتج به. انظر الطبقات الكبرى (7/ 208). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 420) وقال: كان من فصحاء الناس، فلج في آخر عمره، وكان ممن يخطي. واعتمد الذهبي كلام ابن حبان، فقال في الكاشف (6532): "فصيح بليغ مفوه ثقة يخطي. وفي التقريب ثقة. وباقي رجاله مشهورون.

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أرشد إلى تطهير النعلين بالتراب، وهو غير الماء. الدليل الثالث: (212) ما رواه أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير - يعني ابن معاوية - ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال وكان رجل صدق، ¬

_ [تخريج الحديث] الحديث أخرجه الدارمي (1378)، وأبو يعلى (1194)، والبيهقي في السنن (2/ 402) من طرق عن حماد بن سلمة به. وصححه الحاكم (1/ 260) ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو داود (650) من طريق حماد بن زيد، عن أبي نعامة به. ولعله خطأ؛ فإني لم أقف على أبي نعامة من شيوخ حماد بن زيد. والله أعلم. أما حديث أبي هريرة عند أبي داود (385): "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور" فإنه حديث ضعيف قد اضطرب إسناده على الأوزاعي، وعلى سعيد بن أبي سعيد. فالأوزاعي تارة يرويه عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري. وتارة يرويه منقطعاً، فيقول: نبئت أن سعيد بن أبي سعيد كما عند أبي داود (386). وتارة يرويه متصلاً دون واسطة عن سعيد بن أبي سعيد كما عند ابن حبان (1403). وتارة يرويه عن محمَّد بن الوليد عن سعيد بن أبي سعيد. ويجعله من مسند عائشة. كما عند أبى داود (1403). واختلف فيه أيضاً على سعيد بن أبي سعيد، فتارة يرويه عن أبيه، عن أبي هريرة. وتارة يرويه عن القعقاع بن حكيم، عن عائشة. كما في سنن أبي داود (387, 386). قال ابن عبد البر في التمهيد (13/ 103): "حديث مضطرب الإسناد، لا يثبت، اختلف في إسناده على الأوزاعي، وعلى سعيد بن أبي سعيد اختلافاً يسقط الاحتجاج به" اهـ فيكفي الاحتجاج بحديث أبي سعيد.

عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى قال: فهذه بهذه (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: أن هذا تطهير لذيل المرأة بالتراب، وهو غير الماء. ¬

_ (¬1) المسند (6/ 435). (¬2) والجهالة بالصحابية لا تضر. وله شاهد من حديث أم سلمة أخرجه مالك (1/ 24)، والشافعي في المسند (ص 50)، وأحمد (6/ 290)، وأبو يعلى (6981، 6925)، وأبو داود (383)، والترمذي (143)، وابن ماجه (531)، والدارمي (742)، والمنتقى لابن الجارود (142)، والمعجم الكبير للطبراني (23/ 359) من طريق محمَّد بن إبراهيم التيمي، عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة، فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر، فقالت أم سلمة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطهره ما بعده. وفي السند جهالة أم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. لم يرو عنها إلا محمَّد بن إبراهيم التيمي. فهي مجهولة عيناً. وقال ابن حجر في التقريب: مقبولة. يعني: حيث توبعت، وإلا فحديثها فيه لين. وذكر أن اسمها حميدة، ولم يجزم بذلك. وكأن ابن حجر اعتبر جهالتها جهالة حال، ولعل السبب في ذلك أنها من التابعين وأن مالكاً قد أخرج الحديث في كتابه الموطأ، وقال الفسوي في المعرفة (1/ 349): "ومن كان من أهل العلم، ونصح نفسه علم أن كل من ذكره مالك في موطئه، وأظهر اسمه ثقة تقوم به الحجة". انتهى وهذا الكلام قد يكون مقبولاً بالجملة، على أن الحديث له شاهد صحيح قد سقته أولاً. والله أعلم.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: من النظر: أن النجاسة عين خبيثة لها طعم، أو لون، أو رائحة. والمطلوب هو إزالة كل ذلك، فإذا ذهب طعمها, ولونها ورائحتها بأي مزيل زال حكمها، وأصبح المحل طاهراً، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. دليل الشوكاني على تقسيمه النجاسة إلى ثلاثة أقسام. احتج الشوكاني: أن ما نص الشارع على تطهيره بالماء، كنجاسة دم الحيض، وبول الأعرابي إذا كان على الأرض، وبول الجارية، ونحوها. لا يجوز العدول إلى غير الماء. والتعليل: لأن الشارع لما نص على الماء تعين، ولأن الماء لا يساويه غيره في قوة التطهير. أما النوع الذي نص على تطهيره بغير الماء كطهارة النعلين، وذيل المرأة بالتراب، وكالاستنجاء بالحجارة، فهذا النوع يجوز الاقتصار على التراب والأحجار لورود النص به. ويجوز العدول إلى الماء؛ لأن الماء أقوى من غيره في التطهير. وأما النجاسة التي لم ينص الشارع على مادة تطهيرها، فيجب الاقتصار على الماء؛ لأن تطهيره بالماء متيقن، وطهارته بغير الماء مشكوك فيها، فلا نترك اليقين إلى الشك (¬1). وظاهر هذا القول القوة، ولكن عند التأمل تراه ظاهرية واضحة، إذ لا فرق بين أن تكون النجاسة على ذيل المرأة فتزال بالأحجار، أو تكون على وسط الثوب فيتعين الماء كطهارة بول الجارية، فإن بول الجارية أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تطهيره بالماء. ¬

_ (¬1) انظر بتصرف السيل الجرار (1/ 49)، ونيل الأوطار (1/ 70).

المبحث الثالث: هل يجب تكرار الغسل في نجاسة دم الحيض

المبحث الثالث: هل يجب تكرار الغسل في نجاسة دم الحيض اختلف العلماء في وجوب تكرار الغسل في نجاسة دم الحيض، فقيل: إن كانت النجاسة مرئية، كالدم يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعينها، وإن كانت غير مرئية، وجب غسلها ثلاثاً، وذلك مثل نجاسة ولوغ الكلب، ونحوها. وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يجب العدد في غسل النجاسات مطلقاً ما عدا الكلب، وهو مذهب مالك، (¬2) والشافعية إلا أنهم الحقوا الخنزير بالكلب (¬3). وقيل: يجب غسل جميع النجاسات سبعاً، إلا نجاسة بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، والنجاسة التي على الأرض. وهو مذهب الحنابلة (¬4) والراجح أنه يكفي في غسل النجاسات غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، فإن لم تذهب كرر ذلك حتى تذهب. والله أعلم. ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق (1/ 75)، بدائع الصنائع (1/ 88)، مراقي الفلاح (ص: 64). الاختيار لتعليل المختار (1/ 36, 35). شرح فتح القدير (1/ 209). (¬2) المدونة (1/ 69)، بداية المجتهد (2/ 223)، مختصر خليل (ص: 9)، الخرشي (1/ 114). (¬3) روضة الطالبين (1/ 32، 31)، المجموع (2/ 611)، الأم (1/ 6)، مغني المحتاج (1/ 83)، حاشية القليوبي وعميرة (1/ 73). (¬4) كشاف القناع (1/ 182)، شرح منتهى الإرادات (1/ 102).

دليل من قال لا يشترط التكرار في غسل النجاسات

دليل من قال لا يشترط التكرار في غسل النجاسات الدليل الأول: (213) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمَّد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: فهنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر عدداً في غسل نجاسة دم الحيض، والمقام مقام بيان، وجواب عن سؤال كيف يطهر الثوب، وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حته، وقرصه، وغسله، مع أن الحت ليس بواجب مع الغسل، فدل على أن التكرار ليس بواجب. الدليل الثاني: (214) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمَّد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق ¬

_ (¬1) البخاري (227)، ومسلم (291).

الدليل الثالث

وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي قال وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بغسل الدم، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واغسلي عنك الدم، ثم صلي". ولو كان العدد معتبراً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: (215) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند والسدر. [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله، وقد ذكر السدر مع كونه ليس واجباً، فكيف يترك ذكر العدد مع وجوبه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (228)، ورواه مسلم (333) دون قوله وقال أبي ... الخ وسيأتي الكلام عليه في الاستحاضة إن شاء الله تعالى. (¬2) المسند (6/ 355). وقد سبق تخريجه في أدلة المسألة التي قبل هذه، فارجع إليها إن شئت. انظر رقم 205.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: من النظر، قالوا: النجاسة عين محسوسة، ووجوب غسلها معلل ببقائها، فإذا زالت من الغسلة الأولى ارتفع حكمها. والله أعلم. دليل الحنابلة على وجوب غسل النجاسات سبعاً. الدليل الأول: (216) قال ابن قدامة: روي عن ابن عمر أنه قال: أمرنا بغسل الأنجاس سبعا (¬1). والجواب على هذا من وجهين. الأول: أن هذا الأثر لا يعرف مسنداً في كتب الحديث، إنما ذكره الحنابلة في كتبهم الفقهية، فلا حجة فيه. الثاني: على فرض صحته قد روي ما يدل على أنه منسوخ. (217) فقد روى أحمد، قال:، ثنا حسين بن محمَّد، ثنا أيوب بن جابر، عن عبد الله - يعني بن عصمة -، عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار، والغسل من البول سبع مرار، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة (¬2). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 75). (¬2) المسند (2/ 109).

الدليل الثاني

[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثاني: قالوا: ثبت الأمر بغسل نجاسة الكلب سبعاً، وغيرها من النجاسات ¬

_ (¬1) فيه أيوب بن جابر. ضعفه أبو حاتم الرازي، وابن المديني، ويحيى بن معين، وقال أبو زرعة: واهي الحديث ضعيف. انظر الجرح والتعديل (2/ 242). وضعفه النسائي. انظر الضعفاء والمتروكين (ص: 5). وضعفه الذهبي انظر الكاشف (512). وقال معاوية بن صالح: ليس بشيء. انظر تهذيب التهذيب (1/ 349). وذكره ابن حبان في المجروحين (1/ 167)، وقال: يخطئ. حتى خرج عن حد الاحتجاج به لكثرة وهمه. وفي الإسناد: عبد الله بن عصم. وقيل: عصمة. مختلف فيه. قال أبو زرعة: ليس به بأس، وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. كما في الجرح والتعديل (5/ 126). وقال: مثله الذهبي في الكاشف. واضطرب قول ابن حبان فيه، فذكره في المجروحين (2/ 5)، وقال: منكر الحديث جداً على قلة روايته، يروي عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة. ثم رجع ابن حبان وذكره في الثقات (5/ 57)، وقال: يخطئ كثيراً. وفي التقريب: صدوق يخطئ, أفرط ابن حبان فيه وتناقض. [تخريج الحديث]. أخرجه أبو داود (247)، والبيهقي في السنن (1/ 179، 244)، والمعجم الصغير للطبراني (1/ 123) ح 182 من طرق عن أيوب بن جابر به.

والدليل على وجوب غسل نجاسة الكلب سبعا.

قياساً عليه. والدليل على وجوب غسل نجاسة الكلب سبعاً. (218) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا. ورواه مسلم (¬1). وأجيب: بأن نجاسة الكلب مغلظة لا يمكن قياس النجاسة العادية على النجاسة المغلظة. أرأيت نجاسة دم الحيض مع أنه مجمع على نجاسته كما قدمنا إلا أنه لم يرد فيه تكرار الغسل، ولم يرد ذكر التراب في تطهير شيء من النجاسات إلا نجاسة الكلب، والرواية التي فيها ذكر التراب رواها مسلم في صحيحة، (219) قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (¬2). دليل الحنفية على التفريق بين النجاسة المرئية وبين النجاسة غير المرئية. قالوا: بأن النجاسة إذا كانت مرئية كالدم ونحوه فطهارتها زوال عينها، ولا عبرة فيه بالعدد؛ لأن النجاسة في العين، فإن زالت العين زالت النجاسة، ¬

_ (¬1) البخاري (172)، ومسلم (279). (¬2) صحيح مسلم (279).

[الدليل الأول]

وإن بقيت بقيت. وأما إن كانت النجاسة غير مرئية فإنه يجب غسلها ثلاث مرات، والدليل على ذلك. [الدليل الأول] (*) (220) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال ثنا أبو نعيم: قال ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهر قال يغسل ثلاث مرار (¬1). [الحديث المحفوظ من حديث أبي هريرة الأمر بغسله سبعاً] (¬2). ¬

_ (¬1) شرح معانى الآثار (1/ 23). (¬2) شيخ الطحاوي إسماعيل بن إسحاق بن سهل الكوفي. قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 158): كتبت عنه، وهو صدوق". وانظر مغانى الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار (1/ 48). وعبد السلام بن حرب. مختلف فيه. سئل عنه ابن المبارك، فقال: قد عرفته. وكان إذا قال: قد عرفته فقد أهلكه. انظر ضعفاء العقيلي (3/ 69)، وقيل لابن المبارك في عبد السلام، فقال: ما تحملني رجلي إليه. تهذيب الكمال (18/ 66). وقال ابن سعد: كان فيه ضعف في الحديث، وكان عسراً. الطبقات (6/ 386). وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، في حديث لين. وقال الترمذي: ثقة حافظ. تذكرة الحفاظ (1/ 271). وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. انظر الجرح والتعديل (6/ 47). وقال يحيى بن معين: عبد السلام ثقة، والكوفيون يوثقونه. وقال أيضاً: صدوق. انظر المرجع السابق. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال مرة: ليس به بأس، يكتب حديثه. الكامل في الضعفاء (5/ 331). وقال النسائي في التمييز: ليس به بأس. وقال الدارقطني: ثقة حجة. انظر تهذيب التهذيب (6/ 282). واختلف في رفعه ووقفه. كما أنه ثبت عن أبي هريرة مرفوعاً، وموقوفاً الأمر بغسله سبعاً، وهو المحفوظ. وعبد الملك بن أبي سليمان. قيل لشعبة مالك لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سليمان وكان حسن الحديث؟ قال: من حسنها فررت. انظر الجرح والتعديل (5/ 366)، والضعفاء للعقيلي (3/ 31). وعن أبي بكر بن خلاد، قال: سمعت يحيى يقول: عن عبد الملك بن سليمان فيه شيء مقطع يوصله، أو موصل يقطعه. الضعفاء للعقيلي (3/ 31). وقال يحيى بن معين أيضاً: ضعيف. كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (5/ 366). وسئل يحيى مرة عبد الملك بن أبي سليمان أحب إليك أو ابن جريج. فقال: كلاهما ثقتان. كما في رواية عثمان بن سعيد عنه. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: لا بأس به. انظر المرجع السابق. وقال الخطيب: قد أساء شعبة في اختياره حيث حدث عن محمَّد بن عبيد الله العرزمي وترك التحديث عن عبد الملك بن أبي سليمان لأن محمَّد بن عبيد الله لم تختلف الأئمة من أهل الأثر في ذهاب حديثه وسقوط روايته وأما عبد الملك فثناؤهم عليه مستفيض وحسن ذكرهم له مشهور. تاريخ بغداد (10/ 393). وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً ثبتاً. انظر الطبقات (6/ 350). وقال ابن عمار الموصلي: ثقة ثبت في الحديث. وقال الترمذي: ثقة مأمون لا نعلم أحداً تكلم فيه غير شعبة. وقال الثوري: حفاظ الحديث أربعة، فذكره منهم. وسماه هو وابن المبارك: الميزان. انظر تهذيب التهذيب (6/ 352). وفي التقريب: صدوق له أوهام. والحق أنه ثقة، فقد وثقه أحمد، ويحيى بن معين، والنسائي، وابن سعد، والترمذي، وابن عمار الموصلي، والثوري وابن المبارك والدارقطني.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأخذ عليه وهمه في حديث الشفعة، ثم ماذا؟ ومن الذي لا يهم؟ ولذلك لم يمنع هذا الوهم من أن يوثقه الأئمة. قال يحيى بن معين عندما سئل عن حديث الشفعة، قال: هو حديث لم يحدث به إلا عبد الملك، وقد أنكره الناس عليه، ولكن عبد الملك ثقة صدوق لم يرد على مثله. وقال أحمد: هذا حديث منكر، وعبد الملك ثقة. انظر تهذيب التهذيب (6/ 352). والحديث مداره على عبد الملك بن أبي سليمان. وقد اختلف عليه فيه. فمنهم من يرويه عنه موقوفاً، ومنهم من يرويه من فعل أبي هريرة. ومنهم من يرويه مرفوعاً. مع كون الحديث فيه مخالفة لجميع من روى الحديث عن أبي هريرة، ورواياتهم في الصحيحين وغيرها مرفوعة وفيه الأمر بغسلها سبعاً. فلو صح عن أبي هريرة موقوفاً عليه لم يكن فيه حجة, لأن الموقوف لا حجة فيه مع معارضتة للمرفوع. والله أعلم. وإليك تخريج الحديث. رواه الطحاوي كما في إسناد الباب من طريق عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة من قوله. ورواه إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان واختلف عليه فيه. فرواه الدارقطني (1/ 66) من طريق سعدان بن نصر، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك به موقوفاً ورواه ابن عدي في الكامل (2/ 366)، ومن طريقه الجوزقاني في الأباطيل (1/ 365)، وابن الجوزي في الواهيات (1/ 332) من طريق الكرابيسي، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان به مرفوعاً. قلت: أخطأ في الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي، فقد رواه عمر بن شبة كما عند ابن عدي في الكامل (2/ 366) وسعدان بن نصر كلاهما روياه عن إسحاق الأزرق موقوفاً، كما رواه عبد السلام بن حرب كما سبق، وابن فضيل كلاهما روياه عن عبد الملك بن أبي سليمان به موقوفاً، فهؤلاء أربعة رووه موقوفاً، فلا شك أن الرواية المرفوعة كانت خطأ. والله أعلم. قال ابن عدي: وهذا لا يرويه غير الكرابيسي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ما ذكر في متنه من الإهراق والغسل ثلاث مرات. والحسين الكرابيسي له كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس من المسائل، وكان حافظاً لها ولم أجد منكراً غير ما ذكرت من الحديث، والذي حمل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أحمد بن حنبل عليه من أجل اللفظ في القرآن. فأما في الحديث فلم أر به بأساً. وقال الخطيب: كان فاهماً عالماً وله تصانيف كثيرة في الفقه وفي الأصول تدل على حسن فهمه وغزارة علمه. وقال أيضاً: تكلم فيه أحمد بسبب مسألة اللفظ في القرآن، وكان هو أيضاً يتكلم في أحمد، فتجنب الناس الأخذ عنه لهذا السبب. تاريخ بغداد (8/ 64). وأما الرواية التي جاءت من فعل أبي هريرة، وليست من قوله. فقد رواه الدارقطني (1/ 66) من طريق ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان به. بلفظ: كان إذا ولغ الكلب في الإناء أهرقه وغسله ثلاث مرات. وقد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: يغسل سبع مرات موقوفاً عليه، وهذا أصح. فقد روى ابن المنذر في الأوسط (1/ 305)، والدارقطني (1/ 64)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 248) من طريق حماد بن زيد، وأخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور (204) من طريق إسماعيل بن إبراهيم، كلاهما عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: إذا ولغ الكلب فاغسلوه سبع مرات، أولاهن بالتراب. وأخرجه أبو داود (72)، ومن طريقه البيهقي كما في المعرفة (2/ 60) عن أيوب عن ابن سيرين به موقوفاً. قال الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (172): "وثبت أنه أفتى - يعني أبا هريرة - بالغسل سبعاً. ورواية من روى عنه موافقة فتياه أرجح من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر. أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين عنه. وهذا من أصح الأسانيد. وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه. وهو دون الأولى في القوة بكثير ... الخ. وقال البيهقي في المعرفة (2/ 59): "لم يروه غير عبد الملك، وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف فيه الثقات". ثم قال أيضاً (2/ 61): "ولمخالفته - يعني عبد الملك - ولمخالفته أهل الحفظ والثقة في بعض رواياته تركه شعبة بن الحجاج، ولم يحتج به محمَّد بن إسماعيل البخاري في الصحيح. وحديثه هذا مختلف عليه، فروي عنه من قول أبي هريرة. وروي عنه من فعله. فكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الثقات الأثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطاً، برواية واحد قد عرف بمخالفته الحفاظ في بعض الأحاديث" اهـ. وقال الدارقطني في العلل (8/ 101) "ورواه جماعة من التابعين عن أبي هريرة، منهم

الدليل الثاني

قال الطحاوي: "فلما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاثة يطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا ثبت بذلك نسخ السبع لأنا نحسن الظن به فلا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالته فلم يقبل قوله ولا روايته". قلت: الصحابي لا يتعمد مخالفة ما روى، ولكن قد يخالف ما يروي وليس بمعصوم، فقد ينسى ما روى، وقد يظن من عام أنه خاص، أو من مطلق أنه مقيد، أو العكس. وقال البيهقي منتقداً الطحاوي فيما قال: "استدل به - يعني الطحاوي على نسخ السبع على حسن الظن بأبي هريرة بأنه لا يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عنه. وهل أخذ بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبع، وبما روينا من فتيا أبي هريرة بالسبع، وبما روينا عن عبد الله بن المغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". الدليل الثاني للحنفية: (221) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده ¬

_ عبيد بن حنين، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وعبد الرحمن الأعرج، وعقبة بن أبي الحسناء اليمامي، وأبو صالح السمان، عن أبي هريرة فاتفقوا على أن يغسل من ولوغ الكلب سبع مرات، وخالفهم عطاء بن أبي رباح فرواه عن أبي هريرة أنه يغسل ثلاثاً. ولم يرفعه. قاله عبد الملك بن أبي سليمان".

في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده (¬1). وجه الاستدلال: قال الطحاوي: "كانوا يتغوطون أي: يقضون حاجتهم ويبولون ولا يستنجون بالماء، فأمرهم بذلك إذا قاموا من نومهم؛ لأنهم لا يدرون أين باتت أيديهم من أبدانهم، وقد يجوز أن يكون كانت في موضع قد مسحوه من البول أو الغائط فيعرقون فتنجس بذلك أيديهم فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسلها ثلاثاً وكان ذلك طهارتها من الغائط أو البول إن كان أصابها، فلما كان ذلك يطهر من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات كان أحرى أن يطهر بما دون ذلك من النجاسات" (¬2). قلت: لا يمكن أن يجعل تطهير الكلب النجس، بما ورد في غسل اليدين الطاهرتين، والعلة ليست النجاسة كما توهم الطحاوي؛ لأن العلة لو كانت النجاسة لكان حكم اليدين حكم نجاسة دم الحيض، وأنتم لا تشترطون عدداً في نجاسة دم الحيض، بل يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة. قال البيهقي في المعرفة: "زعم الطحاوي أنه تتبع الآثار، ثم روى الأحاديث الصحيحة في ولوغ الكلب، وترك القول بالعدد في تطهير الإناء منه، واستعمال التراب فيه. وجعل نظير ذلك الأحاديث التي وردت في غسل اليدين ¬

_ (¬1) رواه مسلم (278). ورواه البخاري ولم يقل: ثلاثاً. (¬2) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 22).

قبل إدخالهما الإناء، وهو يوجب غسل الإناء من الولوغ، ولا يوجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، فكيف يشتبهان؟ " (¬1). ¬

_ (¬1) المعرفة (2/ 60).

المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض

المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض فقيل: إذا انقطع الحيض طهرت مطلقاً، سواء خرجت بعده رطوبة بيضاء أم لا. وهذا مذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3). وقيل: إن كانت ممن يرى القصة البيضاء، فلا تطهير حتى تراها، وإن كانت ممن لا يراها فطهرها الجفوف. وهو المنصوص عليه في المدونة عن الإِمام مالك رحمه الله (¬4). ¬

_ (¬1) قال في شرح فتح القدير تعليقاً على أثر عائشة "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" قال: مقتضى هذا المروي أن مجرد الانقطاع دون رؤية القصة البيضاء لا تجب معه أحكام الطاهرات، وكلام الأصحاب فيما يأتي كله بلفظ الانقطاع، حيث يقولون: وإذا انقطع دمها فكذا، وإذا انقطع فكذا "انتهى كلامه، والذي يعنينا أن ابن الهمام صرح أن كلام الأصحاب يعلقون الطهر بالانقطاع: أي دون رؤية القصة البيضاء. والله أعلم. (¬2) قال النووي في المجموع (2/ 562): "علامة انقطاع الحيض ووجود الطهر أن ينقطع خروج الدم، وخروج الصفرة والكدرة، فإذا انقطع طهرت سواء خرجت بعده رطوبة بيضاء أم لا". (¬3) قال في نيل المآرب (1/ 108): "وإن طهرت أثناء عادتها طهراً خالصاً لا تتغير معه القطنة إذا احتشتها، ولو أقل مدة فهي طاهرة، تغتسل وتصلي، وتفعل ما تفعله الطاهرات". ذكر ابن مفلح في الفروع أنه ظاهر المذهب، قال (1/ 267): "أن يكون النقاء خالصاً لا تتغير معه القطنة إذا احتثت بها في ظاهر المذهب، ذكره صاحب المحرر، وجزم به القاضي وغيره". (¬4) المدونة (1/ 50، 51). قال: "إذا علمت أنها قد طهرت اغتسلت إن كانت ممن ترى القصة البيضاء، فحين ترى القصة البيضاء، وإن كانت ممن لا ترى القصة البيضاء فحين ترى الجفوف".

وقيل: من كان طهرها القصة البيضاء ورأت الجفوف فقد طهرت، ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤية القصة البيضاء حتى ترى الجفوف (¬1). وقيل: للطهر علامتان: الجفوف، والقصة البيضاء، فأيهما رأته المرأة كان علامة على طهرها. وسواء كانت المرأة ممن عادتها أن تطهر بالقصة البيضاء أو بالجفوف. وبه قال ابن حبيب من أصحاب مالك رحمه الله (¬2). وقيل: متى رأت أثر الدم الأحمر، أو كغسالة اللحم، أو الصفرة أو الكدرة، أو البياض، أو الجفوف التام فقد طهرت. وهذا مذهب ابن حزم (¬3). فتبين من هذا أن الأقوال كالاتي: الأول: أن العبرة بالجفوف مطلقاً. الثاني: أن القصة البيضاء مقدمة على الجفوف إن كانت تراها. الثالث: أن الجفوف مقدم على القصة البيضاء فيما لو كانت تراهما. الرابع: أن الجفوف والقصة البيضاء كلاهما علامة على الطهر. ¬

_ (¬1) نسبه ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 195) إلى ابن حبيب، والذي نقله ابن رشد عن ابن حبيب أنه لا فرق بين الجفوف والقصة البيضاء فأيهما رأت فقد طهرت، وقد ذكرت هذا القول بعده فتأمل. (¬2) بداية المجتهد مع الهداية (2/ 54). وقال عبد الوهاب البغدادي في المعونة (1/ 194): "وللطهر علامتان: الجفوف والقصة البيضاء، وكل واحد منهما يكون علامة لطهر من جرت عادتها به. وإن رأته غير من جرت عادتها به كان طهراً لها أيضاً لإمكان انتقال العادة على اختلاف بين أصحابنا في ذلك". (¬3) المحلى (مسألة: 226).

أدلة من قال: العبرة بالجفوف.

الخامس: متى رأت أثر الدم الأحمر، أو كغسالة اللحم، أو الصفرة أو الكدرة، أو البياض، أو الجفوف التام فقد طهرت. أدلة من قال: العبرة بالجفوف. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} الآية (¬1) وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى وصف الحيض بكونه أذى، فإذا ذهب الأذى وجب زوال الحيض (¬2). قال تعالى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬3). فقوله سبحانه وتعالى {حَتَّى يَطْهُرْنَ} ومن انقطع عنها دم الحيض، فقد طهرت منه. ولم يجعل النهي ممتداً حتى ترى السائل الأبيض. أدلة من قال: العبرة برؤية القصة البيضاء. (222) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين، أنها قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيضة يسألنها عن الصلاة فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين القصة ¬

_ (¬1) البقرة آية: 222. (¬2) نيل المآرب (1/ 108). (¬3) البقرة، آية: 222.

البيضاء. تريد بذلك الطهر من الحيضة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). قال الحافظ: "القصة: هي ماء أبيض يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض. قال مالك: سألت النساء عنه فإذا هو أمر معلوم عندهن يعرفنه عند الطهر" (¬3). وقد اختلف الناس في معنى القصة البيضاء إلى قولين: الأول: أن القصة البيضاء عبارة عن سائل أبيض يخرج عقب الدم من النساء في آخر الحيض، يكون علامة على طهرها، ولا تطهر بدونه، وقيل: إنه يشبه الخيط الأبيض. وهذا قول مالك وغيره. وقيل: معنى القصة البيضاء أن تخرج القطنة بيضاء ليس فيها شيء من الصفرة ولا الكدرة، فيكون ذلك علامة نقائها وطهرها (¬4). حكى الخطابي عن ابن وهب أنه قال في تفسير القصة البيضاء: رأت القطن الأبيض كأنه هو (¬5). قال ابن رجب: "واختلف قول أحمد في تفسير القصة البيضاء، فنقل ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 59). ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره. قال البخاري: وكن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة، فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. (¬2) انظر الكلام عليه في الكلام على الصفرة والكدرة في باب الطواري على الحيض. (¬3) فتح البارى، قاله الحافظ في شرحه لحديث (320). (¬4) انظر شرح ابن رجب للبخارى (2/ 123). (¬5) انظر أعلام الحديث (1/ 325)، ونقله ابن رجب في شرحه للبخاري (2/ 123).

دليل من قال إن كانت ترى القصة البيضاء فلا عبرة بالجفوف.

الأكثرون عنه أنه شيء أبيض يتبع الحيضة ليس بصفرة ولا كدرة، فهو علامة الطهر، وحكاه أحمد عن الشافعي (¬1). ونقل حنبل عن أحمد أن القصة البيضاء هو الطهر وانقطاع الدم. وكذلك فسر سفيان الثوري القصة البيضاء بالطهر من الحيض" اهـ كلامه رحمه الله (¬2). قلت: القصة البيضاء معلومة لا تخفى على النساء، لكنه عند غالب النساء، وليس كلهن، فكنت إذا سُئلت من قبل بعض النساء وسألتهن عن علامة الطهر فكان الغالب يرى هذا السائل الأبيض، وبعضهن: تقول: إنها لا تراه، ولكنها تشعر بالطهارة إذا جفت. دليل من قال إن كانت ترى القصة البيضاء فلا عبرة بالجفوف. قال عيسى بن دينار: القصة البيضاء أبلغ في براءة الرحم من الجفوف (¬3). وقال الحافظ: "إن القطنة قد تخرج جافة في أثناء الأمر - يعني في أثناء الحيض - فلا يدل ذلك على انقطاع الحيض، بخلاف القصة البيضاء" (¬4). دليل من قال يقدم الجفوف على القصة البيضاء جاء في الاستذكار: "قال ابن حبيب: الجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء، فمن كانت طهرها القصة البيضاء فرأت الجفوف فقد طهرت. قال: ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 66). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 125). (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 124). (¬4) فتح الباري، قاله في شرحه لحديث (320).

دليل من قال إذا رأت أحدهما القصة والجفوف فقد طهرت.

ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتى ترى الجفوف. قال: وذلك أن أول الحيض دم، ثم صفرة، ثم كدرة، ثم يكون نقاء كالفضة (¬1)، ثم ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض" (¬2). دليل من قال إذا رأت أحدهما القصة والجفوف فقد طهرت. لعله لاحظ أن كل واحد منهما علامة على خلو الرحم من الحيض، وإذا كانت عادة المرأة قد تنتقل، وتزيد وتنقص، فلا مانع أن تتغير علامة الطهر كغيرها، والمطلوب هو التأكد من خلو الرحم من الحيض سواء كان دماً أو صفرة أو كدرة فأي أمارة على هذا يكون قد حصل المقصود. دليل من قال: تطهر بانقطاع الدم الأسود قد ذكرت أدلة هذا القول في باب الصفرة والكدرة، وأجبت عن أدلته، ودليله حديث: "إن دم الحيض دم أسود يعرف" وقد أجبت عنه. وأثر أم عطية: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً، ويفسرون الطهر بانقطاع الدم. وقوله تعالى {حَتَّى يَطْهُرْنَ} ويفسرون ذلك أي حتى تنقطع النجاسة التي هي الدم خاصة. ¬

_ (¬1) نقله ابن رجب في شرحه للبخاري (2/ 124) وقال: "كالفضة" والمطبوع من الاستذكار "كالقصة" بالقاف بدلاً من الفاء. (¬2) الاستذكار (3/ 195).

والراجح: أن المرأة حسب عادتها إن كان طهرها رؤية السائل الأبيض تنتظر حتى تراه، وإن كان طهرها بالجفوف طهرت برؤيته، وكلا العلامتين يصلح أن يكون علامة على طهر المرأة. والله أعلم.

الباب الخامس: فيما يتعلق بالحائض من أحكام العبادات.

الباب الخامس: فيما يتعلق بالحائض من أحكام العبادات. ويشتمل على خمسة فصول. الفصل الأول: في الحائض، وتعبدها بكتاب الله. الفصل الثاني: في أحكام الحيض من حيث الصلاة. الفصل الثالث: في أحكام الحيض من حيث الصوم. الفصل الرابع: في أحكام الحيض من حيث المسجد. الفصل الخامس: في أحكام الحيض من حيث المناسك.

[الفصل الأول: في الحائض، وتعبدها بكتاب الله]

المبحث الأول: خلاف العلماء في قراءة القرآن للحائض اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا تقرأ الحائض شيئاً من القرآن. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3) وقيل: لا تمنع الحائض حال نزول الدم، وأما إذا انقطع الدم وقبل الاغتسال، فقد اختلف المالكية إلى قولين: الأول: وهو المعتمد، أنها تمنع مطلقاً، سواء كانت متلبسة بجنابة قبل الحيض أم لا. والثاني: لا تمنع إذا انقطع الحيض إلا إذا كانت متلبسة بجنابة قبله (¬4). ¬

_ (¬1) المبسوط (3/ 152)، العناية على الهداية (1/ 167 - 168)، البناية - العيني (1/ 643) وذهب إلى منع الحائض حتى من قراءة التوراة والزبور؛ لأن الكل كلام الله إلا ما بدل منها وحرف.!! وانظر: شرح فتح القدير (1/ 167 - 168)، تبيين الحقائق (1/ 57)، بدائع الصنائع (1/ 44) مراقي الفلاح (ص: 60). (¬2) المجموع (2/ 387)، روضة الطالبين (1/ 85 - 86)، مغني المحتاج (1/ 72)، نهاية المحتاج (1/ 220) الحاوي الكبير (1/ 384)، متن أبي شجاع (ص: 7). (¬3) كشاف القناع (1/ 197)، شرح منتهى الإرادات (1/ 111)، الإنصاف (1/ 347)، المبدع (1/ 260)، المغني (1/ 387)، الممتع شرح المقنع - التنوخي (1/ 278)، معونة أولي النهى (1/ 465)، الكافي (1/ 58). (¬4) الخرشي (1/ 209)، حاشية الدسوقي (1/ 175)، الشرح الصغير (1/ 216)،

أدلة الجمهور على منع الحائض من قراءة القرآن.

وقيل: لا تمنع الحائض مطلقاً من قراءة القرآن. وهو قول للشافعي في القديم (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2)، وابن تيمية (¬3). وقيل: تمنع إلا من قراءة الآية والآيتين. وهو قول ابن عقيل من الحنابلة (¬4). وقيل: تمنع إلا من قراءة ما دون الآية. وهو رواية عن أبي حنيفة، اختارها بعض أصحابه ومنهم الطحاوي (¬5). أدلة الجمهور على منع الحائض من قراءة القرآن. استدل الحنفية والشافعية والحنابلة على منع الحائض بأدلة منها: ¬

_ المنتقى للباجي (1/ 345)، مواهب الجليل (1/ 375)، شرح الزرقاني لمختصر خليل (1/ 138)، أسهل المدارك (1/ 70 - 71) (¬1) انظر روضة الطالبين (1/ 86)، وقال في المجموع (2/ 387): "حكى الخراسانيون قولاً قديماً للشافعي أنه يجوز لها قراءة القرآن، وأصل هذا القول أن أبا ثور رحمه الله، قال: قال أبو عبد الله يجوز للحائض قراءة القرآن، فاختلفوا في أبي عبد الله، فقال بعض الأصحاب: أراد به مالكاً، وليس للشافعي قول بالجواز. اختاره إمام الحرمين، والغزالي في البسيط. وقال جمهور الخراسانيين: أراد به الشافعي، وجعلوه قولاً قديماً. قال الشيخ أبو محمَّد وجدت أبا ثور جمعهما في موضع، فقال: قال أبو عبد الله ومالك". (¬2) المحلى (مسألة: 116). (¬3) قال ابن تيمية في الاختيارات (ص: 34): "يجوز للحائض قراءة القرآن بخلاف الجنب، وهو مذهب مالك، ورواية عن أحمد، وإن خشيت نسيانه وجب". (¬4) الإنصاف (1/ 243). (¬5) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 90)، بدائع الصنائع (1/ 38)، مختصر الطحاوي (ص: 18)، شرح فتح القدير (1/ 167)، المبسوط (3/ 152).

الدليل الأول

الدليل الأول: (223) حدثنا علي بن حجر والحسن بن عرفة، قالا حدثنا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (131). (¬2) مدار الإسناد على موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. وله طرق إلى موسى. الطريق الأول: إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة. وهذا الطريق ضعيف؛ لأن إسماعيل صدوق في روايته عن أهل بلده (الشام)، مخلط في غيرهم، وهذا من رواية إسماعيل عن الحجازيين، وهي ضعيفة. قال ابن معين: ثقة فيما روى عن أصحابه أهل الشام، وما روى عن غيرهم مخلط فيه. الضعفاء للعقيلي (1/ 88). وقال البخاري: ما روى عن الشام فهو أصح. التاريخ الكبير (1/ 369)، الكاشف (248)، الكواكب النيرات (ص: 19). وقال عثمان الدارمي: ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز فإنه كتاب ضاع، فخلط في حفظه عنهم. وحسن الإمام أحمد روايته عن الشاميين، وقال: هو فيهم أحسن حالاً مما روى عن المدنيين وغيرهم. وقال أيضاً: إسماعيل بن عياش ما روى عن الشاميين صحيح، وما روى عن أهل الحجاز فليس بصحيح. تهذيب التهذيب (1/ 208) الكامل - ابن عدي (1/ 292). وقال ابن المديني: كان يوثق فيما روى عن أصحابه أهل الشام، أما ما روى عن غير

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أهل الشام ففيه ضعف. وقال دحيم: إسماعيل في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين. وكذا قال الدولابي، ويعقوب بن شيبة. تهذيب التهذيب (1/ 208). وقال ابن عدي: بعد أن ساق جملة من أحاديث إسماعيل، قال: وهذه الأحاديث من أحاديث الحجازيين، ومن حديث العراقيين إذا رواه ابن عياش عنهم فلا يخلو من غلط يغلط فيه، إما أن يكون حديث يرسله، أو مرسلاً يوصله، أو موقوفاً يرفعه، وحديثه عن الشاميين إذا روى عنه ثقة فهو مستقيم، وفي الجملة إسماعيل بن عياش ممن يكتب حديثه، ويحتج به في حديث الشاميين خاصة. الكامل - ابن عدي (1/ 300). وهذا الحديث قد اختلف فيه على إسماعيل بن عياش في إسناده أيضاً. فرواه علي حجر، والحسن بن عرفة، والفضل بن زياد، وهشام بن عمار، وداود بن رشيد، كلهم رووه عن إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. ورواه سعيد بن يعقوب الطالقاني، وإبراهيم بن العلاء الزبيدي، كلاهما عن إسماعيل ابن عياش، عن موسى بن عقبة، وعبيد الله بن عمر، عن نافع به. فزاد في الإسناد عبيد الله ابن عمر، وأظن هذا من تخليط ابن عياش رحمه الله، فإن الطالقاني ثقة، والزبيدي مستقيم الحديث. وإليك تخريج هذه الطرق. الحديث أخرجه ابن ماجه (595) حدثنا هشام بن عمار، ثنا إسماعيل بن عياش، ثنا موسى بن عقبة، عن نافع به. وأخرجه الدارقطني (1/ 117) والخطيب البغدادي (1/ 145)، والبيهقي (1/ 89) من طريق الحسن بن عرفة، ثنا إسماعيل بن عياش به. وأخرجه العقيلي في الضعفاء (1/ 90) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن الفضل بن زياد الطستي، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش به. وأخرجه الدارقطني (1/ 117) من طريق داود بن رشيد، ثنا إسماعيل بن عياش به. وأخرجه أيضاً (1/ 117) من طريق سعيد بن يعقوب الطالقاني وإبراهيم بن العلاء الزبيدي فرقهما، عن إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر، عن نافع به. قال عبد الله بن أحمد كما في الضعفاء للعقيلي (1/ 90) عرضت على أبي حديثاً حدثناه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الفضل ابن زياد الطستي، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش ... فذكر إسناده ومتنه. قال أبي: هذا باطل. أنكر على إسماعيل بن عياش. قال العقيلي: يعني: أنه وهم من إسماعيل بن عياش. وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 49) رقم 116 "سمعت أبي، وذكر حديث إسماعيل ابن عياش، عن موسى بن عقبة ... وذكر الحديث، فقال أبي: هذا خطأ، إنما هو عن ابن عمر قوله". وقال ابن عدي في الكامل بعد أن أخرجه من طريق إبراهيم بن العلاء، حدثنا ابن عياش، حدثنا عبيد الله وموسى بن عقبة به. قال (1/ 298): "هذا الحديث بهذا الإسناد لا يرويه غير ابن عياش، وعامة من رواه عن ابن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. وزاد في هذا الإسناد إبراهيم بن العلاء وسعيد بن يعقوب الطالقاني، فقالا: عبيد الله وموسى بن عقبة، وليس لهذا الحديث أصل من حديث عبيد الله". وضعف الحديث الحافظ في التلخيص (1/ 240) رقم 183. الطريق الثاني: عبد الملك بن مسلمة، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة به. أخرجه الدارقطني (1/ 117) حدثنا محمَّد بن حمدوية المروزي، حدثنا ابن حماد الآملي، حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن به. وفي الإسناد: عبد الملك بن مسلمة. قال أبو حاتم الرازي: مضطرب الحديث، ليس بالقوي، حدثني بحديث في الكرم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جبرائيل عليه السلام بحديث موضوع. وقال أبو زرعة: ليس بالقوي، هو منكر الحديث. الجرح والتعديل (5/ 371). وقال ابن حبان: شيخ يروي المناكير الكثيرة التي لا تخفى على من عُنِي بعلم السنن. المجروحين (2/ 134). وقال ابن يونس: منكر الحديث. لسان الميزان (4/ 68). وقال الحافظ في التلخيص (1/ 240): "صحح ابن سيد الناس طريق المغيرة وأخطأ في ذلك؛ فإن فيها عبد الملك بن مسلمة، وهو ضعيف، فلو سلم منه لصح إسناده، وإن كان

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (224) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا عبد الصمد بن علي، حدثنا ¬

_ ابن الجوزي ضعفه. بمغيرة بن عبد الرحمن فلم يصب في ذلك؛ فإن مغيرة ثقة، وكأن ابن سيد الناس تبع في ذلك ابن عساكر في قوله في الأطراف: إن عبد الملك بن مسلمة هذا هو القعنبي، وليس كذلك، بل هو آخر". الطريق الثالث: رواه الدارقطني (1/ 118) من طريق محمَّد بن إسماعيل، عن رجل، عن أبي معشر، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الحائض والجنب لا يقرآن القرآن. وهذا إسناد بين الضعف، فيه رجل مبهم. وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن، وهو ضعيف. قال ابن مهدي: كان أبو معشر تعرف وتنكر. الجرح والتعديل (8/ 493)، الضعفاء للعقيلي (4/ 308). وقال أحمد: كان صدوقاً، لكنه لا يقيم الإسناد، وليس بذاك. وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث. وقال أبو زرعة: هو صدوق في الحديث، وليس بالقوي. الجرح والتعديل (8/ 493). وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (7/ 52). وقال ابن حبان: كان ممن اختلط في آخر عمره، وبقي قبل أن يموت بسنتين في تغير شديد لا يدري ما يحدث به، فكثر المناكير في روايته من قبل اختلاطه فبطل الاحتجاج به. المجروحين (3/ 60). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ضعيفاً. الطبقات الكبرى (5/ 418). وقال أبو نعيم: روى عن نافع، وابن المنكدر، وهشام بن عروة، ومحمد بن عمرو الموضوعات لا شيء. ضعفاء الأصبهاني (254). وقال البخاري: منكر الحديث. الضعفاء الصغير (380). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (590).

إبراهيم بن أحمد بن مروان، ثنا عمر بن عثمان بن عاصم، ثنا محمَّد بن الفضل عن أبيه، عن طاوس، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئاً (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني (2/ 87). (¬2) في الإسناد محمَّد بن فضل. قال يحيى بن معين: كان كذاباً. وقال مرة: ليس بشيء. الجرح والتعديل (8/ 56)، الضعفاء للعقيلي (4/ 120). الكامل (6/ 161). وسئل عنه أحمد، فقال: ذاك عجب، يجيئك بالطامات، ولم يرضه. وقال أيضاً: ليس بشيء. وقال مرة: حديثه حديث أهل الكذب. الجرح والتعديل (8/ 56)، الكامل (6/ 161). وقال عمرو بن علي: متروك الحديث، كذاب. وقال أبو زرعة: ضعيف. الجرح والتعديل (8/ 56). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين له (542). وقال أيضاً: كذاب. تهذيب التهذيب (9/ 356). وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه إلا على سبيل الاعتبار. المجروحين (2/ 278). وقال البخاري: سكتوا عنه. الضعفاء الصغير (ص: 105). وقال أيضاً: رماه ابن أبي شيبة. التاريخ الكبير (655). وقال أبو نعيم: روى عن زيد بن أسلم، ومنصور بن المعتمر، وأبي إسحاق، وداود بن أبي هند الموضوعات. ضعفاء الأصبهاني (220). وقال الذهبي: تركوه. الكاشف (5113). وأبوه: الفضل بن عطية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ قال عمرو بن علي: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (7/ 64). ووثقه غيره. قال يحيى بن معين وأبو زرعة: لا بأس به. الجرح والتعديل (7/ 64). وقال إسحاق بن راهوية: ثقة. تهذيب التهذيب (8/ 516). وقال ابن حبان يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه؛ لأن ابنه في الحديث ليس بشيء. الثقات (7/ 317). وقال الذهبي: ثقة. الكاشف (4470). وقال ابن عدي: روى عنه ابنه مناكير، والبلاء من ابنه محمَّد، والفضل خير من ابنه محمَّد. الكامل (6/ 14)، تهذيب التهذيب (8/ 516). وفي الإسناد: إبراهيم بن أحمد بن مروان. قال الدارقطني: ليس بالقوي. لسان الميزان (1/ 27). تاريخ بغداد (6/ 5). ورواه الدارقطني (1/ 121) من طريق يحيى - يعنى ابن أبي أنيسة - عن أبي الزبير، عن جابر موقوفاً عليه. قال الدارقطني بعده: يحيى: هو ابن أبي أنيسة ضعيف، وضعفه الحافظ في التقريب. قلت: بل هو أشد من ذلك. قال عنه إخوه زيد بن أبي أنيسة: لا تكتبوا عن أخي، فإنه يكذب. وقال أحمد: ليس ممن يكتب حديثه. ضعفاء العقيلي (4/ 392)، الجرح والتعديل (9/ 129). وقال أيضاً: متروك الحديث. الجرح والتعديل (9/ 129) تهذيب التهذيب (11/ 161). وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (639). تهذيب الكمال (31/ 223). وقال الجوزجاني: غير ثقة، سمعت أحمد يذكره بالذم. تهذيب التهذيب (11/ 161). وقال البخاري: ليس بذاك. التاريخ الكبير (8/ 262) الضعفاء الصغير (393). وقال الذهبي: تالف. الكاشف. وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، حتى إذا سمعها المبتدئ في الصناعة لم يشك أنها معمولة، ولا يجوز الاحتجاج به في حال. المجروحين (3/ 110). وقال عمرو بن علي: كان يحيى بن أبي أنيسة ضعيفاً في الحديث، واجتمع أصحاب الحديث على ترك حديثه إلا من لا يعلم. وقال أبو زرعة: ليس بالقوى. وقال أبو حاتم: مثله، وزاد: هو ضعيف الحديث.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: القياس على الجنب؛ لأنه إذا منع الجنب منعت الحائض, لأن حدث الحيض أغلظ، حيث يمنع من الصيام، وقضاء الصلاة. وأحاديث منع الجنب من قراءة القرآن منها: (225) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن عبد الله بن سَلِمة، عن علي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً (¬1). [إسناده ضعيف، والمعروف أنه موقوف على عليّ] (¬2). ¬

_ الجرح والتعديل (9/ 129). وقد روي عن جابر بسند أمثل من هذا لكنه موقوفاً عليه، فقد روى ابن المنذر في الأوسط (2/ 97) من طريق ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير أنه سأل جابراً عن المرأة الحائض والنفساء هل تقرأ شيئاً من القرآن؟ فقال جابر: لا. (¬1) المسند (1/ 83). (¬2) في الإسناد عبد الله بن سَلِمة، لم يرو عنه غير عمرو بن مرة على الصحيح. قال شعبة: سمعت عبد الله بن سلمة يحدثنا، وكان قد كبر، فكنا نعرف وننكر. تهذيب الكمال (15/ 50). وقال البخاري: لا يتابع في حديثه. التاريخ الكبير (5/ 99). وقال النسائي: يعرف وينكر. الضعفاء والمتروكين له (347)، لسان الميزان (2/ 431). وقال الدارقطني: ضعيف. السنن (2/ 121). وقال ابن حبان: يخطئ. الثقات (5/ 12). وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/ 169). وقال: يعقوب بن شيبة: ثقة. تهذيب التهذيب (2/ 212).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال أبو حاتم: تعرف وتنكر. الجرح والتعديل (5/ 73). وذكره ابن الجوزي في الضعفاء، وقال الذهبي في الكاشف: صويلح. فالأكثر على ضعفه، وعلى التنزل بأنه ثقة، فقد تغير، وحدث بهذا الحديث بعد أن كبر قال عمرو بن مرة: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فيعرف، وينكر، كان قد كبر وبالرغم من أن شعبة كان يقول: هذا الحديث ثلث رأس مالي، فإنه كان يقول أيضاً: روى عبد الله ابن سلمة هذا الحديث بعد ما كبر. وإذا كان قد رواه زمن تغيره لم يقبل منه. وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث. فذكر الشافعي رحمه الله أن أهل الحديث لا يثبتونه. قال البيهقي رحمه الله في معرفة السنن والآثار (1/ 323): "ذكره الشافعي - يعني حديث علي - في كتاب جامع الطهور". ثم قال: "وأحب للجنب والحائض أن يدعا القرآن حتى يطهرا احتياطاً لما روي فيه، وإن لم يكن أهل الحديث يثبتونه". قال البيهقي: "وإنما توقف الشافعي رحمه الله في ثبوت الحديث؛ لأن مداره على عبد الله ابن سلمة الكوفي، وكان قد كبر، وأنكر من حديثه وعقله بعض النكرة، وإنما روى الحديث بعد ما كبر، قاله شعبة". اهـ وقال الخطابي في معالم السنن (1/ 156) "كان أحمد يوهن حديث علي هذا، ويضعف أمر عبد الله بن سلمة" اهـ. وقال النووى في المجموع (2/ 183): "قال الترمذي: حسن صحيح، وقال غيره من المحققين: هو حديث ضعيف". وقال النووى في الخلاصة (1/ 207): "قال الترمذي: هو حسن صحيح، وخالفه الأكثرون، فضعفوه". واقتصار النووي على الترمذي فيمن صحح الحديث ليس بدقيق، فقد صححه جماعة غير الترمذي، قال الحافظ في التلخيص (1/ 242) قوله: "صححه الترمذي، وابن السكن، وعبد الحق، والبغوي في شرح السنة، وروى ابن خزيمة بإسناده عن شعبة قوله: هذا الحديث

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ثلث رأس مالي، وقال شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه.!!! وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وعبد الله بن سلمة لا مطعن فيه، وأقره الذهبي" اهـ. وقال الحافظ في الفتح (1/ 408): "والحق أنه من قبيل الحسن، يصلح للحجة" اهـ. لكن قال الحافظ في التقريب: صدوق، تغير حفظه, فإذا كان قد تغير حفظه، وصرح شعبة بأنه حدث به في حال الكبر، بعد ما تغير فكيف يكون حسناً. [تخريج الحديث] الإسناد كما ذكرنا مداره على عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي مرفوعاً. ويرويه عن عمرو بن مرة جماعة: هم شعبة، والأعمش، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومسعر، وإليك تخريج رواياتهم: الطريق الأول: شعبة، عن عمرو بن مرة. أخرجه الطيالسي (101) حدثنا شعبة به. وأخرجه أحمد (1/ 84) حدثنا يحيى - القطان - عن شعبة، به. ومن طريق يحيى أخرجه ابن الجارود في المنتقى (94). وأخرجه أحمد (1/ 107) حدثنا محمَّد بن جعفر، حدثنا شعبة به. ومن طريق أحمد أخرجه الحاكم (4/ 107)، وصحح إسناده، ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو يعلى (408)، وابن ماجه (594)، وابن خزيمة (208) عن بندار (محمَّد ابن بشار) عن محمَّد بن جعفر به. وأخرجه أبو يعلى (406) من طريق عبيد الله بن عمر، عن محمَّد بن جعفر به. وأخرجه البزار (708) حدثنا محمَّد بن المثنى، قال: نا محمَّد بن جعفر به. قال البزار: لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي. وكان عمرو ابن مرة يحدث عن عبد الله بن سلمة، فيقول: يعرف في حديثه وينكر. وأخرجه أحمد (1/ 124) حدثنا وكيع، عن شعبة به. وأخرجه الحميدي (57) عن سفيان بن عيينة، عن شعبة به. ومن طريق سفيان أخرجه ابن حبان (799) (800) والدارقطني (1/ 119). وأخرجه أبو يعلى (287) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة به. وأخرجه النسائي (265)، أخبرنا علي بن حجر، قال: أنبأنا إسماعيل بن إبراهيم، عن شعبة به. وأخرجه أبو يعلى (407) حدثنا علي بن الجعد، عن شعبة به. ومن طريق علي بن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الجعد أخرجه البغوي في شرح السنة (273). وأخرجه أبو داود (229) حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة به. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 87) من طريق وهب بن جرير، وأبي الوليد الطيالسي، وعبد الرحمن بن زياد، وحجاج، كلهم، عن شعبة به. الطريق الثاني: الأعمش، عن عمرو بن مرة. أخرجه ابن أبي شيبة، (1/ 97) 1078، 1107، حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش به. وأخرجه الترمذي (146) والبزار (706) أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن سعيد الأشج، حدثنا حفص ابن غياث وعقبة بن خالد، قالا: حدثنا الأعمش به. وأخرجه النسائي (1/ 144) أخبرنا محمَّد بن أحمد (أبو يوسف الصيدلاني الرقي) قال: حدثنا عيسى بن يونس، قال: حدثنا الأعمش به. وأخرجه الطحاوي (1/ 87) من طريق حفص بن غياث به. وذكره الدارقطني في العلل (3/ 248)، فقال: هو حديث يرويه عمرو بن مرة، عنه - أي عن عبد الله بن سلمة - حدث به أصحاب عمرو بن مرة عنه كذلك. ورواه الأعمش عن عمرو بن مرة، واختلف عنه: فرواه عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة - على الصواب - عن عبد الله ابن سلمة، عن علي. وتابعه حفص بن غياث، عن الأعمش بذلك مثله. وخالفهما أبو جعفر الرازي، وجنادة بن مسلم، ومحمد بن فضل، فرووه عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي. إلا أن ابن فضيل وقفه، والآخران رفعاه. وخالفهم أبو الأحوص، فقال: عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن علي موقوفاً مرسلاً .... الخ كلامه رحمه الله الطريق الثالث: عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة. أخرجه أحمد (1/ 134) حدثنا أبو معاوية، حدثني ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة به. وأخرجه البزار (707) من طريق حفص وأبى معاوية، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ به. وأخرجه أبو يعلى (348, 524) من طريق سفيان. وأخرجه (623) من طريق وكيع كلاهما عن ابن أبي ليلى به. وأخرجه الطحاوي (1/ 87) من طريق يحيى بن عيسى، عن ابن أبى ليلى، به. وابن أبي ليلى، وإن كان فيه ضعف من قبل حفظه إلا أنه قد توبع. قال الدارقطني في العلل موصولاً بكلامه السابق (3/ 251): ورواه ابن أبي ليلى، عن عمرو ابن مرة - على الصواب - عن عبد الله بن سلمة، عن علي، رواه جماعة من الرواة عن ابن أبي ليلى كذلك. وخالفهم يحيى بن عيسى الرملي من رواية إسماعيل بن مسلمة بن قعنب، فرواه عن ابن أبي ليلى، عن سلمة بن كهيل، عن عبد الله بن سلمة، ووهم فيه، والصواب: عن عمرو بن مرة، والقول قول من قال: عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي. هذا الكلام فيما يتعلق برواية عبد الله بن سلمة. وقد تفرد بروايته عن علي مرفوعاً. فإن قيل: قد أخرجه أحمد (6/ 110) حدثنا عائذ بن حبيب، حدثني عامر بن السمط، عن أبي الغريف، قال: أتى علي بوضوء، فمضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية. فهذه متابعة من أبي الغريف لعبد الله بن سلمة في روايته عن علي مرفوعاً. فالجواب على هذا الكلام من وجهين: الأول: درجة أبي الغريف. فقد ضعفه بعضهم بأبي الغريف بحجة أنه لم يوثقه إلا ابن حبان، والحق أنه قد وثقه يعقوب بن شيبة كما في المعرفة والتاريخ (3/ 200)، وذكره البرقي فيمن احتملت روايته، وقد تكلم فيه، وقال الحافظ في التقريب: صدوق رمي بالتشيع. وأما أبو حاتم الرازي فقد خسفه، وهو من المتشددين في الجرح غالباً، فقال: كان على شرطة علي، وليس بالمشهور، قيل: هو أحب إليك أو الحارث الأعور؟ قال: الحارث أشهر، وهذا شيخ قد تكلموا فيه، من نظراء أصبغ بن نباتة. الجرح والتعديل (5/ 313). وأصبغ، قد قال فيه الحافظ: متروك. اهـ وباقي رجاله ثقات إلا شيخ أحمد فإنه صدوق. الأمر الثاني: وهو المهم، أن الحديث ظاهره أن لفظه كله مرفوع، ويحتمل أن المرفوع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ينتهي عند قوله: "هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ". وأما قوله: "ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، وأما الجنب فلا ولا آية". فيحتمل أنه من فعل علي وقوله موقوفاً عليه، ويحتمل أن يكون موصولاً بالقدر المرفوع، ومع الاحتمال يطلب مرجحاً لأحد الأمرين، فوجدت الدارقطني في سننه (1/ 118) قد أخرجه من طريق يزيد بن هارون، نا عامر بن السمط، ثنا أبو الغريف الهمداني، قال: كنا مع علي في الرحبة، فخرج إلى أقصى الرحبة، فوالله ما أدري أبولاً أحدث أم غائطاً؟ ثم جاء فدعا بكوز من ماء، فغسل كفيه، ثم قبضهما إليه، ثم قرأ صدراً من القرآن، ثم قال: اقرؤا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة، فإن أصابته جنابة، فلا ولا حرفاً واحداً. وقال الدارقطني: هو صحيح عن علي. فرواية يزيد بن هارون عن عامر بن السمط صريحة بالوقف. وأخرجه عبد الرزاق (1306) عن الثوري، عن عامر الشعبي، قال سمعت أبا الغريف الهمداني، يقول: .... وذكر الأثر موقوفاً على علي. وأظن قوله (عامر الشعبي) خطأ، بل هو عامر بن السمط. وقد راجعت ترجمة أبي الغريف في تهذيب المزي ولم أجد من تلاميذه عامر الشعبي. ورواه شريك، عن عامر بن السمط به، موقوفاً على علي، كما في المصنف لابن أبي شيبة (1086). ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 97، 96) من طريق خالد بن عبد الله الواسطي (الطحان)، ومن طريق إسحاق بن راهوية، فرقهما، عن عامر بن السمط به، موقوفاً على عليّ. فيكون على هذا رواه الثوري، ويزيد بن هارون، وإسحاق بن راهوية، وخالد بن عبد الله الطحان، وشريك، خمستهم رووه عن عامر بن السمط عن أبي الغريف، عن عليّ موقوفاً عليه. وخالفهم عائذ بن حبيب، فرواه عن عامر بن السمط، عن علي بلفظ محتمل للرفع والوقف، ورواية الجماعة مقدمة على رواية عائذ على القول بالتعارض، لأن الواحد من هؤلاء مقدم على عائذ ابن حبيب ولا مقارنة. فتكون رواية عائذ بالرفع شاذة لمخالفتها من هو أوثق. وإن كنت أرجح أن الروايتين موقوفتان على علي، لأن الرواية المحتملة ترد إلى الرواية

وجه الاستدلال: أن تبليغ القرآن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجب، وكونه يترك هذا الواجب يدل على أنه تركه لما هو أوجب منه، وإذا منع الجنب منعت الحائض؛ لأن الحيض أغلظ، حيث يمنع الصوم، وقضاء الصلاة، وانظر أدلة منع الجنب من قراءة القرآن في أدلة من يفرق بين الحيض والجنابة. ونوزع هذا الاستدلال بما يلي: أولاً: قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها ما هو واجب، ومنها ما هو على سبيل الاستحباب، كالتعبد بتلاوته، وتبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - واحداً من أمته تبليغ للأمة، فأكثر ما تكون قراءته له - صلى الله عليه وسلم - على وجه الذكر والتعبد، فإذا كان كذلك، كان حديث عليّ لو صح مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. قال ابن خزيمة: "لا حجة في هذا الحديث لمن منع الجنب من القراءة؛ لأنه ¬

_ الصريحة. والله أعلم. فإن قيل: هذا الموقوف ألا يقوي رواية عبد الله بن سلمة المرفوعة. فالجواب أن الموقوف غالباً علة برد المرفوع، فكون عبد الله بن سلمة هو الذي تفرد برفعه، مع كونه قد تغير، وحدث به في زمن الكبر، كل هذا دليل على خطئه ووهمه. وإن كانت طريقة جمهور الفقهاء لا يعللون المرفوع بالموقوف، ولكن طريقة جمهور المحدثين أدق وأحوط. [تخريج الحديث] أخرجه مع أحمد، أبو يعلى (365) حدثنا أبو خيثمة، حدثنا عائذ بن حبيب به. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 276) رجاله موثوقون. اهـ.

ليس فيه نهي، وإنما هو حكاية فعل" (¬1). وقال ابن حزم: "فأما منع الجنب من قراءة القرآن فاحتجوا بما رواه عبد الله بن سلمة، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه نهي عن أن يقرأ الجنب القرآن، وإنما هو فعل منه عليه السلام لا يلزم، ولا بين عليه السلام أنه إنما يمتنع من قراءة القرآن من أجل الجنابة، وهو عليه السلام لم يصم قط شهراً كاملاً غير رمضان، ولم يزد قط في قيامه على ثلاث عشرة ركعة، ولا أكل قط على خوان، ولا أكل متكئاً، أفيحرم أن يصام شهر كامل غير رمضان، أو أن يتهجد المرء بأكثر من ثلاث عشرة ركعة، أو أن يأكل على خوان، أو أن يأكل متكئاً؟ هذا لا يقولونه، ومثل هذا كثير جداً، وقد جاءت آثار في نهي الجنب، ومن ليس على طهر عن أن يقرأ شيئاً من القرآن، ولا يصح منها شيء" (¬2). (226) ومنها ما رواه الدارقطني، من طريق أبي نعيم النخعي (عبد الرحمن بن هانئ)، نا أبو مالك النخعي، عن عبد الملك بن حسين، حدثني أبو إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي. قال أبو مالك: وأخبرني عاصم بن كليب، عن أبي بردة، عن أبي موسى كلاهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) تلخيص الحبير (1/ 242) رقم 184 (¬2) المحلى (مسألة 116).

يا علي إني أرضى لك ما أرضى لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقرأ القرآن وأنت جنب، ولا أنت راكع، ولا أنت ساجد، ولا تصل، وأنت عاقص شعرك، ولا تدبح تدبيح الحمار. [إسناده ضعيف جداً] (¬1). ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (1/ 118). مدار هذه الأسانيد على أبي نعيم النخعي. قال أحمد: ليس بشيء. الجرح والتعديل (5/ 298)، الضعفاء للعقيلي (2/ 349). وقال ابن عدي: عامة ماله لا يتابعه عليه الثقات. الكامل (4/ 315). وقال ابن معين: بالكوفة كذابان: أبو نعيم الكوفي، وأبو نعيم ضرار بن صرد. الجرح والتعديل (5/ 298). وقال أبو حاتم الرازي: لا بأس به يكتب حديثه. الجرح والتعديل (5/ 298). وقال ابن حبان: ربما أخطأ. الثقات (8/ 377). وقال الذهبي: مختلف في توثيقه. الكاشف (3334). وفي الإسناد: أبو مالك النخعي. قال ابن معين: ليس بشيء. الجرح والتعديل (5/ 347)، الضعفاء للعقيلي (3/ 22). وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. وقال أيضاً: متروك الحديث. تهذيب التهذيب (12/ 240). وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم. التاريخ الكبير (5/ 411)، الكامل في الضعفاء (5/ 303). وقال ابن عدي: وأبو مالك له أحاديث حسان، عامتها لا يتابع عليها. الكامل (5/ 303). وقال أبو حاتم الرازي، وأبو زرعة: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (5/ 347). وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم، وقال عمرو بن علي: ضعيف الحديث منكر الحديث. تهذيب الكمال (34/ 247)، وتهذيب التهذيب (12/ 240). وقال ابن حبان: كان ممن يروي المقلوبات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به فيما وافق الأثبات، ولا الاعتبار فيما لم يخالف الأثبات. المجرحين (2/ 134).

(227) ومنها ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق عبد الله ابن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنود، عن مالك بن عبادة الغافقي، قال: أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جنب، فأخبرت عمر بن الخطاب، فجرني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إن هذا أخبرني أنك أكلت وأنت جنب. قال: نعم إذا توضأت أكلت وشربت، ولكني لا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل (¬1). [إسناده ضعيف، ولو صح لكان حكاية فعل في الجنب خاصة] (¬2). ¬

_ وفيه الحارث الأعور: متهم، وقد سبقت ترجمته. وقد اختلف على أبي إسحاق، فرواه عنه النخعي كما في حديث الباب. ورواه سفيان كما في مصنف ابن أبي شيبة (1113) ثنا وكيع، عن سفيان عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: اقرأ القرآن على كل حال ما لم تكن جنباً. فقد رواه سفيان عن أبي إسحاق، وخالفه النخعي في أمرين: الأول: في الرفع، حيث رفعه، ووقفه سفيان. الثاني: في الزيادة في المتن. (¬1) شرح معاني الآثار (1/ 88). (¬2) في إسناده عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف. وفي إسناده أيضاً: ثعلبة بن أبي الكنود. وقيل: ثعلبة أبو الكنود. ذكره البخاري وابن أبي حاتم وسكتا عليه. التاريخ الكبير (2/ 175)، الجرح والتعديل (2/ 463). وذكره ابن حبان في الثقات (4/ 99). وأما عبد الله بن سليمان فلم ينسبه، لكن قال صاحب كشف الأستار عن رجال معاني الآثار (ص: 55): "أظنه عبد الله بن سليمان بن زرعة". اهـ وظنه هذا راجح؛ لأن عبد الله بن سليمان بن زرعة مصري، وعبد الله بن لهيعة كذلك، وقد ترجم المزي لعبد الله

(228) ومن أدلة منع الجنب من قراءة القرآن ما رواه عبد الرزاق، قال: عن الثوري، عن أبي وائل، عن عبيدة السلماني، قال: كان عمر بن الخطاب يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. [رجاله ثقات، والكراهة عند السلف تعني التحريم، وعمر له سنة متبعة؛ لأنه من الخلفاء الراشدين المأمورين باتباع سنتهم] (¬1). ¬

_ ابن سليمان في تهذيبه وذكر جملة من الرواة المصريين يروون عنه، منهم: الليث بن سعد، ويحيى بن أيوب، وعمرو بن الحارث وغيرهم. قال البزار عن عبد الله بن سليمان: حدث بأحاديث لم يتابع عليها. قلت: وأظن هذا منها. وقال عبد الله بن وهب: سمعت حيوة بن شريح يحدث عن عبد الله بن سليمان، وكانوا يرونه أحد الأبدال. وفي التقريب: صدوق يخطئ. ثم وقفت بعد على رواية عند البيهقي في الخلافيات (2/ 20) فوجدته منسوباً، وإذا هو ليس بأبي زرعة، وإنما هو عبد الله ابن سليمان بن أبي سلمة. قال أبو حاتم الرازي: لا بأس به. الجرح والتعديل (5/ 74). وقال يحيى بن معين: ثِقَة. المرجع السابق. وقال أبو عامر العقدي: حدثنا عبد الله بن سليمان، شيخ من أهل المدينة لا بأس به. تهذيب الكمال (15/ 61)، تهذيب التهذيب (5/ 216). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. الثقات (7/ 18). [تخريج الحديث]: أخرجه الدارقطني في السنن (1/ 119) والطبراني في الكبير (19/ 295) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 89) من طريق ابن لهيعة به. وتابع الواقدي ابن لهيعة، ولا يفرح بها؛ لأن الواقدي متروك، فقد أخرجه البيهقي في الخلافيات (2/ 20) عن عبد الله بن سليمان ابن أبي سلمة، عن ثعلبة به. (¬1) المصنف (1307) ورواه ابن أبي شيبة (1/ 97) حدثنا حفص وأبو معاوية، عن

والجواب: أن يقال: الصحابة قد اختلفوا، وإذا اختلفوا نظرنا في أقربهم للحق. (229) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا غندر، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، أن ابن مسعود كان يمشي نحو الفرات، وهو يقرئ رجلاً القرآن، فبال ¬

_ الأعمش، عن شقيق (أبي وائل) به. بلفظ: قال عمر: لا يقرأ الجنب القرآن. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 90) من طريق زائدة، وحفص بن غياث، كلاهما، عن الأعمش به، بلفظ عبد الرزاق. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 96) من طريق محمَّد بن داسة، عن الأعمش به. وقد أخرجه البيهقي (1/ 89) من طريق أيوب بن سويد، عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمر بإسقاط عبيدة. قال البيهقي: ورواه غيره عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبيدة، عن عمر، وهو الصحيح. وهذه الأسانيد مدارها على الأعمش، وهو مدلس، لكن الحافظ جعله في المرتبة الثانية: أي ممن يحتمل تدليسه. والقاعدة في المدلس أنه متى كان مكثراً من التدليس رد حديثه، ومن لم يكثر فإنه تحتمل عنعنته. وقد صحح إسناده في التلخيص (1/ 138). ورواه الدارمي (992) أخبرنا أبو الوليد، ثنا شعبة، ثنا الحكم، عن إبراهيم، قال: كان عمر يكره أن يقرأ - أو ينهى - أن يقرأ الجنب والحائض. قال شعبة: وجدت في الكتاب: والحائض. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 89) من طريق سليمان بن حرب، ثنا شعبة، به. وأخرجه في الخلافيات بنفس الإسناد (2/ 39). وهذا منقطع، إبراهيم لم يدرك عمر. قال الذهبي في الميزان (1/ 75): "استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا ارسل عن ابن مسعود وغيره فليس ذلك بحجة" اهـ.

ابن مسعود، فكف الرجل عنه، فقال ابن مسعود: مالك؟ فقال: إنك بلت. فقال ابن مسعود: إني لست بجنب. [إسناده منقطع، إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وباقي رجاله ثقات إلا حماد بن أبي سليمان فإنه صدوق له أوهام] (¬1). (230) ومنها ومنها ما رواه الدارقطني: حدثنا محمَّد بن مخلد، نا العباس ابن محمَّد الدوري (ح) وحدثنا إبراهيم بن دُبَيْس بن أحمد الحداد، نا محمد بن سليمان الواسطي، قالا: نا أبو نعيم، نا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، قال: كان ابن رواحة مضطجعاً إلى جنب امرأته، فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة، فوقع عليها، وفزعت امرأته، فلم تجده في مضجعه، فقامت وخرجت، فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت، فأخذت الشفرة، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (1/ 97) ورواه أيضاً (1/ 99) حدثنا وكيع، عن شعبة به. إلا أن وكيعاً خالف غندراً في لفظه، فلم يذكر الجنابة. ولفظه: عن عبد الله أنه كان معه رجل، فبال، ثم جاء، فقال له ابن مسعود: اقرئه. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 90) من طريق حماد - يعني ابن سلمة - عن حماد الكوفي به. ولم يذكر أيضاً الجنابة، ولفظه: أن ابن مسعود كان يقرئ رجلاً، فلما انتهى إلى شاطي الفرات كف عنه الرجل، فقال: مالك؟ قال: أحدثت، قال: اقرأ، فجعل يقرأ، وجعل يفتح عليه. وهذا الأثر فيه أن المحدث هو الرجل، وليس ابن مسعود، بخلاف الأول. وأخرجه عبد الرزاق (1319) عن معمر، عن عطاء الخرساني، قال: كان ابن مسعود يفتح على الرجل، وهو يقرأ، ثم قام، فبال فأمسك الرجل عن القراءة، فقال له ابن مسعود ..... وتركه محقق الكتاب فراغاً. وعطاء الخرساني لم يسمع من ابن مسعود. والأكثر على عدم ذكر الجنابة، وإنما هو في قراءة القرآن للمحدث حدثاً أصغر. والله أعلم.

فقال: مهيم؟ فقالت: مهيم! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتيني؟ فقالت: رأيتك على الجارية. فقال: ما رأيتيني، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدنا القرآن، وهو جنب، قالت: فاقرأ، فقال: أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الفجر ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع فقالت: آمنت بالله، وكذبت البصر. ثم غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فضحك حتى رأيت نواجذه - صلى الله عليه وسلم -. [إسناد القصة ضعيف، وفيه انقطاع، والشعر ثابت لعبد الله ابن رواحة من غير هذا الطريق] (¬1). ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (1/ 120) وفي إسناده زمعة بن صالح. قال ابن معين: ضعيف. وقال مرة: صويلح الحديث. وقال أيضاً: صويلح. وقال: لم يكن بالقوي. تاريخ ابن معين (2/ 174). وقال البخاري: يخالف في حديثه تركه ابن مهدي أخيراً. التاريخ الكبير (3/ 451). وقال أحمد: ضعيف الحديث، كما في رواية عبد الله بن أحمد. الجرح والتعديل (3/ 624). وقال أبو داود: أنا لا أخرج حديث زمعة. سؤالات الآجري (421). وقال ابن حبان: كان رجلاً صالحاً، يهم ولا يعلم، ويخطئ، ولا يفهم حتى غلب في حديثه المناكير التي يرويها عن المشاهير. المجروحين (1/ 312). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 94). وقال النسائي: ليس بالقوي، مكي، كثير الغلط عن الزهري. الضعفاء والمتروكين (220). وقال ابن خزيمة: في قلبي منه شيء. وقال في موضع آخر: أنا بريء من عهدته.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ تهذيب التهذيب (3/ 292). وقال الجوزجاني: متماسك. أحوال الرجال (255). وقال ابن عدي: ربما يهم في بعض ما يرويه، وأرجو أن حديثه صالح، لا بأس به. الكامل (3/ 13/ 229). وفي التقريب: ضعيف، وحديثه عند مسلم مقرون. ومع ضعفه فإن روايته عن سلمة أشد ضعفاً، قال عبد الله بن أحمد سألته - يعني أباه - عن سلمة بن وهرام، فقال: روى عنه زمعة أحاديث مناكير، أخشى أن يكون حديثه حديثاً ضعيفاً. العلل رواية عبد الله بن أحمد (2/ 527) رقم 3479. وانظر الجرح والتعديل (4/ 175)، ضعفاء العقيلي (2/ 146). وقال ابن حبان: يعتبر بحديثه - يعني سلمة بن وهرام - من غير رواية زمعة بن صالح عنه. الثقات (6/ 399). وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس بروايات الأحاديث التي يرويها عنه غير زمعة. الكامل (3/ 338)، تهذيب الكمال (11/ 328)، تهذيب التهذيب (4/ 141). العلة الثانية في الحديث: الانقطاع. حيث لم يسمع عكرمة من ابن رواحة. قال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 426): "رواه الدارقطني هكذا مرسلاً". وقال مثله السبكي في طبقاته (2/ 265). وقال النووي في المجموع (2/ 159): "ولكن إسناد هذه القصة ضعيف، ومنقطع". هذا ضعفها من قبل الإسناد، وأما ضعفها من قبل المتن فقد قال الشيخ محمد رشيد رضا في فتاويه: (3/ 970): "أما وجه حكمي بوضعها؛ فهو ما فيه من نسبة تعمد الكذب من صحابي من الأنصار الأولين الصادقين الصالحين، وتسميته الشعر قرآناً: أي نسبته إلى الله عز وجل القائل فيه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له على ذلك بالضحك الدال على الاستحسان، كما صرح به في بعض الروايات، وقد صرح العلماء بأن من نسب إلى القرآن ما ليس منه كان مرتداً" اهـ. [تخريج الحديث]: الحديث أخرجه الدارقطني كما في حديث الباب، ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (2/ 30).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (1/ 259) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (2/ 30) ثنا أبو نعيم به بلفظ: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدنا منها القرآن وهو جنب. واختلف على زمعة فيه، فرواه عنه أبو نعيم كما سبق عن زمعة، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن رواحة منقطعاً. وخالفه عمر بن زريق كما في سنن الدارقطني (1/ 121) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (2/ 32). وسعيد بن زكريا كما عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (28/ 116) فروياه عن زمعة ابن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس، فوصلاه. ولعل هذا التخليط من زمعة بن صالح، فإنه كما عرفت من ترجمته. وللقصة شواهد ضعيفة، منها: ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 275) ح 26015 حدثنا أبو أسامة، عن نافع، قال: كان لعبد الله جارية، فكان يكتم أمرأته غشيانها، قال: فوقع عليها ذات يوم، فجاء إلى امرأته فاتهمته أن يكون وقع عليها، فأنكر ذلك. فقالت: اقرأ إذاً، فقال: شهدت بإذن الله أن محمداً ... رسول الذي فوق السموات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل في دينه متقبل فقالت: أو لا ذلك. اهـ. ورواه ابن عساكر في تاريخه (28/ 113) والذهبي في سير أعلام النبلاء (1/ 238) من طريق ابن وهب. وأخرجه ابن عساكر وحده (28/ 113) من طريق أبي أسامة، عن أسامة ابن زيد الليثي، عن نافع به. وقد صرح أبو أسامة بالتحديث عند ابن عساكر، وتابعه ابن وهب. وهذه القصة فيها: أولاً: إسنادها منقطع، نافع لم يدرك ابن رواحة. ثانياً: ليس فيها أن ابن رواحة ذكر ذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقره على فعله. ثالثاً: الأبيات الشعرية مختلفة عن رواية زمعة بن صالح. والله أعلم الشاهد الثاني: أخرج الدارمي في الرد على الجهمية (82) ثنا سعيد بن أبي مريم المصري، أنبأ يحيى بن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أيوب، ثنا عمارة بن غزية، عن قدامة بن إبراهيم بن محمد الحاطبي فذكرها. وقدامة لم يوثقه أحد غير ابن حبان حيث ذكره في الثقات (7/ 340)، وفي التقريب مقبول: أي في المتابعات، كما أن فيه علة أخرى قدامة لم يدرك ابن رواحة ولا امرأته. قال الذهبي في العلو (ص: 42): روى من وجوه مرسلة. والله أعلم. الشاهد الثالث: أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (28/ 112)، والذهبي في السير (1/ 238) من طريق محمد بن حرب، نا محمد بن عباد، نا عبد العزيز ابن أخي الماجشون، قال: بلغنا أنه كانت لعبد الله بن رواحة جارية يستسرها سراً عن أهله، فبصرت به امرأته يوماً قد خلا بها، فقالت: لقد اخترت أمتك على حرتك، فجاحدها ذاك. قالت: إن كنت صادقاً فاقرأ آية من القرآن، فقال: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرين قالت: فزدني آية آخرى، فقال: وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمين فقالت: زدني أخرى، فقال: وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فقالت: آمنت بالله، وكذبت البصر، فأتى ابن رواحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدثه، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يغير عليه. وهذا الإسناد ساقها بلاغاً، فهو منقطع، والأبيات التي فيه تختلف عن الروايتين السابقتين، فتكون الأبيات ذكرت على ثلاث روايات. الشاهد الرابع: أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (28/ 114) من طريق الوليد بن شجاع بن السكوني، حدثني عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن سلمان بن الهاد أن امرأة ابن رواحة رأته على جارية، فذكر نحوه ... وهذا إسناد منقطع، ابن الهاد لم يدرك ابن رواحة، ولم يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك وأقره.

هذه أدلة منع الجنب من قراءة القرآن، وإذا كان الجنب ممنوعاً كانت الحائض أولى بالمنع؛ لأن حدثها أغلظ، وقد عرفت أن هذه الأدلة ليست قوية، فلا تكفي في التحريم. وقد قال بالمنع جماعة من التابعين، منهم عطاء بن أبي رباح (¬1)، مجاهد (¬2)، ¬

_ الشاهد الخامس: أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (28/ 115) من طريق أبي بكر محمد بن يحيى بن العباس الصولي، نا عون - يعني ابن محمد - عن أبيه، عن الهيثم - وهو ابن عدي - قال: ذكروا أن عبد الله بن رواحة ابتاع جارية وذكره إلا أنه ذكر أن امرأته وجدته مرتين، وسألته فقرأ عليه مرة: قوله شهدت بأن وعد الله حق .... الخ الأبيات، وفي المرة الثانية، قرأ عليها: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... الخ الأبيات. وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له: "هذا لعمري من معاريض الكلام، إن خياركم خيركم لنسائه. وهذا الإسناد فيه ضعف، ومنقطع أيضاً. وعون بن محمد لم يرو عنه أحد إلا محمد بن يحيى الصولي، ولم يوثقه أحد. انظر ترجمته في تاريخ بغداد (2/ 294). وقال الحافظ: أخباري، ما حدث عنه سوى الصولي. لسان الميزان (4/ 388). فالقصة كل شواهده معضلة، وفيها اختلاف في متنها، وقد ضعفها جماعة منهم النووي كما في المجموع (2/ 159) وابن عبد الهاد في التنقيح (1/ 426)، والذهبي في العلو (ص: 42). وصحح إسنادها ابن عبد البر في التمهيد (1/ 296) وقال في الاستيعاب (3/ 900): "رويناها من وجوه صحاح". وقال محمد بن عثمان الحافظ: رويت هذه القصة من وجوه صحاح. انظر اجتماع الجيوش الإسلامية (145). ولم يتعقبه ابن القيم في شيء. والحق مع من ضعف هذه القصة. والله أعلم. (¬1) رواه عبد الرزاق (1203) وسنده صحيح. (¬2) ورواه ابن أبي شيبة (1/ 97) رقم 1083 وسنده صحيح، إلا أنه في منع الجنب.

أدلة القائلين بجواز قراءة الحائض القرآن.

وأبو وائل شقيق بن سلمة (¬1)، والزهري (¬2)، وإبراهيم النخعي (¬3)، والشعبي. أدلة القائلين بجواز قراءة الحائض القرآن. استدل القائلون بأنه يجوز للحائض أن تقرأ القرآن بأدلة منها الدليل الأول: أمر الله بتلاوة القرآن، وتدبره قال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬4). وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬5)، وهذا الأمر بالتدبر مطلق، فمن ادعى المنع في بعض الأحوال كلف أن يأتي بالبرهان (¬6). الدليل الثاني: لو كانت الحائض ممنوعة من قراءة القرآن لجاءت الأحاديث الصحيحة الصريحة بمنعها، كما جاءت في منعها من الصلاة والصيام، فلما كانت الأحاديث الواردة لا تقوم بها حجة علم أن الشرع لم يمنعها من ذلك، وكل شيء يحتاج إليه في الشرع، ويتكرر، وتكون حاجته عامة ليست مقصورة على ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (1/ 97) رقم: 1085 وسنده صحيح. (¬2) رواه عبد الرزاق (1302) وسنده صحيح. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (1/ 99) 1115 وسنده صحيح. (¬4) سورة (ص) آية 29. (¬5) سورة محمد آية (24). (¬6) المحلى (مسألة: 116).

الدليل الثالث

فرد معين، لا بد وأن تأتي النصوص فيه صحيحة صريحة واضحة تقوم بمثلها الحجة. قال سبحانه وتعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). الدليل الثالث: (231) استدلوا بما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نفست؟ قلت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: احتج به البخاري في صحيحه على أن الحائض لا تمنع من قراءة القرآن؛ لأنها لم تنه إلا عن الطوف، فلما أبيح لها جميع أفعال المناسك، وهي مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء إلا الطواف، دخل في ذلك قراءة القرآن، ومنع الحائض من قراءة القرآن إن كان لكونه ذكراً فلا فرق بينه وبين ما ذكر، وإن كان المنع تعبداً، ¬

_ (¬1) التوبة آية (115). (¬2) رواه البخاري (305)، ومسلم (1211).

الدليل الرابع

فيحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل (¬1). والذي يظهر لي أن الحديث ليس فيه دليل؛ لأن الطواف استثني من أفعال المناسك، فحين قال لها - صلى الله عليه وسلم -: "افعلي ما يفعل الحاج" دخل فيه جميع أفعال المناسك من الرمي، والوقوف، والسعي، والمبيت. وقوله - صلى الله عليه وسلم - "غير ألا تطوفي في البيت" فأخرج من أفعال المناسك الطواف، وبقي ما عداه. وليست قراءة القرآن من أفعال المناسك الخاصة، حتى تدخل في عموم: "افعلي ما يفعل الحاج". الدليل الرابع: إذا كان الجنب على الصحيح لا يمنع من قراءة القرآن، وهو حدث أكبر لم تمنع الحائض من باب أولى؛ لأن الجنابة من كسب العبد، ويملك رفعها، والحيض ليس من كسب المرأة، ولا تملك رفعه، وقد يطول بها، وقد تتعرض لنسيان ما حفظت، وإليك الأحاديث الدالة على جواز قراءة القرآن للجنب (232) ما رواه مسلم، قال حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، وإبراهيم ابن موسى، قالا: حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬2). ¬

_ (¬1) فتح الباري، بتصرف يسير (1/ 542). (¬2) صحيح مسلم (117).

وجه الاستدلال: قولها رضي الله عنها: "يذكر الله على كل أحيانه". قال ابن حجر: "والذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف" (¬1). فإذا كان لفظ الذكر يشمل قراءة القرآن، وكان لفظ الذكر مطلقاً في الحديث، فمن قيد الذكر بما عدا القرآن فعليه الدليل. وحاول أن يرده ابن رجب، فقال: "ليس فيه دليل على جواز قراءة القرآن للجنب؛ لأن ذكر الله إذا اطلق لا يراد به القرآن" (¬2). وهذا غير صحيح، لأن قوله: "الذكر إذا اطلق لا يراد به القرآن" هل يريد لا يراد به القرآن شرعاً أم عرفاً. فإن كان يقصد العرف فمسلم والعرف يختلف من قوم إلى قوم، ومن زمان إلى آخر، وأما في الشرع فإن القرآن كله يسمى الذكر، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬3) وقال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬4)، والآيات في هذا كثيرة، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة العرفية. ¬

_ (¬1) الفتح، في شرحه لحديث (305). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 45) (¬3) الحجر آية (9). (¬4) النحل آية (44).

الدليل الخامس

(233) ومنها ما روى ابن المنذر، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، ثنا زياد ابن أيوب، ثنا أبو عبيد، ثنا عبيد بن عبيدة من بني عباب الناجي، قال: قرأ ابن عباس شيئاً من القرآن، وهو جنب، فقيل له في ذلك، فقال: ما في جوفي أكثر من ذلك (¬1). الدليل الخامس: (234) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمد بن عمرو ابن عباد بن جبلة حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا سعيد ابن حويرث، أنه سمع ابن عباس يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه طعام فأكل ولم يمس ماء. قال وزادني عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث (¬2). ¬

_ (¬1) الأوسط (2/ 98). وإسناده حسن لولا عبيد بن عبيدة لم أقف على ترجمته، لكنه لم ينفرد به، فقد أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 98) من ثلاثة طرق عن ابن عباس، غير هذا الطريق، وذكره البخاري تعليقاً بصيغة الجزم عن ابن عباس. قال البخاري في كتاب الحيض، باب (8) تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، قال: ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً. وما دام أن البخاري علقه عن ابن عباس بصيغة الجزم فإنه صحيح أو حسن إلى من علقه عنه كما ذكره العلماء في الحكم على تعليقات البخاري. (¬2) صحيح مسلم (121 - 374). والحديث مداره على سعيد بن الحويرث، عن ابن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ عباس، ويرويه عنه اثنان: عمرو بن دينار، وابن جريج. أما رواية عمرو بن دينار، فأخرجها: الحميدي (478) وابن أبي شيبة (8/ 298)، وأحمد (1/ 122)، والدارمي (767) ومسلم (374) والترمذي في الشمائل (187) من طريق سفيان ابن عيينة، عن عمرو به. وأخرجه عبد بن حميد، كما في المنتخب (690) أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس، وفيه: "إنما أمرتم بالوضوء للصلاة، وسنده صحيح، وفيه التعبير بالحصر: بـ "إنما". وأخرجه مسلم (374) من طريق حماد، ومن طريق محمد بن مسلم الطائفي، كلاهما عن عمرو بن دينار به. وأخرجه الطيالسي (2765) حدثنا حماد بن سلمة وحماد بن زيد، عن عمرو بن دينار به. وأما طريق ابن جريج، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس. فأخرجه أحمد (1/ 228)، والنسائي في الكبرى (6736) من طريق يحيى القطان به. وأخرجه الدارمي (2077) ومسلم (374) من طريق أبي عاصم، عن بن جريج به. وقوله: وزاد عمرو علي في هذا الحديث، القائل: هو ابن جريج، فإنه سمع هذا الحديث من سعيد بن الحويرث، وسمع الزيادة من عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، فقد أخرجه أحمد (1/ 284) حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا ابن جريج، حدثني سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس، قال: تبرز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته، ثم رجع، فأتى بعرق فلم يتوضأ فأكل منه، وزاد عمرو علي في هذا الحديث، عن سعيد بن الحويرث، قال: قيل: يا رسول الله إنك لم توضأ. قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وقد جاء سماع ابن جريج، عن عمرو بن دينار، مفصولاً عن سماعه من سعيد بن الحويرث، كما في رواية الدارمي (2077) حدثنا أبو نعيم، عن سفيان عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس. قال: وسمعت أبا عاصم يحدث عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس بإسناده. فهذا صريح بسماع ابن جريج من عمرو بن دينار. والله أعلم.

دليل من فرق بين الحيض والجنابة.

وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أردت صلاة فأتوضأ" فمعناه أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة، ولا يجب الوضوء لغير الصلاة من قراءة القرآن للجنب والحائض وغيرهما. وانظر مزيد شرح للاستدلال بهذا الحديث في مسألة جواز مس المصحف. دليل من فرق بين الحيض والجنابة. قالوا: التفريق قائم من جهة الأثر والنظر. أما الآثار، فيرون أن أحاديث منع الحائض شديدة الضعف، وأحاديث منع الجنب صالحة للاحتجاج، إما بنفسها، أو بجميع طرقها .. ومن هذه الأحاديث: (235) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن عبد الله بن سليمة، عن علي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً (¬1). (236) ومنها ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق عبد الله ابن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنود، عن مالك بن عبادة الغافقي، قال: أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جنب، فأخبرت عمر بن الخطاب، فجرني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إن هذا أخبرني أنك أكلت وأنت جنب. قال: نعم إذا توضأت أكلت وشربت، ولكني ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في أدلة القول الأول.

لا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل (¬1). (237) ومنها ما رواه عبد الرزاق، قال: عن الثوري، عن أبي وائل، عن عبيدة السلماني، قال: كان عمر بن الخطاب يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. [رجاله ثقات] (¬2). (238) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا غندر، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، أن ابن مسعود كان يمشي نحو الفرات، وهو يقرئ رجلاً القرآن، فبال ابن مسعود، فكف الرجل عنه، فقال ابن مسعود: مالك؟. فقال: إنك بلت. فقال ابن مسعود: إني لست بجنب. [إسناده منقطع، إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وباقي رجاله ثقات إلا حماد بن أبي سليمان فإنه صدوق له أوهام] (¬3). (239) ومنها ما رواه الدارقطني: حدثنا محمد بن مخلد، نا العباس بن محمد الدوري (ح) وحدثنا إبراهيم بن دُبَيْس بن أحمد الحداد، نا محمد بن سليمان الواسطي، قالا: نا أبو نعيم، نا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، قال: كان ابن رواحة مضطجعاً إلى جنب امرأته، فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة، فوقع عليها، وفزعت امرأته، فلم تجده في مضجعه، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. انظر حديث رقم (227). (¬2) سبق تخريجه. انظر حديث رقم (228). (¬3) سبق تخريجه. انظر رقم (229).

فقامت وخرجت، فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت، فأخذت الشفرة، فقال: مهيم؟ فقالت: مهيم! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتيني؟ فقالت: رأيتك على الجارية. فقال: ما رأيتيني، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدنا القرآن، وهو جنب، قالت: فاقرأ، فقال: أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الفجر ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع فقالت: آمنت بالله، وكذبت البصر، ثم غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فضحك حتى رأيت نواجذه - صلى الله عليه وسلم -. [إسناد القصة ضعيف، وفيه انقطاع، والشعر ثابت لعبد الله ابن رواحة من غير هذا الطريق] (¬1). وأما من جهة النظر. قالوا: إن مدة الحيض قد تطول، فيخشى عليها النسيان، وهي غير قادرة على رفع المانع بخلاف الجنب فهي قادرة على رفعه. وأجيب: بأن أحاديث نهي الجنب ليست قوية أيضاً، وعلى التسليم بصحتها فهي مجرد فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كره ذكر الله إلا على طهارة عندما تيمم لرد السلام، فهل يقال: باشتراط الطهارة لرد السلام. ثم إن قولكم: إن الحيض قد يطول، ولا يملك الإنسان رفعه، ¬

_ (¬1) سبق الكلام انظر رقم (230).

دليل من أذن في قراءة الآية والآيتين أو ما دون الآية ومنع من قراءة المصحف.

فهذا ليس دليلاً؛ لأن القراءة إن كانت حراماً عليها فلا يبيحها لها طول أمدها، وإن كانت حلالاً فلا معنى للاحتجاج بطول المدة، وقد يندفع هذا المحذور بتذكر القرآن بالقلب، وهو غير ممنوع، وإذا أبحتم القراءة للحائض، وهي أشد حدثاً من الجنب؛ لأن الحائض تمنع مما يمنع منه الجنب وزيادة، كالوطء والصوم، إذا جاز مع ذلك القراءة للحائض، جاز للجنب من باب أولى. دليل من أذن في قراءة الآية والآيتين أو ما دون الآية ومنع من قراءة المصحف. (240) استدلوا بما جاء في حديث أبي سفيان الطويل في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل الروم، قال البخاري رحمه الله، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان بن حرب أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، وفي آخر الحديث: قال: ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به دحية إلى عظيم بصري، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ

دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1) الحديث قطعة من حديث طويل. ورواه مسلم (¬2). ورواه ابن حزم، وقال: "بعض الآية، والآية قرآن بلا شك، ولا فرق بين أن يباح له آية، أو أن يباح له أخرى، أو بين أن يمنع من آية أو يمنع من أخرى" (¬3). وقال ابن رجب: "وأما الاستدلال بحديث الكتاب إلى هرقل فلا دلالة فيه؛ لأنه إنما كتب ما تدعو الضرورة إليه للتبليغ" (¬4). وقال الحافظ ابن حجر: "وأما الجنب فيحتمل أن يقال: إذا لم يقصد التلاوة جاز، على أن في الاستدلال بذلك من هذه القصة نظراً، فإنها واقعة عين لا عموم لها، فقيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاع والإنذار كما في هذه القصة، وأما الجواز مطلقاً حيث لا ضرورة، فلا يتجه" (¬5). وقد يقال: إن الآية ذكرت لا أنها من كلام الله، ولكنها من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث إن من قرأ الخطاب، وهو لا يعرف الآية لا يدري أنها من كلام الله فهل أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاقتباس؛ لأنه معلوم أن الإنسان إذا نطق لفظاً ولم ينو به قرآناً لم يكن له حكم القرآن، كما لو قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أو قال: الحمد ¬

_ (¬1) آل عمران آية (64). (¬2) البخاري (7)، ومسلم (1773). (¬3) المحلى (مسألة: 116). (¬4) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 49). (¬5) فتح الباري (1/ 58).

لله، أو قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. الخ أو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل نزول الآية، فوافق لفظه لفظها لما نزلت. أو أنه قال ذلك امتثالاً لأمر الله، والذي يؤيد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد أن ذلك من كلامه زيادة الواو في الآية فإنها ليست من القرآن، وقد يكون للواو توجيه آخر لو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك القرآن، وليس هذا محل ذكرها. وقد اختلف العلماء في تمكين الكافر من تلاوة القرآن. قال ابن رجب: "اختلف أصحابنا في ذلك، فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من رخص فيه مطلقاً، ومنهم من جوزه إذا رجي من حال الكافر الاستهداء والاستبصار، ومنعه إذا لم يرج ذلك، والمنقول عن أحمد أنه كرهه. وقال أصحاب الشافعي: إن لم يرج له الاستهداء بالقراءة منع منها، وإن رجي له ذلك لم يمنع على أصح الوجهين" (¬1). هذه أدلة الأقوال، والراجح - والله أعلم - القول بجواز القراءة مطلقاً للحائض والجنب، وهو مذهب البخاري كما أسلفنا، واختاره ابن المنذر، وقال تعليقاً على حديث عائشة: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه" قال: "الذكر قد يكون بقراءة القرآن، وقد يكون بغيره، فكلما وقع عليه اسم ذكر الله فغير جائز أن يمنع منه أحد إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمتنع من ذكر الله على كل أحيانه، وحديث علي لا يثبت إسناده؛ لأن عبد الله بن سلمة تفرد به، وقد تكلم فيه عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة، وإنا لنعرف وننكر، فإذا كان هو ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 49).

الناقل لخبره، فجَرَحَه، بطل الاحتجاج به، ولو ثبت خبر علي لم يجب الامتناع من القراءة من أجله؛ لأنه لم ينه عن القراءة، فيكون الجنب ممنوعاً منه (¬1). ¬

_ (¬1) الأوسط (2/ 100).

المبحث الثاني: في حكم مس الحائض والمحدث المصحف

المبحث الثاني: في حكم مس الحائض والمحدث المصحف اختلف العلماء في من يريد مس المصحف هل يشترط أن يكون على طهارة من الحدث أم لا. فقيل: يحرم على المحدث مس المصحف. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1) واختيار ابن تيمية (¬2). وقيل: تستحب له الطهارة، ولا تجب. قال البيهقي: اختارها العراقيون (¬3) وهو مذهب الظاهرية (¬4)، ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 168)، تبيين الحقائق (1/ 57 - 58)، البحر الرائق (1/ 211)، بدائع الصنائع (1/ 33 - 34)، مراقي الفلاح (ص: 60). وانظر في مذهب المالكية مختصر خليل (ص: 14)، الخرشي (1/ 160)، حاشية الدسوقي (1/ 125)، الكافي (ص: 24)، مواهب الجليل (1/ 303)، منح الجليل (1/ 118, 117)، القوانين الفقهية (ص: 25)، الشرح الصغير (1/ 149)، وانظر في مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/ 36)، روضة الطالبين (1/ 79)، المجموع (2/ 77)، الحاوي الكبير (1/ 143 - 145). وانظر في مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 134)، المحرر (1/ 16)، شرح منتهى الإرادات (1/ 77)، الإنصاف (1/ 222)، المغني (1/ 202) الفروع (1/ 188) الكافي (1/ 48). (¬2) قال في مجموع الفتاوى (21/ 266): "قال الامام أحمد: لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه له، وهو أيضاً قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف". (¬3) الخلافيات للبيهقي (1/ 497). (¬4) المحلى (مسألة 116).

أدلة الجمهور على اشتراط الطهارة.

واختيار ابن المنذر (¬1). أدلة الجمهور على اشتراط الطهارة. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬2). فالآية خبر بمعنى النهي، أي لا يمس المصحف إلا المطهر: والمطهر هو المتطهر من الحدث الأصغر والأكبر، ومنه الحيض. وأجيب: بأن المراد بالمطهرون الملائكة. والضمير في قوله: "لا يمسه" يعود إلى أقرب مذكور، وهو الكتاب المكنون. وهذا قول ابن عباس (¬3). ¬

_ (¬1) الأوسط (2/ 103). (¬2) الواقعة آية (79, 78، 77). (¬3) انظر تفسير الطبري (11/ 659)، وأحكام القرآن - الجصاص (5/ 300)، تفسير ابن كثير (4/ 299)، وتفسير السيوطي (8/ 26)، وفي معنى المطهرون أقوال: فقيل: المراد بهم الملائكة، فيكون المقصود بالمطهرين: أي المطهرين من الذنوب. وقيل: المطهرون من الأحداث والأنجاس. وقيل: المطهرون من الشرك. وقيل: معنى: لا يمسه: أي لا يقرؤه إلا المطهرون: أي إلا الموحدون. وقيل: المراد: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون: أي المؤمنون بالقرآن، قاله ابن العربي، وهو اختيار البخاري، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً. وقيل: لا يعرف تفسيره إلا من طهره الله من الشرك، والنفاق. وقيل: لا يوفق للعمل به إلا السعداء.

وقال مالك (¬1): "أحسن ما سمعت في هذه الآية {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} إنما هي بمنزلة هذه الآية التي في عبس: قول الله تبارك وتعالى {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (¬2). قال ابن المنذر: قال أنس (¬3)، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية: المراد بالآية: الملائكة (¬4). وجواب ثان عن الآية: قالوا: إن ما ورد في الآية ليس أمراً، وإنما هو خبر، والله سبحانه وتعالى لا يقول إلا حقاً، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي، أو إجماع متيقن، ولما كان المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه عز وجل لم ¬

_ وقيل: لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. انظر تفسير القرطبي (17/ 226)، وزاد المسير (8/ 152)، فتح القدير (5/ 160)، تفسير أبي السعود (8/ 22). (¬1) الموطأ (1/ 199). (¬2) عبس من آية (11 - 16). (¬3) أخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن أنس رضي الله عنه: لا يمسه إلا المطهرون قال: الملائكة عليهم السلام، وانظر تفسير القرطبي (17/ 225). (¬4) الأوسط (1/ 103)، وذكرهم ابن كثير في تفسيره (4/ 299) وزاد عليهم: عكرمة، وأبو الشعثاء جابر بن يزيد، وأبو نهيك، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقتادة. اهـ. وقال السيوطي في تفسيره (8/ 26): أخرج آدم بن أبي إياس، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في المعرفة، عن مجاهد رضي الله عنه، قال: القرآن في كتابه المكنون: الذي لا يمسه شيء من تراب ولا غبار، لا يمسه إلا المطهرون، قال: الملائكة عليهم السلام اهـ.

الدليل الثاني

يعن المصحف، وإنما عنى كتاباً آخر، وهو الكتاب المكنون. والجواب الأول أقوى، لأن الخبر قد يأتي بمعنى الأمر، قال تعالى {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} (¬1) وقال سبحانه وتعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2)، بل إن النهي إذا جاء بصيغة الخبر فالمراد منه توكيد النهي، وكأنه أمر لا يمكن تخلفه، وتوكيد النهي لا يعني إلا التحريم. وقالوا أيضاً: في قوله {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} المطهرون: اسم مفعول، ولو كان يريد المتطهر لعبر باسم الفاعل، كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬3). الدليل الثاني: (241) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل، نا سعيد بن محمد بن ثواب، ثنا أبو عاصم، ثنا ابن جريج، عن سليمان بن موسى قال: سمعت سالما يحدث عن أبيه قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يمس القرآن إلا طاهر (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النور آية (3). (¬2) البقرة آية (228). (¬3) البقرة آية (222). (¬4) سنن الدارقطني (1/ 122). (¬5) ضعيف. أولاً: فيه عنعنة ابن جريج، وهو مدلس مكثر من التدليس، ويدلس عن الضعفاء وغيرهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الثاني: فيه سليمان بن موسى الأشدق. مختلف فيه. قال دحيم: ثقة. تهذيب الكمال (12/ 92). وقال الزهري: إن مكحولاً يأتينا، وسليمان بن موسى، وايم الله إن سليمان لأحفظ الرجلين. الجرح والتعديل (4/ 141). وقال ابن سعد: كان ثقة، وأثنى عليه ابن جريج. الطبقات الكبرى (7/ 457). وقال ابن عدي: فقيه راوٍ، حدث عنه الثقات من الناس، وهو أحد علماء أهل الشام. وقد روى أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره، وهو عندي ثبت صدوق. الكامل في الضعفاء (3/ 263). وقال الدارقطني في العلل: من الثقات. أثنى عليه عطاء والزهري. تهذيب التهذيب (4/ 197) وقال البخاري: عنده مناكير. الضعفاء الصغير. (ص: 53) رقم 146. ضعفاء العقيلي (2/ 140). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 140). وقال ابن المديني: مطعون عليه. ضعفاء العقيلي (2/ 140). وقال أيضاً: من كبار أصحاب مكحول، وخولط قبل موته بيسير. تهذيب التهذيب (4/ 197). وقال أبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحداً من أصحاب مكحول أفقه منه، ولا أثبت منه. الجرح والتعديل (4/ 141). وقال النسائي: أحد الفقهاء، وليس بالقوي. وقال في موضع آخر: في حديثه شيء. تهذيب التهذيب (4/ 197). وقال ابن حبان: كان فقيهاً ورعاً كانوا إذا اجتمعوا عند عطاء هو الذي كان يتولى لهم سؤال المسائل. الثقات (6/ 379). وفي التقريب: صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل. فالراجح أن سليمان بن موسى صدوق له أوهام، لا يقبل ما تفرد به. والحديث حسن إسناده ابن حجر. قال في التلخيص (1/ 228) "إسناده لا بأس به". وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 276) رواه الطبراني في الكبير والصغير، ورجاله موثوقون".

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (242) ما رواه الدارقطني، قال رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن مخلد نا جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، حدثني إسماعيل بن إبراهيم المنقري، قال: سمعت أبي، نا سويد أبو حاتم، نا مطر الوراق، عن حسان بن بلال، عن حكيم بن حزام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: لا تمس القرآن إلا وأنت على طهر (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ ثالثاً: فيه سعيد بن محمد بن ثواب. قال فيه ابن حبان: مستقيم الحديث. الثقات (8/ 272). وترجم له الخطيب البغدادي في تاريخه، وسكت عليه، ولم يذكر فيه شيئاً. تاريخ بغداد (9/ 94). [تخريج الحديث] الحديث رواه البيهقي (1/ 88) من طريق الدارقطني. ورواه الطبراني في الكبير (13217) من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى به. ورواه في الصغير (2/ 139) بالإسناد نفسه، وقال: لم يروه عن سليمان بن موسى إلا ابن جريج، ولا عنه إلا أبو عاصم، تفرد به سعيد بن محمد. (¬1) سنن الدارقطني (1/ 122). (¬2) فيه مطر الوراق. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. ثقات ابن حبان (5/ 435). وقال أيضاً: كان رديء الحفظ على صلاح فيه. مشاهير علماء الأمصار (699). وقال أبو حاتم: صالح الحديث، هو أحب إلي من عقبة الأصم، وسليمان بن موسى الأشدق، وكان أكبر أصحاب قتادة سناً. وسئل أبو زرعة عن مطر، فقال: صالح. كأنه لين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أمره. الجرح والتعديل (8/ 287). وقال العجلي: بصري صدوق. وقال مرة: لا بأس به. قيل له: تابعي؟ قال: لا. ثقات العجلي (2/ 281). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (567). وكان يحيى بن سعيد يشبه حديث مطر الوراق بابن أبي ليلى في سوء الحفظ. وقال أبو داود: ليس هو عندي حجة، ولا يقطع به في حديث إذا اختلف. تهذيب التهذيب (10/ 152). وقال ابن سعد: كان فيه ضعف في الحديث. الطبقات الكبرى (7/ 254). وقال ابن عدي: هو مع ضعفه يجمع حديثه، ويكتب. الكامل - ابن عدي (6/ 396). وقال شعبة: مطر الوراق، هؤلاء لا يحسنون يحدثون. ثقات ابن حبان (5/ 435). وفي التقريب: صدوق، كثير الخطأ. والراوي عنه سويد أبو حاتم. قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين له. (261)، الكامل - ابن عدي (3/ 421). وقال الدارقطني: لين يعتبر به. تهذيب التهذيب (4/ 237). وقال أبو رزعة: ليس بالقوي، يشبه حديثه حديث أهل الصدق. الجرح والتعديل (4/ 237). وقال ابن حجر: صدوق سيء الحفظ، له أغلاط، وقد أفحش ابن حبان القول فيه. وضعفه الحافظ في التلخيص (1/ 227). وقال النووي: المعروف في كتب الحديث والفقه أنه عن عمرو بن حزم". وقال ابن حجر في التلخيص، ثم إن محيي الدين في الخلاصة ضعف حديث حكيم بن حزام، وعمرو بن حزم، جميعاً، فهذا يدل على أنه وقف على حديث حكيم بعد ذلك. والله أعلم" اهـ. قلت: كلام النووي لا يدل على أنه لم يقف عليه، والله أعلم؛ لأن قوله: "والمعروف في كتب الحديث أنه عن عمرو بن حزم" يقابل المعروف المنكر، فهو يرى أن جعله من مسند حكيم ابن حزام قد يكون وهماً من الراوي؛ لأنه تفرد به مطر الوراق، وهو كثير الخطأ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ والراوي عنه سويد بن إبراهيم الجحدري، وهو سيء الحفظ. ولا يعرف عن حكيم بن حزام إلا بهذا الإسناد، وحزام، وحزم متقاربان، فقد يكون جَعْله من مسند حكيم بن حزام من قبيل الوهم، وهو لا ينافي قول النووي: حديث حكيم بن حزام ضعيف، لأن الحديث النكر من أنواعه. ويحتمل أن يكون كلام الحافظ له وجه؛ لأن النووي ذكر كتب الفقه، فقال: "والمعروف في كتب الحديث والفقه" ومعلوم أن كتب الفقه ليست تعتمد في غالبها على الأسانيد، حتى يكون المعروف في مقابل المنكر. بل لا تعزو الأحاديث إلى مصادرها، ورب حديث في الصحيحين تجد بعض الكتب الفقهية تعزوه إلى الأثرم أو إلى الخلال من المصادر النكرة غير المشهورة. والله المستعان. وقال ابن عدي بعد ما ساق جملة من الأحاديث لسويد، قال: ولسويد غير ما ذكرت من الحديث، عن قتادة وعن غيره، بعضها مستقيمة، وبعضها لا يتابعه أحد عليها، وإنما يخلط عن قتادة، ويأتي بأحاديث عنه لا يأتي بها أحد غيره، وهو إلى الضعف أقرب. الكامل (3/ 421). وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. المجروحين (1/ 350). وقال الحافظ ابن حجر: لين. لسان الميزان (7/ 240). وقال أبو بكر البزار في مسنده: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (4/ 237). وقال ابن معين: أرجو أن لا يكون به بأس. الجرح والتعديل (4/ 237). وفيه أيضاً: إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، صاحب القوهي. روى له ابن ماجه حديثاً واحداً في كتمان العلم. قال العقيلي عن هذا الحديث: ليس لحديثه أصل مسند، إنما هو موقوف، من حديث ابن عون. الضعفاء للعقيلي (1/ 74). وقال الذهبي في الميزان: الصواب موقوف. الميزان (1/ 214). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (8/ 94). ونقل هذا الكلام الحافظ ابن حجر في التهذيب (1/ 245). وفي التقريب: لين الحديث. تخريج الحديث: أخرجه الحاكم (3/ 485) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (1/ 510) نا أحمد بن سليمان الفقيه، ببغداد، ثنا جعفر بن أبي عثمان الطيالسي به.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (243) ما رواه الطبراني في الكبير، قال رحمه الله: حدثنا أحمد ابن عمرو الخلال المكي، ثنا يعقوب بن حميد، ثنا هشام بن سليمان، عن إسماعيل بن رافع، عن محمد بن سعيد بن عبد الملك، عن المغيرة بن شعبة، قال: قال عثمان بن أبي العاص - وكان شاباً (¬1) - وفدنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدني أفضلهم أخذاً للقرآن، وقد فضلتهم بسورة البقرة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أمرتك على أصحابك، وأنت أصغرهم، فإذا أممت قوما فأمهم بأضعفهم؛ فإن ورائك الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة، وإذا كنت مصدقا فلا تأخذ الشافع: وهي الماخض، ولا الربى، ولا فحل الغنم، وحزرة الرجل هو أحق بها منك، ولا تمس القرآن إلا وأنت طاهر. وأعلم أن العمرة هي الحج الأصغر، وأن عمرة خير من الدنيا وما فيها وحجة خير من عمرة (¬2). ¬

_ وأخرجه الطبراني في الكبير (3135) والأوسط (3305)، ومجمع البحرين (432) ثنا بكر بن أحمد بن مقبل البصري، ثنا إسماعيل بن إبراهيم صاحب القوصي، قال: سمعت أبي يقول: ثنا سويد أبو حاتم به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.!! وقال الحازمي: "حسن غريب". خلاصة البدر المنير (1/ 57) رقم 170. قال ابن عبد الهاد: رواه أبو القاسم اللالكائي بإسناده، وفيه نظر. تنقيح التحقيق (1/ 415). وقال ابن حجر: في إسناده أبو حاتم، وهو ضعيف، وذكر الطبراني في الأوسط أنه تفرد به. تلخيص الحبير (1/ 227) رقم 175. (¬1) في المطبوع (ساباً)، ولعلها شاباً. (¬2) الطبراني في الكبير (8336).

[إسناده ضعيف] (¬1). ¬

_ (¬1) فيه هشام بن سليمان المكي. قال أبو حاتم فيه: مضطرب الحديث، ومحله الصدق، ما أرى به بأساً. الجرح والتعديل (9/ 62). وقال العقيلي: في حديثه عن غير ابن جريج وهم. ضعفاء العقيلي (4/ 338)، تهذيب التهذيب (11/ 38). وفي التقريب: مقبول، يعني: إن توبع، وإلا فلين الحديث. وفي الإسناد: إسماعيل بن رافع. قال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (32). وقال في موضع آخر: ضعيف. وفي موضع: ليس بثقة. وكذا قال الدارقطني، وعلي بن الجنيد. تهذيب التهذيب (2/ 258). وقال عمرو بن علي: منكر الحديث، في حديثه ضعف، لم أسمع يحيى ولا عبد الرحمن حدثنا عنه بشيء قط. وقال أحمد: ضعيف منكر الحديث. وضعفه يحيى بن معين. تهذيب الكمال (3/ 85). وقال الذهبي في الكاشف: ضعيف. (372). وقال الترمذي: ضعفه بعض أصحاب الحديث، وقال: سمعت محمداً - يعني البخاري - يقول: هو ثقة، مقارب الحديث. سنن الترمذي (4/ 189) رقم 1666. وقال البزار: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (1/ 258). وقال أبو داود: ليس بشيء، سمع من الزهري، فذهبت كتبه، فكان إذا رأى كتاباً، قال: هذا قد سمعته. تهذيب التهذيب (1/ 258). وفي الإسناد أيضاً: محمد بن سعيد بن عبد الملك. قال الذهبي: تابعي، صغير، أرسل لا يدرى من هو. الميزان (3/ 564). وقال ابن حبان: يروي المقاطيع عن أهل المدينة. الثقات (6/ 423). وقال أبو حاتم الرازي: لا أعرفه. الجرح والتعديل (7/ 264). واختلف على إسماعيل بن رافع.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (244) ما رواه علي بن عبد العزيز في منتخبه، قال رحمه الله: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: حدثنا مسعدة البصري، عن خصيب بن جحدر، عن النضر بن شفي، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يمس القرآن إلا طاهر، العمرة الحج الأصغر، وعمرة خير من الدنيا وما فيها، وحجة أفضل من عمرة. [ضعيف جداً] (¬1). قال ابن القطان: "وهو إسناد في غاية الضعف، ولم أجد للنضر ابن شفي ذكراً في شيء من مظان وجوده. وهو مجهول جداً (¬2). وأما الخصيب بن جحدر، فقد رماه ابن معين بالكذب، واتقى أحمد بن حنبل حديثه، وإنما كان يروي ثلاثة عشر أو أربعة عشر حديثاً. وقال أبو حاتم: له أحاديث مناكير. ¬

_ فرواه الطبراني، عنه عن محمد بن سعيد بن عبد الملك، عن المغيرة، عن عثمان بن أبي العاص. ورواه ابن أبي داود في المصاحف (ص: 185) عن إسماعيل بن رافع، عن القاسم ابن أبي أبزه، عن عثمان بن أبي العاص. قال الحافظ في التلخيص (1/ 228): "وفي إسناد ابن أبي داود انقطاع، وفي رواية الطبراني: من لا يعرف". اهـ قلت: ومداره على إسماعيل بن رافع، وقد علمت ما فيه. (¬1) بيان الوهم والإيهام (3/ 465). (¬2) في المطبوع: فهو جد مجهول، والتصويب إن كان صحيحاً، فهو من نصب الراية للزيلعي (1/ 199).

الدليل السادس

وأما مسعدة البصري: فهو ابن اليسع، خرق أحمد بن حنبل أحاديثه، وتركه. وقال أبو حاتم: إنه يكذب على جعفر بن محمد" اهـ (¬1). فهو إسناد مظلم. الدليل السادس: حديث عمرو بن حزم، وهو حديث طويل، من كتاب كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل اليمن، وسنذكره بطوله لنرى ما توبع فيه مما انفرد به. (245) قال ابن حبان رحمه الله: أخبرنا الحسن بن سفيان وأبو يعلى وحامد ابن محمد بن شعيب في آخرين، قالوا: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، فقرئت على أهل اليمن، وهذه نسختها: من محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شرحبيل بن عبد كلال، والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قَيْلِ (¬2) ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد، فقد رجع رسولكم، وأعطيتم الغنائم خمس الله، وما كتب الله على المؤمنين من العشر في العقار، وما سقت السماء أو كان سيحا أو بعلاً ففيه العشر إذ بلغ خمسة أوسق، وما سقي بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة ¬

_ (¬1) بيان الوهم والايهام (3/ 466). (¬2) لقب الملك من ملوك حمير.

أوسق. وفي كل خمس من الإبل سائمة شاة إلى أن تبلغ أربعاً وعشرين فإذا زادت واحدةً على أربع وعشرين ففيها ابنة مخاض، فإن لم توجد بنت مخاض، فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ خمساً وثلاثين، فإذا زادت على خمس وثلاثين ففيها ابنة لبون إلى أن تبلغ خمساً وأربعين، فإذا زادت على خمس وأربعين ففيها حقة طروقة إلى أن تبلغ ستين، فإن زادت على ستين واحدة ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمسة وسبعين، فإن زادت على خمس وسبعين واحدة ففيها ابنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين فإن زادت على تسعين واحدة ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى أن تبلغ عشرين ومئة، فما زاد ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل. وفي كل ثلاثين باقورة بقر وفي كل أربعين شاة سائمة إلى أن تبلغ عشرين ومئة فإن زادت على عشرين ومئة واحدة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مئتين فإن زادت واحدة فثلاثة شياه إلى أن تبلغ ثلاثة مائة فما زاد ففي كل مائة شاة شاة، ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا عجفاء ولا ذات عوار ولا تيس الغنم، ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خيفة الصدقة، وما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. وفي كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهم وليس فيها دون خمس أواق شيء. وفي كل أربعين ديناراً دينار، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته وإنما هي الزكاة تزكى بها أنفسهم في فقراء المؤمنين، أو في سبيل الله، وليس في رقيق ولا مزرعة ولا عمالها شيء إذا كانت تؤدي صدقتها من العشر وليس في عبد المسلم ولا فرسه شيء وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير الحق،

والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم وإن العمرة الحج الأصغر. ولا يمس القرآن إلا طاهر، ولا طلاق قبل إملاك، ولا عتق حتى يبتاع ولا يصلين أحدكم في ثوب واحد ليس على منكبه منه شيء، ولا يحتبين في ثوب واحد ليس بينه وبين السماء شيء، ولا يصلين أحدكم في ثوب واحد وشقه باد، ولا يصلين أحدكم عاقصاً شعره، وإن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فهو قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار لفظ الخبر لحامد بن محمد بن شعيب. قال أبو حاتم: سليمان بن داود هذا هو سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون وسليمان بن داود اليمامي لا شيء وجميعهما يرويان عن الزهري. [إسناده ضعيف جداً، والصحيح أنه مرسل] (¬1). ¬

_ (¬1) والحديث أخرجه النسائي (4853) أخبرنا عمرو بن منصور، قال: حدثنا الحكم ابن موسى به. وإنما قدمت لفظ ابن حبان مع أن النسائي أعلى منه؛ لأن ابن حبان أورد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الحديث بتمامه. وأخرجه أبو داود في المراسيل (259) حدثنا الحكم به مختصراً. وأخرجه الدارمي (1621) أخبرنا الحكم بن موسى، ثنا يحيى بن حمزة به، وذكر منه ما يتعلق بالزكاة خاصة. وأخرجه الدارقطني (1/ 122) من طريق محمد بن يحيى وإبراهيم بن هانئ، قالا: نا الحكم ابن موسى به. وأخرجه الحاكم (1/ 395 - 397) ومن طريقه البيهقي (1/ 87) ثنا أبو نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، ثنا صالح بن عبد الله بن محمد بن حبيب الحافظ، ثنا الحكم بن موسى به. وأخرجه الحاكم (1/ 395) ومن طريقه البيهقي (8/ 73) حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد العبدي، حدثنا الحكم بن موسى به. وأخرجه البيهقي أيضاً في السنن الكبرى (4/ 89) وفي الخلافيات (1/ 501) من طريق أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، حدثنا الحكم بن موسى به. وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 275) من طريق الحسن بن سفيان، وأحمد بن الحسين الصوفي، وأبو يعلى، وحامد بن محمد بن شعيب، ومحمَّد بن عبد الله بن عبد العزيز كلهم، عن الحكم بن موسى به. وقال ابن عبد الهاد في التنقيح (1/ 410): "رواه أبو القاسم الطبراني، عن محمد بن عبد الله الحضرمي، عن الحكم. ولم أقف عليه في المعجم الكبير، والأوسط، وقد عزاه السيوطي في الجامع الكبير (2/ 579) للطبراني في المعجم الكبير، ورواه المزي في تهذيب الكمال (11/ 419) من طريق أبي القاسم الطبراني، قال: حدثنا الحكم بن موسى به وساقه بطوله. وقد اختلف على يحيى بن حمزة، فرواه الحكم بن موسى، عنه، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده. خالفه محمد بن بكار بن بلال، فرواه عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، قال: حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم به. فالحكم يقول: سليمان بن داود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وبكار يقول: سليمان بن أرقم. وسليمان بن داود: صدوق وسليمان بن أرقم: متروك. فأيهما أرجح؟ فبعضهم صحح أن يكون الحديث عنهما جميعاً، إلا أنهم اختلفوا في سليمان بن داود، فبعضهم يقول: خولاني، وبعضهم يقول: سليمان بن أبي داود، وبعضهم يوثقه، وبعضهم يضعفه. وممن ضعفه يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل. قال ابن معين في رواية ابن طهمان عنه برقم (41 - 42 - 43) وسليمان بن داود الشامي، روى عن الزهري حديث عمرو بن حزم، ليس هو بشيء.، وسليمان بن داود اليمامي، ليس هو بشيء، ولم يتابع سليمان بن داود في حديث عمرو بن حزم أحد، وليس في الصدقات حديث له إسناد". وقال أيضاً: سليمان بن داود ليس يعرف، ولا يصح هذا الحديث. الكامل (3/ 274). وقال يحيى أيضاً كما في رواية عثمان بن سعيد: سليمان بن داود ليس بشيء. الجرح والتعديل (4/ 110)، الكامل (3/ 274). وقال البخاري عن سليمان بن داود: فيه نظر. وهذا جرح شديد عنده التاريخ الكبير (4/ 10). وقال أبو زرعة الدمشقي: عرضت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل حديث يحيى بن حمزة في الديات، فقال: هذا رجل من أهل الجزيرة، يقال له: سليمان بن أبي داود، ليس بشيء. الكامل - ابن عدي (3/ 275). وقال ابن عدي: رجل مجهول. المرجع السابق. وقال محمد بن يحيى: رواه سليمان بن داود بطوله - يعني حديث الصدقات - وهو مجهول. الضعفاء للعقيلي (2/ 127). وقال ابن خزيمة: لا يحتج به. تهذيب التهذيب (4/ 165). وضعفه الزيلعي في نصب الراية (3/ 342). وبعضهم حسن حديث سليمان بن داود. قال عثمان بن سعيد: "أرجو أنه ليس كما قال يحيى بن معين، وقد روى عنه يحيى بن حمزة أحاديث حساناً كلها مستقيمة، وهو دمشقي خولاني". التاريخ (ص: 123 - 124)، الكامل (3/ 275). وقال ابن حبان: ثقة. الثقات (6/ 387).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال أبو حاتم: لا بأس به، يقال: إنه سليمان بن أرقم. والله أعلم. وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال مرة ضعيف. تهذيب التهذيب (4/ 165). وقال الحافظ في التقريب: صدوق. وبعضهم رجح أن سليمان بن داود، وسليمان بن أرقم واحد. قال أبو حاتم: قد كان يحيى بن حمزة قدم العراق فيرون أن الأرقم نعت، وأن الاسم داود، ومنهم من يقول: سليمان بن داود الدمشقي، شيخ ليحيى بن حمزة، وما أظن أنه هو". الميزان (2/ 202). والذي يترجح لي أن الحديث حديث سليمان بن أرقم، وأن الحكم بن موسى أخطأ عندما قال: سليمان بن داود. وإليك الأدلة. قال الحافظ ابن مندة: رأيت في كتاب يحيى بن حمزة بخطه عن سليمان بن أرقم عن الزهري، هو الصواب. وقال صالح جزرة: حدثنا دحيم، قال: نظرت في أصل كتاب يحيى حديث عمرو بن حزم في الصدقات فإذا هو عن سليمان بن أرقم فكتب عني مسلم". الميزان (2/ 201) وفيه فكتبت هذا الكلام عن مسلم، وهو خطأ. انظر تلخيص الحبير (4/ 35). وقال أبو زرعة الدمشقي في تاريخ دمشق (1/ 455) حدثت أنه وجد في كتاب يحيى ابن حمزة، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، ولكن الحكم بن موسى لم يضبطه. اهـ وفي تحفة الأشراف (8/ 147): "نسبه إلى أبي داود في المراسيل، فقال: وعن هارون ابن محمد بن بكار بن بلال، عن أبيه، وعمه، كلاهما، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده. وعن ابن هبيرة، قال: قرأت في أصل يحيى بن حمزة، حدثني سليمان بن أرقم بإسناده نحوه. وعن الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمرة، عن سليمان بن داود، عن الزهري نحوه. قال أبو داود: هذا وَهْم من الحكم: يعني قوله: ابن داود اهـ وانظر تهذيب التهذيب (4/ 165). وقال أبو داود أيضاً: "لا أحدث به، وقد وهم الحكم بن موسى في قوله: سليمان بن داود وقد حدثني محمد بن الوليد الدمشقي أنه قرأه في أصل يحيى بن حمزة: سليمان بن أرقم. تلخيص الحبير (4/ 35).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال أبو داود أيضاً: والذي قال: سليمان بن داود وهم فيه. المراسيل (ص: 213). وقال النسائي بعد أن خرج في المجتبى رواية الحكم بن موسى، قال: خالفه - يعني الحكم ابن موسى - خالفه محمد بن بكار بن بلال، أخبرنا الهيثم بن مروان بن الهيثم بن عمران العنسي، ثنا محمد بن بكار بن بلال، ثنا يحيى، ثنا سليمان بن أرقم، ثني الزهري به، وساق الحديث، ثم قال: وهذا أشبه بالصواب وقال أبو الحسن الهروي: الحديث في أصل يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم غلط عليه الحكم. الميزان (2/ 201). وقال الذهبي: ترجح أن الحكم بن موسى وَهَمَ، ولا بد. فهذا أبو الحسن الهروي، وصالح جزرة، ودحيم، والحافظ ابن مندة، وأبو الحسن الهروي، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو داود والذهبي، وابن حجر، كما في التهذيب (4/ 165). كلهم يرون أن الحكم بن موسى أخطأ بذكر سليمان بن داود، وإنما هو سليمان بن أرقم كما هو في كتاب يحيى ابن حمزة. قال الحافظ ابن حجر: أما سليمان بن داود الخولاني فلا ريب في أنه صدوق، لكن الشبهة دخلت على حديث الصدقات من جهة أن الحكم بن موسى غلط في اسم والد سليمان، فقال: سليمان بن داود، وإنما هو سليمان بن أرقم. وقال الزيلعي: "وقال بعض الحفاظ من المتأخرين ونسخة كتاب عمرو بن حزم تلقاها الأئمة الأربعة بالقبول، وهي متوارثة كنسخة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهي دائرة على سليمان بن أرقم، وسليمان بن داود الخولاني، عن الزهري، عن أبي بكر، عن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، وكلاهما ضعيف. بل المرجح في روايتهما سليمان بن أرقم، وهو متروك". نصب الراية (3/ 342). فهذه النقول تقطع الشك باليقين أن الحكم أخطأ بقوله: ابن داود. وإذا كان الحديث عن سليمان بن أرقم فهو ضعيف جداً، وعلى التسليم بأن ذكر سليمان بن داود محفوظ في الحديث، فقد خولف في الزهري، فقد رواه يونس بن يزيد عن الزهري. فقد أخرجه النسائي (4855)، قال: أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حدثنا بن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب، قال: قرأت كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نجران وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا بيان من الله ورسوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وكتب الآيات منها حتى بلغ {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. ثم كتب هذا كتاب الجراح في النفس مائة من الإبل نحوه. ويونس بن يزيد من رجال الجماعة، ومن أصحاب الزهري، وقد توبع في الزهري بخلاف سليمان بن داود، فقد أخرجه النسائي (4856)، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الواحد، قال: حدثنا مروان بن محمد، قال: حدثنا سعيد - وهو ابن عبد العزيز - عن الزهري، قال: جاءني أبو بكر بن حزم بكتاب في رقعة من أدم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا بيان من الله ورسوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فتلا منها آيات، ثم قال: في النفس مائة من الإبل، وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة فريضة، وفي الأصابع عشر عشر، وفي الأسنان خمس خمس وفي الموضحة خمس. فتبين من هذا أن المعروف في كتاب ابن حزم أنه مرسل، والمسند إنما هو من طريق سليمان بن أرقم، وهو متروك. والمرسل، تارة عن الزهري. كما تقدم. وتارة: عن أبي بكر بن محمد، بن عمرو بن حزم وتارة: عن محمد بن عمرو بن حزم. وتارة: عن عبد الله بن أبي بكر. وكلهم من التابعين. وأما ما كان من مرسل عبد الله بن أبي بكر، فهو في الموطأ (1/ 199) عن عبد لله بن أبي بكر بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: أن لا يمس القرآن إلا طاهر. وأخرجه عبد الرزاق (4/ 4) رقم 6793 من طريق معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لهم كتاباً .. وأخرجه الشافعي في مسنده (ص: 347) أخبرنا مسلم بن خالد، عن عبد الله بن أبي بكر، في الديات، في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم في النفس مائة من الإبل. فقلت: لعبد الله بن أبي بكر: في شك أنتم من أنه كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: لا. وأما مرسل أبي بكر والد عبد الله، فأخرجه مالك (1/ 849) عن عبد الله بن أبي بكر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم في العقول .. وذكر ما يتعلق بالديات. ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في مسنده (ص: 347)، والنسائي (4857) والبيهقي (8/ 82، 73). وأخرجه الدارقطني (1/ 121) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، قال: كان في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم ألا تمس القرآن إلا على طهر. قال الدارقطني: مرسل، رواته ثقات. وأخرجه الدارقطني (1/ 121) من طريق ابن إدريس، نا محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، قال: كان في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه إلى نجران مثله سواء. وأخرجه الدارقطني (1/ 121) من طريق عبد الرزاق، نا معمر، عن عبد الله ومحمَّد ابني أبي بكر بن حزم، عن أبيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاباً فيه: "لا يمس القرآن إلا طاهر". وأما مرسل محمد بن عمرو بن حزم، فأخرجه عبد الرزاق، مختصراً (17358) عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده. قال ابن حجر: وجده، هو محمد بن عمرو ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه لم يسمع منه. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الدارمي (1622) وابن الجارود في المنتقى (784) وابن خزيمة (4/ 19)، والدارقطني (3/ 210). وكونه يرسل تارة عن عبد الله بن أبي بكر، وتارة عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. وتارة عن محمد بن عمرو بن حزم فهذا والله أعلم لا يضر؛ لأن الكتاب كان عندهم، وكل منهم قد حكى ما فيه. فالراجح من حديث عمرو بن حزم أنه مرسل. وأما المسند منه فإنه من طريق سليمان ابن أرقم، وهو متروك. وقد اختلف على الحكم بن موسى فيه، فقيل، عن الحكم، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده كما تقدم. ورواه الدارقطني في السنن (3/ 209) من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، نا الحكم ابن موسى، نا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ حزم، عن أبيه، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاباً له إذ وجهه إلى اليمن، فذكر بعض أحكام الديات. وهذا إسناد ضعيف، لأن إسماعيل بن عياش صدوق في أهل بلده، ضعيف في غيرهم كما بينا في ترجمته. وأخرجه البيهقي في الخلافيات (1/ 500) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أبي، عن عبد الله ومحمَّد ابني أبي بكر، يخبرانه، عن أبيهما، عن جدهما، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن: هذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه لعمرو ابن حزم حين أمره على اليمن؛ كتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها: أن لا يمس القرآن إلا طاهر. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 395) من طريق إسماعيل بن أبي أويس به، مختصراً، بلفظ: فإذا بلغ قيمة الذهب مائتي درهم، ففي كل أربعين درهماً درهماً. اهـ ولم يذكر لفظ البيهقي. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وهو دليل على الكتاب المشروح المفسر. قلت: أبو أويس ليس على شرط مسلم، وإنما أخرج له مسلم في المتابعات. قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 198): أبو أويس صدوق أخرج له مسلم في المتابعات، وقد روي هذا الحديث من طرق أخرى مرسلة. فيه أبو أويس: اسمه عبد الله بن عبد الله بن أويس. ذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/ 270). وقال يحيى بن معين: أبو أويس ضعيف، وفليح ضعيف، ما أقربهما. كما في رواية عثمان بن سعيد. المرجع السابق. وضعفه أيضاً في رواية عثمان بن أبي شيبة، وإبراهيم بن عبد الله بن الجنيد. تاريخ بغداد (10/ 5). وقال في رواية ابن أبي خيثمة: أبو أويس صالح، ولكن حديثه ليس بذاك الجائز، وسمعت يحيى بن معين مرة يقول: أبو أويس ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال في رواية الدوري عنه: ثقة. وقال في موضع آخر: أبو أويس صدوق، وليس بحجة. المرجع السابق. وقال في رواية معاوية بن صالح الدمشقي: أبو أويس ليس بثقة. الجرح والتعديل

وما ورد مسنداً لا تقوم به حجة؛ لأنه إما من رواية متروك أو مجهول أو ضعيف، وأما المرسل فإسناده صحيح، ولكن المرسل من قسم الضعيف. وبعضهم احتج به لا من جهة الإسناد، ولكن من جهة تلقي العلماء له بالقبول، قال ابن حجر: "صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة، لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة. فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم، معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة. وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ إلا أنا نرى أنه كتاب غير مسموع ممن فوق الزهري. ¬

_ (5/ 92). وقال أحمد: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (5/ 245). وقال النسائي: مدني، ليس بالقوي. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في المجروحين، وقال: كان ممن يخطئ كثيراً، لم يفحش خطؤه حتى استحق الترك، ولا هو ممن سلك سنن الثقات فيسلك مسلكهم، والذي أرى في أمره تنكب ما خالف الثقات من أخباره، والاحتجاج بما وافق الأثبات منها، وكان يحيى بن معين يوثقه مرة، ويضعفه أخرى. المجروحين (2/ 24). وقال أبو حاتم الرازي: أبو أويس يكتب حديثه ولا يحتج به، وليس بالقوي. الجرح والتعديل (5/ 92). وفي التقريب: صدوق يهم.

وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا؛ فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. قال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري لهذا الكتاب بالصحة، ثم ساق ذلك بسنده إليهما" اهـ (¬1). وقال ابن تيمية: "قال أحمد لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه له" (¬2). مناقشة هذا الكلام: أولاً: مناقشة دعوى تلقي الناس له بالقبول، كما نقله الحافظ عن ابن عبد البر. المقصود بالناس: هم العلماء، فهي حكاية عن الإجماع. وهل هي حكاية للإجماع بما ورد فيه من أحكام، أو الإجماع على صحة الكتاب وثبوته، ولا يلزم منه الإجماع على دلالته؛ لأنه قد يصح الدليل، وينازع في الاستدلال، كلاهما محتمل، وإن كان الراجح أن المقصود الإجماع على صحة الكتاب، ودعوى أن الكتاب متلقى بالقبول يدخلها ما يدخلها. أولاً: إثبات هذا التلقي؛ فإن كثيراً من الفقهاء قد يدّعون في أحاديث أنها متلقاة في القبول، وعند التمحيص لا تثبت هذه الدعوى، ولم أر البخاري ومسلماً قد خرجا في صحيحيهما أحاديث اعتماداً على تلقي الناس لها بالقبول، وإنما المعتمد هو الإسناد، وقد ضعف هذا المرسل داود الظاهري، وابن حزم، ¬

_ (¬1) تلخيص الحبير (4/ 36). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 266).

وابن المنذر، وخلافهم معتبر، وهو يبطل دعوى الإجماع؛ لأنهم من جملة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، هذا إن كانت دعوى الإجماع على صحة الكتاب، وإن كانت دعوى الإجماع على ما ورد فيه من أحكام؛ فإن الخلاف في مس المصحف محفوظ من لدن التابعين إن لم يكن من لدن الصحابة. ثانياً: عبارة ابن عبد البر في التمهيد تختلف عن العبارة التي نقلها الحافظ، فقد قال ابن عبد البر: "والدليل على صحة كتاب عمرو بن حزم تلقي جمهور العلماء له بالقبول .... " إلخ (¬1) وفرق بين قوله: "تلقي الناس له بالقبول"، وبين قوله: "تلقي جمهور العلماء ... " فإن اللفظ الثاني يثبت أن التلقي ليس من كافة العلماء، وإنما هو من جمهورهم. ثالثاً: على فرض أن دعوى التلقي بالقبول مسلم؛ فإن مسألة مس المصحف مستثناة. أرأيت الصحيحين قد تلقاهما الناس بالقبول، ومع ذلك لا يدخل في هذا التلقي ما تكلم فيه الأئمة كالدارقطني وغيره. فإذا كنا نستثني الأحاديث التي تكلم فيها العلماء من هذا التلقي، استثنينا أيضاً مس المصحف من ثبوت التلقي لثبوت النزاع فيها؛ إذا لا يمكن إثبات الإجماع وضده في آن واحد، فإن قال قائل: لا يمكن أن نحتج بهذا المرسل في الدماء والأموال، ثم لا يحتج به في هذه المسألة، التي هي أهون بكثير من انتهاك ¬

_ (¬1) التمهيد، كما في فتح البر (3/ 557).

مال المسلم أو دمه، بل قد انعقد الإجماع على استحباب الطهارة لمس المصحف. فالجواب: أن ما يتعلق بالأموال والدماء ليس الاعتماد على هذا المرسل، بل الاعتماد على أحاديث أخرى ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

_ (¬1) ففي الصدقات كل ما ورد في رسالة عمرو بن حزم، قد جاء مسنداً من حديث أبى بكر عند البخاري (1454) وأحمد (1/ 11 - 12) وأبو داود (1567) والنسائي (5/ 18) ومسند أبي يعلى (127). ومن مسند عمر في مسند أبي يعلى (125) إلا أنه عن نافع، أنه قرأ كتاب عمر، فهو وجادة، ورجاله ثقات. وحديث ابن عمر عند أبي داود (1568) والترمذي (621) الدارمي (1620)، والحاكم (1/ 392) والبيهقي (4/ 88) من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم، ابن عمر. وهو صالح في الشواهد. وحديث ابن مسعود، عند أحمد (1/ 411) والترمذي (622) وابن ماجة (1804). وحديث معاذ بن جبل، عند أحمد (5/ 230، 233، 240) وعبد الرزاق (6841) وأبي داود (1576، 1577، 1578) والترمذي (623) والنسائي (5/ 26) وابن ماجه (1803) والدارمي (1624)، والبيهقي (4/ 98)، والحاكم (1/ 398)، وابن خزيمة (4/ 19). هذا فيما يتعلق بالصدقات. وأما نفي الزكاة في العبد والفرس، فهو في البخاري (1463)، ومسلم (982) من حديث أبي هريرة. وكون الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة (1072) من حديث طويل. ويشهد للسبع الموبقات، وأكبر الكبائر حديث أبي هريرة عند البخاري (2766) ومسلم (89). وأما قوله: لا طلاق قبل إملاك، ولا عتق حتى يبتاع، فقد جاء من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده. عند أبي داود، في الطلاق (2190) والترمذي (1181) وابن ماجه (2047) وأما قوله: "لا يصلين أحدكم في ثوب واحد، وشقه باد"

واستشكل الاستدلال به من حيث المعنى. قالوا: إن اطلاق اسم النجس ¬

_ فقد جاء من حديث أبي هريرة عند البخاري (359) ومسلم (1876). ويشهد للعقص في الصلاة حديث ابن عباس في مسلم (492) وحديث أبي رافع، عند عبد الرزاق (2/ 184، 183) ح 2991، 2990. وأبي داود (646) والترمذي (384) وابن ماجه (1042) والبيهقي (2/ 109) وابن خزيمة (911). وبالنسبة للدماء، فيشهد له حديث عبد الله بن عمرو، عند أحمد (166, 164)، وأبي داود (4548، 4547) والنسائي (8/ 40) والدارقطني (3/ 104) والبيهقي (8/ 68) وابن ماجه (2627). وحديث ابن عمر عند عبد الرزاق (9/ 281) 17212، وأحمد (2/ 36) وأبي داود (4549) والدارقطني (3/ 105)، والبيهقي (8/ 68) والحديثان في دية قتل شبه العمد. وحديث أبي موسى الأشعري في دية الأصابع عند أحمد (4/ 403، 404، 314) وأبي داود (4557, 4556) والنسائي (8/ 56) والدارمي (2369)، وابن حبان كما في الموارد (1527)، وأبي يعلى (7334، 7335) وفيهما حديث عمر عند البزار (261) عن عمر رفعه: في الأنف إذا استوعب جدعه الدية، وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي الجائفة ثلث، وفي المنقله خمس عشرة، وفي الموضحة خمس، وفي السن خمس، وفي كل إصبع مما هناك عشر عشر، وإسناده فيه ضعف. ومنها حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه تقويم الدية على أهل الدنانير والدراهم، والبقر والشاه. وفيه ذكر عقل الأنف والعين والرجل واليد، والمأمومة والجائفة، والمنقلة، والواضحة، والأسنان. والحديث عند أحمد (2/ 317، 224، 182، 186, 183، 185)، وعند أبي داود (4564)، والنسائي (4801) وابن ماجه (2630) وتبين أن المسلمين لم يحكموا في دمائهم مرسل عمرو بن حزم، وليست هذه كل الأحاديث، وبعضها يشهد لبعض، لكن يبقى النظر: هل مجموع هذه الأحاديث التي وردت في مس المصحف يرقى مجموعها إلى الاحتجاج، أو أنها ضعيفة لا تصلح للحجة، هذه مسألة فيها خلاف بعد القطع بأن آحادها لا تقوم به حجة، ولعله يترجح للقارئ أى أحد القولين بعد الإطلاع على أدلة القول الثاني.

على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر لا يصح حقيقة ولا مجازاً, فالمؤمن طاهر دائماً، سواء كان جنباً أو حائضاً أو على بدنه نجاسة، أم لا. فقوله: "لا يمس القرآن إلا طاهر" يحتمل أن المعنى: لا يمس القرآن إلا مؤمن. يؤيده كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه إلى نجران، وفيها مشركون، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}. (246) وروى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عياش، قال: حدثنا عبد الأعلى، حدثنا حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت ثم جئت، وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له، فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس. ورواه مسلم (¬1). (247) وروى مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال قرأت على مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. ويحتمل أنه طاهر من الحدث الأكبر. ويحتمل أنه طاهر من الحدث الأصغر. ويحتمل أنه طاهر من النجاسة الحسية، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل الاستدلال. وهذا الكلام يشكل عليه أن القرآن والسنة كانت تخاطب جماعة الصحابة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (285) ومسلم (371).

بوصف الإيمان والإسلام {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...}. {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ ...} {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ...}. {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} ولم يخاطب القرآن جماعة الصحابة بصفة الطاهرين، فلم يقل: يا أيها الطاهرون .. فيبقى الطاهر، لكل هو من الحدث أو من النجاسة. أنها من تطهر من الحدث، وعلى بدنه نجاسة فإنه لا يمنع من مس المصحف، إذا كانت النجاسة لا تتعدى. لا أعلم في المسألة خلافاً، فخرجت طهارة الخبث، وبقيت طهارة الحدث، ونحن نقول بشمولها للحدثين الأصغر والأكبر. ثم لا مانع من حمل المشترك على جميع أفراده، وعدم إخراج واحد منها إلا بدليل. والله أعلم. (248) وقد قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما. ورواه مسلم (¬1). فوصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدميه بعد الوضوء بأنها طاهرة: أي من الحدث. وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} إلى قوله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬2). فسمى الله الاغتسال من الجنابة طهارة، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - هو القائل: إن المؤمن لا ¬

_ (¬1) البخاري (206) ومسلم (274). (¬2) سورة المائدة آية (6).

الدليل السادس

ينجس. (249) روى مسلم رحمه الله، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري - واللفظ لسعيد - قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك ابن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول وكنت على البصرة (¬1). والطهور: اسم لما يتطهر به، فالخلاصة أن حديث عمرو بن حزم الراجح فيه أنه مرسل. الدليل السادس: (250) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمّد بن عبد الله بن غيلان، نا الحسن بن الجنيد، وحدثنا أحمد بن محمّد بن إسماعيل الآدمي، نا محمّد بن عبيد الله المنادي، قالا: نا إسحاق الأزرق، نا القاسم بن عثمان البصري، عن أنس بن مالك، قال: خرج عمر متقلداً السيف، فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا، فأتاهما عمر، وعندهما رجل من المهاجرين، يقال له خباب، وكانوا يقرؤون طه، فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم أقرأه، وكان عمر يقرأ الكتاب، فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فقام عمر فتوضأ، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (224).

ثم أخذ الكتاب، فقرأ طه. قال الدارقطني: القاسم بن عثمان ليس بقوي (¬1). ¬

_ (¬1) القاسم بن عثمان. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. الثقات (5/ 307). وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (7/ 114). قال البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها. لسان الميزان (4/ 463)، تنقيح التحقيق (1/ 417). وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: حدث عنه إسحاق الأزرق أحاديث لا يتابع منها على شيء. ضعفاء العقيلي (3/ 480). قال الدارقطني: ليس بقوي، كما في متن الباب. ونقل كلامه ابن عبد الهاد، وأقره، ولم يتعقبه. التنقيح (1/ 417, 416). تخريج الأثر: أخرجها عمر بن شبة في تاريخ المدينة (2/ 657) وابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 267)، وأبو يعلى الموصلي كما في التنقيح (1/ 416)، والحاكم في المستدرك (4/ 65) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 88) من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق به. ولها شواهد ضعيفة، منها: ما رواه البزار في مسنده (1/ 400) ح 279 حدثنا الحسن بن الصباح، ومحمد بن رزق الله، قالا: نا إسحاق بن إبراهيم، عن أسامة بن زيد، عن أبيه، عن جده، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتحبون أن أعلمكم أول إسلامي، قال: قلنا: نعم. فذكر قصة إسلامه بطولها، وفيه: فقلت: ما هذه الصحيفة ها هنا؟ فقالت لي: دعنا عنك يا ابن الخطاب فإنك لا تغتسل من الجنابة، ولا تتطهر، وهذا لا يمسه إلا المطهرون، فما زلت بها حتى أعطتني إياها ... وذكر بقية القصة. وأخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/ 285) وأبو نعيم في الحلية (1/ 41) والحاكم في المستدرك (4/ 66) والبيهقي في الدلائل (2/ 216) من طرق عن إسحاق بن إبراهيم الحنيني، ثنا إسامة بن زيد به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وهذا إسناد ضعيف، فيه إبرهيم الحنيني: قال البخاري: في حديثه نظر. التاريخ الكبير (1/ 379). وقال النسائي: ليس بثقة. الضعفاء والمتروكين (44). وقال ابن عدي: الحنيني مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (1/ 341). وقال أبو زرعة: صالح. الجرح والتعديل (2/ 208). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/ 97). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطئ. الثقات (115). كما أن في الاسناد: أسامة بن زيد بن أسلم. قال علي بن المديني: هو ثقة، وأثنى عليه خيراً. التاريخ الكبير (2/ 23). وقال أيضاً: ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة، كما في رواية أبي زيد القلوسي. تهذيب التهذيب (1/ 181). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (52). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس بحجة. الطبقات الكبرى (5/ 413). وقال ابن حبان: كان يهم في الأخبار، ويخطئ في الآثار، حتى كان يرفع الموقوف، ويوصل المقطوع، ويسند المرسل. المجروحين (1/ 179). وقال ابن عدي: وبنو زيد بن أسلم على أن القول فيهم أنهم ضعفاء أنهم يكتب حديثهم، ولكل واحد منهم من الأخبار غير ما ذكرت، ويقرب بعضهم من بعض في باب الروايات. قال الشيخ: ولم أجد لأسامة بن زيد حديثاً منكراً جداً لا إسناداً ولا متناً، وأرجو أنه صالح. الكامل (1/ 395). وقال أحمد: منكر الحديث، ضعيف. الجرح والتعديل (2/ 285). وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، كما في رواية الدوري. المرجع السابق. وقال أيضاً: ضعيف، كما في رواية ابن أبي خيثمة. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/ 21). وقال إبراهيم بن عبد الله السعدي الجرزجاني: أسامة وعبد الله وعبد الرحمن - يعني أبناء زيد بن أسلم - ضعفاء في الحديث من غير خربة في دينهم، ولا زيغ عن الحق في بدعة ذكرت عنهم. تهذيب الكمال (2/ 334). الشاهد الثاني:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ رواه الطبراني (2/ 97) من طريق إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن ربيعة، ثنا أبو الأشعث، عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب، وقد ضرب أخته في أول الليل وهي تقرأ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتى أظن أنه قتلها، ثم قام من السحر فسمع صوتها تقرأ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فقال: والله ما هذا بشعر، ولا همهمة، ثم ذكر ذهابه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإسلامه. وهذا القصة فيها اختلاف في متنها وإسنادها ضعيف جداً فيها: يزيد بن ربيعة: قال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، منكر الحديث، واهي الحديث، وفي روايته عن أبي الأشعث، عن ثوبان تخليط كثير. الجرح والتعديل (9/ 261). قال أبو مسهر: كان قديماً غير متهم ما ينكر عليه أنه أدرك أبا الأشعث، ولكني أخشى عليه سوء الحفظ والوهم. الكامل (7/ 259). وقال ابن عدي: لا أعرف له شيخاً منكراً قد جاوز الحد فأذكره، وأرجو أنه لا بأس به. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان شيخاً صدوقاً إلا أنه اختلط في آخر عمره، فكان يروي أشياء مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، وفيما وافق الثقات فهو معتبر به لقدم صدقه قبل اختلاطه من غير أن يحتج به ... الخ كلامه المجروحين (3/ 104). وقال البخاري: حديثه مناكير. التاريخ الكبير (8/ 332). وقال النسائي: متروك الحديث شامي. الضعفاء والمتروكين (643). وقال في التمييز: ليس بثقة. لسان الميزان (6/ 286). وقال الدارقطني: دمشقي متروك. المرجع السابق. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالمتين عندهم. المرجع السابق. الشاهد الثالث: ما أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 40) من طريق إسحاق بن عبد الله، عن أبان بن صالح عن مجاهد، عن ابن عباس به. وهذا الإسناد ضعيف جداً، فيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة. قال البخاري: تركوه. التاريخ الكبير (1/ 396)، الضعفاء الصغير (20).

الدليل السابع

وهذا الأثر مع كونه موقوفاً، يشكل عليه أن الكافر لا تصح منه العبادة، ولو توضأ وقت كفره أو اغتسل لم تصح منه الطهارة حال كفره، وقولها: إنك رجس: أي نجس، ومعلوم أن الكافر نجاسته معنوية، وليست حسية، وهو رجس بكفره. الدليل السابع: (251) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمّد بن مخلد، نا الصغاني، ثنا شجاع بن الوليد، ثنا الأعمش (ح). وثنا محمّد بن مخلد، نا إبراهيم الحربيّ، نا ابن نمير، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: ¬

_ وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء المتروكين (50). قال له الزهري لما سمعه يرسل الأحاديث: قاتلك الله يابن أبي فروة، ما أجرأك على الله، ألا تسند أحاديثك، تحدث بأحاديث ليس لها خطم، ولا أزمة. تهذيب التهذيب (1/ 210). وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، وكان أحمد ينهى عن حديثه. المجروحين (1/ 131). وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، لا يكتب حديثه. الكامل (1/ 326). وقال ابن عدي: ما ذكرت ها هنا من أخباره بالأسانيد التي ذكرت فلا يتابعه أحد على أسانيده، ولا على متونه، وسائر أحاديثه مما لم أذكر تشبه هذه الأخبار التي ذكرتها، وهو بين الأمر في الضعفاء، على أن الليث بن سعد قد روى عنه نسخة طويلة. المرجع السابق. الشاهد الرابع: ذكر قصة إسلام عمر بن الخطاب ابن إسحاق صاحب السيرة انظر سيرة ابن هشام (1/ 270) ورواها البيهقي في الخلافيات من طريق ابن إسحاق (1/ 517).

كنا معه في سفر، فانطلق فقضى حاجته، ثم جاء، فقلت: أي أبا عبد الله توضأ لعلنا نسألك عن آي من القرآن، فقال: سلوني فإني لا أمسه؛ إنه لا يمسه إلا المطهرون، فسألناه فقرأ علينا قبل أن يتوضأ. قال الدارقطني: المعنى قريب كلها صحاح (¬1). ¬

_ (¬1) الدارقطني (1/ 124). ورواه البيهقي (1/ 90) من طريق سعيد بن منصور، عن أبى معاوية، عن الأعمش به. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 98) والدارقطني (1/ 124) من طريق وكيع، ورواه الدارقطني (1/ 124) من طريق شجاع بن الوليد، كلاهما عن الأعمش به ورواه الدارقطني (1/ 124) من طريق عبد الله بن عمر ثنا ابن فضيل، عن الأعمش به. واختلف على الأعمش. فرواه من سبق، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن ابن يزيد، عن سلمان. ورواه الدارقطني (123) من طريق أبي الأحوص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن سلمان. قال الدارقطني: كلهم ثقات، وخالفه جماعة. ورواه عبد الرزاق (1325) عن يحيى بن العلاء، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: أتينا سلمان الفارسي، فخرج علينا من كنيف له. فقال: لو توضأت يا أبا عبد الله، ثم قرأت علينا سورة كذا وكذا. فقال: إنما قال الله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إلا الْمُطَهَّرُونَ} وهو الذكر الذي في السماء الذي لا يمسه إلا الملائكة، ثم قرأ علينا من القرآن ما شئنا. والراجح رواية وكيع وأبي معاوية، عن الأعمش، ومن وافقهما؛ لأن أبا معاوية من أوثق الناس في الأعمش، وقد تابعه وكيع. ولم يذكر أحد أبا علقمة في الإسناد إلا أبا الأحوص، ولم يتابعه إلا يحيى بن العلاء، وهو متهم بالوضع. قال أحمد: كذاب يضع الحديث. تهذيب التهذيب (11/ 229)، الكشف الحثيث (840). وقال وكيع: كان يكذب، حدث في خلع النعلين عشرين حديثاً. تهذيب الكمال

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (252) روى مالك في الموطأ، قال: عن إسماعيل بن محمّد بن سعد بن أبي وقاص، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، أنه قال: كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص، فاحتككت. فقال: لعلك مسست ذكرك. قال: فقلت: نعم. فقال: قم فتوضأ، فقمت فتوضأت ثم رجعت (¬1). [إسناده صحيح]. ومع صحة إسناده إلا أنه ليس صريحاً في وجوب الوضوء؛ لأن الوضوء لا نزاع في كونه مشروعاً لمس المصحف، ولكن النزاع هل يجب أو لا يجب. والصحابة من أحرص الناس على الخير، وأكملهم في طلبه، ولا غرابة أن يطلب من ابنه الطهارة لقراءة القرآن ومسه، وهذا الأثر قد وقع فيه خلاف على سعد من جهتين: من جهة الوضوء لمس المصحف. ومن جهة الوضوء لمس الذكر (¬2). ¬

_ (31/ 484). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (627). وقال يحيى بن معين: ليس بثقة. ضعفاء العقيلي (4/ 437). ثم إن يحيى بن العلاء زيادة توهم أن سلمان لا يرى بأساً. بمس المصحف؛ حيث قال: إنما قال الله: لا يمسه إلا المطهرون، وهو الذكر الذي في السماء، فمفهومه أنه لا مانع من مسه، وهي تخالف رواية الجماعة. والله أعلم. (¬1) الموطأ (2/ 42). (¬2) فقد اختلف على إسماعيل بن محمّد، فرواه مالك، عن إسماعيل بن محمّد، بالوضوء

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ من مس الذكر، من أجل مس المصحف. ورواه الطحاوي (1/ 77) من طريق عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمّد به. بلفظ: كنت آخذ عن أبي المصحف، فاحتككت، فأصبت فرجي، فقال: أصبت فرجك؟ قلت: نعم. قلت: احتككت. فقال: اغمس يدك في التراب، ولم يأمرني أن أتوضأ. ورواه الطحاوي (1/ 77) من طريق عبد الله بن رجاء، حدثنا زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الزبير بن عدي، عن مصعب بن سعد. مثله، غير أنه قال: قم، فاغسل يدك. ورواية مالك أرجح. أولاً: لإمامته وحفظه. وثانياً: لأنه قد تابعه على ذلك الحكم، فقد أخرجه الطحاوي (1/ 76) من طريق شعبة، قال: أنبأني الحكم، قال: سمعت مصعب بن سعد، وذكر نحو حديثه. وثالثاً: قد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 150) عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الزبير بن عدي، عن مصعب. وفيه: "فقال له توضأ". رابعاً: عبد الله بن جعفر، لا يقارن بمالك، وعبد الله بن رجاء، لا يقارن بوكيع، أما عبد الله بن جعفر. فقد قال أحمد فيه: ليس به بأس، كما في رواية ولده صالح عنه. تهذيب الكمال (14/ 372). وقال مرة: ثقة. كما في رواية أبي طالب عنه. الجرح والتعديل (5/ 22). وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وقال يحيى بن معين: ليس به بأس، صدوق، وليس بثبت. تهذيب التهذيب (5/ 150) الجرح والتعديل (5/ 22). وقال أيضاً: صدوق. لسان الميزان (6/ 815). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (5/ 150). وقال الذهبي: صدوق، مفتٍ. الكاشف (2666). وفي التقريب: ليس به بأس. ووثقه الترمذي، والحاكم. وقال البخاري: صدوق ثقة. تهذيب التهذيب (5/ 150). وقال العجلي: ثقة. (2/ 24). فالأكثر على أنه صدوق. فمثل هذا لا يمكن أن يقدم على مالك.

أدلة القائلين بجواز مس المصحف بدون طهارة.

هذا ما أمكنني جمعه من أدلة القول الأول. والله أعلم. أدلة القائلين بجواز مس المصحف بدون طهارة. الدليل الأول: عدم الدليل المقتضي لوجوب الطهارة، والأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل صحيح على وجوب الطهارة لمس المصحف. والأدلة التي احتج بها من منع لا يصح منها شيء، لأنه إما حديث مرسل، وقد ناقشت الاستدلال به، ودعوى أنه متلقى بالإجماع، وإما حديث ضعيف جداً، أو ضعيف فقط، وإما موقوف على صحابي قد يكون خالفه غيره، وغاية ما يدل عليه بعضها مشروعية الطهارة لمس المصحف، وهي ليست محل خلاف، وأما الاستدلال بالقرآن في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إلا الْمُطَهَّرُونَ} فقد رجحت أن المراد بهم الملائكة، كما قاله جمع ¬

_ كما أن عبد الله بن رجاء فقال عنه الحافظ في التقريب: صدوق يهم. فأين هذا من وكيع. وأما الاختلاف على سعد في الوضوء من مس الذكر، فإنه محفوظ. فقد رواه عبد الرزاق (434) عن ابن عيينة. ورواه الطحاوي (1/ 77) من طريق زائدة، ورواه أيضاً من طريق هشيم، كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن سعد بعدم الوضوء من مس الذكر. وقد صرح هشيم بالتحديث. وقال ابن عبد البر في التمهيد، كما في فتح البر (3/ 340، 338) اختلف فيه على سعد بن أبي وقاص، فروى عنه أن لا وضوء على من مس ذكره. هذه رواية أهل الكوفة عنه. ذكره عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم عنه. وروى عنه أهل المدينة إيجاب الوضوء منه، من رواية مالك، عن إسماعيل بن محمّد بن سعد، عن مصعب بن سعد، عنه. وقد تكلمت عليها فيما سبق.

الدليل الثاني

من السلف. الدليل الثاني: الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاماً، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا علم أنه ليس من دينه، فلو كانت الطهارة واجبة لمس المصحف لجاءت الأدلة الصحيحة على بيانه؛ لأن هذا الأمر يحتاجه غالب المسلمين، ولا يستغني عنه أحد منهم؛ لأن حاجة المسلمين إلى قراءة كتاب الله، وتدبره، والعمل به، كحاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس، فإن في قراءة القرآن حياة أرواحهم، كما أن في الطعام قوام أبدانهم، فلماذا لم يأت دليل صحيح يقطع النزاع في هذه المسألة المهمة. أتكون أذكار دخول المنزل، والخروج منه، وركوب الدابة، وأذكار السفر، وغيرها من الأذكار المستحبة تأتي فيها الأدلة صحيحة صريحة، وتكون الأدلة في مس المصحف لقراءة القرآن أشرف الكلام: كلام الله سبحانه وتعالى، وحجته على خلقه، والهادي إلى سبيل السلام، والأمة مضطرة لمسه وتعلمه، مع كل هذه الحاجة تأتي الأدلة على وجوب الطهارة له إما مرسل، أو حديث ضعيف، فهذا يدل على أن المسألة لا يثبت فيها نهي أصلاً. الدليل الثالث: (253) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمّد بن عمرو بن عباد بن جبلة حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا سعيد ابن حويرث، أنه سمع ابن عباس يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه

الدليل الرابع

طعام فأكل ولم يمس ماء. قال وزادني عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث (¬1). ورواه عبد بن حميد كما في المنتخب، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس. وفيه: "إنما أمرتم بالوضوء للصلاة". وسنده صحيح، وفيه التعبير بالحصر بـ (إنما). وقد استدل به ابن تيمية على عدم وجوب الطهارة للطواف، وغفل أن يستدل به أيضاً على عدم وجوب الطهارة لمس المصحف، وقد ذكرت كلامه في بحث اشتراط الطهارة للطواف، فانظره غير مأمور. الدليل الرابع: القياس على قراءة القرآن، فإذا كانت قراءة القرآن من دون مس جائزة بالإجماع، فكذلك مسه من باب أولى؛ لأننا قد تُعِبدنا بقراءة القرآن، ولم نتعبد بمجرد مسه بدون قراءة، والأدلة على جواز قراءة القرآن من غير طهارة كثيرة. أولاً: الإجماع. قال النووي في المجموع: "أجمع المسلمون على جواز قراءة القرآن للمحدث، والأفضل أن يتطهر لها. قال إمام الحرمين والغزالي في البسيط: ولا نقول: قراءة المحدث مكروهة، ¬

_ (¬1) انظر الكلام عليه في المسألة التي قبل هذه.

الدليل الخامس

فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ مع الحدث" (¬1). ثانياً: (254) روى مسلم رحمه الله، قال: حدثنا أبو كريب محمّد بن العلاء وإبراهيم بن موسى، قالا: حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬2). فقولها: "يذكر الله" مطلق يشمل قراءة القرآن، ويشمل غيره من الأذكار، وتسمية (ذكر الله بقراءة القرآن) تلاوة اصطلاح حادث، وإلا فالذكر يشمل هذا وهذا، بل إن أولى الذكر وأشرفه ما كان قراءة لكتابه. الدليل الخامس: إذا كان مس المصحف بالعصا جائز، أو من وراء حائل، فمسه باليد مثله أو أولى؛ لأن يد المسلم طاهرة. (255) لما رواه مسلم، قال رحمه الله تعالى: حدثني زهير بن حرب وأبو كامل ومحمد بن حاتم، كلهم عن يحيى بن سعيد، قال زهير: حدثنا يحيى، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فقال: يا عائشة ناوليني ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 82). (¬2) رواه مسلم (373).

الدليل السادس

الثوب، فقالت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك، فناولته (¬1) فإذا كانت الحيضة ليست في اليد، كانت اليد طاهرة. الدليل السادس: (256). استدلوا بما جاء في حديث أبي سفيان الطويل في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل الروم، قال البخاري رحمه الله، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان بن حرب أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، وفي آخر الحديث: قال: ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬2). الحديث قطعة ¬

_ (¬1) رواه مسلم (299). (¬2) آل عمران آية (64).

الدليل السابع

من حديث طويل. ورواه مسلم (¬1). قال ابن حزم: "فإن قالوا: إنما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل آية واحدة، ولم يمنع - صلى الله عليه وسلم - من غيرها، وأنتم أهل قياس، فإن لم تقيسوا على هذه الآية ما هو أكثر منها، فلا تقيسوا على هذه الآية غيرها" اهـ (¬2). وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعث بهذه الآية القرآنية الكاملة إلى الكفار، وهم يجمعون بين نجاستي الشرك والنجاسة الحسية والحدث دليل على عدم اشتراط الطهارة لمس المصحف. وعندي أن هذا الاستدلال لا يسلم من النزاع. قال الحافظ في الفتح: وقد أجيب ممن منع ذلك - وهم الجمهور - بأن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتب الفقه أو التفسير، فإنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة في مصلحة التبليغ، وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز في القليل، كآية وآيتين. قال النووي: لا بأس أن يعلم النصراني الحرف من القرآن عسى الله أن يهدي به (¬3). الدليل السابع: إذا كان يجوز عند أكثر المانعين، إن لم يكن كلهم جواز مس الصبي اللوح ¬

_ (¬1) البخاري (7)، ومسلم (1773). (¬2) المحلى (مسألة: 116). (¬3) فتح الباري (1/ 537) ح 305.

الدليل الثامن

المكتوب فيه القرآن، فالبالغ أولى؛ لأن الصبي قد لا يحافظ على طهارة يده كما يحافظ عليها البالغ المكلف. الدليل الثامن: ذكر ابن الجوزي في تفسيره، والشوكاني في النيل، وفي فتح القدير (¬1)، والقرطبي في تفسيره (¬2). عن ابن عباس أنه يرى جواز مس المصحف للمحدث حدثاً أصغر، وذكر معه جماعة من التابعين كالشعبي وغيره، فإذا ثبت هذا عن ابن عباس، لم يصح دعوى إجماع الصحابة على ذلك. والله أعلم (¬3). الدليل التاسع: أكثر المسلمين لا يحفظون القرآن، وإذا منعناهم من مس المصحف إلا على طهارة فإن طائفة كبيرة قد تحجم عن قراءته إما عجزاً في تحصيل الطهارة أو قد لا يكون الماء في المتناول وإن لم يكن معدوماً، وما دامت الأدلة ليست بالقوية، وهي معارضة لأدلة أخرى، وحرصاً على تيسير قراءة القرآن لعموم المسلمين في كل الأوقات، فإن النفس قد يكون فيها حرج في إيجاب مثل هذا. نعم الطهارة عبادة عظيمة، وهي تكفر السيئات، وهي عبادة مقصودة لذاتها، كما أنها مشروعة بالإجماع لذكر الله، بل حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يرد السلام إلا على طهارة، ولكن مع ذلك، فإن الجزم بالإيجاب أمر ليس بالسهل، ويخشى ¬

_ (¬1) فتح القدير (5/ 160). (¬2) تفسير القرطبي (17/ 226). (¬3) ولم أقف على إسناده عن ابن عباس لأنظر فيه. والله أعلم.

الإنسان أن يكون قد ضيق أمراً فيه سعة، ولا نقول إلا اللهم يا مفهم سليمان فهمنا، ويا معلم داود علمنا، اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه. وبعد تحرير هذا البحث، كانت هناك مذاكرة مع بعض المشايخ، تبين لي فيها طريق آخر لمرسل عمرو بن حزم يتقوى به مرسل عمرو بن حزم، (257) فقد روى عبد الرزاق في المصنف، عن معمر، عن عبد الله ابن عبد الرحمن الأنصاري، عن ابن المسيب، قال: قضى عمر بن الخطاب في الأصابع بقضاء، ثم أخبر بكتاب كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لآل حزم في كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل، فأخذ به وترك أمره الأول (¬1). [رجاله ثقات إن ثبت سماع ابن المسيب له من عمر، وعلى تقدير أنه منقطع، فمرسلات ابن المسيب من أصح المراسيل، والله أعلم] (¬2). ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (17706). (¬2) اختلف في سماع سعيد من عمر، قال عبد الله بن وهب: سمعت مالكاً، وسئل عن سعيد بن المسيب، قيل: أدرك عمر؟ قال: لا، ولكنه ولد في زمان عمر، فلما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره حتى كأنه رآه. قال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره. تهذيب الكمال (11/ 74). وقال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: سعيد بن المسيب قد رأى عمر، وكان صغيراً. قلت ليحيى: يقول: ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر؟ قال يحيى: ابن ثمان سنين يحفظ شيئاً. المرجع السابق. وقال إسحاق بن منصور: قلت ليحيى بن معين: يصح لسعيد بن المسيب سماع من

إلا أن هذا الحديث لم يحل المشكلة، فهو يثبت صحة كتاب عمرو بن حزم بالجملة، ولا يثبت ما ورد فيه من ألفاظ ولو جاءت من طرق شديدة الضعف، فتأمل، والله أعلم. ¬

_ عمر؟ قال: لا. المراسيل - ابن أبي حاتم (ص: 71). وقال أبو حاتم الرزاي: سعيد بن المسيب عن عمر مرسل، يدخل في المسند على المجاز. وقال أيضاً: لا يصح سماع لسعيد بن المسيب عن عمر إلا رؤيته على المنبر ينعي النعمان ابن مقرن. المرجع السابق.

الفصل الثاني: في أحكام الحائض من حيث الصلاة

الفصل الثاني: في أحكام الحائض من حيث الصلاة المبحث الأول: حرمة الصلاة على الحائض وعدم استحباب القضاء يحرم على الحائض فعل الصلاة ولا يستحب لها أن تقضي، هذا قول العلماء من السلف والخلف (¬1). وخالف في ذلك بعض الخوارج، فقالوا بوجوب القضاء على الحائض (¬2). أدلة من قال: لا تصلي الحائض ولا تقضي. أما الأدلة على كونها لا تصلي فكثيرة. منها الإجماع .. حكاه كثير من أهل العلم. قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم على إسقاط فرض الصلاة عن الحائض في أيام حيضها" (¬3). وقال ابن عبد البر تعليقا على حديث: فإذا أقبلت الحيضة فاتركي ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 32)، تبيين الحقائق (1/ 56). مقدمات ابن رشد (1/ 96)، بداية المجتهد مع الهداية (2/ 59)، وقال: "اتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء: أحدها: فعل الصلاة ووجوبها ... وذكر الباقي. وانظر الوسيط - الغزالي (1/ 420)، المجموع (2/ 367)، الإقناع (1/ 1/ 63)، الكافي - ابن قدامة (1/ 72). (¬2) بداية المجتهد مع الهداية (2/ 60)، البحر الرائق (1/ 204). (¬3) الأوسط (2/ 202).

الصلاة .. قال: "وهذا نص صحيح في أن الحائض تترك الصلاة ليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب أثبت من جهة نقل الآحاد العدول والأمة مجمعة على ذلك" ثم قال: "وما أجمع المسلمون عليه فهو الحق، والخير القاطع للعذر. وقال الله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬1). والمؤمنون هنا: الإجماع، لأن الخلاف لا يكون معه اتباع غير سبيل المؤمنين، لأن بعض المؤمنين مؤمنون، وقد اتبع المتبع سبيلهم، وهذا واضح يغني عن القول فيه" (¬2). وقال النووي: "أجمعت الأمة على أنه يحرم عليها الصلاة فرضها ونفلها، وأجمعوا على أنه يسقط عنها فرض الصلاة، فلا تقضي إذا طهرت. قال أبو جعفر بن جرير في كتابه اختلاف الفقهاء: أجمعوا على أن عليها اجتناب كل الصلوات وأنها إن صلت أو صامت، أو طافت لم يجزها ذلك عن فرض أو نفل كان عليها" (¬3). وقال النووي في شرح مسلم: "أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا تجب عليها الصلاة ولا الصوم في الحال" (¬4). ونقل الإجماع القرطبي في المفهم شرح مسلم (¬5). ¬

_ (¬1) النساء: آية: 115. (¬2) التمهيد كما في فتح البر (3/ 515، 514). (¬3) المجموع شرح المهذب (2/ 384، 383) (¬4) شرح مسلم (1/ 637). (¬5) المفهم (1/ 270)

(258) ومن السنة ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي سريعة، قال: أخبرنا محمّد بن جعفر، أخبرنا زيد هو ابن أسلم، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى - أو فطر - إلى المصلى فمر على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن، فإني أريتكم أكثر أهل النار" فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلن: بلى، قال: "فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" قلن: بلى، قال: "فذلك من نقصان دينها". وأخرجه مسلم (¬1). (259) وأخرج مسلم أيضاً، قال رحمه الله: حدثنا محمّد بن رمح بن المهاجر المصري، أخبرنا الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن. قلت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان ¬

_ (¬1) صحيح البخارى (304). ومسلم (80).

وأما الأدلة على كون الحائض لا تقضي الصلاة.

العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين (¬1). (260) وروى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمّد، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬2). وأخرجه مسلم، دون قوله، قال أبي: ثم توضئي لكل صلاة .. إلخ (¬3). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة"، فإنه نص صريح لوجوب ترك الصلاة زمن الحيض. وأما الأدلة على كون الحائض لا تقضي الصلاة. (261) ما أخرجه البخاري:، قال رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، قال: حدثتني معاذة، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (79). (¬2) صحيح البخاري (225). (¬3) صحيح مسلم (333).

أن امرأة قالت لعائشة: أتجزئ إحدانا صلاتها إذا طهرت. فقالت: أحرورية أنت؟ كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله (¬1). قولها: فلا يأمرنا به. قال ابن حجر في الفتح: "عدم الأمر بالقضاء هنا قد ينازع في الاستدلال على عدم الوجوب لاحتمال الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء، والله أعلم" (¬2). لكن قال ابن رجب: "نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كن يحضن في زمانه فلا يقضين الصلاة إذا طهرن فإنما يكون ذلك بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وأمره به. فإن مثل هذا لا يخفى عليه، ولو كان القضاء واجباً عليهن لم يهمل ذلك، وهو لا يغفل عن مثله لشدة اهتمامه بأمر الصلاة" (¬3). (262) قلت: ورواه مسلم (¬4) من طريق معمر عن عاصم عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. ¬

_ (¬1) صحيح البخارى (321). (¬2) فتح الباري (1/ 561) ح 321. (¬3) شرح ابن رجب للبخارى (2/ 133). (¬4) (69 - 335)

وقال ابن رجب (¬1): وقد حكى غير واحد من الأئمة إجماع العلماء على أن الحائض لا تقضي الصلاة، وأنهم لم يختلفوا في ذلك، منهم الزهري، والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر وغيرهم. اهـ. (263) وروى عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: قلت له: أتقضي الحائض الصلاة؟ قال: لا، ذلك بدعة. [إسناده صحيح] (¬2). (264) وروى عبد الرزاق، قال: عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة قال: سئل أتقضي الحائض الصلاة؟ قال: لا، ذلك بدعة. [رجاله ثقات] (¬3). وقال الترمذي في السنن: وقد روي عن عائشة من غير وجه، أن الحائض لا تقضي الصلاة، وهو قول عامة الفقهاء، لا اختلاف بينهم، في أن الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة (¬4). وقال ابن حزم: ولا تقضي الحائض إذا طهرت شيئاً من الصلاة التي مرت في أيام حيضها، وتقضي صوم الأيام التي مرت بها في أيام حيضها، وهذا نص ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 131) (¬2) المصنف (1275). (¬3) المصنف (1276) (¬4) سنن الترمذي (1/ 235).

دليل من ذهب إلى وجوب قضاء الصلاة من الخوارج.

مجمع لا يختلف فيه أحد (¬1). دليل من ذهب إلى وجوب قضاء الصلاة من الخوارج. وبالرغم من أن هذا الخلاف شاذ، ولا يعتد به، إلا أني ما سقت دليلهم إلا لبيان باطلهم، من ردهم السنة الصحيحة، وتحكيم العقل في أمور الشرع. قال ابن حجر: من أصولهم المتفق عليها بينهم - يعني الخوارج - الأخذ بها دل عليه القرآن، ورد ما زاد عليه من الحديث مطلقاً (¬2). وخاب وخسر من رد السنة بالقرآن، وقد نزل القرآن باتباع السنة: قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3). وقال سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬4). وكيف يصلي الإنسان؟ وكيف يؤدي زكاته؟ لولا أن بيان ذلك جاء في السنة. فليس في كتاب الله إلا الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. (265) وأما ما روى أبو داود، قال رحمه الله: حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا محمّد بن حاتم - يعني حبي - حدثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس بن نافع، عن كثير بن زياد، قال: حدثتني الأزدية - يعني: مسة - قالت: حججت فدخلت على أم سلمة، فقلت: يا أم المؤمنين إن سمرة بن جندب يأمر النساء ¬

_ (¬1) المحلى، مسألة (257). (¬2) فتح الباري (1/ 560) ح 321. (¬3) الحشر آية: (7). (¬4) النساء آية (80).

يقضين صلاة المحيض. فقالت: لا يقضين، كانت المرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لقضاء صلاة النفاس (¬1). [ضعيف] (¬2). قال ابن رجب في شرحه للبخاري: في سنن أبي داود بإسناد فيه لين أن سمرة بن جندب كان يأمر النساء بقضاء صلاة الحيض (¬3). وإذا كان الإسناد ضعيفاً فلا يثبت هذا إن شاء الله عن سمرة، ولو ثبت فليس لأحد حجة بعد كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حجر تعليقاً على قول البخاري (¬4): لا تقضي الحائض الصلاة. قال الحافظ: "نقل ابن المنذر، وغيره إجماع العلماء على ذلك، وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري عنه، فقال: اجتمع الناس عليه، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبونه، وعن سمرة بن جندب أنه كان يأمر به فأنكرت عليه أم سلمة، لكن استقر الإجماع على عدم الوجوب، ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (312). (¬2) وهذا إسناده فيه ضعف. من أجل مسة الازدية، روى عنها كثير بن زياد، قال ابن حجر في التهذيب: ذكر الخطابي وابن حبان أن الحكم بن عتيبة روى عنها أيضاً. وذكرها الذهبي في المجهولات في الميزان، ونقل عن الدارقطني قوله فيها: لا يحتج بها. انظر الكلام على هذا الحديث بالتفصيل، في النفاس، في بحث: أكثر النفاس. (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 134) (¬4) في كتاب الحيض باب (20).

كما قاله الزهري، وغيره" (¬1). وربما استدل بعض الخوارج بالقياس على وجوب قضاء الصوم، فإذا كانت تؤمر بقضاء الصوم فكذلك الصلاة فإنها من أهل التكليف. وهذا قياس في مقابلة النص، فيكون قياساً فاسداً. فقد أخرج البخاري تعليقاً في صيغة الجزم، قال البخاري: "وقال أبو الزناد: إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي فما يجد المسلمون بداً من اتباعها، من ذلك أن الحائض تقضي الصيام، ولا تقضي الصلاة". اهـ (¬2). وقوله: على خلاف الرأي، يقصد به بادي الرأي، وإلا فالشرع لا يخالف العقل إذا كان النظر صحيحاً، لكن العقل عاجز عن إدراك الحكمة في كل أوامر الله، وإلا فالله لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، ولا يأمر ولا ينهى إلا لحكمة وهو الحكيم العليم. وقال العلامة أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على سنن الترمذي: "وأمر الحائض بقضاء الصوم وترك أمرها بقضاء الصلاة، إنما هو تعبد صرف لا يتوقف على معرفة حكمته، فإن أدركناها فذاك، وإلا فالأمر على العين والرأس، وكذلك الشأن في جميع أمور الشريعة، لا كما يفعل الخوارج، ولا كما يفعل كثير من أهل هذا العصر، يريدون أن يحكموا عقولهم في كل شأن من شئون الدين فما قبلته قبلوه، وما عجزت عنه فهمه وإدراكه أنكروه وأعرضوا عنه، وشاعت هذه ¬

_ (¬1) فتح الباري (1/ 559). (¬2) في كتاب الصوم باب (41).

الآراء المنكرة بين الناس، وخاصة المتعلمين منهم، حتى ليكاد أكثرهم يعرض عن كثير من العبادات، وينكر أكثر أحكام الشريعة في المعاملات، اتباعاً للهوى، ويزعمون أن هذا هو ما يسمونه روح التشريع، أو حكمة التشريع، وإنه ليخشى على من يذهب هذا المذهب الردي أن يخرج من ساحة الإسلام المنيرة إلى ظلام الكفر والردة، والعياذ بالله من ذلك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا باتباع الكتاب والسنة، والاهتداء بهديهما. اهـ (¬1). وقد تلمس بعض العلماء الحكمة من التفريق بين الصلاة والصيام، قال ابن رجب: وقد فرق كثير من الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي بين قضاء الصوم والصلاة بأن الصلاة تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات، والحيض لا تخلو منه كل شهر غالباً، فلو أمرت الحائض بقضاء الصلاة مع أمرها بأداء الصلاة في أيام طهرها لشق ذلك عليها، بخلاف الصيام فإنه إنما يجيء مرة واحدة في السنة فلا يشق قضاؤه. ومنهم من قال: جنس الصلاة يتكرر في كل يوم من أيام الطهر، فيغني ذلك عن قضاء ما تركته منها في الحيض بخلاف صيام رمضان فإنه شهر واحد في السنة لا يتكرر فيها، فإذا طهرت الحائض أمرت بقضاء ما تركته أيام حيضها لتأتي بتمام عدته المفروضة في السنة كما يمر بذلك من أفطر لسفر أو مرض (¬2). هذا فيما يتعلق بالصلاة وحكم قضائها. ¬

_ (¬1) شرح سنن الترمذي (1/ 235). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 134).

المبحث الثاني: في هل يستحب للحائض أن تتوضأ وقت الصلاة، وتجلس في مصلاها تذكر الله وتسبحه مقدار الصلاة.

المبحث الثاني: في هل يستحب للحائض أن تتوضأ وقت الصلاة، وتجلس في مصلاها تذكر الله وتسبحه مقدار الصلاة. قال النووي: مذهبنا ومذهب جمهور العلماء من السلف والخلف، أنه ليس على الحائض وضوء ولا تسبيح، ولا ذكر في أوقات الصلوات، ولا في غيرها، وممن قال بهذا الأوزاعي ومالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور، حكاه عنهم ابن جرير (¬1). وقال ابن نجيم من الحنفية: وأما أئمتنا فقالوا: إنه يستحب لها أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وتقعد على مصلاها تسبح، وتهلل، وتكبر (¬2). وقال أيضاً: وصحح في الظهيرية أنها تجلس مقدار أداء فرض الصلاة كيلا تنسى العبادة. دليل من استحب لها الذكر وقت الصلاة. (266) واستدل من استحب ذلك بما رواه الطبراني، قال: حدثنا جعفر بن محمّد الفريابي، ثنا محمّد بن سماعة الرملي. (ح) وحدثنا محمّد بن جابر، ثنا محمّد بن أبان البلخي، قالا: ثنا أيوب بن سويد الرملي، عن عتبة بن أبي حكيم، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، حدثني عبد الله بن عباس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وعد العباس ذوداً من إبل، ¬

_ (¬1) في المجموع (2/ 380) (¬2) البحر الرائق (1/ 203)

فبعثني إليه، فبت عنده، وكانت ليلة ميمونة بنت الحارث، فنام النبي - صلى الله عليه وسلم - غير كثير، فتوسدت التي توسدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قام عليه السلام فتوضأ، فأسبغ الوضوء، وأقل هراقة الماء، ثم قام فافتتح الصلاة، وكانت ميمونة حائضاً فقامت فتوضأت، ثم قعدت خلفه تذكر الله أنه بات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة ميمونة بنت الحارث، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فاسبغ الوضوء، وقل هراقه لماء، وقام فافتتح الصلاة، فقمت فتوضأت، وقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأقامني عن يمينه، وكانت ميمونة حائضاً فقامت فتوضأت ثم قعدت خلفه تذكر الله عز وجل (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) مسند الشاميين (737، 734) (¬2) في إسناده: أيوب بن سويد الرملي. قال أحمد: ضعيف. وقال ابن معين: ليس بشيء، كان يسرق. الكامل (1/ 359)، الضعفاء للعقيلي (1/ 113). وقال مرة: كان يدعي أحاديث الناس. الكامل (1/ 359). وقال البخاري: يتكلمون فيه. وفال النسائي: ليس بثقة. وذكر الترمذى أن ابن المبارك ترك حديثه. تهذيب التهذيب (1/ 354). وقال أيضاً: ارم به. ضعفاء العقيلي. (1/ 113). وقال أبو حاتم: لين الحديث. الجرح والتعديل (2/ 249). وفيه أيضاً: عتبة بن أبي حكيم. وثقه يحيى بن معين، كما في رواية الدوري. تهذيب التهذيب (6/ 87). الكامل (5/ 357).

وقال ابن رجب: وقد استحب طائفة من السلف أن تتوضأ في وقت كل، صلاة مفروضة، وتستقبل القبلة، وتذكر الله عز وجل بمقدار تلك الصلاة، منهم الحسن، وعطاء، وأبو جعفر محمّد بن علي، وهو قول إسحاق، وروي عن عقبة بن عامر أنه كان يأمر الحائض بذلك وأن تجلس بفناء مسجدها. خرجه الجوزجاني. وقال مكحول: كان ذلك من هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن (¬1). (267) أما قول عطاء: فأخرجه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الملك، عن عطاء أنه كان يقول في الحائض: تتنظف وتتخذ مكاناً في مواقيت الصلاة تذكر الله فيه (¬2). وعبد الملك لم ينسبه الراوي، ويحتمل أن يكون ابن جريح، ويحتمل أن يكون عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، فإن كان الأول فإنه، وإن كان ثقة إلا ¬

_ وقال مرة: ضعيف الحديث. كما في رواية ابن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (6/ 370). وقال أيضاً: والله الذي لا إله إلا هو إنه لمنكر الحديث. كما في رواية أبي داود عنه تهذيب الكمال (19/ 300). وضعفه النسائي. وقال مرة: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (6/ 87). وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. الكامل (5/ 357). وقال أبو حاتم: كان أحمد يوهنه قليلاً. وقال أبو حاتم أيضاً: صالح، لا بأس به. (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 130) (¬2) المصنف (2/ 128) 7265.

أنه مدلس وقد عنعن. إلا أني أرى أنه مكثر عن عطاء، فلا تؤثر عنعنته. وإن كان الثاني وهو الراجح، فإن الإسناد صحيح، لأن عبد الملك ابن عبد العزيز بن جريح قد غلبت عليه كنيته، فأكثر المصنفين يذكرونه بكنيته، وإذا ذكروا اسمه ذكروا معه كنيته بخلاف الثاني. وأما قول الحسن فقد ثبت عنه بسند صحيح (268) فقد روى ابن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن يزيد ابن إبراهيم، عن الحسن قال: سمعته يقول في الحائض: توضأ عند كل صلاة وتذكر الله. [إسناده صحيح] (¬1). وأما قول أبي جعفر: (269) فرواه ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: إنا لنأمر نساءنا في الحيض أن يتوضأن في وقت كل صلاة، ثم يجلسن ويسبحن ويذكرن الله (¬2). [إسناده ضعيف جداً] (¬3). ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 129) رقم 7271 (¬2) المصنف (1/ 128) رقم 7270 (¬3) فيه جابر بن يزيد الجعفي اتهمه بالكذب، زائدة. وقال أبو حنيفة: ما أتيته بشيء من رأيي إلا جاءني فيه بأثر. وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الحاكم: أبو أحمد ذاهب الحديث.

وأما قول عقبة بن عامر (270) فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، عن سعيد ابن أبي أيوب، قال: حدثني خالد بن يزيد الصدفي، عن أبيه عن عقبة بن عامر أنه كان يأمر المرأة الحائض وقت الصلاة أن تتوضأ وتجلس بفناء المسجد، وتذكر الله وتهلل وتسبح (¬1). ولم أقف على ترجمة خالد بن يزيد الصدفي، ولا ترجمة أبيه، وباقي رجاله ثقات (¬2). والله أعلم. والحق أن استحباب ذلك بدعة. قال ابن رجب: "وأنكر ذلك أكثر العلماء، وقال أبو قلابة: قد سألنا عن هذا فما وجدنا له أصلاً. وقال سعيد بن عبد العزيز: ما نعرف هذا ولكننا نكرهه. وقال ابن عبد البر: على هذا القول جماعة الفقهاء، وعامة العلماء في الأمصار" (¬3). ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 128) رقم 7269 (¬2) إلا أن يكون خالد بن يزيد الجمحي، فإنه مصري، يروي عنه سعيد بن أبي أيوب، خاصة أن النسبة إلى الصدف: قال عنها السمعاني في الأنساب (3/ 528): "هي قبيلة من حمير نزلت مصر". فإن كان هو فإنه ثقة، من رجال الجماعة. (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 130).

وقول أبي قلابة الذي أشار إليه الحافظ ابن رجب. قد رواه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: (271) حدثنا معتمر، عن أبيه، قال: قيل لأبي قلابة: الحائض تسمع الأذان فتوضأ، وتكبر، وتسبح، قال: قد سألنا عن ذلك فما وجدنا له أصلاً. [سنده صحيح] (¬1). (272) وروى ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا ابن مهدي، عن شعبة، قال: سألت الحكم وحماداً فكرهاه (¬2). ولسنا نمنع الحائض من ذكر الله تعالى، فإن ذكر الله مستحب في كل حين، لكن استحبابه على هذه الصفة بدعة. فأولاً: أين الدليل على مشروعية الوضوء للحائض؟ قال النووي: إذا قصدت الطهارة تعبداً مع علمها بأنها لا تصح فتأثم بهذا، لأنها متلاعبة بالعبادة، فأما إمرار الماء عليها بغير قصد العبادة فلا تأثم به بلا خلاف. وهذا كما أن الحائض إذا أمسكت عن الطعام بقصد الصوم أثمت، وإن أمسكت بلا قصد لم تأثم. اهـ (¬3). ثانياً: لا يكفي أن يكون أصل العبادة مشروعاً، حتى يكون فعلها مشروعاً في وقت مخصوص. فكل من تحرى وقتاً معيناً في أداء عبادة معينة، فإن كان هناك ¬

_ (¬1) المصنف - ابن أبي شيبة (1/ 128) رقم 7266. (¬2) المصنف (1/ 128) رقم 7268. (¬3) المجموع (2/ 382)

دليل على تحريه هذا الوقت وإلا كان تحريه لها بدعة، ولا يشفع له أن أصلها مشروع. فنقول في مسألتنا هذه: أين الدليل على تحريها للذكر أوقات الصلاة؟ بل تذكر الله في غير أوقات الصلوات من الذكر المطلق والمقيد، ولا يكون ذلك بسبب الحيض، بل لأن ذكر الله مشروع في كل وقت. (273) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري" (¬1). وقوله: "افعلي ما يفعل الحاج" دخل فيه جميع ما يفعله الحجاج من ذكر الله فإنها تقف بعرفة وتدعو هناك وتذكر الله، وتقف في المشعر الحرام وتذكر الله هناك، وترمي الجمارات، وتذكر الله بعد رمي الجمرة الأولى والوسطى، فهي ليست ممنوعة من ذكر الله، لكن استحبابه على صفة مخصوصة يحتاج إلى دليل. نعم جاء لها ذكر معين من الممكن أن يكون من الذكر المقيد. (274) فقد روى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا محمّد، حدثنا عمر ابن حفص، قال: حدثنا أبي، عن عاصم، عن حفصة، عن أم عطية قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، حتى تخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. وهو في مسلم، دون قوله: ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (305) ومسلم أيضاً. (¬2) صحيح البخاري (971)، مسلم (890).

المبحث الثالث: هل تثاب الحائض على ترك الصلاة

المبحث الثالث: هل تثاب الحائض على ترك الصلاة قال الحافظ في الفتح: الحائض لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض، لكنها ناقصة عن المصلى، وهل تثاب على هذا الترك لكونها مكلفة به كما يثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشغل بالمرض عنها؟ قال النووي: الظاهر أنها لا تثاب. والفرق بينها وبين المريض أنه كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهلية، والحائض ليست كذلك وعندي (أي عند الحافظ ابن حجر) في كون هذا الفرق مستلزماً لكونها لا تثاب - وقفة. اهـ (¬1). وقيل: تثاب الحائض على ترك ما حرم عليها من العبادات إذا نوت الامتثال بالترك لا على العزم على الفعل لولا الحيض (¬2). والذي يظهر - والله أعلم - أنها لا تعطى ثواب المصلي؛ وفرق بينها وبين المريض؛ لأن المريض مكلف بالأداء لولا العجز، ولذلك لو تحامل على نفسه وصلى، قبلت صلاته، ولم يفعل محرماً، بينما الحائض ليست مكلفة في أداء الصلاة، أرأيت الإنسان حين لا يصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها، لا يقال: يعطى ثواب المصلي؛ لأنه إنما منع من قبل الشرع. نعم تثاب على كونها التزمت ذلك النهي من الشارع ثواب امتثال، لا ثواب أداء للصلاة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) فتح الباري في شرح حديث (304). (¬2) انظر حاشية القليوبي (1/ 99).

المبحث الرابع: هل يستحب للحائض قضاء الصلاة؟

المبحث الرابع: هل يستحب للحائض قضاء الصلاة؟ سبق أن ذكرنا أن العلماء مجمعون على أن القضاء لا يجب على الحائض، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الخوارج، وكون القضاء لا يجب عليها فهل تمنع من القضاء، لأن نفي الوجوب قد لا يستلزم نفي الاستحباب. وقد وجدت قولين لأهل العلم ممن يقولون بأن القضاء لا يجب: القول الأول: أنه يحرم القضاء، ولا يجوز لها أن تفعله. جاء في الفروع لابن مفلح (¬1): قيل لأحمد في رواية الأثرم: فإن أحبت أن تقضيها؟ قال: لا. هذا خلاف - يعني السنة - فظاهر النهي التحريم. اهـ. ثم إن السنة التركية كالسنة الفعلية، ولذلك حكم عطاء، وعكرمة بأن ذلك بدعة. (275) فقد روى عبد الرزاق في المصنف: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، قال: قلت له: أتقضي الحائض الصلاة؟ قال: لا ذلك بدعة. [وإسناده صحيح] (¬2). (276) وروى عبد الرزاق أيضاً، قال: عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة قال: سئل أتقضي الحائض الصلاة؟ قال: لا ذلك بدعة. ¬

_ (¬1) (1/ 260). (¬2) (1275).

[ورجاله ثقات] (¬1). (277) وقول عائشة كما في البخاري، قال رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، قال حدثتني معاذة أن امرأة قالت لعائشة: أتجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت فقالت أحرورية أنت كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به. أو قالت فلا نفعله (¬2). فكون أمهات المؤمنين لا يفعلن القضاء، دليل على أنه غير مطلوب، والعبادة إذا كانت غير مطلوبة فهي محرمة. وفي رواية لمسلم: "كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" (¬3). فقوله: "ولا نؤمر": نفي للأمر مطلقاً، سواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب. والله أعلم. القول الثاني: إن القضاء ليس بحرام ولكنه مكروه فقط. وهو وجه في مذهب الشافعي (¬4). وقال ابن مفلح في الفروع: "ويتوجه احتمال يكره" (¬5). ¬

_ (¬1) (1276). (¬2) (321). (¬3) (335). (¬4) مغني المحتاج (1/ 110، 109) (1/ 131) 271، نهاية المحتاج - الرملي (1/ 329 - 330) وكذلك (1/ 393). (¬5) (1/ 260).

قال في مغني المحتاج: "وهل يحرم قضاؤها أو يكره؟ - يعني قضاء الصلاة للحائض -: فيه خلاف ذكره في المهمات، فنقل فيها عن ابن الصلاح، والمصنف عن البيضاوي أنه يحرم، لأن عائشة رضي الله عنها نهت السائل عن ذلك، ولأن القضاء محله فيما أمر بفعله، وعن ابن الصلاح، والروياني، والعجلي، أنه مكروه، بخلاف المجنون والمغمى عليه. فيسن لهما القضاء". اهـ (¬1). قال البيضاوي: والأوجه كما قال شيخنا عدم التحريم (¬2). وسبب الخلاف والله أعلم الخلاف في تعليل الأمر بسقوط القضاء فمن نظر إلى أن سقوط القضاء عنها كان السبب فيه التخفيف عنها، نظراً لكثرة الصلوات ودورانها، لم يمنعها من قضاء الصلوات، لأن سقوط الصلاة كان رخصة وليس عزيمة والأخذ بالرخص ليس بواجب، وأقوى دليل لهم على أنه رخصة كون الصيام يجب قضاؤه على الحائض. وقال بعضهم: بل سقوط القضاء عزيمة، وليس برخصة، ووجوب الصيام خارج عن القياس، وهؤلاء يحرمون قضاء الصلاة عليها. وقد نقل النووي في المجموع (¬3) عن الغزالي في التفريق بين وجوب قضاء الصوم دون الصلاة على الحائض، قال: ونحن نقرر الفرق فنقول: العزيمة الحكم الثابت على وفق الدليل، والرخصة الحكم الثابت على خلاف الدليل ¬

_ (¬1) (1/ 109 - 110). (¬2) انظر نهاية المحتاج (1/ 329 - 330) وكذلك (1/ 393). (¬3) (3/ 10).

لمعارض راجح، وإنما كان سقوط قضاء الصلاة عن الحائض عزيمة، لأنها مكلفة بترك الصلاة، فإذا تركتها فقد امتثلت ما أمرت به من الترك، فلم تكلف مع ذلك بالقضاء، ولا نقول الفرق بين الصوم والصلاة كثرتها، وندوره، فيكون إسقاط قضائها تخفيفاً ورخصة، بل سبب إسقاط قضائها ما ذكرناه، وهذا يقتضي إسقاط قضاء الصوم أيضاً، لكن للشرع زيادة اعتناء بصوم رمضان، فأوجب قضاءه بأمر محدود في وقت ثان، وتسميته قضاء مجاز. وهو في الحقيقة فرض مبتدأ، فمخالفة الدليل إن حصلت فهي وجوب قضاء الصوم لا في عدم قضاء الصلاة، فثبت أن عدم قضاء الصلاة ليس رخصة (¬1). قلت: الشافعية يرون أن وجوب قضاء الصوم لم يكن بالأمر السابق وإنما بأمر جديد. قال في مغني المحتاج: "وهل تنعقد صلاتها أو لا؟ فيه نظر والأوجه عدم الانعقاد، لأن الأصل في الصلاة إذا لم تكن مطلوبة عدم الانعقاد، ووجوب القضاء عليها في الصوم بأمر جديد من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن واجباً حال الحيض والنفاس لأنها ممنوعة منه، والمنع والوجوب لا يجتمعان. اهـ (¬2). قلت: قد يقال: عدم القضاء هو الذي على خلاف الأصل، فالأصل أن ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 109 - 110). (¬2) مغني المحتاج (1/ 110). وكتب لى ناصر الفهد معلقاً على نسبة هذا القول للشافعية، فقال: ليس هذا للشافعية فقط، بل هو مذهب كثير من العلماء في مختلف المذاهب، وهو اختيار ابن تيمية لذلك يرى أن تارك الصلاة والصوم عمداً لا يقضي، لعدم وجود الأمر له بالقضاء، وأما كون القضاء بالأمر السابق فقد ذكر أنه للحنفية فقط، أما الجمهور فعلى أنه لا بد من أمر جديد للقضاء. اهـ.

من أمر بشيء ثم تركه لعذر قضاه بزوال ذلك العذر كالنائم والناسي عن الصلاة، وكذلك قضاء الصيام على وفق القياس لكن الصلاة هي التي جاء نص بأنها لا تقضى ولولا هذا النص لقضيت، فلا يحتاج الصوم إلى أمر جديد بالقضاء لأن القضاء على وفق الأصل. قال النووي في المجموع: "قال الرافعي: فالحاصل أن من لم يؤمر بالترك لا يستحيل أن يؤمر بالقضاء، فإذا لم يؤمر كان تخفيفاً، ومن أمر بالترك فامتثل الأمر لا يؤمر بالقضاء إلا الحائض والنفساء في الصوم فإنهما يؤمران بتركه وبقضائه، وهو خارج عن القضاء للنص، والله أعلم". اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع (3/ 11).

الفرع الأول: هل تستثنى ركعتي الطواف، فيشرع لهما القضاء

الفرع الأول: هل تستثنى ركعتي الطواف، فيشرع لهما القضاء (*) استثنى بعض العلماء ركعتي الطواف، فقال النووي في المجموع: "قال أبو العباس ابن القاص في التلخيص، والجرجاني في المعاياة: كل صلاة تفوت في زمن الحيض لا تقضى إلا صلاة واحدة وهي ركعتا الطواف فإنها لا تتكرر" (¬1). وقال المرداوي: "ولا تقضي الصلاة، ولعل المراد إلا ركعتي الطواف، لأنها نسك لا آخر لوقتها، فيعايابها. رد شيخنا وابن نصر الله على المصنف كونها تقضى، والذي يظهر لي أن محل ذلك إذا قلنا تطوف الحائض، فإذا طافت فإنها لا تصلي حتى تطهر. وقد أومى إليه شيخنا أيضاً". اهـ (¬2). وقال النووي في المجموع: "أنكر الشيخ أبو علي السنجي هذا، وقال: هذا لا يسمى قضاء، لأن الوجوب لم يكن في زمن الحيض، ولو جاز أن يسمى هذا قضاء لجاز أن يسمى قضاء فائتة كانت قبل الحيض، وهذا الذي قاله أبو علي هو الصواب، لأن ركعتي الطواف لا يدخل وقتها إلا بالفراغ من الطواف، فإن ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 384). (¬2) تصحيح الفروع، المطبوع مع الفروع (1/ 260)، وقال: "الشافعية فيما إذا طافت ثم حاضت قبل صلاة الركعتين وجهان في قضائهما، اختار الشيخ أبو علي: عدم القضاء، واختاره النووي في شرح المهذب، واختاره ابن القاص والجرجاني والنووي في شرح مسلم، وحكى عن الأصحاب القضاء. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم يذكر المؤلف فرعا آخر

قدر أنها طافت ثم حاضت عقيب الفراغ من الطواف صح ما قاله أبو العباس - يعني من قضاء ركعتي الطواف - إن سلم لهما ثبوت ركعتي الطواف في هذه الصورة. والله أعلم. اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 384).

المبحث الخامس: إذا حاضت المرأة في وقت الصلاة وقبل أن تصلي فهل يجب عليها القضاء إذا طهرت؟

المبحث الخامس: إذا حاضت المرأة في وقت الصلاة وقبل أن تصلي فهل يجب عليها القضاء إِذا طهرت؟ هذه المسألة يسميها بعض الفقهاء إذا طرأ المانع بعد دخول وقت الصلاة وقبل أن يصلي .. كما لو طرأ جنون، أو إغماء، أو حيض أو نفاس بعد دخول وقت الصلاة، فهل يجب قضاء تلك الصلاة بعد ارتفاع المانع أي بعد أن يفيق المجنون والمغمى عليه، وتطهر الحائض والنفساء ... والذي يعنينا في هذا الباب إذا طرأ الحيض أو النفاس بعد دخول وقت الصلاة، هل يجب على المرأة القضاء أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة إلى ستة أقوال: فقيل: لا يجب عليها مطلقاً. سواء حاضت في أول الوقت أو آخره، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ورواية في مذهب المالكية (¬2)، وهو مذهب ابن حزم (¬3)، وخرجه ابن سريج قولاً في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: إن كان الباقي من الوقت يسع ركعة وجب قضاء تلك الصلاة ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي (2/ 15، 14)، شرح فتح القدير (1/ 171)، الأصل (1/ 300) بدائع الصنائع (1/ 95). (¬2) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (4/ 110)، (¬3) المحلى (2/ 175). (¬4) المجموع (1/ 71)

وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: أن أدركت من الوقت قدراً يسع تلك الصلاة، وجب القضاء وإن كان الذي أدركته من الوقت لا يسع تلك الصلاة فلا يجب عليها القضاء (¬2) , وهو مذهب الشافعية (¬3). وقيل: إن أدركت من الوقت مقدار ركعة كاملة، وجب القضاء وإلا فلا. ¬

_ (¬1) والصلاة عندهم لا تخلو إما أن تكون ممن يجمع معها غيرها، أو لا يجمع معها غيرها كصلاة الصبح. فإذا حاضت المرأة، وقد بقي من صلاة الصبح ما يسع ركعة كاملة بسجدتيها سقطت صلاة الصبح، وإن كان الباقي من الوقت حين حاضت أدنى من ركعة وجب عليها القضاء. وأما الصلاة التي تجمع مع غيرها كما لو نسيت صلاة الظهر حتى دخل وقت العصر ثم حاضت المرأة، أو كانت مسافرة فأخرت صلاة الظهر لتجمعها مع العصر، فلما دخل وقت صلاة العصر حاضت، فإن كان بقي من الوقت ما يسع عدد ركعات الصلاة الأولى وركعة واحدة من الصلاة الثانية سقطت الصلاتان. وإن بقي من الوقت أدنى من هذا إلى ركعة كاملة سقطت الثانية ووجب قضاء الأولى، وإن كان الباقي من الوقت أقل من ركعة كاملة وجب قضاء الأولى والثانية. انظر في المذهب المالكي: منح الجليل (1/ 189)، أسهل المدارك (1/ 100)، حاشية الدسوقي (1/ 185)، مواهب الجليل (1/ 411)، حاشية الخرشي (1/ 221)، شرح الزرقاني لمختصر خليل (1/ 149)، الشرح الصغير (1/ 273)، فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (4/ 110). (¬2) لا يعتبر مع إمكان فعلها إمكان الطهارة، لأنه يمكن تقديم الطهارة قبل الوقت، إلا إذا كانت الطهارة لا يمكن تقديمها كالمستحاضة، فيعتبر إمكان فعلها. (¬3) المجموع (3/ 71)، مغني المحتاج (1/ 132)، نهاية المحتاج (1/ 397)، روضة الطالبين (1/ 188 - 189).

اختاره بعض الشافعية، ومنهم أبو يحيى البلخي (¬1). وقيل: إن أدركت من الوقت قدر تكبيرة الإحرام ثم حاضت، وجب عليها القضاء. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إن كان الباقي من الوقت حين حاضت مقدار ما يمكنها أن تصلي فيه، فليس عليها قضاء تلك الصلاة، وإن كان دون ذلك فعليها القضاء وهو اختيار زفر من الحنفية (¬3) ورجحه ابن تيمية من الحنابلة (¬4)، وهو الراجح، والله أعلم. وسبب الخلاف في هذه المسألة، خلافهم في مسألة أصولية. هل الصلاة تجب في أول الوقت أو في آخره؟ وهل إذا دخل الوقت ومضى معه مقدار ما يسع الأداء أصبحت الصلاة ديناً في ذمته، فلو سافر من بلده لم يقصر تلك الصلاة، لأنها وجبت عليه في وقت ¬

_ (¬1) انظر المجموع (2/ 71)، ومغني المحتاج (1/ 132)، وروضة الطالبين (1/ 188 - 189). (¬2) الكافي (1/ 98)، الفروع (1/ 306)، المحرر (1/ 29)، الإنصاف (1441)، المبدع (1/ 353)، الإقناع (1/ 85). (¬3) الأصل (1/ 330)، المبسوط للسرخسي (2/ 15, 14)، شرح فتح القدير (1/ 171)، الأصل (1/ 300)، بدائع الصنائع (1/ 95). (¬4) قال في الاختيارات (ص: 53): "ومن دخل عليه الوقت، ثم طرأ عليه مانع من جنون أو حيض، فلا قضاء عليه، إلا أن يتضايق الوقت عن فعلها، ثم يوجد المانع، وهو قول مالك وزفر، ورواه زفر عن أبي حنيفة" اهـ.

دليل الحنفية على أن المرأة إذا حاضت في وقت الصلاة لا يجب عليها القضاء.

الحضر، أو أن الصلاة لا تجب في أول الوقت على التعيين، وإنما تجب في جزء من الوقت غير معين، فإذا شرع في أول الوقت يجب في ذلك الوقت، وكذا إذا شرع في وسطه أو آخره، ومتى لم يعين بالفعل حتى بقي من الوقت مقدار ما يسع الصلاة وجب عليه تعيين ذلك الوقت ويأثم بترك التعيين. أو أن الصلاة في أول الوقت سنة وفي آخره واجب، ويلزم منه أن يكون فعل المندوب أفضل من فعل الفرض. هذا سبب الخلاف، وأدلته تبحث في أصول الفقه ... وفي أقسام الواجب في كونه ينقسم إلى قسمين: واجب موسع، وواجب مضيق. وإليك أدلة كل قول من الأقوال التي ذكرناها. دليل الحنفية على أن المرأة إذا حاضت في وقت الصلاة لا يجب عليها القضاء. قالوا: إذا بقي شيء من وقت الصلاة لم تصبح الصلاة ديناً في ذمة المرأة بل هي في الوقت، فإذا حاضت فقد تعذر عليها الأداء بسبب الحيض، وذلك غير موجب للقضاء، فأما إذا حاضت بعد خروج الوقت فإن الصلاة تصبح ديناً في ذمتها والحيض لا يمنع كون الصلاة ديناً في ذمتها. قال ابن حزم في المحلى: "برهان قولنا هو أن الله تعالى جعل للصلاة وقتاً محدوداً، أوله وآخره، وصح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلاة في أول وقتها، وفي أخر وقتها، فصح أن المؤخر لها إلى آخر وقتها ليس عاصياً، لأنه عليه السلام لا يفعل المعصية، فإذ هي ليست عاصية فلم تتعين الصلاة عليها بعد، ولها تأخيرها، فإذا لم تتعين عليها حتى حاضت فقد سقطت عنها، ولو كانت الصلاة تجب بأول

دليل المالكية على أن المرأة إذا حاضت وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة سقطت عنها الصلاة.

الوقت لكان من صلاها بعد مضي مقدار تأديتها من أول وقتها قاضياً لها لا مصلياً، وفاسقاً بتأخيرها عن وقتها، ومؤخراً لها عن وقتها وهذا باطل لا اختلاف فيه من أحد" (¬1). دليل المالكية على أن المرأة إذا حاضت وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة سقطت عنها الصلاة. (278) استدلوا بما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عبد الله بن سلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن يسار وعن بسر بن سعيد، وعن الأعرج يحدثوا به. عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (¬2). وأخرجه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك به (¬3). وجه الاستدلال: قالوا: إن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك وقتها، فإذا حصل الحيض وقد بقي من الوقت مقدار ركعة كاملة، فقد حصل العذر في وقتها، فسقطت. أما إذا حصل الحيض وقد بقي أقل من ركعة، فقد خرج وقت الصلاة، ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة: 258). (¬2) صحيح البخاري (579). (¬3) (163 - 168).

دليل الشافعية على أنه يشترط أن تدرك من الوقت قدرا يسع تلك الصلاة.

واستقرت في ذمته، فإذا طرأ الحيض بعد ذلك فقد حصل العذر خارج وقتها فيجب عليه القضاء (¬1). دليل الشافعية على أنه يشترط أن تدرك من الوقت قدراً يسع تلك الصلاة. استدل الشافعية بأن الصلاة تجب بأول الوقت، وكونها لها تأخيرها إلى آخر وقتها لا يسقط عنها ما وجب عليها من الصلاة بأوله، قالوا: والدليل على أن الصلاة تجب بأول الوقت أن المسافر لو صلى في أول الوقت قبل أن يدخل العصر، ثم دخل العصر في وقته أجزأه (¬2). فإذا أدركت من الوقت ما يسع تلك الصلاة فقد وجبت عليها لتمكنها من الفعل في الوقت فلا يسقط بما يطرأ بعده قياساً على الزكاة إذا وجبت وتمكن من أدائها فلم يخرج حتى هلك المال (¬3). واستدلوا بأن الصلاة تجب في أول الوقت بأدلة منها: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬4). فإذا قيل: إن دلوك الشمس أول وقتها، دل على أن الوجوب يتعلق بأوله. وأجيب: بأن الوجوب يتعلق بأوله ووسطه وآخره لقوله تعالى: {إِلَى غَسَقِ ¬

_ (¬1) انظر الشرح الصغير (1/ 237) مع تصرف يسير. (¬2) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (4/ 117). (¬3) المجموع (3/ 71) ومغني المحتاج (1/ 132). (¬4) الإسراء آية (78).

اللَّيْلِ} (¬1). فهذا يقضي كل الوقت. (279) واستدل بعضهم بما رواه الترمذي، قال: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا يعقوب بن الوليد المدني، عن عبد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله (¬2). [إسناده ضعيف جداً أو موضوع] (¬3). ¬

_ (¬1) الاسراء آية (78). (¬2) سنن الترمذي (172). (¬3) في الإسناد يعقوب بن الوليد. قال ابن حبان في المجروحين (3/ 138): كان ممن يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتابة حديثه إلا جهة التعجب. وقال أيضاً: ما رواه إلا يعقوب بن الوليد المدني. وفي التهذيب (11/ 398): قال أحمد: حرقنا حديثه منذ دهر كان من الكذابين الكبار، وكان يضع الحديث. وقال الدوري عن ابن معين: لم يكن بشيء. وقال في مرضع آخر: ليس بثقة. وقال الغلابي عن ابن معين: كذاب. وقال أبو زرعة: غير ثقة. وقال النسائي: ليس بشيء، متروك الحديث، وقال مرة: ليس بثقة. وقال الدارقطني: ضعيف. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه الدارقطني أيضاً (1/ 249): حدثنا يحيى بن صاعد، نا أحمد بن منيع به. وأخرجه البيهقي (1/ 435) من طريق يحيى بن صاعد به. وأخرجه أيضاً من طريق محمد ابن هارون بن حميد، ثنا أحمد بن منيع به إلا أنه قال عبيد الله بن عمر بدلاً من عبد الله ابن عمر. ثم نقل البيهقي عن أبي أحمد بن عدي أنه قال هذا الحديث بهذا الاسناد باطل إن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ قيل فيه عبيد الله أو عبد الله. وأخرجه الحاكم (1/ 189) من طريق علي بن معبد، ثنا يعقوب الوليد به إلا أنه خالف في لفظه، قال: خير الأعمال الصلاة في أول وقتها. قال الحاكم: يعقوب بن الوليد شيخ من أهل المدينة سكن بغداد، وليس من شرط هذا الكتاب، إلا أنه شاهد عن عبيد الله. قال الذهبي متعقباً: يعقوب كذاب. وله شواهد كلها هالكة لا تزيده إلا ضعفاً. منها: ما رواه الدارقطني (1/ 249) حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق، نا الحسن بن حميد بن الربيع، حدثني فرح بن عبيد المهلبي، ثنا عبيد بن القاسم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أول الوقت رضوان الله، وآخر الوقت عفو الله عز وجل. وفي إسناده: الحسن بن حميد. قال ابن الجوزي كما في تنقيح التحقيق (1/ 649): هو كذاب ابن كذاب. وفي نصب الراية للزيلعي (1/ 243) قال ابن عدي: هو متهم فيما يرويه، وسمعت أحمد بن عبدة الحافظ يقول: سمعت مطيناً يقول: وقد مر عليه الحسين بن حميد بن الربيع هذا كذاب، ابن كذاب، ابن كذاب. اهـ. وفيه: عبيد بن القاسم، قال الحافظ في التقريب: متروك كذبه ابن معين، واتهمه أبو داود بالوضع. وأخرج الدارقطني (1/ 249) من طريق إبراهيم بن زكريا من أهل عبدسي، نا إبراهيم يعني: ابن عبد الملك بن أبي محذورة من أهل مكة، حدثني أبي عن جدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول الوقت رضوان الله، ووسط الوقت رحمة الله، وآخر الوقت عفو الله. وأخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 256) من طريق إبراهيم بن زكريا به. ورواه البيهقي في السنن (1/ 435) وقال إبراهيم بن زكريا: هذا هو العجلي الضرير، يكنى أبا إسحاق، حدث عن الثقات بالبواطيل. وقال ابن الجوزي كما في تنقيح التحقيق (1/ 649): هو مجهول، والحديث الذي رواه منكر. وقال ابن عدي: حدث عن الثقات بالأباطيل.

وجه الاستدلال: قالوا: إن الرضوان من الله إنما يكون للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين، فدل على أن الوجوب متعلق في أول الوقت. ويشكل عليه أنهم مع كونهم يرون وجوب الصلاة في أول الوقت، إلا أنهم ¬

_ وسأل أحمد عن هذا الحديث: أول الوقت رضوان الله. فقال: من روى هذا؟! ليس هذا يثبت. اهـ. وقول ابن عدي انظره في الكامل (1/ 256). وروى ابن عدي في الكامل (2/ 77) من طريق بقية، عن عبد الله مولى عثمان ابن عثمان، حدثني عبد العزيز، حدثني محمد بن سيرين. عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول الوقت رضوان الله وآخر الوقت عفو الله". قال ابن عدي: وهذا بهذا الإسناد لا يرويه غير بقية، وهو من الأحاديث التي يحدث بها بقية عن المجهولين، لأن عبد الله مولى عثمان بن عفان، وعبد العزيز الذي ذكرا في هذا الإسناد لا يعرفان. وروى من حديث على بن أبي طالب، رواه البيهقي في المعرفة (2/ 289): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن عبد الرحمن، عن سهل الدباس بمكة قال حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن إسحاق الكاتب المزني، قال: حدثنا إبراهيم ابن المنذر الحزامي، قال: حدثنا موسى بن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله. قال البيهقي كما في تلخيص الحبير (1/ 322) ح 260: إسناده فيما أظن أصح ما روي في هذا الباب، قال الحافظ - يعني: على علاته مع أنه معلول، فإن المحفوظ روايته عن جعفر بن محمد عن أبيه موقوفاً. قال الحاكم: لا أحفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه يصح، ولا عن أحد من أصحابه، وإنما الرواية فيه عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر. قلت: الأثر المقطوع رواه البيهقي (1/ 436) من طريق أبي أويس، عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: أول الوقت رضوان الله, وآخر الوقت عفو الله.

دليل من قال: يجب القضاء إذا أدركت الحائض من الوقت مقدار ركعة.

يرون أن المصلي لا يأثم بتأخيرها إلى آخر الوقت لأنها تجب في أول الوقت وجوباً موقتاً. ولذلك قال النووي في المجموع: قوله العفو إنما يكون للمقصرين "قوله للمقصرين" قد يستشكل من حيث إن التأخير لا إثم فيه، فكيف يكون فاعله مقصراً؟؟ وأجابوا بوجهين: أحدهما: أنه مقصر بالنسبة إلى أول الوقت، وإن كان لا إثم عليه. والثاني: أنه مقصر بتفويت الأفضل، كما يقال: من ترك صلاة الضحى فهو مقصر، وإن لم يأثم (¬1). لكن يغني عن هذا الجواب أن الحديث لا تقوم به حجة، فلا يلزم الإجابة عليه. دليل من قال: يجب القضاء إذا أدركت الحائض من الوقت مقدار ركعة. (280) استدلوا بما رواه البخاري، قال حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة. وأخرجه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: أن من أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة فقد أدرك وقت الصلاة، ¬

_ (¬1) المجموع (3/ 66). (¬2) البخاري (580)، صحيح مسلم (607).

فأصبحت في ذمته، فيجب عليه قضاؤها (¬1) ¬

_ (¬1) اختلف العلماء في المقصود بحديث: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة" فقيل: المراد: فقد أدرك وقت الصلاة، وعليه فمن أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة كاملة فقد أدرك وقتها وكأنها وقعت أداء. وحملوا حديث: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة على حديث أبي هريرة من رواية عطاء بن يسار وبسر بن سعيد والأعرج عن أبي هريرة: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" متفق عليه وسبق تخريجه قبل قليل. وقيل: المراد إدراك الجماعة، ويشهد له ما خرجه مسلم من رواية يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة". وكل من خرج الحديث عن ابن شهاب لم يقل: "مع الإمام" إلا يونس، واختلف عليه فيها. وسيأتي الكلام قريباً على ألفاظ حديث ابن شهاب. وقيل: المراد بالصلاة الجمعة. والجمعة داخلة في عموم الصلاة، ولذلك قال ابن خزيمة على رواية من أدرك من الجمعة ركعة قال هذا الخبر روي بالمعنى لا باللفظ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة" كانت الصلوات كلها داخلة في هذا الخبر، الجمعة وغيرها من الصلوات. انظر بتصرف يسير (صحيح ابن خزيمة (3/ 173). وانظر شرح ابن رجب للبخاري (5/ 15 - 16) وفتح البارى لابن حجر حديث (580). وحديث أبي هريرة: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" مداره على ابن شهاب، عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقد رواه مالك، وابن عيينة، والأوزاعي، وعبيد الله بن عمر، وشعيب، وإبراهيم بن أبي عبلة، وابن الهاد، كلهم رووه عن الزهري بلفظ: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة .. " زاد عبيد الله بن عمر: "فقد أدرك الصلاة كلها" فزاد كلمة: "كلها". والمعنى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ واحد. ورواه يونس عن ابن شهاب واختلف على يونس فيه، فرواه ابن وهب عن يونس كما في مسلم (162 - 607) وزاد كلمة: "مع الإمام" بلفظ: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة". ورواه ابن المبارك عن يونس كما في مسلم (607) وأبو عوانة (2/ 80) والدارقطني في العلل (9/ 223) من طريق عثمان بن عمر كلاهما عن يونس به كلفظ الجماعة بدون زيادة: "مع الإمام". فإن كان أحد من المتقدمين تكلم في زيادة يونس فإني أوافقه على أنها غير محفوظة وإلا أمسكت هيبة للصحيح. ورواه معمر عن الزهري. ولم يضبطه، فتارة يرويه كرواية الجماعة وهي المحفوظة. وتارة بلفظ حديث عطاء بن يسار، وبسر بن سعيد والأعرج عن أبي هريرة قال: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، وهذا اللفظ شاذ من رواية ابن شهاب، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وثابت من رواية حديث عطاء بن يسار والأعرج، وبسر بن سعيد عن أبي هريرة. وممن حكم بشذوذه الدارقطني في العلل (9/ 222) فذكر أن المحفوظ عن معمر ما يوافق رواية الجماعة، وإليك تخريج مروياتهم بألفاظها. كما سبق أن ذكرت أن الحديث مداره على ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ويرويه عن ابن شهاب جماعة. الأول: مالك عنه أخرجه الموطأ (1/ 10) والبخاري (580) ومسلم (161 - 607) والنسائي (553)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 151) وفي مشكل الآثار (2320) وابن حبان (1483). والبغوي في شرح السنة (400) ولفظه: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. الثاني: سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب به. أخرجه الحميدي (946) وأحمد (2/ 241) ومسلم (607) والترمذي (524) وابن ماجة (1122) والدارمي (1221) والطحاوي في مشكل الآثار (2321) والبغوي في شرح السنة (401) بمثل حديث مالك. الثالث: الأوزاعي عن الزهري به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أخرجه مسلم (607) والنسائي (555) والدارمي (1220) وأبو عوانة (2/ 80/ 81) وابن خزيمة (1849) والبيهقي (3/ 202) بلفظ "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة". الرابع: عبيد الله بن عمر عن الزهري. عند أحمد (2/ 375) ومسلم (607) والبيهقي (1/ 378) وزاد عبيد الله "فقد أدركها كلها". الخامس: شعيب عن الزهري. أخرجه أبو عوانة (2/ 80) بلفظ "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها" ولا فرق بينه وبين رواية مالك إلا بتقديم "من الصلاة" فلفظ مالك: "من أدرك ركعة من الصلاة ... ولفظ شعيب والأوزاعي" من أدرك من الصلاة ركعة" وقد ترجم البخاري بلفظ "من أدرك من الصلاة ركعة" وساق حديث مالك: باب من أدرك ركعة من الصلاة" قال الحافظ في الفتح (2/ 251) وقد وضح لنا بالاستقراء أن جميع ما يقع في تراجم البخاري مما يترجم بلفظ الحديث، لا يقع فيه شيء مغاير للفظ الحديث الذي يورده إلا قد ورد من وجه آخر، بذلك اللفظ المغاير فلله دره ما أكثر اطلاعه. السادس: إبراهيم بن أبي عبلة عن الزهري به رواه أبو عوانة بلفظ مالك (2/ 81). السابع: معمر عن ابن شهاب به. رواه عبد الرزاق عن معمر بلفظين، تارة يوافق رواية الجماعة كما في المصنف (3369) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (2/ 270/ 171) بلفظ "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". وبهذا اللفظ أخرجه أبو عوانة (1/ 172/ 173) من طريق محمد بن مهمل، ثنا عبد الرزاق به، وتارة يرويه عبد الرزاق عن معمر بلفظ: "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها" كما في مصنف عبد الرزاق (2224) وعنه أحمد (2/ 254) وبهذا اللفظ أخرجه ابن الجارود في المنتقى (152) حديثاً محمد بن يحيى، ثنا عبد الرزاق به. والعهدة ليست على عبد الرزاق، بل على شيخه، لأنه قد أخرجه أحمد (2/ 260) عن عبد الأعلى عن معمر به بذكر العصر والفجر وكذا أخرجه ابن خزيمة (985) من طريق معتمر عن معمر به. وقد نقلنا قريباً عن الدارقطني أنه قال: "بأن المحفوظ عن معمر حديثه من أدرك ركعة من الصلاة" وقد أخرجه مسلم (607) عن ابن المبارك عن معمر وغيره عن

دليل الحنابلة على أن المرأة الحائض إذا أدركت من الصلاة قدر تكبيرة الإحرام وجب عليها القضاء

دليل الحنابلة على أن المرأة الحائض إذا أدركت من الصلاة قدر تكبيرة الإحرام وجب عليها القضاء الدليل الأول: (281) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته (¬1). الدليل الثاني: (282) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثنا حسن بن الربيع، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: حدثنا عروة عن عائشة قالت: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس، ومن الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها. والسجدة إنما هي الركعة (¬2). ¬

_ الزهري بمثل حديث مالك. وقال ابن رجب في شرح البخاري (5/ 15): "والمحفوظ عن الزهري في حديثه "من أدرك ركعة من الصلاة". الثامن: يونس عن الزهري. خرجتها في أول الكلام وذكرت أنه زاد فيها عند مسلم "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة". (¬1) صحيح البخاري (556). (¬2) صحيح مسلم (609).

وجه الاستدلال: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أدرك أحدكم سجدة" أي مقدار سجدة، وذكر السجدة أشار إلى إدراك مثلها أي إدراك جزء من الوقت ولو بمقدار تكبيرة الإحرام. والصحيح أن المراد بالسجدة هي الركعة لما يلي: أولاً: لأن الزهري قد رواه عن أبي سلمة به بلفظ، "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة" وسبق تخريجه. ورواه جماعة عن أبي هريرة بلفظ: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ... الحديث في الصحيحين وسبق تخريجه قبل قليل. وثانياً: قال القرطبي: "أهل الحجاز يسمون الركعة سجدة" اهـ (¬1). قلت: وقد ورد في السنة الصريحة إطلاق السجدة على الركعة. (283) فقد روى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى ابن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته (¬2). وأخرجه مسلم (¬3). ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 227). (¬2) صحيح البخاري (1172). (¬3) صحيح مسلم (104 - 729).

دليل من قال: يجب القضاء إذا كان الباقي من الوقت حين حاضت لا يتسع لفعل الصلاة وإلا فلا يجب.

(284) وروى مسلم أيضاً، قال رحمه الله: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير عن سعيد بن أبي هند، أن أبا مرة مولى عقيل، حدثه أن أم هانئ حدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وفيه: "ثم قام فصلى ثمان سجدات وذلك ضحى" (¬1). والمراد: ثمان ركعات ... والأمثلة في هذا كثيرة. دليل من قال: يجب القضاء إذا كان الباقي من الوقت حين حاضت لا يتسع لفعل الصلاة وإلا فلا يجب. الدليل الأول: قالوا: بأن الصلاة: لا يجب فعلها في أول الوقت وإذا حاضت المرأة ولم يجب عليها بعد فعل الصلاة، لم يجب عليها القضاء؛ لأنه إذا كان قد أذن لها في التأخير، فما ترتب على المأذون غير مضمون، ولكن إذا بقي من الوقت ما يتسع لفعل الصلاة فقط فقد أوجب عليها فعل الصلاة. فإذا كان الباقي من الوقت لا يتسع لفعل الصلاة فقد استقرت في ذمتها فوجب عليها القضاء إذا حاضت. الدليل الثاني: أن هذا يقع كثيراً في نساء الصحابة، ولو كان يجب على المرأة القضاء، لأمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو أمرها لنقل، فلما لم ينقل علم أن القضاء ليس بواجب. (285) وقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني ¬

_ (¬1) (72 - 337).

مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (¬1). ورواه مسلم بأطول منه (¬2). استدل به البيهقي رحمه الله (¬3) على مسألتنا هذه وهذا ذهاب منه إلى أنه لا يرى وجوب القضاء على الحائض إذا حاضت في وقت الصلاة وهذا القول هو الراجح، والله أعلم. ¬

_ (¬1) (7288) (¬2) صحيح مسلم (412 - 1337). (¬3) في السنن الكبرى (1/ 388)

المبحث السادس: في طهر المرأة من الحيض قبل خروج وقت الصلاة

المبحث السادس: في طهر المرأة من الحيض قبل خروج وقت الصلاة يطلق الفقهاء على هذه المسألة (زوال المانع) بينما يسمون التي قبلها (حدوث المانع) وزوال المانع يشمل الحائض والنفساء إذا طهرتا، ويشمل المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا، والصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم وأمثالهم. وقد اختلف الفقهاء في الحائض والنفساء إذا طهرتا. فقيل: إذا طهرت المرأة من الحيض وأدركت من الصلاة قدراً يع الغسل وتكبيرة الإحرام وجبت عليها تلك الصلاة وحدها ولا تقضي معها ما يجمع إليها. فإن أدركت من الصلاة مقداراً لا تستطيع فيه الغسل فليس عليها قضاء تلك الصلاة إلا إذا كانت عادتها انقطعت لعشر أيام (أكثر الحيض عندهم) فإنها إذا أدركت من الوقت شيئاً قليلاً أو كثيراً، وجبت عليها تلك الصلاة سواء تمكنت فيه من الاغتسال أو لم تتمكن وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: إذا طهرت قبل الغروب بمقدار يسع خمس ركعات في الحضر، أو ثلاث في السفر، وجبت عليها الظهر والعصر. وإن بقي أقل من ذلك إلى ركعة وجبت العصر وحدها، وإن بقي أقل من ركعة سقطت الظهر والعصر. وإن طهرت قبل الفجر بمقدار أربع ركعات، وجب عليها المغرب ¬

_ (¬1) المبسوط (2/ 15) شرح فتح القدير (1/ 171)، الأصل - محمد بن الحسن الشيباني (1/ 301).

والعشاء، وإن بقي أقل من ذلك إلى ركعة وجبت العشاء وحدها، وإن بقي أقل من ركعة سقطت المغرب والعشاء. وإن طهرت قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة وجبت عليها الصبح وإلا سقطت. وهذا مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الشافعي في القديم (¬2). وقيل يجب عليها فعل الصلاة إذا أدركت من وقت الصلاة مقدار ركعة كاملة .. وهو قول للشافعية (¬3) ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: إذا أدركت من الوقت قدر تكبيرة الإحرام وجبت عليها تلك الصلاة، فإن كانت الصلاة هي العصر أو العشاء وجبت مع العصر الظهر، ومع المغرب العشاء وهذا القول هو الصحيح من مذهب الشافعية (¬5). قال النووي: باتفاق الأصحاب (¬6)، ¬

_ (¬1) منح الجليل (1/ 187، 186)، الشرح الصغير (1/ 235, 234)، أسهل المدارك (1/ 158)، حاشية الدسوقي (1/ 183، 182)، مواهب الجليل، حاشية الخرشي (1/ 219, 220). (¬2) انظر المجموع شرح المهذب (3/ 68). (¬3) انظر المراجع السابقة. (¬4) الإنصاف (1/ 439)، الفروع (1/ 306)، المبدع (1/ 350). (¬5) روضة الطالبين (1/ 187، 186)، مغني المحتاج (1/ 130)، نهاية المحتاج (1/ 395، 394)، المجموع (3/ 69). (¬6) انظر المجموع (3/ 69).

دليل من قال: تجب الصلاة على الحائض إذا طهرت وقد أدركت من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام.

والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال: تجب الصلاة على الحائض إذا طهرت وقد أدركت من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام. (286) استدلوا بما رواه البخاري، قال رحمه الله حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان، عن يحي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته (¬2). ورواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (¬3). وقد أجبت في المسألة السابقة بأن المراد بالسجدة الركعة، ودللت على ذلك من السنة فارجع إليه إن شئت. دليل من قال: تجب الصلاة على الحائض إذا طهرت وقد أدركت من الوقت مقدار ركعة. (287) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن سلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، وعن بسر بن سعيد، وعن الأعرج يحدثونه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن ¬

_ (¬1) المحرر (1/ 28)، الإنصاف (1/ 439)، الفروع (1/ 306)، المبدع (1/ 350)، الكافي (1/ 94)، كشاف القناع (1/ 259). (¬2) صحيح البخاري (556). (¬3) (609).

دليل من قال: إذا طهرت في وقت العصر وجب أن تصلي معه الظهر أو في وقت العشاء صلت معه المغرب.

تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (¬1). وأخرجه مسلم (¬2): حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك به. دليل من قال: إذا طهرت في وقت العصر وجب أن تصلي معه الظهر أو في وقت العشاء صلت معه المغرب. الدليل الأول: (288) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن محمد ابن عثمان المخزومي، قال: أخبرتني جدتي، عن مولى لعبد الرحمن بن عوف، قال: سمعته يقول: إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب والعشاء (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (579). (¬2) (163 - 168). (¬3) المصنف (2/ 123) رقم 7204. (¬4) قال الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 344) ح 282: مولى عبد الرحمن بن عوف لم يعرف حاله، واختلف على محمد بن عثمان المخزومي، فرواه ابن أبي شيبة (2/ 123). ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/ 243) عن حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن عثمان المخزومي، قال: اخبرتني جدتي، عن مولى لعبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن بن عوف. ورواه البيهقي في المعرفة (2/ 217) من طريق الداروردي، عن محمد بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن جده عبد الرحمن، عن مولى لعبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عوف، فذكر بدلاً من جدته جده، والإسناد على كل ضعيف، لأن مداره على مولى عبد

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (289) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن يزيد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: إذا طهرت قبل المغرب صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب والعشاء (¬1). ورواه ابن المنذر (¬2) من طريق أبي عوانة عن يزيد بن أبي زياد به، واللفظ لابن المنذر. [إسناده ضعيف] (¬3). الدليل الثالث: قالوا: بأن الصلاتين المجموعتين وقت إحداهما وقت للأخرى في حق المعذور كالمسافر ونحوه فهؤلاء مثلهم من أهل الأعذار فإذا أدرك العصر فقد أدرك الظهر، وإذا أدرك العشاء فقد أدرك المغرب. ¬

_ الرحمن بن عوف. (¬1) (2/ 123) رقم 7206 (¬2) في الأوسط (2/ 243) (¬3) فيه يزيد بن أبي زياد، في التقريب ضعيف، كبر، فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً، واختلف على يزيد بن أبي زياد، فرواه هشيم وأبو عوانة عنه عن مقسم، عن ابن عباس كما تقدم. ورواه البيهقي (1/ 387) من طريق ليث بن أبي سليم، عن طاووس وعطاء عن ابن عباس، وليث ضعيف، وقد تغير.

وقد قال بهذا القول جماعة من التابعين منهم عطاء (¬1)، وطاووس (¬2)، ومجاهد (¬3)، وإبراهيم النخعي (¬4)، والحكم (¬5). وهذا القول ضعيف. أولاً: لعدم الدليل الموجب لقضاء الصلاتين، فلو كانت تدرك الظهر بطهارة الحائض في وقت العصر لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو بينه لنقل إلينا. فلما لم ينقل علم أن ذلك لا يجب. وما ورد عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس لا يثبت عنهما كما قرأت. ثانياً: أن هذا القول مخالف للسنة الصريحة من حديث أبي هريرة: "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وهو متفق عليه وسبق تخريجه ولو كانت تدرك الظهر لقال: فقد أدرك العصر والظهر. وثالثاً: أنه مخالف للقياس. فلو أنه أدرك ركعة من صلاة الظهر. ثم وجد مانع لم يلزمه إلا قضاء الظهر فقط، مع أن وقت الظهر وقت لها، وللعصر عند العذر والجمع فما الفرق بين المسألتين؟؟! رابعاً: قد بينا الإجماع على أن الحائض لا تقضي الصلاة التي مرت عليها ¬

_ (¬1) المجموع (3/ 68) رواه ابن أبي شيبة (2/ 123) 7210، 7207، وعبد الرزاق (1281) من طرق عنه بسند صحيح. (¬2) رواه عبد الرزاق (1281)، وابن أبي شيبة (2/ 123) 7207 بأسانيد صحيحة عنه. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (1/ 123) رقم 7207 بسند صحيح عنه. (¬4) رواه ابن أبي شيبة (1/ 123) حدثنا هشيم عن مغيرة وعبيدة أخبراه عن إبراهيم، فهذا سند صحيح، ورواه ابن أبي شيبة (1/ 124) رقم 7209 حدثنا حفص بن غياث, عن حجاج، عن أبي معشر عن إبراهيم. (¬5) رواه عبد الرزاق (1282)، وابن أبي شيبة (1/ 124) 7211 بسند صحيح.

دليل المالكية على أن المرأة إذا طهرت وقد أدركت من الوقت ما يسع خمس ركعات للحاضر أو ثلاث للمسافر وجبت عليها صلاة الظهر والعصر.

وهي حائض لحديث عائشة في مسلم (¬1). "وكنا نؤمر بقضاء الصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة"، ولو أنها صلت صلاة الظهر وقد خرج وقتها وهي حائض لكانت مأمورة بقضاء بعض الصلاة وهي حائض. دليل المالكية على أن المرأة إذا طهرت وقد أدركت من الوقت ما يسع خمس ركعات للحاضر أو ثلاث للمسافر وجبت عليها صلاة الظهر والعصر. قالوا: لا بد أن يدرك من الوقت ما يسع عدد ركعات الصلاة الأولى كلها، وهي أربع ركعات في الحضر، وركعتان في السفر، ويدرك ركعة من الصلاة: الثانية التي هي العصر، فيصير مجموع عدد الركعات خمس في الحضر، وثلاث في السفر. وعللوا ذلك بأن الوقت اعتبر لإدراك الصلاتين، فاعتبر وقت يمكن الفراغ من إحداهما، وإدراك ركعة من الأخرى (¬2). وإذا طهرت قبل الفجر فلا بد من إدراك أربع ركعات، ثلاث للمغرب وركعة للعشاء ولا فرق في المسألة هذه بين المقيم والمسافر، لأن المغرب لا تقصر. وهذا القول مبني على أن وقت العصر وقت لها وللظهر في حال العذر، وكذا وقت العشاء والمغرب، وقد بينت ضعف هذا القول في القول الذي قبل هذا. والراجح من هذه الأقوال أن الحائض إذا أدركت من الوقت مقدار ركعة، ¬

_ (¬1) (69 - 335). (¬2) المجموع (3/ 68).

فقد أدركت الصلاة، والسنة صريحة في هذا، والمقصود بالركعة ليس مجرد ركوع، بل ركعة كاملة بقيامها وسجودها. والله أعلم.

المبحث السابع: هل تحصيل الطهارة شرط في إدراك الوقت

المبحث السابع: هل تحصيل الطهارة شرط في إدراك الوقت إذا طهرت الحائض في وقت صلاة، وأخذت في غسلها، فلم تفرغ حتى خرج وقت تلك الصلاة، هل يجب عليها قضاء تلك الصلاة. أو لا تجب عليها تلك الصلاة باعتبار أن تحصيل الطهارة شرط في إدراك الوقت. اختلف الفقهاء في هذه المسألة. فقيل: إن الفراغ من الطهارة شرط. فإذا لم تتمكن من الغسل والوضوء حتى خرج الوقت، فلا يلزمها قضاء تلك الصلاة. وهذا مذهب المالكية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3). وقيل: تجب عليها الصلاة، سواء كان الوقت يتسع للطهارة أم لا. وهو مذهب الحنابلة (¬4)، وقول في مذهب الشافعية (¬5). وهو الراجح. ¬

_ (¬1) منح الجليل (1/ 187, 186) الشرح الصغير (1/ 235, 234)، أسهل المدارك (1/ 158)، حاشية الدسوقي (1/ 183, 182)، مواهب الجليل، حاشية الخرشي (1/ 220, 219). (¬2) المجموع (3/ 67). المهذب (1/ 60)، روضة الطالبين (1/ 187، 186)، مغني المحتاج (1/ 130)، نهاية المحتاج (1/ 395, 394). (¬3) المحلى (مسألة: 259). (¬4) الإنصاف (1/ 442) المبدع (1/ 354)، المغني (2/ 46). (¬5) المجموع (3/ 67). المهذب (1/ 60)، روضة الطالبين (1/ 187، 186)، مغني المحتاج (1/ 130)، نهاية المحتاج (1/ 395, 394).

دليل من اشترط مع أدراك الركعة زمنا يمكن فيه فعل الطهارة من الاغتسال ونحوه.

دليل من اشترط مع أدراك الركعة زمنا يمكن فيه فعل الطهارة من الاغتسال ونحوه. قال ابن حزم: "فإن طهرت في آخر وقت للصلاة بمقدار ما لا يمكن الغسل والوضوء حتى يخرج الوقت فلا تلزمها تلك الصلاة بل ولا قضاؤها، وهو قول الأوزاعي وأصحابنا". ثم قال: "برهان صحة قولنا أن الله عز وجل لم يبح الصلاة إلا بطهور، وقد حد الله للصلاة أوقاتها، فإذا لم يمكنها الطهور، وفي الوقت بقية، فنحن على يقين من أنها لم تكلف تلك الصلاة التي لم يحل لها أن تؤديها في وقتها" (¬1). دليل من لم يشترط زمن الطهارة ويكتفي بإدراك زمن يتسع لركعة كاملة. الدليل الأول: أن الأحاديث لم تتعرض لاشتراط الطهارة، وما ورد مطلقاً يجب العمل به على اطلاقه، وتخصيص العام، وتقييد المطلق لا يجوز إلا بدليل. (290) فقد روى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. الدليل الثاني: قالوا: إذا طهرت الحائض في وقت صلاة، وأخذت في غسلها، فلم تفرغ حتى خرج وقت تلك الصلاة، وجب عليها قضاء تلك الصلاة، لأنها في وقتها غير حائض وليس فوت الوقت عن الرجل بمسقط عنه الصلاة إن اشتغل ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة 259)

بوضوئه أو غسله حتى فاته الوقت. وكذلك الحائض إذا طهرت لا تسقط عنها الصلاة من أجل غسلها، لأن شغلها بالاغتسال لا يضيع عنها ما لزمها من فرض الصلاة، وإنما تسقط الصلاة عن الحائض ما دامت حائضاً، فإذا طهرت كالجنب، لزمها صلاة وقتها التي طهرت فيه (¬1). وهذا هو الراجح، كما قالوا إذا طهرت قبل الصبح، ثم صامت واغتسلت بعد طلوع الصبح صح صومها، وسيأتي مزيد إيضاح لهذه المسألة إن شاء الله في فصل مستقل. ¬

_ (¬1) فتح البر ترتيب التمهيد (4/ 117).

الفصل الثالث: أحكام الحائض من حيث الصوم

الفصل الثالث: أحكام الحائض من حيث الصوم المبحث الأول: يحرم على الحائض فعل الصوم ويجب عليها القضاء إذا طهرت (291) روى عبد الرزاق، قال: عن معمر عن الزهري قال: الحائض تقضي الصوم. قلت: عمن؟ قال: هذا ما اجتمع الناس عليه، وليس في كل شيء نجد الإسناد. أما تحريم فعل الصوم: (292) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد - هو ابن أسلم - عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: يا معشر النساء تصدقن؛ فإني أريتكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله. قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان

دينها. ورواه مسلم (¬1). (293) وحديث ابن عمر في مسلم، وفيه: "وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين" (¬2). وانظر الحديث كاملاً في الفصل الذي قبل هذا. وأما وجوب القضاء: (294) فقد روى مسلم، قال: حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عاصم، عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة (¬3). ورواه البخاري من طريق قتادة عن معاذة به بنحوه (¬4). ونقل ابن المنذر الإجماع على وجوب قضاء الصوم (¬5) وقد نقل الإجماع أيضاً طائفة من العلماء. انظر النقول عنهم في المسألة التي قبلها. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (304)، ومسلم (80). (¬2) صحيح مسلم (79). (¬3) صحيح مسلم (69 - 335). (¬4) صحيح البخارى (321). (¬5) في الأوسط (2/ 203).

المبحث الثاني: إذا طهرت الحائض في نهار رمضان فهل يجب عليها الإمساك بقية النهار

المبحث الثاني: إذا طهرت الحائض في نهار رمضان فهل يجب عليها الإمساك بقية النهار قيل: يجب عليها الإمساك بقية الصوم، ويجب عليها القضاء. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يجب عليها الإمساك بقية يومها وعليها القضاء. وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬5). وقال بعض الشافعية: يستحب لها إخفاء الإفطار، لئلا تتعرض إلى التهمة والعقوبة (¬6). أدلة القائلين بوجوب الإمساك. الدليل الأول: قالوا: إنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام، فإذا طرأ بعد الفجر ¬

_ (¬1) المبسوط (3/ 57) مراقي الفلاح (ص: 248)، حاشية رد المحتار (2/ 408)، شرح فتح القدير (1/ 371)، البناية العيني (4/ 713). (¬2) الكافي (1/ 346)، المبدع (3/ 13)، شرح منتهى الإرادات (1/ 472)، المقنع (ص: 63)، المحرر (1/ 227). (¬3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 514)، الشرح الصغير (1/ 689)، وقال: ولا يندب لها الإمساك. التفريع (1/ 305)، أسهل المدارك (1/ 265). (¬4) المهذب (184)، المجموع (6/ 256). (¬5) المغني (4/ 388)، المبدع (3/ 13). (¬6) المهذب (1/ 184)، شرح روض الطالب (1/ 424).

الدليل الثاني

أوجب الإمساك، كقيام البينة بالرؤية. فمن صار في بعض النهار على صفة لو كان عليها في أول النهار يلزمه الصوم فعليه الإمساك في بقية النهار والقضاء (¬1). الدليل الثاني: أنها أبيح لها الفطر، عندما كان السبب موجوداً، فإذا زال السبب المبيح وجب عليها الإمساك. الدليل الثالث: أن الإمساك حق للوقت؛ لأنه وقت معظم. الدليل الرابع: أن كل من أدرك جزءاً من وقت العبادة لزمته تلك العبادة، فمن أدرك جزءاً من وقت الصلاة لزمته تلك الصلاة، وكذلك من أدرك جزءاً من وقت الصيام لزمه الإمساك (¬2). الدليل الخامس: قالوا: لو أكلت ولا عذر لها اتهمها الناس، والتحرز من مواضع التهم واجب. دليل من قال: لا يجب عليها الإمساك. الدليل الأول: (295) ما رواه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا وكيع، عن بن عون، ¬

_ (¬1) المغني (1/ 388) بتصرف يسير، ومنار السبيل (1/ 223). المبسوط (3/ 58). (¬2) المبسوط (3/ 58).

الدليل الثاني

عن ابن سيرين، قال: قال عبد الله: من أكل أول النهار فليأكل في آخره. [إسناده صحيح إن كان ابن سيرين سمعه من عبد الله] (¬1) الدليل الثاني: قال ابن حزم: لا يختلف المخالفون لنا في أن التي طهرت من المحيض والنفاس والقادم من السفر، والمفيق من المرض لا يجزئهم صيام ذلك اليوم، وعليهم قضاؤه، فصح أنهم في هذا اليوم غير صائمين أصلاً، وإذا كانوا غير صائمين فلا معنى لصيامهم، ولا أن يؤمروا بصوم ليس صوماً، ولا هم مؤدون به فرضاً لله تعالى، ولا هم عاصون له بتركه (¬2). الدليل الثالث: إذا كان يجوز لها الأكل في أول النهار ظاهراً وباطناً بغير شبهة، جاز لها الأكل في آخره كسائر الأيام. الدليل الرابع: الصوم: هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية العبادة، فإذا كان كذلك لم ينطبق على الحائض التي طهرت في أثناء اليوم، ولم يعتبر فعلها صوماً شرعاً، فلا معنى لإمساكها. ¬

_ (¬1) المصنف (2/ 287) رقم 9044. (¬2) المحلى (مسألة 760).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: قالوا: إن صوم اليوم الواحد عبادة واحدة، بدليل أن أوله يفسد بفساد آخره، فلا يجوز أن يكون آخر العبادة واجباً، وأولها غير واجب، كالصلاة الواحدة (¬1). والراجح من هذه الأقوال القائل بأنه لا يجب عليها الإمساك. ¬

_ (¬1) الاشراف (1/ 207).

المبحث الثالث: في المرأة تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح

المبحث الثالث: في المرأة تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح إذا طهرت المرأة من الحيض ليلاً، ونوت الصيام، وأخرت الغسل إلى طلوع الصبح، فهل يصح صومها ذلك اليوم. اختلف العلماء في ذلك. فقيل: إن طهرت قبل الفجر بوقت يتسع فيه للغسل فلم تغتسل حتى طلع الفجر أجزأها، وإن كان الوقت ضيقاً لا يتسع للغسل لم يصح صومها (¬1). وهذا مذهب الحنفية، واختاره من المالكية عبد الملك، ومحمد بن مسلمة (¬2). ¬

_ (¬1) إلا أن الحنفية يستثنون ما لو كان حيضها أكثر الحيض عندهم (عشرة أيام) أو كان نفاسها أكثر النفاس عندهم (أربعون يوماً) ففي هذه الحالة إذا طهرت قبل الفجر صح صومها إذا أمكنها أن تنوي، ولو لم تدرك من الوقت ما يتسع للغسل. ووجهه: أن المرأة إذا طهرت لأكثر الحيض أو النفاس فإنها تخرج من الحيض والنفاس. بمجرد انقطاع الدم، أما إذا انقطع الحيض لدون عشرة أيام، أو انقطع النفاس لدون أربعين يوماً، فإن مدة الاغتسال محسوبة من الحيض والنفاس، فلا بد أن تدرك من الليل ما يتسع فيه للاغتسال. انظر بدائع الصنائع (2/ 89) وقال في شرح فتح القدير (1/ 171): "واعلم أن مدة الاغتسال معتبرة من الحيض في الانقطاع لأقل من العشرة، وإن كان تمام عادتها، بخلاف الانقطاع للعشرة" اهـ. (¬2) انظر المعونة على مذهب مالك (1/ 481)، التفريع (1/ 309, 308). الجامع لأحكام القرآن - القرطبي (2/ 326). والموجود في تفسير القرطبي منسوباً لعبد الملك بأنه إذا طهرت قبل الفجر، ولم تغتسل فإن يومها يوم فطر مطلقاً. بينما الموجود في التفريع التفصيل:

دليل الجمهور على صحة صومها

وقيل: صيامها صحيح. وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يباح الصيام مطلقاً حتى تغتسل. وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2)، وحكي قولاً للأوزاعي (¬3). دليل الجمهور على صحة صومها الدليل الأول: من القرآن الكريم، قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ¬

_ إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الاغتسال ففرطت، فلم تغتسل، ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقاً لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها. وقد أشار إلى مثل ذلك القرطبي رحمه الله. (¬1) المدونة (1/ 207) وفيه: "وسألت مالكاً عن المرأة ترى الطهر في آخر ليلتها من رمضان، قال: إن رأته قبل الفجر اغتسلت بعد الفجر، وصيامها مجزئ عنها". وقال الخرشي (2/ 247) "يجب الصوم على من رأت علامة الطهر قبل الفجر، وإن كان ذلك بلحظة، ولو لم تغتسل إلا بعد الفجر، بل ولو لم تغتسل أصلاً، فقوله في المدونة: "فاغتسلت" لا مفهوم له؛ لأن الطهارة ليست شرطاً فيه، بخلاف الصلاة .... " الخ كلامه رحمه الله. وانظر مختصر خليل (ص: 71)، والمعونة على مذهب مالك (1/ 481)، التفريع (1/ 309, 308). الجامع لأحكام القرآن - القرطبي (2/ 326) ونسبه قولاً للجمهور. وقال ابن المنذر في الإقناع (1/ 194): "وإذا أصبح المرء جنباً، أو كانت امرأة حائضاً فطهرت آخر الليل، ثم أصبحا صائمين يغتسلان" أي وصيامهما صحيح. (¬2) الإنصاف (1/ 349) المبدع (1/ 262). (¬3) الجامع لأحكام القرآن (2/ 326). ونسبه ابن قدامة في المغني (4/ 393) قولاً للأوزاعي، والحسن بن حيّ، وعبد الملك بن الماجشون، والعنبري".

الدليل الثاني

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى لما أباح المباشرة إلى تبين الفجر، علم أن الغسل إنما يكون بعده (¬2). الدليل الثاني: (295) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو - وهو بن الحارث - عن عبد ربه، عن عبد الله بن كعب الحميري، أن أبا بكر حدثه، أن مروان أرسله إلى أم سلمة رضي الله تعالى عنها يسأل عن الرجل يصبح جنباً، أيصوم؟ فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من جماع، لا من حلم، ثم لا يفطر، ولا يقضي. وفي رواية: يصبح جنباً من غير احتلام، ثم يصوم (¬3). الدليل الثالث: (296) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى ابن سعيد، عن ابن جريج (ح). وحدثني محمد بن رافع - واللفظ له - حدثنا عبد الرزاق بن همام، أخبرنا ¬

_ (¬1) البقرة آية (187). (¬2) المغني (4/ 393). (¬3) رواه مسلم (1109).

ابن جريج، أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي بكر قال: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقص، يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنباً فلا يصم، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث لأبيه، فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من غير حلم، ثم يصوم. قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول. قال: فجئنا أبا هريرة - وأبو بكر حاضر ذلك كله - قال: فذكر له عبد الرحمن، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك. قال: نعم قال: هما أعلم، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس، فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل ولم أسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك. قلت لعبد الملك: أقالتا في رمضان. قال: كذلك كان يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم. رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم (¬1). وجه الاستدلال من الحديثين: يؤخذ منهما أنه إذا كان وجوب الغسل من الحدث الأكبر لا يفسد الصوم، لم يفسد من الحائض إذا طهرت من الدم. لأن كلاً منهما يملك أن يرفع حدثه متى شاء. فالحائض عندما انقطع دمها قد طهرت من الخبث، وبقيت طهارتها من الحدث، فأصبح حدثها بعد انقطاع دمها لا يوجب إلا الغسل كالجنب تماماً، ¬

_ (¬1) مسلم (1109)، والبخاري (1926، 1925).

دليل القائلين لا يصح صومها مطلقا حتى تغتسل قبل الفجر.

وصفة الغسل فيهما واحدة كما بينا في صفة الغسل. فيكون حكمهما واحداً. والله أعلم. دليل القائلين لا يصح صومها مطلقاً حتى تغتسل قبل الفجر. قالوا: حدث الحيض يمنع الصوم، وإذا أصبحت وهي لم تغتسل فيومها يوم فطر؛ لأنها في بعضه غير طاهرة، وليست كالجنب؛ لأن الاحتلام لا ينقض الصوم، والحيضة تنقضه. وأجاب ابن قدامة بقوله: "ما ذكروه لا يصح، فإن من طهرت من الحيض ليست حائضاً، وإنما عليها حدث موجب للغسل، فهي كالجنب فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده كالحيض" (¬1). دليل القائلين بأنه يشترط أن تطهر من الحيض في وقت يمكنها فيه الغسل. دليل القائلين: بأنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الاغتسال، ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقاً لا تدرك فيه الغسل لم يصح صومها، ويومها يوم فطر، الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في من طهرت قبل خروج وقت الصلاة هل يشترط أن تدرك من الوقت زمناً يتسع للغسل حتى تكون الصلاة واجبة في ذمتها، أو يكفي أن تدرك من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام، أو مقدار ركعة، على الخلاف المعروف، ولا مدخل فيه لوقت الغسل، وقد سقت دليل كل قول في مسألة مستقلة، فارجع إليه إن شئت غير مأمور. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المغني (4/ 393).

المبحث الرابع: إذا أفطرت المرأة بالجماع ثم نزل الحيض في ذلك اليوم هل تسقط الكفارة

المبحث الرابع: إذا أفطرت المرأة بالجماع ثم نزل الحيض في ذلك اليوم هل تسقط الكفارة إذا جامع الرجل امرأته في رمضان، وهي طاهرة، وكان ذلك برضاها، ثم نزل عليها دم الحيض في نفس اليوم، فهل تجب عليها الكفارة أو تسقط. في ذلك خلاف بين العلماء فقيل: لا كفارة عليها. وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: تجب عليها الكفارة. وهو مذهب المالكية (¬3)، ¬

_ (¬1) الاختيار لتعليل المختار (1/ 131)، شرح فتح القدير (1/ 337). المبسوط (3/ 75). (¬2) قال النووي في روضة الطالبين (1/ 379): "ولو طرأ جنون أو موت أو حيض، فقولان: أظهرهما السقوط. والمسألة في الحيض مفرعة على أن المرأة إذا افطرت بالجماع لزمتها الكفارة. وانظر المجموع (6/ 340). (¬3) قال في الخرشي (2/ 257) "ومنها من عادته أن تأتيه الحمى في كل ثلاثة أيام، أو في كل أربعة أيام مثلاً، فأصبح في اليوم الذي تأتيه فيه مفطراً, ثم أن الحمى أتته في ذلك اليوم الذي أفطر فيه فالمشهور أن عليه الكفارة، ولا يعذر في ذلك، ومثله من عادتها الحيض في يوم معين، فأصبحت في ذلك اليوم طاهرة، فأفطرته، ثم جاءها الحيض في بقية ذلك اليوم، أي فعليها الكفارة. الخ كلامه. والمالكية يوجبون الكفارة على من أفطر عامداً من غير جماع، فإذا كانت الكفارة تجب على امرأة غلب على ظنها أنها تحيض في ذلك اليوم، فأفطرت قبل نزوله، وجبت عليها الكفارة، فوجوبه على امرأة جامعت زوجها وهي صائمة، ولا تتحرى الحيض، ثم حاضت، وجوبه في هذه الصورة أولى. والله أعلم وانظر حاشية الدسوقي (1/ 532) ويستثنون في في

دليل الحنفية على سقوط الكفارة.

والحنابلة (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، واختاره زفر من الحنفية (¬3) دليل الحنفية على سقوط الكفارة. قالوا: الحيض ينافي الصوم، وصوم واحد لا يتجزأ، فتقرر المنافي في آخره يمكن شبهة المنافاة في أوله (¬4). فلما خرج هذا اليوم عن كونه مستحقاً، فلم يجب بالوطء فيه كفارة، كصوم المسافر، أو كما لو قامت البينة على أنه من شوال (¬5). دليل الجمهور على وجوب الكفارة. قال ابن قدامة: أنه معنى - يعني الحيض - طرأ بعد وجوب الكفارة فلم يسقطها كالسفر، ولأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تام، فاستقرت الكفارة عليه، كما لو لم يطرأ عذر (¬6). ¬

_ وجوب الكفارة امرأة أفطرت في الجماع، ثم تبين أنه يوم عيد، أو أفطرت، ثم تبين لها أن الحيض أتاها قبل فطرها، فهنا لا يوجبون الكفارة في هذه الصورة. وانظر أسهل المدارك (1/ 261). (¬1) كشاف القناع (2/ 326) قال: "ولو جامع - وهو صحيح - ثم جن أو مرض أو حاضت المرأة أو نفست المرأة بعد وطئها لم تسقط الكفارة" (¬2) روضة الطالبين (1/ 379). (¬3) المبسوط (3/ 75). (¬4) الأوسط (3/ 76). (¬5) المغني (4/ 378). (¬6) المغني (4/ 378).

وأجاب ابن قدامة عن القياس على المسافر ومن تبين أنه في شوال بقوله: "والوطء في صوم المسافر ممنوع، وإن سلم فالوطء لم يوجب أصلاً، لأنه وطء مباح في سفر أبيح الفطر فيه، بخلاف مسألتنا، وكذا إذا تبين أنه من شوال، فإن الوطء غير موجب؛ لأنا تبينا أن الوطء لم يصادف رمضان، والموجب إنما هو الوطء المفسد لصوم رمضان" (¬1). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ونفس الصفحة.

الفصل الرابع: في أحكام الحائض من حيث المسجد

الفصل الرابع: في أحكام الحائض من حيث المسجد المبحث الأول: في خلاف العلماء في المكث في المسجد فقيل: لا يجوز للحائض المكث فيه. وهو مذهب أبي حنيفة (¬1)، ومالك (¬2)، والشافعي (¬3)، وأحمد (¬4). وقيل: يجوز للحائض المكث فيه. وهو مذهب داود وابن حزم (¬5) واختيار المزني (¬6). أدلة الجمهور القائلين بالمنع. الدليل الأول: (297) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا موسى ابن إسماعيل، قال: حدثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد، ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 205) , شرح فتح القدير (1/ 165)، البناية (1/ 636)، تبيين الحقائق (1/ 56). (¬2) التفريع لابن الجلاب (1/ 206)، المعونة (1/ 186)، منح الجليل (1/ 174)، حاشية الدسوقي (1/ 174, 173)، مواهب الجليل (1/ 347)، الشرح الصغير (1/ 312). (¬3) المهذب (1/ 45)، المجموع (2/ 156)، الوسيط الغزالي (1/ 413)، مغني المحتاج (1/ 109)، الحاوي الكبير (1/ 384). (¬4) المغني (1/ 200)، كشاف القناع (1/ 197)، المبدع (1/ 260). (¬5) المحلى (مسألة 262). (¬6) المجموع (2/ 160).

عن أم عطية، قالت: أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين، وذوات الخدور فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحيض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الحيض، أن يعتزلن المصلى والمراد به مكان الصلاة، فهذا نص في منع الحائض من الدخول في المسجد. ورد عليهم بأقوال منها: قيل: إن الأمر باعتزال الحيض المصلى ليس للوجوب، بل هو للندب، لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الحيَّض من دخوله، ونسب ابن حجر هذا القول للجمهور (¬2). والأصل أن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باعتزال الحائض المصلى للوجوب، ولا يصرف للندب إلا لقرينة، وأما قولهم إن مصلى العيد ليس بمسجد فهذه مسألة محل نزاع (¬3) ولا يكفي هذا صارفاً للأمر من الوجوب إلى الندب. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (351)، رواه مسلم (890). (¬2) الفتح (324). (¬3) قال ابن رجب في شرحه للبخاري (2/ 141): "قد قيل: بأن مصلى العيدين مسجد، فلا يجوز للحائض المكث فيه، وهو ظاهر كلام بعض أصحابنا، منهم ابن أبي موسى في شرح الخرقي، وهو أيضاً أحد الوجهين للشافعية". ثم قال أيضاً: "وقيل: إن المصلى يكون له حكم المساجد في يوم العيدين خاصة، في

وقيل: إن اعتزال الحيَّض المصلى إنما هو حال الصلاة ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن ثم يختلطن بهن، ورجحه ابن رجب (¬1). وهذا الافتراض لا دليل عليه من اللفظ، فإن الأمر باعتزال المصلى مطلق وليس مقيداً بحال الصلاة، وتقييد ما أطلقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز إلا بدليل. وقيل: المراد بالمصلى هنا الصلاة نفسها لدليلين: (298) الأول: أن مسلماً أخرجه (¬2) حدثنا عمرو الناقد، حدثنا عيسى ابن يونس، حدثنا هشام، عن حفصة بنت سيرين: عن أم عطية قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق، والحيَّض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين. قالت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب. قال: لتلبسها أختها من جلبابها (¬3). ¬

_ حال اجتماع الناس فيه دون غيره من الأوقات ... " الخ كلامه رحمه الله. (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 142). (¬2) صحيح مسلم (12 - 890). (¬3) الحديث رواه محمد بن سيرين وحفصة بنت سيرين عن أم عطية: فقد رواه أيوب كما في البخاري (974, 324) ومسلم (10 - 890)، ويزيد بن إبراهيم كما عند البخاري (351)، وابن عون كما في البخاري (981) ثلاثتهم عن محمد بن سيرين عن أم عطية بالأمر باعتزال المصلى. لم يختلف على محمد في ذكر المصلى. وروته حفصة عن أم عطية، واختلف على حفصة في لفظه .. فرواه عنها أيوب كما في

فقال: "يعتزلن الصلاة"، فعلم أن المراد باعتزال المصلى، الصلاة نفسها. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يصلون بالفضاء، وليس بالمسجد، فإذا طلب منهن اعتزال المصلى علم أن المراد الصلاة. وحتى لا يقطع الحيَّض صفوف الطاهرات، طلب منهن أن يكن خلف الصفوف. (299) فقد رواه البخاري، من طريق عاصم الأحول عن حفصه، عن أم عطية قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى نخرج البكر من خدرها، حتى نخرج الحيض فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. هذا لفظ البخاري، وأخرجه مسلم عدا قوله: "يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته" فقد انفرد بها البخاري (¬1). وكون الحيض خلف الناس لا يلزم منه أن يكن خارج المصلى. والحقيقة أن هذا الحديث محتمل، فيحتمل أن الأمر باعتزال المصلى المقصود به الصلاة ... كما ورد عند مسلم. ¬

_ البخاري (980) بالأمر باعتزال المصلى كما هي رواية محمد بن سيرين. ورواه عاصم الأحول عنها، كما في البخاري (97)، ومسلم (890) وفيه: "أن يكن خلف الناس". ورواه هشام، عن حفصة بالأمر باعتزال الصلاة كما في رواية مسلم (890) والله أعلم. (¬1) صحيح البخاري (971) ومسلم (11/ 890).

الدليل الثاني

ويحتمل أن النهي عن الصلاة المراد به المصلى، ومع الاحتمال لا يكون الدليل نصاً صريحاً في المطلوب، والدليل إذا ورد عليه الاحتمال بطل به الاستدلال فيطلب المنع من دليل آخر. الدليل الثاني: (300) ما رواه أبو داود (¬1) , قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبد الواحد ابن زياد قال: حدثنا أفلت بن خليفة، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة، قالت: سمعت عائشة تقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يضع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجهوا البيوت عن المسجد فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب. [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) سنن أبو داود (232). (¬2) إسناده ضعيف. قال البغوي في شرح السنة (2/ 46): "ضعف أحمد هذا الحديث؛ لأنه راوية أفلت وهو مجهول". قلت: قد يكون ضعفه أحمد لسبب آخر، فقد قال أحمد في أفلت: ما أرى به بأساً. كما في الجرح والتعديل (2/ 346) رقم 1316. وضعفه ابن حزم بسبب "أفلت"، فقال في المحلى (2/ 186): "أفلت غير مشهور، ولا معروف بالثقة، وحديثه هذا باطل. قال ابن المنذر في الأوسط (2/ 110): "وحديث عائشة، وقد ذكرته في غير هذا الموضع، وهو غير ثابت، لأن أفلت مجهول، لا يجوز الاحتجاج بحديثه".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال الخطابي في معالم السنن (1/ 159): "ضعفوا هذا الحديث، وقالوا: أفلت راويه مجهول، لا يصح الاحتجاج بحديثه". والحق أن أفلت صدوق قد قال فيه أحمد: ما علمت. وقال الدارقطني: صالح. تهذيب الكمال (3/ 320)، تهذيب التهذيب (1/ 320). وقال أبو حاتم: شيخ. الجرح والتعديل (2/ 346). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات لابن حبان (6/ 88). وقال الذهبي: صدوق. الكاشف رقم (461). وكذا قال ابن حجر في التقريب. وفي الإسناد جسرة بنت دجاجة. قال العجلي: كوفية تابعية ثقة. ثقات العجلي (2/ 450). وذكرها ابن حبان في الثقات. الثقات (4/ 121). وهما متساهلان. وحسن حديثها ابن القطان الفاسي كما في بيان الوهم والإيهام (5/ 332). وقال البخاري: عند جسرة عجائب. التاريخ الكبير (2/ 76). قال القطان معلقاً على قول البخاري: لا يكفي - يعني قول البخاري - لمن يسقط ما روت. بيان الوهم والإيهام (5/ 331). قال ابن حجر في التهذيب: كأنه - يعني ابن القطان - يعرض بابن حزم؛ لأنه زعم أن حديثها باطل. تهذيب التهذيب (12/ 435). وقال الدارقطني: يعتبر بحديثها إلا أن يحدث عنها من يترك. نقله الاستاذ بشار من سؤالات البرقاني للدارقطني. انظر حاشية تهذيب الكمال (35/ 144). وقال عبد الحق الإشبيلي كما في بيان الوهم والإيهام (5/ 332) جسرة ليست بمشهورة وفي التقريب: مقبولة. يشير إلى أن حديثها فيه لين عند التفرد. ولا أعلم أحداً تابع جسرة. بل إنه قد اختلف عليها في هذا الحديث. فرواه أفلت بن خليفة، عن جسرة عن عائشة. وأخرجه ابن ماجه (645) من طريق أبي نعيم، ثنا ابن أبي غنية عن أبي الخطاب الهجري، عن محدوج الذهلي، عن جسرة قالت: أخبرتني أم سلمة قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرحة هذا المسجد، فنادى بأعلى صوته: إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض. ورواه ابن أبي حاتم في العلل (1/ 99) رقم 269 عن أبي زرعة، عن أبي نعيم به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وزاد: "إلا للنبي ولأزواجه، وعلي، وفاطمة بنت محمد". قال أبو زرعة: يقولون: عن جسرة عن أم سلمة، والصحيح عن عائشة. فقوله: "إلا للنبي، ولأزواجه، وعلي، وفاطمة" قد قال البخاري في تاريخه الكبير في ترجمة أفلت (1710) جسرة عندها عجائب. قال: وقال عروة، وعباد بن عبد الله عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:"سدوا هذه الأبواب إلا باب أبي بكر، وهذا أصح". قلت: قد أخرج البخاري (466) ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد وفيه: "لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر". ورواه البخاري (467) من حديث ابن عباس: "سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا خوخة أبي بكر" إلا أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مستثنى باعتباره إمام المسلمين، وآله تبع له في حياته، فلما انقضت مدته من الدنيا، وخرج مردعاً للناس أمر بسد الأبواب كلها إلى المسجد غير باب أبي بكر وهذا الجمع يقال لو صح الحديث لكن حديث جسرة لا يثبت. وقال ابن حزم: "أما محدوج فساقط يروي المعضلات عن جسرة، وأبو الخطاب الهجري مجهول". المحلى (مسألة 262). وذكره أبن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/ 434). وقال البخاري: فيه نظر. الكامل لابن عدي (6/ 444)، ميزان الاعتدال (3/ 443). وفي التقريب: مجهول. وقال ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 158) عن استثناء علي وفاطمة وأزواج محمد قال: "هذا الاستثناء باطل موضوع من زيادة بعض غلاة الشيعة، ولم يخرجه ابن ماجه في الحديث". قلت: استثناء علي ورد من حديث سعد بن مالك عند أحمد (1/ 175) والترمذي (3727) ومن حديث ابن عباس عند الترمذي (3732) وفيهما ضعف. وقال ابن رجب في شرح البخاري (1/ 321): روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا أحل المسجد لحائض ولا جنب "أخرجه أبو داود من حديث عائشة، وابن ماجه من حديث أم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ سلمة، وفي إسناديهما ضعف. وعلى تقدير صحة ذلك فهو محمول على اللبث في المسجد. وقال عبد الحق الإشبيلي كما في بيان الوهم والإيهام لابن القطان (5/ 327): "لا يثبت من قبل إسناده". وقال ابن رشد كما في بداية المجتهد المطبوع مع الهداية (2/ 31): "وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث". وقوى الحديث بعضهم. فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1327) وهذا ذهاب منه لتصحيح الحديث لأنه قد رسم كتابه بالصحيح، وحسن إسناده ابن القطان كما في كتاب الوهم والإيهام (5/ 332)، وتابعه الزيلعي في نصب الراية (1/ 194)، وحسنه ابن سيد الناس كما في الهداية في تخريج أحاديث البداية (2/ 31). والحق مع من ضعف الحديث، وعلة الحديث جسرة لم يوثقها معتبر والحمل عليها فيه. والله أعلم. تخريج الحديث. أما حديث عائشة: فقد أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1710) عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه أبو داود (232) عن مسدد كليهما عن عبد الواحد بن زياد، ثنا أفلت بن خليفة، حدثتني جسرة بنت دجاجة، قالت: سمعت عائشة تقول: "جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ... وذكرت الحديث". وأخرجه البيهقي (2/ 442) من طريق أبي داود به، وأخرجه ابن خزيمة (1327) من طريق معلى بن أسد، نا عبد الواحد بن زياد به. وأما حديث أم سلمة. فقد أخرجه ابن ماجه (645) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن يحيى، قالا: ثنا أبو نعيم، ثنا ابن أبي غنية، عن أبي الخطاب الهجري، عن محدوج الذهلي، عن جسرة، قالت: أخبرتني أم سلمة، قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى بأعلى صوته: "إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض". "وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (23/ 373) رقم 883: حدثنا علي بن عبد العزيز،

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (301) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نُفِست؟ قالت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري" ورواه مسلم (¬1). فحملوا منعها من الطواف من خوف المكث في المسجد فإنها ممنوعة منه عندهم لما قد يترتب على ذلك من تلويث المسجد. وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأن النهي صريح في المنع من الطواف، وهو أخص من المكث، فلو منعها من المكث لدخل في ذلك الطواف وليس العكس، ثم إن حمل النهي على المكث صرف للنهي عن ظاهره وحمل له على أمر لم يذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث. وتعطيل لما نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كانت علة النهي للحائض من الطواف خوف التلوث لأرشدها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستثفار كما أرشد إلى ذلك أسماء بنت عميس حيث ولدت في الميقات، ¬

_ ثنا أبو نعيم به وزاد في لفظه: "إلا للنبي وأزواجه وفاطمة بنت محمد وعلي، ألا بينت لكم أن تضلوا". وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 65) من طريق أبي نعيم: الفضل بن دكين به. (¬1) صحيح البخاري (305). رواه مسلم (120 - 1211).

(302) فقد روى مسلم من حديث جابر الطويل في حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه: خرجنا معه - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي (¬1). ولو كانت العلة خوف التلويث لما كان النهي عن الطواف حتى تغتسل الحائض، ولكان النهي يمتد إلى حين انقطاع دم الحيض. (303) فقد رواه مسلم بلفظ: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي" (¬2). ولو كانت العلة خوف التلويث لمنعت المستحاضة من دخول المسجد. (304) فقد روى البخاري، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا خالد بن عبد الله، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم (¬3). وقد يستدل بحديث عائشة على عكس قولهم، فيستدل به على جواز المكث في المسجد لأن قوله: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت". فيقال: إن الاستثناء معيار العموم، فلم يستثن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الطواف، ومعلوم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (147 - 1218). (¬2) صحيح مسلم (119 - 1211). (¬3) صحيح البخاري (309).

الدليل الرابع

أن الحاج يمكث في المسجد، ولو كان لا يحل لها لنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه. وبهذا الاستدلال قال ابن حزم، فقد قال: "لو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض لأخبر بذلك عليه السلام عائشة إذ حاضت فلم ينهها إلا عن الطواف في البيت، ومن الباطل المتيقن أن يكون لا يحل لها دخول المسجد فلا ينهاها عليه السلام عن ذلك، ويقتصر على منعها من الطواف" (¬1). وهذا الاستدلال فيه نظر، لأن استثناء الطواف من العموم السابق: "افعلي ما يفعل الحاج" فكأنه قال: افعلي جميع المناسك ما عدا الطواف، والمكث في المسجد ليس من الأعمال الخاصة بالمناسك، والله أعلم. الدليل الرابع: القياس على الجنب. فإذا كان الجنب ممنوعاً من المكث في المسجد كانت الحائض أولى؛ لأن حدث الحيض أغلظ؛ حيث تمنع من الصيام ولا يمنع الجنب من ذلك ولا تقضي الحائض الصلاة، والجنب مأمور بفعلها إذا تطهر. والدليل على منع الجنب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬2). (305) فقد روى عبد الرزاق (¬3)، قال: عن معمر، عن عبد الكريم ¬

_ (¬1) المحلى مسألة (262). (¬2) سورة النساء: 43. (¬3) المصنف (1613).

الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن ابن مسعود أنه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد مجتازاً ولا أعلمه إلا قال: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} (¬1). [وسنده منقطع أبو عبيدة لم يسمع من أبيه] (¬2). (306) وروى ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا أبو جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيل} قال: إلا وأنت مار فيه" (¬3). [سنده ضعيف] (¬4)، وقد ثبت عن ابن عباس في تفسير الآية خلاف هذا ¬

_ (¬1) سورة النساء: 43. (¬2) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن جرير الطبري (9554) وابن المنذر في الأوسط (2/ 107) والبيهقي (2/ 443). ورواه ابن أبي شيبة (1/ 135) رقم 1552: حدثنا شريك بن عبد الله، عن عبد الكريم عن أبي عبيدة من قوله ... ولم يذكر عن ابن مسعود، وهذا من سوء حفظ شريك. (¬3) الأوسط (2/ 106) ورواه الطبري في تفسيره (9555) من طريق عبد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي به. (¬4) فيه أبو جعفر وثقه بعضهم وتكلم فيه بعضهم من قبل حفظه، قال فيه أحمد: ليس بقوي في الحديث وقال مرة: صالح الحديث. وقال ابن معين: يكتب حديثه ولكنه يخطئ. وقال مرة: صالح. وقال أخرى: ثقة، وهو يغلط فيما يروي عن مغيرة. وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق سيئ الحفظ. وقال أبو زرعة: شيخ يهم كثيراً. وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ خصوصاً عن مغيرة. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/ 502) حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدشتكي، أخبرنا أبو جعفر به.

بسند صحيح عنه. (307) فقد روى ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن المثني، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن قتادة، عن أبي مجلز عن ابن عباس في قوله: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} قال: المسافر. وقال ابن المثنى: السفر (¬1). فهذا سند في غاية الصحة، ولا تضر عنعنة قتادة وقد جاء حديثه من طريق شعبة (¬2). وله شاهد من قول علي - رضي الله عنه -. (308) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله وزر عن علي {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} (¬3)، قال: المار الذي لا يجد الماء يتيمم ويصلي (¬4). ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (9537). (¬2) والأثر رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9541) من طريق هشام عن قتادة به. ورواه ابن أبى شيبة (1/ 144) رقم 1665، حدثنا وكيع، عن ابن أبي عروبة عن قتادة به. ومن طريق ابن أبي عروبة أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 108). وقال السيوطي في تفسيره (2/ 547): "وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس به. (¬3) سورة النساء: 43. (¬4) المصنف (1/ 144) رقم 1663.

ورواه ابن جرير الطبري (¬1)، وابن المنذر (¬2)، من طريق ابن أبي ليلى إلا أن ابن المنذر لم يذكر عباد بن عبد الله، وابن جرير رواه عن عباد أو عن زر. [وهذا الإسناد فيه ضعف منجبر] (¬3). وقد فسر قوله تعالى: {عَابِرِي سَبِيلٍ} بالمسافرين جماعة من التابعين، منهم مجاهد (¬4)، وعمرو بن دينار (¬5)، وسعيد بن جبير (¬6)، وسليمان بن موسى (¬7)، والحكم بن عتيبة (¬8)، ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (9539). (¬2) الأوسط (2/ 108). (¬3) لأن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى فيه ضعف من قبل حفظه، لكنه توبع، فقد أخرجه البيهقي (1/ 216) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله وليس هو المسعودي، عن المنهال ابن عمرو، عن زر ابن حبش، عن علي قال: أنزلت هذه الآية في المسافر {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} قال: إذا أجنب فلم يجد الماء تيمم وصلى حتى يدرك الماء، فإذا أدرك الماء اغتسل. وقال السيوطي في تفسيره (2/ 546): "أخرج الفريابي، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن علي في قوله {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} قال: نزلت هذه الآية في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي. (¬4) رواه عبد الرزاق (1615)، وابن جرير الطبري في تفسيره (9543)، (9544)، (9545)، (9546) من طرق عن مجاهد. (¬5) رواه عبد الرزاق (1614) بسند صحيح عنه. (¬6) رواه ابن جرير الطبرى في تفسيره (9540) بسند صحيح عنه. (¬7) رواه ابن أبي شيبة (1/ 145) رقم 1666 بسند صحيح عنه. (¬8) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9551) بسند صحيح عنه.

والحسن بن مسلم (¬1). وذهب عطاء (¬2)، والحسن (¬3)، وإبراهيم النخعي (¬4)، إلى أن معنى قوله: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} الجنب يمر في المسجد. وقد حكي عن ابن مسعود بسند منقطع، وعن ابن عباس بسند ضعيف، وسبق الكلام عليهما فتحصل في معنى الآية قولان: الأول: أن معنى قوله: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} أي لا يقرب الصلاة الجنب إلا أن يكون مسافراً فيتيمم ويصلي وهذا التفسير هو الثابت عن ابن عباس وعلي وجماعة من التابعين. الثاني: أن معنى قوله: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: لا تقرب موضع الصلاة وأنت جنب إلا أن تكون ماراً في المسجد غير ماكث فيه. وعليه فيكون معنى قوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} أي لا تقربوا مواضع الصلاة (¬5). ولكل قول عندي مرجح. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (1/ 144) رقم 1664 بسند صحيح، ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9547) من طريق شيخ ابن أبي شيبة. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (1/ 135) بسند رجاله ثقات وفيه عنعنة ابن جريج عن عطاء لكنه مكثر عن عطاء فلعلها تغتفر. (¬3) رواه ابن جرير الطبري (9559) بسند رجاله ثقات وفيه عنعنة قتادة، وهو مدلس مكثر. (¬4) رواه ابن أبي شيبة (1/ 135) رقم 1554 بسند صحيح. (¬5) انظر تفسير القرطبي (5/ 100)، تفسير مجاهد (1/ 158)، زاد المسير (2/ 90)، فتح القدير (1/ 469)، مشكل إعراب القرآن (1/ 198)، تفسير ابن كثير (1/ 503) ورجح أن

فأما ترجيح أن المراد به المجتاز، وليس المسافر، فيرجحه أن الله سبحانه وتعالى قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ...} الآية. فلو كان يقصد بقوله: إلا عابري سبيل هو المسافر، لم يكن لإعادة ذكره معنى. وأما ترجيح تفسير {عَابِرِي سَبِيلٍ} بالمسافر، فيكفي أنه تفسير اثنين من الصحابة رضي الله عنهما، ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، ولأنه لا يحتاج إلى تقدير في الآية، فمعنى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} على حقيقته وليس مواضع الصلاة كما فسرها أصحاب القول الأول ... وتفسير الصحابة أحب إلى نفسي وإن كان ¬

_ المراد بقوله "إلا عابري سبيل" أي المجتاز مراً. قال ابن كثير: "لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} معنى مفهوم". وانظر أحكام الجصاص (3/ 169) ورجح أن المراد به المسافر، قال:"وما رري عن علي وابن عباس في تأويله أن المراد المسافر الذى لا يجد الماء فيتيمم أولى من تأويل من تأوله على الاجتياز في المسجد؛ وذلك لأن قوله تعالى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} نهى عن فعل الصلاة في هذه الحال، لا عن المسجد؛ لأن ذلك حقيقة اللفظ، ومفهوم الخطاب، وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز بأن تجعل الصلاة عبارة عن موضعها، كما يسمى الشيء باسم غيره للمجاورة أو لأنه تسبب منه كقوله تعالى {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} يعني به مواضع الصلاة ومتى أمكننا استعمال اللفظ على حقيقته لم يجز صرف ذلك عن الحقيقة، وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة وهو قوله تعالى {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ".

الدليل الخامس

قد يبدو لفهمي القاصر خلاف المعنى. والله أعلم. وعلى القول بأن الجنب منهي عن المكث في المسجد، فقياس الحائض عليه ليس دليلاً مسلماً من كل وجه ... أولاً: لضعف القياس في مثل هذه الأمور. وثانياً: الجنب بيده أن يتطهر، ففي الآية حث له على الإسراع على التطهر أما الحائض فلا تملك أمرها. الدليل الخامس: (309) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام بن يوسف، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها يناولها رأسه. ورواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: قالوا لو كانت الحائض تدخل المسجد لما أحوجت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الفعل، ولبادرت إليه. وأجيب: بأن مثل هذا لا يلزم منه تحريم دخول الحائض، وقد يكون هذا الفعل من حسن معاملة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأهله، فلم يرغب في تكليفهم بالخروج من البيت. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2046)، ومسلم (297).

أدلة القائلين بجواز مكث الحائض في المسجد.

وقد تكون عائشة تعتقد أن المسجد ليس محلاً لغسل الرأس، وكان الترجيل معه غسل. (310)، كما روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يباشرني، وأنا حائض، وكان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف، فأغسله وأنا حائض. ولفظ مسلم: وهو مجاور - فأغسله وأنا حائض (¬1). وقد يكون في المسجد رجال أجانب، ولم يحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يطلعوا على ذلك، وغايته أنه فعل لا يرقى إلى تحريم دخول الحائض المسجد. أدلة القائلين بجواز مكث الحائض في المسجد. في الحقيقة أن أصحاب هذا القول ليسوا بحاجة إلى دليل؛ لأن المطالب بالدليل من منع ذلك. أما هؤلاء فيكفي أن يجيبوا عن أدلة القول الأول إجابة مقنعة، فإن فعلوا كفاهم دليلاً .. ومع ذلك فسوف نسوق بعض الأدلة التي ذكروها، وإن كان بعضها فيه نزاع كما سنرى. الدليل الأول: الأصل الحل، وبراءة الذمة، ولم يرد دليل صحيح صريح في منع الحائض من المكث في المسجد، ولا يجوز منع الحائض إلا بدليل صحيح سالم من ¬

_ (¬1) البخاري (2031) ومسلم (8/ 297).

الدليل الثاني

المعارضة ولم يصح في هذا الباب شيء. الدليل الثاني: (311) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عياش، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا حميد، عن بكر، عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: "لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت له: فقال: سبحان الله، يا أبا هريرة إن المؤمن لا ينجس. ورواه مسلم (¬1). وجه الشاهد منه، قوله: "إن المؤمن لا ينجس". فإذا كان المؤمن لا ينجس فالحائض والجنب ونحوهما أجسامهم طاهرة؛ لأنهم من جملة المؤمنين، والطاهر لا يمنع من دخول المسجد. والحقيقة أن قوله: "إن المؤمن لا ينجس" يحتمل أن المؤمن لا ينجس بالجنابة، لأنه معلوم أن المؤمن كغيره تلحقه النجاسة الحسية كما لو وقع عليه بول أو غائط، ودم الحيض مجمع على نجاسته. ويحتمل: "إن المؤمن لا ينجس" أي أن المؤمن طاهر بإيمانه فهي طهارة معنوية، كما أن المشرك نجس بشركه نجاسة معنوية، وإن كان بدنه طاهراً حساً. وعلى كلا الاحتمالين فلا يصلح هذا دليلاً في مسألتنا. الدليل الثالث: (312) ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد ¬

_ (¬1) البخاري (285)، ومسلم (371) واللفظ للبخاري.

الداروردي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة (¬1). [وهشام بن سعد وإن كان فيه كلام، إلا أن أبا داود قال فيه: أثبت الناس في زيد بن أسلم، وباقي رجاله ثقات إلا الداروردي فإنه صدوق فحديثه من قبيل الحسن وهو من رجال مسلم]. وقد اختلف على هشام بن سعد (¬2)، وعلى فرض صحته فإنه لا يدل على الوجوب. أولاً: لأنه حكاية فعل عن بعض أصحاب رسول الله، والفعل المجرد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب فكيف من غيره. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (2/ 313). (¬2) فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 135) 1557: حدثنا وكيع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال: كان الرجل منهم يجنب ثم يدخل المسجد فيحدث فيه" اهـ. ووكيع أثبت من الداروردي ولا مقارنة، وذكره عن زيد ولم يذكر عطاء بن يسار، كما لم يذكر وضوءاً، وروى حنبل بن إسحاق صاحب أحمد، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدثون في المسحد وهم على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنباً فيتوضأ، ثم يدخل المسجد فيتحدث". وهنا تابع أبو نعيم وكيعاً في عدم ذكر عطاء إلا أنه ذكر الوضوء. وكما ذكرت بأن ذلك حكاية فعل لا تدل على الوجوب. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره (2/ 313) بأن إسناده صحيح على شرط مسلم.

الدليل الرابع

ثانياً: لو صح وسلم في دلالته على الوجوب، فإن دلالته على منع الحائض من باب القياس، وهل يؤذن للحائض إذا توضأت أن تمكث في المسجد كالجنب، فإن قلت: لا تمكث هدمت القياس، وإن لم تمنع يبقى الفارق بين الجنابة والحيض. فالجنب يملك أن يرفع الجنابة، وبقاؤه جنباً من كسبه بخلاف الحائض. ثالثاً: على تفسير: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬1) بأن المقصود به المجتاز فإنه يعارض هذا الأثر، فإن الآية تضمنت نهي الجنب عن المكث في المسجد وجعلت غاية النهي هي الاغتسال، بينما الأثر جعل غاية النهي الوضوء. رابعاً: أن الأثر لم يحك عنهم أن هذا الفعل منهم كان زمن التشريع، بل صريح في أن زيد بن أسلم رآهم، وهذا يدل على أنه كان ذلك بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحك عن عموم الصحابة حتى يكون حكاية للإجماع، فلا يصلح للاحتجاج. الدليل الرابع: (313) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وأبو كريب، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن ثابت ابن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخمرة من المسجد، ¬

_ (¬1) سورة النساء آية: 43

قالت: فقلت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك (¬1). وهذا الحديث لا دلالة فيه على المكث بكل حال، وإنما النزاع هل يدل على جواز المرور فيه لتناول حاجة في المسجد أم لا؟ فمن منع المكث له أن يقول: ليس فيه إلا جواز المرور، ومع ذلك دلالته على جواز المرور فيها نزاع؛ لأن العلماء قد اختلفوا في معناه على قولين أو ثلاثة ولكل وجهة. والحديث محتمل، ومع الاحتمال لا يصح الاستدلال. وإليك الأقوال في معنى الحديث. فقيل: إن الخمرة هي التي كانت في المسجد وأخذوا الحديث بظاهره. (314) واستدلوا لقولهم بما أخرجه أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منبوذ، عن أمه، قالت: كنت عند ميمونة فأتاها ابن عباس، فقالت: يا بني، مالك شعثاً رأسك؟ قال: أم عمار مرجلتي حائض. قالت: أي بني وأين الحيضة من اليد؟ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على إحدانا وهي حائض، فيضع رأسه في حجرها، فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض. أي بني وأين الحيضة من اليد؟ (¬2). [وإسناده ضعيف] (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (11/ 298). (¬2) المسند (6/ 331). (¬3) منبوذ، قال عنه الحافظ في التقريب: مقبول. فلم يصب.

وعلى هذا القول يكون معنى: "إن حيضتك ليست في يدك" تحتمل معنين: الأول: أن حيضتك في تقدير الله سبحانه وتعالى، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: "إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم". المعنى الثاني: أن يدك هي التي سوف تباشر الخمرة، ويدك طاهرة، فليست الحيضة في اليد. القول الثاني في معنى الحديث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - طلب أن تناوله الخمرة وهو في المسجد وعائشة حائض، فيكون معنى ناوليني الخمرة من المسجد أي من قبل المسجد كما تقول: اعطني الثوب من النافذة أي من جهة النافذة. فقد نقل النووي عن عياض، قال: "معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها ذلك من المسجد: أي وهو في المسجد، لتناوله إياها من خارج المسجد، لا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تخرجها له من المسجد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في المسجد معتكفاً، وكانت عائشة في حجرتها وهي حائض، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن حيضتك ليست في يدك" فإنها خافت من إدخال يدها في المسجد، ولو كان أمرها بدخول المسجد لم يكن لتخصيص اليد معنى" (¬1). ¬

_ قال ابن معين: ثقة. الجرح والتعديل (8/ 418)، وتهذيب التهذيب (10/ 213). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (7/ 524). وقال الذهبي: ثقة. الكاشف (5624). ومثل هذا لايقال له مقبول: أي لين الحديث إذا انفرد، لكن علة الإسناد أم منبوذ، حيث لم يرو عنها إلا ابنها منبوذ، ولم يوثقها أحد فهي مجهولة. (¬1) شرح النووي لصحيح مسلم (1/ 596).

فعلى هذا يكون الحديث فيه إشارة لمنع الحائض من دخول المسجد إذا حملناه على هذا المعنى، بل يدل على منع المرور فيه فضلاً عن المكث. ويشهد لهذا التأويل، ما رواه مسلم في صحيحه. (315) قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، وأبو كامل، ومحمد بن حاتم كلهم عن يحيى بن سعيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم. عن أبي هريرة قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فقال: يا عائشة ناوليني الثوب "فقالت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك، فناولته. القول الثالث في معنى الحديث: قالوا: يحتمل الحديث "ناوليني الخمرة من المسجد" أي من المصلى، ولا يلزم أن يكون المصلى في المسجد، حتى الموضع الذي يصلي فيه من البيت يسمى مصلى، وهو مسجد، لأنه موضع للسجود. (316) ويشهد لهذا ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرزاق وابن بكر، قالا: أنا ابن جريج، قال: أخبرني منبوذ أن أمه أخبرته أنها بينا هي جالسة عند ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ دخل عليها ابن عباس، فقالت: مالك شعثاً؟ قال: أم عمار مرجلتي حائض. فقالت: أي بني، وأين الحيضة من اليد؟ لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل على إحدانا وهي متكئة حائض، قد علم أنها حائض، فيتكئ عليها، فيتلوا القرآن وهو متكئ عليها، أو يدخل عليها قاعدة وهي حائض فيتكئ في حجرها، ويتلو القرآن في حجرها وتقوم وهي حائض فتبسط له الخمرة في مصلاه. وقال ابن بكر: خمرته فيصلي عليها في بيتي،

الدليل الخامس

أي بني وأين الحيضة من اليد؟ (¬1). [وإسناده ضعيف، أم منبوذ مجهولة]. وإذا احتمل الحديث هذه الاحتمالات لم يصلح دليلاً، لا للمانعين، ولا للمجيزين. الدليل الخامس: (317) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها وكانت معهم، وفيه قصة، وفي آخر الحديث: فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت. قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش ... الحديث (¬2). وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها وقت حيضتها أن تعتزل المسجد وليس في الحديث أنها كانت عجوزاً، حتى يمكن أن تكون يائسة من المحيض. قال ابن رجب: "استدل بحديث عائشة طائفة من أهل الظاهر، على جواز مكث الحائض في المسجد؛ لأن المرأة لا تخلو من الحيض كل شهر غالباً. وفي ذلك نظر؛ لأنها قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزاً ¬

_ (¬1) المسند (6/ 334). (¬2) صحيح البخاري (439).

الدليل السادس

قد يئست من الحيض" (¬1). وقول ابن رجب: "قضية عين لا عموم لها"، يصح لو أنه كان هناك دليل صريح في منع الحائض من المكث في المسجد فيقال: إن هذه قضية عين لا يمكن أن تعارض ما صح في منع الحائض، أما ما لم يرد دليل صريح فالدليل هذا متوجه على جواز مكث الحائض في المسجد. والله أعلم. الدليل السادس: إذا كان المشرك يدخل المسجد، ويمكث فيه، ولا يبعد أن يكون جنباً، فالحائض أولى من المشرك. (318) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وقد اختصره البخاري (¬2). ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (3/ 254). (¬2) صحيح البخاري (462)، وقد رواه البخاري (3472) ومسلم (1764) بأطول من هذا.

وأجاب النووي على هذا الدليل بقوله: "القياس على المشرك جوابه من وجهين: الأول: أن الشرع فرق بينهما!! فقام دليل تحريم مكث الجنب، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس بعض المشركين في المسجد، فإذا فرق الشرع لم يجز التسوية. الثاني: أن الكافر لا يعتقد حرمة المسجد، فلا يكلف بها، بخلاف المسلم، وهذا كما أن الحربي لو أتلف على المسلم شيئاً لم يلزمه ضمانه، لأنه لم يلتزم الضمان بخلاف المسلم والذمي إذا أتلفا" (¬1). هذه أدلة كل فريق، والقائلون بجواز مكث الحائض في المسجد يكفيهم دليلاً أن معهم الأصل، وهو الحل، وبراءة الذمة، والقول بالتحريم فيه احتياط إلا أن أدلته محتملة، ولا يستطيع الباحث أن يجزم بتحريم المكث، فمن أراد الاحتياط فالاحتياط بابه واسع، والاحتياط في الاختيار للنفس غير الاحتياط في تحرير الأقوال، وبيان الأرجح والأقوى. فسلوك الاحتياط عند التحريم والتحليل للغير أن لا يتجرأ طالب العلم على تحريم شيء حتى يتبين له وجهه بما يستطيع به الجزم أو غلبة الظن بأن هذا حرام. قال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (¬2)، ولا يكفي أن يكون هذا القول قد ذهب إليه الجمهور، فإن الحق لا يعرف بالكثرة. ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 185). (¬2) النحل آية (116).

المبحث الثاني: في مرور الحائض في المسجد بلا مكث

المبحث الثاني: في مرور الحائض في المسجد بلا مكث اختلف العلماء فيما لو احتاجت المرأة إلى العبور في المسجد من دون أن تمكث فيه. فقيل: لا يجوز لها المرور مطلقاً سواء أمنت التلويث أم لا. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية اختاره إمام الحرمين (¬3). وقيل: يكره العبور، فإن كان لعذر لم يكره. وهو وجه في مذهب الشافعية، اختاره منهم ابن إسحاق المروزي والبندنيجي (¬4). وقيل: يجوز العبور إذا أمنت التلويث، فإن خافت التلويث منعت. وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وهذه الأقوال قبل أن ينقطع دم الحيض، أما إذا انقطع دم الحيض وقبل ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق (1/ 56)، المبسوط (3/ 153)، البحر الرائق (1/ 205)، شرح فتح القدير (1/ 165)، البناية (1/ 636)، مراقي الفلاح (ص 58). (¬2) القوانين الفقهية (ص 31)، الشرح الصغير (1/ 215)، حاشية الدسوقي (1/ 173، 174) الخرشي (1/ 209)، منح الجليل (1/ 174). (¬3) المجموع (2/ 388). (¬4) مغني المحتاج (1/ 109)، نهاية المحتاج (1/ 327، 328)، المجموع (2/ 389).

أدلة القائلين بتحريم مرور الحائض في المسجد.

الاغتسال. فالشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) يجيزون عبورها. وأجاز الحنابلة لبثها في المسجد إذا توضأت كالجنب عندهم، لأن الوضوء يخفف الحدث فيزول بعض ما يمنعه، ومسألة اللبث في المسجد سبق مناقشتها، فحصل من هذه الأقوال أن المسألة كالتالي: المنع مطلقاً، والجواز مطلقاً، والجواز بشرط انقطاع الدم، والكراهة من العبور لغير حاجة، وجواز لبثها في المسجد إذا انقطع دم الحيض بشرط الوضوء. أدلة القائلين بتحريم مرور الحائض في المسجد. استدلوا بالأدلة التي ذكرناها لهم في تحريم مكث الحائض في المسجد، فإذا حرم المكث عندهم حرم المرور فيه، لأن المرور نوع من المكث، ولأنهم لحظوا في تحريم المكث تحريم دخول الحائض المسجد، فإذا كان دخول المسجد محرماً على الحائض كان المكث والمرور ممنوعين على الحائض. وقد سقت أدلتهم في المسألة السابقة فلا داعي لإعادتها. أدلة القائلين بجواز مرور الحائض في المسجد. الدليل الأول: (319) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وأبو كريب، ثلاثتهم عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن ¬

_ (¬1) انظر المراجع السابقة. (¬2) تقدم أن المشهور من مذهب الحنابلة أنه يجوز العبور ولو لم ينقطع الدم بشرط أن تأمن التلويث.

الدليل الثاني

القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخمرة من المسجد. قالت، فقلت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك" (¬1). وقد ناقشت اختلاف العلماء في دلالة الحديث، وأن الحديث يحتمل المرور في المسجد، ويحتمل أن المراد بالمسجد المصلى الذي في المنزل، ويحتمل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي في المسجد، وأن عائشة كانت في البيت ومع الاحتمال لا يمكن الجزم بدلالة الحديث على المراد. انظر أدلة كل احتمال في أدلة المسألة السابقة. الدليل الثاني: استدلوا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}. فإذا صح للجنب أن يعبر المسجد جاز ذلك للحائض، وقد ناقشت دلالة الآية على المراد، واختلاف العلماء في تفسيرها. وقد ثبت عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب بأن المراد بعابري السبيل المسافرون إذا لم يجدوا الماء يتيممون، وهو قول جماعة من التابعين انظر المسألة التي قبل هذه. وعلى تسليم إباحة العبور للجنب يبقى هل يسلم لهم قياس الحائض عليه فإن حدث الحيض أغلظ من حدث الجنابة، فإن الحائض متلبسة بالحدث ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (11 - 298)

أدلة القائلين بالجواز إذا انقطع الدم وقبل الاغتسال.

وبالنجاسة، أما الجنب فهو محدث فقط، ولذا يصح صيام الجنب ولا يصح صيام الحائض. ومع ضعف الدليلين إلا أن هذا القول هو الصحيح، لأنه لم يرد دليل صحيح صريح في منع الحائض من المكث فضلاً عن العبور. أدلة القائلين بالجواز إذا انقطع الدم وقبل الاغتسال. لعل هؤلاء فهموا أن العلة في المنع هو خوف تلويث المسجد، فإذا انقطع الدم أصبحت الحائض عندهم بمنزلة الجنب فطهرت من النجاسة الحسية، وبقي الطهارة من الحدث، وإذا كان الجنب له أن يعبر المسجد، فالمرأة بعد انقطاع الدم لها ذلك قياساً عليه. أدلة القائلين بكراهة العبور. لعل سبب الكراهة عندهم. أولاً: اتخاذ المسجد طريقاً، والمساجد لم تبن لهذا. (320) ولذا روى مسلم، قال رحمه الله: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحاق ابن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك، وهو عم إسحاق، قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إن هذه

أدلة القائلين بجواز لبث الحائض في المسجد إذا انقطع دمها بشرط الوضوء.

المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن"، إشارة إلى أنها لم تبن لاتخاذها طرقاً. ثانياً: الاحتياط والخروج من خلاف العلماء، وإذا كان هناك حاجة للعبور ارتفعت الكراهة؛ لأنه معلوم أن الضرورة ترفع التحريم، والحاجة ترفع الكراهة. أدلة القائلين بجواز لبث الحائض في المسجد إذا انقطع دمها بشرط الوضوء. (321) استدلوا بما رواه سعيد بن منصور في سننه، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الداروردي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا للصلاة (¬2). وسبق تخريجه (¬3)، وقد ناقشت الاستدلال بهذا الحديث في أدلة المسألة التي قبل هذه فارجع إليها. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (100/ 285). (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 313). (¬3) انظر حديث رقم 312.

والراجح كما قلت سابقاً: جواز مكث الحائض وعبورها المسجد بشرط أن تأمن التلويث، لأن المساجد يجب صيانتها حتى من البصاق الطاهر فضلاً عن الدم النجس. والله أعلم.

المبحث الثالث: هل يصح الاعتكاف مع الحيض

المبحث الثالث: هل يصح الاعتكاف مع الحيض اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا يصح. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: يصح الاعتكاف مع الحيض. وهو اختيار ابن حزم (¬2). دليل من قال: لا يصح اعتكاف الحائض. الدليل الأول: الإجماع. قال ابن قدامة: "وإذا حاضت المرأة خرجت من المسجد، ثم قال: وأما خروجها من المسجد فلا خلاف فيه؛ لأن الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد، فهو كالجنابة، وآكد منه" (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 108)، شرح فتح القدير (2/ 400)، بداية المجتهد مع الهداية (5/ 264) الشرح الصغير (1/ 738, 728)، المقدمات - ابن رشد (1/ 257) واشترط لصحة الاعتكاف الصوم، ومعلوم أن الحائض لا تصوم، فلا يصح اعتكافها عندهم. وقال ابن عبد البر في الكافي (ص: 132): "والمرض والحيض إذا طرأ على المعتكف بنى على اعتكافه ساعة يصح المريض، وتطهر الحائض، ويرجع كل واحد منهما إلى مسجده ساعتئذ في ليل أو نهار" اهـ. وانظر روضة الطالبين - النووي (2/ 396)، المهذب (1/ 200)، المجموع (6/ 519، 520)، كشاف القناع (2/ 358) المغني (4/ 487). (¬2) المحلى (مسألة 634). (¬3) المغني (4/ 487). وانظر موسوعة الإجماع (1/ 120).

الدليل الثاني

وقال ابن رشد: "ولا خلاف فيما أحسب عندهم أن الحائض تبني" (¬1). والإجماع لا يثبت مع خلاف ابن حزم، ومن قبله داود الظاهري. الدليل الثاني: أن الاعتكاف عبادة من شرطها أن تكون في مسجد، والحائض ممنوعة من اللبث في المسجد. وقد بينت في مسألة مستقلة الخلاف في هذه المسألة، وبينت أن الراجح أن الحائض يجوز لها المكث فيه. والله أعلم. ثم إن مسألة أن يكون الاعتكاف من المرأة في مسجد ليست محل إجماع (¬2). ¬

_ (¬1) بداية المجتهد مع الهداية (5/ 264) ومعنى قوله "تبني" أن الحيض قطع الاعتكاف، ولكن بعد طهارتها ترجع وتبني على ما مضى من اعتكافها، ولو كان الحيض لا يقطع اعتكافها لما كان هناك حاجة إلى القول بالبناء. ولكن عبارته ليست صريحة بالإجماع، لأن قوله "عندهم" قد يقصد به عند الأئمة الأربعة. والله أعلم. (¬2) أما اعتكاف الرجل، فقد قال ابن قدامة في المغني (4/ 461) "ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد، إذا كان المعتكف رجلاً، لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافاً" اهـ. وقد ذكر ابن رشد في البداية (5/ 252) أن ابن لبابة ذهب إلى صحة الاعتكاف في غير المسجد مطلقاً للرجال والنساء. لأن قوله تعالى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد} ليس دليل خطاب، وإنما نهى عن المباشرة إذا كان الاعتكاف في المسجد، فأما إذا كان الاعتكاف في غير المسجد فله حكم آخر. وأما المرأة فقد اختلفوا في اشتراط اعتكافها أن يكون في مسجد، فذهب الحنفية إلى جواز اعتكافها في غير مسجد، بل قالوا: إن مسجد بيتها أفضل لها، قال في بدائع الصنائع (2/ 113): "وأما المرأة فذكر في الأصل أنها لا تعتكف إلا في مسجد بيتها، ولا تعتكف في مسجد جماعة، وروى الحسن، عن أبي حنيفة أن للمرأة أن تعتكف في مسجد الجماعة، وإن

الدليل الثالث

الدليل الثالث: قالوا: إن من شرط الاعتكاف أن تكون المرأة صائمة، والحائض ليس عليها صيام (¬1). (322) فقد روى أبو داود رحمه الله، قال: حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد، عن عبد الرحمن يعني - ابن إسحاق - عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. قال أبو داود غير عبد الرحمن لا يقول فيه: قالت: السنة. قال أبو داود جعله قول عائشة. [ضعيف مرفوعاً، ورجح البيهقي أن يكون من كلام الزهري أو عروة] (¬2). ¬

_ شاءت اعتكفت في مسجد بيتها، ومسجد بيتها أفضل لها من مسجد حيها" اهـ. وهذه مسألة تخص باب الاعتكاف، لكن أحببت أن أشير إلى أنها ليست محل وفاق، وإن كان الراجح عندي وجوب كون الاعتكاف في مسجد. (¬1) وهو مذهب الحنفية والمالكية يشترطون الصوم للاعتكاف. انظر بدائع الصنائع (2/ 109) مختصر الطحاوي (ص 57)، المبسوط (3/ 115)، الهداية (1/ 132). بخلاف الشافعية والحنابلة فإنهم يصححون الاعتكاف ولو بدون صوم. انظر مغني المحتاج (1/ 449)، الوجيز (1/ 106)، مختصر المزني (ص: 60). (¬2) رواه أبو داود في السنن (2473)، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ (4/ 321)، وقال: قد ذهب كثير من الحفاظ إلى أن هذا الكلام من قول من دون عائشة وأن من أدرجه في الحديث وهم فيه، فقد رواه سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن عروة: قال المعتكف لا يشهد جنازة، ولا يعود مريضا، ولا يجيب دعوة ولا اعتكاف إلا بصيام ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. وعن ابن جريج، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أنه قال: المعتكف لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة. قلت: رواية ابن جريج عن الزهري، رواها الدارقطني (2/ 201) من طريق القاسم بن معن، ومن طريق حجاج، كلاهما، عن عبد الملك بن جريج، عن محمد بن شهاب، عن سعيد ابن المسيب، وعن عروة بن الزبير، عن عائشة أنها أخبرتاهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان، حتى توفاه الله، ثم اعتكفن أزواجه من بعده، وأن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان، ولا يتبع جنازة، ولا يعود مريضاً، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة، ويأمر من اعتكف أن يصوم. قال الدارقطني: يقال: إن قوله وإن السنة للمعتكف إلى آخره ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه من كلام الزهري، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم. اهـ وقد صرح ابن جريج بالتحديث في طريق حجاج. وقال البيهقي في المعرفة (6/ 395): وقد أخرج البخاري ومسلم صدر هذا الحديث - يعني حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ... الحديث. إلى قوله والسنة في المعتكف أن لا يخرج، ولم يخرجا الباقي لاختلاف الحفاظ فيه: فمنهم من زعم أنه من قول عائشة ومنهم: من زعم أنه من قول الزهرى، ويشبه أن يكون من قول من دون عائشة؛ فقد رواه سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن عروة، قال: المعتكف لا يشهد جنازة، ولا يعود مريضاً، ولا يجيب دعوة، ولا اعتكاف إلا بصيام، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. اهـ. وقال البيهقي: (4/ 319) "روى أبو بكر الحميدي، عن عبد العزيز بن محمد، عن أبي سهيل بن مالك: قال اجتمعت أنا ومحمد بن شهاب عند عمر بن عبد العزيز، وكان على امرأتي اعتكاف ثلاث في المسجد الحرام، فقال ابن شهاب: لا يكون اعتكاف إلا بصوم، فقال عمر بن عبد العزيز: أمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا. قال: فمن أبي بكر؟ قال: لا. قال: فمن عمر؟ قال: لا. قال: فمن عثمان؟ قال: لا. قال أبو سهيل: فانصرفت، فوجدت طاوسا

الشاهد من الحديث: قوله "ولا اعتكاف إلا بصوم"، والحديث لا حجة فيه مع ضعفه، وقد جاء في الصحيح ما يشهد لصحة الاعتكاف بدون صوم. (323) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى ابن سعيد، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال: فأوف بنذرك. ورواه مسلم (1). قال ابن قدامة: "لو كان الصوم شرطاً لما صح اعتكاف الليل؛ لأنه لا صيام فيه" (2). والراجح أن الليلة تطلق، ويراد بها اليوم، ويطلق اليوم وتدخل الليلة، ولذلك رواه مسلم، بلفظ اليوم. (324)، قال مسلم، حدثني أبو الطاهر أخبرنا، عبد الله بن وهب حدثنا جرير بن حازم، أن أيوب حدثه، أن نافعا حدثه، أن عبد الله بن عمر حدثه، أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة بعد أن رجع من ـــــــــــــــــــــــــ وعطاء فسألتهما عن ذلك فقال طاوس: كان ابن عباس لا يرى على المعتكف صياماً إلا أن يجعله على نفسه وقال عطاء ذلك رأي. هذا هو الصحيح موقوف، ورفعه وهم، وكذلك رواه عمرو بن زرارة، عن عبد العزيز موقوفاً، وهو فيما أنبأني أبو عبد الله إجازة، أن أبا الوليد أخبرهم، ثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه، ثنا عمرو بن زرارة، ثنا عبد العزيز، فذكره موقوفاً مختصراً، قال: فقال: كان ابن عباس لا يرى على المعتكف صوماً. وقال عطاء: ذلك رأي اهـ. قد ساقه البيهقي بإسناده مرفوعاً، وحكم بوهمه. وصحح الموقوف عن ابن عباس. (1) صحيح البخاري (2032)، ومسلم (1656). (2) المغني (4/ 460، 459).

دليل القائلين بصحة الاعتكاف مع الحيض.

الطائف، فقال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام، فكيف ترى. قال: اذهب فاعتكف يوما .... الحديث (¬1). وقال تعالى في سورة آل عمران: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلا رَمْزًا} (¬2). وقال سبحانه في مريم {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (¬3). لكن الدلالة من الحديث على عدم اشتراط الصوم، ليس في ذكر الليلة، ولكن كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكره لعمر، ولو كان الصوم شرطاً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وتأخير البيان عن وقته لا يجوز. والله أعلم. دليل القائلين بصحة الاعتكاف مع الحيض. الدليل الأول: لم يأت نهي من الشرع ينهى الحائض من الاعتكاف، أو ينهاها عن الدخول في المسجد، وإذا لم يأت نهي، وكان الاعتكاف مطلوباً شرعاً، كان الاعتكاف مشروعاً للحائض كغيرها، ومن منع الحائض فعليه الدليل. ولا دليل. قال ابن حزم: "وجائز للحائض والنفساء أن يتزوجا، وأن يدخلا المسجد، وكذلك الجنب؛ لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وقد قال الرسول ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1656). (¬2) آل عمران، آية: 41. (¬3) مريم، آية: 10.

الدليل الثاني

- صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن لا ينجس" اهـ (¬1). الدليل الثاني: (325) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة: قال: حدثنا يزيد ابن زريع، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة، قالت: اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي (¬2). وجه الاستدلال: أن الدم إذا كان لا يمنع المرأة المستحاضة من الاعتكاف، لم يمنع الحائض. الدليل الثالث: كل الأدلة التي ذكرتها في جواز دخول الحائض المسجد، هي دليل على صحة اعتكاف الحائض؛ لأن من منع عمدته إما المنع من دخول المسجد، وهو مرجوح، أو اشتراط الصيام لصحة الاعتكاف، وهو ضعيف. والراجح أن المرأة لا تمنع من الاعتكاف، وهي حائض، فإن حقيقة الاعتكاف مكث في مقام مخصوص، فلا يشترط فيه الطهارة من الحيض، كما لا يشترط فيه الصيام كما لو وقفت بعرفة، فإنه يصح وقوفها مع كونها حائضاً مفطرة غير صائمة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة 262). (¬2) صحيح البخاري (310).

الفرع الأول: إذا حاضت المرأة وهي معتكفة

الفرع الأول: إذا حاضت المرأة وهي معتكفة (*) أما الذين لا يشترطون الطهارة للاعتكاف، فهذا واضح أنها تمضي في اعتكافها، وأما على قول الجمهور الذين يشترطون الطهارة من الحيض، فقد اختلفوا في الواجب على المرأة في هذه الحالة. فقيل: ترجع إلى بيتها، فإذا طهرت رجعت وبنت على ما مضى وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: إن كان للمسجد رحبة استحب لها أن تخرج إليها، وتضرب خباءها فيها، وإن لم يكن فيه رحبة رجعت إلى بيتها، فإذا طهرت رجعت، فأتمت اعتكافها. وهذا مذهب الحنابلة (¬4). وقال إبراهيم النخعي: تضرب فسطاطها في دارها، فإذا طهرت قضت ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (2/ 400). (¬2) قال ابن عبد البر في الكافي (ص: 132): "والمرض والحيض إذا طرأ على المعتكف بنى على اعتكافه ساعة يصح المريض، وتطهر الحائض، ويرجع كل واحد منهما إلى مسجده ساعتئذ في ليل أو نهار" اهـ. (¬3) قال في روضة الطالبين (2/ 407): "إذا حاضت المرأة المعتكفة لزمها الخروج، وهل ينقطع تتابعها؟ إن كانت المدة طويلة لا تنفك عن الحيض غالباً، لم ينقطع، بل تبني إذا طهرت كالحيض في صوم الشهرين المتتابعين، وإن كانت تنفك، فقولان، وقيل: وجهان، أظهرهما: ينقطع". (¬4) المغني (4/ 487)، الإقناع (1/ 326، 325) (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم يذكر المؤلف فرعا آخر

دليل الجمهور على جواز خروجها إلى منزلها إذا حاضت.

تلك الأيام، وإن دخلت بيتاً أو سقفاً استأنفت (¬1). دليل الجمهور على جواز خروجها إلى منزلها إذا حاضت. قالوا: لما وجب عليها الخروج من المسجد، لم يلزمها الإقامة في رحبته، كالخارجة لعدة، أو خوف الفتنة. وناقش ذلك ابن قدامة، فقال: "وفارق المعتدة؛ فإن خروجها لتقيم في بيتها، وتعتد فيه، ولا يحصل ذلك مع الكون في الرحبة، وكذلك الخائفة من الفتنة، فلا تقيم في موضع لا تحصل السلامة بالإقامة فيه" (¬2). ويمكن أن يستدل لهم، بأنها حين منعت من المسجد، وعبادة الاعتكاف متعلقة بالمسجد، تساوى ما عداه من الأمكنة، فلا فضل للرحبة على غيرها. ولذلك لو نذرت اعتكافها في مكان له فضل على غيره تعين، كما لو نذرت الاعتكاف في المسجد الحرام، لم يجز اعتكافها في غيره. فإذا كان المكان لا فضل له على غيره لم يتعين. دليل من استحب أن تمكث في رحبة المسجد. (326) قال ابن قدامة: روى أبو حفص بإسناده، عن المقدام بن شريح، عن عائشة، قالت: كن المعتكفات إذا حضن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهن من المسجد، وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن. [لم أقف على إسناده] (¬3). ¬

_ (¬1) المغني (4/ 487). (¬2) المغني (4/ 487). (¬3) المغني (4/ 487)، ولم أقف على إسناده بعد البحث عنه.

الفصل الخامس: في أحكام الحائض من حيث المناسك

الفصل الخامس: في أحكام الحائض من حيث المناسك المبحث الأول: في إحرام الحائض والنفساء في الحج والعمرة يجوز للحائض والنفساء الإحرام بالحج والعمرة، ولا يمنع الحيض والنفاس من صحة الإحرام، والأدلة على ذلك ما يلي: الدليل الأول: الإجماع. فقد أجمع العلماء على صحة إحرام الحائض والنفساء، وأن الحيض والنفاس لا يمنع صحة الإحرام. وقد حكى الإجماع ابن عبد البر (¬1)، والنووي (¬2). الدليل الثاني: من السنة. (327) روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا، فقدمت مكة، وأنا حائض ولم ¬

_ (¬1) التمهيد (19/ 315). (¬2) شرح النووي لصحيح مسلم (8/ 187)، في باب إحرام النفساء، واستحباب اغتسالها للإحرام، وكذ الحائض.

أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: انقضي رأسك وامتشطي. وأهلي بالحج ودعي العمرة. ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك. قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً واحداً بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا (¬1). (328) ومنه ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، ومحمد بن رمح جميعا، عن الليث بن سعد. قال قتيبة: حدثنا ليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد، وأقبلت عائشة رضي الله تعالى عنها بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي. قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله تعالى عنها فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن. فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1556)، ومسلم (1211)، وقد ترجم البخاري للحديث بقوله: باب: كيف تهل الحائض، والنفساء. قال الحافظ: أي كيف تحرم.

الدليل الثالث

بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً، فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت. قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة (¬1). وجه الاستدلال من الحديثين: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأهلي بالحج" مع كونها حائضاً، فهذا دليل على صحة إحرام الحائض، ومثلها النفساء. الدليل الثالث: (329) ما رواه مسلم، قال: حدثنا هناد بن السري وزهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة كلهم، عن عبدة. قال زهير: حدثنا عبدة ابن سليمان عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهل (¬2). (330) ومنها حديث جابر، عند مسلم، قال: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعاً، عن حاتم. قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1213). (¬2) صحيح مسلم (1209).

الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب فقال: مرحبا بك يا ابن أخي، سل عما شئت، فسألته وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفاً بها كلما وضعها علي منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا. فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بيده فعقد تسعا، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي. [الحديث قطعة من حديث طويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1). والاستدلال بهذين الحديثين ظاهر على صحة إحرام النفساء. ¬

_ (¬1) مسلم (1218).

المبحث الثاني: خلاف العلماء في اشتراط الطهارة للطواف

المبحث الثاني: خلاف العلماء في اشتراط الطهارة للطواف اختلف العلماء في اشتراط الطهارة للطواف. فقيل: الطهارة من الحيض، بل ومن الحدث الأصغر شرط لصحة الطواف. وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: الطهارة من الحيض ومن الحدث الأصغر واجبة، ويصح الطواف بدونها، وتجبر بدم. وهو الراجح عند الحنفية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). وقيل: الطهارة واجبة من الحيض، سنة من الحدث الأصغر. وهو اختيار ابن تيمية (¬6). الأدلة على اشتراط الطهارة من الحيض والحدث الأصغر. الدليل الأول: (331) حدثنا أصبغ، عن ابن وهب، أخبرني عمرو، عن محمد ابن ¬

_ (¬1) المنتقى - الباجي (2/ 290)، مواهب الجليل (1/ 374) القوانين الفقهية - ابن جزي (ص 55)، الخرشي (2/ 314). (¬2) المجموع - النووي (8/ 17)، حاشية البيجوري (1/ 600). (¬3) انظر الإنصاف (4/ 16)، الفروع (1/ 261، 260)، المبدع (3/ 221). (¬4) البحر الرائق (1/ 203)، شرح فتح القدير (1/ 166)، بدائع الصنائع (2/ 129)، المبسوط (4/ 38). (¬5) المبدع (1/ 261). (¬6) مجموع الفتاوى (26/ 198)، وانظر أعلام الموقعين (3/ 34).

عبد الرحمن، ذكرت لعروة، قال: فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها: أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ، ثم طاف، ثم لم تكن عمرة. الحديث (¬1). وجه الاستدلال: أولاً: أن هذا الفعل امتثال لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2). ثانياً: قد روى مسلم في صحيحه، قال رحمه الله: (332) حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم جميعاً، عن عيسى بن يونس. قال ابن خشرم: أخبرنا عيسى، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمى على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (¬3). قال الشنقيطي: وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لطوافه، قد دل دليلان على أن الوضوء لازم لا بد منه. أحدهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: "خذوا عني مناسككم" وهذا الأمر للوجوب والتحتم، فلما توضأ للطواف لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالاً لأمره، في قوله - صلى الله عليه وسلم - "خذوا عني مناسككم" ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1614)، ومسلم (1235) وفي مسلم: قصة. (¬2) الحج آية (29). (¬3) صحيح مسلم (1297).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: أن فعله في الطواف من الوضوء له، ومن هيئته التي أتي به عليها كلها بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لبيان نص من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم، ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع؛ لأن قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - للسارق من الكوع، بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق، وإلى المنكب" (¬1). وقال النووي في شرحه لهذا الحديث: "لتأخذوا عني مناسككم" فهذه اللام لام الأمر، ومعناه: خذوا عني مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج، وصفته، وهي مناسككم فخذوها عني، واقبلوها واعملوا بها، وعلموها الناس، وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج (¬2). وأجيب عن هذا الدليل: أما كونه لما طاف توضأ، فهذا وحده لا يدل على الوجوب؛ فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة حتى ولو كان طاهراً، وتيمم لرد السلام، وقال: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر. وأما الجواب عن قوله: "لتأخذوا عني مناسككم". ¬

_ (¬1) أضواء البيان (5/ 203). (¬2) شرح النووي لصحيح مسلم (9/ 65) ح 1297.

الدليل الثاني

قال ابن القيم: "أن نفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا كان قد فعل فعلاً على وجه الاستحباب، فأوجبناه لم نكن قد أخذنا عنه وتأسينا به، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل في حجته أشياء كثيرة جداً لم يوجبها أحد من الفقهاء" اهـ (¬1). وعلى كل حال لا أرى الاستدلال بمثل هذا الأمر العام المشتمل على أحوال وهيئات، وصفات وأقوال، أحكامها مختلفة، لا أرى أن يستدل على وجوبها بهذا العموم. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" يدل على كونه مشروعاً، وأنه من أفعال المناسك، أما دلالته على الوجوب فيحتاج إلى دليل خاص، كما أن دلالته على الشرطية أو الركنية يحتاج إلى دليل خاص كذلك. فإذا كان ورود الأمر الخاص فيه نزاع في دلالته على الوجوب كما هو معلوم في أصول الفقه، فما بالك في حديث: "خذوا عني مناسككم" والذي يشمل جميع أفعال المناسك. الدليل الثاني: (333) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، قال: سمعت القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف حضت، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي. قال: ما لك أنفست؟ قلت: نعم. قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. ¬

_ (¬1) تهذيب السنن (1/ 53).

قالت: وضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن نسائه بالبقر. ورواه مسلم (¬1). وفي رواية لهما: فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري. وفي رواية لمسلم (حتى تغتسلي). وأجيب عن هذا الدليل: بأن الحائض إنما منعت من الطواف من أجل المكث في المسجد. (334) لما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد، حدثنا أيوب، عن محمد، عن أم عطية قالت: أمرنا تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور وأمر الحيَّض أن يعتزلن مصلى المسلمين. ورواه البخاري (¬2). قلت: التعليل بأن النهي من أجل المكث في المسجد ليس ظاهراً من الحديث، وصرف للفظ عن ظاهره، وكان من الممكن أن يقول - صلى الله عليه وسلم -: غير ألا تمكثي في المسجد، ولأن النهي عن المكث أعم من النهي عن الطواف، فلو نهى عن المكث لدخل فيه الطواف، بخلاف العكس، فحين نهى عن الطواف، وهو أخص من المكث لم يدخل المكث فيه، وهو ظاهر. ولو كان النهي من أجل صيانة المسجد خوفاً من التلوث لم يجعل النهي ممتداً حتى الاغتسال، كما في رواية مسلم: "حتى تغتسلي". لأن الحائض لا تغتسل إلا وقد انقطع دم الحيض، فلما جعل غاية النهي الاغتسال فلا يكفي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (294)، ومسلم (119 - 1211). (¬2) مسلم (890)، والبخاري (974).

الدليل الثالث

حتى ولو طهرت من الدم، ما دام أنها لم تتطهر. ولو كانت العلة صيانة المسجد لما أذن الشارع للمستحاضة في دخول المسجد والاعتكاف فيه مع خروج الدم، فعلم بهذا أن العلة ليست صيانة المسجد من التلويث. نعم الحديث لا يصلح دليلاً على اشتراط رفع الحدث الأصغر؛ لأن الحديث في الطهارة من الحيض، وهو من الحدث الأكبر، وبالتالي الحديث يبقى دليلاً على اشتراط الطهارة من الحيض فقط، وليس كل شيء اشترط له رفع الحدث الأكبر يلزم منه رفع الحدث الأصغر، فقراءة القرآن على مذهب الجمهور تجوز للمحدث حدثاً أصغر، ويمنع الجنب من القراءة عندهم، فليس بينهما تلازم. الدليل الثالث: (335) ما رواه البخاري، رحمه الله، قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، حدثني عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتهما، أن صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضت في حجة الوداع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحابستنا هي؟ فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله، وطافت بالبيت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلتنفر. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال من الحديث: وجه الاستدلال منه كالاستدلال بالحديث الذي قبله، والجواب عن ذلك هو الجواب عنه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4401)، ومسلم (382 - 1211)

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (336) ما رواه الترمذي، قال رحمه الله: حدثنا قتيبة، حدثنا، جرير عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير. قال أبو عيسى وقد روي هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفاً، ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء بن السائب. [إسناده ضعيف، والراجح وقفه على ابن عباس] (¬1). ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف؛ لأن جريراً متأخر السماع من عطاء بن السائب، وهو قد اختلط، إلا أنه لم ينفرد به، فقد تابعه الثوري، وقد اتفقوا على أنه سمع منه قبل الاختلاط. وقد اختلف على عطاء في هذا الحديث. فرواه عنه الثوري، وابن عيينة، وجرير، والفضيل بن عياض، وموسى بن أعين، كلهم عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس مرفوعاً. وخالفهم ابن فضيل، فرواه عن عطاء بن السائب به موقوفاً على ابن عباس، كما في مصنف ابن أبي شيبة، ولا شك أن الراجح من رواية عطاء بن السائب أنها مرفوعة، ولكن عطاء قد خالفه من هو أفضل منه، فرواه موقوفاً، وهو الراجح. وإليك الاختلاف على طاووس. الأولى رواية عطاء بن السائب، عن طاووس، وله طرق إلى عطاء. منها: جرير بن عبد الحميد، عن عطاء، وقد قدمت لك لفظه في المتن. رواها أبو يعلى في مسنده (2599)، وابن خزيمة (2739) والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 87) من طريق جرير، عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس مرفوعاً. ومنها الفضيل بن عياض، عن عطاء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أخرجه الدارمي (1847)، وابن الجارود في المنتقى (461)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 178، 179)، والبيهقي في الكبرى (5/ 85)، وابن حبان (3825) من طريق الفضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب به مرفوعاً. ومنها موسى بن أعين، عن عطاء. رواه الدارمي (1848)، وابن الجارود في المنتقى (461)، وابن عدي في الكامل (5/ 364) من طريق موسى بن أعين، عن عطاء به مرفوعاً. ومنها الثوري، عن عطاء بن السائب به مرفوعاً. رواه الحاكم في المستدرك (1/ 459) من طريق عبد الصمد بن حسان، عن الثوري، عن عطاء به مرفوعاً. ومنها سفيان بن عيينة، عن عطاء رواه الحاكم (1/ 459) من طريق الحميدي، عن سفيان - يعني ابن عيينة -، عن عطاء بن السائب به مرفوعاً. خالفهم كما سبق أن ذكرت، ابن فضيل، فرواه عن عطاء بن السائب به موقوفاً على ابن عباس. رواه ابن أبي شيبة (3/ 134) رقم 12806. ولا شك أن رواية الجماعة أولى من غيرهم، خاصة إذا علمنا أن الثوري قد روى عنه قبل الاختلاط. لكن الثوري قد اختلف عليه فيه. فقد رواه البيهقي (5/ 87) من طريق الحارث بن منصور، عن سفيان، عن عطاء به موقوفاً. ورواه عبد الصمد بن حسان، عن سفيان، عن عطاء بن السائب به مرفوعاً، وقد ذكرت من خرجها قبل قليل. فأيهما أرجح؟ عبد الصمد أم الحارث؟ إليك ترجمه كل واحد منهما حتى يتبين لك الأحفظ منهما. أما عبد الصمد بن حسان، قال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوق. الجرح والتعديل (6/ 51). وقال البخاري: كتبت عنه، وهو مقارب. تعجيل المنفعة (658). وقال ابن سعد: ثقة. الطبقات الكبرى (7/ 372). وقال ابن حجر: تركه أحمد بن حنبل، ولم يصح هذا. اللسان (4/ 20). وقال الذهبي: صدوق إن شاء الله. الميزان (2/ 620).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (8/ 415). وأما ترجمة الحارث بن منصور. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال يغرب. الثقات (8/ 182). ونسبه أبو نعيم إلى كثرة الوهم. تهذيب التهذيب (2/ 137). وقال ابن عدي: في حديثه اضطراب. الكامل (2/ 195). وقال أبو حاتم: نزل عليه الثوري، وهو صدوق. الجرح والتعديل (3/ 90). وفي التقريب: صدوق يهم. وقال الذهبي: ثقة. الكاشف. (1/ 305). فالذي يظهر أن الراويين، متقاربان، إلا أن الذي يرجح رواية الحارث، أن الحديث روي من غير طريق عطاء موقوفاً، وهو المحفوظ. والله أعلم ورجح ابن حجر الرواية الموقوفة، قال في التلخيص: "فإن أعتل عليه بأن عطاء بن السائب اختلط، ولا يقبل إلا رواية من رواه عنه قبل الاختلاط، أجيب بأن الحاكم أخرجه من رواية سفيان الثوري، عنه، والثوري ممن سمع منه قبل اختلاطه بالاتفاق، وإن كان الثوري قد اختلف عليه في رفعه ووقفه، فعلى طريقتهم تقدم رواية الرفع أيضاً، والحق أنه من رواية سفيان موقوف، ووهم من رفعه" اهـ هذا وقد خالف عطاء من هو أرجح منه، فرواه جماعة عن طاووس، عن ابن عباس موقوفاً كما سيتضح في الطرق التالية. الثاني ممن رواه عن طاووس: عبد الله بن طاووس، عن أبيه. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9789)، والبيهقي في الكبرى (5/ 87, 85)، وفي السنن الصغير (1/ 425) روياه عن عبد الله بن طاووس، عن طاووس، عن ابن عباس موقوفاً. الثالث: إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس به. بنحوه موقوفاً. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9790) عن ابن جريج، والنسائي في السنن الكبرى (2/ 406) من طريق أبي عوانة، والبيهقي في الكبرى من طريق ابن عيينة (5/ 87)، كلهم عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس، عن ابن عباس موقوفاً. واختلف فيه على إبراهيم بن ميسرة. فرواه ابن جريج، وأبو عوانة، وابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة به موقوفاً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وخالفهم محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، فرواه الطبراني (11/ 40، 341) من طريقه، عن إبراهيم بن ميسرة به مرفوعاً، ورفعه منكر؛ قال الحافظ في التلخيص (1/ 226): "رفعه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، وهو ضعيف". وقال البيهقي (5/ 87): "ورواه الباغندي، عن عبد الله بن عمران، مرفوعاً، ولم يصنع شيئاً، فقد رواه ابن جريج وأبو عوانة عن إبراهيم بن ميسرة موقوفاً". اهـ كلام البيهقي رحمه الله. الرابع: ليث بن أبي سليم، عن طاووس به مرفوعاً. أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 34) ح 10955، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 87) وهذا سند ضعيف من أجل ليث بن أبي سليم. الخامس: الحسن بن مسلم، عن طاووس به موقوفاً. أخرجه النسائي في المجتبى (2922)، وفي الكبرى (2/ 406). من طريق الحسن بن مسلم، عن طاووس، عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وذكره موقوفاً. والصحابي المبهم: هو ابن عباس. فتلخص لنا أن طاووس قد اختلف عليه في رفعه ووقفه، فرواه عنه ابنه عبد الله، وإبراهيم بن ميسرة، والحسن بن مسلم موقوفاً. ورواه عطاء بن السائب، وليث بن أبي سليم مرفوعاً، ولا شك أن رواية من رواه موقوفاً أرجح، وإليك تراجمهم لتقارن بينهم. أما عبد الله بن طاوس اليماني. فعن معمر قال: قال لي أيوب: إن كنت راحلاً إلى أحد فعليك بابن طاوس فهذا رحلتى. وفي التهذيب: فهذه رحلتي. التاريخ الكبير (5/ 323)، الجرح والتعديل (5/ 88)، تهذيب التهذيب (5/ 234). وعن عبد الرزاق أنا معمر قال: ما رأيت ابن فقيه مثل ابن طاوس. فقلت له: ولا هشام بن عروة؟ فقال حسبك بهشام بن عروة، ولكن لم أر مثل هذا وكان أعلم الناس بالعربية وأحسنهم خلقا. وفي التاريخ الكبير: قيل: فهشام بن عروة؟ قال: كان هذا أجمع. قال أبو حاتم: ثقة. التاريخ الكبير (5/ 323)، الجرح والتعديل (5/ 88).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال ابن حبان: كان من خيار عباد الله، فضلاً ونسكاً وديناً. الثقات (7/ 4). وقال النسائي والدارقطني: ثقة. تهذيب التهذيب (5/ 234). وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (2/ 39). وفي التقريب: ثقة فاضل عابد. الثاني: إبراهيم بن ميسرة. قال ابن عيينة: كان يحدث على اللفظ. وقال أيضاً: كان ثقة مأموناً من أوثق من رأيت، كما في راية ابن المديني عنه. التاريخ الكبير (1/ 328). وقال أيضاً: لم تر عيناك والله مثله، كما في رواية الحميدي عنه. تهذيب الكمال (2/ 221). الكاشف (212). وقال أيضاً: كان من أصدق الناس وأوثقهم، كما في رواية حامد البلخي عنه. الجرح والتعديل (2/ 133). ووثقه أحمد، ويحيى بن معين. الجرح والتعديل (2/ 133). وقال النسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (1/ 15). وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. الطبقات الكبرى (5/ 484). وقال ابن حبان: كان من المتقنين. مشاهير علماء الأمصار (1/ 87). وذكره أيضاً في الثقات. الثقات (4/ 14). الثالث: الحسن بن مسلم بن يناق. قال أبو داود: كان من العلماء بطاووس. تهذيب التهذيب (2/ 278). وقال يحيى بن معين: ثقة، كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (3/ 36). تهذيب التهذيب (3/ 36). وقال أبو زرعة: مكي ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث!!. الجرح والتعديل (3/ 36). وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (6/ 325). فهؤلاء الرواة رووه عن طاووس موقوفاً. وأما ترجمة من رواه مرفوعاً. فأولاً: عطاء بن السائب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ قال عبد الرحمن بن مهدى: ليث بن أبى سليم، وعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد ليث أحسنهم حالا عندي. الجرح والتعديل (6/ 332). قلت: وليث مشهور ضعفه. وقال أبو حاتم: محله الصدق قديماً قبل أن يختلط، صالح مستقيم الحديث، ثم بآخرة تغير حفظه، في حديثه تخاليط كثيرة، وقديم السماع من عطاء سفيان وشعبة، وحديث البصريين الذين يحدثون عنه تخاليط كثيرة؛ لأنه قدم عليهم في آخر عمره، وما روى عنه ابن فضيل ففيه غلط واضطراب رفع أشياء كان يرويه عن التابعين فرفعه إلى الصحابة. الجرح والتعديل (6/ 332). وقال ابن علية هو أضعف عندي من ليث. والليث ضعيف. الطبقات الكبرى (6/ 338). وقال يحيى بن معين: ليث بن أبي سليم ضعيف مثل عطاء بن السائب، وجميع من روى عن عطاء روى عنه في الاختلاط إلا شعبة وسفيان. الكامل لابن عدي (5/ 361). وقال شعبة: حدثنا عطاء بن السائب، وكان نسياً. تهذيب التهذيب (6/ 183). وقال يحيى بن سعيد القطان: ما سمعت أحداً من الناس يقول في عطاء بن السائب شيئاً قط في حديثه القديم، وما حدث سفيان وشعبة عن عطاء بن السائب صحيح إلا حديثين كان شعبة يقول سمعتهما بآخرة عن زاذان. الجرح والتعديل (6/ 332)، تهذيب الكمال (20/ 86) وانظر تاريخ البخاري الكبير (6/ 465) والضعفاء الصغير (276). قلت: لم يرو له مسلم، وروى له البخاري حديثاً واحداً متابعة. وفي التقريب: صدوق اختلط. فهل مثل هذا يقارب إبراهيم بن ميسرة، وعبد الله بن طاووس، وأحاديثهما في الكتب الستة، وتوثيقهما لا نزاع فيه، وهما من أخص أصحاب طاووس، أضف إلى ذلك أن عطاء بن السائب لم يرو عنه ممن اتفق على سماعه قبل الاختلاط إلا الثوري، وقد اختلف عليه في رفعه ووقفه، ورجح ابن حجر رواية من رواه عن سفيان موقوفاً. وأما ليث بن أبي سليم، فضعفه مشتهر، وقد سبقت ترجمته، وفي التقريب: صدوق اختلط جداً، ولم يتميز حديثه فترك. وعلى هذا يكون المحفوظ من رواية طاووس عن ابن عباس أنها موقوفة عليه. ومع مخالفة عطاء بن السائب لمن هو أوثق منه، فقد اختلف عليه اختلافاً كثيراً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فقيل: عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس. وقيل: عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، تارة موقوفاً، وتارة مرفوعاً. وقيل: عن عطاء بن السائب، عن طاووس، أو عكرمة، أو كلاهما عن ابن عباس. وهذا الاختلاف على عطاء مما يضعف روايته، ولا يعارض بها رواية الثقات عن طاووس. وإليك بيان هذا الاختلاف: روى الحاكم في المستدرك (2/ 267) من طريق الحسن بن موسى الأشيب، ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضى الله عنهما، قال: قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} البقرة: آية: 125 فالطواف قبل الصلاة. وهذا موقوف. خالفه الفضيل بن عياض، فرواه الحاكم (2/ 267) عنه، عن عطاء به مرفوعاً، بلفظ: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير "ورواية حماد بن سلمة الموقوفة أرجح كما بينا. ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 267, 266) من طريق مكرم البزاز، ثنا يزيد بن هارون أنبأ القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال الله تعالى لنبيه {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فالطواف قبل الصلاة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل فيه المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير". قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وإنما يعرف هذا الحديث عن عطاء ابن السائب، عن سعيد بن جبير. وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم، وإنما المشهور لحماد بن سلمة، عن عطاء. قلت: رواية حماد عن عطاء، عن سعيد قد اقتصرت على القدر الموقوف، فلم تذكر المرفوع كما مر. ولهذ رجح الحافظ أن يكون القدر المرفوع مدرجاً، فقال في التلخيص (1/ 277): فأوضح الطرق وأشملها رواية القاسم، عن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فإنها سالمة من الاضطراب، إلا أني أظن أن الرواية فيها إدارجاً". وقد ترجم الخطيب البغدادي في تاريخه لمن اسمه مكرم البزاز (13/ 221) إلا أن تاريخ

كما أن متنه شاهد على أنه ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالحديث يعتبر الطواف كالصلاة إلا في الكلام، وقد قال علماء الأصول: الاستثناء معيار العموم، بمعنى أنها تثبت للطواف جميع أحكام الصلاة إلا ما استثني، وعند التأمل نرى أنه يجوز بالطواف الأكل والشرب، وليس فيه تسليم، ولا دعاء استفتاح، ولا استقبال القبلة، ولا تجب له قراءة الفاتحة، وله أن يقطع طوافه لشهود صلاة الجنازة، أو لحضور الجماعة، ثم يبني على طوافه بخلاف الصلاة، ولا يحتاج فيه إلى تسوية صفوف، ولا تقديم الرجال على النساء، وله أن يطوف وهو عاري الكتفين، وبالتالي فهذه المخالفات تدل على أن الكلام ليس من ¬

_ وفاتهم يجعلني أشك أنه أحدهم. وأما رواية عطاء، عن عكرمة. فأخرجها عبد الرزاق في المصنف (9791) من طريق جعفر بن سليمان، عن عطاء بن السائب، عن طاووس أو عكرمة، أو كلاهما أن ابن عباس، قال: الطواف صلاة، ولكن قد أذن لكم بالكلام، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير". وزيادة عكرمة تفرد بها جعفر بن سليمان، ولم يُذْكَر فيمن روى عنه قبل الاختلاط، فالظن أن ذكر عكرمة ليس محفوظاً، والرواية أيضاً موقوفة، وليست مرفوعة. هذا ما يمكنني قوله في حديث ابن عباس، والراجح أنه موقوف على ابن عباس، وقد رجح كونه موقوفاً جمع من الأئمة. قال الحافظ في التلخيص (1/ 225): "رجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي" اهـ. وقال الترمذي رحمه الله (3/ 93): "روي هذا الحديث عن ابن طاووس وغيره، عن طاووس، عن ابن عباس موقوفاً، ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء بن السائب" اهـ. ورجح وقفه أيضاً ابن تيمية رحمه الله تعالى. مجموع الفتاوى (21/ 274) (26/ 126). وصحح وقفه ابن عبد الهادي كما في فيض القدير (4/ 293).

الرسول - صلى الله عليه وسلم - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1). وقد قال بعضهم: إن هذا الحديث على فرض صحته يشبه حديث أبي هريرة في الصحيح (337) فقد روى البخاري، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت أبا صالح يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة (¬2). والذي ينتظر الصلاة لا يلزمه ما يلزم المصلي، فله أن يأكل ويلتفت عن القبلة، وغيرها، فقد يكون الطواف صلاة من أجل أن الصلاة شرعت لإقامة ذكر الله، قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬3) والطواف إنما شرع لإقامة ذكر الله، وإن كانت الصلاة في اللغة: الدعاء، والطواف يدعو به الطائف ما شاء من أمور الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) النساء آية (82). (¬2) صحيح البخاري (647)، وهو في مسلم بغير هذا اللفظ (276 - 649). (¬3) سورة طه، آية (14).

وهذا الكلام ليس دقيقاً، لأن هناك فرقاً بين أن أقول الطواف كالصلاة في الأجر والمثوبة، وبين أن أقول: الطواف صلاة إلا في الكلام، فهذا واضح أن الحديث لم يتعرض للثواب، وإنما تعرض فيما يجب ويلزم ويمنع. قال الكاساني تعليقاً على حديث "الطواف بالبيت صلاة": يحمل على التشبيه كما في قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي كأمهاتهم، ومعناه أن الطواف كالصلاة إما في الثواب، أو في أصل الفرضية في طواف الزيارة؛ لأن كلام التشبيه لا عموم له فيحمل على المشابهة في بعض الوجوه، عملاً بالكتاب والسنة" اهـ (¬1). فإن قيل: أليس بعد الطواف صلاة ركعتين؟ والصلاة تشترط فيها الطهارة، من أجل هذا يلزمه أن يطوف متطهراً. فالجواب: قال ابن تيمية: "وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع، وإذا قدر وجوبهما لم تجب فيها الموالاة، وليس اتصالهما بالطواف بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة، ومعلوم أنه لو خطب محدثاً ثم توضأ وصلى الجمعة جاز، فلأن يجوز أن يطوف محدثاً، ثم يتوضأ، ويصلي الركعتين بطريق الأولى. وهذا كثيراً ما يبتلى به الإنسان إذا نسي الطهارة في الخطبة والطواف، فإنه ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 129)، وانظر المبسوط (4/ 38).

الدليل الخامس على اشتراط الطهارة.

يجوز له أن يتطهر ويصلي. وقد نص على أنه إذا خطب، وهو محدث جاز" (¬1). الدليل الخامس على اشتراط الطهارة. استدل بعضهم بقوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬2) وجه الاستدلال من وجهين: الأول: أن الطواف ذكر مع الصلاة، فإذا كانت الصلاة تشترط لها الطهارة، فكذلك الطواف. بل إن تقديم الطواف على الصلاة يدل على أن الطهارة فيه أولى. الوجه الثاني: إذا وجب تطهير مكان الطائف، فبدنه من باب أولى. وأجيب: بأن هذه الدلالة دلالة اقتران، وهي من أضعف الدلالات، ولا يلزم من اقترانهما اشتراكهما في الحكم. قال تعالى {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3). والأكل مباح، فهل إتيان حقه يوم حصاده تقولون: إنه مباح. ثم إنه قال ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (26/ 213). (¬2) سورة الحج آية (26). (¬3) سورة الأنعام آية (141).

الدليل السادس

في الآية الأخرى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬1). هل تقولون: إن المعتكف لا يصح اعتكافه إلا على طهارة؛ لأنه قرن بالصلاة، فإذا سقطت الدلالة من هذه الآية، سقطت من تلك. وكونه قدم الطواف على الصلاة ليس دليلاً على كونه أولى بالطهارة من الصلاة، فقد يكون قدم باعتبار أن الطواف أخص بالبيت من الصلاة، فالصلاة يصليها الإنسان في كل المساجد، بل في الأرض كلها. وأما الطواف فلا يطوف الإنسان إلا في هذا البيت، والله أعلم. وأما الأمر بتطهير المكان، فالمراد من الشرك، وهو نجاسة معنوية، ومن الخبث وهو نجاسة حسية، وأما المؤمن فإنه ليس بنجس، ولا ينجس بالحدث، ولا يمنع المحدث من دخول البيت، فليس مقصوداً في الآية. الدليل السادس: أن الطواف عبادة متعلقة بالبيت، فكانت الطهارة شرطاً فيها كالصلاة. قال ابن تيمية: وهذا القياس فاسد، فإنه يقال: لا نسلم أن العلة في الأصل كونها متعلقة بالبيت، ولم يذكروا دليلاً على ذلك، والقياس الصحيح ما بين فيه أن المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم أو دليل العلة. وأيضاً فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة، سواء تعلقت بالبيت أو لم تتعلق، ألا ترى أنهم لما كانوا يصلون إلى الصخرة كانت الطهارة أيضاً شرطاً ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (125).

دليل من قال الطهارة واجبة ويصح الطواف بدونها وتجبر بدم.

فيها، ولم تكن متعلقة بالبيت. وكذلك أيضاً إذا صلى إلى غير القبلة كما يصلي المتطوع في السفر، وكصلاة الخوف راكباً؛ فإن الطهارة شرط، وليست متعلقة بالبيت، حتى قال: ثم هناك عبادة من شرطها المسجد، ولم تكن الطهارة شرطاً فيها كالاعتكاف (¬1). دليل من قال الطهارة واجبة ويصح الطواف بدونها وتجبر بدم. استدلوا: على أن الطهارة واجبة بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالآية بالطواف، وهو اسم للدوران حول البيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، فاشتراط الطهارة في الطواف يكون زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس؛ لأن الركنية لا تثبت إلا بدليل قاطع، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد؛ لأنه يوجب العمل، ولا يوجب علم اليقين، والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين. وأصل الطواف ركن ثابت بالنص، والطهارة فيه تثبت بخبر الواحد، فيكون موجباً للعمل دون العلم، فلم تصر الطهارة ركناً، ولكنها واجبة، والدم يقوم مقام الواجبات في الحج (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (26/ 212). (¬2) سورة الحج: آية (29). (¬3) المبسوط - السرخسي (4/ 38).

أدلة القائلين بأن الطهارة من الحيض شرط ومن الحدث الأصغر سنة.

وهذا القول منهم ضعيف؛ لأن التفريق بين ما هو قطعي الدلالة، وما هو ظني الدلالة، والأول يصلح أن يكون دليلاً على الفرض، والثاني يكون دليلاً على الواجبات دون الشروط والأركان، والتفريق بين الواجب والفرض كل هذه الأمور مرجوحة لا تقوم على دليل صحيح، ولا يوافقهم فيها الجمهور. ثم الراجح من خبر الآحاد أنه يفيد العلم ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وتجويز الخطأ في خبر الآحاد تجويز عقلي، والأصل عدمه، ولو فتح الباب للتجويز العقلي لهدم الشرع، وهي لا تخرج عن أوهام ووساوس، لا تبنى على أسس، إنما بنيت على شفا جرف هار، وقد كان البلاغ في الرسالة يقوم على خبر الواحد، وهو أصل الشرع، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل الآحاد من الصحابة لتبليغ رسالته، وتقوم الحجة به، فغيره من باب أولى. وليس هذا مقام بسط الكلام بالاحتجاج بخبر الواحد. أدلة القائلين بأن الطهارة من الحيض شرط ومن الحدث الأصغر سنة. أما الدليل على كون الطهارة من الحيض شرطاً. فالإجماع. قال ابن عبد البر: الحائض لا تطوف بالبيت، وهو أمر مجتمع عليه، لا أعلم فيه خلافاً (¬1). وقال ابن رشد: "اتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء، وذكر الثالث منها، قال: والثالث: فيما أحسب الطواف" (¬2). ¬

_ (¬1) التمهيد (17/ 265). (¬2) بداية المجتهد مع الهداية (2/ 60, 59).

وأما الدليل على كون الطهارة من الحدث الأصغر سنة.

قال النووي: وقد أجمع العلماء على تحريم الطواف على الحائض والنفساء. وأجمعوا على أنه لا يصح منهما طواف مفروض ولا تطوع، وأجمعوا على أن الحائض والنفساء لا تمنع من شيء من مناسك الحج إلا الطواف وركعتيه، نقل الإجماع في هذا كله ابن جرير وغيره (¬1). وقال ابن تيمية: "وأما الذي لا أعلم فيه نزاعاً أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض، إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر، فما أعلم منازعاً أن ذلك يحرم عليها، وتأثم به (¬2). وقال ابن حزم: أما امتناع الصلاة والصوم والطواف والوطء في الفرج حال الحيض فإجماع متيقن مقطوع به، لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيه (¬3). وأما الدليل على كون الطهارة من الحدث الأصغر سنة. الدليل الأول: عدم الموجب للطهارة، والأصل براءة الذمة حتى يثبت الدليل الصحيح الصريح. قال ابن تيمية: "لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف مع العلم أنه قد حج معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 386). (¬2) مجموع الفتاوى (26/ 206). (¬3) المحلى (مسألة 254).

الدليل الثاني

عمراً متعددة، والناس معتمرون معه، فلو كان الوضوء فرضاً في الطواف لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاماً، ولو بينه لنقل ذلك المسلمون عنه، ولم يهملوه" (¬1). وقال ابن القيم: "لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المسلمين بالطهارة، لا في عمرته، ولا في حجته، مع كثرة من حج معه واعتمر، ويمتنع أن يكون ذلك واجباً ولا يبينه للأمة، وتأخير البيان عن وقته ممتنع" (¬2). قلت: وقد طاف مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجته خلق كثير، وكثير منهم حديث عهد بالإسلام، ومع ذلك لم يأمرهم بالطهارة، وقد ينتقض وضوء كثير منهم أثناء الطواف، ومع هذا الاحتمال القوي، لم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يلزمهم الطهارة في الطواف، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أنه يعلن أفعاله ليأخذ الناس مناسكهم فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشعر بأنه قد لا يحج العام القابل، وكان كما تنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: (338) ما رواه أحمد، قال رحمه الله: ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (¬3). [وهذا الحديث حسن، وابن عقيل مختلف فيه، والأكثر على ضعفه، وهذا الحديث من أحاديثه المقبولة، حيث يشهد له عمومات أخر، كحديث لا تقبل ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 273). (¬2) تهذيب السنن (1/ 53, 52). (¬3) المسند (1/ 123).

صلاة بغير طهور ونحوها، ويتقى من حديثه ما ينفرد به مما لا يوجد ما يعضده] (¬1). ¬

_ (¬1) في الإسناد: محمد بن عقيل، مختلف فيه. قال ابن حبان: كان عبد الله من سادات المسلمين من فقهاء أهل البيت وقرائهم إلا أنه كان رديء الحفظ، كان يحدث على التوهم فيجيء بالخبر على غير سننه فلما كثر ذلك في أخباره وجب مجانبتها والاحتجاج بضدها. المجروحين (2/ 3). قال أبو معمر القطيعي: كان ابن عيينة لا يحمد حفظ ابن عقيل. قال سفيان كان ابن عقيل في حفظه شيء فكرهت أن ألقيه. كما في رواية الحميدي عنه الجرح والتعديل (5/ 154) وقال يعقوب: ابن عقيل صدوق، وفي حديثه ضعف شديد جداً وكان ابن عيينة يقول: أربعة من قريش يترك حديثهم، فذكره فيهم. وقال ابن المديني عن ابن عيينة رأيته يحدث نفسه فحملته على أنه قد تغير. تهذيب التهذيب (6/ 13). تهذيب الكمال (16/ 78). سئل يحيى بن معين عن عبد الله بن محمد بن عقيل، فقال: ليس بذاك. كما في رواية أبي بكر ابن أبي خيثمة. قال مسلم بن الحجاج: قلت ليحيى بن معين: عبد الله بن محمد بن عقيل أحب إليك أو عاصم ابن عبيد الله؟ فقال: ما أحب واحداً منهما في الحديث. وقال أيضاً: عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف في كل أمره. كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (5/ 153). تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد الله بن محمد بن عقيل؟ فقال: لين الحديث ليس بالقوي، ولا ممن يحتج بحديثه يكتب حديثه وهو أحب إلى من تمام بن نجيح. الجرح والتعديل (5/ 153). وقال ابن المديني: كان ضعيفاً. كما في رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة. تهذيب الكمال (16/ 78)، تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال: أحمد منكر الحديث. كما في رواية حنبل عنه. المرجع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال النسائي: ضعيف. المرجع السابق. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه. المرجع السابق. وقال الخطيب: كان سيء الحفظ. المرجع السابق وقال عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سليمان: خير فاضل، ووصفه بالعبادة، وقال: إن كانوا يقولون فيه شيء ففي حفظه. الضعفاء الكبير - العقيلي (2/ 298). وقال أبو أحمد الحاكم: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يحتجان بحديثه، وليس بذاك المتين المعتمد. تهذيب الكمال (16/ 78)، تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال الترمذي: صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد ابن إسماعيل يقول: كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل، قال: محمد ابن إسماعيل: وهو مقارب الحديث. سنن الترمذي (1/ 9). وقال ابن عدي: روى عنه جماعة من المعروفين الثقات، وهو خير من ابن سمعان ويكتب حديثه. الكامل (4/ 127)، تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال ابن عبد البر: هو أوثق من كل من تكلم فيه. قال الحافظ: وهذا إفراط. تهذيب التهذيب (6/ 13). ولا أعلم أين ذكر ذلك ابن عبد البر، والموجود في التمهيد (20/ 125): "ليس بالحافظ". فعلى هذا الأكثر على تضعيفه، فابن عيينة، ويحيى بن معين، وابن خزيمة، وابن حبان، ويعقوب بن شيبة، وأبو حاتم الرازي، وابن المديني، والنسائي، والخطيب، كل هؤلاء تكلموا في حفظ ابن عقيل، ومن رفعه لم يرفعه إلى درجة الضبط، بل قال: مقارب الحديث. وله شاهد ضعيف من حديث أبي سعيد الخدري، يرقى بها الحديث إلى الحسن، والله أعلم. تخريج الحديث: أخرجه أحمد، عن وكيع كما في متن الباب، ومن طريق وكيع أخرجه كل من أبي يعلى في مسنده (616) وأبي داود (61، 618)، والترمذي (3) والبزار (633) والدارقطني (1/ 360). وأخرجه عبد الرزاق (2539)، عن الثوري. وأحمد (1/ 129) عن عبد الرحمن بن مهدي،. والدارمي (687)، والطحاوي (1/ 273) من طريق محمد بن يوسف الفريابي، والدارقطني (1/ 360) من طريق زيد بن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الحباب، ويزيد بن أبي حكيم، والبيهقي (2/ 15) من طريق أبى نعيم وأخرجه أيضاً (1/ 173) من طريق محمد بن كثير، كلهم عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل به. وأما حديث أبي سعيد الخدري، فقد أخرجه الترمذي (238)، قال رحمه الله: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا محمد بن الفضيل، عن أبي سفيان طريف السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، ولا صلاة لمن لم يقرأ بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وهذا إسناد ضعيف، فيه طريف السعدي، متفق على تضعيفه. قال أحمد: ليس بشيء، ولا يكتب عنه. الجرح والتعديل (4/ 492)، الضعفاء للعقيلي (2/ 229). وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال مرة: واهي الحديث. تهذيب التهذيب (5/ 11). وقال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين له (318). وقال مرة: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (5/ 11)، تهذيب الكمال (13/ 377). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، ليس بقوي. وقال عمرو بن علي: ما سمعت يحيى بن سعيد، ولا عبد الرحمن يحدثان عن أبي سفيان. الجرح والتعديل (4/ 492). وقال ابن حبان: كان شيخاً مغفلاً، يهم في الأخبار حتى يقلبها، ويروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات. المجروحين (1/ 381). وقال الدارقطني: ضعيف. الضعفاء والمتروكين له (308). وقال الذهبي: ضعفوه. الكاشف (2464). [تخريج الحديث] الحديث أخرجه ابن ماجه (276) من طريق علي بن مسهر، عن أبي سفيان طريف السعدي به. ورواه البيهقي (2/ 85) من طريق أبي معاوية عن أبي سفيان به. ورواه ابن حبان في المجروحين (1/ 381) من طريق أبى فضيل، عن أبي سفيان به. ورواه العقيلي في الضعفاء (2/ 229) من طريق مندل، عن أبي سفيان به. ووهم حسان بن إبراهيم الكرماني، حيث ظن أن أبا سفيان: هو أبو سفيان الثوري،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فرواه عنه عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، فأصبح الإسناد وكأنه صحيح. فقد رواه الحاكم (1/ 132) والبيهقي (2/ 380) من طريق حسان بن إبراهيم، عن أبي سفيان سعيد بن مسروق الثوري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، فذكره. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي. وقد نبه على وهم حسان بن إبراهيم بن حبان في المجروحين (1/ 380)، فقال: "وقد وهم حسان بن إبراهيم الكرماني في هذا الخبر، فتوهم حسان لما رأى أبا سفيان أنه والد الثوري، فحدث عن سعيد بن مسروق، ولم يضبطه. وليس لهذا الخبر إلا طريقان: أبو سفيان، عن نضرة، عن أبي سعيد. وابن عقيل، عن ابن الحنفية، عن علي. وابن عقيل قد تبرأنا من عهدته فيما بعد. اهـ. ونقل ابن حجر في التلخيص (1/ 390) نحوه عن ابن حبان، وأقره، ولم يتعقبه. وله شاهد من حديث جابر، عند أبي داود الطيالسي (1790)، قال رحمه الله: حدثنا سليمان بن معاذ الضبي، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مفتاح الصلاة الوضوء، ومفتاح الجنة الصلاة. ورواه أحمد (3/ 340) حدثنا حسين بن محمد، حدثنا سليمان بن قرم، عن أبي يحيى القتات به. وفي الإسناد: أبو يحيى القتات. قال أحمد: روى عنه إسرائيل أحاديث كثيرة مناكير جداً، وكان شريك يضعف يحيى القتات. تهذيب التهذيب (12/ 303). وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال ابن عدي: في حديثه بعض ما فيه، إلا أنه يكتب حديثه. الكامل - ابن عدي (3/ 237). وقال ابن معين: في حديثه ضعف. كما في رواية الدوري عنه. وقال أيضاً: ثقة، كما في رواية عثمان الدارمي، تهذيب الكمال (34/ 401). وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به. تهذيب التهذيب (12/ 303). وقال البزار: لا نعلم به بأساً. المرجع السابق. وفي التقريب: لين الحديث.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وفيه أيضاً: سليمان بن قرم. قال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (251). وقال ابن معين: ليس بشيء. الكامل (3/ 255). وقال ابن حبان: كان رافضياً، غالياً في الرفض، ويقلب الأخبار مع ذلك. المجروحين (1/ 332). وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالمتين. وقال أبو زرعة: ليس بذاك. الجرح والتعديل (4/ 136). وذكره الحاكم في باب من عيب على مسلم إخراج حديثهم، وقال: غمزوه بالغلو في التشيع، وسوء الحفظ جميعاً. تهذيب التهذيب (12/ 303). وذكر العقيلي حديث علي، وحديث أبي سعيد المتقدمين، وقال: إسنادين لينين، وهما أصلح من حديث سليمان بن قرم. ضعفاء العقيلي (2/ 136). وقال أحمد: لا أدري به بأساً، ولكن كان يفرط في التشيع. ضعفاء العقيلي (2/ 136). وقد أخرج الحديث مع أحمد، الترمذي (4)، والطبراني في الصغير (596) من طريق الحسين بن محمد، وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 255) من طريق عبد الصمد بن النعمان، كلاهما عن سليمان بن قرم به. وأخرجه البزار، كما في تلخيص الحبير (1/ 390) من طريق سليمان به. وضعفه الحافظ في التلخيص. وجاء من حديث ابن عباس، وهو ضعيف جداً. رواه الطبراني، قال رحمه الله: حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي، ثنا سليمان بن عبد الرحمن، ثنا سعدان بن يحيى، ثنا نافع مولى يوسف السلمي، عن عطاء، عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. وأخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 48) من طريق سعدان بن يحيى، عن نافع به. وفيه نافع مولى السلمي، أبو هرمز. قال يحيى بن معين: ليس بثقة، كذاب. كما في رواية ابن أبي مريم عنه. وقال أيضاً: ليس بشيء، كما في رواية أبي يعلي، والدوري عنه. الكامل (7/ 48)، والجرح والتعديل (8/ 455). وقال أيضاً: كان ضعيفًا، لا يكتب حديثه. كما في رواية محمد بن عثمان عنه. الضعفاء

وجه الدلالة: قال ابن تيمية: "في هذا الحديث دلالتان: إحداهما: أن الصلاة تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فما لم يكن تحريمه ¬

_ للعقيلي (4/ 286). وقال النسائي: ليس بثقة. الكامل (7/ 48)، لسان الميزان (6/ 146). وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، والضعف على روايته بين. الكامل (7/ 48). وقال الحافظ في التلخيص (1/ 391): متروك. وجاء من حديث عبد الله بن زيد، كما رواه الحارث في مسنده، كما في بغية الباحث (169)، قال الحارث: حدثنا محمد بن عمر، ثنا يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، عن أيوب بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة، عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: افتتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. ورواه الدارقطني (1/ 361) من طريق محمد بن عمر الواقدي به. وهذا أيضاً ضعيف جداً، في سنده: محمد بن عمر الواقدي، وهو متروك. ويشهد له أثر موقوف عن ابن مسعود، جاء عنه بسند صحيح، قال أبو نعيم في كتاب الصلاة، كما في تلخيص الحبير (1/ 391) حدثنا زهير، ثنا أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، فذكره بلفظ: "مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم". وهو في معجم الطبراني في الكبير (9271)، قال: حدثنا محمد بن النضر الأزدي، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم، وإذا سلمت فجعلت بك حاجة فانطلق قبل أن يقبل بوجهه. وعنعنة أبي إسحاق على القول بأنها علة زالت برواية البيهقي للأثر (1/ 173) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق؛ لأنه لا يحمل عنه إلا ما سمعه، لا ما دلسه. وقد صححه البيهقي، كما صححه الحافظ ابن حجر في التلخيص (1/ 391).

الدليل الثالث

التكبير وتحليله التسليم لم يكن من الصلاة. الثانية: أن هذه هي الصلاة التي مفتاحها الطهور، وكل صلاة مفتاحها الطهور، فتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فما لم يكن تحريمه التكبير وتحليله التسليم، فليس مفتاحه الطهور". وقال: "الطواف ليس له تحريم ولا تحليل، وإن كبر في أوله فكما يكبر على الصفا والمروة وعند رمي الجمار من غير أن يكون ذلك تحريماً، ولهذا يكبر كلما حاذى الركن. والصلاة لها تحريم؛ لأنه بتكبيرها يحرم على المصلي ما كان حلالاً له من الكلام، أو الأكل أو الضحك أو الشرب أو غير ذلك، فالطواف لا يحرم شيئاً، بل كل ما كان مباحاً قبل الطواف في المسجد، فهو مباح في الطواف، وإن كان قد يكره ذلك؛ لأنه يشغل عن مقصود الطواف". حتى قال: "ولا يعرف نزاع بين العلماء أن الطواف لا يبطل بالأكل والشرب والقهقهة، كما لا يبطل غيره من مناسك الحج بذلك، وكما لا يبطل الاعتكاف بذلك" (¬1). الدليل الثالث: قال ابن تيمية: "يثبت أيضاً أن الطهارة لا تجب لغير الصلاة، (339) لما ثبت في صحيح مسلم، من حديث ابن جريج، حدثنا سعيد بن الحارث، عن ابن عباس، ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 275).

الدليل الرابع

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب له طعام، فأكل، ولم يمس ماء. قال ابن جريج: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد ابن الحارث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم تتوضأ؟ قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. قال عمرو: سمعته من سعيد بن الحارث. اهـ (¬1). ثم قال: "ما أردت صلاة، فأتوضأ، يدل على أنه لم يجب عليه الوضوء إلا إذا أراد صلاة، وأن وضوءه لما سوى ذلك مستحب، وليس بواجب" اهـ. الدليل الرابع: وإن لم يكن بمنزلة الدليل، ولكنه من باب الاستئناس بأقوال بعض السلف المتقدمين، حيث يكون للإنسان إسوة بمن تقدم رحمهم الله رحمة واسعة. (340) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، قال: سألت حماداً ومنصوراً وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، فلم يروا به بأساً. [وهذا إسناد في غاية الصحة] (¬2). (341) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قال في المرأة تطوف ثلاثة أشواط، ثم تحيض، قال: يعتد به. ¬

_ (¬1) انظر الكلام على الحديث، من حيث الاختلاف في متنه في رقم (228). (¬2) المصنف (3/ 283) رقم 14349. وغندر من أثبت الناس في شعبة. ونقله ابن تيمية في الفتاوى (26/ 182) قال: "قال عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا سهل بن يوسف، أنبأ شعبة، عن حماد ومنصور، قالا: سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت، وهو غير متوضئ، فلم يريا به بأساً".

[وهذا إسناد حسن، إن سلم من تدليس مغيرة] (¬1). (342) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن عطاء، قال: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعداً، ثم حاضت أجزأ عنها (¬2). (343) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن عطاء، قال: تستقبل الطواف أحب إلي، وإن فعلت فلا بأس به. [حسن عن عطاء بمجموع الطريقين] (¬3). الراجح من هذه الأقوال أن الطهارة من الحيض شرط في صحة الطواف، وأما الطهارة من الحدث الأصغر فليست شرطاً فيه، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتساهل في هذه السنة خروجاً من الخلاف، خاصة أن الطهارة لا نزاع في مشروعيتها. والطواف ركن الحج والعمرة مقصود لذاته، وغيره من الأعمال تبع له. ¬

_ (¬1) المصنف (3/ 193) رقم 13426. (¬2) المصنف (3/ 193) رقم 13425. (¬3) المصنف (3/ 193) رقم 13428. قال الحافظ في الفتح (3/ 644) ح 1650 وذهب جمع من الكوفيين إلى عدم الاشتراط - يعني الطهارة في الطواف - قال ابن أبي شيبة حدثنا غندر حدثنا شعبة سألت الحكم وحماداً ومنصوراً وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة فلم يروا به بأسا، وروي عن عطاء: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعداً ثم حاضت أجزأ عنها، وفي هذا تعقب على النووي حيث قال في شرح المهذب: انفرد أبو حنيفة بأن الطهارة ليست بشرط في الطواف واختلف أصحابه في وجوبها وجبرانه بالدم إن فعله. اهـ قال الحافظ: ولم ينفردوا بذلك كما ترى فلعله أراد انفرادهم عن الأئمة الثلاثة لكن عند أحمد رواية أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم وعند المالكية قول يوافق هذا الحديث. اهـ كلام الحافظ رحمه الله.

المبحث الثالث: في المرأة إذا اضطرت للطواف وهي حائضة

المبحث الثالث: في المرأة إذا اضطرت للطواف وهي حائضة خلصنا من البحث السابق أن الطهارة من الحيض شرط لصحة الطواف كما أن الطهارة شرط لصحة الصلاة، وبقي أن نبحث فيما لو عجزت المرأة عن تحقيق هذا الشرط، بأن كانت لا تستطيع البقاء في مكة حتى تطهر، فهل يصح طوافها في مثل هذه الحال؟ أم لا يجوز لها الطواف؟ في هذه المسألة وقع خلاف بين العلماء: فقيل: لا يصح طوافها بحال. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: الطهارة من الحيض ليست بشرط، ولكنها واجبة تجبر بدم. وهو مذهب الحنفية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5)، واختلفوا في الدم هل هو شاة أم بدنة. فقيل بدنة، وهو مذهب الحنفية. وقيل شاة. وقيل: إذا عجزت عن الطهارة صح طوافها ولا يحتاج إلى جبران، وهو ¬

_ (¬1) مواهب الجليل (3/ 67)، المنتقى للباجي (2/ 290)، القوانين الفقهية (ص: 89). الخرشي (2/ 314)، المعونة (1/ 186)، حاشية الدسوقي (2/ 31). (¬2) الحاوي (1/ 384)، المهذب (1/ 228)، المجموع (8/ 17). (¬3) المغني (5/ 223)، كشاف القناع (2/ 485)، الفروع (3/ 502)، المبدع (3/ 221)، الإنصاف (4/ 16)، شرح الزركشي (3/ 195). (¬4) المبسوط - السرخسي (4/ 38)، بدائع الصنائع (2/ 129)، شرح فتح القدير (3/ 51) البحر الرائق (1/ 203). (¬5) الفروع (3/ 502)، المبدع (3/ 221) الإنصاف (4/ 16).

أدلة الجمهور على أنه لا يصح طوافها بحال.

اختيار ابن تيمية (¬1)، وابن القيم (¬2)، وهو الصواب. أدلة الجمهور على أنه لا يصح طوافها بحال. سبق أن ذكرنا أدلتهم في مسألة اشتراط الطهارة للطواف، والجواب عليها، فارجع إليها إن شئت. أدلة الحنفية على أن الطهارة واجبة وليست بشرط وتجبر بدم. استدلوا بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬3). قال السرخسي: "قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} وهو اسم للدوران حول البيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، فاشتراط الطهارة فيه يكون زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس؛ لأن الركنية لا تثبت إلا بالنص، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد؛ لأنه يوجب العمل، ولا يوجب علم اليقين، والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين، وأصل الطواف ركن ثابت بالنص، والطهارة فيه تثبت بخبر الواحد، فيكون موجبًا للعمل دون العلم، فلم تصر الطهارة ركناً، ولكنها واجبة، والدم يقوم مقام الواجبات في باب الحج" (¬4). ¬

_ (¬1) الاختيارات (ص: 37)، مجموع الفتاوى (26/ 213)، الإنصاف (4/ 16). (¬2) أعلام الموقعين (3/ 14 - 21). (¬3) الحج: 29. (¬4) المبسوط (4/ 38).

وهذا الكلام مدخول من أكثر من وجه: أولاً: قوله: إن خبر الواحد يوجب العمل، ولا يوجب علم اليقين، فإن كان مقصوده أن خبر الآحاد لا يوجب العلم بل يوجب مجرد الظن فغير مسلم، لأن قوله: "لا يوجب علم اليقين" فاليقين يقابله الشك والظن، والصحيح أن خبر الآحاد يوجب العلم، وإن كان قد يتفاوت فالحديث المشهور ليس كالغريب، والمتفق عليه ليس كالحديث الذي انفرد به أحد الصحيحين، لكن دلالته على العلم ثابتة وكون التصور العقلي لا يمنع خطأ الثقة، لو فتحنا هذا التجويز العقلي لهدمت أدلة الشرع، وأصبح الدليل الشرعي إذا لم يوافق هوى المبتدع أدخل فيه احتمال الخطأ من الثقة، فالأصل عدم الخطأ، ولا يحكم بخطأ الثقة إلا بدليل واضح بين. ثانياً: الأدلة من الشرع على قبول خبر الآحاد في أمور الاعتقاد، وفي الأمور العملية أكثر من أن تحصى وليس هذا موضع بحثها، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بتبليغ الشرع وقيام الحجة بخبر الآحاد، فأرسل رسله إلى الملوك ليبلغوا عنه رسالته. وقامت الحجة على هؤلاء بهؤلاء الرسل وهم آحاد. وإن كان مقصوده بأن خبر الآحاد لا يوجب العلم اليقيني، بل يوجب العلم النظري، المتوقف على النظر والاستدلال والبحث عن أحوال الرجال فلا نزاع في هذا، لكنه بعد البحث والاستدلال يفيد العلم القطعي إذا خلص

أدلة من قال: تسقط الطهارة بالعجز ويصح طوافها.

الباحث إلى صحة الحديث (¬1)، فإذا دل خبر الآحاد على اشتراط شيء قلنا: إنه شرط ولو كان صادراً من خبر الآحاد. والله أعلم. أدلة من قال: تسقط الطهارة بالعجز ويصح طوافها. الدليل الأول: قالوا: إن جميع الشروط والواجبات في العبادة معلقة بالقدرة، فمن عجز عن تحقيق شرط، أو ركن أو واجب سقط عنه. والدليل على هذه القاعدة نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. (344) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم بأطول من هذا (¬2). وجه الاستدلال: قوله: "وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم". ¬

_ (¬1) وهذا اليقين لا يحصل إلا عند طالب الحديث، وهو ما يتميز به عن غيره من طلبة العلم، ومن لم يشتغل بالحديث فليس له إلا التقليد، والتقليد لا يعطي القلب هذا اليقين الجازم وإذا ما تعارض عند المقلد تصحيح وتضعيف في حديث واحد عن الأئمة فلا تسأل عن حاله. (¬2) صحيح البخاري (7288)، ومسلم (1337).

الدليل الثاني

(345) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان، قال: حدثني الحسين المكتب، عن ابن بريدة، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة؟ فقال: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬1). الدليل الثاني: القياس على سقوط الطهارة في الصلاة بالعجز. ووجهه: معلوم أن غاية ما في الطهارة أنها شرط في الطواف، ومعلوم أن كونها شرطاً في الصلاة أوكد منها في الطواف. وإذا كان كذلك، وشروط الصلاة تسقط بالعجز، فسقوط شروط الطواف بالعجز أولى وأحرى. فهذا الكلام مبني على مقدمتين ونتيجة: المقدمة الأولى: أن اشتراط الطهارة في الصلاة آكد منه في الطواف. المقدمة الثانية: أن الطهارة في الصلاة تسقط في العجز. النتيجة: أن الطهارة في الطواف تسقط بالعجز كالصلاة. أما المقدمة الأولى: وهي أن اشتراط الطهارة في الصلاة آكد منه في الطواف فالدليل على صحة هذه المقدمة. أولاً: أن اشتراط الطهارة في الصلاة مع المقدرة عليها مجمع عليه، بخلاف الطهارة في الطواف فإنهم مختلفون في اشتراطها، فقد قال بعض العلماء بأن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1117).

الطهارة سنة في الطواف كما قررته في مسألة مستقلة. وقيل: بل واجب يجبر بدم. وقيل: شرط. قال ابن القيم: "ولا ريب أن وجوب الطهارة، وستر العورة في الصلاة آكد من وجوبها في الطواف، فإن الصلاة بلا طهارة مع القدرة باطلة بالاتفاق، وكذلك صلاة العريان، وأما طواف الجنب والحائض والمحدث والعريان بغير عذر ففي صحته قولان مشهوران، وإن حصل الاتفاق بأنه منهي عنه في هذه الحال" (¬1). قلت: أما المحدث حدثاً أصغر فلم يثبت لي أن الشارع قد نهى عنه. فتأمل، وكذا الجنب إلا لمن قاسه على الحائض. ثم قال ابن القيم موصولاً بالكلام السابق: "وكذلك أركان الصلاة وواجباتها آكد من أركان الحج وواجباته، فإن واجبات الحج إذا تركها عمداً لم يبطل حجه، وواجبات الصلاة إذا تركها عمداً بطلت صلاته" (¬2). فمن هذا الكلام يتبين لنا أن المقدمة الأولى صحيحة، وأن اشتراط الطهارة في الصلاة آكد منه في الطواف. أما المقدمة الثانية: أن الطهارة في الصلاة تسقط بالعجز. والمقصود بالطهارة ما يتطهر به من ماء أو تراب عند فقد الماء. فهل هذه ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (3/ 21). (¬2) المرجع السابق (3/ 21).

المقدمة محل وفاق، وأن من عجز عن الماء والتراب صلى بدونهما؟ فالجواب: أن هذه المقدمة ليست محل وفاق، بل اختلف العلماء فيها على أربعة أقوال: فقيل: لا يصلي حتى يقدر على الوضوء أو التيمم، فإذا قدر على ذلك قضى ما وجب عليه. وهو مذهب الثوري (¬1)، والأوزاعي (¬2)، وأبي حنيفة (¬3). (346) وحجتهم ما رواه مسلم، قال: حدثنا سعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، وأبو كامل الجحدري (واللفظ لسعيد) قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر؟ قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (¬4). وقيل: لا يصلي ولا قضاء عليه، وهو المشهور من مذهب مالك (¬5)، وهذا ¬

_ (¬1) الأوسط لابن المنذر (2/ 45)، المغني لابن قدامة (1/ 328, 327)، شرح البخاري لابن رجب (2/ 222). (¬2) المغني لابن قدامة (1/ 328)، الأوسط لابن المنذر (2/ 45)، شرح البخاري لابن رجب (2/ 222). (¬3) حاشية رد المحتار (1/ 252)، بدائع الصنائع (1/ 50)، البحر الرائق (1/ 151) نصب الراية (1/ 159، 160). (¬4) صحيح مسلم (224). (¬5) منح الجليل (1/ 161) الشرح الصغير (1/ 201، 200)، مواهب الجليل (1/ 360) الخرشي (1/ 200).

أضعف الأقوال، وقد قاسوه على المغمى عليه والمجنون والحائض (¬1)، ولا أدري ما هي العلة الجامعة بين المقيس والمقيس عليه. وقيل: يصلي ويعيد. وهو المشهور من مذهب الشافعي (¬2)، ورواية في مذهب مالك (¬3). وقيل: يصلي وتستحب له الإعادة، وهو منسوب للشافعي في القديم (¬4). وقيل: يصلي ولا يعيد، ويسقط عنه فرض الطهارة وهو الصحيح، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬5)، ورجحه ابن المنذر (¬6)، وعليه بوب البخاري (¬7). واستدلوا لهذا القول بدليل عام، وخاص. أما العام: فقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} (¬8)، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬9). وأما الدليل الخاص: فمنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا زكريا ابن يحيى، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، ¬

_ (¬1) انظر الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه (1/ 201). (¬2) المجموع (2/ 321)، مغني المحتاج (1/ 106، 105)، الأوسط (2/ 45). (¬3) انظر: الخرشي (1/ 200)، مواهب الجليل (1/ 360). (¬4) انظر المجموع (2/ 322)، مغني المحتاج (1/ 106). (¬5) كشاف القناع (1/ 171)، شرح منتهى الإرادات (1/ 96). (¬6) الأوسط (2/ 46). (¬7) كتاب التيمم، الباب الثاني، قال: باب إذا لم يجد ماءً ولا تراباً. (¬8) البقرة: 286. (¬9) التغابن: 16.

عن عائشة، أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى آية التيمم، فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن هؤلاء كان فرضهم قبل نزول آية التيمم الوضوء بالماء فقط فحين عدموا الماء صلوا في تلك الحال بغير طهور ولم ينتظر حتى يجدوا الماء، ولم يؤمروا بالإعادة، فكان الحكم واحداً فيمن فقد الماء والتراب يصلي ولا إعادة عليه، ولا ينتظر حتى يجد ماء أو تراباً، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: باب إذا لم يجد ماء ولا تراباً. وهذا القول هو الصواب، وبترجيح هذ القول، أصبحت المقدمة الثانية صحيحة على الراجح من أقوال أهل العلم. فإذا سلمت المقدمتان، صحت النتيجة. ونعيد ذكر المقدمتين لطول الفصل: الأولى: أن اشتراط الطهارة في الصلاة آكد من اشتراط الطهارة في الطواف. المقدمة الثانية: أن الطهارة في الصلاة إذا عجز عن تحقيقها سقطت. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (336). ورواه مسلم (109 - 367).

النتيجة أن الطهارة في الطواف إذا عجزت المرأة عن تحقيقها سقطت عنها قياساً على الطهارة في الصلاة. وقد نافح ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم عن هذا القول، ونصراه في كلام طويل لهما أورده مختصراً قدر الإمكان. ساق ابن القيم في أعلام الموقعين الأقوال في المسألة: فقال: "ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري". فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف، وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك وتمسك بظاهر النص". ونازعهم في ذلك فريقان: أحدهما: صحح الطواف مع الحيض، ولم يجعلوا الحيض مانعاً من صحته بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بدم، كما يقول أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهي أنصهما عنه. وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشرط بالمشروط، بل جعلوها واجبة من واجباته، وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به، يصح فعله مع الإخلال بها ويجبرها الدم. الفريق الثاني: جعل وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز.

شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز. قالوا: وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له بأعظم من اشتراطها للصلاة، فإذا سقطت بالعجز عنها، فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى. قالوا: وقد كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض، حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن صفية وقد حاضت: "أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال: فلتنفر إذاً" وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها، فأما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيض فلا تخلو من أقسام: أحدها: أن يقال لها: أقيمي بمكة، وإن رحل الركب حتى تطهري وتطوفي، وقد يكون لا نفقة لها، ولا مكان تأوي إليه بمكة، وقد يعرض لها من يستكرهها على الفاحشة. الثاني: أن يقال: يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه، وهذا مع أنه لا قائل به، فلا يمكن القول به، فإنه ركن الحج الأعظم، وهو الركن المقصود لذاته والوقوف بعرفة وتوابعه مقدمات له. الثالث: أن يقال: إذا علمت أو خشيت مجيء الحيض في وقته جاز لها تقديمه على وقته. وهذا كالذي قبله، لا يعلم به قائل. الرابع: أن يقال: إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج، وأنها

حيضها بالكلية. وهذا القول وإن كان أفقه من الذي قبله، فإن الحج يسقط لما هو دون هذا من الضرر، ومع هذا ممتنع لأكثر من وجه. الوجه الأول: لازمه سقوط الحج عن كثير من النساء، أو أكثرهن. الوجه الثاني: القول بسقوط الحج بالعجز عن بعض الشروط قول باطل، فإن العبادات لا تسقط بالعجز عن شرائطها وواجباتها، ولا عن بعض أركانها لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، ولهذا وجبت الصلاة بحسب الإمكان. الوجه الثالث: القول بعدم وجوب الحج على من تخاف الحيض لا يعلم به قائل. الخامس: أن يقال: إذا لم يمكنها الطواف، ولا المقام بمكة أن ترجع وتبقى محرمة تمتنع من النكاح ووطء الزوج إلى أن يمكنها الرجوع، فإن لم يمكنها بقيت محرمة إلى أن تموت. وهذا ممتنع من وجوه: أولاً: أن الله لم يأمر أحداً أن يبقى محرماً إلى أن يموت، حتى المحصر بعدو له أن يتحلل باتفاق العلماء، والمحصر بمرض أو فقر له أن يتحلل على الأرجح من أقوال أهل العلم. ثانياً: أن في هذا إيجاب سفرين كاملين على الإنسان للحج من غير تفريط منه ولا عدوان، وهذا خلاف الأصول. فإن الله لم يوجب الحج على الناس إلا مرة واحدة، وإذا أوجب القضاء على المفسد فذلك بسبب جنايته على إحرامه،

وإذا أوجبه على من فاته الوقوف بعرفة فذلك بسبب تفريطه. ثالثاً: أن هذه المرأة إذا أمكنها العودة فلا يؤمن أن يصيبها الحيض كما أصابها في المرة الأولى، وهو أمر ممكن جداً، ولا يستحيل حدوثه، فيقال لها: إذا لم يمكنك البقاء اذهبي إلى بلدك وارجعي مرة أخرى، والله سبحانه وتعالى لم يجعل على الأمة مثل هذا الحرج، ولا ما هو قريب منه. السادس: أن يقال لها: تحللي كما يتحلل المحصر، مع بقاء الحج في ذمتها، فمتى قدرت على الحج لزمها، ثم إذا أصابها ذلك تحللت، وهكذا أبداً حتى يمكنها الطواف طاهراً. فهذا التقدير وإن كان أفقه من التقدير الذي قبله؛ فإن هذه منعها خوف المقام من إتمام النسك، فهي كمن منعها عدو من الطواف في البيت، ومع هذا فالتقدير ضعيف، فإن الإحصار حقيقته أمر عارض للحاج يمنعه من الوصول إلى البيت في وقت الحج، وهذه متمكنة من البيت، ومن الحج من غير عدو ولا مرض ولا ذهاب نفقة، وإذا جعلنا هذه كالمحصر أوجبنا عليها الحج مرة ثانية مع خوف وقوع الحيض منها، والعذر للتحلل بالإحصار، وإذا كان الحيض لا يسقط فرض الحج عليها ابتداء،، فلا يكون موجباً للتحلل والإحصار. السابع: أن تستنيب من يحج عنها، وتكون كالمعضوب العاجز عن الحج بنفسه. وهذا القول أولاً: لا يوجد أحد قال به. وثانياً: أن المعضوب الذي يجب عليه الاستنابة هو الذي لا يرجو زوال

عذره، أما من كان يرجو زوال عذره فليس له أن يستنيب، والحائض لا تيأس من زوال عذرها لجواز أن تبقى إلى زمن اليأس وانقطاع الدم، وقد ينقطع دمها قبل سن اليأس لعارض من فعلها أو من غير فعلها، فليست كالمعضوب لا حقيقه ولا حكماً. فإذا لم يمكن فعل جميع هذه الحالات لم يبق لها إلا أن يقال: تطوف الحائض بالبيت والحالة هذه، وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة، بل يوافقها كما تقدم إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع عجز ولا حرام مع ضرورة. فإن قيل: في ذلك محذوران: أحدهما: دخول الحائض المسجد. والثاني: طوافها في حال الحيض. أما الجواب عن الأول فمن وجوه: أحدها: أن الراجح من أقوال أهل العلم أن الحائض لا تمنع من دخول المسجد، فلم يأت دليل صحيح صريح في منعها وقد بينت هذه المسألة في مسألة مستقلة. الثاني: على فرض أنها ممنوعة، فالضرورة تبيح دخول المسجد للحائض والجنب، فإنها لو خافت من عدو، أو من يستكرهها على الفاحشة، أو أخذ مالها، ولم تجد ملجأ إلا دخول المسجد جاز لها دخوله مع الحيض. وهذه الحائض تخاف

من بقائها في مكة أن يتعرض لها أحد باعتداء على عرض أو مال. الثالث: أن طوافها بمنزلة المرور في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وقد ناقشت هذه المسألة في مسألة مستقلة. الرابع: أن دم الحيض في تلويثه المسجد كدم الاستحاضة، والمستحاضة يجوز لها دخول المسجد للطواف إذا تلجمت اتفاقاً وذلك لأجل الحاجة، وحاجة هذه أولى. أما الجواب عن المحذور الثاني: وهو كونها تطوف مع الحيض، فقد ذكرت الأدلة الإيجابية لجوازه وهو مبني على دليلين: الأول: أن جميع الشروط في العبادة تسقط مع العجز. الثاني: القياس على سقوط الطهارة في الصلاة عند العجز عنها فكذلك الطواف (¬1). فالراجح من هذا الخلاف أن الطهارة من الحيض شرط في صحة الطواف، وأن الحائض إذا كانت لا تتمكن من البقاء لحين طهارتها إما خوفاً على نفسها أو على مالها أو تعذر بقاء الرفقه، أو لم يرض محرمها في الانحباس من أجلها، ولم تكن من أهل هذه البلاد بأن كانت من مصر آخر لا تتمكن من العودة إلى البيت مرة أخرى فالقول بصحة طوافها متوجه، أما إن كانت من أهل هذه البلاد، والطريق آمنة، والمحرم يتطوع في الرجوع معها متى شاءت، وتستطيع تحمل النفقة فإنها ترجع إن شاءت إلى بلدها وإذا طهرت رجعت وطافت. والله أعلم. ¬

_ (¬1) أعلام الموقعين (3/ 14 - 21)، مجموع الفتاوى (26/ 214 - 230).

المبحث الرابع: هل للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة

المبحث الرابع: هل للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة لا يوجد دليل يمنع الحائض من السعي بين الصفا والمروة، بل هناك دليل إيجابي على أن للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة. (347) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخلت علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي. فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نُفست؟ قلت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري". ورواه مسلم (¬1). فالحديث لم يستثن من أفعال المناسك شيئاً إلا الطواف، ولا يقال: إن السعي بين الصفا والمروة طوافا بينهما، لأن الطواف إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى الطواف بالبيت، وكما يقال: الاستثناء معيار العموم، فلما استثنى الطواف بقى ما عداه جائزاً. قال ابن حزم: "ولها - يعني الحائض - أن تطوف بين الصفا والمروة، لأنها لم تنه إلا عن الطواف بالبيت فقط" اهـ (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (305)، وصحيح مسلم (120 - 1211). (¬2) المحلى (7/ 180).

(348) ويشكل على هذا ما رواه مالك: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: قدمت مكة وأنا حائض، فلم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري" (¬1). [الحديث ظاهره منع الحائض من السعي بين الصفا والمروة، لكن زيادة: (ولا بين الصفا والمروة) زيادة شاذة]. قال ابن عبد البر: "هكذا قال يحيى عن مالك في هذا الحديث غير ألا تطوفي بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري، وقال غيره من رواة الموطأ: غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري لم يذكروا "ولا بين الصفا والمروة" ولا ذكر أحد من رواة الموطأ في هذا الحديث "ولا بين الصفا والمروة" غير يحيى فيما علمت، وهو عندي وهم منه. والله أعلم" (¬2). ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 411) ح 224. (¬2) التمهيد كما في فتح البر (8/ 488). قلت: خالف يحيى بن يحيى جماعة رووه عن مالك بدونها، وإليك بعض من وقفت عليه منهم: الأول: عبد الله بن يوسف، عند البخاري (1650). الثاني: خالد بن مخلد كما عند الدارمي (1846). الثالث: الشافعي كما في مسنده (1/ 369). الرابع: أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري. الموطأ بروايته (1325) وابن حبان (3824)، والبغوي في شرح السنة (1914). الخامس: محمد بن الحسن الشيباني. الموطأ بروايته (465).

(349) وأما ما جاء عن ابن عمر عند ابن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة (¬1). [وسنده صحيح] وصحح إسناده الحافظ ابن حجر (¬2). فهذا مع كونه موقوفاً على ابن عمر إلا أنه محمول على الرأي الذي يقول: إن السعي لا بد أن يتقدمه طواف، فلا يصح السعي من الحائض إذا لم تكن قد طافت بالبيت، والذي يجعلني أحمله على هذا المحمل (350) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله ابن عمر، عن نافع، ¬

_ فهؤلاء خمسة رواة رووا الحديث عن مالك بدون هذه الزيادة، كما روى الحديث جماعة عن شيخ مالك بدون هذه الزيادة، مما يجعل الباحث يجزم بوهم يحيى بن يحيى، وإليك بعضهم: الأول: عبد العزيز بن أبي سلمة عند البخاري (305)، ومسلم (120/ 1211) وغيرهما. الثاني: سفيان بن عيينة كما عند البخاري (294، 5548، 5549، 5559)، ومسلم (119 - 1211). وغيرهما. الثالث: حماد بن سلمة، كما عند الطيالسي (1413)، وأحمد 6 - 219)، ومسلم (121 - 1211)، وأبو داود (1782). فهؤلاء رووه عن عبد الرحمن بن القاسم شيخ مالك، عن القاسم، عن عائشة بدون زيادة: "ولا بين الصفا والمروة". (¬1) المصنف (3/ 284) 14361. (¬2) الفتح في شرحه لحديث (1650).

عن ابن عمر، قال: إذا طافت بالبيت ثم حاضت قبل أن تسعى بين الصفا والمروة فلتسع بين الصفا والمروة. [وسنده صحيح] (¬1). وتقدم السعي على الطواف فيه تفصيل، أما في العمرة فهو إجماع لا يصح أن يتقدم السعي على الطواف. قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن المعتمر لا يسعى بين الصفا والمروة حتى يطوف بالبيت، وعليه يحمل فعل عائشة رضي الله عنها لما حاضت، فإنها لم تسع بين الصفا والمروة، لأنها كانت قد أحرمت بالعمرة" (¬2). وأما تقديم سعي الحج على طواف الحج ففيه خلاف بين العلماء، ليس هذا موضع بحثه لأنه من مباحث الحج الخاصة، لا تعلق له بالحيض، والراجح، والله أعلم جواز تقديم السعي على طواف الحج (351) لما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عيسى بن طليحة، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع وجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر حلقت قبل أن أذبح قال: اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج فما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 287) 14394. (¬2) التمهيد، كما في فتح البر (8/ 282)

يوماً إذْ عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال: افعل ولا حرج. ورواه مسلم (¬1) وجه الاستدلال: قوله: فما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ - يعني يوم النحر - عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج"، ويدخل في ذلك الطواف والسعي، لأنهما من الأعمال التي تعمل يوم النحر، والله أعلم. وقد رأى جماعة من التابعين جواز السعي بدون طهارة. (352) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج، قال: سألت عطاء عن امرأة طافت بالبيت ثم حاضت. قال: تسعى بين الصفا والمروة (¬2). [والإسناد حسن لغيره، فيه حجاج بن أرطأة، فيه ضعف، ولكن له متابع]. (353) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن وعطاء، قالا: تسعى بين الصفا والمروة (¬3). [وهذا الإسناد وإن كان رجاله كللهم ثقات إلا أن هشام بن حسان في روايته عن الحسن وعطاء مقال. فالإسناد بمجموع الطريقين يصبح حسناً لغيره] وهو مذهب إبراهيم النخعي، والحكم، وحماد (¬4)، بأن للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1736)، ومسلم (327 - 1306). (¬2) المصنف (3/ 287) 14395. (¬3) المصنف (3/ 287) 14396. (¬4) رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عنهم. انظر المصنف (3/ 287).

المبحث الخامس: في المرأة المتمتعة إذا حاضت قبل طواف العمرة وخشيت فوات الحج

المبحث الخامس: في المرأة المتمتعة إذا حاضت قبل طواف العمرة وخشيت فوات الحج اختلف العلماء في ذلك. فقيل: ترفض العمرة، وتهل بالحج. وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: تدخل الحج على العمرة، فتصير قارنة. وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختاره ابن حزم (¬5). دليل الحنفية على رفض العمرة. الدليل الأول: (354) روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي: من كان معه هدي فليهل ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (3/ 23)، المبسوط (4/ 36، 35). (¬2) انظر الموطأ (1/ 412، 411)، التفريع (1/ 336)، المعونة (1/ 559)، المنتقى للباجي (3/ 60)، أسهل المدارك (1/ 320) , المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (3/ 300). (¬3) الأم (2/ 143)، المجموع (7/ 150, 149)، مغني المحتاج (1/ 514). (¬4) الإقناع (1/ 325)، المستوعب (1/ 263)، المحرر (1/ 236)، المغني (5/ 367). (¬5) المحلى (7/ 239, 238).

[الدليل الثاني]

بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا، فقدمت مكة، وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة. ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن ابن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك. قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً واحداً بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا (¬1). وفي رواية للبخاري، قال: ارفضي عمرتك، قال البخاري رحمه الله: [الدليل الثاني] (*) (355) حدثنا محمد بن سلام، أخبرنا أبو معاوية، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لهلال ذي الحجة، فقال لنا: من أحب منكم أن يهل بالحج فليهل، ومن أحب أن يهل بعمرة فليهل بعمرة، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة، قالت: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، وكنت ممن أهل بعمرة، فأظلني يوم عرفة وأنا حائض فشكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أرفضي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي، وأهلي بالحج، فلما كان ليلة الحصبة أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم فأهللت بعمرة مكان عمرتي (¬2). وجه الاستدلال من الحديثين: أولاً: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أرفضي عمرتك" وقوله: "دعي عمرتك" صريح بأن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1556)، ومسلم (1211). (¬2) صحيح البخاري (1783). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

[الدليل الثالث]

الحائض إذا خشيت فوات الحج بأنها ترفض عمرتها. ثانياً: قوله - صلى الله عليه وسلم - "هذه مكان عمرتك" ولو كانت العمرة الأولى باقية لم تكن هذه مكانها، فلا تحل الثانية مكان الأولى إلا إذا كانت الأولى قد بطلت. ثالثاً: قالت عائشة رضي الله عنها كما في رواية لمسلم: أيرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة. [الدليل الثالث] (*) (356) فقد روى مسلم، قال: حدثني سليمان بن عبيد الله أبو أيوب الغيلاني، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي. فقال: ما يبكيك؟ فقلت: والله لوددت أني لم أكن خرجت العام. قال: مالك لعلك نفست؟ قلت: نعم. قال: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. قالت: فلما قدمت مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: اجعلوها عمرة، فأحل الناس إلا من كان معه الهدي. قالت: فكان الهدي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر وذوي اليسارة، ثم أهلوا حين راحوا. قالت: فلما كان يوم النحر طهرت فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأفضت. قالت: فأتينا بلحم بقر. فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر، فلما كانت ليلة الحصبة، قلت: يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة، وأرجع بحجة. قالت: فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني على جمله. قالت: فإني

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

لأذكر، وأنا جارية حديثة السن، أنعس فيصيب وجهي مؤخرة الرحل حتى جئنا إلى التنعيم، فأهللت منها بعمرة جزاء بعمرة الناس التي اعتمروا (¬1). فقولها رضي الله عنها: "يرجع الناس بحجة وعمرة، وأرجع بحجة" صريح أنها لم تكن قارنة، وإلا لما قالت ذلك, لأن القارن قد رجع بحج وعمرة. رابعاً: قوله: "انقضي رأسك وامتشطي" دليل على أنها لم تكن محرمة؛ لأن الامتشاط لا يجوز للمحرم. هذه أوجه الاستدلال من الحديث. وقد ناقش الجمهور هذه الاستدلالات، وأجابوا عنها، وإليك بيانها: الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - دعي عمرتك أو أرفضي عمرتك. فأجابوا عنها بعدة إجابات. منها إعلال هذه اللفظة، فقد ذهب بعضهم إلى شذوذها، وأنها غير محفوظة. قال ابن قدامة: فأما حديث عروة، فإن قوله: "انقضي رأسك، وامتشطي، ودعي العمرة" انفرد به عروة، وخالف به سائر من روى عن عائشة حين حاضت، وقد روى ذلك طاووس (¬2)، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (120 - 1211). (¬2) رواية طاووس، عن عائشة رواها أحمد (6/ 124) ومسلم (132 - 1211) من طريق وهيب، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج،

والقاسم (¬1)، والأسود (¬2) وعمرة (¬3) عن عائشة، فلم يذكروا ذلك، وحديث جابر وطاووس مخالفان لهذه ¬

_ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: يسعك طوافك لحجك وعمرتك، فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج. (¬1) رواية القاسم، عن عائشة. رواه عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم، عن عائشة. كما في البخاري (294، 5548، 5559, 1650، 305)، ومسلم (1211 - (121، 120، 119، 122)، والحميدي (206)، وأحمد (6/ 6/ 186، 181، 39)، وابن ماجه (2963)، والدارمي (1904)، وابن خزيمة (2936)، وابن حبان (3835, 3834)، والبيهقي (1/ 308)، و (5/ 86, 3)، والبغوي (1913). ورواه ابن عون، عن القاسم. كما عند البخاري (1787)، ومسلم (1211 - (126، 127). ورواه يحيى بن سعيد، عن القاسم به. رواه البخاري (2952) ملحقاً سنده بعد ذكره لحديث يحيى بن سعيد، عن عمرة. ورواه أفلح بن حميد، عن القاسم. رواه البخاري (1788، 1560)، ومسلم (1211 - (384, 123)، وابن خزيمة (3907)، وابن حبان (3795). ورواه أيمن بن نابل، عن القاسم، كما في رواية البخاري (1518). ورواه عبيد الله بن عمر، عن القاسم. رواها أحمد (6/ 193، 192, 99)، ومسلم (124 - 1211). وابن حبان (3904، 3900)، والبيهقي (5/ 2). (¬2) رواية الأسود عن عائشة. رواها إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة به. كما في مسند أحمد (6/ 122، 175, 253, 224, 213) والبخاري (1787، 1762، 1561) ومسلم (1211 - (126، 128، 387، 129)، والنسائي (2803)، وابن ماجه (3073)، والطحاوي (2/ 233 - 234)، والبيهقي (5/ 163، 162). (¬3) رواية عمرة عن عائشة. رواها عن عمرة يحيى بن سعيد، كما في رواية الموطأ

الزيادة، وقد روى حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة حديث حيضها، فقال فيه: حدثني غير واحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: دعي العمرة، وانقضي رأسك، وامتشطي، وذكر تمام الحديث. وهذا يدل أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة (¬1)، وهو مع ما ذكرنا من مخالفته بقية الرواة، يدل على ¬

_ (1/ 393)، الشافعي (1/ 369)، البخاري (1720، 2952، 1709) ورواه مسلم (125 - 1211)، والنسائي (5/ 178)، وابن ماجه (2981)، والبيهقي (5/ 5). ورواه عن عمرة أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، كما في رواية مالك (1/ 412)، والبخاري (328)، ومسلم (385 - 1211)، والنسائي (1/ 194)، والطحاوي (2/ 234)، والبيهقي (5/ 163). وهناك رواة آخرون رووه عن عائشة لم يذكرهم ابن قدامة رحمه الله، منهم: مجاهد، وصفية بنت شيبة، وعبد الله بن عبيد الله بن مليكة، وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وذكوان، وأبي سلمة. أما رواية مجاهد عن عائشة، فقد رواها مسلم (133 - 1211). وأما رواية صفية بنت شيبة، فقد رواها مسلم أيضاً (134 - 1211). وأما رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن عائشة، فقد رواها أحمد (6/ 245)، والبخاري (2984). وأما رواية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، فقد رواه البخاري (2958، 1784)، ومسلم (135 - 1211)، وأبو داود (1995)، والترمذي (934)، وابن ماجه (2999). وأما رواية ذكوان، عن عائشة. فقد رواه الطيالسي (1540)، ومسلم (1211 - (131، 130)، وابن خزيمة (2606)، وابن حبان (3941)، والبيهقي (5/ 19). وأما رواية أبي سلمة، عن عائشة. فيرويها عن أبي سلمة محمَّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي كما في رواية أحمد (6/ 86, 85) ومسلم (386 - 1211). والزهري، عن أبي سلمة، كما عند أحمد (6/ 82) والبخاري (4401)، ومسلم (1211 - (383, 382). (¬1) قد اختلف على حماد بن زيد، فرواه جماعة عنه، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة

الوهم مع مخالفتها الكتاب والأصول؛ إذ ليس لنا موضع آخر يجوز فيه رفض العمرة مع إمكان إتمامها" (¬1). وقال ابن القيم: "تعليل هذه اللفظة وردها - يعني دعي عمرتك - بأن عروة انفرد بها، وخالف بها سائر الرواة، وقد روى حديثها طاووس، والقاسم، ¬

_ على الاتصال، فقد أخرجه أبو داود (1778) من طريق سليمان بن حرب مطولاً مقروناً برواية غيره، والنسائي (2717) من طريق يحيى بن حبيب بن عربي. ورواه ابن خزيمة (2604) مختصراً، ورواه ابن حبان (3792) مطولاً. من طريق أحمد بن المقدام العجلي كلهم رووه عن حماد بن زيد، عن هشام، عن عروة، عن عائشة متصلة. وأما الرواية المنقطعة التي أشار إليها ابن قدامة فرواها ابن عبد البر في التمهيد، كما في فتح البر (8/ 289) من طريق محمَّد بن عبيد، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين هلال ذي الحجة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل، فمنا من أهل بحج، ومن من أهل بعمرة حتى إذا كنت بسرف حضت، فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما شأنك؟ فقلت: وددت أني لم أخرج العام، وذكرت له محيضها، قال عروة: فحدثني غير واحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وافعلي ما يفعل الحاج المسلمون في حجهم، قالت: فأطعت الله ورسوله، فلما كانت ليلة الصدر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن أبي بكر، فأخرجها إلى التنعيم، فأهلت منه بعمرة. ورجح ابن عبد البر: رواية حماد، وأن الكلام لم يسمعه عروة من عائشة. وعندي والله أعلم أن خطأ حماد بن زيد أقرب من خطأ الجماعة، هذا على الجزم بأن الخطأ من حماد، ولا يمكن الجزم به، وقد اختلف على حماد، والأكثر على أنه متصل مرفوع، وإذا لم يكن محمَّد بن عبيد له متابع فالجزم بخطئه متعين. والله أعلم. (¬1) المغني (5/ 370، 369) وذكر نحوه ابن القيم في زاد المعاد (2/ 169)، ولعلي أسوق كلامه بتمامه بعد قليل إن شاء الله.

[الدليل الرابع]

والأسود، وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظ" (¬1). قلت: لم ينفرد بها عروة، فقد تابعه القاسم في الموطأ، [الدليل الرابع] (*) (357) قال مالك: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً، قالت: فقدمت مكة، وأنا حائض، فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة. قالت: ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: هذا مكان عمرتك، فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا منها، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين كانوا أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً. وحدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة بمثل ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (2/ 169). (¬2) الموطأ (1/ 410). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

ففي هذه الرواية تابع فيها القاسم بن محمَّد عروة بن الزبير بقوله: "دعي عمرتك". [لكن هذه المتابعة خطأ قطعاً، التبس على يحيى الراوي عن مالك حديث مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، بحديث عبد الرحمن ابن القاسم، عن القاسم، عن عائشة، وكل من رواه عن عبد الرحمن بن القاسم على كثرتهم لم يذكروا هذا عنه] (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد (19/ 263): "روى يحيى عن مالك بهذا الإسناد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، ولم يتابعه عليه أحد فيما علمت من رواة الموطأ، وإنما هذا الحديث في الموطأ عند جماعة الرواة عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - هكذا بهذا الإسناد، وهو عند يحيى بهذا الإسناد كذلك أيضاً، وبإسناد آخر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، فانفرد يحيى لهذا الحديث بهذا الإسناد، وحمل عنه هذا الحديث بهذين الإسنادين، عن مالك في الموطأ، وليس ذلك عند غيره في الموطأ - والله أعلم. ثم قال: "وأما قوله: "انقضي رأسك وامتشطي ... فهذا لم يقله أحد عن عائشة غير عروة، لا القاسم، ولا غيره". وقال أيضاً في التمهيد (8/ 199): "وهذا شيء لم يتابع يحيى عليه أحد من رواة الموطأ فيما علمت، ولا غيرهم عن مالك، أعني إسناد عبد الرحمن بن القاسم في هذا المتن، وإنما رواه أصحاب مالك كلهم كما ذكرنا عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة". وقال أيضاً (8/ 100): "فحصل ليحيى حديث هذا الباب بإسنادين، ولم يفعل ذلك أحد غيره، وإنما هو عند جميعهم، عن مالك بإسناد واحد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، وهو المحفوظ المعروف عن مالك، وسائر رواة ابن شهاب". وقال أيضاً (8/ 202): "كل من رواه عن مالك بتمامه أو مختصراً لم يروه عنه إلا بإسناد واحد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، إلا يحيى صاحبنا، فإنه رواه بإسنادين، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، وعن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة

الجواب الثاني: قال ابن عبد البر: "جماعة من أصحابنا تأولوا قوله: "ودعي العمرة" دعي عمل العمرة، يعني الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وكذلك تأولوا من روى: "واسكتي عن العمرة" ورواية من روى: "وأمسكي عن العمرة": أي أمسكي عن عمل العمرة، لا أنه أمر برفضها، وابتداء الحج وإنشائه كما زعم العراقيون" (¬1). وقال ابن القيم: قوله "دعي العمرة" أي دعيها بحالها، لا تخرجي منها، وليس المراد تركها، قالوا: ويدل عليه وجهان: أحدهما: قوله: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك" الثاني: قوله: "كوني في عمرتك" قالوا: وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض" (¬2). الجواب الثالث: قالوا: كانت عائشة يومئذ مهلة بالحج، ولم تكن مهلة بعمرة، وإذا كانت ¬

_ فأعضل. اهـ وانظر الموطأ برواية أبي مصعب الزهري ح (1325، 1324) والموطأ برواية الشيباني ح (466, 456) تجد صحة ما ذكره ابن عبد البر في التمهيد. فرجع اللفظ إلى عروة، وصحت دعوى تفرد عروة بقوله: "دعي عمرتك" عن سائر الرواة. والله أعلم. (¬1) التمهيد (8/ 216, 215). (¬2) زاد المعاد (2/ 169).

مهلة بالحج سقط القول عنا في رفض العمرة؛ لأنها لم تكن مهلة بعمرة (¬1). (358) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان، قال: حدثني يحيى، قال: حدثتني عمرة، قالت: سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة، ولا نرى إلا الحج، حتى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت أن يحل. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه. قال يحيى: فذكرت هذا الحديث للقاسم، فقال: أتتك بالحديث على وجهه. ورواه مسلم (¬2). وتابع الأسود بن يزيد النخعي عمرة على قولها: "لا نرى إلا الحج". (359) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى إلا الحج، فقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة، ولم يحل، وكان معه الهدي فطاف من كان معه من نسائه وأصحابه، وحل منهم من لم يكن معه الهدي، فحاضت هي فنسكنا مناسكنا من حجنا، فلما كان ليلة الحصبة ليلة النفر، قالت: يا رسول الله كل أصحابك يرجع بحج وعمرة غيري. قال: ما كنت تطوفين بالبيت ليالي قدمنا؟ ¬

_ (¬1) التمهيد (8/ 217). (¬2) صحيح البخاري (1720)، ومسلم (125 - 1211).

قلت: لا. قال: فاخرجي مع أخيك إلى التنعيم، فأهلي بعمرة، وموعدك مكان كذا وكذا، فخرجت مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فأهللت بعمرة وحاضت صفية بنت حيي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عقرى حلقى إنك لحابستنا أما كنت طفت يوم النحر. قالت: بلى. قال: فلا بأس انفري، فلقيته مصعداً على أهل مكة، وأنا منهبطة، أو أنا مصعدة وهو منهبط (¬1). كما تابعهما القاسم بن محمَّد، عن عائشة. (360) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، قال: سمعت القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف حضت، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، قال: مالك أنفست؟ قلت: نعم. قال: إن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم، فاقضي ما يقضيى الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. قالت: وضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر. ورواه مسلم (¬2). بل قالت عائشة في رواية مسلم: "لبينا بالحج". (361) قال مسلم: وحدثني أبو أيوب الغيلاني، حدثنا بهز، حدثنا حماد، عن عبد الرحمن، عن، أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: لبينا بالحج، حتى إذا كنا بسرف حضت، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي وساق الحديث بنحو حديث الماجشون ... (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1762)، ومسلم (128 - 1211). (¬2) البخاري (294)، ومسلم (119 - 1211). (¬3) رواه مسلم (121 - 1211).

فهذه عمرة، والأسود، والقاسم يتابع بعضهم بعضاً أن عائشة قالت: خرجنا لا نرى إلا الحج، وقالت: لبينا بالحج. وإذا كانت عائشة حاجة سقط القول برفض العمرة كما يقول الحنفية. وهذا القول مع أنه قد قيل به (¬1) إلا أنه ضعيف عندي، ومن تأمل الأحاديث تبين أن عائشة أحرمت بالعمرة، وأنها لم ترفض العمرة بل أدخلت الحج على العمرة. فقد روى البخاري ومسلم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة ... الحديث من حديث طويل لهما (¬2). وقولها: "فأهللنا بعمرة" تقصد نفسها رضي الله عنها. ولهما من طريق عقيل، عن ابن شهاب به، وفيه: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج" حتى قالت: "ولم أهلل إلا بعمرة" (¬3). وتابع هشام بن عروة ابن شهاب. فرواه البخاري من طريق أبي معاوية (¬4) ¬

_ (¬1) ساقه ابن عبد البر في التمهيد (8/ 217) وضعفه. (¬2) صحيح البخاري (4395)، ومسلم (111 - 1211). (¬3) صحيح البخاري (319)، ومسلم (112 - 1211). (¬4) صحيح البخاري (1783) ولفظه: قال البخاري: حدثنا محمَّد بن سلام، أخبرنا أبو معاوية، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لهلال ذي الحجة، فقال لنا: من أحب منكم أن يهل بالحج فليهل، ومن أحب أن يهل

ومن طريق أبي أسامة (¬1)، ومن طريق يحيى بن سعيد (¬2). ورواه مسلم، من طريق عبدة بن سليمان (¬3)، ومن طريق ابن نمير (¬4)، ومن طريق وكيع (¬5)، كلهم، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة، وفيه: فأهل ¬

_ بعمرة فليهل بعمرة، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة. قالت: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، وكنت ممن أهل بعمرة الحديث. (¬1) صحيح البخاري (317)، ولفظه، قال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجنا موافين لهلال ذي الحجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحب أن يهل بعمرة فليهلل؛ فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة، فأهل بعضهم بعمرة، وأهل بعضهم بحج، وكنت أنا ممن أهل بعمرة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: دعي عمرتك وانقضي رأسك، وامتشطي وأهلي بحج، ففعلت حتى إذا كان ليلة الحصبة أرسل معي أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فخرجت إلى التنعيم ن فأهللت بعمرة مكان عمرتي. (¬2) صحيح البخاري (1786)، قال البخاري: حدثنا محمَّد بن المثنى، حدثنا يحيى، حدثنا هشام، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لهلال ذي الحجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحجة فليهل، ولولا أني أهديت لأهللت بعمرة، فمنهم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بحجة وكنت ممن أهل بعمرة. الحديث. (¬3) صحيح مسلم (115 - 1211). ولفظه، قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ححة الوداع موافين لهلال ذي الحجة، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة، قالت: فكان من القوم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بالحج، قالت: فكنت أنا ممن أهل بعمرة. الحديث. (¬4) صحيح مسلم (116 - 1211) قال مسلم: وساق الحديث. بمثل حديث عبدة. اهـ وقد سقت لك حديث عبدة. (¬5) صحيح مسلم (117 - 1211)، ولفظه، قال مسلم: حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع

بعضهم بعمرة، وبعضهم بحج، وكنت أنا ممن أهل بعمرة. وجاء أيضاً من غير حديث عائشة أنها كانت ممن أحرم بعمرة. (362) فقد روى مسلم رضي الله عنه، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد ابن رمح جميعا، عن الليث بن سعد، قال قتيبة: حدثنا ليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد وأقبلت عائشة رضي الله تعالى عنها بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله تعالى عنها، فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعا. فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة (¬1). ¬

_ حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لهلال ذي الحجة، منا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بحجة، فكنت فيمن أهل بعمرة. (¬1) صحيح مسلم (1213).

وجابر من أكثر الناس عناية بحجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد صرح رضي الله عنه أن عائشة كانت ممن أهل بالعمرة، وأنها حاضت، وأنها قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن: أي لم تحلل من عمرتها، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لها: قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً، وأن طوافها للعمرة بعد نسكها لم يكن إلا من باب تطييب خاطرها، حيث قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت. فهذا الحديث يوضح ما أجمل من الروايات الأخرى. بقي الجواب على الروايات التي سقناها، والتي فيها: "خرجنا لا نرى إلا الحج" الجواب على ذلك أن يقال: قول عائشة رضي الله عنها: خرجنا لا نرى إلا الحج، أو قالت: لبينا بالحج. فهذا والله أعلم أنه كان منهم نية قبل أن يدخلوا في النسك خاصة أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، وعليه فيكون معنى خرجنا لا نرى: أي لا نعتقد. كما تقول: أرى كذا: أي أعتقده وأظنه، وحين قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحب أن يهل بالحج فليهلل، ومن أحب أن يهل بالعمرة فليهلل، فأحرمت عائشة بالعمرة، خاصة أنها روت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "لولا أن أهديت لأهللت بعمرة". والذي يؤيد ذلك ما سقناه من الروايات أن عائشة أحرمت بالعمرة، ولأن قولها خرجنا لا نرى إلا الحج، كونها ربطت ذلك بالخروج دليل على أن ذلك كان نية لها عند خروجها.

وقال ابن القيم: غاية من زعم أنها كانت مفردة قولها: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا الحج. فيا لله العجب!! أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج، بل خرج للحج متمتعاً، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنع أن يقول: خرجت لغسل الجنابة، وصدقت أم المؤمنين رضي الله عنها إذ كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة بأمره - صلى الله عليه وسلم -، وكلامها يصدق بعضه بعضاً (¬1). ووجه آخر ذكره ابن عبد البر، قال: "ليس في رواية من روى عن عائشة: كنا مهلين بالحج، وخرجنا لا نرى إلا الحج، بيان انها كانت مهلة بالحج، وإنما هو استدلال؛ لأنه يحتمل أن تكون أرادت بقولها: خرجنا، تعني خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مهلين بالحج، تريد بعض أصحابه، أو أكثر أصحابه، والله أعلم، وليس الاستدلال المحتمل للتأويل كالصريح، وقد صرح جابر بأنها كانت مهلة يومئذ بعمرة، كما قال عروة عنها، قالوا: والوهم الذي دخل على عروة، والله أعلم، وإنما كان في قوله: انقضي رأسك، وامتشطي، ودعي العمرة، وأهلي بالحج" اهـ (¬2). والذي ذكرته أرجح، ولا يحتمل الحذف والتقدير. وجه ثالث: أن عائشة أحرمت أولا بالحج، ثم أحرمت بالعمرة حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة. ثم لما حاضت وتعذر عليها إتمام العمرة والتحلل منها وأدركت الإحرام بالحج أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحرام بالحج ¬

_ (¬1) زاد المعاد (2/ 170). (¬2) التمهيد (8/ 221).

فأحرمت به فصارت مدخلة للحج على العمرة وقارنة. وهذا ضعيف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر الصحابة أن يحلوا بعد طوافهم وسعيهم، ولو كانت عائشة قد طافت لم تحتج إلى إدخال العمرة على الحج. والله أعلم. الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - هذه مكان عمرتك. أجابوا بعدة وجوه: أحدها: قال ابن القيم: قوله: "هذه مكان عمرتك" فعائشة أحبت أن تأتي بعمرة مفردة، فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن طوافها وقع عن حجتها وعمرتها، وأن عمرتها قد دخلت في حجها، فصارت قارنة، فأبت إلا عمرة مفردة كما قصدت أولاً فلما حصل لها ذلك، قال: هذه مكان عمرتك" (¬1). فهذه عمرة مفردة مكان عمرتك المفردة التي لم تتم لك منفردة، كما تمت لسائر أمهات المؤمنين، وكما تمت للناس الذين فسخوا الحج إلى العمرة وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية ثم أحرموا بالحج من مكة يوم التروية فحصلت لهم عمرة منفردة. وقيل: أحرمت أولا بالحج كما صح عنها في رواية الأكثرين، وكما هو الأصح من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر أصحابه، ثم أحرمت بالعمرة حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة. ثم لما حاضت وتعذر عليها إتمام العمرة والتحلل منها وأدركت الإحرام بالحج أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحرام بالحج فأحرمت ¬

_ (¬1) زاد المعاد (2/ 170، 169).

به فصارت مدخلة للحج على العمرة وقارنة (¬1). وهذا ضعيف لأنه مبنى على أن عائشة رضي الله عنها كانت محرمة بالحج أولا وقد بينت بالأحاديث الصحيحة أن عائشة أهلت بالعمرة، ولم تهل بالحج. وقيل: بضعف رواية: "هذه مكان عمرتك" قال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا (¬2). فقيل تفرد عروة، عن عائشة بقوله: "هذه مكان عمرتك"، وهي غير محفوظة، فكما قيل: بشذوذ "دعي عمرتك" يقال: هنا. وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: يسعك طوافك لحجك وعمرتك. (363) فقد روى مسلم، قال: حدثني محمَّد بن حاتم، حدثنا بهز، حدثنا وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أهلت بعمرة، فقدمت، ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: يسعك طوافك لحجك وعمرتك، فأبت. فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج (¬3). ¬

_ (¬1) الديباج على صحيح مسلم (3/ 309). (¬2) المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (3/ 301)، الديباج على صحيح مسلم (3/ 309). (¬3) صحيح مسلم (132 - 1211). وهو في مسند أحمد (6/ 124).

وفي رواية جابر عند مسلم، وفيه: "حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال رسول الله: قد حللت من حجك وعمرتك جميعا. فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم" (¬1). الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - انقضي رأسك وامتشطي. أجابوا عدة إجابات، منها. أولاً: شذوذ هذه اللفظة، كما قدمنا النقل عن ابن قدامة، وابن عبد البر، وابن القيم، وغيرهم. ثانياً: على فرض أن اللفظ محفوظ، فهو دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه، ولا دليل من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على منع المحرم من تمشيط رأسه، وهذا قول ابن حزم (¬2). ثالثاً: أنها كانت مضطرة إلى ذلك، فرخص لها كما رخص لكعب بن عجرة (¬3). وهذا ضعيف؛ لأنها لو كانت مضطرة لجاء ذكر ذلك في الحديث، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لها: "انقضي رأسك" لم يكن بناء على طلب منها في نقض رأسها أو بسبب ألم برأسها. ولو كان محرماً تمشيط شعرها، وكانت مضطرة لنقضه لوجب ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1213)، وقد سقته بتمامه قريباً انظر رقم (233). (¬2) زاد المعاد (2/ 169). (¬3) المفهم (3/ 300).

دليل الجمهور على أن الحائض تحرم بالحج وتصير قارنة.

عليها فدية كما وجب على كعب بن عجرة. والله أعلم ورابعها: أن ذلك خاص بها. ولذلك قال مالك: حديث عروة، عن عائشة ليس عليه العمل عندنا قديماً ولا حديثاً (¬1). ودعوى الخصوصية تحتاج إلى توقيف، ودعوى ترك العمل ليس دليلاً عليها الخصوصية، ولم يترك العمل به كلية بدليل أن ابن حزم يرى أنه لا حرج عليها كما قدمنا. سادساً: أن المراد بالنقض والامتشاط: تسريح الشعر لغسل الإهلال بالحج، ولعلها كانت لبدت رأسها، ولا يتأتى إيصال الماء إلى البشرة مع التلبيد إلا بحل الضفرة، وتسريح الشعر، ويتأيد بما في حديث جابر، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "فاغتسلي، ثم أهلي بالحج" (¬2). ودعوى أنها كانت ملبدة رأسها مجرد توهم، وأين الإشارة إليه من الحديث. فاقوى الإجابات عندي أنه يجوز للمحرم أن يمشط شعره، وأن يسرحه خاصة المرأة إذا اغتسلت كانت حاجتها إلى تسريحه قوية. والله أعلم. دليل الجمهور على أن الحائض تحرم بالحج وتصير قارنة. الدليل الأول: الإجماع، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء في أن للمحرم بالعمرة إدخال الحج على العمرة، ما لم يبتدئ الطواف بالبيت لعمرته، هذا إذا كان في ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 301). (¬2) المرجع السابق.

الدليل الثاني

أشهر الحج (¬1). قال ابن قدامة: "إدخال العمرة على الحج جائز بالإجماع من غير خشية الفوات، فمع خشيته أولى. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أن لمن أهل بعمرة أن يدخل عليها الحج، ما لم يفتتح الطواف بالبيت" (¬2). ونقل الإجماع أيضاً ابن رشد (¬3). الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كان معه هدي في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة (¬4). الدليل الثالث: قال الله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} (¬5). فالحج والعمرة لا يتأتى الخروج منهما إلا بإتمامهما (¬6). الدليل الرابع: الأحاديث الصحيحة التي تصرح أنها كانت قارنة. منها ¬

_ (¬1) التمهيد (15/ 215). (¬2) المغني (5/ 369). (¬3) انظر البيان والتحصيل (17/ 327). (¬4) المغني (5/ 369). (¬5) البقرة آية (196). (¬6) المفهم (3/ 300).

(364) ما رواه مسلم، قال: حدثني محمَّد بن حاتم، حدثنا بهز، حدثنا وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: يسعك طوافك لحجك وعمرتك، فأبت. فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج (¬1). (365) ومنها أيضاً حديث جابر رواه مسلم رضي الله عنه، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح جميعا، عن الليث بن سعد، قال قتيبة: حدثنا ليث، عن أبي الزبير عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد وأقبلت عائشة رضي الله تعالى عنها بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فامرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله تعالى عنها، فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (132 - 1211). وهو في مسند أحمد (6/ 124).

بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعا. فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1213).

المبحث السادس: طواف الوداع يسقط عن الحائض

المبحث السادس: طواف الوداع يسقط عن الحائض إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت فإن طواف الوداع يسقط عنها. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وهو قول عامة الصحابة والفقهاء (¬5). وذهب عمر وابن عمر وزيد بن ثابت بأنه يلزمها طواف الوداع، ويجب عليه المقام حتى تطوف. وقد رجع ابن عمر وزيد بن ثابت عن هذا القول وقالا: بسقوط طواف الوداع، وبقي هذا القول مذهباً لعمر (¬6). أدلة الجمهور على سقوط طواف الوداع. أدلة الجمهور كثيرة ونذكر بعضها، فمنها: [الدليل الأول] (*) (366) روى الإِمام البخاري، قال: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (2/ 504) بدائع الصنائع (2/ 142). (¬2) الموطأ (1/ 414). (¬3) الأم (2/ 154) الوسيط - الغزالي (2/ 673) روضة الطالبين (3/ 119). (¬4) المستوعب (4/ 268) شرح الزركشي (3/ 288) كشاف القناع (2/ 513). (¬5) انظر: المصنف لابن أبي شيبة في الآثار عن المرأة تحيض قبل أن تنفر، خاصة الأثر عن القاسم بن محمَّد (13174) وقد ذكرت لفظه في الأدلة. (¬6) انظر: الفتح (1/ 418) وانظر: ما سقته من أدلة في البخاري ومسلم على رجوع ابن عمر وزيد ابن ثابت. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

الدليل الثاني

حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: حاضت صفية ليلة النفر، فقالت: ما أراني إلا حابستكم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عقرى حلقى: أطافت يوم النحر؟ قالت: نعم. قال: فانفري. ورواه مسلم (¬1). الدليل الثاني: (367) روى الإِمام البخاري رحمه الله، قال: حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض. ورواه مسلم (¬2). الدليل على رجوع زيد بن ثابت وابن عمر عن قولهما بأن الحائض يلزمها طواف الوداع. (368) روى مسلم، قال: حدثني محمَّد بن حاتم، حدثا يحيى ابن سعيد، عن ابن جريج، أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاووس، قال: كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال ابن عباس: إما لا. فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1771)، ومسلم (1211). (¬2) صحيح البخاري (1755) ومسلم (1328). (¬3) صحيح مسلم (381 - 1328).

(369) وروى البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد، عن أيوب عن عكرمة: أن أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة طافت ثم حاضت. قال لهم: تنفر. قالوا: لا نأخذ بقولك وناع قول زيد. قال: إذا قدمتم المدينة فاسألوا، فقدموا المدينة فسألوا فكان فيمن سألوا أم سليم، فذكرت حديث صفية (¬1). (370) وأما رجوع ابن عمر، فقد قال البخاري رحمه الله: حدثنا مسلم، حدثنا وهيب، حدثنا ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت، قال: وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر، ثم سمعته يقول بعد: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لهن (¬2). جاء في فتح الباري: "قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار، ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع، وروينا عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت، أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضاً لطواف الوداع، وكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها، ثم أسند عن عمر بإسناد صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال: طافت امرأة بالبيت يوم النحر ثم حاضت، فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن ينفر الناس، حتى تطهير وتطوف بالبيت، وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك، وبقى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1758). (¬2) صحيح البخاري (1760).

الدليل على أن القول بسقوط طواف الوداع هو قول عامة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.

عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة (¬1). وينبغي أن يضاف إليهم جابر بن عبد الله فإنه كان ممن يرى أن على الحائض طواف الوداع. (371) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن معمر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس، قال: ما رأيت ابن عباس خالفه أحد في شيء فتركه حتى يقرره، فخالفه جابر بن عبد الله في المرأة تطوف ثم تحيض، فقال ابن عباس: تنفر، فأرسلوا إلى امرأة كان أصابها ذلك فوافقت ابن عباس (¬2). [وسنده صحيح]. وفيه إشارة إلى رجوع جابر؛ لأنه أشار أن ابن عباس لم يتركه، حتى يقرره، وأنهم أرسلوا إلى امرأة كان أصابها ذلك، فوافقت ابن عباس، ولا يسع جابراً إلا الرجوع لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الدليل على أن القول بسقوط طواف الوداع هو قول عامة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. (372) روى ابن أبي شيبة، قال: ثنا جرير، عن أبي فروة، قال: سألت القاسم بن محمَّد عن امرأة زارت البيت يوم النحر، ثم حاضت يوم النحر، فقال: يرحم الله عمر. قال أصحاب محمَّد: قد فرغت إلا عمر، فإنه كان يقول: يكون آخر عهدها بالبيت (¬3). ¬

_ (¬1) فتح الباري (1/ 418) ح 1762. (¬2) المصنف (13175). (¬3) المصنف (13174).

دليل عمر على وجوب طواف الوداع على الحائض.

[وسنده صحيح]. وأبو فروة هذا هو عروة بن الحارث من رجال الشيخين. دليل عمر على وجوب طواف الوداع على الحائض. (373) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا أبو عوانة، عن يعلي بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي، قال: سألت عمر بن الخطاب عن المرأة تطوف بالبيت ثم تحيض، فقال: آخر عهدها بالبيت. فقال الحارث: كذلك أفتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: أُرِبْت عن يديك، سألتني عن شيء، سألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيما أخالفه (¬1). [الحديث إسناد رجاله ثقات] (¬2). والجواب: عن هذا القدر المرفوع يحتمل عدة إجابات: الأول: أن نسلك مسلك الترجيح، فيقال: الأحاديث التي ترخص للحائض بأن تترك طواف الوداع أقوى وأكثر. لحديث عائشة في الصحيحين، وحديث ابن عباس فيهما أيضاً، وحديث أم سليم وابن عمر وغيرهم من ¬

_ (¬1) المصنف (13179). (¬2) الحديث أخرجه أحمد (3/ 416) حدثنا بهز وعفان قالا: ثنا أبو عوانة به بلفظ: سألت عمر بن الخطاب عن المرأة تطوف بالبيت، ثم تحيض. قال: ليكن آخر عهدها الطواف بالبيت. وأخرجه أبو داود (2004) حدثنا عمرو بن عون، أخبرنا أبو عوانة به. وأخرجه النسائي في الكبرى (4185) أنبأ قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا أبو عوانة به. وأخرجه الطحاوي (2232) من طريق أبي داود، عن أبي عوانة به.

الأحاديث، ومعلوم أن كثرة الأحاديث، وكون بعضها في الصحيحين قرينة قوية على ترجيحها على غيرها، بل لم يعارضها إلا هذا الحديث عن الحارث ابن أسامة. الجواب الثاني: أن نقول بالنسخ، فالأحاديث التي ترخص للحائض بتركها للطواف كانت في حجة الوداع فتكون ناسخة وهذا ما رجحه الطحاوي (¬1). الجواب الثالث: أن يحمل حديث الحارث إذا كان في الزمان نفس، وفي الوقت مهلة، أما إذا أعجلها السير كان لها أن تنفر من غير وداع وهو اختيار الخطابي (¬2). الجواب الرابع: قال بعضهم: إن الحارث بن عبد الله بن أسامة مختلف في صحبته، وعليه يكون حديثه مرسلاً. وهذا القول ليس بشيء. الجواب الخامس: أن عمر حين سئل عن الحائض قال: وليكن آخر عهدها الطواف بالبيت، كما في رواية أحمد، فوافق كلام عمر - رضي الله عنه - الحديث المرفوع: "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف" وحين سمع منه الحارث قوله: "ليكن آخر عهدها الطواف بالبيت" قال الحارث كذلك أفتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف، وكان قصد الحارث ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار (2/ 235). (¬2) معالم السنن للخطابي (2/ 429).

حين سأل عمر يريد دليلاً خاصاً لا دليلاً عاماً، فأجابه عمر بالحديث العام، والذي هو عند الحارث، ويبعد أن يكون عند الحارث حديث خاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يطلب العلم من غيره. وعلى هذا يكون باقي الصحابة الذين قالوا: تنفر، قد وقفوا على المخصص المخرج للحائض، وبهذا يزول الإشكال، ولأن من قال: تنفر، قوله هذا خلاف القياس، فلا يقولونه إلا بتوقيف، بخلاف من قال: لا تنفر، فقد يكون أخذ بالعموم. والله أعلم وهذا الوجه قد ظهر لي والله أعلم بصحته ولم أعلم أحداً قال به فالراجح أن طواف الوداع يسقط عن الحائض، وهو قول عامة الصحابة كما سبق.

المبحث السابع: إذا نفرت الحائض قبل طواف الوداع وطهرت قبل مفارقة البنيان

المبحث السابع: إذا نفرت الحائض قبل طواف الوداع وطهرت قبل مفارقة البنيان إذا نفرت الحائض قبل طواف الوداع، ثم طهرت، فهل يلزمها الرجوع إلى مكة للطواف. اختلف العلماء في ذلك. فقيل: يلزمها طواف الوداع ما لم تبلغ مسافة قصر وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية في أحد القولين (¬2). وقيل: يلزمها العود ما لم تفارق الحرم. وهو أحد الوجهين عند الشافعية (¬3). وقيل: يلزمها العود ما لم تفارق بنيان مكة، وهو مذهب الحنابلة (¬4)، والصحيح من الوجهين عند الشافعية (¬5). دليل من قال لا يلزمها الرجوع إذا بلغت مسافة القصر. قال النووي: "ولو طهرت الحائض أو النفساء، فإن كان قبل مفارقة ¬

_ (¬1) قال في الفتاوى الهندية (1/ 235): "حائض طهرت قبل أن تخرج من مكة، يلزمها طواف الصدر، وإن جاوزت بيوت مكة مسيرة سفر، وطهرت فليس عليها أن تعود". (¬2) المجموع (8/ 255)، روضة الطالبين (2/ 394). (¬3) انظر المرجع السابق. (¬4) الإنصاف (4/ 52) كشاف القناع (2/ 596) والبدع (3/ 557) المغني (5/ 341). (¬5) المجموع (8/ 255)، مغني المحتاج (1/ 510)

دليل من علق الرجوع ما لم تفارق البنيان.

بناء مكة لزمها طواف الوداع لزوال عذرها، وإن كان بعد مسافة قصر لم يلزمها العود بلا خلاف" (¬1). دليل من علق الرجوع ما لم تفارق البنيان. قالوا إذا لم تفارق البنيان فهي في حكم المقيمة، وليست في حكم المسافرة، بدليل أنها لا يمكن أن تستبيح رخص السفر. وإذا كانت مقيمة وجب عليها الطواف, لأنها مخاطبة به، مثلها مثل من لم يشرع في السفر. قال ابن قدامة: "إذا نفرت الحائض بغير وداع، فطهرت قبل مفارقة البنيان، رجعت فاغتسلت، وودعت؛ لأنها في حكم الإقامة بدليل أنها لا تستبيح الرخص، فإن لم يمكنها الإقامة فمضت، أو مضت لغير عذر، فعليها دم، وإن فارقت البنيان لم يجب الرجوع؛ لأنها قد خرجت عن حكم الحاضر" (¬2). دليل من علق الرجوع ما لم تفارق الحرم. لعلهم يرون الحرم بمثابة البلد الواحد، فإن كان كذلك فهذا ليس بجيد، بدليل أن أهل مكة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلوا معه بمكة صلاة المقيم، ثم صلوا معه في منى صلاة المسافر، مع أنهم لم يفارقوا الحرم، فليس الحرم بمثابة البلد الواحد. والله أعلم. والراجح والله أعلم أن حكم المرأة في هذا معلق بالترخص في أحكام السفر، فإذا بدأت تترخص في أحكام السفر لم يجب عليها الرجوع، ومعلوم أن المسافر يحق له الترخص في أحكام السفر متى فارق البينان. والله أعلم. ¬

_ (¬1) النووي في المجموع (8/ 255). (¬2) المغني (5/ 341).

المبحث الثامن: لا يستحب للحائض والنفساء الدعاء عند باب المسجد الحرام

المبحث الثامن: لا يستحب للحائض والنفساء الدعاء عند باب المسجد الحرام بينت فيما سبق أن طواف الوداع يسقط عن الحائض والنفساء، وقد استحب بعض الفقهاء من الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) الوقوف عند باب المسجد الحرام قبل الانصراف إلى بلدها للدعاء. ولا أعلم لهم دليلاً على الاستحباب، بل الدليل على خلافه. (373) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثني عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتهما أن صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضت في حجة الوداع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحابستنا هي؟ فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله وطافت بالبيت، فقال ¬

_ (¬1) قال النووي في المناسك (ص: 445): "ولا يجب طواف الوداع على الحائض والنفساء، ولا دم عليها لتركه؛ لأنها ليست مخاطبة به، لكن يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام وتدعو". اهـ وقال في مغني المحتاج بعد أن ذكر ما يقوله الحاج بعد طواف الوداع من دعاء الملتزم، قال (1/ 511): "فإن كانت حائضاً أو نفساء استحب أن تأتي بجميع ذلك - يعني من دعاء الملتزم - على باب المسجد وتمضي". (¬2) كشاف القناع (2/ 598)، الفروع (3/ 522). وقال في المحرر (1/ 349): "ولا وداع عليها مع حيض ونفاس، ولا دم بسبب ذلك، لكن يسن لها أن تقف عند باب المسجد، فتدعو".

النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلتنفر. ورواه مسلم (¬1). فلم يأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تذهب إلى باب المسجد، وتدعو، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4401)، ومسلم (382 - 1211).

المبحث التاسع: طواف الوداع للمستحاضة

المبحث التاسع: طواف الوداع للمستحاضة معلوم أن المرأة المستحاضة إذا أقبلت حيضتها تركت الصلاة، وكانت في حكم الحائض، وإذا أدبرت اغتسلت وصلت، وأصبحت في حكم الطاهرات. (375) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمَّد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. ورواه مسلم إلا قوله: قال أبي ثم توضئي لكل صلاة ... الخ (¬1). فقوله: "فإذا أقبلت فدعي الصلاة" أي: فأنت حائض، وإذا كانت حائضاً لم يصح منها طواف، وسقط عنها طواف الوداع، وكان لها أن تنفر. وقوله: "وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي" أي: فأنت طاهرة، وإذا كانت طاهرة كان عليها ما على الطاهرات من وجوب طواف الوداع. قال النووي: وأما المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها فلا وداع عليها، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (228)، ومسلم (62 - 333).

وإن نفرت في يوم طهرها لزمها الوداع (¬1). وإذا كانت المستحاضة تصلي، كان عليها الطواف، لا سيما إذا علمنا أن المستحاضة لا تمنع من دخول المسجد، حتى على قول من يمنع الحائض من ذلك. (376) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة: قال: حدثنا يزيد ابن زريع، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة، قالت: اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي (¬2). وإذا كانت المستحاضة تعتكف، مع كون الاعتكاف ليس واجباً عليها، فكونها تطوف الطواف الواجب من باب أولى. ¬

_ (¬1) المجموع (8/ 255). (¬2) صحيح البخاري (310).

الباب السادس: في أحكام الحائض من حيث العلاقات الزوجية.

الباب السادس: في أحكام الحائض من حيث العلاقات الزوجية. ويشتمل على فصول: الفصل الأول: تحريم وطء الحائض في فرجها. الفصل الثاني: خلاف العلماء في مباشرة الحائض فيما بين السرة والركبة. الفصل الثالث: إذا جامع الرجل امرأته وهي حائض هل عليه كفارة؟ الفصل الرابع: في حكم طلاق الحائض وهل يقع؟ الفصل الخامس: في حكم الخلع في زمن الحيض. الفصل السادس: خلاف العلماء في خلع الحائض.

الفصل الأول: تحريم وطء الحائض في فرجها

الفصل الأول: تحريم وطء الحائض في فرجها أجمع العلماء على أنه يحرم على الزوج أن يجامع زوجته في فرجها حال الحيض، وممن نقل الإجماع ابن المنذر في الأوسط (¬1)، وابن حزم في مراتب الإجماع، وابن قدامة (¬2)، والنووي (¬3)، ونقل الإجماع أيضاً خلق كثير من المفسرين، والمحدثين، والفقهاء منهم الطبري رحمه الله في تفسيره (¬4)، والقرطبي في التفسير (¬5)، وابن كثير في تفسيره (¬6)، وابن تيمية (¬7). واستثنى الحنابلة للرجل الذي به شبق أن يطأ امرأته وهي حائض، بشرط ألا تندفع شهوته إلا بالوطء في الفرج، ويخاف تشقق أنثييه إن لم يطأ، وليس عنده غير زوجته الحائض، بحيث لا يقدر على مهر حرة ولا ثمن أمه. وهذا الاستثناء من الحنابلة داخل في تحليل الحرام للضرورة لقوله تعالى: {إلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬8)، وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ ¬

_ (¬1) الأوسط (2/ 208). (¬2) المغني (1/ 414). (¬3) المجموع (2/ 189)، وفي شرح مسلم (1/ 592). (¬4) تفسير الطبري (4/ 381). (¬5) الجامع لأحكام القرآن (3/ 87). (¬6) تفسير القرآن العظيم (1/ 460)، تحقيق الشيخ مقبل الوادعي وفقه الله. (¬7) مجموع الفتاوى (21/ 624). (¬8) الأنعام، آية: 119.

حَرَجٍ} (¬1)، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2) (¬3). وأما الاستمتاع فيما فوق السرة وتحت الركبة، فقد حكى بعضهم الإجماع على جوازه، منهم ابن قدامه (¬4). وقال النووي بعد أن ساق خلاف العلماء في الاستمتاع فيما بين السرة والركبة، قال: "وأما ما سواه - يعني سوى ما بين السرة والركبة - فمباشرتها فيه حلال بإجماع المسلمين، نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي، وابن الصباغ، والعبدري وآخرون" (¬5). (377) وأما ما يروى عن ابن عباس من طريق حبيب مولى عروة ابن الزبير، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس في رسالة، فدخلت عليه، فإذا فراشه معزول عن فراش امرأته، فرجعت إلى ميمونة فبلغتها رسالتها ثم ذكرت ذلك، فقالت لها ميمونة: ارجعي إلى امرأته فسليها عن ذلك، فرجعت إليه فسألتها عن ذلك،، فأخبرتها أنها إذا طمثت عزل عبد الله فراشه عنها، فأرسلت ميمونة إلى عبد الله ابن عباس، فتغيظت عليه، وقالت: أترغب عن سنة رسول الله ¬

_ (¬1) الحج، آية: 78. (¬2) البقرة، آية: 185. (¬3) انظر: معرفة أولي النهى شرح المنتهى (1/ 466)، المبدع (1/ 221)، كشاف القناع (1/ 198). (¬4) المغني (1/ 414). (¬5) المجموع (2/ 393).

- صلى الله عليه وسلم -؟ فوالله إن كانت المرأة من أزواجه لتأتزر بالثوب ما يبلغ أنصاف فخذيها ثم يباشرها بسائر جسده. [سنده ضعيف] (¬1). (378) وأما ما رواه ابن جرير الطبري بسند صحيح، عن محمَّد ابن سيرين، قال: قلت لعبيدة: ما يحل لي من امرأتي إذا كانت حائضاً؟ قال: الفراش واحد واللحاف شتى (¬2). فهذا لا حجة فيه, لأنه موقوف على تابعي، مخالف لما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا فله تأويل مقبول، قال ابن رجب: "الصحيح عن عبيدة ما رواه وكيع في كتابه، عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قال: الفراش واحد، واللحاف شتى، فإن لم يجد بداً رد عليها من طرف ثوبه. وهذا إنما يدل على أن الأولى أن لا ينام معها متجردة في لحاف واحد، حتى يسترها بشيء من ثيابه. وهذا مما لا خلاف فيه (¬3). (379) وأما ما رواه أحمد، قال: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن ابن قريظة الصدفي (¬4)، قال: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، انظر تخريجه في حديث رقم (94). (¬2) سبق تخريجه انظر رقم (96). (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 35). (¬4) هكذا في المطبوع، وفي تعجيل المنفعة (1463): ابن قريظ بدون التاء المربوطة.

قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضاجعك وأنت حائض؟ قالت: نعم، إذا شددت على إزاري، ولم يكن لنا ذاك إلا فراش واحد، فلما رزقني الله فراشاً آخر اعتزلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [سنده ضعيف] (¬2). (380) وروى أبو داود، قال: حدثنا سعيد بن عبد الجبار، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمَّد - عن أبي اليمان، عن أم ذرة، عن عائشة أنها قالت: كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير، فلم نقرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ندن منه حتى نطهر (¬3). [وسنده ضعيف أيضاً] (¬4). ¬

_ وفي الإكمال للحسيني (قريط) بالطاء. الإكمال للحسيني (1242)، وكذا هو في شرح ابن رجب للبخاري (2/ 36). وذكره البخاري في التاريخ الكبير (8/ 444) فقال: "ابن قُرط" أو ابن قَرط. وذكره في الجرح والتعديل (9/ 324) فيمن عرف بابن عامر بن قرط أو قريط. (¬1) المسند (6/ 91). (¬2) الحديث فيه: ابن لهيعة، وهو ضعيف والراوي عن ابن لهيعة فتيبة بن سعيد، وروايته عنه أعدل من غيرها. وفيه عنعنة ابن لهيعة، وهو مدلس إلا أنه قد توبع، تابعه عمرو بن الحارث عن ابن أبي حبيب به. انظر: شرح ابن رجب للبخاري (2/ 36) ولكن علته ابن قرط الصدفي. فإنه مجهول لم يرو عنه إلا سويد بن قيس ولم يوثقه أحد. (¬3) سنن أبي داود (271). (¬4) في الإسناد: أبو اليمان، واسمه كثير بن يمان، وقيل: كثير بن جريج، روى عنه اثنان. ذكره ابن حبان في الثقات (7/ 351)، ولم يوثقه أحد غيره. وذكره البخاري في التاريخ الكبير، ولم يذكر فيه شيئاً. التاريخ الكبير (7/ 212).

(381) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا الفضل بن دكين، عن أبي هلال، عن شيبة بن هشام الراسبي، قال: سألت سالماً عن الرجل يضاجع امرأته وهي حائض. فقال: نحن آل عمر فنعزلهن. (¬1) [إسناده ضعيف] (¬2). وضعف إسناده ابن رجب (¬3) وخرج القاضي إسماعيل، من طريق جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي ¬

_ وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل, وسكت عليه. الجرح والتعديل (7/ 185). وفي التقريب مستور. كما أن في إسناده أم ذرة، روى عنها ثلاثة، ولم يوثقها أحد، وفي التقريب: مقبولة. يعني: حيث توبعت وإلا ففيها لين. قال ابن رجب في شرح البخاري (2/ 37) أبو اليمان وأم ذرة ليسا بمشهورين، فلا يقبل تفردهما بما يخالف رواية الثقات الحفاظ الأثبات. وخرجه بقي بن مخلد، عن الحماني، ثنا عبد العزيز، عن أبي الرجال، عن أم ذرة عن عائشة قالت: كنت إذا حضت لم أدن من فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أطهر" والحماني متكلم فيه" اهـ كلام ابن رجب. (¬1) المصنف (3/ 524) 16823. (¬2) في الإسناد شيبة بن هشام الراسبي، روى عنه شعبة، وحماد بن زيد، وأبو هلال الراسبي. ذكر ذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 336) وسكت عليه فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. وذكره البخاري في التاريخ الكبير، وسكت عليه. التاريخ الكبير (4/ 242). وذكره ابن حبان في الثقات. (4/ 445). وقد يقال: إن الرجل من التابعين، وروى عنه أكثر من واحد، خاصة شعبة، وقد قال الذهبي عامة شيوخ شعبة مقبولون، ولم يضعفه أحد من الأئمة، فمثل هذا يقبل حديثه. والله أعلم. (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 38).

أمامة، قال: قال عمر: كنا نضاجع النساء في الحيض، وفي الفرش واللحف قلة، فأما إذا وسع الله الفرش واللحف فاعتزلوهن كما أمر الله عز وجل (¬1). [قال ابن رجب: هذا لا يثبت، وجعفر بن الزبير متروك الحديث] (¬2). ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 37). (¬2) قال يحيى بن معين: ليس بثقة، كما في رواية الدوري عنه. الكامل (2/ 134)، ضعفاء العقيلي (2/ 182)، تهذيب الكمال (5/ 32). وقال غندر: رأيت شعبة راكباً على حمار، فقيل له: أين تريد يا أبا بسطام؟ قال: أذهب فاستعدي على جعفر بن الزبير، وضع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعمائة حديث كذب. الكشف الحثيث (194)، وتهذيب الكمال (5/ 32). وضرب أحمد على حديث جعفر بن الزبير. تهذيب الكمال (5/ 32). وقال عمرو بن علي: متروك الحديث، كثير الوهم. الجرح والتعديل (2/ 479). وقال أبو حاتم الرزاي: متروك الحديث، كان ينزل البصرة، وكان ذاهب الحديث، لا أرى أن أحدث عنه، وهو متروك الحديث. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة، وكان في كتابنا حديث عن جعفر بن الزبير، فقال: اضربوا عليه. فقلت: ما حال جعفر بن الزبير، أضعيف هو؟ قال: كما يكون، لا أحدث عنه ليس بشيء. الجرح والتعديل (2/ 479). قال البخاري: جعفر ابن الزبير الشامي، عن القاسم، متروك الحديث، تركوه. الكامل (2/ 134).

الفصل الثاني: خلاف العلماء في مباشرة الحائض فيما بين السرة والركبة

الفصل الثاني: خلاف العلماء في مباشرة الحائض فيما بين السرة والركبة تبين لنا من خلال الفصل السابق، تحريم الوطء في الفرج، وهو إجماع. وتبين لنا جواز الاستمتاع فيما فوق السرة ودون الركبة، وأن القول به كالإجماع، وإن كان فيه خلاف فلعله لا يصح. وهو شاذ مخالف للأدلة الكثيرة وسوف نأتي على ذكرها إن شاء الله. وأما مباشرة المرأة الحائض فيما بين السرة والركبة عدا الفرج ففيه خلاف بين العلماء. فقيل: يحرم عليه الاستمتاع بما تحت الإزار، وهو ما بين السرة والركبة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: لا يحرم عليه إلا الإيلاج في الفرج خاصة. وهو مذهب الحنابلة (¬4)، ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 166)، تبيين الحقائق (1/ 57) البحر الرائق (1/ 208 - 209) البناية للعيني (1/ 640)، حاشية رد المحتار (1/ 292). (¬2) الخرشي (1/ 208)، حاشية الدسوقي (1/ 173)، الشرح الصغير (1/ 215 - 216)، الكافي (ص 31)، القوانين الفقهية (ص 31)، مواهب الجليل (1/ 373 - 374)، منح الجليل (1/ 174)، أسهل المدارك (1/ 90). (¬3) الأم (1/ 59)، المجموع (2/ 392)، الروضة (1/ 136)، مغني المحتاج (1/ 110)، نهاية المحتاج (1/ 330). (¬4) المغني (1/ 414)، الكافي (1/ 73)، المحرر (1/ 25 - 26)، الإنصاف (1/ 350) الكشاف (1/ 198)، شرح منتهى الإرادات (1/ 111)، معونة أولي النهى شرح المنتهى

أدلة الجمهور على تحريم المباشرة من تحت الإزار.

واختاره محمَّد بن الحسن من الحنفية (¬1)، وأصبغ وابن حبيب من المالكية (¬2)، وقواه النووي من الشافعية (¬3)، وابن حزم من الظاهرية (¬4)، وقيل: يستحب في المباشرة أن تكون من فوق الإزار ولا يجب (¬5). وقيل: إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه جاز وإلا فلا، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬6). أدلة الجمهور على تحريم المباشرة من تحت الإزار. من القرآن: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬7). وجه الاستدلال: ظاهر الآية تقتضي اعتزال الحائض حال الحيض، فلما دلت الأحاديث على جواز الاستمتاع منها بما فوق الإزار دل ذلك على أن ما عداه باق على المنع. ¬

_ (1/ 466). (¬1) البحر الرائق (1/ 208)، شرح فتح القدير (1/ 166)، فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 460). (¬2) التاج والإكليل مطبوع بهامش مواهب الجليل (1/ 373)، القوانين الفقهية (ص 31)، المقدمات الممهدات (1/ 136)، البحر الرائق (1/ 208). (¬3) المجموع (2/ 393) قال: وهو الأقوى من حيث الدليل. (¬4) المحلى المسألة (260). (¬5) المجموع (2/ 393). (¬6) المجموع (2/ 393)، الحاوي (1/ 385). (¬7) البقرة: 22.

[الدليل الأول]

وأجيب: بأن المحيض يحتمل معنيين: الأول: أن يكون مصدراً من حاضت المرأة حيضاً ومحيضاً، وعلى هذا التأويل يتوجه استدلالكم. والثاني: يحتمل أن المراد بالمحيض في الآية اسم لمكان الحيض، كالمقيل، والمبيت (¬1)، وعلى هذا المعنى، يكون تخصيصه موضع الدم بالاعتزال دليل على إباحته فيما عداه، وهذا التأويل أرجح من الأول لأمرين: أحدهما: لو أراد بالمحيض الحيض، لكان أمراً باعتزال النساء في مدة الحيض بالكلية، والإجماع على خلافه. الثاني: أن هذا التفسير موافق لسبب نزول الآية. [الدليل الأول] (*) (382) فقد روى مسلم، قال: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ...} (¬2) الآية. فقال رسول الله: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، فقال يا رسول الله: إن اليهود تقول كذا وكذا، فلا نجامعهن؟ فتغير وجه ¬

_ (¬1) انظر: تاج العروس (10/ 44)، والمغني لابن قدامة (1/ 415). (¬2) البقرة، آية: 222 (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

الدليل الثاني

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أنه قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في أثرهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما. وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" دليل على أن المحرم هو الوطء في الفرج، وأن المراد بالمحيض هو مكان الحيض. الدليل الثاني: (383) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، كلانا جنب، وكان يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض، وكان يخرج رأسه إليَّ وهو معتكف وأنا حائض. وأخرجه مسلم، من طريق جرير، عن منصور به بلفظ: "كانت إحدانا إذا كانت حائضاً أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتأتزر بإزار ثم يباشرها" (¬1). الدليل الثالث: (384) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الشيباني، قال: حدثنا عبد الله بن شداد، قال سمعت ميمونة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (299)، مسلم (293).

ورواه مسلم، من طريق خالد بن عبد الله، عن الشيباني به بلفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض" (¬1). وأجيب عن هذين الحديثين، بأنهما حكاية فعل للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ليس فيها النهي عن المباشرة فيما تحت الإزار، والفعل لا يقدم على القول، وحديث: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" صريح بالجواز. وقد يقال: بأن هذا الفعل من النبي - صلى الله عليه وسلم - في فور الحيضة واشتدادها. (385) فقد روى البخاري، قال: نا إسماعيل بن خليل، أنا علي بن مسهر، أخبرنا أبو إسحاق - هو الشيباني - عن عبد الرحمن ابن الأسود، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يباشرها، أمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها. وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه. وأخرجه مسلم (¬2). (386) وروى ابن ماجه، قال: حدثنا الخليل بن عمرو، ثنا ابن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية بن خديج، عن معاوية بن أبي سفيان، عن أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سألتها كيف تصنعين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحيضة؟ قالت: كانت إحدانا في فورها أول ما تحيض، تشد عليها إزاراً إلى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (303)، ومسلم (294). (¬2) صحيح البخاري (302)، ومسلم (293).

أنصاف فخذيها، ثم تضطجع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [وهذا إسناد ضعيف فيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس]. قال ابن رجب في شرح البخاري: وفي هذا الحديث مع حديث عائشة الثاني الذي خرجه البخاري ها هنا دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يأمر الحائض بالاتزار في أول حيضها - وهو فور الحيضة وفوجها - فإن الدم حينئذ يفور لكثرته، فكلما طالت مدته قل الدم - وهذا مما يستدل به على أن الأمر بشد الإزار لم يكن لتحريم الاستمتاع بما تحت الإزار، بل خشية من إصابة الدم والتلوث به، ومبالغة في التحرز من إصابته. وقد روى محمَّد بن بكار بن بلال، نا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقي سورة الدم ثلاثاً، ثم يباشر بعد ذلك، وهذا الإسناد وإن كان فيه لين، إلا أن الأحاديث الصحيحة تعضده وتشهد له. اهـ (¬2) كلام ابن رجب وحديث أم سلمة سبق أن مر معنا. فملخص الجواب عن حديث عائشة وحديث ميمونة، في كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يباشر من نسائه وهي حائض إذا اتزرت إما أن يقال: هذا فعل، والفعل لا يدل على الوجوب، بل غاية ما يدل عليه ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (638). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 31)، وأخرجه الطبراني كما في مجمع البحرين (504): حدثنا أبو زرعة، ثنا محمَّد بن بكار به. وفي الإسناد: سعيد بن بشير، وهو ضعيف، كما أن فيه عنعنة قتادة وهو مدلس وعنعنة الحسن وهو مدلس أيضاً.

الدليل الرابع

استحباب ذلك الفعل، والأحاديث القولية صريحة بجواز مباشرة الحائض لجميع بدنها ما عدا الفرج. وإما أن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك في فور الحيضة ووقت شدتها حرصاً واتقاء للدم، والله أعلم. الدليل الرابع: (387) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا هارون بن محمَّد بن بكار، قال: حدثنا مروان - يعني ابن محمَّد - قال: حدثنا الهيثم بن حميد، قال: حدثنا العلاء بن الحارث، عن حرام بن حكيم، عن عمه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار. وذكر مؤاكلة الحائض أيضاً وساق الحديث (¬1). [وسنده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (388) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق الخشبي الرقي، ثنا عبد الله بن جعفر، ثنا عبد الله بن عمرو - يعني الرقي - عن زيد - يعني ابن أبي ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (212). (¬2) فيه العلاء بن الحارث قد اختلط ولم أجد أحداً نص على من سمع منه قبل الاختلاط ممن سمع منه بعد، فلم يتميز لي الرواة عنه ولذا ضعفته، وقد يقال: إن الهيثم بن حميد كونه يروي عن مكحول، ومكحول شيخ للعلاء بن الحارث، فهذا يدل على أنه من قدماء أصحاب العلاء بن الحارث، فلعله ممن لم يدرك تغيره. إن كان قال به أحد فهو مقبول.

أنيسه - عن أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو، عن عمير مولى عمر، قال: جاء نفر من العراق إلى عمر، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئناك لنسألك عن ثلاث. قال: ما هي؟ قالوا: صلاة الرجل في بيته تطوعاً، ما هي؟ وما يحل للرجل من امرأته حائضاً؟، وعن الغسل من الجنابة؟ فقال: أسحرة أنتم؟ قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، ما نحن بسحرة، قال: أفكهنة أنتم؟ قالوا: لا، فقال: لقد سألتموني عن ثلاث ما سألني عنهن أحد منذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهن قبلكم، فقال: أما صلاة الرجل في بيته تطوعاً فنور، فنوّر بيتك ما استطعت، وأما الحائض فلك ما فوق الإزار، وليس لك ما تحته، وأما الغسل من الجنابة فتفرغ بيمينك على شمالك، ثم تدخل يدك في الإناء، فتغسل فرجك وما أصابك، ثم توضأ وضوءك للصلاة، ثم تفرغ على رأسك ثلاث مرات وتدلك رأسك كل مرة (¬1). [إسناده ضعيف، وفيه اختلاف] (¬2). ¬

_ (¬1) مجمع البحرين (491). (¬2) في الإسناد عمير مولى عمر، لم يرو عنه غير عاصم بن عمرو. ذكره ابن حبان في الثقات، (5/ 257)، ولا أعلم أحداً وثقه غيره. وفي التقريب: مقبول، يقصد إن توبع وإلا فلين. والراوي عنه عاصم بن عمرو البجلي. ذكره البخاري في الضعفاء الصغير، وقال: لم يثبت حديثه. الضعفاء الصغير (280). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: هو صدوق، وكتبه البخاري في الضعفاء، فسمعت أبي يقول: يحول من هناك. الجرح والتعديل (6/ 348). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (5/ 236).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال الذهبي: لا بأس به، إن شاء الله. الميزان (2/ 356). وقال الحافظ: ذكره العقيلي في الضعفاء. تهذيب التهذيب (5/ 48)، ولم أقف عليه في كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي، فلعله في كتاب آخر. وذكره أبو زرعة الرازي في الضعفاء. (646). ولخص حاله الحافظ ابن حجر، فقال في التقريب: صدوق رمي بالتشيع. اهـ وهو الحق أن حديثه من قبيل الحسن. وقد اختلف على عاصم بن عمرو، ومدار هذا الإسناد عليه. فقيل: عن عاصم بن عمرو، عن عمير مولى عمر، كما في إسناد الباب، وقد عرفت ما في عمير مولى عمر. وقيل: عن عاصم بن عمرو، عن أحد النفر الذين أتوا عمر، وفيه من لم يسم. وقيل: عن عاصم بن عمرو، أن قوماً أتوا عمر، وهذا منقطع، حيث لم يسمع عاصم من عمر. قال أبو زرعة: كما في المراسيل لابن أبي حاتم (ص 153): عاصم بن عمرو البجلي عن عمر مرسل، وكذا قال المزي في تهذيب الكمال (13/ 533). وقد رجح الدارقطني حديث عاصم بن عمرو عن عمير مولى عمر، كما في العلل (2/ 196)، وقد علمت ما في عمير، ولهذا الترجيح قدمت رواية الطبراني النازلة على غيرها، وإن كان الحديث في مسند أحمد من طريق آخر، ثم إن رواية عمير مولى عمر، فيها التصريح بأن ما تحت الإزار ليس للزوج أن يستمتع به، بينما في أكثر الروايات اقتصرت على قوله: "لك ما فوق الإزار". قال الدارقطني في العلل (2/ 196) س 216: "رواه زيد بن أبي أنيسة، ورقبة بن مصقلة، وأبو حمزة السكري، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو، عن عمير أو ابن عمير. ورواه زهير، ويونس بن أبي إسحاق، ويوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، وأبو بكر بن عياش، وعبد الكريم بن دينار، وغيرهم، فرووه عن أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو، عن نفر لم يسمهم، عن عمر، إلا أن يونس بن أبي إسحاق، وأبا بكر بن عياش لم يذكرا بين عاصم وعمر أحداً. ورواه ابن عجلان عن أبي إسحاق، فأرسله عن عمر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ورواه طارق بن عبد الرحمن، وحجاج بن أرطأة، ومالك بن مغول عن عاصم مرسلاً عن عمر. وقال المسعودي وشعبة: عن عاصم بن عمرو، عمن لم يسمه، عن عمر. وقد أدرك عبد الله بن نمير عاصم بن عمرو هذا، والحديث حديث زيد بن أبي أنيسة ومن تابعه. وروى هذا الحديث معاوية بن قرة، قال: حدثني أحد الرهط الثلاثة الذين سألوا عمر" اهـ. كلام الدارقطني رحمه الله تعالى. تخريج الحديث: أما طريق عاصم بن عمرو عن عمير مولى عمر. فقد أخرجه الطبراني كما في إسناد الباب (491): حدثنا أحمد بن إسحاق الخشبي الرقي، ثنا عبد الله بن جعفر، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو مولى عمر ... جاء نفر من العراق إلى عمر ... وذكر الحديث. وأخرجه ابن ماجه (1375): حدثنا محمد بن أبي الحسين، ثنا عبد الله بن جعفر به واقتصر على صلاة الرجل في بيته. قال البوصيري في الزوائد: "مدار الطريقين (يعني طريق طارق، وأبي إسحاق) على عاصم بن عمرو، وهو ضعيف، وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال البخاري لم يثبت حديثه" اهـ. وقد بينت لك أن عاصم بن عمرو لا يقل حديثه عن رتبة الحسن، ولكن علته إما عمير مولى عمر، وإما الانقطاع بين عاصم وعمر، وإما أن يوجد في الإسناد من لم يسم بين عاصم وعمر. وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 312) من طريق عمرو بن قسيط الرقي، ثنا عبيد الله بن عمرو به، فذكره بطوله. وفي هذا الإسناد عنعنة أبي إسحاق السبيعي، وهو مدلس مكثر، إلا أنه قد توبع في عاصم بن عمرو. الطريق الثاني: عن عاصم بن عمرو عن أحد النفر الذين أتوا عمر. أخرجه أبو داود الطيالسي (49) (147): حدثنا المسعودي، عن عاصم بن عمرو البجلي، عن أحد النفر الذين أتوا عمر بن الخطاب ... وذكر الحديث.

الدليل السادس

الدليل السادس: (389) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن زيد بن أسلم، أن رجلاً سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها. ¬

_ وأخرجه أحمد (1/ 14): حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة. قال: سمعت عاصم بن عمرو البجلي يحدث عن رجل من القوم الذين سألوا عمر بن الخطاب، فقالوا له: إنما أتيناك نسألك عن ثلاث .. وذكر الحديث. وأخرجه الطحاوي (3/ 36 - 37) من طريق أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو البجلي به. الطريق الثالث: عن عاصم بن عمرو أن قوماً أتو عمر. أخرجه عبد الرزاق (987)، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 207) عن معمر، عن أبي إسحاق، عن رجل يقال له عاصم، أنا رهطاً أتو عمر وذكر الحديث بتمامه، وفيه: "ولا تطلعون على ما تحته - يعني الإزار - حتى تطهر". وفيه لو صح تحريم الاستمتاع بما تحت الإزار حتى بالنظر. وأخرجه عبد الرزاق (988) عن إسرائيل، عن أبي إسحاق به ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطحاوي (3/ 37). وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (2143). وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 525) ح 16828: حدثنا أبو الأحوص، عن طارق، عن عاصم ابن عمرو البجلي، قال: خرج ناس من أهل العراق ... وذكر الحديث مقتصراً على ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض. وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 60) رقم 6460 بالإسناد نفسه ومن طريقه أخرجه ابن ماجه (1375) بقصة صلاة الرجل في بيته نفلاً. وأخرجه الطحاوي (3/ 37) من طريق المسعودي، عن عاصم بن عمرو به، بقصة الحائض فقط.

الدليل السابع

[ضعيف لكونه مرسلاً] (¬1). الدليل السابع: (390) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك اليزني، حدثنا بقية بن الوليد، عن سعد الأغطش - وهو ابن عبد الله - عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي - قال هشام: هو ابن قرط أمير حمص - عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يحل للرجل من امرأته، وهي حائض، قال: فقال: ما فوق الإزار، والتعفف عن ذلك أفضل (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 75) رقم 93 وقد رواه الدارمي (1032) أخبرنا خالد بن مخلد، ثنا مالك بن أنس به. ومن طريق مالك أخرجه البيهقي (7/ 191). قال ابن عبد البر في التمهيد، كما في فتح البر (3/ 468): "لا أعلم أحداً روى هذا الحديث مسنداً بهذا اللفظ: "أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا" ومعناه صحيح ثابت. اهـ. وجاء مرسلاً من طريق آخر، فقد روى ابن الجوزي في التحقيق (1/ 251) رقم 295 بسنده عن عطاء بن يسار، قال رجل: يا رسول الله ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "تشد إزارها ثم شأنك بأعلاها". (¬2) سنن أبي داود (213). (¬3) عبد الرحمن بن عائذ الأزدي لم يسمع من معاذ. قال أبو حاتم كما في المراسيل لابنه (ص 125): لم يدرك معاذاً. اهـ. وسعد بن عبد الله الأغطش. ذكره ابن حبان في الثقات (4/ 286). وقال أبو داود عقب روايته للحديث. وليس هو - يعني الحديث - بالقوي. السنن (213).

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (391) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أبو نعيم ضرار بن صرد، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن صفوان بن سليم، وزيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلاً قال: يا رسول الله، مالي من امرأتي وهي حائض؟ قال: تشد إزارها ثم شأنك بها (¬1). [إسناده ضعيف، والمعروف أنه عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً] (¬2). ¬

_ وقال عبد الحق الإشبيلي: في إسناده بقية، عن سعد الأغطش، وهما ضعيفان. الأحكام الوسطى (1/ 208)، ونقله الحافظ في التهذيب (3/ 413). وفي التقريب: لين الحديث. وبقية بن الوليد قد عنعن، وهم متهم بتدليس التسوية. (¬1) المعجم الكبير (10765). (¬2) في إسناده ضرار بن صرد، قال فيه البخاري: متروك الحديث. ضعفاء العقيلي (2/ 222). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (310). وقال أيضاً في موضع آخر: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/ 400). وذكره سبط ابن العجمي في الكشف الحثيث فيمن رمي بوضع الحديث. (350). وقال ابن حبان: كان فقيهاً عالماً بالفرائض، إلا أنه يروي المقلوبات عن الثقات حتى إذا سمعها من كان داخلاً في العلم شهد عليه بالجرح والوهن، كان يحيى بن معين يكذبه. المجروحين (1/ 380) وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وذكره الدارقطني في الضعفاء. (301).

فهذه الأحاديث التي تصرح بأن للزوج ما فوق الإزار، كلها ضعيفه، لا تخلو من مقال، فلا تعارض ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". وقد يقال: إن قوله: "لك ما فوق الإزار" لا تحرم ما تحت الإزار إلا بالمفهوم، وحديث: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" منطوقه أنه لا يحرم من الحائض شيء إلا الفرج خاصة، والمنطوق مقدم على المفهوم. والله أعلم. قال ابن رجب: "وأما الأحاديث التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عما يحل من الحائض؟ فقال: "فوق الإزار" فقد رويت من وجوه متعددة لا تخلوا أسانيدها من لين، وليس رواتها من المبرزين في الحفظ، ولعل بعضهم روى ذلك بالمعنى الذي فهمه من مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - للحائض من فوق الإزار. وقد قيل: إن الإزار كناية عن الفرج، ونقل ذلك عن اللغة، وأنشدوا فيه شعراً. قال وكيع: الإزار عندنا: الخرقة التي على الفرج". اهـ كلام الحافظ ابن ¬

_ وقال أبو حاتم: صاحب قرآن، وفرائض، صدوق، يكتب حديثه ولا يحتج به. الجرح والتعديل (4/ 465). وقد روى الحديث ابن الجوزي (1/ 251) رقم 295 من طريق سعيد بن منصور، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار، قال: قال رجل، يا رسول الله: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: تشد إزارها ثم شأنك بأعلاها. فالمعروف من الحديث أنه مرسل، والله أعلم.

رجب رحمه الله (¬1). وروى القول بأن للزوج ما فوق الإزار عن علي بن أبي طالب، وعائشة وابن عباس رضي الله عنهم. (392) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن برد، عن مكحول، عن علي، قال: ما فوق الإزار (¬2). [ولا يعلم لمكحول سماع من علي، ولا أدركه] (¬3). (393) وأما ما جاء عن عائشة فقد روى مالك، قال: عن نافع، أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أرسل إلى عائشة يسألها: هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت: لتشد إزارها على أسفلها، ثم يباشرها إن شاء (¬4). [إسناده صحيح] (¬5). ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 32). (¬2) المصنف (3/ 524) رقم 16812 (¬3) مكحول معروف بالتدليس، وقد عنعن، كما أنه لم يسمع من علي، قال ابن أبي حاتم، عن أبيه: سألت أبا مسهر، هل سمع مكحول من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما صح عندنا إلا أنس ابن مالك. قلت: واثلة؟ فأنكره. المراسيل (3/ 211). (¬4) الموطأ (1/ 58) رقم 95 (¬5) وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 524): حدثنا وكيع، عن الأوزاعي، عن ميمون بن مهران، عن عائشة أنها سئلت: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت: ما فوق الإزار. وأخرجه الدارمي (1038): أخبرنا محمد بن يوسف، ثنا الأوزاعي به.

وقد روى مسروق عن عائشة أنه يحل للزوج كل شيء إلا فرجها وسوف يأتي ذكره في أدلة القول الثاني، فيكون لعائشة في المسألة قولان: وأما ما يروى عن ابن عباس. (394) فقد أخرجه ابن جرير الطبري، قال: حدثنا أبو كريب، وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن يزيد، عن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس عن الحائض، ما لزوجها منها؟ فقال: ما فوق الإزار (¬1). [سنده ضعيف] (¬2). وقد روى عن ابن عباس ما يخالف هذا، كما في أدلة القول الثاني. وممن قال بهذا القول - أعني أن للزوج أن يستمتع بما فوق الإزار - شريح (¬3)، ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (4262). (¬2) فيه يزيد بن أبي زياد، جاء في التقريب: ضعيف، كبر فتغير وصار يتلقن، وكان شيعياً. ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 207)، قال: حدثنا موسى، ثنا أبو بكر - يعني ابن أبي شيبة - ثنا ابن إدريس به. وهو في مصنف ابن أبي شيبة (3/ 254) رقم 16813، عن ابن إدريس به إلا أن جعله من كلام سعيد بن جبير، وكذا هو في سنن الدارمي (1043) من طريق خالد بن عبد الله، عن يزيد ابن أبي زياد به. (¬3) أخرجه عبد الرزاق (1239)، وابن جرير الطبري في تفسيره (4261) وإسنادهما

أدلة القائلين لا يحرم من الحائض إلا الفرج خاصة.

وطاووس (¬1)، وعبيدة (¬2)، وقتادة (¬3)، وغيرهم. أدلة القائلين لا يحرم من الحائض إلا الفرج خاصة. الدليل الأول: من القرآن: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬4)، فالمراد اعتزال النساء في المحيض اعتزال فروجهن. (395) أولاً: لما روى ابن جرير الطبري، قال: حدثني علي ابن داود، قال: حدثني أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} اعتزلوا نكاح فروجهن (¬5). [إسناده ضعيف] (¬6). ¬

_ صحيح. (¬1) أخرجه عبد الرزاق (1244) بسند صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 524) رقم 16825 بسند ضعيف فيه أشعث بن سوار. (¬3) أخرجه عبد الرزاق (1239) ورجاله ثقات، وإن كان سماع معمر من قتاده فيه كلام، لأنه سمع من قتادة وهو صغير، وقتادة بصري وسماع معمر من أهل البصرة فيه كلام. انظر: شرح ابن رجب للبخاري (1/ 299). (¬4) البقرة، آية: 222 (¬5) تفسير الطبري (4241). (¬6) فيه علي وهو ابن أبى طلحة، لم يسمع من ابن عباس، قاله ابن معين كما في سؤالات ابن طهمان عنه، انظر الترجمة (260)، وذكر المزي علياً هذا، وذكر في شيوخه ابن عباس ولم يعلق، فلعله يرى سماعه منه وفي الإسناد أيضاً أبو صالح المصري، كاتب الليث، لخص الحافظ حاله في التقريب، فقال: صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة.

الدليل الثاني

وثانياً: أن المحيض في الآية اسم لمكان الحيض كالمقيل والمبيت. قاله ابن عقيل: وهو ظاهر كلام أحمد (¬1). وثالثاً: قال ابن تيمية، قوله تعالى: {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا} فذكر الحُكْم بعد الوصف بالفاء، فدل على أن الوصف هو العلة، لا سيما وهو مناسب للحكم، كآية السرقة، والأمر بالاعتزال في الدم للضرر والتنجيس، وهو مخصوص بالفرج، فيختص الحكم بمحل سببه (¬2). الدليل الثاني: (396) ما رواه مسلم، قال: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬3). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح ... " الحديث (¬4). وقد سقت الحديث بتمامه في أدلة أصحاب القول الأول. ورواه أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي به، وفيه: اصنعوا كل شيء إلا ¬

_ (¬1) انظر: المبدع شرح المقنع (1/ 264). (¬2) انظر: المرجع السابق، نفس الصفحة. (¬3) البقرة، آية: 222 (¬4) صحيح مسلم (302).

الدليل الثالث

الجماع (¬1). فلم يستثن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الجماع، وما عداه فهو مأمور به أمر إرشاد وإباحة، وهذا الحديث تضمن تفسير قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وأن المقصود اعتزال الوطء في الفرج، فلم يبق مجال للاجتهاد في تفسير الاعتزال ولا في تفسير كلمة "المحيض"، وقد جاءت مفسرة من النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: (397) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وأبو كريب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن ثابت ابن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخمرة من المسجد قالت: فقلت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك (¬2). وجه الاستدلال. قال ابن عبد البر، قال: "دل هذا الحديث على أن كل عضو منها ليس فيه الحيضة في الطهارة، ثم قال: ودل على أن الحيض ليس يغير شيئاً من المرأة مما كان عليه قبل الحيض غير موضع الحيض وحده" (¬3). ونقل نحوه عن أبي جعفر الطحاوي. ¬

_ (¬1) المسند (3/ 132 - 133). (¬2) صحيح مسلم (298). (¬3) التمهيد كما في فتح البر (3/ 462).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (398) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً (¬1). وقد اختلف في رفعه ووقفه، ولم يثبت لي سماع عكرمة من أزواج - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (272). (¬2) اختلف على أيوب فيه. فرواه حماد بن سلمة عن أيوب، عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً، كما في إسناد أبي داود المتقدم. ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره (4255) من طريق ابن علية، عن أيوب عن عكرمة، عن أم سلمة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان على فرجها خرقة. ورواه ابن أبي شيبة (3/ 523) رقم 16811 عن ابن علية، عن خالد - يعني الحذاء - عن عكرمة، عن أم سلمة موقوفاً. فالموقوف فيه التصريح باسم زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنها أم سلمة رضي الله عنها، فإن كان الحديث واحداً كما يدل عليه اتحاد مخرجه، واتحاد موضوعه، ففيه علتان: الأولى: لم أجد أحداً صرح بسماع عكرمة من أم سلمة، وتهذيب المزي لم يذكر أم سلمة من شيوخ عكرمة، كما أني راجعت ترجمة أم سلمة فلم أجد من الرواة عنها عكرمة مولى ابن عباس، ولم أجد من شيوخ عكرمة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عائشة، وقد اختلف كلام أبي حاتم في سماع عكرمة منها فقال في الجرح والتعديل (7/ 7): بأن عكرمة سمع من عائشة، بينما في المراسيل لابنه (ص 158) قال: سمعت أبي يقول: عكرمة لم يسمع من عائشة. العلة الثانية: الاختلاف في وقفه ورفعه كما تبين.

الدليل الخامس

وقد صحح إسناده ابن عبد الهادي (¬1). الدليل الخامس: (399) ما رواه ابن جرير الطبري، قال: حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن كتاب أبي قلابة: أن مسروقاً ركب إلى عائشة، فقال: السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أهل بيته، فقالت عائشة: أبو عائشة، مرحباً، فأذنوا له فدخل، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا استحيي!! فقالت: إنما أنا أمك وأنت ابني. فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت: كل شيء إلا فرجها (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). قال ابن رجب، قال: "احتج أحمد بأن عائشة أفتت بإباحة ما دون الفرج من الحائض، وهي أعلم الناس بهذه المسألة، فيتعين الرجوع فيها إلى قولها، كما رجع إليها في الغسل من التقاء الختانين، وكذا في المباشرة للصائم" (¬4). ¬

_ (¬1) في تنقيح التحقيق (1/ 589). (¬2) تفسير الطبري (4248). (¬3) ورواه الدارمي (1039) بسند حسن من طريق مروان الأصغر، عن مسروق به، ورواه الطبري في التفسير (4247) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق به. وسنده صحيح، وعنعنة قتادة زال أثرها بالمتابعة. ورواه الطحاوي (3/ 38) من طريق حكيم بن عقال، عن عائشة، وسنده صالح في المتابعات. (¬4) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (2/ 33).

وممن قال بهذا القول من التابعين إبراهيم النخعي (¬1)، والحسن (¬2)، وعطاء (¬3)، ومجاهد (¬4)، والحكم (¬5)، والشعبي (¬6)، وبه قال سفيان الثوري (¬7)، والأوزاعي (¬8)، وإسحاق (¬9)، وأبو ثور (¬10)، وابن المنذر (¬11)، وداود الظاهري، ووافقه ابن حزم (¬12). ¬

_ (¬1) رواه الدارمي (1034) بسند حسن. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (3/ 525) رقم 16827 بسند فيه لين، فيه الربيع بن صبيح، لكن رواه الطبري في تفسيره (4256) بسند صحيح عنه. (¬3) رواه الدارمي (1036) بسند صحيح عنه. (¬4) رواه الدارمي (1043، 1042)، والطبري في تفسيره (4258) من طريقين عن ليث عن مجاهد وأحد الطريقين صحيح لذاته، والآخر صحيح لغيره. (¬5) رواه ابن أبي شيبة (3/ 524) بسند صحيح، قال الحكم: لا بأس أن تضعه على الفرج ولا تدخله. (¬6) رواه ابن أبي شيبة (3/ 524) من طريقين بإسناد صحيح عنه. (¬7) انظر: فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 460) وشرح ابن رجب للبخاري (2/ 33) الأوسط لابن المنذر (2/ 208) والمغني (1/ 415) والمجموع (2/ 294). (¬8) نقل ابن رجب في شرح البخاري (2/ 33) أن الأوزاعي لا يحرم من الحائض سوى الإيلاج في فرجها، بينما نقل ابن عبد البر في التمهيد، كما فتح البر (3/ 460) بأن له منها ما فوق المئزر. (¬9) حكاه الكوسج في مسائل أحمد، وإسحاق (1/ 14) وانظر: الأوسط لابن المنذر (2/ 208) والنووي في المجموع (2/ 294) وشرح ابن رجب للبخاري (2/ 33) والمغني (1/ 415). (¬10) انظر: شرح ابن رجب للبخاري (2/ 33). (¬11) الأوسط (2/ 208). (¬12) فتح البر ترتيب التمهيد (3/ 360) والنووي في المجموع (2/ 294) المحلى (مسألة:

دليل من قال يستحب أن يباشرها من فوق الإزار ولا يجب.

قال ابن حزم: "وللرجل أن يتلذذ من امرأته الحائض، في كل شيء حاشا الإيلاج في الفرج، وله أن يشفر ولا يولج". ثم أجاب عن أدلة المانعين واحتج عليهم بحديث أنس، حين سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ...}، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. وعلق ابن حزم على هذا الحديث قائلاً: "هذا الخبر بصحته، وبيان أنه كان أثر نزول الآية هو البيان عن حكم الله تعالى في الآية، وهو الذي لا يجوز تعديه، وأيضاً؛ فقد يكون المحيض في اللغة موضع الحيض وهو الفرج، وهذا فصيح معروف، وتكون الآية حينئذ موافقةً للخبر المذكور، ويكون معناها: فاعتزلوا النساء في موضع الحيض .... " الخ كلامه رحمه الله (¬1). دليل من قال يستحب أن يباشرها من فوق الإزار ولا يجب. هذا القول عمدته الجمع بين حديث أنس في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" رواه مسلم وسبق ذكره بتمامه. وبين حديث عائشة وميمونة وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يباشر أحداً من نسائه أمرها فاتزرت، مع كونه - صلى الله عليه وسلم - أملكنا لإربه، فأخذوا من أمره السابق بأنه أمر إرشاد وإباحة، وأخذوا من فعله - صلى الله عليه وسلم - استحباب أن تكون المباشرة من فوق الإزار. قال ابن المنذر: الأعلى، والأفضل اتباع السنة واستعمالها، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ 260). (¬1) المحلى (مسألة 260).

دليل من قال: إن وثق المباشر بضبط نفسه جاز له مباشرة ما تحت الإزار وإلا فلا.

أمر عائشة رحمها الله أن تترز، ثم يباشرها، وهي حائض. ولا يحرم عندي أن يأتيها دون الفرج إذا اتقى موضع الأذى. والفرج بالكتاب، وباتفاق أهل العلم محرم في حال الحيض. وسائر البدن إذا اختلفوا فيه على الإباحة التي كانت قبل أن تحيض، وغير جائز تحريم غير الفرج إلا بحجة، ولا حجة مع من منع ذلك ... الخ كلامه رحمه الله (¬1). وقال النووي: "وأما مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق الإزار فمحمولة على الاستحباب، جمعاً بين قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله" (¬2). دليل من قال: إن وثق المباشر بضبط نفسه جاز له مباشرة ما تحت الإزار وإلا فلا. لا ينبغي أن يكون هذا القول قولاً مستقلاً، بل يرجع هذا القول إلى القول الأول، وهو جواز المباشرة لما تحت الإزار، لأن هذا الشرط معتبر عندهم، ومثله المباشرة للصائم، والقبلة له، فإذا ترتب على ارتكاب المباح أمراً محظوراً حرم المباح. قال النووي في المجموع: "إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عن الفرج، لضعف شهوة، أو شدة ورع جاز وإلا فلا، حكاه صاحب الحاوي ومتابعوه عن أبي الفياض البصري وهو حسن" (¬3). ¬

_ (¬1) الأوسط (2/ 208). (¬2) المجموع (2/ 393). (¬3) المجموع (2/ 393).

واستحسنه ابن رجب، وقال: "في كلام عائشة ما يشهد له، فإنها قالت: وأيكم يملك إربه، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه؟ ويشهد لهذا مباشرة المرأة في حال الصيام، فإنه يفرق فيها بين من يخاف على نفسه ومن يأمن. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه". اهـ كلام الحافظ ابن رجب (¬1). قلت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أملك الأمة لإربه، ومع ذلك كان يباشر من فوق الإزار، فليست المباشرة فوق الإزار خاصة لمن خشي الوقوع في المحرم، فالقول باستحباب أن يكون ذلك من فوق الإزار مطلقاً هو الأقرب، إلا أن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك تشريعاً لغيره ممن ليس بمعصوم، لكن من الممكن أن يبين بالقول ولا يترك المباشرة لما تحت الإزار. ¬

_ (¬1) في شرح البخاري (2/ 37).

الفرع الأول: حكم الاستمتاع بما تحت الإزار بالنظر واللمس دون الوطء اختلف جمهور العلماء القائلون بتحريم المباشرة بالوطء بما تحت الإزار في حكم الاستمتاع بما تحت الإزار بالنظر واللمس ونحوهما إلى قولين: فقيل: يجوز الاستمتاع بالنظر ونحوه لما تحت الإزار، لأن النظر ليس أعظم من التقبيل ومع ذلك يجوز. اختاره ابن نجيم من الحنفية (¬1)، وبعض المالكية (¬2)، وبعض الشافعية (¬3). وقال بعضهم: لا يجوز (¬4)، لأنه مدعاة لجماعها، ولأنه استمتاع بما لا يحل مباشرته. وسبب الاختلاف: اختلاف التعبير عند المؤلفين. فمن عبّر بالاستمتاع، قال: يحرم النظر واللمس بشهوة، ولأنه نوع من الاستمتاع. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 208 - 209). (¬2) انظر: حاشية العدوي المطبوع مع الخرشي (1/ 208)، حاشية الدسوقي (1/ 173)، حاشية البناني على شرح الزرقاني (1/ 137). (¬3) مغني المحتاج (1/ 110). (¬4) انظر: منحة الخالق على البحر الرائق، مطبوع بهامش البحر الرائق لابن عابدين (1/ 207)، حاشية الطحطاوي (1/ 150)، الشرح الصغير (1/ 216)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 173)، المنتقى للباجي (1/ 117)، مغني المحتاج (1/ 110)، روضة الطالبين (1/ 136).

ومن عبّر بالمباشرة: قال لا يحرم الاستمتاع بالنظر ولو بشهوة، لأنه ليس أعظم من تقبيلها في فمها ووجهها بشهوة، وقد تبين من المسألة السابقة أنه لا يحرم سوى الفرج.

الفصل الثالث: إذا جامع الرجل امرأته وهي حائض فهل عليه كفارة

الفصل الثالث: إذا جامع الرجل امرأته وهي حائض فهل عليه كفارة اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: عليه التوبة والاستغفار، وتستحب له الكفارة. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والقول الجديد في مذهب الشافعي (¬2). وقيل: ما عليه إلا التوبة والاستغفار، وهو مذهب المالكية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: تجب عليه الكفارة. وهذا المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). واختلفوا في تقدير الكفارة. فقيل: هي على التخيير، دينار أو نصفه، وهو المشهور عند الحنابلة (¬6). وقيل: إن كان الدم أسود فدينار، وإن كان أصفر فنصف دينار (¬7) وقيل: إن كان في إقبال الدم وفي زمن قوته وشدته فدينار، ¬

_ (¬1) البناية للعيني (1/ 641) عمدة القارئ (3/ 266) البحر الرائق (1/ 207) شرح فتح القدير (1/ 166). (¬2) المجموع (2/ 359) مغني المحتاج (1/ 110) نهاية المحتاج (1/ 332). (¬3) أسهل المدارك (1/ 90) القوانين الفقهية (ص 55) بداية المجتهد مع الهداية (2/ 72). (¬4) الإنصاف (1/ 351) الإقناع (1/ 64) المستوعب (1/ 403) الكافي (1/ 74). (¬5) كشاف القناع (1/ 200، 201) الفروع (1/ 262) الإقناع (1/ 64). (¬6) انظر: الإنصاف (1/ 351) الفروع (1/ 262) المستوعب (1/ 402). (¬7) الإنصاف (1/ 351، 352).

أدلة القائلين بوجوب الكفارة.

وإن كان في إدبار الدم بأن كان زمن ضعفه وقربه من الانقطاع فنصف دينار (¬1). وقيل: إن جامعها في زمن الحيض فدينار، وإن جامعها بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال فنصف دينار. وهو قول قتادة والأوزاعي (¬2). وقيل: عليه خمسة دنانير وينسب هذا القول لعمر (¬3). وقيل: عليه عتق رقبة، وهو قول سعيد بن جبير (¬4). وقيل: عليه كفارة من جامع في نهار رمضان، وهو قول الحسن (¬5). أدلة القائلين بوجوب الكفارة. (400) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، ومحمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار، أو نصف دينار. [الحديث الصحيح فيه أنه موقوف على ابن عباس، وفي متنه اختلاف كثير] (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الإنصاف (1/ 351)، الفروع (1/ 262). (¬2) انظر: الأوسط (2/ 210)، فقه الأوزاعي (1/ 112). (¬3) انظر: الدارمي (1110). (¬4) الأوسط (2/ 210). (¬5) رواه عبد الرزاق (1267) من طريق هشام عن الحسن، وروى معمر عن الحسن: ليس عليه شيء، يستغفر الله. (¬6) الحديث مداره على مقسم وعكرمة كلاهما، عن ابن عباس، وهو عن الأول أشهر،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وكان مقسم تارة يرفعه، وتارة يوقفه ... على اختلاف كثير في متنه كما سنبين. ومقسم جاء عنه: قال مهنا: قلت لأحمد: من أثبت أصحاب ابن عباس فقال: ستة نذكرهم. قلت له: فمقسم؟ قال: دون هؤلاء. هدى الساري (ص 622). وقال أبو حاتم الرزاي: صالح الحديث، لا بأس به. الجرح والتعديل (8/ 414). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ضعيفاً. الطبقات الكبرى (5/ 471). وقال الساجي: تكلم الناس في بعض روايته. تهذيب التهذيب (10/ 256). قال الحافظ في هدي الساري (ص: 612): لم يخرج له البخاري إلا حديثاً واحداً ذكره في المغازي من طريق هشام بن يوسف، وفي التفسير من طريق عبد الرزاق، كلاهما عن ابن جريج، عن عبد الكريم الجزري، عنه عن ابن عباس" اهـ. وقال في التلخيص (1/ 292) ح 228: "ما أخرج له البخاري إلا حديثاً واحداً في تفسير النساء قد توبع عليه" اهـ. وقال ابن حزم: ليس بالقوي. المحلى (2/ 189). وقال في موضع آخر: ضعيف المحلى (5/ 219) (10/ 81، 80). ووثقه يعقوب بن سفيان، والدارقطني. تهذيب التهذيب (10/ 256). وقال أحمد بن صالح: مقسم ثبت لا شك فيه. المرجع السابق. وقال الذهبي: صدوق من مشاهير التابعين، ضعفه ابن حزم، وقد وثقه غير واحد، والعجب أن البخاري أخرج له في صحيحه وذكره في كتاب الضعفاء. الميزان (4/ 176) ترجمة 8745. وإذا كان قد أخرج له في المتابعات لم يكن في صنيع البخاري ما يتعجب منه. وقال الذهبي أيضاً: صدوق، مشهور، ذكره البخاري في كتاب الضعفاء، وكذا ضعفه ابن حزم، وقواه جماعة. المغني (2/ 675). وفي التقريب: صدوق وكان يرسل. وما له في البخاري سوى حديث واحد. وقد روى الحديث عن مقسم جماعة، وما رواه أحد منهم مرفوعاً إلا وقد رواه موقوفاً، وعندي - والله أعلم - أن التردد في وقفه ورفعه من مقسم، وممن دونه ... وإليك بيان هذه الطرق عن مقسم: الطريق الأول: عن الحكم بن عتيبة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ واختلف على الحكم. فرواه شعبة عن الحكم، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، على خلاف في رفعه ووقفه. ورواه الأعمش، وعمرو بن قيس الملائي، وسفيان بن الحسين، ورقبة بن مصقلة، والليث بن أبي سليم، ومطر الوراق، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس بدون ذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن ... على خلاف بينهم أيضاً في وقفه ورفعه كما سيأتي .. فأما طريق شعبة، عن الحكم، عن عبد الحميد، عن مقسم عن ابن عباس. فأخرج الحديث أحمد (1/ 230) من طريق يحيى، ومحمد بن جعفر، عن شعبة به مرفوعاً. قال عبد الله: قال أبي: ولم يرفعه عبد الرحمن ولا بهز. ومن طريق يحيى بن سعيد أخرجه أبو داود (264، 2168). وابن ماجه (640) والنسائي (289) والطبراني (12066) والحاكم (1/ 172، 171). وتابع يحيى في رفعه كل من ابن أبي عدي، عند ابن ماجه (640)، ووهب بن جرير في منتقى ابن الجارود (108). والنضر بن شميل عند البيهقي (1/ 314) كلهم رووه عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً. ورواه سعيد بن عامر عن شعبة مرفوعاً وموقوفاً ... فاما الرواية المرفوعة فهي عند ابن الجارود (1109)، وجاء في آخره: قال شعبة: أما حفظي فهو مرفوع، وأما فلان وفلان فقالا: غير مرفوع، فقال بعض القوم: حدثنا بحفظك، ودع ما قال فلان وفلان. فقال: والله ما أحب أني عمرت في الدنيا عمر نوح، وإني حدثت بهذا أو سكت عن هذا. وأخرجه الدارمي (1107)، والنسائي في الكبرى (9099) من طريق سعيد بن عامر عن شعبة موقوفاً. ورواه جماعة عن شعبة موقوفاً، منهم: 1 - عبد الرحمن بن مهدي كما في منتقى ابن الجارود (110)، والبيهقي (1/ 315). 2 - أبو الوليد كما في سنن الدارمي (1106). 3 - عفان كما في سنن البيهقي (1/ 314 - 315).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ 4 - وسليمان بن حرب كما في سنن البيهقي (1/ 314 - 315). قال البيهقي: وكذلك رواه مسلم بن إبراهيم، وحفص بن عمر الحوضي، وحجاج بن منهال ... قلت: وأشار أحمد إلى أن بهز رواه أيضاً موقوفاً كما في متن الباب. فالخلاصة: الحديث يرويه يحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن جعفر، وابن أبي عدي، ووهب ابن جرير، والنضر بن شميل، عن شعبه، عن الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً. ويرويه عبد الرحمن بن مهدي، وأبو الوليد، وعفان، وسليمان بن حرب، وبهز بن أسد، ومسلم بن إبراهيم، وحفص بن عمر الحوضي، وحجاج بن منهال، عن شعبة به موقوفاً. ويرويه سعيد بن عامر عن شعبة مرفوعاً وموقوفاً. هذا فيما يتعلق بطريق الحكم عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس. ولم ينفرد شعبة بذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن في الإسناد، بل جاء أيضاً من طريق قتادة فرواه الطبراني في الكبير (12065)، والبيهقي (1/ 315 - 316) من طريقين، عن هدبة ابن خالد، عن حماد بن الجعد، ثنا قتادة، قال، قال: حدثني الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم، عن ابن عباس، أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعم أنه أتى امرأته وهي حائض، فأمره نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار. ورواه روح بن عبادة كما في سنن النسائي الكبرى (9104). وعبد الله بن بكر كما في سنن النسائي الكبرى (9104)، والبيهقي (1/ 315) عن سعيد - يعني ابن أبي عروبة - عن قتادة، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً، وفيه: "فأمره أن يتصدق بدينار أو نصف دينار، فهنا في الإسناد ذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن من غير طريق شعبة، عن الحكم، وسوف يأتي الكلام على طريق قتادة. بمفرده إن شاء الله. هذا فيما يتعلق في الاختلاف على إسناد شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، أي بذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن. أما الاختلاف على رواية الحكم عن مقسم عن ابن عباس بإسقاط عبد الحميد فكالتالي: فقد رواه سفيان بن حسين كما عند الطبراني في الكبير (12130) ورجاله ثقات. ورقبة بن مصقلة كما عند الطبراني في الكبير أيضاً (12131) بسند حسن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وليث بن أبى سليم كما عند الطبرانى أيضاً (12133) وسنده ضعيف. ومطر الوراق كما عند الطبراني (12132)، والبيهقي (1/ 135) وسنده ضعيف. كلهم رووه عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً وفيه: "يتصدق بدينار أو نصف دينار". وخالفهم الأعمش، وعمرو بن قيس الملائي، فروياه عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس موقوفاً. فقد رواه الدارمي (1112) أخبرنا عبد الله بن محمد، حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس موقوفاً وفيه: "يتصدق بدينار أو بنصف دينار" وسنده صحيح. ورواه النسائي في الكبرى (9100) أخبرنا الحسن بن محمد. ورواه الطبراني في الكبير (12129) حدثنا عبد الله بن أحمد كلاهما عن محمد بن الصباح، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم، عن مقسم به موقوفاً إلا أنه قال: "يتصدق بنصف دينار" ورجاله ثقات إلا إسماعيل بن زكريا فإنه صدوق. فتبين لنا من تخريج طريق الحكم، أن فيه أربع علل: العلة الأولى: أن الحكم تارة يوقفه وتارة يرفعه. العلة الثانية: أن الحكم بن عتيبة تارة يرويه عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم، وتارة يرويه عن مقسم مباشرة، وتارة يرويه عن عكرمة، عن ابن عباس وسنتعرض لهذا الطريق إن شاء الله تعالى. العلة الثالثة: الاختلاف في كلمة "أو" بقوله "دينار أو نصف دينار" هل هي للشك أو للتخيير أو للتنويع. العلة الرابعة: الاختلاف على الحكم في متنه. وإليك بيان هذه العلل بالتفصيل: العلة الأولى: وهو أن الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً. فقد أخرجت طريق شعبة عن الحكم، عن عبد الحميد، عن مقسم عن ابن عباس، وبينت الاختلاف على شعبة في وقفه ورفعه، فقد رواه خمسة حفاظ عن شعبة مرفوعاً على رأسهم يحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن جعفر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ورواه ثمانية حفاظ عن شعبة موقوفاً، وعلى رأسهم عبد الرحمن بن مهدي، وعفان وسليمان بن حرب. وقد مال العلامة أحمد شاكر إلى كونه مرفوعاً، وحجته أن شعبة كان يقول بعد روايته للحديث: "أما حفظي فمرفوع، وأما فلان وفلان فقالا: غير مرفوع". فقال أحمد شاكر رحمه الله في تحقيقه للسنن (1/ 250): "هذه الروايات عن شعبة، يفهم منها أنه كان واثقاً، وموقناً برفعه، ثم تردد واضطرب حين رأى غيره يخالفه فيرويه موقوفاً، ثم جعل هو يرويه موقوفاً أيضاً، وهذا عندنا لا يؤثر في يقينه الأول برفعه، وقد تابعه فيه غيره ... الخ كلامه رحمه الله. وعمدة هذا الترجيح بأن الحفظ القديم مقدم على الشك الطارئ، وهذا الكلام جيد، لو كان الاختلاف فيه فقط على شعبة، وكان حفظه الأول مرفوعاً ثم طرأ الشك، لكن الاختلاف في الحقيقة على شيخ شعبة، الحكم بن عتيبة نفسه، فكان يرويه تارة موقوفاً وتارة مرفوعاً. وكان شعبة سمعه من الحكم مرفوعاً ... ثم سمعه منه موقوفاً، فترك رفعه له، لا أن شعبة إنما ترك رفعه لأن غيره خالفه في الحكم. قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/ 50 - 51) رقم 121: "اختلفت الرواية، فمنهم من يروي عن مقسم عن ابن عباس موقوفاً، ومنهم من يروي عن مقسم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وأما من حديث شعبة، فإن يحيى بن سعيد أسنده. وحكي أن شعبة أسنده، وقال: أسنده الحكم لي مرة ووقفه مرة". ففي هذا الكلام فائدتان: الأولى: أن الشك في وقفه ورفعه من شيخ شعبة. الثانية: أن شعبة سمعه من الحكم مرفوعاً وموقوفاً. لقوله: "اسنده الحكم لي مرة، ووقفه مرة". فلما رأى شعبة أن شيخه لم يضبط حديثه تارة يرفعه وتارة يوقفه رجع عن رفعه له، وصرح بأن رفعه له من قبل جنون منه، فلا سبيل إلى الاحتجاج برواية الراوي وقد صرح بخطئه فيها. فقد أخرج ابن الجارود في المنتقى (110): حدثنا محمد بن زكريا الجوهري قال: ثنا بندار، قال: ثنا شعبة بهذا الحديث ولم يرفعه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فقال رجل لشعبة: "إنك كنت ترفعه. قال: كنت مجنوناً فصححت". وأما رواية الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: فرواها الأعمش، وعمر بن قيس الملائى وهما ثقتان عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً. وخالفهما سفيان بن حسين، ورقبة بن مصقلة، وليث بن أبي سليم، ومطر الوراق فرووه عن الحكم عن مقسم مرفوعاً ... وهذا يؤكد أن الحكم كما قال شعبة تارة يوقفه وتارة يرفعه مما يدل على أن الحكم لم يضبطه. وإذا كان الحكم يرويه موقوفاً ومرفوعاً. فالاحتياط كون الحديث موقوفاً، فإن طريق الحكم هو أفضل الطرق التي جاء منها الحديث ومع ذلك كان الحكم يسنده مرة ويوقفه أخرى، فغيره من الطرق لا تسلم من الكلام فيها كما سنبينه. لهذا جزمت بأن الحديث موقوف على ابن عباس، والأصل عصمة مال المسلم فلا تنتهك هذه العصمة إلا بدليل صحيح سالم من المعارض. العلة الثانية: في طريق الحكم. أن الحكم تارة يرويه عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس. وتارة يرويه عن مقسم مباشرة. وتارة يرويه عن عكرمة عن ابن عباس. وقد اختلف العلماء هل سمع الحكم من مقسم هذا الحديث أم لا؟ مع أن الحكم مشهور بأنه كثير الإرسال. فقال أبو حاتم في العلل (1/ 51) الحكم لم يسمع من مقسم هذا الحديث. وقال البيهقي (1/ 315): "هكذا رواه جماعة عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم. وفي رواية شعبة عن الحكم دلالة على أن الحكم لم يسمعه من مقسم، إنما سمعه من عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مقسم. اهـ وذكر ابن حجر في التهذيب، في ترجمة الحكم بن عتيبة (2/ 434): "قال أحمد وغيره: لم يسمع الحكم حديث مقسم، كتاب إلا خمسة أحاديث" اهـ. ولم يذكر الإمام أحمد الأحاديث الخمسة لكن عدها يحيى بن سعيد القطان كما في التهذيب: حديث الوتر، والقنوت، وعزمة الطلاق، وجزاء الصيد، والرجل يأتي امرأته وهي حائض".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ولم يذكر ابن حجر مصدره في قول أحمد: "مع أنه ذكر مصدره في عدِّ يحيى القطان، والموجود في العلل رواية عبد الله بن أحمد (1/ 192): "قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه الذي يُصَحَّح الحكم عن مقسم أربعة أحاديث، فذكرها، ولم يذكر منها حديث الحائض إذا أتاها زوجها. والحكم ذكر عنه التدليس والإرسال، ولم أقف على رواية أنه قال: حدثني مقسم. قال شعبة: الحكم عن مجاهد كتاب إلا ما قال: سمعت" اهـ، وهذا هو التدليس. وقال ابن حبان في الثقات: كان يدلس. وممن ذكره بالتدليس النسائي، والذهبي، والمقدسي، والحلبي، والعلائي، وكونه لم يسمع من مقسم إلا أربعة أحاديث أو خمسة على خلاف فهذا هو التدليس. وعلى كل حال سواء سمع منه أو لم يسمع، فقد عرفنا الواسطة بينهما، وهو ثقة، فلا يكون هذا الأمر علةً مؤثرة في الحديث بخلاف العلة الأولى. وأما رواية الحكم عن عكرمة عن ابن عباس. فقد أخرجها النسائي في السنن الكبرى (9102): أخبرنا واصل بن عبد الأعلى قال: أنا أسباط ابن محمد، عن أشعث، عن الحكم، عن عكرمة، عن ابن عباس في الرجل يقع على امرأته، قال: يتصدق بدينار أو نصف دينار. وهذا سند ضعيف، فيه أشعث بن سوار الكندي، وقد توبع، فقد أخرجه النسائي في السنن الكبرى (9114) من طريق محمد بن عيسى، والطبراني (12025) من طريق عبد الرحمن بن شيبة الجدي، كلاهما عن شريك، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلاً وقع على امرأته وهى حائض، قال: يتصدق بنصف دينار. وهذا سند ضعيف أيضاً فيه شريك وخصيف، وكلاهما في حفظه شيء. وقد اختلف على خصيف كما سيأتي، فروى عنه مرفوعاً، وموقوفاً على ابن عباس، ومرسلاً عن مقسم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي الكلام على رواية عكرمة إن شاء الله. العلة الثالثة: الاختلاف في كلمة "أو" هل هي للشك، أو للتنويع، أو للتخيير في قوله "يتصدق بدينار أو نصف دينار". فالقول الأول: اختار ابن عباس رحمه الله أن "أو" للتنويع، ولا شك أن الصحابي أدرى بما روى، وإذا رجحنا أن الأثر أصله موقوف عليه، فتفسيره لقوله أولى من تفسير غيره له.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فقد روى البيهقي (1/ 319) من طريقين عن أبي العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا أبو الجواب، ثنا سفيان الثوري، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس في الرجل يأتي امرأته وهي حائض قال: إن أتاها في الدم تصدق بدينار، وإن أتاها في غير الدم تصدق بنصف دينار. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا أبا الجواب فإنه صدوق، وأبو الجواب هو أحوص. قال ابن معين: ثقة. وقال مرة: ليس بذاك القوى. الجرح والتعديل (2/ 328) تهذيب الكمال (2/ 288). وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. الجرح والتعديل (2/ 328). وقال ابن حبان: كان متقناً، وربما وهم. الثقات (6/ 89). وفي التقريب: صدوق ربما وهم. وأما عنعنة ابن جريج فإنها لا تضر وشيخه عطاء؛ فإنه مكثر عنه جداً، ويكفي قوله فيما رواه عبد الرزاق عنه اختلفت إلى عطاء ثماني عشرة سنة. وقد توبع ابن جريج. فقد رواه أبو داود (265)، والحاكم (1/ 172)، والبيهقي (1/ 318) من طريق علي ابن الحكم البناني، عن أبي الحسن الجزري، عن مقسم، عن ابن عباس قال: "إذا أصابها في أول الدم فدينار، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار". وأبو الحسن الجزري لم يرو عنه إلا علي بن الحكم البناني. قال فيه ابن المديني: مجهول. تهذيب التهذيب (12/ 77). وقال الحاكم في المستدرك (1/ 172)، أبو الحسن عبد الحميد بن عبد الرحمن الجزري ثقة مأمون. قال أحمد شاكر: "لم يتعقبه الذهبي في مختصره" اهـ. يريد أن يشير إلى موافقة الذهبي للحاكم، لكن قال الذهبي في الميزان (4/ 515) تفرد عنه علي بن الحكم البناني اهـ، ولم ينقل الذهبي عن أحد توثيقه مما يدل على أنه مجهول. وفي التقريب مجهول. ومع ذلك هو سند صالح في المتابعات يقوي طريق ابن جريج، فهذا هو القول الأول: أن "أو" للتنويع. القول الثاني: قالوا إن "أو" في قوله "يتصدق بدينار أو نصف دينار" للشك. فقد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أخرج الدارمي (1106): حدثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس في الذي يأتي امرأته وهى حائض يتصدق بدينار أو نصف دينار". قال شعبة: شك الحكم. ورجح العلامة أحمد شاكر أن شعبة فهم من كلمة "أو" أنها للشك، ورجح أن "أو" للتخيير. والحقيقة أن الحكم قد صرح بالشك، وليس قول شعبة: شك الحكم فهماً منه، فقد أخرجه عبد الرزاق (1262) عن ابن جريج قال: كان الحكم بن عتيبة عن مقسم يقول: لا أدري قال مقسم ديناراً أو قال: نصف دينار، وكما وقع الشك من الحكم وقع الشك من مقسم أيضاً كما سيأتي. القول الثالث: ذهب الإمام أحمد أن "أو" للتخيير، فقد نقل الخطابي في معالم السنن (1/ 173): "أن أحمد بن حنبل كان يقول: "هو مخير بين الدينار ونصف الدينار". وهذا من أضعفها، ولا أعرف له شبهاً في الكفارات، أن يكون الإنسان مخيراً في جنس واحد، بمعنى أن نصف الدينار واجب والنصف الآخر مستحب، فالصدقة المستحبة مفتوحة ليس لها حد، والمعروف في الكفارات التي تأتي على التخيير أن يكون كل واحد منها واجباً لا بعينه، وذلك مثل كفارة اليمين، فالتخيير بين الإطعام، والكسوة، وتحرير الرقبة كل واحد منها واجب لا بعينه، ومثله المحرم في كفارة حلق الرأس من الأذى، بخلاف قوله: "يتصدق بدينار أو نصف دينار، فإن الدينار ليس واجباً، والنصف منه واجب على القول بالتخيير. العلة الرابعة: الاختلاف على الحكم في متنه. فتارة يقول: "دينار أو نصف دينار" على الخلاف السابق في "أو". وتارة يجزم بأن الواجب نصف دينار بدون "أو". وتارة يجزم بأن الواجب دينار فإن لم يجد فنصف دينار. لا شك أن أكثر الروايات عن الحكم لفظها: "يتصدق بدينار أو نصف دينار" على الخلاف في معنى "أو" كما سبق وقد عزوت طرق الحكم فيما سبق من رواية شعبة وغيره فارجع إليها في أول البحث. وقد أخرجه النسائي في الكبرى (9100) والطبراني في الكبير (12129) من طريق إسماعيل بن زكريا، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس موقوفاً: "

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ يتصدق بنصف دينار". ورجاله ثقات إلا إسماعيل بن زكريا فإنه صدوق. وقد تابعه خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس. كما في سنن الدارمي (1109) من طريق سفيان الثوري عن خصيف به، وكذا رواه ابن جريج عن خصيف كما في سنن النسائي الكبرى (9109)، وخصيف سيء الحفظ، وتغير بآخره، إلا أن سوء حفظه قد زال بمتابعة عمرو بن قيس الملائي. وتغيره فإن الذى ذكر ذلك يحيى بن سعيد القطان، قال: "كنا تلك الأيام نتجنب حديث خصيف، وما كتبت عن خصيف بالكوفة شيئاً، إنما كتبت عن خصيف بآخرة، وكان يحيى يضعف خصيفاً. فهذا النص من يحيى فيه فوائد: أولاً: أن خصيفاً حديثه حين كان بالكوفة لم يتغير، وسفيان الثوري كوفي، وهو ممن رواه عن خصيف. ثانياً: أن يحيى بن سعيد القطان من صغار أصحاب خصيف، فابن جريج والثوري أكبر من القطان سناً وهما ممن روياه عن خصيف، فلعل هذا كان قبل تغيره. ومع ذلك فقد اختلف على خصيف وسيأتي الكلام على طريقه بطريق مستقل. هذان نوعان من الاختلاف على الحكم في متنه. أحدهما: "يتصدق بدينار أو نصف دينار". والثاني: "يتصدق بنصف دينار". وأما اللفظ الثالث عن الحكم فقد رواه الطبراني في الكبير (12065)، والبيهقي (1/ 315 - 316) من طريق هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن الجعد، ثنا قتادة، حدثني الحكم ابن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعم أنه وقع على امرأته وهى حائض، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار". فهذا اللفظ أوجب الدينار مطلقاً إلا عند العجز عنه فنصف دينار". وفي الإسناد حماد بن الجعد ضعفه جماعة منهم ابن معين والنسائي. وقال ابن حبان: منكر الحديث. وقال أحمد شاكر في تحقيقه للسنن (1/ 251): "وأنا أرجح أنه ثقة، لأن أبا داود

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الطيالسي تلميذه قال: كان إمامنا أربعين سنة ما رأينا إلا خيراً". قال شاكر: والنفس تطمئن إلى شهادة من عرفه أربعين سنة، وروى عنه". قلت: حتى ولو كان ثقة، فقد رواه شعبة عن الحكم بنفس الإسناد، وخالفه في المتن، فهذا اللفظ إما شاذ أو منكر. ورواه بلفظ حماد بن الجعد أيضاً سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم أبي أميه، عن عكرمة عن ابن عباس كما في سنن البيهقي (1/ 317). وهذه المتابعة لحماد من الجعد لا يفرح بها؛ لأن عبد الكريم أبي أمية متروك، ومختلف عليه في الحديث اختلافاً كثيراً سيأتي بسطه إن شاء الله تعالى. ولعل قوله: "فإن لم يجد فنصف دينار، أدرجها حماد بن الجعد، وكانت من تفسير قتادة. فقد أخرجه البيهقي (1/ 315) من طريق يحيى بن أبي طالب، انبا عبد الوهاب بن عطاء، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتصدق بدينار أو نصف دينار، ففسره قتاده قال: إن كان واجداً فدينار، وإن لم يجد فنصف دينار. ويحيى بن أبي طالب مختلف فيه، وسيأتي الكلام عليه، وقتادة قد عنعن وهو مدلس، وقد اختلف على قتادة، وسيأتي الكلام على طريقه بحديث مستقل. إلى هنا انتهى الكلام على طريق الحكم بن عتيبة، ومع كون طريقه من أحسن طرق هذا الحديث إلا أنه تبين لنا أن فيه اختلافاً كثيراً. وفي بيان هذا الاختلاف يتبين لنا خطأ العلامة أحمد شاكر حين احتج لتصحيح رواية: "دينار أو نصف دينار" بقوله: "وهذه الرواية - يعني بدينار أو نصف دينار - هي اللفظ في جميع الروايات التي ذكرناها على الحكم بن عتيبة ... ثم ذكر من تابعه عليها". فقد تبين أن الحكم تارة يقول: "دينار أو نصف دينار" وكلمة "أو" تحتمل التنويع، وتحتمل الشك، وتحتمل التخيير. وتارة يقول: "نصف دينار" بالجزم. وتارة بالتفصيل عن ابن عباس: إن أصابها في الدم فدينار، وإن أصابها بإنقطاع الدم فنصف دينار.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وتارة يقول: "دينار" فإن لم يجد فنصف دينار. وتارة يرفعه، وتارة يوقفه، إلا أن هذا الاختلاف لا يوجب الاضطراب لإمكان الترجيح، فالراجح أنه موقوف على ابن عباس، وأن اللفظ "دينار أو نصف دينار" والله أعلم. الطريق الثاني: طريق خصيف عن مقسم. وخصيف قد وثقه بعضهم. قال أبو زرعة: ثقة. الجرح والتعديل (3/ 403). وقال ابن سعد: كان ثقة. الطبقات الكبرى (7/ 472). وقال العجلي: ثقة. ثقات العجلي (1/ 335). وقال يحيى بن معين: ثقة، كما في رواية أبي داود عنه. تهذيب الكمال (8/ 257). وقال أيضاً: صالح. الجرح والتعديل (3/ 403). وقال مرة: ليس به بأس، كما في رواية الدارمي عنه. تهذيب التهذيب (3/ 123). وقال أبو حاتم: صالح يخلط، وتكلم في سوء حفظه. الجرح والتعديل (3/ 403). وقال أحمد بن حنبل: ليس بقوي في الحديث. ضعفاء العقيلي (2/ 31)، الكامل (3/ 69). وقال أيضاً: مضطرب الحديث. تهذيب التهذيب (3/ 123). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (77). وقال ابن خزيمة: لا يحتج بحديثه. وقال الدارقطني: يعتبر به، يهم. تهذيب التهذيب (3/ 123). وفي التقريب: صدوق سيء الحفظ، وخلط بآخره. وتكلمت قريباً عن اختلاطه. وقال الذهبي: صدوق سيء الحفظ، ضعفه أحمد. الكاشف (1389). وقد اختلف على خصيف فيه ... فروى عنه، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً ومرفرعاً ومرسلاً، وروى عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس. واختلف عليه في متنه أيضاً فروى: "يتصدق بنصف دينار". وروى: "يتصدق بدينار". وإليك بيان هذا الاختلاف: فأخرجه أحمد (1/ 272): حدثنا حسين، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً في الرجل يأتي امرأته وهى حائض، قال: "يتصدق بنصف دينار".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأخرجه الدارمي (1105)،أخبرنا أبو الوليد، حدثنا شريك به. وأخرجه أبو داود (266): حدثنا محمد بن الصباح البزاز، حدثنا شريك به. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 316). وأخرجه الترمذي (136)، والنسائي في الكبرى (9113) كلاهما عن علي بن حجر، قال: أخبرنا شريك به. ورواه سفيان الثوري واختلف عليه فيه. فرواه عبد الرزاق (1263) عن الثوري، عن خصيف، عن مقسم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أتى امرأته حائضاً أن يتصدق بنصف دينار. وهذا مرسل. ورواه الفريابي محمد بن يوسف، واختلف عليه فيه. فرواه النسائي في السنن الكبرى (9111)، أخبرنا محمد بن ميمون، قال: أنا الفريابي، قال: أنا سفيان به مرسلاً، كرواية عبد الرزاق. وأخرجه الدارمي (1109)، أخبرنا محمد بن يوسف - يعني الفريابي - ثنا سفيان، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يقع على امرأته وهي حائض يتصدق بنصف دينار، فوصله. والفريابي ثقة. وفيه كلام يسير جداً في روايته عن الثوري خاصة. ورواه الدارقطني (3/ 287) من طريق عبد الله بن يزيد بن الصلت، عن سفيان عن خصيف، وقرن به غيره عن مقسم عن ابن عباس مرفوعاً. وسفيان هذا لعله الثوري، فإني راجعت ترجمة عبد الله بن يزيد فلم أجد من شيوخه ابن عيينة ووجدته يروي عن الثوري، وهذا الطريق ضعيف لضعف ابن الصلت. ورواه ابن جريج عن خصيف واختلف على ابن جريج فيه. فرواه عبد الرزاق (1262) عن ابن جريج، عن خصيف، عن مقسم مرسلاً. ورواه النسائي في الكبرى (9109) من طريق حجاج - يعني المصيصي الثقة - عن ابن جريج، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً وفيه: "فأمره بنصف دينار فصار ابن جريج تارة يرويه مرسلاً وتارة يرويه موصولاً. ورواه النسائي في الكبرى (9110): أخبرنا هلال بن العلاء، قال: أنا حسين قال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أخبرنا أبو خيثمة قال: أنا خصيف، عن مقسم مرسلاً وفيه: "فأمره بنصف دينار يتصدق به". ورواه معمر عن خصيف وخالف فيه من ناحيتين: الأولى: أنه رواه موقوفاً ... والأكثر عن خصيف إما على رفعه أو على إرساله. الثانية: أنه قال: "يتصدق بدينار" مع أن أكثر من رواه عن خصيف قال: يتصدق بنصف دينار". فقد رواه عبد الرزاق (1261) عن معمر، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس قال: إذا أصابها حائضاً تصدق بدينار". ورواه الدارقطني (3/ 287) من طريق عبد الله بن محرر، عن خصيف به مرفوعاً. وعبد الله ابن محرر متروك. هذا هو الاختلاف على خصيف، وعلى ضعفه فإن في الرواية عنه اضطراباً كثيراً فلا يمكن أن يفرح به كمتابعة لطريق الحكم، لأنه خالف الحكم في لفظه من جهة، فإن أكثر الروايات عنه يتصدق بنصف دينار، ثم الاختلاف عليه في وصله وإرساله. وقد روى عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس. فأخرجه النسائي في الكبرى (9114) من طريق محمد بن عيسى - هو ابن الطباع - قال: أخبرنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي أهله وهي حائض؟ قال: يتصدق بنصف دينار. وأخرجه الطبراني (12025) من طريق عبد الرحمن بن شيبة الجدي، ثنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة به. وقد خالف الطباع والجدي كل من أبى الوليد عند الدارمي (1105). وحسين بن محمد بن بهرام عند أحمد (1/ 272). ومحمد بن الصباح البزاز عند أبي داود (266)، والبيهقي (1/ 316). وعلى بن حجر عند الترمذي (136)، والنسائي في الكبرى (9113). كلهم رووه عن شريك، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس ولم يذكروا عكرمة في إسناده. وسيأتي الكلام على طريق عكرمة إن شاء الله. الطريق الثالث: طريق قتادة بن دعامة. وقد اختلف عليه في الإسناد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فقيل: قتادة، عن مقسم. وقيل: قتادة، عن عبد الحميد، عن مقسم. وقيل: قتادة حدثني الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم. وروى عنه مرفوعاً وروى عنه موقوفاً. وإليك تخريج هذه الطرق .. أخرجه أحمد (1/ 237) عن يزيد بن هارون. وأخرجه أحمد أيضاً (1/ 237)، والبيهقي (1/ 315) عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (9105) من طريق عبدة بن أبي سليمان ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً، وفيه: "أن يتصدق بدينار أو نصف دينار" وكل هؤلاء رووا عن سعيد بن أبي عروبة قبل اختلاطه. ورواه النسائي في السنن الكبرى (9104) من طريق روح بن عبادة. ورواه أيضاً (9104)، والبيهقي (1/ 315) من طريق عبد الله بن بكر، كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن عبد الحميد، عن مقسم به. مرفوعاً، فزادوا في الإسناد: عبد الحميد بين قتادة ومقسم. وروح بن عبادة، وعبد الله بن بكر سمعا من سعيد بن أبي عروبة قبل تغيره على الراجح من أقوال أهل العلم. انظر: حاشية الكواكب النيرات تحقيق عبد القيوم عبد رب النبي (ص 212, 209). وكل من تقدم رووه مرفوعاً. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (9106) أخبرنا عمرو بن علي، قال أخبرنا عاصم ابن هلال، قال: أخبرنا قتادة، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً. وهذا سند ضعيف فيه عاصم بن هلال. وجميع هذه الطرق على اختلافها عن قتادة، قد عنعن فيها قتادة، وهو مدلس مكثر. ورواه الطبراني في الكبير (12060)، والبيهقي (1/ 315 - 316) من طريقين عن هدبة بن خالد، عن حماد بن الجعد، ثنا قتادة، حدثني الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعم أنه وقع على امرأته وهي حائض، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وهنا صرح قتادة بالتحديث، والإسناد وإن كان فيه ضعف يسير من قبل حماد بن الجعد، وهو أضعف إسناداً من الطريقين السابقين المرفوعين، إلا أن شعبة قد تابعه فرواه عن الحكم، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس. فهذا الإسناد كإسناد حماد بن الجعد سواء بسواء. قال البيهقي في السنن الكبرى (1/ 315): "لم يسمعه قتادة من مقسم" وقال أيضاً: "ولم يسمعه أيضاً من عبد الحميد"، ثم ساق حديث قتادة عن الحكم عن عبد الحميد، عن مقسم. فرجع طريق قتادة إلى طريق الحكم بن عتيبة، وقد أشبعنا طريق الحكم بن عتيبة بحثاً مبيناً الاختلاف على الحكم في إسناده، فارجع إليه إن شئت. الطريق الرابع: عن عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية البصري، عن مقسم. وعبد الكريم ضعيف جداً. قال فيه أيوب: كان غير ثقة. لقد سألني عن حديث لعكرمة، ثم قال: سمعت عكرمة. ضعفاء العقيلي (3/ 62)، الكامل (5/ 338). وقال أيضاً: لا تأخذوا عن عبد الكريم أبي أمية، فإنه ليس بثقة. تهذيب الكمال (12/ 259)، تهذيب التهذيب (6/ 335). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (401). وقال مرة: ليس بشيء. وقال أيضاً: كان غير ثقة. تهذيب التهذيب (6/ 335). وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. الكامل (5/ 338). وقال أحمد: ليس بشيء، شبه متروك. الكامل (5/ 338)، التعديل والتجريح (2/ 918). وقال ابن عدي: الضعف بين على كل ما يرويه. الكامل (5/ 338). وقال سبط بن العجمي: متروك. الكشف الحثيث (459). وقال ابن حبان: كان كثير الوهم، فاحش الخطأ فيما يروي، فلما كثر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به. المجروحين (2/ 144). واعتذر ابن عبد البر عن مالك في روايته عنه بقوله: "كان مجمع على ضعفه. ومن أَجَلِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ من جرَحَه أبو العالية، وأيوب مع ورعه، غَرَّ مالكاً سمته، ولم يكن من أهل بلده" اهـ. تهذيب التهذيب (6/ 335). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث. وقال أبو زرعة: لين. الجرح والتعديل (6/ 59). وقال عمرو بن علي: كان عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد لا يحدثان عن عبد الكريم. الجرح والتعديل (6/ 59). وفي هذه الطريق - على شدة ضعفها - علل أخرى، منها: الاختلاف في وقفه ورفعه. ومنها الاختلاف في التفصيل، إن كان الدم كذا فدينار، أو كذا فنصف دينار، هل هو مرفوع، أو من قول مقسم، الراوي عن ابن عباس. ومنها: الاختلاف هل قال: "دينار أو نصف دينار"، أو جزم "نصف دينار". ومنها: الاختلاف في إسناده. فقيل: عن عبد الكريم، عن مقسم عن ابن عباس. وقيل: عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس. ومنها: الاختلاف في عبد الكريم هل هو ابن أبي المخارق المتروك، أو هو ابن مالك الثقة. وإليك بيان هذا الاختلاف بالتفصيل. أما الاختلاف في وقفه ورفعه، فقد أخرجه البيهقي (1/ 317). أخبرنا على بن أحمد بن عبدان، نا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إسماعيل بن إسحاق، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا هشام الدستوائي، ثنا عبد الكريم أبو أمية، عن مقسم، عن ابن عباس، في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بدينار أو نصف دينار "وهذا موقوف كما ترى. وشيخ البيهقي علي بن أحمد بن عبدان وثقه الخطيب. انظر: تاريخ بغداد (11/ 329). وأحمد بن عبيد الصفار. قال الخطيب في تاريخه (4/ 261): "كان ثقة ثبتاً، صنف المسند، وجوده "انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 441). وإسماعيل بن إسحاق، ثقة. انظر: تاريخ بغداد (1/ 284)، والسير (13/ 339)، وتذكرة الحفاظ (2/ 625).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ومسلم بن إبراهيم، ثقة من رجال الجماعة، وكذا هشام الدستوائي. وعبد الكريم، ومقسم سبقت ترجمتهما. فالإسناد إلى عبد الكريم إسناد صحيح، لكن وما ينفع وعبد الكريم ضعيف جداً. وفي هذا الإسناد أيضاً فائدة أخرى، وهي التصريح أن عبد الكريم هو أبو أمية المتروك. ولنا في هذا وقفة. وتابع سفيان بن عيينة هشاماً، إلا أنه اختلف على سفيان. فرواه أحمد بن حنبل في العلل (1/ 178) عن سفيان، ثنا عبد الكريم، عن مقسم به موقوفاً. قيل لسفيان: يا أبا محمد، هذا مرفرع، فأبى أن يرفعه، وقال: أنا أعلم به، يعني أبا أمية. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (9107) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أنا سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض، إن كان الدم عبيطاً فدينار، وإن كان فيه صفرة فنصف دينار. فصار الحديث عن سفيان بن عيينة يرويه أحمد موقوفاً، ويرويه إسحاق بن راهويه مرفوعاً، والبلاء فيه من عبد الكريم. ورواه جماعة عن عبد الكريم مرفوعاً، منهم ابن جريج، ومحمد بن راشد، وابن لهيعة، وأبو حمزة السكري، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الله بن محرر، وإليك تخريج رواياتهم. أخرجه عبد الرزاق (1264) ومن طريقه الطبراني (12134): أخبرنا محمد بن راشد، وابن جريج قالا: أخبرنا عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى امرأته في حيضتها فليتصدق بدينار، ومن أتاها وقد أدبر الدم عنها فلم تغتسل فنصف دينار "كل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه عبد الرزاق (1265) (1266) عن ابن جريج ومحمد بن راشد، فرقهما، عن عبد الكريم به. وأخرجه البيهقي (1/ 316) من طريق نافع بن يزيد، عن ابن جريج به. وأخرجه الترمذي (137): حدثنا الحسين بن حريث، أخبرنا الفضل بن موسى، عن أبى حمزة السكري، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان دماً أحمر فدينار، وإذا كان دماً أصفر فنصف دينار".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأخرجه أبو يعلى (2432) عن أبي جعفر الرازي، عن عبد الكريم بن أبي المخارق به، ولفظه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجل جامع امرأته وهي حائض فقال: إن كان دماً عبيطاً فليتصدق بدينار، وإن كان فيه صفرة فنصف دينار. وأخرجه الدارمي (1111) أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي به. ومن طريق عبيد الله بن موسى أخرجه الدارقطني (3/ 287)، والبيهقي (1/ 317). وأخرجه الطبراني (12135)، والبغوي في شرح السنة (315) من طريق علي بن الجعد، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن عبد الكريم بن أبي المخارق به. وأخرجه الدارقطني (1/ 287) من طريق عبد الله بن محرر، عن عبد الكريم بن مالك!! وقرن معه غيره عن مقسم به. وأخرجه النسائي في الكبرى (9108) من طريق هشيم، عن الحجاج، عن عبد الكريم، عن ابن عباس مرفوعاً، إلا أنه خالف في متنه، فقال: "يتصدق بنصف دينار". وهذا الإسناد ضعيف، فيه الحجاج بن أرطأة، وعنعنة هشيم. إلا أنه توبع، فأخرجه ابن ماجه (650) حدثنا عبد الله بن الجراح، ثنا أبو الأحوص عن عبد الكريم به. فهذا إسناد حسن إلا عبد الكريم، وأما عبد الكريم نفسه فقد علمت ما فيه. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (111): حدثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يتصدق بدينار أو نصف دينار". والسند إلى عبد الكريم سند صحيح. ورواه البيهقي (1/ 317) من طريق يحيى بن أبي طالب، أنبأ عبد الوهاب بن عطاء، ثنا سعيد، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتصدق بدينار أو نصف دينار. وفسر ذلك مقسم، فقال: إن غشيها في الدم فدينار، وإن غشيها بعد انقطاع الدم قبل أن تغتسل فنصف دينار". وخالف روح بن عبادة عبد الوهاب بن عطاء، وعبد الله بن بكر، فأخرجه البيهقي (1/ 317) من طريق أبي قلابة، ثنا روح بن عبادة، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أبي أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً فذكر عكرمة بدلاً من مقسم. وأبو قلابة: صدوق يخطيء، وتغير حفظه بآخره. العلة الثانية: الاختلاف في متنه. اختلف في متن الحديث من طريق عبد الكريم على النحو التالي: فقيل: إن كان الدم عبيطاً - وفي رواية أحمر - فدينار، وإن كان في الصفرة فنصف دينار. وجعل هذا التفصيل مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، هكذا رواه جماعة عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعاً. منهم: أبو جعفر الرازي .. كما في مسند أبي يعلى (2432)، والدارمي (1111)، والطبراني (12135)، والدارقطني (3/ 287)، والبيهقي (1/ 317)، والبغوي في شرح السنة (315). وأبو جعفر الرازي، وثقه جماعة منهم علي بن المديني، ومحمد بن عبد الله بن عمار الموصلي. وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق سيء الحفظ. وقال أبو زرعة: شيخ يهم كثيراً، وفي التقريب: صدوق سيء الحفظ لا سيما عن مغيرة. الثاني: سفيان بن عيينة، كما عند النسائي في السنن الكبرى (9107)، والدارقطني (3/ 287). الثالث: أبو حمزة السكري، وهو ثقة. كما عند الترمذي (137). اللفظ الثاني عن عبد الكريم. "من أتاها في حيضتها فليتصدق بدينار، ومن أتاها وقد أدبر الدم عنها فلم تغتسل فنصف دينار". وهذا اللفظ يختلف عن اللفظ الأول، لأنه جعل النصف دينار بعد انقطاع الدم سواء كان أحمر أو أصفر وقبل الاغتسال، وجعل الدينار وقت نزول الدم مطقاً سواء كان أحمر أو أصفر. وممن روى هذا اللفظ عن عبد الكريم ابن جريج، ومحمد بن راشد كما عند عبد الرزاق (1264) (1265) (1266)، والطبراني في الكبير (12134). اللفظ الثالث عن عبد الكريم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ جعل التفصيل من قول مقسم، ولم يجعله مرفوعاً. رواه البيهقي (1/ 317) من طريق يحيى بن أبي طالب، ثنا عبد الوهاب بن عطاء، ثنا سعيد - يعني ابن أبي عروبة - عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتصدق بدينار أو نصف دينار، وفسر ذلك مقسم فقال: إن غشيها في الدم فدينار، وإن غشيها بعد إنقطاع الدم قبل أن تغتسل فنصف دينار". ففي هذا الإسناد بين أن التفصيل لم يكن مرفوعاً، بل ولا موقوفاً، وإنما هو من قول مقسم، وهذا ما رجحه العلامة أحمد شاكر. وفي الحقيقة لا يمكن لنا أن نركن إلى هذه الرواية، ونترك ما ثبت عن ابن عباس من قوله بسند حسن، فقد روى البيهقي (1/ 319) من طريقين، عن أبي العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا أبو الجواب، ثنا سفيان الثوري عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس في الرجل يأتي امرأته وهي حائض، قال: إن أتاها في الدم تصدق بدينار، وإن أتاها في غير الدم تصدق بنصف دينار. وله متابع عند أبي داود (265)، والحاكم (1/ 172)، والبيهقي (1/ 318) من طريق أبي الحسن الجزري عن مقسم عن ابن عباس وسنده ضعيف إلا أنه صالح في المتابعات. وسند البيهقي من غير طريق مقسم، فلا يمكن أن يقال ربما وهم الراوي فجعله من كلام ابن عباس وهو من كلام مقسم. كما أن الرواية التي جعلت التفصيل من كلام مقسم فيها علتان، فلا يمكن أن تعارض ما ثبت عن ابن عباس. العلة الأولى: أن مدار الإسناد على عبد الكريم بن أبي المخارق وهو متروك. العلة الثانية: أن في الإسناد يحيى بن أبي طالب، وهو مختلف فيه. فقال الآجري: خط أبو داود سليمان بن الأشعث على حديث يحيى بن أبي طالب. لسان الميزان (6/ 262) وساق الخطيب بإسناده إلى موسى بن هارون قوله: "أشهد على يحيى بن أبي طالب أنه يكذب". قال الحافظ ابن حجر: عنى في كلامه، ولم يعن في الحديث. قلت: الكذب جرح على كل حال. تاريخ بغداد (14/ 220)، لسان الميزان (6/ 262). وقال أبو أحمد: محمد بن محمد بن إسحاق الحافظ: يحيى بن أبي طالب ليس بالمتين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ تاريخ بغداد (14/ 220). وقال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وسألت أبي عنه، فقال: محله الصدق. الجرح والتعديل (9/ 134). وقال الدارقطني: لا باس به عندي، ولم يطعن فيه أحد بحجة. وقال البرقاني: أمرني الدارقطني أن أخرج عنه في الصحيح. انظر: تاريخ بغداد (14/ 220)، وسير أعلام النبلاء (12/ 619)، وشذرات الذهب (2/ 68). وقد خالف سعيد بن أبي عروبة، سفيان بن عيينة، وأبو حمزة السكري، وابن جريج وهما ثقات، كما خالف أبا جعفر الرازي، ومحمد بن راشد فكل هؤلاء الخمسة جعلوا التفصيل مرفوعاً. ورواه ابن الجارود في المنتقى (111) حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا سعيد، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً وفيه: "يتصدق بدينار أو نصف دينار". كما أن سعيد بن أبي عروبة قد اختلف عليه في الحديث في سنده ومتنه. فرويناه فيما سبق، عن سعيد عن قتادة عن مقسم. وهنا عن سعيد عن عبد الكريم عن مقسم. وقيل: سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً فجعل بدلاً من مقسم عكرمة. فقد أخرجه البيهقي (1/ 317) أخبرنا أبو علي الروذباري، أخبرنا أبو طاهر المحمد آباذي، نا أبو قلابة، ثنا روح بن عبادة، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم أبي أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار، وفسره مقسم فقال: إذا كان في إقبال الدم فدينار، وإذا كان في انقطاع الدم فنصف دينار. وهذا الإسناد إلى عبد الكريم رجاله ثقات، إلا أبا قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، فإنه صدوق يخطيء، تغير حفظه لما سكن بغداد. وفي هذا الإسناد علل منها:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الأولى: ما سبق أن مداره على عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو متروك، ولا يمكن أن يعارض ما ثبت عن ابن عباس من قوله. الثانية: المخالفة في الإسناد، فإن المعروف أن عبد الكريم يرويه عن مقسم عن ابن عباس إلا ما كان في هذا الإسناد. الثالثة: أنه قال في الإسناد: "يتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار، مع أن المشهور في الحديث: "يتصدق بدينار أو نصف دينار". الرابعة: أن تفسير مقسم غير مناسب لمتن الحديث، لأن تفسير مقسم يصلح لو أن اللفظ جاء بقوله: "يتصدق بدينار أو نصف دينار" فهذا يمكن أن يقال: إن تفسير مقسم يرجح أن "أو" ليست للشك ولا للتخيير، وإنما هي للتنويع، وما دام أن اللفظ دينار فإن لم يجد فنصف دينار، لم يبق للتفسير مجال. اللفظ الرابع عن عبد الكريم. وهو اللفظ المشهور عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً: "يتصدق بدينار أو نصف دينار" على خلاف في تفسير "أو" كما سبق. فقد رواه الدارقطني (3/ 287) من طريق عبد الله بن محرر، عن عبد الكريم بن مالك، عن مقسم به، وعبد الله بن محرر متروك. ورواه البيهقي (1/ 317) من طريق هشام الدستوائي، ثنا عبد الكريم أبو أمية عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً عليه من قوله. قال البيهقي: وهذا أشبه بالصواب. ورواه ابن الجارود (111) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن عبد الله ابن عباس مرفوعاً. اللفظ الخامس: عن عبد الكريم. الأمر بالتصدق بنصف دينار. رواه ابن ماجه (650) حدثنا عبد الله بن الجراح، ثنا أبو الأحوص، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا وقع على امرأته أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق بنصف دينار. وهذا الإسناد إلى عبد الكريم إسناد حسن. وتابعه حجاج بن أرطأة كما عند النسائي في السنن الكبرى (9108) وقد سقت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ إسناده من قبل، وهذا سند صالح في المتابعات. كما تابعه خصيف عن مقسم وسبق تخريجه. كما رواه النسائي في الكبرى (9100)، والطبراني في الكبير (12121) بسند حسن من طريق إسماعيل بن زكريا، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس، وكل هذه الطرق سبق الكلام عليها. هذا فيما يتعلق بالاختلاف على عبد الكريم في متنه، ولاحظنا أن فيها اختلافاً كثيراً. العلة الثالثة: في طريق عبد الكريم. اختلفوا في عينه، هل هو ابن أبي المخارق البصري، أبو أمية المتروك، أو هو عبد الكريم ابن مالك الثقة. فأكثر الطرق عن عبد الكريم غير منسوب. وجاء عند الدارقطني (3/ 287) من طريق عبد الله بن محرر، عن عبد الكريم بن مالك، وعبد الله بن محرر متروك. وأخرجه أبو يعلى (2432)، والطبراني (12135)، والبيهقي (1/ 317)، والبغوي في شرح السنة (315) من طريق أبي جعفر الرازي، عن عبد الكريم بن أبي المخارق. وأبو جعفر الرازي صرح هنا أنه المتروك ابن أبي المخارق، وأبو جعفر سيء الحفظ. لكن جاء له متابع بسند صحيح عند البيهقي (1/ 317) من طريق هشام الدستوائي، ثنا عبد الكريم أبو أمية ... وسبق ترجمة إسناد البيهقي كاملاً فارجع إليه. فتبين من هذا أن المعروف في طرق عبد الكريم أنه ابن أبي المخارق، وقد أخطأ العلامة أحمد شاكر حين جزم أنه ابن مالك الثقة. الطريق الخامس: طريق يعقوب بن عطاء، عن مقسم. أخرجه الدارقطني (3/ 287، 286)، والبيهقي (1/ 318) من طريق أبي بكر بن عياش، عن يعقوب بن عطاء، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذي يقع على امرأته وهي حائض قال: "يتصدق بدينار أو نصف دينار". قال البيهقي: ويعقوب بن عطاء لا يحتج بحديثه. الطريق السادس: علي بن بذيمة، عن مقسم. أخرجه الدارقطني (3/ 187) من طريق عبد الله بن محرر، عن علي بن بذيمة، وقرن به

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ غيره، عن مقسم به مرفوعاً ... وعبد الله بن محرر متروك وقد سبق. وأخرجه الدارقطني (3/ 287) من طريق عبد الله بن يزيد بن الصلت، عن سفيان، عن على بن بذيمة، وقرن معه غيره، عن مقسم به مرفوعاً: "من أتى امرأته في الدم فعليه دينار، وفي الصفرة نصف دينار". وعبد الله بن يزيد بن الصلت ضعيف جداً، وسبقت ترجمته. الطريق السابع: ابن أبي ليلى، عن مقسم. أخرجه الدارمي (1115): أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن ابن أبي ليلى، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً قال: "يتصدق بدينار أو نصف دينار". وأخرجه الدارمي أيضاً (1118) أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس في الذي يقع على امرأته وهي حائض قال: يتصدق بدينار. وابن أبي ليلى ضعيف من قبل حفظه. هذا فيما يتعلق بطريق مقسم عن ابن عباس. وبقى الكلام على طريق عكرمة عن ابن عباس. وقد يلحظ القاريء أن بعض الطرق كررت أكثر من مرة، وكان الداعي لذلك أن الطريق الواحد قد يكون فيه اختلاف في الإسناد وفي المتن، فنذكره. أولاً: عند بيان الاختلاف في الإسناد، ثم نعيد ذكره عند الاختلاف في المتن، وهكذا. الطريق الثاني عن ابن عباس: طريق عكرمة عن ابن عباس. رواه عطاء بن عجلان العطار، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً: "يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار". وهذا الطريق: ضعيف جداً. قال يحيى بن معين: عطاء العطار، ليس بثقة. كما في رواية عباس الدوري عنه. تهذيب التهذيب (7/ 186). وروى عن يحيى أيضاً أنه قال: ليس حديثه بشيء كذاب. الجرح والتعديل (6/ 335). وقال في موضع آخر: كذاب. ضعفاء العقيلي (3/ 402). وقال عمر بن علي: كان كذاباً. الجرح والتعديل (6/ 335). وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/ 476)، والضعفاء الصغير (279). وقال أبو داود: ليس بشيء. تهذيب الكمال (20/ 94).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال الترمذي: ذاهب الحديث. تهذيب التهذيب (7/ 186). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (480). وقال أيضاً: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (7/ 186). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً، مثل أبان بن عياش، وذا الضرب، وهو متروك الحديث. وقال أبو رزعة: واسطي ضعيف. الجرح والتعديل (6/ 335). وقال ابن عدي: عامة رواياته غير محفوظة. الكامل (5/ 365). وقال ابن حبان وكان قد سمع الحديث فكان لا يدري ما يقول يتلقن كما يلقن ويجيب فيما يسأل حتى صار يروي الموضوعات عن الثقات لا يحل كتابة حديثه إلا على سبيل الاعتبار. المجروحين (2/ 129). في التقريب: متروك، بل أطلق عليه ابن معين والفلاس وغيرهما الكذب" اهـ. تخريج الحديث من هذا الطريق. أخرجه أحمد (1/ 245) حدثنا يونس، حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء العطار، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار". وأخرجه أحمد أيضاً (1/ 306) حدثنا شريح، حدثنا حماد به. وأخرجه أحمد أيضاً (1/ 363) حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد به. وأخرجه الطبراني (11921) من طريق حجاج بن المنهال، حدثنا حماد به. وأخرجه البيهقي (1/ 318) من طريق يزيد بن زريع، عن عطاء العطار به. وقد جاء الحديث من طريق خصيف عن عكرمة، وطريق خصيف فيه اضطراب شديد. وأخرجه البيهقي (1/ 317) من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق عن عكرمة والإسناد ضعيف جداً، وقد سبق تخريجها. بقى قبل أن نطوي البحث في هذا الحديث أن ننقل لك خلاف العلماء المتقدمين وما قالوه فيه. ذهب فريق من العلماء إلى تصحيحه مرفوعاً. على رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، والحاكم، وابن القطان الفاسي، وابن دقيق العيد، وابن حجر. جاء في تلخيص الحبير (1/ 293): قال الخلال عن أبي داود، عن أحمد: ما أحسن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ حديث عبد الحميد؟ فقيل له: تذهب إليه؟ قال: نعم. وقال ابن حجر أيضاً في التلخيص: "والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثيراً جداً ... ". ثم قال: "وقد أمعن ابن القطان القول في تصحيح هذا الحديث، والجواب عن طرق الطعن فيه. مما يراجع منه - وسوف أنقل لك كلام القطان بطوله - ثم قال: "وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وقواه في الإمام" وهو الصواب، فكم من حديث قد احتجوا به فيه من الاختلاف أكثر مما في هذا، كحديث بئر بضاعة، وحديث القلتين ونحوهما. وقال الحاكم في المستدرك (1/ 172): "هذا حديث صحيح، فقد احتجا جميعاً بمقسم ابن بجرة". قلت: لم يحتج مسلم بمقسم، وما خرج له البخاري إلا حديثاً واحداً قد توبع فيه، وأقر الذهبي الحاكم على تصحيحه للحديث. وأطال الكلام ابن القطان الفاسي في تصحيحه للحديث في كتابه بيان الوهم والإيهام وأورد لك خلاصة منه: قال رحمه الله (5/ 276): بعد أن بين بعض الاختلاف على بعض الرواة: "والصواب أن ننظر رواية كل راو بحسبها، ويعلم ما خرج عنه فيها، فإن صح من طريق قبل، ولو كانت له طرق أخرى ضعيفة. وهم إذا قالوا: هذا روي فيه "بدينار". وروي فيه: "بنصف دينار" وروي باعتبار صفات الدم، وروي دون اعتبارها، وروي باعتبار أول الحيض وآخره، وروي دون ذلك، وروي بخمس دينار، وروي بعتق نسمة قامت من هذا في الذهن صورة سواء، وهو عند التبيين والتحقيق لا يضره، ونحن نذكر الآن كيف هو صحيح بعد أن نقدم أن نقول: يحتمل قوله: "دينار أو نصف دينار" ثلاثة أمور. أحدها: أن يكون تخييراً. ويبطل هذا بأن يقال: التخيير لا يكون إلا بعد طلب، وهذا وقع بعد الخبر، إذ حكم التخيير الاستغناء بأحد الشيئين، لأنه إذا خير بين الشيء وبعضه، كان بعض أحدهما متروكاً بغير بدل. الأمر الثاني: أن يكون شكاً من الراوي. الثالث: أن يكون باعتبار حالين. وهذا هو الذي يتعين منها، ونبينه الآن فنقول: قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثني الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: "يتصدق بدينار أو نصف دينار". قال أبو داود: "كذا الرواية الصحيحة: "بدينار أو بنصف دينار" وربما لم يرفعه شعبة. وهذا ليس فيه توهين له، لاحتمال أن يكون عنده فيه المرفوع، والموقوف، ويكون ابن عباس - رضي الله عنه - قد رواه، ورآه فحمله، وأفتى به!!. قلت: فرق بين أن يرويه موقوفاً، أو أن يسأل فيفتي به، والمحدثون يفرقون بين هذا وهذا، وإن كان الفقهاء لا يفرقون بين الرواية والفتوى، فيحملون الموقوف على المرفوع ظناً منهم أن هذا منه من قبيل الفتوى, ولا يتمشى هذا على طريقة المحدثين، بل إن المحدثين يذهبون إلى أبعد من هذا فيفرقون بين ما سمعوه في المذاكرة، وإن كان على سبيل الرواية، وبين غيره، لأن المذاكرة قد يتساهل الشيخ في النص المروي .. فلله درهم!! وأين هذا من طريقة الفقهاء والأصوليين فيما إذا تعارض الوصل والإرسال، أو الرفع والوقف، فإنهم يحكمون لمن وصله أو رفعه مطلقاً ما دام أن الراوي مقبول الرواية!! نعود إلى كلام ابن القطان ... قال: "فأما طريق أبي داود فصحيح، فإن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب اعتمده أهل الصحيح، منهم البخاري، ومسلم، ووثقه النسائي والكوفي. ويحق له، فقد كان محمود السيرة في إمارته على الكوفة لعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ضابطاً لما يرويه، ومن دونه في الإسناد لا يسأل عنهم. ويتكرر على سمعك من بعض المحدثين أن هذا الحديث في كفارة من أتى حائضاً لا يصح، فلتعلم أنه لا عيب له عندهم إلا الاضطراب زعموا. ثم قال: "فنقوله: الرجال الذين رووه مرفوعاً ثقات، وشعبة إمام أهل الحديث كان يقول: أما حفظي فمرفوع، وقال فلان وفلان إنه كان لا يرفعه، فقال له بعض القوم: يا أبا بسطام، حدثنا بحفظك ودعنا من فلان وفلان، فقال: والله ما أحب أني حدثت بهذا أو سكت أو أني عمرت في الدنيا عمر نوح في قومه فهذا غاية التثبت منه. وهبك أن أوثق أهل الأرض خالفه فيه فوقفه على ابن عباس، كان ماذا؟ أليس إذا روى الصحابي حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز له، بل يجب عليه أن يقلد مقتضاه فيفتي!! هذا قوة للخبر لا توهين له.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فإن قلت: فكيف بما ذكر ابن السكن، قال: حدثنا يحيى وعبد الله بن سليمان وإبراهيم، قالوا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة بالإسناد المتقدم مثله موقوفاً، فقال له رجل: إنك ترفعه، فقال: إني كنت مجنوناً فصححت. قلنا - القائل ابن القطان - نظن أنه - رضي الله عنه -، لما أكثر عليه في رفعه إياه توقى رفعه لا لأنه موقوف، لكن إبعاداً للظنة عن نفسه. وأبعد من هذا الاحتمال أن يكون شك في رفعه في ثاني حال فوقفه، فكان ماذا فلا نبالي ذلك أيضاً، بل لو نسى الحديث بعد أن حدث به لم يضره، فإن أبيت إلا أن يكون شعبة رجع عن رفعه، فاعلم أن غيره من أهل الثقة والأمانة أيضاً قد رواه عن الحكم مرفوعاً، كما رواه شعبة فيما تقدم - وهو عمرو بن قيس الملائي، وهو ثقة، فال فيه عن الحكم ما قاله شعبة من رفعه إياه، إلا أن لفظه: "فأمره أن يتصدق بنصف دينار"، وذلك لا يضره، فإنه إنما حكى قضية معينة، وهو مؤكد لما قلناه: من أن ديناراً أو نصف دينار، إنما هو باعتبار حالين، لا تخيير ولا شك. ورواه أيضاً مرفوعاً هكذا عن عبد الحميد بن عبد الرحمن المذكور قتادة، وهو من هو، ثم ساق إسناد النسائي للحديث من طريق روح بن عبادة، وعبد الله بن بكر، قالا: حدثنا ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس أن رجلاً غشى امرأته وهي حائض، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق بدينار أو نصف دينار. ثم قال القطان: فهذا شأن حديث مقسم، ولن نعدم فيه وقفاً وإرسالاً، والفاظاً أخر لا يصح منها شيء غير ما ذكرناه. قلت: هذا الكلام مدخول من وجوه: أولاً: أن العلة ليست شك شعبة الطاريء، بل شك شيخه الحكم بن عتيبة، وقد سمعه شعبة من الحكم تارة مرفوعاً وتارة موقوفاً فترك رفعه، وقد نقلنا صريح عبارة شعبة قال: أسنده لى الحكم مرة، وأوقفه أخرى، وكون الحكم يشك في رفعه تارة يرويه مرفوعاً وتارة موقوفاً هذا دليل على عدم ضبطه ... وقد أشبعنا بحثاً في أول البحث فلا نرجع إليه. ثانياً: قوله: إن عمرو بن قيس الملائي قد رواه عن الحكم مرفوعاً، فالذي وقفنا عليه من رواية عمرو بن قيس أنه رواه موقوفاً ولم أقف عليه مرفوعاً من طريقه، ولم يذكر لنا ابن القطان من الذي رواها. انظر رواية عمرو بن قيس الملائي الموقوفة في سنن النسائي الكبير

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ (9100)، والطبراني في الكبير (12129) وإسنادهما حسن. وقد رواه الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس موقوفاً أيضاً. انظر سنن الدارمي (1112) وسنده صحيح. ثالثاً: رواية قتادة الذي أشار إليها ابن القطان قد بينا الاختلاف على قتادة، فروى عن قتادة عن مقسم، وروى عن قتادة عن عبد الحميد، وقد بينت أن طريق قتادة المحفوظ فيه قتادة عن الحكم عن عبد الحميد، عن مقسم عن ابن عباس. فرجع طريق قتادة إلى طريق الحكم فما أضاف شيئاً. وما عداه من الطرق كطريق خصيف، أو عبد الكريم بن أبي المخارق، فالأول مضطرب، والثاني ضعيف جداً. القول الثاني: ممن ضعف الحديث مرفوعاً. ضعفه الامام الشافعي رحمه الله، جاء في تلخيص الحبير (1/ 293): قال البيهقي: قال الشافعي في أحكام القرآن، لو كان هذا الحديث ثابتاً لأخذنا به. وضعفه ابن عبد البر، وسوف أنقل كلامه في أدلة القول الثاني. وقال النووي في المجموع (2/ 391): "اتفق المحدثون على ضعف حديث ابن عباس واضطرابه. وروي موقوفاً، وروي مرسلاً، وألواناً كثيرة، وقد رواه أبو داود، والترمذي والنسائي وغيرهم، ولا يجعله ذلك صحيحاً، وذكره الحاكم في المستدرك على الصحيحين، وقال: هو صحيح، وهذا الذي قاله الحاكم خلاف قول أئمة الحديث، والحاكم معروف عندهم بالتساهل في التصحيح، وقد قال الشافعي في أحكام القرآن: هذا حديث لا يثبت مثله، وقد جمع البيهقي طرقه، وبين ضعفها بياناً شافياً، وهو إمام حافظ متفق على إتقانه وتحقيقه، فالصواب أنه لا يلزمه شيء والله أعلم. اهـ كلام النووي. وحكاية الاتفاق عند النووي كثيرة، ولا يوافق على كثير منها، بل إن ابن المنذر على تساهله في حكاية الإجماع أقرب منه، ويستطيع الباحث أن يجمع مؤلفاً فيما قال فيه النووي: ضعيفاً أو صحيحاً باتفاق المحدثين والتحقيق خلافه. وممن قال لا يلزمه شيء من من السلف جماعة، منهم: - ابن سيرين، رواه عبد الرزاق (1267، 1268) عنه بسند صحيح، وكذلك الدارمي (1103).

دليل القائلين بأنه لا يجب عليه إلا التوبة والاستغفار.

دليل القائلين بأنه لا يجب عليه إلا التوبة والاستغفار. الدليل الأول: عدم الدليل الموجب للكفارة. قال ابن عبد البر: "وحجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة، اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس وأن مثله لا تقوم به حجة، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه، ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسألة" اهـ (¬1). ¬

_ - عطاء رواه عبد الرزاق (1269) بسند صحيح قال: لم أسمع فيه بكفارة معلومة فليستغفر الله. ورواه الدارمي (1097، 1100). - ومنهم إبراهيم النخعي، رواه عبد الرزاق بسند صحيح عنه (1268). - ومنهم ابن أبي مليكة رواه الدارمي (1101). - ومنهم القاسم بن محمد، رواه الدارمي عنه (1099) بسند صحيح. وروى عبد الرزاق (1270) والدارمي (1102) من طريقين عن أيوب عن أبي قلابة، أن رجلاً قال لأبي بكر الصديق: رأيت في المنام أبول دماً، قال: أنت رجل تأتي امرأتك وهي حائض، فاستغفر الله ولا تعد. ولم يدرك أبو قلابة أبا بكر. وقال ابن حزم في المحلى (مسألة 263): "ومن وطيء حائضاً فقد عصى الله سبحانه وتعالى، وفرض عليه التوبة والاستغفار، ولا كفارة عليه في ذلك". وقال أيضاً: "إذا لم يصح في إيجاب شيء على واطئ الحائض فماله حرام، فلا يجوز أن يلزم حكماً أكثر مما ألزمه من التوبة من المعصية التي عمل والاستغفار والتعزير، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" وقد ذكرناه إسناده. (¬1) التمهيد كما في فتح البر (3/ 466).

الدليل الثاني

وقال ابن المنذر: "الكفارة لا يجوز إيجابها إلا أن يوجبها الله عز وجل، أو يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوجبها، ولا نعلم إلى هذا الوقت حجة توجب ذلك والله أعلم" (¬1). وذكر ابن المنذر: بأن القول بأن لا غرم عليه في ماله، ولكن يستغفر الله، هو قول عطاء وإبراهيم النخعي، ومكحول، وابن أبي مليكة، والشعبي، والزهري، وربيعة، وابن أبي الزناد، وحماد بن أبي سليمان الكوفي، وأيوب السختياني، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري والشافعي، والنعمان، ويعقوب (¬2). الدليل الثاني: دليل نظري، قالوا: إن الجماع في الفرج حال الحيض حرم لعلة الأذى، فلا يوجب ذلك كفارة، كالوطء في الدبر. فقد عصى الله تعالى، وفرض عليه التوبة والاستغفار، ولا كفارة عليه في ذلك". وقال ابن حزم: "إذا لم يصح في إيجاب شيء على واطيء الحائض فما له حرام فلا يجوز أن يلزم حكماً أكثر مما ألزمه الله من التوبة من المعصية التي عمل والاستغفار والتعزير لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" وقد ذكرناه بإسناده" (¬3). ¬

_ (¬1) الأوسط (2/ 212). (¬2) الأوسط (2/ 210 - 211). (¬3) المحلى (مسألة 263).

دليل القائلين باستحباب الكفارة.

دليل القائلين باستحباب الكفارة. لعل القائلين بالاستحباب ذهبوا إلى ذلك من باب الاحتياط، فإنهم حين رأوا الاختلاف في الحديث والاضطراب في إسناده ومتنه لم يجزموا بالوجوب، وحين رأوا ثبوت ذلك عن ابن عباس من قوله قوي عندهم القول بالاستحباب. واستدل بعضهم على أن الأثر للاستحباب من وجه آخر. قال أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي: "إذا ثبت أن أصل الحديث الأمر بالتخيير بين الدينار وبين نصف الدينار، فأرى أن الأمر فيه ليس للوجوب، وإنما هو للندب، لأن الأصل في الأمر أن يكون للوجوب على الحقيقة، ولا يكون للندب إلا مجازاً، والمجاز لا بد له من قرينة تمنع إرادة المعنى الحقيقي، والقرينة هنا في نفس اللفظ، لأن التخيير في المأمور به بين أن يكون قليلاً أو كثيراً من نوع واحد، يدل على أن الزائد على القليل ليس واجباً، لأن الدينار الواحد له نصفان، وقد أمر مخيراً بين أدائه كله، وبين أداء نصف من نصفيه، فإذا أدى النصف كان آتياً بالمأمور به في أحد شقي الأمر، ولم يأت إلا ببعضه في الشق الآخر وبرئت ذمته بما أتاه من الأمور به، فكان الذي لم يأت به غير واجب عليه، بنفس دلالة اللفظ، فدل لفظ الأمر، على أن بعض مدلوله ليس مراداً به الوجوب فخرج بذلك عن الحقيقة إلى المجاز، وإذا خرج في بعض مدلوله عن الحقيقة لهذه القرينة القاطعة، خرج في كل مدلوله، لامتناع استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معاً، وتحقيق ذلك في موضعه من علم الأصول" اهـ.

دليل القائلين إن كان الدم كذا فدينار أو كذا فنصف دينار.

كلام شاكر (¬1). دليل القائلين إن كان الدم كذا فدينار أو كذا فنصف دينار. عمدة القائلين في ذلك بأن ذلك قد ورد عن ابن عباس من قوله، وهو صحابي عربي اللسان، ترجمان القرآن وحبر الأمة، وهو أدرى بما روى، وتفسيره مقدم على تفسير غيره. والذي يرجح ذلك أن احتمال كون (أو) في قوله "يتصدق بدينار أو نصف دينار" للشك بعيداً، وإن كان قد حصل الشك لبعض الرواة، لأن الشريعة في نفسها لا يمكن أن يكون فيها حكم مشكوك فيه، وهي من لدن حكيم خبير، والشك وصف عارض قد يطرأ على الإنسان لضعفه وعجزه، وأما حقيقة الأمر فالشريعة ليس فيها شك. وتحتمل أن (أو) للتخيير، فلما احتملت هذا وهذا رأينا أن تفسير ابن عباس في كون (أو) للتنويع هو الفيصل. (401) فقد روى البيهقي، من طريقين عن أبي العباس محمد ابن يعقوب، ئنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا أبو الجواب، ثنا سفيان الثوري، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس، في الرجل يأتي امرأته وهي حائض، قال: إن أتاها في الدم تصدق بدينار، وإن أتاها في غير الدم تصدق بنصف ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (1/ 253).

دليل من قال: هو مخير بين دينار ونصف دينار.

دينار (¬1). [وإسناده حسن، وسبق الكلام عليه عند الكلام على حديث ابن عباس]. وقد توبع ابن جريج ... فقد رواه أبو داود (¬2)، والحاكم (¬3)، والبيهقي (¬4) من طريق علي بن الحكم البناني، عن أبي الحسن الجزري، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً عليه. [وهذا سند ضعيف، لكنه صالح في المتابعات وسبق الكلام عليه]. دليل من قال: هو مخير بين دينار ونصف دينار. دليلهم أن التفصيل الوارد إن كان الدم كذا فدينار أو كذا فنصف دينار لم يثبت منه شيء مرفوع، وأن القدر المرفوع منه هو (402) ما رواه أحمد: حدثنا يحيى عن شعبة، ومحمد بن جعفر حدثنا شعبة، عن عبد الحكيم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو نصف دينار (¬5). وليس في الحديث ما يدل على أن (أو) للشك فبقي أنه مخير بين الدينار أو ¬

_ (¬1) سنن البيهقي (1/ 319). (¬2) سنن أبي داود (265). (¬3) المستدرك (1/ 172). (¬4) سنن البيهقي (1/ 318). (¬5) المسند (1/ 229 - 230).

دليل من قال: عليه خمسا دينار.

نصف دينار. فإن قيل: إن التخيير في الجنس الواحد ينافي الوجوب، فإذا كان مخيراً بين نصف دينار، وبين إخراج دينار ... لم يكن إخراج الدينار واجباً. وإذا كان الأمر كذلك خرج الأمر من كونه يراد به الوجوب، إذ لا يمكن أن يكون الأمر في شيء واحد مشتركاً بين الوجوب والاستحباب، فبعضه واجب، وبعضه مستحب. أجاب ابن قدامة، بقوله: "فإن قيل: فكيف يخير بين شيء ونصفه؟ قلنا: كما يخير المسافر بين قصر الصلاة وإتمامها، فأيهما فعل كان واجباً، كذا ها هنا" (¬1). وهذا الجواب فيه ما فيه. دليل من قال: عليه خمسا دينار. (403) ما رواه الدارمي، قال: أخبرنا محمد بن يوسف، ثنا الأوزاعي، عن يزيد بن أبي مالك، عن عبد الحميد بن زيد بن الخطاب، قال: كان لعمر بن الخطاب امرأة تكره الجماع، وكان إذا أراد أن يأتيها اعتلت عليه بالحيض، فوقع عليها فإذا هي صادقة، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يتصدق بخمسي دينار (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 418). (¬2) سنن الدارمي (1110). (¬3) للانقطاع بين عبد الحميد، وعمر، كما أن فيه اختلافاً في إسناده، فقد قال أبو داود

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ في السنن بعد حديث (266) وروى الأوزاعي، عن يزبد بن أبي مالك، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أمره أن يتصدق بخمسي دينار. قال أبو داود: وهذا معضل، فهنا أسقط عمر. وقال البيهقي في السنن (1/ 316) رواه إسحاق الحنظلي عن بقية بن الوليد، عن الأوزاعي بهذا الإسناد عن عمر بن الخطاب أنه كانت له امرأة تكره الرجال، فكان كلما أرادها اعتلت بالحيضة.

الفرع الأول: إذا قالت المرأة لزوجها إنها حائض فهل يلزمه تصديقها مطلقا

الفرع الأول: إذا قالت المرأة لزوجها إنها حائض فهل يلزمه تصديقها مطلقاً قال ابن نجيم، نقلاً عن السراج الوهاج قال: "إذا أخبرته بالحيض، إن كانت فاسقة لا يقبل قولها، وإن كانت عفيفة يقبل قولها، ويترك وطؤها. وقال بعضهم: إن كان صدقها ممكناً، بأن كانت في أوان حيضها قبلت، ولو كانت فاسقة كما في العدة وهذا القول أحوط وأقرب إلى الورع. قال ابن نجيم: فعلم من هذا أنها إذا كانت فاسقة ولم يغلب على ظنه صدقها، بأن كانت في غير أوان حيضها لا يقبل قولها اتفاقاً" (¬1). قلت: قد يتمكن الزوج من الوقوف على صدقها من كذبها قبل الجماع، والوسائل كثيرة، لأن الحيض أمر محسوس، معلوم بالمشاهدة والرائحة. دليل من قال: يعتق نسمه أو قال: عليه كفارة من جامع في نهار رمضان. لا أعلم لهذين القولين دليلاً، من الكتاب ولا من السنة، ولا من قول صاحب، وإنما نسب القول بإعتاق رقبة لسعيد بن جبير، حكاه ابن المنذر عنه في الأوسط (¬2) ولم أقف على إسناده. وحكى القول بكفارة من جامع أهله في نهار رمضان للحسن. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 207). (¬2) الأوسط (2/ 210).

(404) رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام عن الحسن أنه كان يقيسه بالذي يقع على أهله في رمضان (¬1). [وهشام في روايته عن الحسن فيها كلام، قيل: إنه كان يرسل عنه]. ورواه الدارمي: وفيه رجل مبهم (¬2). والراجح لي أن من جامع امرأته في فرجها حال الحيض أنه لا يجب عليه شيء وعليه التوبة والاستغفار، وإن أخرج ديناراً أو نصفه فإنه مستحب لقول ابن عباس، ولا يثبت عندي مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) المصنف (1267). (¬2) سنن الدارمي (117).

الفرع الثاني: هل يكفر من استحل جماع الحائض في فرجها؟

الفرع الثاني: هل يكفر من استحل جماع الحائض في فرجها؟ قال النووي في المجموع: "أجمع المسلمون على تحريم وطء الحائض، للآية الكريمة، والأحاديث الصحيحة" ثم قال: "قال أصحابنا وغيرهم: من استحل وطء الحائض حكم بكفره، ومن فعله جاهلاً وجود الحيض، أو تحريمه، أو ناسياً، أو مكرهاً، فلا إثم عليه ولا كفارة" (¬1). وجزم بكفره من الحنفية السرخسي (¬2)، وابن الهمام (¬3). والدليل على كفره أنه مكذب للقرآن في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" رواه مسلم وسبق تخريجه. وجاء في البحر الرائق لابن نجيم، قال: "صحح أنه لا يكفر صاحب الخلاصة، ويوافقه ما نقله أيضاً من الفصل الثاني في ألفاظ الكفر من اعتقد الحرام حلالاً، أو على القلب، يكفر إذا كان حراماً لعينه، وثبتت حرمته بدليل مقطوع به، أما إذا كان حراماً لغيره بدليل مقطوع به، أو حراماً لعينه بأخبار ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 389). (¬2) المبسوط (3/ 152). (¬3) شرح فتح القدير (1/ 166). (¬4) سورة البقرة، آية: 222.

الآحاد لا يكفر إذا اعتقده حلالاً. فعلى هذا لا يفتى بتكفير مستحله لما في الخلاصة أن المسألة إذا كان فيها وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنع، فعلى المفتي أن يميل إلى ذلك الوجه" اهـ (¬1). والراجح الأول: فكل ما كان مجمعاً على تحريمه، فإن من استحله، ومثله لا يجهل الدليل على التحريم فإنه يُعَلَّم، فإن أصر حكم بكفره. وسواء كان الدليل من القرآن أو من السنة المتواترة، أو من أخبار الآحاد ما دام أن التحريم لا خلاف فيه بين العلماء. أما إذا اختلف في تحريمه. فاستحله أحد فلا يكفر، بناء على أن التحريم منازع فيه. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 207).

الفرع الثالث: هل جماع المرأة في حال الحيض من كبائر الذنوب أم يعد من الصغائر؟

الفرع الثالث: هل جماع المرأة في حال الحيض من كبائر الذنوب أم يعد من الصغائر؟ قسم الشرع الذنوب إلى كبائر وصغائر. قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬1)، وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (¬2). وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (¬3). فقيل: من أتى امرأته وهي حائض عالماً بالحرمه عامداً مختاراً فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب. وهو مذهب الحنفية (¬4)، أو الشافعية (¬5). وقيل: يأثم ولا يكون مرتكباً لكبيرة لعدم انطباق تعريف الكبيرة عليه وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬

_ (¬1) النساء، آية: 31. (¬2) الشورى، آية: 37. (¬3) النجم آية: 32. (¬4) البحر الرائق (1/ 207)، مراقي الفلاح (59). (¬5) المجموع (2/ 389). (¬6) المبدع (1/ 266)، كشاف القناع (1/ 200).

دليل الحنفية والشافعية على أن جماع الحائض كبيرة.

دليل الحنفية والشافعية على أن جماع الحائض كبيرة. الدليل الأول: (405) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد ابن سلمة، قال: أخبرنا حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه، فقد برئ مما أنزل على محمد. وفي رواية: فقد كفر بما أنزل على محمد (¬1). [إسناده منكر، والمعروف وقفه على أبي هريرة بقصة إتيان النساء في أدبارهن دون ذكر الحيض] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (2/ 408). (¬2) أبو تميمة الهجيمي لم يسمع من أبي هريرة. قال البخاري: "لا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة، انظر التاريخ الكبير (3/ 16 - 17) وانظر مراسيل العلائي (ص 201) رقم (309). وحكيم الأثرم. قال فيه البخارى: حكيم الأثرم عن أبي تميمه الهجيمي، عن أبي هريرة: "من أتى كاهناً ... " هذا حديث لا يتابع عليه. التاريخ الكبير (3/ 16). وقال ابن عدي: يعرف بهذا الحديث وليس له غيره إلا اليسير. الكامل (2/ 219). وقال أبو بكر البزار حدث عنه حماد بحديث منكر. تهذيب التهذيب (2/ 388). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (7/ 207). وذكره ابن حبان في الثقات. (6/ 215). وقال ابن المديني: ثقة عندنا. تهذيب التهذيب (2/ 388). وساق ابن أبي حاتم بإسناده، عن محمد بن يحيى النيسابوري، قال: قلت لعلي بن المديني: حكيم الأثرم من هو؟ قال: أعيانا هذا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وفي رواية: لا أدري من أين هو؟. ولعله يريد بقوله: "من أين هو" جهالة في بلده، أو في اسم أبيه، لأنه ورد عنه لا أدري ابن من هو، وهو ثقة. اهـ. انظر: حاشية تهذيب الكمال (7/ 207 - 208). وفي التقريب فيه لين. وقد ضعف الحديث البخاري كما نقل الترمذي في سننه (1/ 243). وقال البزار كما في تلخيص الحبير (1/ 370) هذا حديث منكر، وحكيم لا يحتج به. وقال المناوي في فيض القدير (6/ 24): "قال البغوي: سنده ضعيف. قال المناوي: وهو كما قال. وقال ابن سيد الناس: فيه أربع علل: التفرد عن غير ثقة، وهو موجب للضعف، وضعف رواته، والانقطاع، ونكارة متنه، وأطال في بيانه. وقال الذهبي في الكبائر: ليس إسناده بالقائم. اهـ قلت: ويضاف إلى ما سبق من العلل الاختلاف في رفعه ووقفه - كما سيأتي - وإسناد حكيم الأثرم مداره على حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الجهمي، عن أبي هريرة. تخريج الحديث: أخرجه أحمد (2/ 476): حدثنا وكيع، ثنا حماد بن سلمة به. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (9016) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا وكيع به ولم يذكر فيه: "حكم الكاهن". وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 523) رقم 16803 والدارمي (136) عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن حماد بن سلمة به، إلا أنه قال: "فقد كفر بما أنزل على محمد" بدلاً من فوله: "فقد برئ .... ". وأخرجه أبو داود (3904) عن موسى بن إسماعيل، وعن يحيى بن سعيد القطان كلاهما عن حماد بن سلمة به، بلفظ: "فقد برئ بما أنزل على محمد .... ". وأخرجه الترمذي (135)، والنسائي في الكبرى (9017) عن بندار، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي وبهز بن أسد، قالوا: حدثنا حماد بن سلمة به. وفيه: "فقد كفر بما أنزل على محمد".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة، وإنما معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتى حائضاً فليتصدق بدينار، فلو كان إتيان الحائض كفراً لم يؤمر فيه بالكفارة. وضعف محمد - يعني البخاري - هذا الحديث من قبل إسناده. اهـ. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (107) حدثنا محمد بن يحيى، ثنا بزيد بن هارون قال: ثنا حماد بن سلمة به. بلفظ: "فقد برئ بما أنزل الله على محمد". وأخرجه العقيلي في الضعفاء (1/ 318) من طريق روح، حدثنا حماد بن سلمة به، قال العقيلي بعده: رواه جماعة عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد موقوفاً. اهـ. وسيأتي الكلام عليه. وقد أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 44 - 45) والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 198) من طريق حماد بن سلمة به. ورواه مجاهد عن أبي هريرة موقوفاً عليه، إلا أنه لم يذكر فيه موضع الشاهد وهو إتيان الحائض. فقد أخرجه النسائي في الكبرى (9021) أخبرني معاوية بن صالح الدمشقي قال: أنا منصور - يعني: ابن مزاحم - قال: أنا سعيد يعني: المؤدب، عن أبي علي بن جذيمة، عن مجاهد، عن أبي هريرة قال: "من أتى أدبار الرجال والنساء فقد كفر". وسنده حسن. شيخ النسائي معاوية بن صالح: قال النسائي لا بأس به، وفي التقريب: صدوق، وأبو سعيد المؤدب. قال البخاري: فيه نظر، وهو من الجرح الشديد عنده حسب الاستقراء، لكن لم يتابع البخاري على ذلك. فقد قال ابن معين، وأبو حاتم الرازي، وأبو زرعة: ثقة. الجرح والتعديل (8/ 76). وقال أحمد بن حنبل: ثقة. كما في رواية أبي داود عنه. تهذيب الكمال (26/ 452)، وتهذيب التهذيب (9/ 401). وقال أبو داود: ثقة، كما في رواية أبي عبيد الآجري. تهذيب التهذيب (9/ 401). وقال ابن سعد: كان ثقة. الطبقات الكبرى (6/ 326). وذكره ابن حبان في الثقات. (9/ 40).

وجه الاستدلال: قوله: "فقد كفر" لا شك أن هذا اللفظ لو صح لفهم منه أنه كبيرة من كبائر الذنوب ... والكفر هنا لا يراد به الكفر المخرج من الملة. فقال السرخسي في المبسوط: " (فقد كفر بما أنزل على محمد) مراده: إذا استحل ذلك الفعل" (¬1). ولا يظهر لي هذا القيد، لأن الحديث خلا منه. وقال المناوي: "ومن لم يستحلها - يعني هذه الأفعال - فهو كافر بالنعمة، على ما مر غير مرة، وليس المراد حقيقة الكفر، وإلا لما أمر في وطء الحائض بالكفارة كما بينه الترمذي (¬2). وعلى هذا فالمراد فقد كفر: أي بالنعمة. ¬

_ - وقال العجلي: ثقة. ثقات العجلي (2/ 405). وفي التقريب: صدوق يهم!! وباقي رجال الإسناد ثقات فالإسناد حسن. وقد تابعه ليث بن أبي سليم .. وإن كان فيه ضعف إلا أنه صالح في المتابعات فقد أخرجه النسائي في الكبرى (9018) أخبرنا إسحاق بن منصور، وأخرجه أيضاً (9019) أخبرنا محمد بن بشار كلاهما قال: أنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة، قال: إتيان النساء والرجال في أدبارهن كفر. قال العقيلي في الضعفاء (1/ 149): رواه سفيان الثوري، ومعمر بن راشد، وأبو بكر ابن عياش والمحاربي، ويزيد بن عطاء اليشكري، وعلي بن الفضيل بن عياض، عن ليث، عن مجاهد فأوقفوه. (¬1) المبسوط (3/ 152). (¬2) فيض القدير (6/ 24).

وقال الترمذي: معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ. اهـ (¬1). وقيل في معنى الحديث أقوال ساقها النووي في شرحه لصحيح مسلم. قال: أحدها: إن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق. الثاني: المراد به كفر النعمة وحق الإسلام. الثالث: أنه يقرِّب من الكفر ويؤدي إليه. الرابع: أنه فعل كفعل الكفار. الخامس: المراد حقيقة الكفر، ومعناه: لا تكفروا بل دوموا مسلمين. السادس: حكاه الخطابي وغيره، أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه. قال الأزهري في كتابه "تهذيب اللغة": يقال للابس السلاح كافر. والسابع: قاله الخطابي: معناه لا يكفر بعضكم بعضاً فتستحلوا فقال بعضكم بعضاً. اهـ وإطلاق الكفر وإرادة الكفر الأصغر كثير في الشرع. (406) فقد روى البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن منصور، قال: سمعت أبا وائل يحدث عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر. وأخرجه مسلم (¬2). ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (1/ 243). (¬2) صحيح البخاري (48)، ومسلم (64).

(407) كما أخرج البخاري، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني علي بن مدرك، عن أبي زرعة، عن جرير، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: استنصت الناس، فقال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض. وأخرجه مسلم (¬1). وقتال المسلم ولو كان عدواناً لا يخرج به المسلم عن الإسلام، ولا يكفر به كفراً يخرج عن الملة .. قال سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ...} إلى قوله تعالى: " {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}. فلم تنتف الإخوة مع القتل ... وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ...} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. (408) ومنها حديث أبي ذر في البخاري، قال: حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث، عن الحسين، عن عبد الله بن بريدة، قال: حدثني يحيى بن يعمر أن أبا الأسود الديلي، حدثه عن أبي ذر، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ليس من رجل ادَّعى لغير أبيه، وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادَّعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار. ورواه مسلم (¬2). (409) ومنها حديث جرير في مسلم، قال رحمه الله: حدثنا علي بن حجر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (121)، ومسلم (65). (¬2) صحيح البخاري (3508)، ومسلم (61).

الدليل الثاني

السعدي، حدثنا إسماعيل يعني بن علية، عن منصور بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن جرير أنه سمعه يقول: أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم. قال منصور: قد والله روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكني أكره أن يروى عني ههنا بالبصرة (¬1). فالمراد أن الكفر قد يطلق ويراد به كفر لا يخرج عن الملة .. لكن يعد من كبائر الذنوب ... أو من أكبرها. الدليل الثاني: الدليل الثاني على أن إتيان الحائض كبيرة من كبائر الذنوب. (410) ما رواه أحمد: من طريق شعبة، عن الحكم، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي يأتي امرأته، وهي حائض يتصدق بدينار، أو نصف دينار (¬2). [المحفوظ أنه موقوف على ابن عباس ... وسبق تخريجه]. وجه الاستدلال: أن الفعل لما رتبت عليه عقوبة (كفارة) ... دل على أنه ليس من الصغائر، فكل فعل رتبت عليه عقوبة دنيوية أو أخروية، أو رتب عليه وعيد بغضب أو ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (68). (¬2) المسند (1/ 229 - 230).

دليل الحنابلة بأن وطء، الحائض ليس كبيرة.

لعن، أو نحوها فإن هذا دليل على أن الفعل كبيرة، لأن الراجح من أقوال أهل العلم أن الكبائر محدودة وليست معدودة. دليل الحنابلة بأن وطء، الحائض ليس كبيرة. قال البهوتي في كشاف القناع: "ووطؤها - أي الحائض - في الفرج ليس بكبيرة، لعدم انطباق تعريفها عليه" اهـ (¬1). فلما لم تصح أدلة القول الأول: "من أتى حائضاً فقد كفر بما أنزل على محمد" لم يكن هذا الفعل داخلاً في حد الكبيرة، والله أعلم. والعجيب أن الحنابلة يرون وجوب الكفارة، وهي عقوبة، ومع ذلك لا يقولون بأنها كبيرة. ويجيبون عن هذا، بما قاله ابن مفلح الصغير: "إنما شرعت الكفارة زجراً عن معاودته، ولهذا أغنى وجوبها عن التعزير" (¬2). قلت: لو وجبت الكفارة لكانت نوعاً من التعزير، لأن التعزير قد يقع على البدن، وقد يقع على المال. والراجح كما أسلفنا أن الكفارة ليست واجبة، وأن جماع الحائض لا يدخل في حد الكبيرة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 200). (¬2) المبدع (1/ 266).

الفرع الرابع: إذا قيل بوجوب الكفارة على من أتى امرأته وهي حائض فهل تجب على الجاهل والناسي

الفرع الرابع: إذا قيل بوجوب الكفارة على من أتى امرأته وهي حائض فهل تجب على الجاهل والناسي قال ابن قدامة: "على وجهين: أحدهما: تجب لعموم الخبر؛ ولأنها كفارة تجب بالوطء أشبهت كفارة - الوطء في الصوم والإحرام - قلت: وهذا هو المشهور عند الحنابلة ثم قال: والثاني: لا تجب؛ لقوله عليه السلام: "عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان" ولأنها تجب لمحو المأثم، فلا تجب مع النسيان ككفارة اليمين، فعلى هذا لو وطئ طاهراً فحاضت في أثناء وطئه لا كفارة عليه، وعلى الرواية الأولى عليه الكفارة .. " اهـ (¬1). قلت: الصحيح أن الوطء في الصوم والإحرام كغيره لا يجب على الناسي والجاهل شيء، فالصحيح لو قلنا بوجوب الكفارة أن الجاهل والناسي لا شيء عليهما بدلالة الكتاب قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬2). (411) وأخرج مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، وإسحاق بن إبراهيم، واللفظ لأبي بكر، عن وكيع، عن سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث ¬

_ (¬1) المغني (1/ 418). (¬2) الأحزاب، آية: 5

عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (¬1) قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل اله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: قد فعلت. {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلت. {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} قال: قد فعلت (¬2). (412) وأخرج البخاري، قال: حدثنا عبدان، أخبرنا يزيد بن زريع، حدثنا هشام، حدثنا ابن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه. وأخرجه مسلم (¬3). والاستدلال بهذه الأحاديث أولى من الاستدلال بحديث: "عفي لأمتي الخطا والنسيان". للاختلاف في صحته. فالناسي والجاهل إذا كان مثله يجهل لا شيء عليهما، لو قيل بوجوب الكفارة. والمقصود بالجاهل من يجهل التحريم، أما إذا كان يعلم بالتحريم، ويجهل الكفارة، فإن ذلك لا يسقط الكفارة عنه. لأنه فعل فعله وهو يعلم أنه محرم. ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 284. (¬2) صحيح مسلم (126). (¬3) صحيح البخاري (1933)، ومسلم (1155).

الفرع الخامس: إذا قلنا بوجوب نصف الدينار فهل تخرج القيمة

الفرع الخامس: إذا قلنا بوجوب نصف الدينار فهل تخرج القيمة قال ابن قدامة: "يجزئ نصف دينار من أي ذهب إذا كان صافياً من الغش، ويستوي تبره ومضروبه لوقوع الإسم عليه. وهل يجوز إخراج قيمته؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن المقصود يحصل بإخراج هذا القدر من المال، على أي صفة كان من المال، فجاز بأي مال كان، كالخراج والجزية. والثاني: لا يجوز؛ لأنه كفارة، فاختص ببعض أنواع المال، كسائر الكفارات، فعلى هذا الوجه، هل يجوز إخراج الدراهم مكان الدينار؟ فيه وجهان: بناء على إخراجها عنه في الزكاة، والصحيح جوازه، لما ذكرنا؛ ولأنه حق يجزئ فيه أحد الثمنين، فأجزأ فيه الآخر كسائر الحقوق" اهـ (¬1). واعتبر ابن تيمية في الدينار أن يكون مضروباً (¬2). قال أبن مفلح في الفروع: "وهو أظهر" (¬3). وهذا التفريع هو على القول المرجوح الموجب للكفارة. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 419). (¬2) الاختيارات (ص 34). (¬3) الفروع (1/ 262).

الفرع السادس: هل تلزم المرأة كفارة؟

الفرع السادس: هل تلزم المرأة كفارة؟ قال ابن قدامة: "المنصوص أن عليها الكفارة، قال أحمد في امرأة غرت زوجها: إن عليه الكفارة وعليها، وذلك لأنه وطء يوجب الكفارة فأوجبها على المرأة المطاوعة ككفارة الوطء في الإحرام. وقال القاضي في وجه وجوبها على المرأة وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأن الشرع لم يرد بإيجابها عليها، وإنما يتلقى الوجوب من الشرع، وإن كانت مكرهة أو غير عالمة فلا كفارة عليها، لقوله عليه السلام: "عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬1). قلت: الأولى في الاستدلال بأن المكره لا شيء عليه بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬2) فإذا كان يعذر بالإكراه حتى بالكفر فما دونه من باب أولى. ولو قلنا بوجوب الكفارة، فالرجل مثل المرأة سواء إن طاوعته وكانت عالمة بالتحريم وجبت عليها الكفارة وإن كانت ناسية أو جاهلة فلا شيء عليها. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 418). (¬2) النحل، آية: 106.

الفصل الرابع: في حكم طلاق الحائض وهل يقع

الفصل الرابع: في حكم طلاق الحائض وهل يقع أجمع العلماء على أن طلاق الحائض محرم بدعي مخالف للسنة. وإذا طلقها فهل يقع أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك. فقيل: يقع مع التحريم. وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2) , والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يقع، وهو مذهب الظاهرية (¬5)، واختاره ابن تيمية (¬6) , وابن القيم (¬7)، والشوكاني (¬8). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 93)، المبسوط للسرخسي (6/ 57, 16, 7)، شرح فتح القدير (3/ 473)، تبيين الحقائق (2/ 193)، العناية (3/ 480). (¬2) مختصر خليل (ص: 150)، التلقين (1/ 313)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 267)، قال ابن جزي في القوانين الفقهية (ص: 150): "والطلاق في الحيض حرام"، وقال أيضاً: "ومن طلق زوجته وهي حائض، أجبر على مراجعتها إن كان الطلاق رجعياً، حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر منها، فإذا دخلت في هذا الطهر الثاني، فإن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها. (¬3) مغني المحتاج (3/ 307)، المهذب (2/ 101). (¬4) الكافي (3/ 16)، المحرر (2/ 51). (¬5) المحلى، (مسألة: 1949). (¬6) مجموع الفتاوى (33/ 66). (¬7) زاد المعاد (4/ 43). (¬8) الروضة الندية (2/ 45)، نيل الأوطار (6/ 263).

أدلة الجمهور على وقوع الطلاق.

أدلة الجمهور على وقوع الطلاق. الدليل الأول: من القرآن: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1). وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬2). وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬3). وجه الاستدلال: أن هذه الآية مطلقة، تدل على وقوع الطلاق مطلقاً في حال الحيض أو الطهر أو غيرهما، ولم يخص حالاً دون حال، فوجب أن تحمل الآيات على العموم، ولا يجوز تخصيصها إلا بكتاب أو سنة أو إجماع، ولا يوجد ما يخصصها (¬4). وأجيب: بأن الطلاق إذا أطلق لا يراد به إلا الطلاق الشرعي. قال ابن القيم في زاد المعاد: "دعواكم دخول الطلاق المحرم تحت نصوص ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 229. (¬2) البقرة، آية: 230. (¬3) البقرة، آية: 228. (¬4) المنتقى للباجي (4/ 98).

الطلاق، وشمولها للنوعين إلى آخر كلامكم فنسألكم ما تقولون فيمن ادعى دخول أنواع البيع المحرم والنكاح المحرم تحت نصوص البيع والنكاح، وقال: شمول الاسم الصحيح من ذلك والفاسد سواء، بل وكذلك سائر العقود المحرمة إذا ادعى دخولها تحت ألفاظ العقود الشرعية، وكذلك العبادات المحرمة المنهي عنها إذا ادعى دخولها تحت الألفاظ الشرعية، وحكم لها بالصحة لشمول الاسم لها، هل تكون دعواه صحيحه أو باطلة؟. فإن قلتم: صحيحة، ولا سبيل لكم إلى ذلك كان قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين. وإن قلتم: دعواه باطلة، تركتم قولكم، ورجعتم إلى ما قلناه. وإن قلتم تقبل في موضع وترد في موضع. قيل لكم: فرقوا لنا تفريقاً صحيحاً، مطرداً، ومنعكساً، معكم به برهان من الله بَيْنَ ما يدخل من العقود المحرمة تحت ألفاظ النصوص، فيثبت له حكم الصحة، وبين ما لا يدخل تحتها فيثبت له حكم البطلان. وإن عجزتم عن ذلك فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التي يحسن كل أحد مقالتها ومقابلتها بمثلها، أو الاعتماد على من يحتج لقوله لا بقوله، وإذا كشف الغطاء عما قررتموه في هذه الطريق، وجد غير محل النزاع جعلتموه مقدمة في الدليل وذلك عين المصادرة على المطلوب، فهل وقع النزاع إلا في دخول الطلاق المحرم المنهي عليه تحت قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} (¬1). ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 241.

الدليل الثاني

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). وأمثال ذلك. وهل سلم لكم منازعكم ذلك حتى تجعلوه مقدمة لدليلكم" اهـ (¬2). الدليل الثاني: (413) ما رواه البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء. وأخرجه مسلم (¬3). وجه الاستدلال: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها" هذا اللفظ لا نزاع في ثبوته، وثبوت المراجعة دليل على أن الطلاق واقع وأنه معتد به، والمراجعة بدون وقوع الطلاق محال، فبقي أن الطلاق واقع. وهذا من أقوى الأدلة لهذا القول. وأجيب: عن قوله: "فليراجعها" بعدة أقوال: ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 228. (¬2) زاد المعاد (4/ 49). (¬3) صحيح البخاري (5251)، ومسلم (1471).

منها: أن المقصود: فليراجعها: أي فليردها إلى بيته، وكان من عادة المطلقة أن تخرج من بيت الزوج، فأمر بإرجاعها. وقيل: المقصود: فليراجعها، أي فليراجع بدنها، قال ابن تيمية: "جرت العادة من الرجل إذا طلق امرأته اعتزلها ببدنه، واعتزلته ببدنها، فقال لعمر: مره فليراجعها، ولم يقل: فليرتجعها، والمراجعة مفاعلة من الجانبين: أي ترجع إليه ببدنها فيجتمعان كما كانا؛ لأن الطلاق لم يلزمه" (¬1). وقال لي بعض الإخوة في المذاكرة: أن ابن عمر حين توهم وقوع الطلاق خاطبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حسب ظنه وفهمه الخاطئ، فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمراجعة مع أن الطلاق لم يقع. قال ابن القيم: "المراجعة وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاث معان: أحدها: ابتداء النكاح، لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬2) ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق ها هنا الزوج الثاني وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ. وثالثها: الرد الحسي الذي كان عليها أولاً كقوله لأبي النعمان بن بشير، لما نحل ابنه غلاماً خصه به دون ولده، قال له: رده. فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائرة التي سماها الرسول - صلى الله عليه وسلم - جوراً، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها خلاف العدل ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 33). (¬2) البقرة، آية: 230.

ومن هذا قوله لمن فرق بين جارية وولدها في البيع فنهاه عن ذلك ورد البيع، وليس هذا الرد مستلزماً لصحة البيع، فإنه يبيع باطل بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعها كما كانا وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كان قبل الطلاق، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض البتة" اهـ (¬1). ولم يذكر المعنى الثاني للمراجعة، لأنها هي الأصل، وهي إرجاع المرأة المطلقة الرجعية إلى عقد الزوجية. وقد بين ابن القيم في تهذيب السنن المعنى الثالث للإرجاع .. فقال: "وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مره فليراجعها، فهو حجة على عدم الوقوع، لأنه لما طلقها، والرجل من عادته إذا طلق امرأته أن يخرجها عنه أمره بأن يراجعها، ويمسكها، فإن هذا الطلاق الذي أوقعه ليس بمعتبر شرعاً، ولا تخرج المرأة عن الزوجية بسببه، فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - لبشير بن سعد في قصة نحله ابنه، وذكر نحواً مما نقلناه عنه من الزاد. ثم قال: فكذلك أمره برد المرأة ورجعتها لا يدل على أنه لا يكون إلا بعد نفوذ الطلاق، بل لما ظن ابن عمر جواز هذا الطلاق فأقدم عليه قاصداً لوقوعه، فرد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأته، وأمره أن يردها، ورد الشيء إلى ملك من أخرجه لا يستلزم خروجه من ملكه شرعاً كما ترد العين المغصوبة إلى مالكها ويقال للغاصب ردها إليه ولا يدل ذلك على زوال ملك صاحبها عنها .. " الخ كلامه (¬2). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (4/ 64). (¬2) تهذيب السنن (3/ 100).

والحقيقة هذا الجواب من ابن القيم ليس بالذي يشفي الصدر، فلا يزال في النفس شيء، فقوله: إن إطلاق المراجعة على ابتداء النكاح فهي ليست في مسألتنا، والتعبير "أن يتراجعا" يختلف عن قوله: "فليراجعها" فإن الأول مفاعلة من الطرفين، لأن ابتداء النكاح لا بد فيه من الرضا منهما، والمراجعة حق للزوج ولو لم ترضى الزوجة، وأما قوله: إن الرجل من عادته إذا طلق زوجته أن يخرجها عنه فأمره أن يراجعها ويمسكها فهذا لا يظن من ابن عمر، وقد كان الطلاق منه بعد سورة الطلاق لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)، وقد قال سبحانه في سورة الطلاق: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (¬1). وحرص ابن عمر على السنة معلوم، وليس في الحديث ذكر أن ابن عمر قد أخرجها من بيته حتى يقال المراد "فليراجعها" الرد الحسي، وجميع طرق الحديث لم تتعرض لهذا، فاعتقاد أن ابن عمر قد أخرجها من بيته فأمره أن يرده إليه بيته دعوى لا دليل عليها، ولو أخرجها لأنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إخراجها من بيته، ولم يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمر، هل أخرجها من بيته؟ وسؤال عمر لم يتعرض لهذا، فمن أين أخذ ذلك ابن القيم رحمه الله من الحديث؟ وأما قوله في هبة الولد "رده" فهذا على حقيقته، لأنه قد أعطاه إياه فخرج من يده، فاحتاج الأمر إلى رده، وهو استعمال للفظ في حقيقته، فلا دليل فيه على مسألتنا. ولو أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "فليراجعها" صورة اللفظ ولم يرد الحقيقة ¬

_ (¬1) الطلاق، الآية الأولى.

الدليل الثالث

الشرعية بمعنى أن يبقيها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق أو أمسك فلماذا يأمر بإمساكها بعد مراجعتها فقد قال له - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها ثم ليمسكها" فالمراجعة رد للمرأة لعصمته، وإمساكها إبقاء لها على عقد الزوجية، والله أعلم. أما قول ابن تيمية: بأن المراد فليراجعها: أي لا يعتزل بدنها؛ لأن العادة جرت أن المطلق يعتزل بدن المطلقة، فهو وإن كان من أحسن ما قيل إلا أن يشكل عليه أنه قال في الحديث: مره فليراجعها ثم ليمسكها. فالإمساك بعد المراجعة لا يقصد إمساك بدنها، وإنما الإبقاء على عقد الزوجية، وهذا الأمر بالإمساك جاء بعد الأمر بالمراجعة، فلو كانت زوجته لأمكنه إمساكها من غير مراجعة. والله أعلم. وأما القول: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لابن عمر بناء على ظنه بأن الزوجة قد طلقت فإنه بعيد جداً؛ لأن الرسول لا يمكن أن يعطي لفظاً شرعياً بناءً على فهمٍ باطل. الدليل الثالث: (414) ما رواه البخاري معلقاً وفي بعض النسخ مسنداً: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: حسبت علي بتطليقة (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5253). وفي النسخة التي شرحها الحافظ ابن حجر: "حدثنا أبو معمر" قال الحافظ في الفتح كذا في رواية أبي ذر، وهو ظاهر كلام أبي نعيم في المستخرج،

وجه الاستدلال: قول الصحابي - رضي الله عنه -: "حسبت" على البناء للمجهول. وفي عهد النبوة لا بد أن يكون الحاسب لذلك هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقول الصحابي: "أمرت"، أو "نهيت عن كذا"، في عصر الوحي فإن الآمر والناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه مرفوع حكماً، وعلى أقل أحواله أن يكون ذلك موقوفاً على ابن عمر. وهو صاحب القصة، وهو راوي الحديث فإذا قال: إنها حسبت عليَّ تطليقة كان ذلك مقدماً على قول غيره، كما أنه حين اختلف ابن عباس وميمونة، هل تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرم أو وهو حلال قدم قول ميمونة لكونها صاحبة القصة. فكذلك هنا. بل قال الحافظ في الفتح: "لا ينبغي أن يجيئ فيه الخلاف الذي في قول الصحابي: "أمرنا بكذا" فإن ذلك محله حيث يكون اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ليس صريحاً، وليس كذلك في قصة ابن عمر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الآمر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيد جداً مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، وكيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئاً برأيه وهو ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيظ من صنيعه، ¬

_ وللباقين: "قال أبو معمر" وبه جزم الإسماعيلي، ثم قال الحافظ: "وقد أخرجه أبو نعيم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه مثل ما أخرجه البخاري مختصراً، وزاد: حين طلق امرأته، سأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وسيأتي استكمال تخريجه عند الكلام على رواية أبي الزبير عن ابن عمر إن شاء الله تعالى.

كيف لم يشاوره فيما يفعل" (¬1). وحاول ابن القيم أن يرد الحديث باحتمال فيه غرابة، فقال رحمه الله في تهذيب السنن: "لم يذكر فاعل الحساب، فلعل أباه حسبها بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث، وحسبه عليهم اجتهاداً منه ومصلحة رآها للأمة، لئلا يتتابعوا في الطلاق المحرم، فإذا علموا أنه يلزمهم وينفذ عليهم أمسكوا عنه" اهـ (¬2). وتعقبه الحافظ ابن حجر في الفتح، فقال: "غفل رحمه الله عما ثبت في صحيح مسلم من رواية أنس بن سيرين، على وفاق ما روى سعيد بن جبير، وفي سياقه ما يشعر بأنه إنما راجعها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق، فقال: طلقتها وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها لطهرها. قال: فراجعتها، ثم طلقتها لطهرها. قلت: فاعتددت بتلك التطليقة. فقال: ما لي لا أعتد بها، وإن كنت عجزت واستحمقت. وعند مسلم أيضاً من طريق ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن سالم في حديث الباب: وكان عبد الله بن عمر طلقها تطليقة. فحسبت من طلاقها، فراجعها كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " الخ ما ذكره في الفتح رحمه الله (¬3). ¬

_ (¬1) فتح الباري (9/ 442) ح 5253 (¬2) تهذيب السنن (3/ 102). (¬3) الفتح (9/ 444) ح 5253.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: أن مذهب ابن عمر الاعتداد بالطلاق في الحيض، وهو صاحب القصة، وأعلم الناس بها، ومن أشدهم اتباعاً للسنن، وتحرجاً من مخالفتها. وإليك الأدلة على كون ابن عمر يرى أنها حسبت عليه بتطليقه. وأنه يرى وقوع طلاق الحائض. (415) منها ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت يونس بن جبير، قال: سمعت ابن عمر يقول: طلقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ليراجعها، فإذا طهرت، فإن شاء فليطلقها. قال: فقلت لابن عمر، احتسبْتَ بها؟ قال: ما يمنعه، أرأيت إن عجز واستحمق. وهو في البخاري وليس فيه قوله: "ما يمنعه" وإنما فيه: "أرأيت إن عجز واستحمق" (¬1). ورواه أحمد، من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. وفيه: "فقلت لابن عمر: أبحسب طلاقه ذلك طلاقاً؟ قال: نعم. أرأيت إن عجز واستحمق" (¬2). [وسنده صحيح]. (416) وفي رواية لمسلم، من طريق عبد الملك، عن أنس بن سيرين قال: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (10 - 1471) البخاري (5258)، ومسلم (5333). (¬2) المسند (2/ 43).

سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق؟ فقال: طلقتها وهي حائض، فذكر ذلك لعمر، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها لطهرها. قال: فراجعتها ثم طلقتها لطهرها، قلت: فاعتددت بتلك التطليقة التي طلقت وهي حائض. قال: ما لي لا أعتد بها، وإن كنت عجزت واستحمقت (¬1). ورواه البخاري، ومسلم، من طريق شعبة، عن أنس بن سيرين به. وفيه: "قلت تحتسب قال: فمه؟. وفي لفظ مسلم: "أفاحتسبت بتلك التطليقه؟ قال: فمه" (¬2). قال البغوي: "أرأيت إن عجز واستحمق" معناه: أرأيت إن عجز واستحمق أيسقط عنه الطلاق حمقه، أو يبطله عجزه؟ فهذا من باب المحذوف المدلول عليه بالفحوى. اهـ (¬3). قلت: قوله (عجز) أي عن الصبر عن الطلاق حتى تطهر فيوقع الطلاق في زمن الطهر، ودفعه عجزه عن الصبر إلى وقوع الطلاق في زمن الحيض. وقوله: (واستحمق) أي فعل فعل الأحمق بمخالفة المشروع فعجزه واستحماقه لا يمنع وقوع طلاقه. وقال ابن حجر: "قوله: فمه؟ أصله: "فما" وهو استفهام فيه اكتفاء: أي فما يكون إن لم تحتسب، ويحتمل أن تكون الهاء أصلية، وهي كلمة تقال للزجر: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (11 - 1471). (¬2) صحيح البخاري (5252) ومسلم (12 - 1471). (¬3) شرح السنة (9/ 204).

أي كف عن هذا الكلام فإنه لا بد من وقوع الطلاق بذلك. قال ابن عبد البر: قول ابن عمر (فمه) معناه فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها؟ إنكاراً لقول السائل: أيعتد بها، فكأنه قال: وهل من ذلك بد (¬1). وقوله: (أرأيت إن عجز واستحمق) أي إن عجز عن فرض فلم يقمه، أو استحمق فلم يأت به أيكون ذلك عذراً له؟. وقال الخطابي: في الكلام حذف: أي أرأيت إن عجز واستحمق أيسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه؟ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه". اهـ. وقد روى مسلم، من طريق الزبيدي، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، وفيه: قال ابن عمر: فراجعتها. وحسبت لها التطليقة التي طلقتها" (¬2). وقد كان نافع وسالم وهما أحفظ من روى عن ابن عمر وأثبت من روى عنه، كانا إذا سئلا عن التطليقة التي فعلها ابن عمر هل اعتد بها قالا: نعم. فقد روى مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: طلقت امرأتي على عهد رسول الله وهي حائض فذكر الحديث وفي آخره: قال عبيد الله قلت لنافع: ما صنعت تلك التطليقة؟ قال: واحدة اعتد بها (¬3). ¬

_ (¬1) الفتح (5253). (¬2) صحيح مسلم (1471). (¬3) صحيح مسلم (2 - 1471).

ورواه مسلم من طريق محمد (وهو ابن أخي الزهري)، عن عمه (ابن شهاب)، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض. فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وذكر الحديث وفي آخره: وكان عبد الله طلقها تطليقه واحدة فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومن الأدلة على أن ابن عمر يرى وقوع طلاق الحائض، أنه كان يفتي أنه من طلق امرأته ثلاثاً في الحيض لم تحل له، ولو جاز أن تكون الطلقة الواحدة في الحيض لا يعتد بها لكانت الثلاث أيضاً لا يعتد بها قاله ابن عبد البر في التمهيد، وقال: وهذا مما لا إشكال فيه عند كل ذي فهم. اهـ (¬2). قلت: والدليل على ما قاله ابن عبد البر (417) ما رواه مسلم، قال: حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يراجعها، ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، فكان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض يقول: أما أنت طلقتها واحدة أو اثنتين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها، ثم يمهلها حتى تحيض حيضة ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (4 - 1471). (¬2) التمهيد كما في فتح البر (10/ 472).

الدليل الخامس

أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها، وأما أنت طلقتها ثلاثاً فقد عصيت ربك في أمرك به من طلاق امرأتك وبانت منك. وهو في البخاري من طريق الليث عن نافع (¬1). الدليل الخامس: (418) ما رواه الدارقطني، قال: نا عثمان بن أحمد الدقاق، نا الحسن بن سلام، نا محمد بن سابق، نا شيبان عن فراس، عن الشعبي، قال: طلق ابن عمر امرأته واحدة، وهي حائض، فانطلق عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأمره أن يراجعها ثم يستقبل الطلاق في عدتها، وتحتسب بهذه التطليقة والتي طلق أول مرة (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (3 - 1471)، البخاري (5332). (¬2) سنن الدارقطني (4/ 11). (¬3) شيخ الدارقطني عثمان بن أحمد الدقاق ثقة مأمون، انظر: تاريخ بغداد (11/ 302 - 303)، وشيخه الحسن بن سلام قال الدارقطني عنه كما في تاريخ بغداد (7/ 326): ثقة صدوق، وانظر سير أعلام النبلاء (13/ 192). ومحمد بن سابق قال الحافظ "ليس له في البخاري سوى حديث واحد في الوصايا وقد تابعه عليه عنده عبيد الله بن موسى، عن شيبان، وروى له الباقون. هدي السارى (ص 613). قلت: له حديث آخر أيضاً في أول كتاب الجهاد وقد توبع عليه أيضاً. وقول الحافظ: روى له الباقون. قلت: إلا ابن ماجه فلم يرو عنه كما في تهذيب المزي، والكاشف (4862). والله أعلم. وقال فيه النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (25/ 233)، وتهذيب التهذيب (9/ 154).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال العجلي: كوفي ثقة. ثقات العجلي (2/ 239). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (9/ 61). وقال يعقوب بن شيبة: كان شيخاً صدوقاً ثقة، وليس ممن يوصف بالضبط للحديث. تهذيب التهذيب (9/ 154)، تاريخ بغداد (5/ 338). وقال ابن العباس بن عقدة: سمعت محمد بن صالح يعني كيلجه، وذكر محمد بن سابق فقال: كان خياراً لا بأس به. تهذيب الكمال (25/ 233)، وتهذيب التهذيب (9/ 154)، تاريخ بغداد (5/ 338). وقواه أحمد: هدي الساري (ص 613). وسئل أحمد بن حنبل عن محمد بن سابق، قال: إذا أردت أبا نعيم فعليك بابن سابق. الجرح والتعديل (7/ 283). وقال ابن معين: ضعيف، كما في رواية ابن خيثمة. الجرح والتعديل (7/ 283). ورواية أحمد بن زهير عنه. تاريخ بغداد (5/ 338). وفي التقريب: صدوق، قال الذهبي: هو ثقة عندي. الميزان (3/ 555). وفراس: قال الحافظ ابن حجر: صاحب الشعبي مشهور، وثقه أحمد، ويحيى ابن معين، والنسائي، والعجلي وابن عمار وآخرون. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة في حديثه لين. وقال علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد القطان: ما أنكرت من حديثه إلا حديث الاستبراء. قلت: كفى بها شهادة من مثل ابن القطان، وقد احتج به الجماعة، وحديثه في الاستبراء لم يخرجه الشيخان اهـ كلام الحافظ. هدي الساري (ص 608). فالحديث إسناده حسن، ولا يقال: إن الشعبي لم يذكر أنه سمعه من ابن عمر، بل ذكر قصة وقعت في وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يدركها، ولم يذكر الواسطة، فهو مرسل بهذه الصورة. بل يقال: إن التابعي إذا كان قد أدرك الصحابي، وروى قصة حدثت لهذا الصحابي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي على الاتصال، كما لو حدث نافع بقصة حدثت لابن عمر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقال: إن هذا مرسل. وقد أخرجه البيهقي (7/ 326) من طريق أحمد بن زهير بن حرب، عن محمد بن سابق

الدليل السادس

الدليل السادس: (419) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني، ثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رجلاً أتى عمر، فقال: إني طلقت امرأتي البتة، وهي حائضة، فقال عمر: عصيت ربك، وفارقت امرأتك، فقال الرجل: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمر حين فارق امرأته أن يراجعها، فقال عمر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجع بطلاق بقي له، وإنه لم يبق لك ما ترتجع به امرأتك. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث بهذا اللفظ عن عبيد الله بن عمر إلا سعيد بن عبد الرحمن تفرد به الترجماني" اهـ (¬1). [وإسناده حسن] (¬2). ¬

_ به. (¬1) الأوسط (8029). (¬2) موسى بن هارون الحمال. قال عبد الغني بن سعيد الحافظ: أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة: علي بن المديني في وقته، وموسى بن هارون الحمال في وقته، والدارقطني في وقته. تاريخ بغداد (13/ 50)، تذكرة الحفاظ (2/ 669). وقال الخطيب: كان ثقة عالماً حافظاً. انظر: تاريخ بغداد (13/ 50). وقال الذهبي: الحافظ، الامام الحجة، محدث العراق. تذكرة الحفاظ (2/ 669). وذكره الحافظ تمييزاً، وقال: ثقة حافظ كبير. كما في التقريب. - إسماعيل بن إبراهيم الترجماني. قال يحيى بن معين: ليس به بأس، كما في رواية أحمد بن حنبل عنه. وقال أبو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ حاتم: شيخ. الجرح والتعديل (2/ 157). وقال وأبو داود والنسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (3/ 13) وتهذيب التهذيب (1/ 237). وقال ابن سعد: كان صاحب سنة، وفضل وخير. الطبقات الكبرى (7/ 385). ووثقه ابن قانع. تهذيب التهذيب (1/ 237). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (8/ 101). وقال الذهبي: صدوق. الكاشف. (346). وفي التقريب: لا بأس به. - سعيد بن عبد الرحمن الجمحي. قال ابن معين: ثقة. الجرح والتعديل (4/ 41)، الكامل (3/ 399). قال فيه أحمد: ليس فيه بأس. كان قاضي عسكر المهدي. الجرح والتعديل (4/ 41). وفي رواية أبي داود عنه: ليس به بأس، حديثه مقارب. تهذيب الكمال (10/ 528). وقال النسائي: لا بأس به. تهذيب الكمال (10/ 528)، وتهذيب التهذيب (4/ 50). وقال أبو حاتم الرزاي: صالح. الجرح والتعديل (4/ 41). وقال العجلي: ثقة. ثقات العجلي (4/ 402). ووثقه ابن نمير، وموسى بن هارون، والعجلي، والحاكم أبو عبد الله. تهذيب التهذيب (4/ 50). وقال يعقوب بن سفيان: لين الحديث. المرجع السابق. وقال ابن حبان: يروي عن عبيد الله بن عمر، وغيره من الثقات أشياء موضوعة، يتخايل إلى من سمعها أنه كان المعتمد لها. المجروحين (1/ 323). وعلق الذهبي متعقباً: "وأما ابن حبان، فإنه خساف قصاب". وفي التقريب: صدوق، له أوهام وأفرط ابن حبان في تضعيفه. اهـ. والحديث رواه الدارقطني (4/ 807)، والبيهقي (7/ 334) من طريق إسماعيل بن إبراهيم به. وقال الهيثمي (4/ 335) رجاله رجال الصحيح، خلا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني،

قال الدارقطني: قال لنا أبو القاسم: روى هذا الحديث غير واحد ولم يذكر فيه كلام عمر، ولا أعلمه روى هذا الكلام غير سعيد ابن عبد الرحمن الجمحي (¬1). قلت: الرواة الذين رووا الحديث عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر في قصة طلاقه امرأته وهي حائض، والحديث هذا ليس فيه ذكر قصة طلاق ابن عمر، وإنما هو في قصة رجل طلق امرأته وأبانها وهي حائض، فاستفتى عمر وأفتى له بأنه قد أبان امرأته، وحين ذكر له قصة ابن عمر معترضاً بها على فتوى عمر، أخبره عمر بأن ابن عمر قد حسبت طلقته، ولكنه قد بقي له من طلاقها فالحديث في قصتين مختلفتين عندي، فلا يقال الرواة الذين رووا هذا الحديث عن عبيد الله لم يذكروا فيه كلام عمر، نعم لو كانت القصة واحدة في الحديثين، ثم زاد فيها سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، لكانت زيادته قد يحكم لها بالشذوذ إذا خالفت من هو أوثق منه، والله أعلم، إلا أن يقال: تفرد سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن بقية تلاميذ أصحاب عبيد الله يجعلها منكرة، فإن عبيد الله بن عمر لو كانت هذه القصة من حديثه لرواها أكابر أصحابه، ولمَا غفلوا عن ذكرها، والمتقدمون من أئمة الحديث ربما أعلوا الحديث بمثل هذا إذا كان المتن مما يستنكر، وإما إن كان المتن مستقيماً قبلوه، بخلاف المتأخرين فلا يعتبرون التفرد من الثقة علة في الحديث مطلقاً. والله أعلم. ¬

_ وهو ثقة. (¬1) سنن الدارقطني (4/ 8).

الدليل السابع

وفي القصة دليل من وجه آخر: وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من الخلفاء الراشدين يرى وقوع طلاق الحائض، وهو الذي راجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلاق ابن عمر، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كلفه أن يبلغ ابنه بمراجعة زوجته، فيبعد أن يفهم عمر وابنه فهماً غير مراد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الدليل السابع: (420) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فجعلها واحدة (¬1). [جميع رجاله ثقات، إلا أني أخشى أن يكون الحديث لما اختصر روي بالمعنى، فقد رواه جماعة عن نافع، ولم يذكروا ما ذكره ابن أبي ذئب إلا أنه قد توبع، فقد تابعه ابن جريج عن نافع] (¬2). ¬

_ (¬1) مسند الطيالسي (68). (¬2) والحديث رواه البيهقي (7/ 326) من طريق أبي داود الطيالسي، ورواه الدارقطني (4/ 9) من طريق يزيد بن هارون، أنا محمد بن إسحاق وابن أبي ذئب عن نافع به. وفي الفتح (5253) قال الحافظ بعد ذكره لهذه الرواية، وقد أخرج ابن وهب في مسنده عن ابن أبي ذئب، أن نافعاً أخبره أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي واحدة" قال ابن أبي ذئب: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع سالماً يحدث عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فهؤلاء الثلاثة رووه عن ابن أبي ذئب: أبو داود الطيالسي، ويزيد بن هارون وابن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وهب. وقد رواه جماعة عن نافع به، بغير لفظ ابن أبي ذئب إلا أن يكون حديث ابن أبي ذئب حديثاً آخر ولا إخا له فقد رواه مالك، وعبيد الله بن عمر، والليث، وأيوب، وغيرهم، عن نافع عن ابن عمر مطولاً، ولم يذكروا فيه ما ذكره ابن أبي ذئب عن نافع (فجعله واحدة) إلا أن متابعة ابن جريج عن نافع به ... ورواية الشعبي عن ابن عمر مرفوعاً، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عمر تبعد احتمال شذوذ ابن أبي ذئب، وإليك ألفاظهم. الأول: مالك عن نافع: أخرجه مالك في الموطأ (1/ 576) عن نافع أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق (10952) والبخاري (5251) ومسلم (1471) وأبو داود (2179) والنسائي (3390) والدارمي (2262) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 53) والبيهقي في السنن (7/ 323) والبغوي في شرح السنة (2351). الطريق الثاني: عبيد الله بن عمر عن نافع: أخرجه أحمد (2/ 54): حدثنا يحيى، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستفتاه فقال: مر عبد الله فليراجعها حتى تطهر من حيضتها هذه، ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت فليفارقها قبل أن يجامعها أو ليمسكها، فإنها العدة التي أمر أن تطلق لها النساء. وقد أخرجه النسائي (3389) وابن حبان (4263) من طريق يحيى بن سعيد به. وقد أخرجه الطيالسي (1853) وابن أبي شيبة (17724) ومسلم (2 - 1471) والنسائي (3396) وابن ماجه (2019) وابن الجارود والمنتقى (734) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 54) وابن حبان (4263) والدارقطني (4/ 7، 8، 11) من طرق عن عبيد الله ابن عمر به. الطريق الثالث: أيوب عن نافع:

(421) فقد أخرجه الدارقطني، قال: أخبرنا أبو بكر، يعني النيسابوري نا عياش بن محمد، نا أبو عاصم، عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هي واحدة (¬1). [رجاله ثقات لولا عنعنة ابن جريج وهو سند صالح لما قبله، وكما أن ¬

_ أخرجه أحمد (2/ 6) حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن نافع، أن ابن عمر طلق امرأته تطليقة وهي حائض، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يراجعها، ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها، قال: وتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء، فكان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض، فيقول: أما أنا فطلقتها واحدة، أو اثنتين، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها، ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها، وأما أنت طلقتها ثلاثاً فقد عصيت الله ما أمرك من طلاق امرأتك وبانت منك. ومن طريق أيوب أخرجه عبد الرزاق (10954) ومسلم (8/ 1471) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 53). الطريق الرابع: الليث عن نافع. أخرجه أحمد (2/ 124) حدثنا يونس، حدثنا ليث، عن نافع أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض تطليقه واحدة، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: يا رسول الله إن عبد الله طلق امرأته تطليقه واحدة وهي حائض، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها، ويمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء، وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: أما أنت طلقت امرأتك مرة أو مرتين، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني بها، فإن كنت طلقتها ثلاثاً فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجاً غيرك، وعصيت الله تعالى فيما أمرك من طلاق امرأتك. وأخرجه البخاري (5332)، ومسلم (1/ 1471)، وأبو داود (2180)، والبيهقي (7/ 324) من طرق عن الليث به. (¬1) سنن الدارقطني (4/ 10).

الدليل الثامن

متابعة الشعبي عن ابن عمر مرفوعاً عند الدارقطني بسند حسن، ورواية سعيد ابن جبير عن ابن عمر (حسبت عليه) بتطليقه تبعد احتمال شذوذ رواية ابن أبي ذئب، والله أعلم (¬1). الدليل الثامن: (422) ما رواه البيهقي: من طريق عبد الملك بن محمد الرقاشي، ثنا بشر ابن عمر، نا شعبة، عن أنس بن سيرين، عن ابن عمر، وذكر الحديث. ¬

_ (¬1) وعكس العلامة أحمد شاكر فاستدل بالحديث على عدم وقوع الطلاق، فقال في كتابه (نظام الطلاق في الإسلام) (ص: 30): "ومن الغريب أن هذه الروايات ذكرت في معرض الاستدلال على وقوع الطلقة التي كانت في الحيض! وفهموا من قوله: (وهي واحدة) أن الضمير يعود إلى تلك الطلقة!! حتى إن ابن حزم وابن القيم لم يجدا لهما مخلصاً من هذه الحجة إلا أن يزعما أن الكلمة في السياق محتملة أن لا تكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي كأنها مدرجة من الرواي، أو يتأولاها بتأول غير جيد، مع أن سياق الكلام صريح في أنها من الحديث المرفوع، وخاصة رواية الدارقطني من طريق يزيد بن هارون. والصحيح الواضح أن قوله: هي واحدة إنما يراد به الطلقة التي ستكون في الطهر الثاني في قبل العدة؛ لأنه أقرب مذكور إلى الضمير، بل إنه لم يذكر غيرها في اللفظ النبوي الكريم، وطلقة الحيض أشير إليها فيه فقط، وفهمت من سياق الكلام، فلا يمكن أن يعود الضمير إليها، ويكون معنى قوله: (هي واحدة) إن طلق كما أمر كانت طلقة واحدة، ولا تكون طلقة ثانية، لعدم الاعتداد بالأولى التي كانت لغير العدة، فتكون هذه الرواية مؤيدة لرواية أبي الزبير، ودليل على بطلان الطلاق في الحيض" اهـ. وهذا الذي ذكره أحمد شاكر لا يؤيد عليه؛ لأن الطلقة الثانية لم تقع، وقد أشار الرسول إلى أنها غير لازمة بقوله: إن شاء أمسك وإن شاء طلق، فكون الرسول يعتبرها واحدة لطلقة لم يعلم وقوعها بعد، ويترك طلقة قد وقعت في الحيض بعيد جداً، بل إن اللفظ عند أبي داود الطيالسي لم يتعرض للطلقة الثانية، ولفظه: عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فجعلها واحدة. اهـ فلم يشر في الحديث إلى الطلقة الثانية.

وفيه: "فقال عمر: يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم" (¬1). [إسنادها ضعيف]. فتبين من هذه الأدلة أن الاستدلال على وقوع الطلاق كالآتي: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: "مره فليراجعها" وحمله على الرد الحسي أي إرجاعها إلى بيته لا يقبل. أولاً: أن اللفظ إذا جاء عن الشارع وكان له حقيقة شرعية، فإنها مقدمة على الحقيقة اللغوية والعرفية. ثانياً: لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل أخرجها ابن عمر من بيته حتى يطلب منه إرجاعها إلى البيت. ثالثاً: أن وقوع الطلاق من ابن عمر بعد نزول سورة الطلاق، وبعد النهي الصريح عن إخراج المطلقة من بيت الزوجية {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (¬2). ولا نظن بابن عمر مخالفة السنة، ولو ثبت أن ابن عمر أخرجها من بيتها منعنا هذا الاحتمال لأن ابن عمر غير معصوم، ولكنه لم يثبت، فكيف يحمل اللفظ على أمر لم يتعرض له في الحديث البتة وعلى التنزل أن يقال: إن لفظ: "مره فليراجعها" يحتمل المراجعة الشرعية ويحتمل المراجعة الحسية، فإذا حملنا هذا اللفظ المتشابه، على بقية الألفاظ، وهو كون ابن عمر روى عنه مرفوعاً وموقوفاً، أنها حسبت عليه طلقة، تَعَيْن أن قولها "مره فليراجعها" المراد به ¬

_ (¬1) سنن البيهقي (7/ 326). (¬2) الطلاق، الآية الأولى.

المراجعة الشرعية لا غير، مع أنه من المسلم إنه إذا ورد لفظ له حقيقتان: شرعية ولغوية، قدمت الحقيقة الشرعية؛ لأن لكلام ورد على لسان الشارع، ومثله الصلاة والصيام وغيرهما مما له حقيقتان. 2 - ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: حسبت على بتطليقة، وهو في البخاري في بعض النسخ معلقاً، وفي بعضها مسنداً (¬1)، والمعلق بالنظر إلى من أسنده فهو صحيح. وأما قولهم: لم يصرح بمن حسبها عليه، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد أجبت عليه فيما سبق، وأن قوله: "حسبت علي بتطليقة" أبلغ من قوله: "أمرنا، ونهينا". قال الحافظ: "لا ينبغي أن يجيء فيه الخلاف الذي في قول الصحابي: (أمرنا بكذا) فإن ذلك محله حيث يكون اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ليس صريحاً، وليس كذلك في قصة ابن عمر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الآمر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيداً جداً مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، وكيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئاً برأيه وهو ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيظ من صنيعه، كيف لم يشاوره فيما يفعل" (¬2). 3 - ثبت عن ابن عمر مرفوعاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدها واحدة منها رواية ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5253). (¬2) فتح الباري (9/ 442) ح 5253

الشعبي عن ابن عمر بسند حسن وقد تقدم ذكرها. ومنها رواية أبي داود الطيالسي بسند رجاله رجال الشيخين، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً ... وتابع أبا داود الطيالسي يزيد بن هارون وابن وهب. ومنها رواية ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، عند الدارقطني، ولا يضعفها إلا عنعنة ابن جريج، وقد توبع من ابن أبي ذئب، كما تقدم. 4 - ما ثبت عن ابن عمر موقوفاً عليه من طرق أنه عدها طلقة، وراوي القصة قوله مقدم على قول غيره، وقد أنكر على من سأله هل احتسبت عليه طلقة كيف لا تحتسب. ومنها: رواية يونس بن جبير، عن ابن عمر في الصحيحين. ومنها: رواية أنس بن سيرين في الصحيحين. ومنها: رواية سالم عن أبيه عند مسلم، قال ابن عمر: "فراجعتها وحُسِبَت لها التطليقة التي طلقتها". وكان نافع وسالم يرون أن الطلقة التي وقعت من ابن عمر حسبت عليه، وهما من أجل من روى عن ابن عمر، وقولهما ثابت في صحيح مسلم. 5 - ذكرت أن عمر يرى وقوع طلاق الحائض، وقد كان هو الذي راجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطلاق ابن عمر لزوجته، وعلم انكار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمر فعله، ونقل كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابنه عبد الله، فهل يظن من عمر وابنه أن يفهما خلاف ما يريد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

أدلة القائلين بأن طلاق الحائض لا يقع.

أدلة القائلين بأن طلاق الحائض لا يقع. استدل من قال بأن طلاق الحائض لا يقع بأدلة منها. الدليل الأول: من القرآن الكريم: قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1). وجه الاستدلال من الآية من وجهين: الأول: قال الشوكاني في نيل الأوطار: لم يرد - يعني الطلاق إلا المأذون فيه، فدل على أن ما عداه ليس بطلاق لما في هذا التركيب الصيغة الصالحة للحصر، أعني تعريف المسند إليه باللام الجنسية (¬2). الوجه الثاني: قال ابن القيم في زاد المعاد: أن الله سبحانه وتعالى إنما أمر بالتسريح بإحسان، والتسريح المحرم أمر ثالث غيرهما فلا عبرة به البتة (¬3). وأجيب: بأن الآية ليست في موضع النزاع، وليست الآية مسوقة هنا لبيان الوقت الذي يجوز فيه الطلاق، والوقت الذي لا يجوز ذلك فيه. والمقصود من الإمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان، النهي عن إمساك المرأة بقصد إضرارها. ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 229. (¬2) نيل الأوطار (6/ 268). (¬3) الزاد (4/ 45).

الدليل الثاني

(423) فقد أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره، من طريقين بسند صحيح، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ما شاء، ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تحلين مني، قالت له: كيف؟ قال: أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. قالت: فشكت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى ذكره: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} اهـ. فأمر أن يكون إمساك المرأة مصحوباً بالمعروف وأن يكون تسريحها مصحوباً بالإحسان لا لقصد الإضرار بها (¬1). وروى ابن جرير الطبري مثله عن قتادة. الدليل الثاني: (424) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، جميعاً، عن أبي عامر، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (4783) (4784). (¬2) صحيح مسلم (1718).

وروى البخاري القدر المرفوع منه معلقاً (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن القيم في تهذيب السنن: إن المطلق في الحيض، قد طلق طلاقاً ليس عليه أمر الشارع، فيكون مردوداً فلو صح ولزم لكان مقبولاً منه، وهو خلاف النص. وقوله: (فهو رد) الرد: فَعْل بمعنى المفعول، أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس الرد، وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده، وعدم اعتباره في حكم المقبول، ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه، بل كونه رداً أبلغ من كونه باطلاً، إذ الباطل قد يقال لما لا نفع فيه أو منفعته قليلة جداً، وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه، وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئاً ولم يترتب عليه مقصوده أصلاً (¬2). أما الاستدلال بحديث: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" فالعمل به تقديم للعام على الخاص، والذي قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" هو الذي حكم بإيقاع طلاق الحائض، وعدها طلقة، كما سقناه في أدلة القول الأول ... ثم ليس كل شيء محرم لا يصح. فالتحريم والصحة ليسا متلازمين، فقد يحرم الشيء ويصح، وقد يحرم ولا يصح. فالنهي لا يقتضي الفساد في كل الصور، إلا إذا كان عائداً لذات المنهي عنه، بخلاف ما إذا كان النهي عائداً ¬

_ (¬1) باب (34) البيوع: باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع. (¬2) تهذيب السنن (3/ 99).

لشرطه، أو عائداً لأمر خارج عنه، ومن الأمثلة التي تقرب هذا: تلقي الركبان منهي عنه، فإذا حصل التلقي جعل للبائع الخيار إذا أتى السوق، وثبوت الخيار فرع عن صحة البيع. وهذا الظهار قد حكم الله سبحانه وتعالى بأنه منكر من القول وزور، ومع ذلك إذا قاله الرجل ترتب على ذلك أثره، وهو تحريمه الزوجة إلى أن يُكَفَّر، فكذلك الطلاق البدعي محرم ويترتب عليه أثره إلى أن يراجع ولا فرق بينهما. فإن قيل: إن الظهار ليس له جهتان جهة حل وجهة حرمة، بل كله حرام، فإنه منكر من القول وزور، فلا يمكن أن ينقسم إلى حلال جائز وحرام باطل، فلا يتصور أن يقال منه حلال صحيح وحرام باطل. فالجواب: أن الهزل بالطلاق محرم، ومع ذلك يقع، مع أنه يوجد من الطلاق ما هو صحيح جائز، ومنه ما هو محرم، ووجود هذا التقسيم لم يمنع وقوع طلاق الهازل المحرم، فليس تقسيم الطلاق إلى جائز محرم مانعاً من وقوع المحرم فإذا وقع طلاق الهازل مع تحريمه فطلاق الجاد أولى أن يقع مع تحريمه. وقد أجاب ابن حجر على استدلال ابن القيم المتقدم بقوله: "القياس في معارضة النص فاسد الاعتبار وقد عورض بقياس أحسن من قياسه، فقال ابن عبد البر: "ليس الطلاق من أعمال البر التي يتقرب بها، وإنما هو إزالة عصمة فيها حق آدمي، فكيفما وقع أوقعه سواء أجر في ذلك أو أثم، ولو لزم المطيع ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخف حالاً من المطيع" اهـ.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (425) ما رواه أحمد، قال: حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن يسأل ابن عمر، وأبو الزبير يسمع، فقال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً؟ فقال: إن ابن عمر طلق امرأته على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليراجعها" عليَّ ولم يرها شيئاً. وقال: فردَّها، "إذا طهرت فليطلق أو يمسك" قال ابن عمر. وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) قال ابن جريج: وسمعت مجاهداً يقرؤها كذلك (¬2). [الحديث صحيح، وزيادة لم يرها شيئاً زيادة شاذة] (¬3). ¬

_ (¬1) الطلاق، الآية الأولى. (¬2) المسند (2/ 80). (¬3) قوله: "ليراجعها علي ولم يرها شيئاً وقال فردها ... " فيه تقديم وتأخير. والصواب كما في لفظ أبي داود: "فردها علي ولم يرها شيئاً، وقال: إذا طهرت .. إلخ". وزيادة (فلم يرها شيئاً ...) قد أعلت. بما يلي: الأول: مخالفة أبي الزبير لجميع من رواه عن ابن عمر حيث لم يقل أحد منهم "ولم يرها شيئاً"، واتفاق هؤلاء الحفاظ - وكثير منهم مقدم على أبي الزبير - على خلاف ما انفرد به أبو الزبير يجعلها غير محفوظة. الثانية: حديث أبي الزبير مختلف فيه، فقد رواه بعضهم عن ابن جريج ولم يذكروا قولهم، ولم يرها شيئاً. فأما العلة الأولى: وهي مخالفة أبي الزبير لجميع من رواه عن ابن عمر. فقد روى الحديث نافع، وسالم، وعبد الله بن دينار، ويونس بن جبير، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، وأنس بن سيرين، وطاووس، وأبو وائل، وبئر بن حرب، والشعبي، وميمون بن مهران، كل هؤلاء رووه ولم يذكروا ما ذكره أبو الزبير، ولو خالف أبو الزبير نافعاً وحده،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أو سالماً وحده، لم يقبل منه فكيف بكل هؤلاء فقد رووه كلهم ولم يذكروا: قوله: "ولم يرها شيئاً". وفي قراءة سريعة لترجمة أبي الزبير ندرك الفرق بينه وبين نافع وسالم ومن ذكر معهما. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن أبي الزبير. فقال: روى عنه الناس. قلت: يحتج بحديثه؟ قال: إنما يحتج بحديث الثقات. الجرح والتعديل (8/ 74)، تهذيب التهذيب (9/ 390). وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وهو أحب إلي من أبي سفيان. الجرح والتعديل (8/ 74)، تهذيب الكمال (26/ 402). وقال الشافعي: أبو الزبير يحتاج إلى دعامة. الجرح والتعديل (8/ 74). وقال ابن عيينة: أبو الزبير عندنا بمنزلة خبز الشعير، إذا لم نجد عمرو بن دينار ذهبنا إليه. تهذيب التهذيب (9/ 390). وقال أحمد: كان أيوب السختياني يقول: حدثنا أبو الزبير، وأبو الزبير أبو الزبير. قلت: لأبى كأنه يضعفه؟ قال: نعم. الجرح والتعديل (8/ 74)، تهذيب الكمال (26/ 402). وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، وإلى الضعف ما هو. تهذيب التهذيب (9/ 390). وقال النسائي: ثقة. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (5/ 351). وقال العجلي: تابعي ثقة. ثقات العجلي (2/ 253). وقال ابن معين: ثقة، كما في رواية أبي بكر بن أبي خيثمة عنه. وقال مرة: صالح، كما في رواية إسحاق بن منصور. الجرح والتعديل (8/ 74)، تهذيب التهذيب (9/ 390). وقال أحمد: قد احتمله الناس، وأبو الزبير أحب إلي من أبي سفيان لأن أبا الزبير أعلم بالحديث منه، وأبو الزبير لا بأس به. المرجع السابق. وقال الذهبي: الحافظ المكثر الصدوق. تذكرة الحفاظ (1/ 126). قال ابن عدي: روى مالك، عن أبي الزبير أحاديث، وكفى بأبي الزبير صدقاً أن حدث عنه مالك، فإن مالكاً لا يروي إلا عن ثقة، ولا أعلم أحداً من الثقات تخلف عن أبي الزبير إلا وقد كتب عنه، وهو في نفسه ثقة إلا أن يروي عنه بعض الضعفاء فيكون ذلك من جهة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الضعف، ولا يكون من قبله، وأبو الزبير يروي أحاديث صالحة، ولم يتخلف عنه أحد، وهو صدوق في نفسه، لا بأس به. الكامل - ابن عدي (6/ 121). وفي التقريب: صدوق. فمثل أبي الزبير لا يقارن بنافع، ولا بسالم، ولا بسعيد بن جبير، ولا بالشعبي، ولا بغيرهم،. قال أبو داود بعد أن ساق حديث أبي الزبير (2185). قال: روى هذا الحديث عن ابن عمر: يونس بن جبير، وأنس بن سيرين، وسعيد بن جبير، وزيد بن أسلم، وأبو الزبير، ومنصور عن أبي وائل معناه كلهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك. قال أبو داود: وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن، عن سالم، عن ابن عمر. وأما رواية الزهري عن سالم. ونافع عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك. وروى عطاء الخراساني، عن الحسن، عن ابن عمر نحو رواية نافع والزهري، والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير. وقال ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (10/ 474): قوله في هذا الحديث "ولم يرها شيئاً" منكر عن ابن عمر، لما ذكرنا عنه أنه أعتد بها، ولم يقله أحد عنه غير أبي الزبير، وقد رواه عنه جماعة جله، فلم يقل ذلك واحد منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه؟ ثم قال: "وكل من روى هذا الخبر من الحفاظ لم يذكروا ذلك، وليس من خالف الجماعة الحفاظ بشيء فيما جاء به". وقال الخطابي في معالم السنن (3/ 96) حديث يونس بن جبير أثبت من هذا، ثم قال: قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا. ونقل البيهقي في المعرفة عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال: نافع أثبت من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعاً غيره من أهل الثبت. وإليك مرويات من روى الحديث عن ابن عمر. الأول: نافع عن ابن عمر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ سبق لي في القول الأول عند تخريج رواية أبي داود الطيالسي، تخريج رواية نافع، فارجع إليها. الثاني: سالم عن ابن عمر. أخرجه البخاري (4908) حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن طلق امرأته وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "ليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً، قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله. وقد أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 53) والدارقطني (4/ 6) والبيهقي (7/ 324) من طريق عقيل به. وأخرجه أحمد (2/ 61) حدثنا روح، حدثنا محمد بن أبي حفصة، حدثنا ابن شهاب به. وأخرجه البخاري (7160) وأبو داود (2182) والدارقطني (4/ 6) من طريق يونس ابن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب به. وأخرجه النسائي (3391) والبيهقي (7/ 324) من طريق محمد بن الوليد الزبيدي عن ابن شهاب به. وأخرجه الدارقطني (4/ 6) من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري به. وأخرجه أحمد (2/ 130) ومسلم (4 - 1471) والدارقطني (4/ 6) والبيهقي (7/ 324) من طريق يعقوب بن إبراهيم، أخبرني ابن أخي ابن شهاب، عن عمه (الزهري) به. وأخرجه أحمد (2/ 26) حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة، عن سالم - يعني: ابن عبد الله - عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً". ولم يقل أحد من الرواة: "أو حاملاً" إلا محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، ... ومن طريق وكيع أخرجه ابن أبي شيبة (17726) ومسلم (5 - 1471)، وأبو داود (2181) والترمذي (1167) والنسائي (3397) وابن ماجه (2033) وأبو يعلى (5540) وابن الجارود (736) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 51) والدارقطني (4/ 6) والبيهقي (7/ 325) وأخرجه أحمد (2/ 61) والنسائي (3558) وأبو يعلى (

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ 5561)، من طرق عن حنظلة عن سالم به مختصراً. الطريق الثالث: يونس بن جبير عن ابن عمر. أخرجه البخاري (5258) حدثنا حجاج بن منهال. حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي غلاب يونس بن جبير، قال: قلت لابن عمر: رجل طلق امرأته وهي حائض، فقال: أتعرف ابن عمر؟ إن ابن عمر طلق، وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فأمره أن يراجعها فإذا طهرت فأراد أن يطلقها فليطلقها. فهل عد ذلك طلاقاً؟ قال: أرأيت إن عجز واستحمق. وأخرجه أحمد (2/ 43) من طريقين عن سعيد بن أبي عروبة. وأخرجه البخاري (5252) ومسلم (10/ 1471) من طريق شعبة كلاهما عن قتادة به. وأخرجه أحمد (2/ 51) والبخاري (5333) ومسلم (7 - 9 - 1471) وأبو داود (2184) والترمذي (1175) والنسائي (3399، 3400) وابن ماجه (2022) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 52) والدارقطني (4/ 8) والبيهقي في السنن (7/ 325) من طريق محمد بن سيرين عن يونس به. الطريق الرابع: سعيد بن جبير عن ابن عمر. أخرجه البخاري (5253) حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: حسبت على بتطليقة. هكذا في النسخة التي شرحها الحافظ ابن حجر في الفتح حيث ذكر الحديث مسنداً، قال الحافظ: قوله: "حدثنا أبو معمر" كذا في رواية أبي ذر وهو ظاهر كلام أبي نعيم في "المستخرج" وللباقين، "وقال أبو معمر: "وبه جزم الإسماعيلي" اهـ. يعني معلقاً. ثم قال الحافظ: "وقد أخرجه أبو نعيم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، مثل ما أخرجه البخاري مختصراً. وقد أخرجه الطيالسي (1/ 187) حدثنا هشام، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: "طلقت امرأتي وهي حائض فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك علي حتى طلقتها وهي طاهر" وأخرجه النسائي (3398) والطحاوي (3/ 52) من طريق هشيم قال: أخبرنا أبو بشر به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وانظر عبد الرزاق (10955). ولقد فهم بعض العلماء المعاصرين، أن في هذه الرواية متابعة لأبي الزبير في عدم احتساب الطلقة. ولم يتبين لي ذلك، لأنه لم يصرح أن الطلقة لم تحسب، غاية ما فيه أنه سكت عن ذلك في رواية أبي بشر عن سعيد بن جبير وصرح في رواية أيوب عن سعيد، فتحمل الرواية التي سكت فيها عن احتساب الطلقة، بالرواية المصرحة بذلك وهكذا طريق الراسخين في العلم يحملون المتشابه على المحكم والمجمل على المبين، والمطلق على المقيد، والعام على الخاص، والله أعلم. الطريق الخامس: أنس بن سيرين عن ابن عمر. أخرجه البخاري (5252) حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن أنس بن سيرين، قال: سمعت ابن عمر قال: طلق ابن عمر امرأته، وهي حائض، فذكر عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ليراجعها". قلت: تحتسب. قال: فمه؟ وأخرجه أحمد (2/ 61، 74، 78) ومسلم (12 - 1471) وابن الجارود في المنتقى (735) والطحاوي (3/ 52) والدارقطني (4/ 5 - 6) من طرق عن شعبة به. السادس: طاوس عن ابن عمر. أخرجه أحمد (2/ 145) حدثنا عبد الرزاق وروح، عن ابن جريج، أخبرني ابن طاووس عن أبيه أنه سمع ابن عمر يسأل عن رجل طلق امرأته حائضاً، فقال: أتعرف عبد الله بن عمر؟ قال: نعم. قال: فإنه طلق امرأته حائضاً، فذهب عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر، فأمره أن يراجعها. قال: ولم أسمعه يزيد على ذلك، قال روح: أن يَرْجعها. وهو عند عبد الرزاق في المصنف (10961) ومن طريق أخرجه مسلم (13 - 1471) والبيهقي (7/ 326). السابع: أبو وائل عن ابن عمر. أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 57) رقم 17725 قال: نا أبو الأحوص، عن منصور عن أبي وائل، قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً في غير جماع". وأخرجه البيهقي (7/ 326) من طريق سفيان عن منصور به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الثامن والتاسع: بشر بن حرب، وابن سيرين، عن ابن عمر. رواه أبو داود الطيالسي (1862): حدثنا حماد بن سلمة، عن بشر بن حرب، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: طلقت امرأتي، وهي حائض، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فإن شئت فطلق وإن شئت فأمسك. فقال ابن عمر. فطلقتها، ولو شئت لأمسكتها. وقال أبو داود: وحدثنا حماد بن سلمة، عن ابن سيرين سمع ابن عمر يذكر مثله. وبشر بن حرب: صدوق فيه لين، والإسناد الآخر إسناد صحيح. العاشر: الشعبي عن ابن عمر. رواه الدارقطني (4/ 11) نا عثمان بن أحمد الدقاق، نا الحسن بن سلام، نا محمد بن سابق، نا شيبان، نا فراس، عن الشعبي، قال: طلق ابن عمر امرأته واحدة، وهي حائض، فانطلق عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر فأمره أن يراجعها، ثم يستقبل الطلاق في عدتها، وتحتسب بهذه التطليقة التي طلق أول مرة. [وإسناده حسن] وسبق تخريجه في أدلة القول الأول الدليل الخامس. الحادي عشر: ميمون بن مهران عن ابن عمر. رواه البيهقي (7/ 326) من طريقين عن أبي العباس الأصم، نا محمد بن إسحاق، أنا علي بن معبد، نا أبو المليح، عن ميمون بن مهران عن ابن عمر، أنه طلق امرأته في حيضتها قال: فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرتجعها حتى تطهر، فإذا طهرت، فإن شاء طلق وإن شاء أمسك قبل أن يجامع. الثاني عشر: عبد الله بن دينار عن ابن عمر. أخرجه مسلم (6 - 1471)، والبيهقي (7/ 325) من طريق خالد بن مخلد، حدثني سليمان - وهو ابن بلال - حدثني عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته، وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر، ثم يطلق بعد أو يمسك". فهؤلاء الرواة رووا الحديث عن ابن عمر، ولم يذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرها شيئاً. ومن هذه الروايات يؤخذ ما يلي:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الأول: روى الحديث جماعة بلفظ: "حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر فإن شاء طلق قبل أن يجامع وإن شاء أمسك". وممن روى هذا الحديث بهذا اللفظ نافع .. وكذلك رواه الزهري عن سالم عن ابن عمر مثل رواية نافع. وتابعهما عبد الله بن دينار، وبشر بن حرب ومحمد بن سيرين عن ابن عمر وتقدم تخريج مروياتهم. ورواه جماعة عن ابن عمر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك: منهم يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، وأنس بن سيرين، وأبو وائل، فلعل هؤلاء اختصروا الحديث، لأن القصة واحدة. ثانياً: رواية الزهري عن سالم، عن ابن عمر كرواية نافع "حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر". وانفرد محمد بن عبد الرحمن مولى طلحة، عن سالم، عن ابن عمر مرفوعاً" مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً "، رواه مسلم، ولا أعرف أحداً تابع محمد بن عبد الرحمن بذكر الحمل من حديث ابن عمر، ولذلك لا أراه محفوظاً. ثالثاً: رواه ابن أبي ذئب، وابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعلها واحدة. وتابعهما الشعبي عن ابن عمر مرفوعاً ورواه سعيد بن جبير عن ابن عمر: حسبت عليَّ بتطليقه. وقد رواه مالك وعبيد الله بن عمر، والليث، وأيوب، وغيرهم عن نافع ولم يذكروا ما ذكره ابن أبي ذئب، وابن جريج عن نافع، إلا أن قولهم "فليراجعها" مؤيد بالمعنى لما ذكراه، كما أن متابعة ابن جريج والشعبي وسعيد بن جبير تبعد احتمال الشذوذ في رواية ابن أبي ذئب. رابعاً: انفرد أبو الزبير عن ابن عمر بقوله: "ولم يرها شيئاً" فخالف اثني عشر حافظاً رووا الحديث عن ابن عمر ولم يذكروا ما ذكره. العلة الثانية: أن حديث: "فردها علي ولم يرها شيئاً" مداره على ابن جريج عن أبي الزبير عن ابن عمر. وقد اختلف على ابن جريج في ذكرها.

والجواب عن هذا الحديث: أولاً: ضعف قوله: "ولم يرها شيئاً" فقد حكم بضعفها الشافعي وأبو داود وابن عبد البر والخطابي وغيرهم. ثانياً: على فرض ثبوتها ... فإنه لا بد إما من الترجيح، أو الجمع بين هذا الحديث والأحاديث التي تدل على وقوع الطلاق. فأما الترجيح فلا شك أن الأحاديث التي تثبت وقوع الطلاق أقوى إسناداً وأكثر عدداً، وقد سقتها في أدلة القول الأول (¬1). ¬

_ فرواه عبد الرزاق في المصنف (10960). وروح كما في رواية أحمد (2/ 80 - 81) من طريق روح، كلاهما عن ابن جريج به. بذكر قوله: "ولم يرها شيئاً". ورواه حجاج بن محمد المصيصي كما في رواية مسلم (14 - 1471) والنسائي (3392) والمنتقى لابن الجارود (733). وأبو عاصم كما في رواية مسلم (1471)، والطحاوي (3/ 51) كلاهما عن ابن جريج به ولم يذكرا قوله: "ولم يرها شيئاً". ولا شك أن رواية ابن جريج الموافقة لرواية الجماعة أولى أن تكون محفوظة من الرواية الأخرى. وذكر الحافظ في الفتح متابعاً لأبي الزبير في شرحه لحديث (5253) قال: "روى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس ذلك بشيء. وسنده ضعيف، فيه عبد الله بن مالك روى عنه اثنان، وذكره ابن حبان في الثقات، ولم يوثقه معتبر، فحاله مجهولة وفي التقريب مقبول يعني في المتابعات. (¬1) وأعيدها هنا للتذكير بها. منها ما رواه أبو داود الطيالسي (68)، ومن طريقه البيهقي (7/ 326)، وابن وهب في مسنده كما في الفتح (9/ 442) ح 5253، والدارقطني (9/ 4)،

قال الحافظ في الفتح: "وأما قول ابن عمر: إنها حسبت عليه بتطليقه، فإنه وإن لم يصرح برفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن فيه تسليم أن ابن عمر قال: إنها حسبت عليه، فكيف يجتمع مع هذا قوله: إنه لم يعتد بها، أو لم يرها شيئاً على المعنى الذي ذهب إليه المخالف، لأنه إن جعل الضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم - لزم منه أن ابن عمر خالف ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة بخصوصها، لأنه قال: إنها حسبت عليه ¬

_ من طريق يزيد بن هارون ثلاثتهم عن ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له فجعلها واحدة. وهذا الإسناد على شرط الشيخين ... وهو وحده مقدم على ما رواه أبو الزبير عن ابن عمر. وقد تابع ابن جريج ابن أبي ذئب، فرواه عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً كما في سنن الدارقطني (4/ 10) ومنها: ما رواه الدارقطني (4/ 11)، والبيهقي (7/ 326)، من طريقين عن محمد بن سابق، نا شيبان، عن فراس، عن الشعبي، قال: طلق ابن عمر امرأته واحدة، وهي حائض، فانطلق عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأمره أن يراجعها، ثم يستقبل الطلاق في عدتها، وتحتسب بهذه التطليقه التي طلق أول مرة. [وسنده حسن، رجاله كلهم ثقات، إلا محمد بن سابق فإنه صدوق. وقد أخرج له البخاري في صحيحه حديثين، وروى له مسلم، والباقون إلا ابن ماجه]. ومنها ما رواه البخاري في صحيحه (5253)، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: حسبت على بتطليقة. وهو مرفوع حكماً. ومنها ما رواه جماعة عن ابن عمر موقوفاً عليه، بأنه احتسب ذلك الذي وقع منه، منهم سالم، ويونس بن جبير، وأنس بن سيرين وغيرهم، وهو يؤكد المرفوع ويقويه خرجت ذلك عنهم في أدلة القول الأول. ومنها ما ثبت عن نافع، وسالم من قولهما أن ابن عمر حسبت عليه طلقة، وهما أجل من روى عن ابن عمر. فكيف يقال: إن رواية أبي الزبير عن ابن عمر أرجح من رواية هؤلاء مجتمعين!!.

بتطليقه، فيكون من حسبها عليه خالف كونه لم يرها شيئاً. وكيف يظن به ذلك مع اهتمامه، واهتمام أبيه بسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ليفعل ما يأمره به؟ وإن جعل الضمير في قوله: "لم يعتد بها أو لم يرها" لابن عمر لزم منه التناقض في القصة الواحدة، فيفتقر إلى الترجيح، ولا شك أن الأخذ بما رواه الأكثر والأحفظ أولى من مقابله عند تعذر الجمع عند الجمهور، والله أعلم (¬1). هذا جواب من رام الترجيح بين الأحاديث. وأما من رام الجمع بينهما، فإن الأحاديث التي تدل على وقوع الطلاق مع صحتها صريحه لا تحتمل التأويل. وأما حديث أبي الزبير "فردها علي ولم يرها شيئاً" فمحتمل للتأويل. قال ابن عبد البر: قوله: "ولم يرها شيئاً" لو صح فمعناه عندي، والله أعلم ولم يرها شيئاً مستقيماً، لكونها لم تقع على السنة. وقال الخطابي بعد أن ضعف رواية أبي الزبير: وقد يحتمل أن يكون معناه ولم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئاً جائزاً في السنة ماضياً في الاختيار إن كان لازماً له مع الكراهة. وحمله الشافعي قوله: (لم يرها شيئاً) أي لم يعدها شيئاً صواباً غير خطأ بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه، لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلقها طاهراً لم يؤمر بذلك، فهذا كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله، أو أخطأ في جوابه لم يصنع شيئاً، ¬

_ (¬1) فتح الباري (10/ 446).

الدليل الرابع

أي: لم يصنع شيئاً صواباً. هذا سبيل من رام الجمع، وفي كلا الأمرين في حال الترجيح، أو الجمع يبقى القول بوقوع الطلاق قولاً لا يمكن دفعه لكثرة رواياته. الدليل الرابع: احتج القائلون بأن طلاق الحائض لا يقع (426) بما رواه ابن حزم، بإسناده من طريق محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، نا عبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد لذلك (¬1). وصحح إسناده الحافظ في الفتح في كتاب الطلاق: باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق، وهو كما قال. كما صحح إسناده ابن القيم في تهذيب السنن (¬2). وجه الاستدلال: قالوا: إن قول ابن عمر: "لا يعتد لذلك" أي لا يعتد بتلك الطلقة وإذا كان لا يعتد بها فكأنها لا شيء فلم تحتسب. ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة 1945). (¬2) تهذيب السنن (3/ 101).

وأجيب: بأن اللفظ فيه اختصار موهم، (427) فقد رواه ابن أبي شيبة، نا عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر في الذي يطلق امرأته وهي حائض قال: لا تعتد بتلك الحيضة (¬1). وأخرجه البيهقي، من طريق يحيى بن معين، نا عبد الوهاب الثقفي به، قال يحيى: وهذا غريب ليس يحدث به إلا عبد الوهاب الثقفي (¬2). فتبين أن حديث عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي هو في نفي الاعتداد بتلك الحيضة، وليس في نفي الطلاق في الحيض. ونفي الاعتداد بتلك الحيضة معناه الاعتداد في غيرها، فهو يومئ إلى وقوع الطلاق في الحيض، فلو كان لا يقع لم يحتج إلى التأكيد إلى نفي الاعتداد بتلك الحيضة؛ لأنها لن تعتد بتلك الحيضة ولا بغيرها. لكن لما كان الطلاق معتبراً أشار إلى عدم الاعتداد بتلك الحيضة التي وقع فيها الطلاق. وقد أوقع الاختصار الذي في رواية ابن حزم، أوقع ابن حزم وابن القيم إلى الجزم بأن ابن عمر قد اختلف عليه في احتساب ذلك الطلاق منه وإلى تقوية رواية أبي الزبير بهذه الرواية الموقوفة، فتبين ولله الحمد أنه لا دليل فيها، وأن ابن عمر لم يختلف عليه في وقوع الطلاق. ¬

_ (¬1) المصنف (4/ 58) رقم 17746. (¬2) سنن البيهقي (7/ 418).

ولو فرضنا أن قوله: "لا يعتد بها .. " أي لا يعتد بتلك الطلقة لكان معناه أنه قد اختلف على عبد الوهاب الثقفي فرواه محمد بن بشار بلفظ: "لا يعتد بها ... ". ورواه ابن أبي شيبة، ويحيى بن معين عنه: "لا يعتد بتلك الحيضة" وهما أرجح وأقوى منه حفظاً، بل كل واحد منهما بانفراده مقدم عليه مع أن حمل الرواية المجملة على الرواية المبينة هو المتعين. بل إن عبيد الله بن عمر الذي روى عنه عبد الوهاب الثقفي قوله: "لا يعتد لذلك" كان يروى عنه من قوله ومن روايته عن نافع أنها حسبت على ابن عمر. (428) فقد أخرج الدارقطني، من طريقين عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، نا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة، فانطلق عمر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وذكر الحديث. وفيه: قال عبيد الله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة، غير أنه خالف السنة (¬1). [وسنده صحيح] فهذا من قوله يدل على أنها وقعت عليه واحدة. (429) وأما ما كان من روايته عن نافع. فقد أخرجه مسلم: من طريق عبد الله بن نمير، حدثنا عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر وذكر الحديث، قال ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (4/ 7).

الدليل الخامس

عبيد الله: قلت لنافع: ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتد بها (¬1). الدليل الخامس: قال ابن القيم في تهذيب السنن: من النظر قالوا: إن مفسدة الطلاق الواقع في الحيض لو كان واقعاً لا يرتفع بالرجعة والطلاق بعدها، بل إنما يرتفع بالرجعة المستمرة التي تلم شعث النكاح وترقع خرقه، فأما رجعة يعقبها طلاق فلا تزيل مفسدة الطلاق لو كان واقعاً (¬2). وقال ابن تيمية: "لو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة ليطلقها طلقة ثانية فائدة، بل فيه مضرة عليهما، فإن له أن يطلقها بعد الرجعة بالنص والإجماع، وحينئذ يكون في الطلاق مع الأول تكثير الطلاق، وتطويل العدة وتعذيب الزوجين جميعاً" (¬3). وقال أيضاً: "ولو كان الطلاق المحرم قد لزم لكان حصل الفساد الذي كرهه الله ورسوله، وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يباح له الطلاق بعدها، والأمر برجعة لا فائدة فيها مما تنزه عنه الله ورسوله؛ فإنه إن كان راغباً في المرأة فله أن يرتجعها، وإن كان راغباً عنها فليس له أن يرتجعها فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية بل زيادة مفسدة، ويجب تنزيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2 - 1471). (¬2) تهذيب السنن (3/ 97). (¬3) مجموع فتاوى ابن تيمية (33/ 22). (¬4) مجموع فتاوى ابن تيمية (33/ 24).

الدليل السادس

والجواب عن هذا بأن يقال: هذا النظر ممكن أن يكون جيداً، لولا أنه في مقابلة النص، والمفسدة والمصلحة ليست عقلية محضة، والشرع مقدم على النظر القاصر، وكل نظر في مقابلة النص فهو فاسد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا نقول لمن طلق امرأته: راجعها، وسيكون لزاماً عليك طلاقها بعد طهرها، وإنما نقول: إذا لم يراجعها، فقد وقع الطلاق مع الإثم إن كان عالماً، وإذا راجعها ورأى أن يمسكها فله ذلك إلا أنه تعد عليه طلقة. الدليل السادس: استدل ابن القيم في تهذيب السنن: على أن قول ابن عمر: "أرأيت إن عجز واستحمق" أن ابن عمر ليس عنده سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوقوع الطلاق في الحيض، لأن قوله: "أرأيت" رأي محض، وكيف يظن بابن عمر أنه يكتم نصاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتداد بتلك الطلقة ثم يحتج بقوله: "أرأيت إن عجز واستحمق" وقد سأله مرة رجل عن شيء فأجابه بالنص فقال السائل: أرأيت إن كان كذا وكذا؟ قال: اجعل أرأيت باليمن (¬1). والجواب عن هذا أن ابن عمر لم يكتم النص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعتذر لابن القيم أنه لم يقف على كثير من الروايات عن ابن عمر في التصريح بوقوع الطلاق من ذلك رواية الشعبي عن ابن عمر .. ومن ذلك ظنه تفرد ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، حتى شك ابن القيم في لفظ الحديث هل هو من كلام ابن وهب أم من ¬

_ (¬1) تهذيب السنن (3/ 102).

كلام ابن أبي ذئب أم من كلام نافع، أم من كلام ابن عمر ... مع أن اللفظ صريح في الرفع، ولا يحتمل الشك وكذلك ظن تفرد ابن وهب، ولم يقف على المتابعات لابن وهب كمتابعة أبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب به. وكذلك متابعة ابن جريج لابن أبي ذئب، وقد سقتها كلها. وأما الاستدلال بالرأي مع الدليل الشرعي، فإنه معروف في أقوال الصحابة، ولا يقدح هذا، بل إن اتفاق النظر العقلي للدليل النقلي يشرح الصدر، كما في قول إبراهيم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬1) وكما قيل صحيح العقل لا يخالف صريح النقل. وكما قال أحد الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيه أجر قال: "أرأيت لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال". (430) وروى البخاري، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تخرج العواتق وذوات الخدور، أو العواتق ذوات الخدور، والحيض، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحيض المصلى" قالت حفصة آلحيض؟ فقالت: أليس تشهد عرفة وكذا وكذا. والحديث رواه مسلم بنحوه دون قول حفصة (¬2). ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 260. (¬2) صحيح البخاري (324)، ومسلم (10 - 890).

الدليل السابع

فهنا أم عطية مع احتجاجها بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكفى به حجة، احتجت بالقياس. الدليل السابع: قال ابن القيم في زاد المعاد، قال: "لا يزال النكاح المتيقن إلا بيقين مثله من كتاب أو سنة أو إجماع متيقن، فإذا أوجدتمونا واحداً من هذه الثلاثة رفعنا حكم النكاح به ولا سبيل إلى رفعه بغير ذلك" (¬1). والجواب: أننا نوافقكم على هذا الدليل، وقد أثبتنا الأدلة المتكاثرة، عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً عليه بوقوع الطلاق، والمعارض لا ينهض على رد هذه الأحاديث إما لشذوذه، أو لكونه غير صريح، ويعارض هذا الدليل بمعارض آخر، أن الطلاق الأصل فيه أنه يخرج المرأة من عصمة الرجل فمن ادعى أن هناك طلاقاً لاغياً لا تأثير له فعليه الدليل. والقول بتحريمه غير كافٍ، لأن التحريم تعلقه بالإثم لا بالصحة، فالتحريم والصحة غير متلازمين. الدليل الثامن: قالوا: "إن الحكمة في منع الطلاق في الحيض أو في طهر مسها فيه أن ذلك يطيل على المرأة العدة، فإنها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدتها، فستنتظر حتى تطهر من حيضها، وتتم مدة طهرها، ثم تبدأ العدة من الحيضة التالية، وإن كانت طاهراً، ومسها في الطهر فإنها لا تدري بما تعتد: أبالحيض أم ¬

_ (¬1) زاد المعاد (4/ 44).

بوضع الحمل إذا كانت حملت من ذلك المسيس؟ فلو كانت الروايات التي يحتج بها القائلون بوقوع طلقة ابن عمر في الحيض صحيحة لكان الأمر بمراجعتها ثم التربص بها إلى أن تطهر، ثم يطلقها إن شاء في الطهر الثاني قبل أن يمس -: أمراً بإطالة عدتها زمناً أكثر مما أريد من الرفق بها" (¬1). والجواب عن ذلك: أن يقال: قد اختلف العلماء في الحكمة من منع الطلاق في الحيض إلى ثلاثة أقوال: قال ابن تيمية: "وتنازعوا في علة منع طلاق الحائض هل هو تطويل العدة كما يقول أصحاب مالك والشافعي وأكثر أصحاب أحمد؟ أو لكونه حال الزهد في وطئها فلا تطلق إلا في حال رغبة في الوطء لكون الطلاق ممنوعاً لا يباح إلا لحاجة، كما يقول أصحاب أبي حنيفة، وأبو الخطاب من أصحاب أحمد؟ أو هو تعبد كما يقول بعض المالكية؟ على ثلاثة أقوال" (¬2). فإذا كانت العلة غير منصوص عليها، لا يجوز أن نترك النصوص المرفوعة والموقوفة عن ابن عمر في الاعتداد بتلك الطلقة لعلة مستنبطة، قد تكون هي العلة، وقد تكون العلة غيرها. ¬

_ (¬1) نظام الطلاق في الإسلام - أحمد شاكر (ص: 29). (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (33/ 97، 99).

الدليل التاسع

هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا راجعها، ثم طلقها بعد حيضتها التالية، فما دامت في عقد الزوجية لا يقال: إنها في عدة، وأن عدتها طالت، وأن الضرر قد لحقها في ذلك؛ لأنها ما زالت زوجة، لها حقوق الزوجة من النفقة والميراث، ونحوهما حتى تحيض الحيضة التالية، فيقع الطلاق، وهو غير ملزم للزوج، بل إن شاء طلق وإن شاء أمسك. والله أعلم. الدليل التاسع: أننا إذا أوقعنا الطلاق، ثم أمرناه بالمراجعة وجوباً، ثم طلق مرة ثانية، يكون وقع منه طلقتان، وهو لم يرد إلا طلقة واحدة، وتضررت المرأة بوقوع الطلقتين، وهي لا ذنب لها. وأجيب: بأن كلاً من الطلقتين قد وقعت باختيار الرجل وإرادته، فالأول طلق في زمن الحيض، وهو محرم، فكان عقوبته أن أمر بالمراجعة، والطلاق الثاني وقع أيضاً باختياره دون إكراه، وأما المرأة فالطلاق حق للرجل، وليس للمرأة. الدليل العاشر: معلوم أن الرجل إذا طلق زوجته، ثم أراد أن يراجعها كان مأموراً بالإشهاد والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر ابن عمر بالإشهاد، فهذا دليل على أنه لم يحسب ما وقع طلاقاً (¬1). ¬

_ (¬1) بتصرف مجموع الفتاوى (33/ 99).

روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين، كما قال الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1) عند الطلاق وعند المراجعة. قال ابن جرير في تفسير الآية: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهن، وذلك هو الرجعة. ذوي عدل منكم: وهما اللذان يرضى دينهما وأمانتهما (¬2). قلت: عدم النقل هنا ليس نقلاً للعدم، وما المانع أن يكون ابن عمر قد أشهد عدلين، خاصة أن عمر قد علم ذلك. ويبقى أن هذا لا يقوى أن يكون دليلاً بنفسه، فضلاً عن معارضته للأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً أن فعله حسب عليه طلقة. والله أعلم. فالقول الراجح أن طلاق الحائض يقع مع الإثم. والقائلون بأنه لا يقع ليس عندهم من الأدلة المرفوعة إلا حديث أبي الزبير عن ابن عمر .. ولا يجوز الأخذ به ... مع وجود ثلاثة من الحفاظ يروونه عن ابن عمر مرفوعاً بوقوع الطلاق منهم الشعبي، وسعيد ابن جبير، عن ابن عمر، وابن أبي ذئب وابن جريج كلاهما عن نافع عن ابن عمر .. فكيف ترجح رواية أبي الزبير على روايات هؤلاء. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (34276) سورة الطلاق. (¬2) المراجع السابق (12/ 301) سورة الطلاق.

فإذا أضفت إلى هؤلاء الثلاثة، ثلاثة آخرين رووه عن ابن عمر موقوفاً بما يوافق الرواية المرفوعة أصبحوا ستة من الحفاظ منهم سالم، ونافع، وأنس بن سيرين. مع أن رواية أبي الزبير قد قدمت لها تأويلاً صحيحاً يوافق رواية الجماعة وأن قوله: "لم يرها شيئاً" أي لم يرها صواباً، أو لم يرها شيئاً جائزاً وقد أثبتنا أيضاً الخلاف على أبي الزبير في ذكرها، فقد روى الحديث حجاج بن محمد المصيصي وأبو عاصم وهما ثقتان وروايتهما في مسلم روياه عن ابن جريج عن أبي الزبير عن ابن عمر وليس فيه: "ولم يرها شيئاً" فروايتهما الموافقة لرواية الجماعة أولى بالقبول، والله أعلم. وإذا طلق الرجل في الحيض أمر بالمراجعة كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر، إلا أن تكون الطلقة هي الطلقة الثالثة. وقد أطلت الكلام في هذه المسألة، وربما أعدت الكلام الواحد أكثر من مرة، لأن الفتوى عند بعض مشايخنا تخالف ما رجحت، فأردت أن أكرر الكلام ليتضح أكثر فأكثر. والله أسأل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

الفصل الخامس: حكم الخلع في زمن الحيض

الفصل الخامس: حكم الخلع في زمن الحيض تعريف الخلع: جاء في لسان العرب: خلع امرأته خُلعاً بالضم، وخِلاعاً، فاختلعت، وخالعته: أزالها عن نفسه، وطلقها على بَذْل منها. فهي خالع. والاسم: الخُلْعة، وقد تخالعا، واختلعت منه اختلاعاً فهي مختلعة. ثم قال: وسمي ذلك الفراق خلعاً، لأن الله تعالى جعل النساء لباساً للرجال والرجال لباساً للنساء، فقال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (¬1) وهي ضجيعه وضجيعته، فإذا افتدت المرأة بمال تعطيه لزوجها ليبينها منه فأجابها إلى ذلك فقد بانت منه، وخلع كل واحد منهما لباس صاحبه. ثم نقل عن ابن الأثير قوله: وفائدة الخلع إبطال الرجعة إلا بعقد جديد (¬2)، وانظر تاج العروس (¬3). وأما الخلع في اصطلاح الفقهاء فقد عرفوه بألفاظ مختلفة تبعاً لاختلاف مذاهبهم في كونه طلاقاً أو فسخاً، ولذا سوف أذكر من التعاريف ما يكون صالحاً لكلا القولين. ¬

_ (¬1) البقرة، آية: 178. (¬2) اللسان (8/ 76). (¬3) تاج العروس (11/ 100).

خلاف العلماء في جواز الخلع.

قال البهوتي - من الحنابلة - في الروض المربع في تعريف الخلع: "هو فراق الزوجة بعوض بألفاظ مخصوصة" (¬1). خلاف العلماء في جواز الخلع. ذهب بكر بن عبد الله المزني رحمه الله إلى أن الخلع غير جائز، وأن قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬2)، منسوخ بقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬3). وتعقبه ابن عبد البر بقوله: "وهذا خلاف السنة، الثابتة في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابت بن قيس ابن شماس أن يأخذ من زوجته ما أعطاها ويخلي سبيلها. ولا ينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلا بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه ثم بين ابن عبد البر أن قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬4) أي بالتراضي منهما، وحمل قوله عز وجل: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} أي: بغير رضاها، وعلى كره منها، وإضرار بها. ¬

_ (¬1) الروض المربع (ص 552). (¬2) البقرة، آية: 229. (¬3) ذكر ذلك ابن عبد البر في الاستذكار (17/ 175) ونقله الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه للبخارى كتاب الطلاق: باب الخلع وكيف الطلاق فيه (10/ 497). قال: أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه ولم أجده في المصنف. ونقل كلام ابن عبد البر صاحب المغني (10/ 268). (¬4) البقرة، آية: 229.

وبهذا صح استعمال الآيتين" اهـ. نقلاً من الاستذكار (¬1). وقال ابن حجر في الفتح، عن قول بكر بن عبد الله المزني: "تعقب مع شذوذه، بقوله تعالى في النساء أيضاً: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬2). وبقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} (¬3). وبالحديث - يعني حديث ابن عباس - في قصة امرأة ثابت بن قيس - وسيأتي تخريجه - وكأنه لم يثبت عنده أو لم يبلغه، وانعقد الإجماع بعده على اعتباره وأن آية النساء مخصوصة بآية البقرة وبآيتي النساء الآخريين (¬4). القول الثاني: ذهب ابن سيرين وأبو قلابة أنه لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلاً. (431) رواه ابن أبي شيبة، قال: أنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي قلابة وابن سيرين قالا: لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها لأن الله يقول: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬5). [وسنده صحيح] (¬6). ¬

_ (¬1) الاستذكار (1/ 174). (¬2) النساء، آية: 4. (¬3) النساء، آية: 128. (¬4) فتح الباري (10/ 497). (¬5) النساء، آية: 19. (¬6) المصنف (4/ 120) رقم 18407.

قال ابن عبد البر: "وهذا عندي ليس بشيء، لأن الفاحشة قد تكون في البذاء والجفاء، ومنه قيل للبذي فاحش ومتفاحش وعلى أنه لو اطلع منها على الفاحشة كان له لعانها، وإن شاء طلقها، وإما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس ذلك له. وما أعلم أحداً قال له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة" والله أعلم (¬1). وقال الله عز وجل: {إلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬2) يعني: في حق العشرة، والقيام في حق الزوج، والقيام بحقها، فلا جناح عليهما فيما افتدت به. القول الثالث: وهو قول العلماء قاطبة - إلا من تقدم ذكره في القولين السابقين - أن الخلع جائز إذا خاف كل من الزوجين، أو أحدهما ألا يقيما حدود الله، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬3). وروى البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ¬

_ (¬1) الاستذكار (17/ 181). (¬2) البقرة، آية: 229. (¬3) البقرة: آية 229.

ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم. فرددت عليه، فأمره ففارقها (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5276).

الفصل السادس: خلاف العلماء في خلع الحائض

الفصل السادس: خلاف العلماء في خلع الحائض الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى الخلاف في مسألة: هل الخلع طلاق أم فسخ؟ فمن رأى أنه طلاق، صار الخلاف فيه كالخلاف في طلاق الحائض، وقد حررت مسألة طلاق الحائض في مسألة مستقلة. ومن رأى أنه فسخ، وليس بطلاق فربما لم يمانع من الخلع في زمن الحيض ولم يحرمه. ولهذا قبل الخوض في مسألة خلع الحائض، يجب أن نحرر هل خلع الحائض طلاق أم فسخ؟ ثم نأتي إلى مسألة خلع الحائض. فذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعي في الجديد (¬3) ورواية عن أحمد (¬4) إلى أن الخلع طلاق يقع به طلقة بائنة. وقيل: بل هو فسخ وليس بطلاق إلا إن نوى به الطلاق فيقع طلاقاً، وهو ¬

_ (¬1) المبسوط (6/ 171) البناية (4/ 658) تبيين الحقائق (2/ 268) شرح فتح القدير (4/ 211). (¬2) مواهب الجليل (4/ 19) الخرشي (4/ 12) المنتقى للباجي (4/ 67) مختصر خليل (ص 147) القوانين الفقهية (ص 154) الكافي، ابن عبد البر (ص 276) الشرح الصغير (1/ 441). (¬3) الأم (5/ 198) روضة الطالبين (7/ 375) نهاية المحتاج (6/ 397). (¬4) الكافي (3/ 145) الإنصاف (8/ 392 - 393).

دليل من قال: إن الخلع طلاق مطلقا نوي أو لم ينو.

المشهور من مذهب الحنابلة (¬1) والقول القديم للشافعي (¬2). وقيل: هو فسخ مطلقاً سوى نوى به الطلاق أو لم ينو. وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله (¬3). دليل من قال: إن الخلع طلاق مطلقاً نوي أو لم ينو. الدليل الأول: (432) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أزهر بن جميل، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد، عن عكرمة عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقبل الحديقة وطلقها تطليقه (¬4). ¬

_ (¬1) كشاف القناع (5/ 216) الفروع (5/ 346). (¬2) مغني المحتاج (3/ 268) روضة الطالبين (7/ 375) منهاج الطالبين مطبوع بهامش مغني المحتاج (3/ 268). (¬3) مجموع الفتاوى (32/ 306) الاختيارات الفقهية (ص 211)، الجامع للإختيارات (2/ 663). (¬4) صحيح البخاري (5273)، وأخرجه النسائي (3463) أخبرنا أزهر بن جميل به. وأخرجه البيهقي (7/ 313) من طريق أبي بكر محمد بن محمد بن سليمان الواسطي ببغداد، نا أزهر بن جميل به. واختلف على خالد الحذاء فرواه عبد الوهاب الثقفي، عنه، عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه غيره عن خالد الحذاء، عن عكرمة مرسلاً.

وجه الاستدلال: لو كان مجرد قبول العوض تحصل به الفرقة ويكون فسخاً، لما أمره بطلاقها بعد قبوله الحديقة. والجواب: أن هذا الحديث يصلح رداً لمن قال: إن الخلع فسخ ولو نوى به الطلاق ما دام قد دخله المال أما من قال: إن الخلع فسخ بشرط أن لا ينوي به الطلاق فلا ¬

_ أخرجه البخاري (5274) حدثني إسحاق الواسطي، حدثنا خالد - يعني ابن عبد الله الطحان - عن خالد الحذاء، عن عكرمة أن أخت عبد الله بن أبي ... وذكر نحو حديث الثقفي، وفيه: "وقال: تردين حديقته"؟ قالت نعم: فردتها، وأمره يطلقها. قال البخاري: وقال إبراهيم بن طهمان عن خالد عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلقها، فهذا خالد الطحان، وإبراهيم بن طهمان روياه عن خالد الحذاء عن عكرمة مرسلاً. كما رواه أيوب بن أبي تميمة، عن عكرمة، موصولاً ومرسلاً. أما الرواية الموصولة فأخرجها البخارى (5276) حدثنا محمد بن عبد الوهاب بن المبارك المخرمي، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فرددت عليه، وأمره ففارقها، ويحمل قوله: "ففارقها" أي طلقها بحسب رواية خالد الحذاء، ولو كان مجرد رد الحديقة تحصل به الفرقة لما احتاج إلى قوله: "وأمره ففارقها" والله أعلم. ورواه ابن الجارود في المنتقى (750) حدثنا عباس بن محمد الدوري، قال: حدثنا قراد أبو نوح به. وأخرجه أيضاً حدثنا أحمد بن حفص، عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس به قال: غير أنه لم يذكر في آخره وفرق بينهما.

الدليل الثاني

يكون الحديث حجة عليه. لأن هذا قد ذكر به صريح الطلاق. قال الحافظ في الفتح: "قوله: "طلقها" يحتمل أن يراد طلقها على ذلك، فيكون طلاقاً صريحاً على عوض، وليس البحث فيه، إنما الاختلاف فيما إذا وقع لفظ الخلع أو ما كان في حكمه من غير تعرض لطلاق بصراحة ولا كناية، هل يكون الخلع طلاقاً أو فسخاً (¬1). وأجاب الشوكاني على هذا الحديث في النيل: "وأجيب بأنه ثبت من حديث المرأة صاحبة القصة عند أبي داود والنسائي ومالك في الموطأ بلفظ: "وخل سبيلها". وصاحب القصة أعرف بها. وأيضاً ثبت بلفظ الأمر بتخلية السبيل من حديث الرُّبيِّع وأبي الزبير كما ذكره المصنف" اهـ (¬2). الدليل الثاني: (433) روى الدارقطني، قال: نا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد المصري، نا عبد الله بن وهيب الغزي، نا محمد بن أبي السري، نا رواد، أخبرنا عباد بن كثير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخلع تطليقة بائنة (¬3). ¬

_ (¬1) فتح الباري (10/ 503). (¬2) نيل الأوطار (6/ 265). (¬3) رواه الدارقطني في سننه (4/ 45، 46) ورواه البيهقي في السنن (7/ 316) من طريق عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش، نا أبو عصام رواد بن الجراح، قال البيهقي: "تفرد به عباد بن كثير البصري، وقد ضعفه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري،

الدليل الثالث

[إسناده ضعيف، والثابت عن ابن عباس خلافه لما سيأتي]. الدليل الثالث: (434) روى مالك في الموطأ، عن نافع، أن ربيع بنت معوذ بن عفراء جاءت هي وعمها إلى عبد الله بن عمر، فأخبرته أنها اختلعت من زوجها في زمان عثمان بن عفان، فبلغ ذلك عثمان بن عفان فلم ينكره، وقال عبد الله ابن عمر: عدتها عدة المطلقة" (¬1) [إسناده صحيح، ولكن لا حجة فيه وقد اختلف الصحابة]. الدليل الرابع: (435) روى مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جمهان - مولى الأسلميين - عن أم بكرة الأسلمية، أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن أسيد، فأتيا عثمان بن عفان في ذلك، فقال: هي تطليقة إلا أن تكون سميت شيئاً، فهو ما سميت (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

_ وتكلم فيه شعبة بن الحجاج، وكيف يصح ذلك ومذهب ابن عباس وعكرمة بخلافه، على أنه يحتمل أن يكون المراد به إذا نوى به طلاقاً، أو ذكره. (¬1) الموطأ (2/ 566). (¬2) الموطأ برواية محمد بن الحسن (563)، والموطأ برواية أبي مصعب الزهري (1613)، ورواه الشافعي في مسنده (276) عن مالك به. ورواه ابن أبي شيبة (4/ 121) ح 18423 من طريق وكيع، عن هشام به وأيضاً (4/ 121) 18425 من طريق حفص بن غياث، عن هشام. ورواه الدارقطني (3/ 321) من طريق سفيان، عن هشام به. (¬3) فيه جمهان مولى الأسلاميين. ذكره ابن حبان في الثقات (4/ 118).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (436) روى ابن أبي شيبة، قال: نا ابن ادريس، عن موسى ابن مسلم، عن مجاهد، قال: قال علي: إذا خلع الرجل أمر أمرأته من عنقه، فهي واحدة، وإن اختارته. [إسناده منقطع، لم يسمع مجاهد من علي] (¬1). الدليل السادس: (437) روى ابن أبي شيبة، قال: نا وكيع وابن عيينة، عن ابن أبي ليلى، عن طلحة، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: لا تكون تطليقة بائنة إلا في فدية أو إيلاء. ¬

_ وذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة. تهذيب التهذيب (2/ 95). وذكره ابن أبي حاتم: ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (2/ 546). قال على بن المديني: أمي من ولد عباس بن جمهان. ثقات ابن حبان (4/ 118). وقال أبو حاتم: هو جد جدة على بن المديني ابنة عباس بن جمهان. الجرح والتعديل (2/ 546). وقال ابن القيم: جمهان الراوي لهذه القصة، عن عثمان، لا نعرفه بأكثر من أنه مولى الأسلميين. وقال أيضاً: طعن فيه أحمد، والبيهقي وغيرهما. قال شيخنا - يعني ابن تيمية - وكيف يصح عن عثمان، وهو لا يرى فيه عدة، وإنما يرى فيه الاستبراء بحيضة، فلو كان عند طلاقاً لأوجب فيه العدة. زاد المعاد (5/ 199). (¬1) المصنف (4/ 122) ح 18433. وموسى بن مسلم، هو الطحان الصغير، فات المزي أن يذكر من شيوخه مجاهد، وقد نص البخاري في التاريخ الكبير (7/ 296)، وأبن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/ 158) على سماعه من مجاهد، لكن قد نص يحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي وأبو زرعة على أن مجاهداً لم يسمع من علي. انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 206، 204). والله أعلم.

أدلة القائلين بأن الخلع فسخ.

[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل السابع: من النظر: لو كان الطلاق فسخاً لما جاز على غير الصداق كالإقالة (¬2). ويقابل هذا النظر بنظر آخر. ولو كان الخلع طلاقاً لما كان على عوض، ولو كان الفسخ طلاقاً لحق له أن يراجعها. أدلة القائلين بأن الخلع فسخ. الدليل الأول: من القرآن: قال الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. فهذه ثلاث تطليقات. وقال بينهم: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فذكر الخلع من الطلاق فلو كان الخلع طلاقاً، لكان الطلاق أربعاً. وهذا من أقواها. الدليل الثاني: (438) روى ابن أبي شيبة، قال: نا ابن عيينة، عن عمرو يعني ابن دينار، عن طاوس، ¬

_ (¬1) المصنف (4/ 122) ح 18429، وفيه ابن أبي ليلى، وفيه ضعف من قبل حفظه، كما أن إبرهيم لم يسمع من عبد الله بن مسعود. واختلف على ابن أبي ليلى، فرواه وكيع وابن عيينة كما سبق في متن الباب. ورواه علي بن هاشم، كما في المصنف (4/ 122) عن ابن أبي ليلى، عن علقمة، عن عبد الله، فوصله، والمحفوظ رواية وكيع وابن عيينة، وأخشى أن يكون الخطأ من ابن أبي ليلى، فإنه سيء الحفظ. والله أعلم. (¬2) انظر: فتح البارى شرح حديث (5277).

الدليل الثالث

عن ابن عباس قال: إنما فرقة وفسخ، وليس بطلاق، وذكر الله الطلاق في أول الآية، وفي آخرها، والخلع بين ذلك، فليس بطلاق. {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث: (439) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة - أحسبه - عن ابن عباس، قال: كل شيء أجازه المال فليس بطلاق، يعني الخلع (¬3). [إسناده صحيح]. الدليل الرابع: (440) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا محمود بن غيلان، أنبأنا الفضل بن موسى، عن سفيان، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن، وهو مولى آل طلحة، عن سليمان ابن يسار، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، أنها اختلعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أمرت أن تعتد بحيضة. ¬

_ (¬1) المصنف (4/ 123) رقم 18445. (¬2) ورواه عبد الرزاق في المصنف (11771)، والبيهقي (7/ 316). (¬3) مصنف عبد الرزاق (11770).

قال أبو عيسى: حديث الربيع، الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة (¬1). [إسناده صحيح, إلا أن المحفوظ فيه، أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وأن الآمر لها عثمان بن عفان - رضي الله عنه -] (¬2). وله شاهد من حديث ابن عباس. (441) رواه أبو داود، حدثنا محمد بن عبد الرحيم البزاز، ثنا علي بن بحر القطان، ثنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن سلم، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن امرأة ثابت بن قيس، اختلعت منه، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدتها ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (1185). (¬2) أخرجه ابن الجارود في المنتقى (763) من طريق محمود بن غيلان به، وأخرجه البيهقي (7/ 450) من طريق عبد الرحيم بن منيب، نا الفضل بن موسى به. وأخرجه أيضاً (7/ 450) من طريق وكيع، عن سفيان به، ولفظه: "فأمرت أن تعتد بحيضة". فقول الترمذي: "الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة، ومعناه أن الترمذي يرجح لفظ البناء للمجهول على لفظ: "فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك رجح البيهقي، فإنه قال عقب أن روي الحديث من طريق وكيع عن سفيان به بلفظ: "فأمرت أن تعتد بحيضة". قال البيهقي: "وهذا أصح، وليس فيه من أمرها، ولا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روينا في كتاب الخلع، أنها اختلعت من زوجها زمن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. قلت: قد أخرج النسائي (6/ 186 - 187)، وابن ماجه (2085) من طريق ابن إسحاق، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن الربيع بن معوذ، وفيه التصريح بأن زمن خلعها كان على عهد عثمان. وسنده حسن. كما أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 124) رقم 18456 قال: نا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن الربيع اختلعت من زوجها، فأتى عملها عثمان، فقال: تعتد بحيضة. وهذا سند على شرط الشيخين.

حيضة (¬1). ورواه هشام بن يوسف عن معمر موصولاً. رواه عبد الرزاق عن معمر مرسلاً. قال أبو زرعة عن هشام بن يوسف، وعبد الرزاق. ومحمد بن ثور: كان هشام أكبرهم، وأحفظهم، وأتقنهم (¬2). وجه الاستدلال: قال الخطابي في معالم السنن: "وهذا - يعني كون عدتها حيضة - أدل شيء، على أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، وذلك أن الله تعالى قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬3). فلو كانت مطلقة لم يقتصر على قرء ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (2229). (¬2) اختلف فيه على معمر .. فرواه هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً. ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة مرسلاً. أما رواية هشام .. فقد أخرجها الترمذي (1185)، والحاكم (2/ 206)، والطبراني (11/ 207)، والدارقطني (3/ 256)، والبيهقي (6/ 450) من طريق هشام بن يوسف، عن معمر به. وأما رواية عبد الرزاق عن معمر. فأخرجها في المصنف (11858)، والحاكم في المستدرك (2/ 206)، والبيهقي (7/ 450)، والدارقطني (3/ 256) من طريقين عن عبد الرزاق به. (¬3) البقرة، آية: 128.

الدليل الرابع

واحد" (¬1). وقال ابن القيم في تهذيب السنن عن كون عدتها حيضة قال: "وهذا مقتضى القياس، فإنه استبراء لمجرد العلم ببراءة الرحم، فكفت فيه حيضة كالمسبية، والأمة المستبرأة، والحرة، والمهاجرة، والزانية إذا أرادت أن تنكح" اهـ. الدليل الرابع: من النظر: لو كان الخلع طلاقاً لكان فيه الرجعة (¬2). ورد: بأنه لما أخذ من المطلقة عوضاً، وكان من ملك عوض شيء خرج من ملكه، لم تكن له رجعة فيما ملك عليه، فكذلك المختلعة. الدليل الخامس: قال ابن القيم في زاد المعاد: "الذي يدل على أنه ليس بطلاق، أن الله سبحانه وتعالى رتب على الطلاق بعد الدخول الذي لم يستوف عدده ثلاثة أحكام: أحدها: أن الزوج أحق بالرجعة فيه. الثاني: أنه محسوب من الثلاث. الثالث: أن العدة فيه ثلاثة قروء. وقد ثبت بالنص والإجماع، أنه لا رجعة في الخلع، وثبت بالسنة وأقوال الصحابة أن العدة فيه حيضة واحدة. ¬

_ (¬1) معالم السنن (3/ 144). (¬2) الاستذكار (17/ 186).

دليل من قال الخلع فسخ إلا إن نوى به الطلاق.

ثم قال: وإذا كانت أحكام الفدية غير أحكام الطلاق دل على أنها من غير جنسه، فهذا مقتضى النص والقياس، وأقوال الصحابة، ثم من نظر إلى حقائق العقود ومقاصدها دون ألفاظها يعد الخلع فسخاً بأي لفظ كان، حتى بلفظ الطلاق، ومن اعتبر الألفاظ ووقف معها واعتبرها في أحكام العقود، جعله بلفظ الطلاق طلاقاً، وقواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعي في العقود حقائقها ومعانيها، لا صورها وألفاظها، وبالله التوفيق، ومما يدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ثابت بن قيس أن يطلق امرأته في الخلع تطليقة، ومع هذا أمرها أن تعتد بحيضة، وهذا صريح في أنه فسخ، ولو وقع بلفظ الطلاق (¬1). ولا يظهر لي أن العدة لما كانت حيضة دل ذلك على أنه فسخ، بل لما كانت المرأة في عدتها بائنة لم تحتج أن تعتد بثلاثة قروء، فيكفى في ذلك حيضة واحدة دليلاً على براءة رحمها. والله أعلم. دليل من قال الخلع فسخ إلا إن نوى به الطلاق. الدليل الأول: الإجماع. نقل ابن حجر في الفتح، عن الطحاوي الإجماع على أنه إذا نوى بالخلع الطلاق وقع الطلاق، وأن محل الخلاف فيما إذا لم يصرح بالطلاق ولم ينوه (¬2). وذكر مثله ابن قدامة (¬3). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (4/ 36). (¬2) الفتح (5277). (¬3) المغني (10/ 275).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (442) ما رواه البخاري، قال: حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على المنبر قال سمعت رسول الله يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬1). الدليل الثالث: من النظر: قال ابن قدامة: إذا نوى بالخلع الطلاق، فقد أتى بكناية الطلاق، فكان طلاقاً (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1)، ومسلم (1907)، وقال: بالنية. (¬2) المغني (10/ 275).

الباب السابع: في أحكام الاستحاضة

الباب السابع: في أحكام الاستحاضة ويشتمل على سبعة فصول: المبحث الأول: في تعريف الاستحاضة. المبحث الثاني: في الفرق بين دم الحيض والاستحاضة الفصل الأول: في حكم المستحاضة إذا كانت مبتدأة. الفصل الثاني: خلاف العلماء في تقدير طهر المستحاضة. الفصل الثالث: في المستحاضة المعتادة. الفصل الرابع: في المرأة المستحاضة المتحيرة. الفصل الخامس: في طهارة المستحاضة. الفصل السادس: خلاف العلماء في وجوب الغسل على المستحاضة. الفصل السابع: خلاف العلماء في وطء المستحاضة.

[تمهيد]

المبحث الأول: تعريف الاستحاضة تعريف الاستحاضة لغة: جاء في اللسان: "الاستحاضة: أن يستمر بالمرأة خروج الدم بعد أيام حيضها المعتاد. يقال: استحيضت فهي مستحاضة، وهو استفعال من الحيض. وقال أيضاً: والمستحاضة: التي لا يرقأ دم حيضها، ولا يسيل من المحيض، ولكنه يسيل من عرق يقال له: العاذل. وقال أيضاً: إذا سال - يعني الدم - في غير أيامه المعلومة، ومن غير عرق المحيض قيل: استحيضت فهي مستحاضة". اهـ (¬1). وعرفه في المصباح: دم غالب ليس بالحيض (¬2). تعريف الاستحاضة في الاصطلاح: عرفها العيني من الحنفية، فقال: "اسم لما نقص عن أقل الحيض، أو زاد على أكثره" (¬3). وهذا التعريف مبني على التسليم في أن الحيض له أقل وأكثر .. وهي مسألة فيها نزاع، سبق وأن حررتها في مسائل الكتاب. ¬

_ (¬1) اللسان (7/ 142). (¬2) المصباح (ص: 85). (¬3) البناية (1/ 614).

وقال في الاختيار لتعليل المختار: الاستحاضة: الدم الخارج من الفرج دون الرحم (¬1). وهذا تعريف: لا أراه وافياً بالمقصود، ولا مطابقاً لما جاء عن الأطباء فإن الاستحاضة دم عرق، وقد يكون من الفرج، وقد يكون من أدنى الرحم، وقد يكون من الرحم نفسه (¬2)، المهم أن دم الاستحاضة دم مرض وعلة، فمن أين ¬

_ (¬1) الاختيار لتعليل المختار (1/ 26). (¬2) انظر أحكام المرأة الحامل - الخطيب (ص: 14). وقد ذكر الدكتور عبد الله بن عبد المحسن الطريقي في كتابه أحكام مباشرة النساء، نقلاً من: principles Gynecology Fourth Edition قال: "الاستحاضة تعني نزول دم من خلال فرج المرأة في وقت غير الحيض المألوف، وذلك من مصادر مختلفة، وهي ما يلي: 1 - وجود أورام بجسم الرحم، مثل ورم ليفي خاصة إذا تكون وانبعج من خلال جدار الرحم، مما يؤدي إلى تقلص الرحم في محاولة جادة منه - بمشيئة الله - إلى إخراج هذا الورم من جوف الرحم. وفي هذه الحالة تحدث استحاضة في غير موعد العادة. 2 - وجود ورم خبيث بجسم الرحم يؤدي إلى خروج الدم بغير انتظام في أوقات غير أوقات الحيض المألوفة. ويحدث هذا في الغالب لدى النساء المسنات في عمر الستين فما فوق. 3 - وجود قرحة بعنق الرحم، وهي توجد لدى كثير من النساء خاصة المرضعات والحوامل، أو اللائي يستعملن حبوب منع الحمل لمدة طويلة. 4 - وجود ورم خبيث في عنق الرحم يؤدي إلى نزول الدم في غير أوقات العادة بدون سبب ظاهر، يصاحبه قيح ورائحة متعفنة، وقد يخرج أثناء الجماع، أو عقبه. 5 - وجود التهابات أو أررام أو أجسام غريبة في الفرج، وهذا يحدث غالباً عند النساء المسنات، أو الفتيات قبل البلوغ، ومرات قليلة لدى النساء فيما بين 9 - 55 سنة، لاستعمالهن ما يسمى بالمطهرات لحماية الفرج من الإفرازات اعتقاداً منهن بان هذه الإفرازات ضارة.

تعريف المالكية

كان مصدره، فهو غير دم الجبلة والطبيعة. تعريف المالكية: عرفها ابن رشد في المقدمات: "ما زاد على دم الحيض والنفاس. وهو دم علة وفساد" (¬1). تعريف الشافعية: قال في مغني المحتاج: "الاستحاضة دم علة يسيل من عرق من أدنى الرحم يقال له العاذل، وسواء خرج أثر حيض أو لا" (¬2). سبق أن بينت أن دم الاستحاضة أسبابه كثيرة، فقد يكون المرض من الرحم، وقد يكون المرض من الفرج، وقد يكون من أدنى الرحم أو من أقصاه، فلا يصح التحديد بأنه من أدنى الرحم. ¬

_ والعكس صحيح؛ إذ أن المطهرات تعيق الإفرازات الحمضية عن أداء دورها الطبيعي، وتحدث نزيفاً إلى خارج الفرج. 6 - وجود التهابات، أو أورام بفتحة الفرج، تحدث نزيفاً لدى المرأة. 7 - يحدث كثيراً خروج دم يسير جداً من عنق الرحم عند الكشف، أو عند أخذ عينة أو مسحة من عنق الرحم. ومثل هذا لا ضرر منه. اهـ وهناك سبب آخر، وهو العامل الوراثي، ولذا نجد بنات جحش كلهن أو غالبهن استحيضت، وتكراره في بيت واحد يؤكد أن العامل الوراثي له دور في هذا بإذن الله. والله أعلم. (¬1) المقدمات (1/ 124). (¬2) مغني المحتاج (1/ 108).

تعريف الحنابلة

تعريف الحنابلة: قال في كشاف القناع "سيلان الدم في غير أوقاته، من مرض وفساد من عرق فمه في أدنى الرحم يسمى العاذل" (¬1). العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي: قول ابن رشد فيما تقدم عن دم الاستحاضة: ما زاد على دم الحيض والنفاس فيه نظر؛ لأن العادة قد تزيد كما بيناه في باب الطوارئ على الحيض. لكن المعنى اللغوي واضح أن الاستحاضة ليست مجرد زيادة الدم على العادة. فقد جاء في اللسان: المستحاضة التي لا يرقأ دم حيضها. وقوله أيضاً: أن يستمر بالمرأة خروج الدم. فالاستحاضة في الحقيقة هي استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبداً، أو يكون انقطاعه عنها مدة يسيرة .. ". وهذا المعنى اللغوي هو الذي تؤيده الأحاديث الشرعية ومنها حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش. فقد رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: (443) جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفادع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 196).

الدم، ثم صلي. وأخرجه مسلم (¬1). الشاهد قولها: إني أستحاض فلا أطهر. وقول أهل اللسان والفقه يخرج من عرق، جاء مرفوعاً، من حديث عائشة المتقدم، ومن حديثها في قصة استحاضة أم حبيبة وهو في الصحيحين رواه البخاري، ومسلم (¬2). (444) وأما تسمية أهل اللسان والفقه للعرق بالعاذل، فقد روى أبو عبيد في غريبه (¬3)، نا حجاج، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس: أنه سئل عن المستحاضة، فقال: ذلك العاذل يغذو. [وسنده حسن] (¬4). قال أبو عبيد: العاذل: اسم العرق الذي يخرج منه دم الاستحاضة. وقوله: يغذو. أي يسيل. ويقال له: "عرق عاند". (445) فقد روى النسائي، قال: أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة مستحاضة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (228)، ومسلم (62 - 333). (¬2) صحيح البخاري (327)، ومسلم (334). (¬3) (4/ 234). (¬4) رجاله ثقات إلا عمار بن أبي عمار صدوق ربما أخطأ.

لها: إنه عرق عاند، فأمرت أن تؤخر الظهر وتعجل العصر، وتغتسل لهما غسلاً واحداً، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلاً واحداً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً واحداً (¬1). [الحديث وإن كان رجاله ثقات إلا أنه معلول بالإرسال، والمحفوظ أنه مرسل وسيأتي تخريجه في أحكام الاستحاضة]. (446) وأخرج أبو عبيد، قال: أنا أبو النضر، عن شعبة، عن مجاهد عن ابن عباس قال: إنه عرق عاند، أو ركضة من الشيطان (¬2). قال: وقوله: "عاند" قال أبو عبيد: العرق العاند الذي عَنَد وبغى كالإنسان يعاند عن القصد، فهذا العرق في كثرة ما يخرج من الدم بمنزلته، شبه به لكثرة ما يخرج منه على خلاف عادته. وعَنَد العرق وعَنُد: سال فلم يكد يرقأ. وأعند أنفه كثر سيلان الدم منه. ودم عاند يسيل جانباً. اهـ بتصرف (¬3). وكونه دم علة وفساد. فمعناه أنه ليس كدم الحيض، فدم الحيض دم جبلة وطبيعة يرخيه الرحم بعد البلوغ في أوقات معتادة بينما دم الاستحاضة دم عارض لمرض فكون العرق ينفجر وينزف منه الدم ذلك دليل على علة في المرأة. ¬

_ (¬1) سنن النسائي (213). (¬2) (4/ 234 - 235). (¬3) تاج العروس (5/ 129).

تعريف الاستحاضة في الطب

تعريف الاستحاضة في الطب: جاء في توصيات الندوة الثالثة للفقه الطبي المنعقدة في الكويت: أن كل دم مرضي غير سوي استحاضة. وأسبابها المرضية شتى (¬1). هذا ما تيسر في شرح تعريف الاستحاضة. ¬

_ (¬1) أحكام المرأة الحامل - الخطيب (ص: 14).

المبحث الثاني: الفرق بين دم الحيض والاستحاضة

المبحث الثاني: الفرق بين دم الحيض والاستحاضة لا شك أن هناك فرقاً بين دم الحيض ودم الاستحاضة، لأن الشارع فرق بينهما في الأحكام، ولو كانا متماثلين لما فرق بينهما وسوف أسوق في هذا الفصل الفرق بين دم الحيض وبين دم الاستحاضة سواء من خلال الأحاديث المرفوعة إن أمكن، أو من كلام أهل الفقه. فالشرع صرح بأن الاستحاضة دم عرق .. إشارة إلى أن ذلك كالنزيف من هذا العرق الذي انفجر. أما الحيض فهو دم جبلة وطبيعة، والحيض في نظر الأطباء وأهل الاختصاص بأنه ينزل من الغشاء المبطن لجدار الرحم في حالة عدم حدوث إخصاب للبويضة فبعد خروج البويضة من المبيض، يتأهب الغشاء المبطن لجدار الرحم، ويستعد لاستقبال وغرس البويضة الملقحة، فإذا لم يحدث جماع يؤدي إلى إخصاب البويضة، ينهدم هذا الغشاء، وينزل على شكل دم، ولهذا أطلق على دم الحيض، بأنه دموع الغشاء المبطن لجدار الرحم حزناً لما أصابه من خيبة أمل (¬1). ومن الفروق المحسوسة بين دم الحيض ودم الاستحاضة. الأول: اللون. فدم الحيض دم يميل إلى السواد، ودم الاستحاضة أحمر يميل إلى الصفرة. ¬

_ (¬1) منقول من كتاب الحيض لإبراهيم الجمل (ص 13) نقله من مذكرات طبية للدكتور أحمد إسماعيل الجراح. بمستشفى أحمد ماهر بالقاهرة.

(447) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا يزيد بن زريع، عن خالد، عن عكرمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة مستحاضة من أزواجه فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي (¬1). قال ابن رجب في شرحه للبخاري: وفي حديث عائشة ما يدل على أن دم الاستحاضة يتميز عن دم الحيض بلونه وصفرته (¬2). (448) وروى ابن أبي شيبة (¬3)، قال: حدثنا إسماعيل بن عليه، عن خالد - يعني الحذاء - عن أنس بن سيرين قال: استحيضت امرأة من آل أنس، فأمروني فسألت ابن عباس، فقال: أما ما رأت الدم البحراني، فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة من النهار فلتغتسل ولتصلي (¬4). [وسنده صحيح]. قال ابن الأثير: دم بحراني: شديدة الحمرة، كأنه نسب إلى البحر، وهو اسم قعر الرحم. ¬

_ (¬1) صحيح البخارى (2037). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 82) (¬3) المصنف (1/ 120) ح 1367. (¬4) ورواه الأثرم عن أحمد كما في شرح ابن رجب للبخاري (2/ 176) عن ابن علية به. ورواه الدارمي (800) أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا ابن علية به.

وفي تاج العروس: دم بحراني: أي أسود، نسب إلى بحر الرحم، وهو عمقه. وقال قبل: البحر: عمق الرحم وقعرها، ومنه قيل للدم الخالص الحمرة بحراني (¬1). وقال ابن رجب: البحراني: هو الأحمر الذي يضرب إلى سواد (¬2). (449) وروى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد - يعني: ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضيء وصلي (¬3). [الحديث إسناده منقطع، ومتنه منكر] (¬4). ¬

_ (¬1) تاج العروس (6/ 35، 52). (¬2) شرح ابن رجب (2/ 176). (¬3) سنن أبى داود (304). (¬4) الحديث فيه اختلاف في إسناده ومتنه ... أما الاختلاف في الإسناد ... فقد قيل فيه: عن ابن شهاب عن عروة عن فاطمة. وقيل: إن عروة لم يسمع من فاطمة. وقيل: عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، أن فاطمة فجعله من مسند عائشة. ومدار هذين الاسنادين على محمد بن أبي عدي، عن محمد بن عمرو عن ابن شهاب به. ورجح بعضهم رواية ابن أبي عدي عن عروة عن فاطمة، لأنها في كتابه كذلك. وقيل: عن ابن شهاب عن عروة عن أسماء بنت عميس، انفرد بها سهيل بن أبي صالح. هذا الاختلاف في الإسناد، أما الاختلاف في المتن فإن حديث محمد بن عمرو انفرد على أن دم الحيض دم أسود ... ومفهومه أن ما عدا الدم الأسود ليس بحيض، ولم يذكر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ هذا جميع من رواه عن عروة في الصحيحين وغيرهما، كما أن الحديث صريح باعتبار التمييز لا العادة، وظاهر قصة فاطمة في الصحيحين أنه ردها إلى العادة، والقصة لا تحتمل التعدد، ومحمد ابن عمرو لا تحتمل مخالفته، ففد جاء في ترجمته: قال ابن معين عنه: ما زال الناس يتقون حديثه. قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. الجرح والتعديل (8/ 30). وقال الجوزجاني: ليس بقوي الحديث، ويشتهى حديثه. تهذيب الكمال (26/ 212)، وتهذيب التهذيب (9/ 333). وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يكتب حديثه، هو شيخ. الجرح والتعديل (8/ 30). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطيء. الثقات (7/ 377). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، يستضعف. الطبقات الكبرى (5/ 433). وقال يعقوب بن شيبة: هو وسط، وإلى الضعف ما هو. تهذيب التهذيب (9/ 333). وقال ابن عدي: له حديث صالح، وقد حدث عنه جماعة من الثقات، كل واحد منهم ينفرد عنه بنسخة، ويغرب بعضهم على بعض، وروى عنه مالك غير حديث في الموطأ وغيره، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل - ابن عدي (6/ 224). وقال علي: قلت ليحيى - يعني ابن القطان -: محمد بن عمرو كيف هو؟ قال: تريد العفو أو تشدد؟ قلت: لا: بل أشدد. قال: ليس هو ممن تريد، كان يقول حدثنا أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب. قال يحيى: وسألت مالكاً عنه، فقال فيه نحو مما قلت لك. الكامل (6/ 224)، تهذيب الكمال (26/ 212). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (9/ 333) وقال في موضع آخر: ثقة. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق له أوهام. وقوله: "إن دم الحيض دم أسود يعرف ... " صريح أولاً بردها إلى التمييز. وثانياً: أن ما عدا الدم الأسود ليس بحيض. وقد جاء الحديث في الصحيحين ولم يذكر أحد منهم الدم الأسود وردها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى عادتها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فروى البخاري (306) من طريق مالك عن هشام عن عروة عن عائشة قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش يا رسول الله إني لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة. فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي". فقوله "فإذا ذهب قدرها" صريح باعتبار العادة ... قال ابن رجب في شرح البخاري (2/ 58): "والأظهر - والله أعلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ردها إلى العادة لا إلى التمييز، لقوله: "فإذا ذهب قدرها" اهـ. ورواه البخاري (325): من طريق أبي أسامة عن هشام به بلفظ: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها". ورواه أبو عوانة عن هشام به عند ابن حبان (1355): "تدع الصلاة أيامها". ورواه البخاري (320) من طريق ابن عيينة عن هشام به بلفظ: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي". ورواه البخاري (331) من طريق زهير. ورواه مسلم (333) من طريق وكيع عن هشام به بنفس اللفظ إلا أنه قال: "فاغسلي عنك الدم". وهذا الحديث علق الحكم بالإقبال والإدبار، فظاهر الحديث أنه يردها إلى التمييز، وهذا ما فهمه الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 539) ح 306 حيث قال: "والحديث دليل على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة، تعتبر دم الحيض، وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث فتتوضأ لكل صلاة" الخ كلامه رحمه الله. والصحيح أنه محمول على ردها إلى العادة ولا تعارض بينه وبين ما سبق وقوله: "فإذا أقبلت" يعني: وقت الحيضة وزمنها، وقوله: "وإذا أدبرت: أي أدبر وقتها جمعاً بينهما، لأن في رواية أبي حمزة عن هشام به عند ابن حبان (1354): فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين. ففي هذه الرواية جمع بين قوله: "فإذا أقبل الحيض" وبين قوله: "فدعي الصلاة عدد أيامك" فلو كان يقصد من إقبال المحيض وإدباره التمييز، ما قال: "فدعي الصلاة عدد أيامك".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وهذا واضح بين، فتبين من هذا التحرير أن حديث عروة عن عائشة في قصه استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش كما في الصحيحين ردها إلى العادة، بينما حديث محمد بن عمرو، عن ابن شهاب، عن عروة ردها إلى التمييز. وثانياً: أن كل من روى الحديث في الصحيحين وفي غيرهما لم يذكر أحد منهم قوله: "إن دم الحيض دم أسود يعرف" إلا محمد بن عمرو، وهو ممن لا تحتمل مخالفته، ولهذا ضعف هذا الحديث بعض العلماء. قال النسائي في السنن (1/ 123)، قد روى هذا الحديث غير واحد، ولم يذكر أحد منهم ما ذكره ابن أبي عدي. اهـ يشير إلى إعلاله. وقال ابن أبي حاتم في العلل (117): سألت أبي .. وذكر الحديث فقال أبي: لم يتابع محمد ابن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر. وقال ابن القطان في كتابه بيان الوهم والايهام (457): "وهو فيما أرى منقطع، وذلك أنه حديث انفرد بلفظه محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة، عن فاطمة أنها كانت تستحاض. فهو على ذلك منقطع، لأنه قد حدث به مرة أخرى من حفظه، فزادهم فيه: "عن عائشة" فيما بين عروة وفاطمة فاتصل، فلو كان بعكس هذا كان أبعد من الريبة - أعني أنه يحدث به من حفظه مرسلاً ومن كتابه متصلاً - فأما هكذا فهو موضع نظر. تخريج الحديث: أخرجه أبو داود (304، 286)، ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 325). وأخرجه النسائي (215) قالا: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن أبي عدي يعني: (من كتابه)، عن محمد - وهو ابن عمرو بن علقمة بن وقاص - عن ابن شهاب، عن عروة ابن الزبير، عن فاطمة. وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3/ 306)، والحاكم (1/ 174)، والدارقطني (1/ 325) كلهم من حديث محمد بن أبي عدي من كتابه عن محمد بن عمرو بن علقمة به. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه! ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو داود (286)، والنسائي (363، 216)، والدارقطني (1/ 207) رقم 4. وابن حبان (1348) من حديث ابن عدي من حفظه عن محمد بن عمرو، عن ابن

(450) وروى الدارقطني، من طريق إبراهيم بن مهدي المصيصي، عن حسان بن إبراهيم، عن عبد الملك، عن العلاء، عن مكحول، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أقل ما يكون المحيض عن الجارية البكر ثلاث، وأكثر ما يكون من المحيض عشرة أيام، فإذا رأت الدم أكثر من عشرة أيام فهي مستحاضة، تقضي ما زاد على أيام أقرائها، ودم الحيض لا يكون إلا دماً أسود عبيطاً تعلوه حمرة، ودم الاستحاضة رقيق تعلوه صفرة، فإن أكثر عليها في الصلاة فلتحتشي كرسفاً ... الحديث (¬1). [وفيه العلاء بن كثير وهو متروك] (¬2). وقال أبو داود: وقال مكحول: إن النساء لا يخفى عليهن الحيضة، إن دمها أسود غليظ، فإذا ذهب ذلك، وصارت صفرة رقيقة، فإنها استحاضة، فلتغتسل ولتصلي (¬3). وساقه البيهقي مسنداً إلى أبي داود، ولم أقف على سنده إلى مكحول (¬4). (451) وأخرجه الدارمي، قال: حدثنا حجاج بن نصير، ثنا قره، عن ¬

_ شهاب، عن عروة عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش. وأما رواية سهل بن أبي صالح عن ابن شهاب عن عروة عن أسماء فسوف يأتي بيان الاختلاف فيها إن شاء الله في اغتسال المستحاضة. (¬1) سنن الدارقطني (1/ 218). (¬2) سبق تخريجه. انظر رقم (17). (¬3) رواه أبو داود بعد حديث (286). (¬4) سنن البيهقي (1/ 326).

الضحاك أن امرأة سألته فقالت: إني امرأة استحاض؟ فقال: إذا رأيت دماً عبيطاً فأمسكي أيام أقرائك (¬1). [وسنده ضعيف من أجل حجاج]. الفارق الثاني: أن دم الحيض ثخين، ودم الاستحاضة رقيق. قال الشافعي في الأم: "إذا كان الدم ينفصل، فيكون في أيام أحمر قانئاً ثخيناً محتدماً، وأيامٍ رقيقاً إلى الصفرة، أو رقيقاً إلى القلة، فأيام الدم الأحمر القاني المحتدم الثخين أيام الحيض، وأيام الدم الرقيق أيام استحاضة (¬2). قال المرداوي في الحاوي: المحتدم هو الحار المحترق، مأخوذ من قولهم: يوم محتدم، إذا كان شديد الحر، ساكن الريح (¬3). قلت: جاء في تاج العروس: احتدم فلان عليه غيظاً إذا تحرق، وكذا احتدم صدره: أي تغيظ وتحرق. وفي التهذيب: كل شيء التهب فقد احتدم. واحتدم الدم: اشتدت حمرته حتى يسود. اهـ (¬4). وهذا موضع الشاهد. فإذاً المقصود بالدم المحتدم إذا كان حاراً، وقد اشتدت حمرته حتى مال إلى السواد. وقال الخرقي في مختصره كما في المغني: "فمن طبق بها الدم، فكانت ممن ¬

_ (¬1) سنن الدارمي (802). (¬2) الأم (1/ 61). (¬3) الحاوي (1/ 389). (¬4) تاج العروس (16/ 131).

تميز، فتعلم إقباله، بأنه أسود ثخين منتن، وإدباره رقيق أحمر، تركت الصلاة في إقباله، فإذا أدبر اغتسلت وتوضأت لكل صلاة وصلت" (¬1). ولا أعلم دليلاً على اعتبار كونه ثخيناً إلا أن يكون الاستدلال من حيث الواقع، أما شيء مرفوع فلا أعلم. نعم جاء في كتب الأطباء ما يبين سبب ثخونة دم الحيض، وذلك أن دم الحيض ليس مجرد دم فقط، بل إن الدم ينزل ومعه قطع من الغشاء المبطن للرحم مفتتة (¬2). الفارق الثالث: الرائحة. فدم الحيض منتن، كريه الرائحة، ودم الاستحاضة لا رائحة له. وممن ذكر الرائحة فرقاً الشافعي كما في مختصر المزني، (¬3) والخرقي كما سقنا كلامه قبل قليل، وذكره ابن قدامة في المقنع (¬4). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 391). (¬2) يقول الدكتور البار في كتابه خلق الانسان بين الطب والقرآن (ص: 90): "وعند فحص دم الحيض بالمجهر فإننا نرى كرات الدم الحمراء والبيضاء وقطعاً من الغشاء المبطن للرحم". ويقول أيضاً (ص: 93): "وينزل دم الحيض محتوياً على قطع من الغشاء المبطن للرحم مفتتة". (¬3) (1/ 11). (¬4) انظر: المبدع (1/ 274). يقول الدكتور محمد البار في كتابه خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 91): "ولم أجد فيما لدي من كتب أمراض النساء شيئاً يذكر هذه الرائحة الخاصة .. فسألت بعض النسوة اللاتي يترددن على عيادتي: هل تجدن رائحة خاصة لدم الحيض فأجبن أن نعم" اهـ.

الفرق الرابع: التجمد. فدم الحيض لا يتجمد إذا ظهر، لأنه تجمد في الرحم ثم انفجر وسال فلا يعود ثانية للتجمد، وأما دم الاستحاضة فإنه دم عرق إذا ظهر تجمد (¬1). فهذه أربعة فروق ... اللون، الرقة، الرائحة، التجمد ... ولم يأت مرفوعاً إلا التفريق باللون، ولم أقف على حديث مرفوع أو أثر موقوف على اعتبار ما عداه. وحتى اللون لا يعتبر التمييز فيه فقط بالدم الأسود، بل ذكر صاحب مغني المحتاج: أن التمييز هو بين الدم القوي والضعيف، فقال: إن الأحمر ضعيف بالنسبة للأسود، وقوي بالنسبة للأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر، والأصفر أقوى من الأكدر، وما له رائحة كريهة أقوى مما لا رائحة له، والثخين أقوى من الرقيق، فالقوي هو الحيض وما عداه استحاضة (¬2). وهذا الكلام جيد؛ لأن دم الحيض ليس مقصوراً على الأسود فقط. (452) فقد روى مالك في الموطأ، قال: عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ¬

_ (¬1) يقول الدكتور البار نقلا عن الدكتور دوجالد بيرد في كتابه (المرجع في أمراض النساء والولادة)، يقول: "ودم الحيض لا يتجلط (يتجمد) ويمكن بقاؤه سنين طويلة على تلك الحالة دون أن يتجلط، فإذا ظهر دم متجلط (متجمد) أثناء الحيض فإن الحائض سرعان ما تعرف ذلك ويعتبر ذلك غير طبيعي". ويقول أيضاً: "وينزل لذلك دم الحيض لا يتجلط، ولو بقي سنيناً طوالاً، وذلك لأنه قد سبق تجلطه في الرحم، ثم أذيبت الجلطة بفعل خميرة (انزيم). انظر خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 89 - 93). (¬2) مغني المحتاج (1/ 113)، وانظر روضة الطالبين (1/ 140).

كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين، بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم الحيضة، فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. [وإسناده حسن] (¬1). فإن كان هناك دليل على اعتبار التمييز في غير اللون، سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً قبلته وإلا فيقتصر على التمييز باللون فقط، وهو رأي أبي المعالي، ذكره ابن مفلح في الفروع (¬2)، وابن مفلح الصغير في المبدع (¬3). قال النووي: والوجه الثاني: أن المعتبر في القوة اللون وحده، وادعى إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على هذا الوجه. واقتصر عليه الغزالي. والصحيح عند الأصحاب الوجه الأول. اهـ (¬4). ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 59).، وسبق تخريجه. (¬2) الفروع (1/ 274). (¬3) المبدع (1/ 275). (¬4) روضة الطالبين (1/ 141).

الفصل الأول: في حكم المستحاضة إذا كانت مبتدأة

الفصل الأول: في حكم المستحاضة إذا كانت مبتدأة المبحث الأول: تعريف المبتدأة, ومتى تكون مستحاضة؟ المبتدأة: المرأة التي جاءها الحيض، ولم يتقدم لها حيض قبل ذلك (¬1). قال البهوتي من الحنابلة في كشاف القناع: "المبتدأة، التي رأت دماً، ولم تكن حاضت في سن تحيض لمثله كبنت تسع سنين فأكثر ... " اهـ (¬2). وهي في مقابلة المعتادة ... وقد اختلف الفقهاء في المبتدأة إذا استمر بها الدم متى نحكم بأنها مستحاضة؟ وذلك لاختلافهم في أكثر الحيض. فقيل: إذا استمر مع المرأة الدم إلى أن جاوز عشرة أيام فهي مستحاضة وكذا إن نقص عن ثلاثة أيام، وهو مذهب الحنفية (¬3). لأن أكثر الحيض عندهم عشرة أيام، وأقله ثلاثة أيام، وسبق مناقشة هذا ¬

_ (¬1) انظر: الخرشي (1/ 204)، وحاشية ابن عابدين (1/ 190). (¬2) كشاف القناع (1/ 204). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 41)، شرح فتح القدير (1/ 161)، البحر الرائق (1/ 202)، حاشية ابن عابدين (1/ 284 - 285)، مراقي الفلاح (ص 57)، تبيين الحقائق (1/ 55).

القول. وقيل: إذا جاوز الدم خمسة عشر يوماً فهي مستحاضة، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وهذا مبني أيضاً على أن أكثر الحيض عندهم خمسة عشر يوماً. وقيل: المبتدأة تجلس ما تراه من الدم حتى يطبق عليها الدم، فإذا استمر معها الدم شهراً كاملاً صارت مستحاضة، وهو اختيار ابن تيمية. قال في الاختيارات: "المستحاضة تجلس ما تراه من الدم ما لم تصر مستحاضة" (¬4). وهذا مبني على أنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره .. والأصل أن الحيضة تكون في الشهر لا تكون شهراً ولذا جعل الله سبحانه وتعالى عدة الحائض ثلاث حيض، وعدة المرأة التي لا تحيض ثلاثة أشهر، فكان في مقابل كل حيضة وطهر شهراً، فثلاث حيض بثلاثة أشهر، فلا يصح أن يكون الحيض مستغرقاً للشهر كاملاً، فإذا استمر معها الدم شهراً كاملاً علمنا أنها مستحاضة. وقد استعرضت في مسائل متقدمة حجة من حدد أكثر الحيض بخمسة عشر أو عشرة أيام وبينت ضعف هذه الأقوال. ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 210)، منح الجليل (1/ 68)، حاشية الدسوقي (1/ 167)، الخرشي (1/ 205، 204)، أسهل المدارك (1/ 87)، مواهب الجليل (1/ 368). (¬2) روضة الطالبين (1/ 142)، المجموع (2/ 423، 422)، نهاية المحتاج (1/ 341، 340). (¬3) كشاف القناع (1/ 205)، المحرر (1/ 24)، المغني (1/ 411). (¬4) الاختيارات (ص 28).

المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة

المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة عرفنا فيما سبق متى تكون المبتدأة مستحاضة؟ فإذا حكمنا عليها بأنها مستحاضة فما الحكم؟ والجواب أن نقول: المستحاضة المبتدأة قسمان: الأولى: مبتدأة مميزة: ويقصد بها أن لون دمها يتميز بعضه من بعض، فبعضه يكون أسود، وبعضه أحمر، أو بعضه يكون أحمر، وبعضه أصفر، أو بعضه يكون له رائحة كريهة وبعضه لا رائحة له على القول بالتمييز بالرائحة، فهذه تسمى مستحاضة مميزة. الثانية: مبتدأة غير مميزة: وهي التي يكون دمها على صفة واحدة لا تتغير.

الفرع الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة إذا كانت مميزة.

الفرع الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة إذا كانت مميزة. فقيل: حيضها عشرة أيام من أول ما رأت الدم، وطهرها عشرون يوماً، ولا عبرة بالتمييز وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: تعمل بالتمييز بشرط أن يكون التمييز صالحاً لأن يكون حيضاً. وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره ابن القاسم (¬4)، وابن العربي من المالكية (¬5). ¬

_ (¬1) واختار أبو يونس أنها تأخذ بالاحتياط، فتغتسل بعد ثلاثة أيام (أقل الحيض عنده) ثم تصوم وتصلي سبعة أيام بالشك، ولا يقربها زوجها حتى تغتسل بعدم تمام العشرة، وتقضي صيام الأيام السبعة لأن الاحتياط في باب العبادات واجب، ومن الجائز أن حيضها أقل الحيض فتحتاط لهذا، وهذا القول ضعيف؛ لأن فيه مشقة وحرجاً وإيجاب صوم اليوم الواحد مرتين لا مثيل له في الشرع، ومن امتثل الأمر الشرعي بقدر طاقته لم يكلف الإعادة. (¬2) روضة الطالبين (1/ 142)، المجموع (2/ 423، 422)، نهاية المحتاج (1/ 340، 341). (¬3) كشاف القناع (1/ 205)، المحرر (1/ 24)، المغني (1/ 411) (¬4) قال ابن عبد البر في التمهيد، كما في فتح البر (3/ 489): "قال ابن القاسم: ما رأت المرأة بعد بلوغها من الدم فهو حيض، تترك له الصلاة، فإن تمادى بها قعدت عن الصلاة خمسة عشر يوماً، ثم اغتسلت وكانت مستحاضة، تصلي وتصوم، وتوطأ، إلا أن ترى دماً لا تشك فيه أنه دم حيض فتدع له الصلاة" ثم قال: "والنساء يعرفن ذلك بريحه ولونه، وقال: إذا عرفت المستحاضة إقبال الحيض وإدبارها وميزت دمها اعتدت به من الطلاق" الخ كلامه. (¬5) قال ابن العربي من المالكية في تحفة الأحوذي (1/ 210، 209): "المستحاضة على

دليل الحنفية: بأنها تجلس عشرة أيام فقط.

وكيف يكون التميز صالحاً لأن يكون حيضاً؟ يكون التمييز صالحاً بأن يكون حيضاً بأن يكون الدم الأسود لا يتجاوز أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوماً، عند المالكية والشافعية والحنابلة. ولا ينقص الأسود عند الشافعية والحنابلة عن أقل الحيض فإن نقص الأسود عن يوم وليلة فليس بحيض. واختار أبو يوسف: أنها تأخذ بالاحتياط. فتغتسل بعد ثلاثة أيام - أقل الحيض عنده - ثم تصوم، وتصلي بالشك، ولا يقربها زوجها حتى تغتسل بعد تمام العشرة، وتقضي صيام الأيام السبعة (¬1). دليل الحنفية: بأنها تجلس عشرة أيام فقط. قالوا: عشرة الأيام حيض، بدليل لو أن الدم انقطع لعشرة أيام فأقل كان حيضاً، فحين زاد الدم على عشرة أيام وقع الشك في كون الدم الزائد على أقل الحيض (¬2) هل يكون حيضاً أم لا، ومجرد الشك لا يخرجه عن كونه حيضا (¬3). ¬

_ قسمين: مبتدأة ومعتادة، وهما على قسمين: مميزة وغير مميزة، فهي إذاً على أربعة أقسام: الأول: مبتدأة مميزة، ثم قال: "فحيضها مدة تميزها بشرط أن لا يزيد على أكثر الحيض، فإن زاد على أكثره لم يكن حيضاً". (¬1) المبسوط (3/ 154). (¬2) يقدرون أقل الحيض بثلاثة أيام، ومعنى كلامه: أن هذه المرأة المبتدأة التي لا عادة لها، حين زاد دمها عن ثلاثة أيام، وهي أقل الحيض، وقع لهم شك، هل هذا الزائد حيض أم استحاضة، وما دام أن الدم لم يتجاوز أكثر الحيض عندهم، وهو عشرة أيام، فهذا الشك لا يخرجه عن اعتباره حيضاً في العشرة. (¬3) العناية (1/ 178).

دليل الجمهور على العمل بالتمييز.

قال السرخسي في المبسوط: "فإن جاوز - يعني الدم - العشرة، واستمر بها الدم، فحيضها عشرة أيام من أول ما رأت الدم، وطهرها عشرون يوماً، لأن أمر الحيض مبني على الإمكان، لتأييده بسبب ظاهر، وهو رؤية الدم، وإلى العشرة الإمكان موجود، فجعلناها حيضاً، وإذا انقطع بتمام العشرة كان الكل حيضاً، فزيادة السيلان لا ينتقص الحيض، وإذا كانت العشرة حيضاً فبقية الشهر وذلك عشرون يوماً طهرها، لأن الشهر يشتمل على الحيض والطهر عادة" اهـ (¬1). فالأحناف لا يرون العمل بالتمييز مطلقاً، لا في المرأة المبتدأة ولا في غيرها. دليل الجمهور على العمل بالتمييز. الدليل الأول: (453) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد - يعني ابن عمرو بن علقمة - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة ابن الزبير، عن فاطمة بن أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيض، فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي (¬2). [الحديث ضعيف، إسناده منقطع، ومتنه منكر] (¬3). ¬

_ (¬1) المبسوط (3/ 153). (¬2) سنن أبي داود (304). (¬3) سبق تخريجه. انظر حديث 448.

الدليل الثاني

والمعروف من قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش أنه ردها إلى العادة. الدليل الثاني: (454) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن عليه، عن خالد - يعني الحذاء - عن أنس بن سيرين قال: استحيضت امرأة من آل أنس فأمروني فسألت ابن عباس فقال: أما ما رأت الدم البحراني، فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة من النهار فلتغتسل وتصلي (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وفي اللسان (¬3)، وتاج العروس (¬4): دم بحراني: شديد الحمرة. اهـ والنسبة هنا ليست إلى البحر المعروف، ولكن إلى الرحم، فإنه يطلق البحر على قعر الرحم، ومنه قيل للدم الخالص الحمرة بحراني. وفي تاج العروس: ومن المجاز: دم بحراني: أي أسود، نسب إلى بحر الرحم وهو عمقه (¬5). وقال ابن رجب في شرح البخاري: البحراني، هو الأسود الذي يضرب إلى ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 120) رقم 1367. (¬2) سبق تخريجه ص (¬3) اللسان (4/ 46). (¬4) تاج العروس (6/ 53). (¬5) تاج العروس (6/ 53).

الدليل الثالث

سواد (¬1). وهذا الأثر عندي هو الحجة بالعمل بالتمييز، لا حديث محمد بن عمرو، وقول الصحابي حجة على الصحيح بشرطين: الشرط الأول ألا يخالف نصاً. الثاني: ألا يعارضه قول صحابي مثله. الدليل الثالث: من النظر، أن التمييز علامة قوية على التفريق بين دم العرق، وبين دم الجبلة والطبيعة، ولأن أحكام الحيض معقولة المعنى، قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}، فإذا ميزت المرأة بين الأذى، وبين دم العرق عملت به. الدليل الرابع: لما فرق الشارع بين دم الحيض وبين دم الاستحاضة في الأحكام، فالأول مانع من الصلاة ومن الصيام ومن الوطء بخلاف الثاني، كان لا بد أن الدم هذا لا يشبه هذا، ولو كانا متماثلين ما فرق بينهما الشارع، لأن الشارع حكيم لا يفرق بين متماثلين ولا يجمع بين متفرقين ... وافتراقهما في الأحكام راجع إلى اختلافهما في الصفة، فهذا له صفة من لون ورقة ورائحة تختلف عن هذا فوجب العمل بالتمييز بينهما بالرجوع إلى صفتهما. دليل أبي يوسف على وجوب الاغتسال بعد ثلاثة أيام وتصوم وتقضي؟ أوجب أبو يوسف الاغتسال بعد ثلاثة أيام، لأنه يرى أن أقل الحيض ¬

_ (¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 176).

ثلاثة أيام، وهذه المبتدأة من الجائز أن حيضها أقل الحيض، لأنها ليست لها عادة ممكن أن تعمل بها، فنأخذ بالاحتياط، فتغتسل بعد ثلاثة أيام - أقل الحيض عنده - ثم تصوم، وتصلي بالشك، ولا يقربها زوجها حتى تغتسل بعد تمام العشرة، وتقضي صيام الأيام السبعة احتياطاً. وهذا القول ضعيف جداً؛ لأنه مبني على أن الحيض لأقله حد، وقد بينت في فصل مستقل ضعف هذا القول، ثم هو ضعيف من وجه آخر، إذ كيف تكلف المرأة بصيام يوم واحد مرتين من غير تفريط منها، فالله لم يوجب على العباد صيام يوم واحد مرتين، ولا صيام شهر رمضان مرتين في العام.

الفرع الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة إذا كانت غير مميزة

الفرع الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة إذا كانت غير مميزة إذا كان دم المبتدأ المستحاضة على صفة واحدة، فقد اختلف العلماء: فقيل: تجلس عشرة أيام - أكثر الحيض عندهم - وطهرها عشرون يوماً. وهو مذهب الحنفية، ولا فرق بين كونها مميزة أو غير مميزة (¬1). وقيل: تقعد خمسة عشر يوماً ثم تكون مستحاضة (¬2). وهي رواية ابن القاسم وأكثر المدنيين عن مالك (¬3). ¬

_ (¬1) البناية - العيني (1/ 669)، بدائع الصنائع (1/ 41)، تبيين الحقائق (1/ 64). (¬2) وإذا كانت مستحاضة، فإنها طاهرة يغشاها زوجها، وتصلي وتصوم، ولا تزال بمنزلة الطاهر حتى ترى دماً قد أقبل غير الدم الذي كان بها، والذي كانت تصلي فيه. وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/ 490): "عن محمد بن مسلمة قال: أقصى ما تحيض النساء عند علماء أهل المدينة مالك وغيره خمسة عشر يوماً ثم قال: "فإن تمادى بها الدم أكثر من خمسة عشر يوماً اغتسلت عند انقضاء الخمسة عشر، وعلمنا أنها مستحاضة، فأمرناها بالغسل لأنها طاهر، وتصلي من يومها ذلك، ولا تصلي ما كان قبل ذلك، لأنها تركت الصلاة باجتهاد في أمر يختلف فيه وقد ذهب وقت تلك الصلاة، وقلنا: أقيمي طاهرة حتى تقبل الحيضة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وذلك أن تأتيها دفعة من الدم تنكره بعد خمسة عشر يوماً من يوم غسلها، لأنه أقل الطهر عندنا، فإذا رأت الدفعة بعد خمس عشرة من الطهر، كفت عن الصلاة ما دامت ترى الدم إلى خمسة عشر، ثم اغتسلت وصلت فيما تستقبل كما ذكرنا. فإن لم يكن بين الدفعة وبين الطهر قدر خمسة عشر يوماً فهي امرأة حاضت أكثر مما تحيض النساء فلا تعتد به ولا تترك الصلاة لتلك الدفعة، ولا تزال تصلي حتى يأتيها ولو دفعة بعد خمسة عشر أو أكثر من الطهر" اهـ. (¬3) المدونة (1/ 49)، المنتقى - الباجي (1/ 124).

وقيل: تقعد ما تقعد النساء من أسنانها وأترابها ولداتها (¬1)، ثم هي مستحاضة بعد ذلك، تصلي وتصوم ويأتيها زوجها إلا أن ترى دماً لا تشك فيه أنه دم حيضة. وهو رواية علي بن زياد عن مالك (¬2). وقيل: تقعد أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة أيام. وهي رواية ابن وهب عن مالك (¬3). وقيل: تجلس يوماً وليلة. وهو أحد القولين في مذهب الشافعية، وصححه جمهورهم (¬4). ¬

_ (¬1) هذه ألفاظ مترادفة الأسنان، واللدات والأتراب معناهما واحد. قال في اللسان (1/ 231): الترب، واللدة، والسن، يقال: هذه تِرْب هذه أي لدتها. وقيل: ترب الرجل الذي ولد معه وأكثر ما يكون ذلك في المؤنث. وفي تاج العروس (1/ 323): الأتراب: الأسنان، لا يقال: إلا للإناث وقيل للذكور الأسنان والأقران، وأما اللدات فإنه يكون للذكور والإناث. وفي اللسان، قال: عرباً أتراباً فسره ثعلب فقال: الأتراب هنا الأمثال. قال: وهو حسن إذ ليست هناك ولادة. (¬2) المدونة (1/ 49)، المنتقى (1/ 124)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 485). (¬3) المنتقى - الباجي (1/ 124)، عارضة الأحوذي (1/ 209)، وضعفه، حيث قال: "الاستظهار في الحديث إنما جاء في المعتادة وليست في المبتدأة في معناه". (¬4) قال الرملي في نهاية المحتاج (1/ 343): "الأظهر أن حيضها يوم وليلة". وقال النووي في روضة الطالبين (1/ 143): "أظهرهما: تحيض يوماً وليلة. والثاني: ستاً وسبعاً. وعلى هذا في الست والسبع وجهان: أحدهما: للتخيير، فتحيض إن شاءت ستاً، وإن شاءت سبعاً. وأصحهما ليست للتخيير، بل إن كانت عادة النساء ستاً، تحيضت ستاً، وإن كانت سبعاً تحيضت سبعاً. وفي النساء المعتبرات أوجه أصحها: نساء عشيرتها من الأبوين، فإن لم يكن عشيرة فنساء بلدها. والثاني: نساء العصبات خاصة.

دليل من قال تجلس عشرة أيام.

وقيل: ترد إلى غالب عادة النساء، وهو ست أو سبع بالتحري. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2). دليل من قال تجلس عشرة أيام. ذكرنا دليلهم في المبتدأة المميزة، لأنه لا فرق عندهم بين المبتدأة المميزة وغير المميزة لأنهم لا يقولون بالعمل بالتمييز مطلقاً. وهذا القول مبني على أن أكثر الحيض عشرة أيام وهو قول ضعيف. دليل من قال: تجلس خمسة عشر يوماً. وهذا القول مبني على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً،. فإذا كانت مدة الحيض خمسة عشر يوما، ورأت الدم فيه وجب أن يكون حيضاً؛ لأنه في زمن الإمكان، فتجلس المستحاضة أقصى مدة يمكن أن تحيض فيها (¬3). دليل من قال: تقعد أيام لداتها. قال الباجي في المنتقى: وجهه: أنها لما لم تكن لها عادة ترجع إليها، وجهل أمرها، وجب اعتبارها بأحوال لذاتها؛ إذ لا طريق لها إلى معرفة حالها بأكثر من ذلك، ولو كانت لها عادة لردت إليها، فإذا لم يكن لها عادة ولا تمييز فالظاهر أن ¬

_ والثالث: نساء بلدها وناحيتها. (¬1) كشاف القناع (1/ 207، 206)، الانصاف (1/ 365)، المبدع (1/ 227)، الكافي (1/ 79). (¬2) نهاية المحتاج (1/ 343)، روضة الطالبين (1/ 143). (¬3) بتصرف. انظر: المنتقى (1/ 124)، وهذا القول مبني على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً وهو قول ضعيف بينت ضعفه في مسألة أكثر الحيض.

دليل من قال: تقعد أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة أيام.

حيضها كحيض لداتها (¬1). دليل من قال: تقعد أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة أيام. قال الباجي في المنتقى: "وجه رواية الاستظهار، أن هذا خارج من الجسد، أريد التمييز بينه وبين غيره فجاز أن يعتبر فيه بثلاثة أيام، أصل ذلك لبن المصراة" اهـ (¬2). وقال ابن عبد البر: "احتجوا فيه من جهة النظر بالقياس على المصراة في اختلاط اللبنين، فجعلوا كذلك اختلاط الدمين، دم الاستحاضة ودم الحيض. وفي السنة من حديث ابن سيرين وغيره عن أبي هريرة أن المصراة تستبرأ ثلاثة أيام ليعلم بذلك مقدار لبن التصرية من لبن العادة، فجعلوا كذلك الذي يزيد دمها على عادتها ليعلم بذلك أحيض هو أم استحاضة؟ استبراء واستظهاراً" (¬3). (455) ويقصدون بلبن المصراة ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب - يعني: ابن عبد الرحمن القاري - عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع شاة مصراة، فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر (¬4). وهذا من عجيب القول، وغريب القياس، فالخيار في المصراة جعل له ¬

_ (¬1) المنتقى للباجي (1/ 124). (¬2) المرجع السابق. (¬3) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 495، 494). (¬4) صحيح مسلم (24 - 1524).

دليل من قال: تجلس يوما وليلة.

ثلاثة أيام؛ لأنه زمن يظهر فيه أثر التصرية غالباً، ويتأكد المشتري من عيب التدليس، فأين هذا مما نحن فيه!! دليل من قال: تجلس يوماً وليلة. قالوا: لأنه أقل الحيض، فهو المتيقن، وما زاد فمشكوك فيه، ومن الجائز أن يكون حيضها أقل الحيض، فنكون قد احتطنا للعبادات الواجبة، ووجوب العبادات متيقن، وكونه حيضاً مشكوك فيه، والشك لا يرفع اليقين. دليل من قال تجلس ستة أيام أو سبعة أيام غالب عادة النساء. (456) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا زهير (يعني ابن محمد الخرساني)، عن عبد الله بن محمد (يعني ابن عقيل) بن أبي طالب، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران ابن طلحة، عن أمه حمنه بنت جحش، قالت: كنت استحاض حيضة شديدة كثيرة، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، قالت: فقلت يا رسول الله: إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها، قد منعتني الصلاة والصيام، قال: أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فتلجمي، قالت: إنما أثج ثجاً، قال: سآمرك بأمرين أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الآخر، فإن قويت عليهما، فأنت أعلم. فقال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستيقنت، واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلة أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزئك،

وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن بميقات حيضهن وطهرهن وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين، وكذلك فافعلي، وصلي وصومي، إن قدرت على ذلك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهذا أعجب الأمرين إلي (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (6/ 439). (¬2) والحديث ضعيف لأن فيه: أولاً: انفرد فيه ابن عقيل، والأكثر على ضعفه. قال ابن عيينة: أربعة من قريش يترك حديثهم، فذكر ابن عقيل منهم. وسبق أن حررت القول فيه. ومن أخطائه ما رواه أحمد (1/ 102): من طريق حماد بن سلمة، عن ابن عقيل، عن محمد بن علي بن الحنفية عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في سبعة أثواب. فإن هذا مخالف لما في الصحيحين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب. ثانياً: أن أحاديث الصحيحين ترد المستحاضة إلى عادتها، وحديث ابن عقيل يردها إلى غالب النساء لا إلى عادتها ولا إلى التمييز، ولا أعلم له متابعاً، فانفرده بمثل هذا الحكم لا يجعل مقدماً على حديث الصحيحين. فهذه قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش صريحة بردها إلى عادتها، فقد روى البخاري (306): من طريق مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قالت فاطمة بنت أبي حبيش يا رسول الله إني لا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي". فقوله: فإذا ذهب قدرها صريح بردها إلى العادة. ورواه البخاري (325) من طريق أبي أسامة عن هشام به بلفظ: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ورواه ابن حبان (1355) بسند صحيح من طريق أبي عوانة عن هشام به بلفظ: "تدع الصلاة أيامها". ورواه البخاري (320): من طريق ابن عيينة عن هشام به: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي". ورواه مسلم (333) من طريق وكيع عن هشام به بنفس اللفظ، إلا أنه قال: "فاغسلي عنك الدم وصلي"، والمقصود بالإقبال والإدبار: إقبال وقت الحيض وإدبار وقته جمعاً بينه وبين ما سبق. كما أن أم حبيبة قد ردها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى عادتها. فقد روى مسلم (65 - 434) عن عائشة رضي الله عنها قال: إن أم حبيبة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدم؟ فقالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دماً، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي". فهذه أحاديث الصحيحين ظاهرها ترد المستحاضة إلى عادتها. وهنا حديث ابن عقيل رحمه الله ردها إلى غالب الحيض، فقال: "تحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام"، فلم يردها إلى عادتها، وقد تكون عادتها أكثر أو أقل، ولم يردها إلى التمييز. وقد قال الخطابي في معالم السنن (1/ 183): "إنما هي امرأة مبتدأة لم يتقدم لها أيام، ولا هي مميزة لدمها، وقد استمر بها الدم حتى غلبها، فرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها إلى العرف الظاهر، والأمر الغالب من أحوال النساء، كما حمل أمرها في تحيضها كل شهر مرة واحدة على الغالب من عادتهن ... الخ". قلت: أين الدليل من الحديث على أنها مبتدأة، هذا أولاً. وثانياً: أنها لا تستطيع أن تميز بين دم الحيض ودم الاستحاضة. فهذا لا سبيل إليه من الحديث، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسألها هل أنت مبتدأة؟ وهل لك عادة مستقرة من قبل؟ وهل تميزين بين دم الحيض وبين دم الاستحاضة؟ فلو وقع ذلك لكان له وجه في حمل الحديث على المبتدأة غير المميزة، ولما كانت هناك مخالفة لأحاديث الصحيحين، ولكن لما ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاستفصال في مقام الاحتمال نزل منزلة العموم في المقال. فالحديث ظاهره رد المستحاضة مطلقاً إلى عادة النساء. ثالثاً: أن الحديث أمرها في الجمع بين الصلوات، وأحاديث المستحاضة في الصحيحين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ من أحاديث عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش وأم حبيبة لم يرشدها إلى الجمع. كما أن الحديث دليل على من يقول بالجمع الصوري. وقد يستدل بهذا الحديث لو ثبت على من ينكر الجمع في الإقامة والسفر إلا في عرفة، ويحمل الأحاديث على الجمع الصوري، وهو تأخير أولى الصلاتين وتعجيل الثانية، فالأولى في آخر الوقت، والثانية في أول الوقت، وإنما قصد من الجمع لأهل الاعذار التخفيف عليهم، والجمع في هذه الصورة فيه حرج ومشقة، ومن يعلم الوقت ودقته، والناس في ذلك الرقت لم يكن لديهم ساعات كما هي الحال في هذا العصر، حتى يوقع أولى الصلاتين في آخر الوقت، بينما تقع الصلاة الثانية في أول الوقت كلام أهل العلم في الحديث: ضعفه أبو حاتم في العلل (1/ 51) ح 123، قال ابنه: سألت أبي عن حديث رواه ابن عقيل، عن إبراهيم بن محمد، عن عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش في الحيض، فوهنه، ولم يقو إسناده. وضعفه الدارقطني كما في شرح ابن رجب للبخاري (2/ 64)، ولم أجده في السنن له، لكن قال محققوا شرح ابن رجب إنه موجود في كتاب العلل الدارقطني، وأحالوا على (5 ب/ ق 101 - أ) وفي تلخيص الحبير (1/ 288): "وقال ابن منده: لا يصح بوجه من الوجوه؛ لأنهم أجمعوا على ترك حديث ابن عقيل". وحمل الحافظ قول ابن منده بكونهم أجمعوا على ترك حديثه يعني مَنْ خرج الصحيح، فليس له في الصحيحين رواية. وقال البيهقي: تفرد به ابن عقيل، وهو مختلف في الاحتجاج به. وأما الإمام أحمد .. فاختلف النقل عنه، والراجح عنه تضعيفه. قال الترمذي (1/ 226): سألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن صحيح، وقال: يعني الترمذي: وهكذا قال أحمد: هو حديث حسن صحيح. فهذا النقل من الترمذي عن أحمد، لا يقدم على نقل أبي داود، فإن أبا داود من تلاميذ أحمد الملازمين له، وله عنه مسائل مشهورة. فقد قال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث في السنن (287) قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء. وقال ابن رجب في شرحه للبخاري (2/ 64): والمعروف عن الإمام أحمد، أنه ضعفه، ولم يأخذ به، وقال: ليس بشيء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال مرة: ليس عندي بذلك، وحديث فاطمة أصح منه وأقوى إسناداً، يعني: أنه لم يردها إلى غالب النساء بل ردها إلى العادة. وقال أحمد أيضاً: في نفسي منه شيء. ولكن ذكر أبو بكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بحديث حمنة، والأخذ به!!. اهـ كلام ابن رجب رحمه الله قلت: والقول بالحديث، والأخذ به لا يعني صحته في نفسه ما لم يصرح المحدث بأنه صحيح، وكم من حديث ضعيف في الترمذي ويصرح الترمذي بأن العمل عليه، ولا يعني كون العمل عليه أن يكون صحيحاً في نفسه، وأقربها عندي حديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه"، فالاستثناء لا يثبت من جهة الحديث، والعمل عليه. فقول أبي بكر الخلال بأن أحمد يقول بحديث حمنة ويأخذ به ليس صريحاً في كونه صحيحاً عنده. وفي التمهيد لابن عبد البر (16/ 16): "قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: في الحيض حديثان، والآخر في نفسي منه شيء، قال أبو داود: يعني أنه في الحيض ثلاثة أحاديث، هى أصول هذا الباب: أحدها: حديث مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار. والآخر: حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. والثالث: والذي في قلبه منه شيء، وهو حديث حمنة بنت جحش الذي يرويه ابن عقيل". وقال الخطابي في معالم السنن (1/ 183): "وقد ترك بعض العلماء القول بهذا الخبر؛ لأن ابن عقيل راويه ليس بذاك". وصححه البخاري، قال الترمذي: سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن صحيح. لكن البيهقي نقل عبارة البخارى بأتم مما نقل الترمذي إلا أنه ساقها بلاغاً. قال البيهقي (1/ 339): بلغني عن أبي عيسى الترمذي، أنه سمع محمد بن إسماعيل البخاري يقول: حديث حمنة بنت جحش في المستحاضة هو حديث حسن إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم، لا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا؟ وكان أحمد بن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ حنبل يقول: هو حديث صحيح. والبلاغ ضعيف للجهل بالواسطة بين البيهقي والترمذي. وقد أجاب الشوكاني بجواب واضح فقال في النيل (1/ 338): إبراهيم بن طلحة مات سنة 110 هـ عشر ومائة فيما قاله أبو عبيد القاسم بن سلام، وعلي بن المديني، وخليفة بن خياط، وهو تابعي سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبا هريرة، وعائشة. وابن عقيل سمع عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، والربيع بنت معوذ، فكيف ينكر سماعه من محمد بن إبراهيم بن طلحة لقدمه، وأين ابن طلحة من هؤلاء في القدم، وهم نظراء شيوخه في الصحبة، وقريب منهم في الطبقة، فينظر في صحة هذا عن البخاري" اهـ. تخريج الحديث: الحديث كما سبق مداره على ابن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران ابن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش. ويرويه عن ابن عقيل زهير بن محمد الخرساني، وشريك بن عبد الله النخعي، وعبيد الله ابن عمر الرقي، وعمرو بن ثابت، وإبراهيم بن أبي يحيى. أما رواية زهير بن محمد عن ابن عقيل: فأخرجها أحمد (6/ 439): حدثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا زهير - يعني ابن محمد الخرساني - عن عبد الله بن محمد - يعني: ابن عقيل بن أبي طالب به. وأخرجه أبو داود (287): حدثنا زهير بن حرب وغيره، قالا: حدثنا عبد الملك بن عمرو به. وأخرجه الترمذي (128): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عامر العقدي (عبد الملك ابن عمرو) به. وأخرجه الدارقطني (1/ 214) من طريق أبي عامر العقدي. ورواه الحاكم، ومن طريقه البيهقي (1/ 238) عن زهير بن محمد، وعبيد الله بن عمرو الرقي، عن ابن عقيل به، إلا أنه ليس فيه الاغتسال لصلاة الفجر. وأما رواية شريك بن عبد الله عن ابن عقيل. أخرجه أحمد (6/ 381): ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك بن عبد الله، عن ابن عقيل به.

القول الراجح. أما القول بأنها تجلس أكثر الحيض، سواء كان عشرة أيام كما عند الأحناف، أو خمسة عشر يوماً كما عند الجمهور، فهو قول مبني على قول ضعيف وهو أن أكثر الحيض له حد ينتهي إليه. وقد ناقشت هذه المسألة في مسألة مستقلة فلا نعيده. وأما القول بأنها تجلس أقل الحيض فهذا مثله .. فليس لأقل الحيض حد، وهذه المرأة المستحاضة المبتداة لا يمكن ردها إلى العادة كما هي أحاديث الصحيحين في المستحاضة المعتادة؛ لأنه لا عادة لها، ولا يمكن ردها إلى التمييز استدلالاً بقول ابن عباس المتقدم؛ لأنه لا تمييز لها، لكن إذا كان لا يمكن ردها إلى عادتها أمكن ردها إلى عادة أختها، وأمها، وخالتها، وعمتها ... فإن شبه المرأة بأمها وأخواتها أقرب من شبه المرأة بالنساء الأجنبيات، وهذا معلوم لمن التمسه، حتى إن المرأة إذا كانت تعاني من عادتها أوجاعاً شديدة رأيت ذلك عند كثير من بناتها. ¬

_ وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 120) ح 1364، ومن طريقه ابن ماجه (627) حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شريك به، ولم يذكر غسل الفجر. وأخرجه الدارقطني (1/ 214) من طريق يزيد بن هارون به. وأما رواية عبيد الله بن عمرو الرقي عن ابن عقيل. فأخرجها الدارقطني (1/ 215)، والحاكم (1/ 172)، والبيهقي (1/ 238). وأما رواية إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن ابن عقيل. رواه الشافعي في الأم (1/ 60) ومن طريقه الدارقطني (1/ 215). وأما رواية عمرو بن ثابت عن ابن عقيل. فرواها الدارقطني (1/ 215).

الفصل الثاني: خلاف العلماء في تقدير طهر المستحاضة.

الفصل الثاني: خلاف العلماء في تقدير طهر المستحاضة. علمنا في المسألة الماضية خلاف العلماء في تقدير حيض المستحاضة سواء كان عشرة أيام كما عند الأحناف، أو خمسة عشر يوماً كما عند بعضهم، أو ستة أيام أو سبعة كما هو حيض غالب النساء، أو يوماً وليلة كما هو أقل الحيض، لكن في هذا الفصل سوف نناقش كيف نقدر طهر المستحاضة. أما إذا كانت مميزة، فقد سبق البحث فيها، ومتى يعتبر الدم الأحمر طهراً. وأما إذا كانت غير مميزة، بحيث يكون الدم صفته واحدة، فهذه تحتاج إلى أن نقدر طهرها كما قدرنا حيضها. فقيل: يقدر حيضها وطهرها في كل شهر .. على ما تقدم. فالحنفية عشرة أيام حيض، وعشرون يوماً طهراً (¬1). وقيل: يقدر حيضها بست أو سبع فالباقي من الشهر طهر. ويكون دورها أبداً ثلاثين يوماً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2) والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). ¬

_ (¬1) المبسوط (3/ 153)، بدائع الصنائع (1/ 41). (¬2) روضة الطالبين (1/ 144)، نهاية المحتاج (1/ 343). (¬3) كشاف القناع (1/ 206)، الإنصاف (1/ 363) إلا أن الحنابلة يختلفون عن الشافعية في هذه المسألة باشتراط تكرار الاستحاضة.

وقيل: يقدر حيضها يوما وليلةً ففي طهرها ثلاثة أوجه: أصحها: أنه تسعة وعشرون يوماً. والثاني: يقدر بأقل الطهر، فعلى هذا دورها ستة عشر يوماً (¬1). والثالث: ترد إلى غالب الطهر، ثلاثة وعشرون يوماً أو أربعة وعشرون يوماً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2). أما المالكية: فلم يقدروا الطهر بالشهر، بل اعتبروا أن ترى دماً قد أقبل غير الدم الذي كان بها، فإذا لم يأتها دم غير الدم الذي كان بها فإنها تعتبر مستحاضة أبداً: أي في حكم الطاهرة يطؤها زوجها وتصوم وتصلي ولو مكثت طول عمرها (¬3). فصارت الأقوال ترجع إلى ثلاثة أقوال: ¬

_ قال في الإنصاف (1/ 363): "يعتبر في جلوس من لم يكن دمها متميزاً تكرار الاستحاضة، على الصحيح من المذهب. نص عليه، واختاره القاضي. وقدمه في المغني، والشرح، وشرح ابن رزين، وصححه في الفروع. قال في الرعاية الكبرى: هذا أشهر، فتجلس قبل تكراره أقله، ولا ترد إلى غالب الحيض أو غيره إلا في الشهر الرابع. وعنه: لا يعتبر التكرار. اختاره المجد في شرحه. قال في الشرح: وهو أصح إن شاء الله تعالى. قال في مجمع البحرين: تثبت بدون تكرار في أصح الوجهين. قال في الفروع: اختاره جماعة. وقدمه في الرعاية الصغرى. فعليها تجلس في الشهر الثاني. (¬1) قال النووى في الروضة (1/ 144) "وهو نص غريب للشافعي رحمه الله، ثم قال: وهو شاذ ضعيف. (¬2) روضة الطالبين (1/ 144)، نهاية المحتاج (1/ 343). (¬3) المدونة (1/ 49)، المنتقى - الباجي (1/ 124)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 491)، الخرشي (1/ 206).

دليل من قدر الحيض والطهر في الشهر مرة واحدة.

الأول: في كل شهر مرة، سواء اعتبرنا أكثر الحيض كما عند الحنفية أو أقله، وهو أصح الوجهين عند الشافعية، أو أغلبه كما عند الحنابلة، ووجه عند الشافعية. وقيل: دورتها ستة عشر يوماً. يوم وليلة حيض، وخمسة عشر يوماً استحاضة. وهو رواية عند الشافعية. وقيل: الأمر يقدر بأن يقبل دم جديد غير الدم الذي كان عليها، ولا يقدرون بالشهر. وهو مذهب المالكية. دليل من قدر الحيض والطهر في الشهر مرة واحدة. قالوا: الغالب أن المرأة تحيض في الشهر مرة واحدة، ولذلك جعلت عدة المطلقة ثلاث حيض، وللمرأة التي لا تحيض لكبر أو صغر أو غيرهما ثلاثة أشهر، فجعل في مقابل كل حيضة وطهر شهراً واحداً. وقد سبق أن نقلت كلام الأطباء في الموضوع نفسه في موضع سابق. دليل من قدر طهر المستحاضة بستة عشر يوماً. قال: إذا رددنا المرأة إلى أقل الحيض، وهو يوم وليلة، رددناها إلى أقل الطهر وهو خمسة عشر يوماً، فيكون دورها ستة عشر يوماً. ورده النووي في المجموع، فقال: وهذا في غاية الضعف، قال إمام الحرمين: هذا الوجه اتباع لفظ، وإعراض عن المعنى، لأن الرد إلى أقل الحيض إنّما كان لتكثر صلاتها، فإذا ردت إلى أقل الطهر عاجلها الحيض فقلت

دليل من قدر طهر المستحاضة بثلاثة وعشرين أو أربعة وعشرين يوما.

صلاتها (¬1). وقال أيضاً في الروضة: "وهو نص غريب للشافعي رحمه الله، ثم قال: وهو شاذ ضعيف" (¬2). دليل من قدر طهر المستحاضة بثلاثة وعشرين أو أربعة وعشرين يوماً. (457) ما رواه أحمد، عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها مرفوعاً، وفيه: "إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت، واستيقنت واستنقأت، فصلي أربعاً وعشرين ليلة، أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزئك .... " الحديث (¬3). [واسناده ضعيف] (¬4). دليل المالكية على أن الطهر يستمر إلى إقبال دم جديد غير الدم الذي كان عليها. (458) ما رواه البخاري (331)، حدثنا أحمد بن يونس، عن زهير، قال: حدثنا هشام، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي (¬5). ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 424). (¬2) الروضة (1/ 144). (¬3) المسند (6/ 439). (¬4) وقد سبق تخريجه. انظر حديث 456. (¬5) صحيح البخاري (331)، ورواه مسلم بأطول من هذا (333)

ويفسرون الإقبال والإدبار بأن ترى دماً قد أقبل غير الدم الذي كان عليها، فإذا أقبل بعد طهر تام فهو حيض، وكذا الإدبار. جاء في التمهيد لابن عبد البر: "أما قول مالك في المرأة التي لم تحض قط، ثم حاضت فاستمر بها الدم، فإنها تترك الصلاة إلى أن تتم خمسة عشر يوماً، فإن انقطع عنها قبل ذلك علمنا أنه حيض واغتسلت، وإن انقطع عنها لخمس عشرة فكذلك أيضاً، وهي حيضة قائمة تصير قرءاً لها. وإن زاد الدم على خمسة عشر، اغتسلت عند انقضاء الخمس عشرة، وتوضأت لكل صلاة وصلت، وكان ما بعد خمسة عشر من دمها استحاضة، يغشاها فيه زوجها وتصلي فيه وتصوم، ولا تزال بمنزلة الطاهر حتى ترى دماً قد أقبل غير الدم الذي كان بها" (¬1). قوله: "ولا تزال بمنزلة الطاهر حتى ترى دماً قد أقبل غير الدم الذي كان بها دليل على أنهم لا يحدون طهر المستحاضة وحيضتها في كل شهر مرة". وقال أيضاً: "قال محمد بن مسلمة: أقصى ما تحيض النساء عند علماء أهل المدينة مالك وغيره خمسة عشر يوماً، فإذا رأت المرأة الدم أمسكت خمسة عشر يوماً ... ثم قال: فإن تمادى بها الدم أكثر من خمسة عشر يوماً، اغتسلت عند انقضاء الخمسة عشر، وعلمنا أنها مستحاضة، فأمرناها بالغسل لأنها طاهر، وتصلّي من يومها ذلك، ولا تصلي ما كان قبل ذلك، لأنها تركت الصلاة باجتهاد في أمر يختلف فيه، وقد ذهب وقت تلك الصلاة، وقلنا: أقيمي طاهرة حتى تقبل ¬

_ (¬1) فتح البر (3/ 491).

الحيضة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن تأتيها دفعة من دم تنكره بعد خمسة عشر يوماً من يوم غسلها، لأنه أقل الطهر عندنا، فإذا رأت الدفعة بعد خمسة عشر يوماً من الطهر كفت عن الصلاة ما دامت ترى الدم إلى خمسة عشر ثم اغتسلت وصلت فيما تستقبل كما ذكرنا" (¬1). الراجح من هذه الأقوال: إذا كنا قد رجحنا في المستحاضة المبتدأة غير المميزة أن تجلس قدر عادة أهل بيتها من أم أو أخت أو عمة وخالة، فإنها تجلس في الطهر كذلك مقدار طهرهن قل أو كثر، سواء كان ذلك يقدر في كل شهر مرة، أو في كل شهرين بحسب طهر قريباتها. والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 490). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 41)، البحر الرائق (1/ 225)، مراقي الفلاح (ص 58)، تبيين الحقائق (1/ 64)، المبسوط (3/ 153)، البناية (1/ 669)، المجموع (1/ 423)، روضة الطالبين (1/ 144)، مغني المحتاج (1/ 114)، نهاية المحتاج (1/ 343)، الروض المربع (1/ 437)، كشاف القناع (1/ 206)، معونة أولي النهى شرح المنتهى (1/ 480)، الإنصاف (1/ 363)، الفروع (1/ 274).

الفصل الثالث: في المستحاضة المعتادة

الفصل الثالث: في المستحاضة المعتادة تنقسم المستحاضة المعتادة إلى قسمين: - معتادة مميزة. - ومعتادة غير مميزة. والمقصود بالمعتادة: هي التي تعرف شهرها ووقت حيضها ووقت طهرها، هكذا عرفه البهوتي من الحنابلة في الروض المربع (¬1). ¬

_ (¬1) الروض المربع (1/ 438).

المبحث الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المعتادة المميزة

المبحث الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المعتادة المميزة قيل: إذا زاد الدم على عشرة أيام ردت إلى عادتها، وما زاد فهي مستحاضة، فتجلس مقدار عادتها، ولا تعمل بالتمييز. وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: المستحاضة المعتادة التي تميز دمها فترى منه دماً أسود محتدماً منتناً، وبعضه أصفر رقيقاً، فإن الدم الأسود حيض، ولكن هل تجلس مقدار الدم الأسود، أو تجلس مقدار عادتها؟ (¬2). فقيل: تجلس من الأسود مقدار عادتها المعلومة قبل الاستحاضة، ثم تغتسل وتصلي وتبقى مستحاضة، ورجحه ابن عبد البر في الكافي (¬3). ¬

_ (¬1) إذا زاد الدم على عادتها، فهل تستمر على ترك الصلاة والصيام؟ في مذهب الحنفية قولان: الأول: أنها تصلي وتصوم، لاحتمال أن يجاوز الدم عشرة أيام فتكون مستحاضة، فما دام أن الزيادة مترددة بين الحيض والاستحاضة فلا تترك لها الصلاة والصيام حتى يعلم أن الزيادة حيض، وذلك بانقطاعها لعشرة أيام فما دون، وهذا اختيار أئمة بلخ كما في البناية (1/ 665). الثاني: قالوا: تترك الصلاة والصيام استصحاباً للحال، ولأن دم الحيض دم صحة، ودم الاستحاضة دم علة، والأصل الصحة والسلامة من المرض. وصححه ابن الهمام في شرح فتح القدير (1/ 177)، والزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 64)، وصححه في المجتبى كما في البناية (1/ 660). (¬2) البحر الرائق (1/ 224)، شرح فتح القدير (1/ 176 - 177)، تبيين الحقائق (1/ 64)، البناية للعيني (1/ 665)، بدائع الصنائع (1/ 41). (¬3) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 32 - 33).

وقيل: إن استمر بها الدم الأسود جلست مقدار عادتها واستظهرت بثلاثة أيام ثم اغتسلت وصلت، وإن لم يستمر بها الدم الأسود جلست مقدار عادتها فقط ثم هي مستحاضة، ورجحه الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (¬1). وقيل: إن استمر بها الدم الأسود جلست إلى تمام خمسة عشر يوماً ثم هي مستحاضة، ثم بعد ذلك إن استمر بها الدم على صفة واحدة لم يتميز فهي مستحاضة في حكم الطاهرة، ولو مكثت عمرها كله هكذا، وإن تميز دمها فإن كان بعد طهر تام فالمميز حيض تجلسه على التفصيل السابق (¬2). هذا تفصيل الأقوال في مذهب مالك (¬3). ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 213). (¬2) مثاله: امرأة لها عادة معلومة ستة أيام، جاءها الدم فجلست عادتها، ثم تمادى بها الدم حتى جاوز خمسة عشر يوماً، فهى الآن مستحاضة .. فما حكمها؟ تنظر إلى الدم، فإن كان على صفة واحدة لم يتميز، فإننا نحكم لها بأنها طاهرة أبداً تصلي وتصوم ويطؤها زوجها، ولو مكثت عمرها كله هكذا، وإن كان دمها يتميز بعضه أسود وبعضه أحمر، فإن رأت الدم الأسود بعد خمسة عشر يوماً من اغتسالها، فإن الدم الأسود حيض لأنه جاء بعد طهر صحيح، ولكن هل تجلس مقدار الدم الأسود فقط أو تجلس مقدار عادتها؟ فقيل: تجلس مقدار عادتها فقط، وهو الذي رجحه ابن عبد البر. وقيل: إن استمر الدم الأسود جلست عادتها وأضافت ثلاثة أيام استظهاراً على عادتها. وقيل: إن استمر جلست خمسة عشر يوماً ثم اغتسلت، وهكذا تستمر تصلي حتى ترى دماً مميزاً بعد طهر صحيح خمسة عشر يوماً، فإذا رأته جلست. (¬3) قال الخرشي (1/ 206): "المستحاضة إن لم تميز بين الدمين، فلا إشكال أنها على حكم الطاهر، ولو أقامت طول عمرها، وتعتد عدة المرتابة، وإن كانت تميزه فالمميز من الدم إما أن يكون قبل طهر تام - التام: ما بلغ خمسة عشر يوماً فأكثر - فلا حكم له، وإما أن

والمقصود بالطهر التام، أن يبلغ أقل الطهر عندهم، وقد ذكرنا الأقوال في مذهب المالكية في أقل الطهر في مسألة مستقلة، أشهرها أنه خمسة عشر يوماً. وقيل: تعمل بالتمييز، ولا تعمل بالعادة إلا إن وافقت العادة التمييز، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: تعمل بالعادة ولا تعمل بالتمييز، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). فصارت الأقوال في المستحاضة المعتادة المميزة على قولين: الأول: العمل بالعادة وحدها دون التمييز. وهو مذهب الحنفية، والحنابلة، ووجه في مذهب الشافعية. وقيل: العمل بالتمييز. ¬

_ يكون بعد طهر تام من يوم حكم لها بالاستحاضة فالمميز حيض بالعبادة اتفاقاً، وفي العدة على المشهور، ثم قال: والدم المميز برائحة أو لون، أو رقة أو ثخن لا بكثرة أو قلة، لأنها تابعات للأكل والشرب، والحرارة والبرودة، ومفهوم قوله "مميز" لو لم يميز فهو استحاضة ومفهوم" بعد الطهر "أن المميز قبل طهر تام استحاضة" اهـ. وقال الصاوي في الشرح الصغير (1/ 213): ومفهوم قول المصنف "فإن ميزت بعد طهر تم" أنها إذا لم تميز فهى مستحاضة أبداً، ويحكم عليها بأنها طاهر، ولو مكثت طول عمرها. (¬1) الأم (1/ 61، 60)، الحاوي الكبير (1/ 404)، روضة الطالبين (1/ 150)، وقال الرملي في نهاية المحتاج (1/ 345): "ويحكم للمعتادة المميزة بالتمييز، لا العادة المخالفة له في الأصح". (¬2) كشاف القناع (1/ 208)، المبدع (1/ 278, 277)، الإقناع (1/ 66). (¬3) الحاوي الكبير (1/ 404)، روضة الطالبين (1/ 150)، نهاية المحتاج - الرملي (1/ 345).

دليل من قال: تعمل المستحاضة بالعادة دون التمييز.

وهو المشهور من مذهب المالكية والشافعية على خلاف بينهم هل تمكث التمييز فقط، أو تمكث من الأسود مقدار عادتها فقط. دليل من قال: تعمل المستحاضة بالعادة دون التمييز. الدليل الأول: (459) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة قال: أخبرني أبي عن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إني استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: لا. إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي" (¬1). ورواه البخاري، من طريق مالك عن هشام به. وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" (¬2). ورواه ابن حبان في صحيحه بسند صحيح من طريق أبي عوانة عن هشام به، وفيه: "تدع الصلاة أيامها" (¬3). ورواه ابن حبان أيضاً، من طريق أبي حمزة عن هشام به، وفيه: "ليس ذاك بحيض ولكنه عرق فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت ¬

_ (¬1) صحيح البخارى (325). (¬2) صحيح البخاري (306). (¬3) صحيح ابن حبان (1355).

الدليل الثاني

تحيضين فيه .. " (¬1) الحديث (¬2). فهذا الحديث في قصة فاطمة بنت أبي حبيش صريح في ردها إلى العادة، ولو كان التمييز مؤثراً لسألها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: هل أنت تميزين دم حيضتك من دم استحاضتك، فعلم أن التمييز لا أثر له مع كون المرأة لها عادة معلومة. الدليل الثاني: (460) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثنا محمّد بن رمح، أخبرنا الليث (ح) وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جعفر، عن عراك، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أم حبيبة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدم؟ فقالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دماً، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي (¬3). الدليل الثالث: (461) ما رواه مالك في الموطأ، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (1354). (¬2) تكلمت عن ألفاظ الحديث، والراجح منها، في مسألة سابقة. (¬3) صحيح مسلم (65 - 334).

الدليل الرابع

من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلي (¬1). [والحديث، وإن كان رجاله ثقات، إلا أنه أعل بالانقطاع، وفي إسناده اضطراب] (¬2). الدليل الرابع: (462) ما رواه الطبراني في الصغير، قال: حدثنا يونس بن محمد أبو جعفر الرازي، قاضي البصرة، حدثنا العباس بن محمّد الدوري، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أيوب أبو العلاء، عن عبد الله بن شبرمة القاضي عن قمير امرأة مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل مرة، ثم تتوضأ إلى مثل أيام أقرائها، فإن رأت صفرة انتضحت، وتوضأت، وصلت. قال الطبراني: لم يروه عن ابن شبرمة إلا أيوب أبو العلاء تفرد به يزيد ابن هارون (¬3). ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 62). (¬2) فقيل عن سليمان بن يسار عن أم سلمة. وقيل: عن سليمان، عن رجل، عن أم سلمة. وقيل: عن سليمان، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت. وقيل: عن سليمان، عن مرجانة، عن أم سلمة، وممن أعله بالانقطاع البيهقي، والمنذري. وفد سبق الكلام عليه. انظر: حديث رقم (59). (¬3) المعجم الصغير (2/ 149).

[المحفوظ وقفه على عائشة، ورفعه شاذ] (¬1). ¬

_ (¬1) الحديث مداره على قمير امرأة مسروق، عن عائشة، واختلف على قمير ... فرواه أيوب بن مسكين أبو العلاء، عن عبد الله بن شبرمة القاضي، عن قمير به مرفوعاً. ورواه الشعبي، وعاصم الأحول كلاهما، عن قمير به موقوفاً على عائشة، وهو المحفوظ، لأن من وقفه قد توبع على وقفه، وأما الرفع فقد تفرد به أيوب بن مسكين، عن عبد الله بن شبرمة، عن قمير، وأيوب ليس بالحافظ. قال ابن عدي: في حديثه بعض الاضطراب، ولم أجد في سائر أحاديثه شيئاً منكراً، ولهذا قال أحمد بن حنبل: لا بأس به، لأن أحاديثه ليست بالمناكير، وهو ممن يكتب حديثه. تهذيب الكمال (3/ 492)، وتهذيب التهذيب (1/ 359). وهذا النص يختلف عن ما ذكر في الكامل، فقد قال فيه بعد أن ساق جملة من الأحاديث، قال: وهذه الأحاديث التي ذكرتها عن أيوب أبي العلاء، هي أحاديث معروفة، ولم أجد في سائر أحاديثه غير ما ذكرت أيضاً شيئاً منكراً، ولهذا قال ابن حنبل: لا بأس به، وهو ممن يكتب حديثه، حدث عنه أهل واسط: هشيم، ويزيد ابن هارون، ومحمد بن يزيد، وغيرهم. اهـ الكامل (1/ 354). وقال أحمد: كان أيوب بن أبي مسكين رجلا صالحاً ثقة. الجرح والتعديل (2/ 259). وقال أيضاً: لا بأس به، وكان يزيد بن هارون لا يستخفه، أظنه لا يحفظ الإسناد. الكامل (1/ 354)، ضعفاء العقيلي (1/ 115). وقال أبو داود: كان يتفقه، ولم يكن يجيد الحفظ للإسناد. تهذيب التهذيب (1/ 359). وقال الحاكم أبو أحمد: في حديثه بعض الاضطراب. المرجع السابق. وقال ابن سعد: كان ثقة. الطبقات الكبرى (7/ 312). وقال الدارقطني: يعتبر به. تهذيب التهذيب (1/ 359). وقال أبو حاتم: لا بأس به، شيخ صالح، يكتب حديثه ولا يحتج به. الجرح والتعديل (2/ 259). وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان يخطيء. الثقات (6/ 60). وقال في المشاهير: كان يهم ويخالف. وذكره العقيلي في الضعفاء. ضعفاء العقيلي (1/ 115).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (463) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا مورع بن عبد الله، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم بن عتيبة، عن جعفر، ¬

_ وقال الذهبي في كتاب "من تكلم فيه وهو موثوق": وثقه غير واحد، ولينه بعضهم، ووثقه النسائي. وفي التقريب: صدوق له أوهام. وإليك تخريج الرواية الموقوفة: فقد رواه ابن أبي شيبة قال (1351): حدثنا أبو خالد الأحمر، عن المجالد وداود، عن الشعبي، قال: أرسلت امرأتي إلى امرأة مسروق، فسألتها عن المستحاضة، فذكرت عن عائشة أنها قالت: .... فهنا في الإسناد بين الشعبي وبين امرأة مسروق واسطة وهي امرأته. ورواه شعبة عن المجالد وعبد الملك بن ميسرة وبيان بن بشر، عن الشعبي، عن قمير ولم يذكر واسطة بين الشعبي وبين امرأة مسروق. وأخرجه الطحاوي (1/ 105) من طريق آدم، ثنا شعبة به. ورواه البيهقي (1/ 325) من طريق معاذ بن معاذ، عن شعبة به. وكذا رواه ابن أبي شيبة (1/ 118) من طريق مغيرة عن الشعبي أن امراة مسروق سألت عائشة فذكره ... والشعبي لم يصرح بالسماع من قمير، فلعله دلسه عنها، وإنما سمعه من امرأته عنها، ولم أعرف امرأة الشعبي، فصار الذي يرويه عن الشعبي موقوفاً على عائشة المجالد بن سعيد، وداود بن أبي هند، وعبد الملك بن ميسرة، وبيان بن بشر، والمغيرة، كلهم يرونه عن الشعبي، موقوفاً على عائشة. وتابع عاصم بن سليمان الأحول الشعبي، فرواه عبد الرزاق (1170) عن معمر، عن عاصم ابن سليمان عن قمير، عن عائشة موقوفاً.

الدليل السادس

عن سودة بنت زمعة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها ثم تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ لكل صلاة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السادس: (464) روى الطبراني في الأوسط (¬3)، وفي الصغير (¬4)، قال: حدثنا إبراهيم بن أيوب الواسطي، قال: حدثنا وهب بن بقية (¬5)، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، أن فاطمة بنت قيس قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المستحاضة، قال: تعتد أيام أقرائها ثم تغتسل كل طهر، ثم تحتشي وتصلي". قال الطبراني: لم يروه عن ابن جريج إلا جعفر. [إسناده ضعيف من أجل عنعنة ابن جريج، فإنه مدلس مكثر، وكذا عنعنة أبي الزبير عند من عده مدلساً مكثراً، وهو صالح في الشواهد] (¬6). ¬

_ (¬1) الأوسط (9184). (¬2) شيخ الطبراني لم أقف عليه، وجعفر لم ينسب حتى يتبين لي من هو؟. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 281)، وفيه جعفر عن سودة لم أعرفه. (¬3) الأوسط (2984). (¬4) المعجم الصغير (1/ 86). (¬5) في الأوسط وهب بن حمنة، وهو خطأ وما في الصغير ومجمع البحرين أصح. (¬6) ورواه الطبراني أيضاً في الأوسط (1620) من طريق عبد الله بن علي، عن عبد الله ابن

الدليل السابع

وفاطمة بنت قيس هذه، هي فاطمة بنت أبي حبيش، فإن أبا حبيش اسمه قيس بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، ذكر هذا النسب صاحب تهذيب الكمال (¬1). الدليل السابع: (465) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمّد بن جعفر بن زياد، حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، قال: ثنا شريك عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت عن ¬

_ محمّد بن عقيل، عن جابر به مرفوعاً إلا أنه خالف في لفظه، ولفظه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة. اهـ وليس فيه تدع الصلاة أيام أقرائها. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي أيوب الإفريقي، وهو عبد الله بن علي إلا أبو يوسف. وفي الإسناد عبد الله بن علي، أبو أيوب الإفريقي. قال أبو زرعة: ليس بالمتين، في حديثه إنكار، هو لين. الجرح والتعديل (5/ 115). وقال أبو حاتم: مجهول كما في العلل لابنه (1059). وقال الدوري ليحيى بن معين: هل هو ثقة؟ قال: نعم، ليس به بأس. تهذيب التهذيب (5/ 258). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (7/ 21). وقال مغلطاي في إكماله: ذكره ابن خلفون في الثقات، نقلاً من حاشية بشار على تهذيب المزي (15/ 325). وفي التقريب: صدوق يخطيء. وفي الإسناد ابن عقيل، سبق تحرير الكلام فيه، وأكثر العلماء على ضعفه. وفي التقريب: صدوق، وفي حديثه لين، ويقال: تغير بآخره. فالإسناد صالح في الشواهد. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 281): فيه عبد الله بن عقيل، مختلف في الاحتجاج به. (¬1) انظر تهذيب الكمال، رقم الترجمة (7900).

دليل من قال: تعمل بالتمييز ولا عبرة بالعادة.

أبيه, عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي والوضوء عند كل صلاة (¬1). [والحديث إسناده ضعيف جداً]. هذه الأدلة كلها تحيل الاستحاضة إلى العادة، والدليل الأول وحده كافٍ، فإنه في الصحيحين، وكذا الدليل الثاني في مسلم. دليل من قال: تعمل بالتمييز ولا عبرة بالعادة. الدليل الأول: (466) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، عن زهير قال: حدثنا هشام، عن عروة، عن عائشة قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي (¬2). ورواه مسلم، من طريق وكيع عن هشام به، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله: إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي (¬3). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (297). وسبق تخريجه. انظر: حديث رقم (60). (¬2) صحيح البخاري (331). (¬3) صحيح مسلم (333).

قال الحافظ في الفتح: في الحديث دليل على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة، تعتبر دم الحيض، وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه، ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث (¬1). وقال ابن رجب في شرح البخاري: وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فقد اختلف العلماء في تأويله، فتأوله الأكثرون، منهم مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، على أن المراد به اعتبار التمييز، وأن هذه المستحاضة كان دمها متميزاً، بعضه أسود وبعضه غير ذلك، فردها إلى زمن دم الحيض، وهو الأسود الثخين، فإذا أقبل ذلك الدم تركت الصلاة، فإذا أدبر وجاء دم غيره، فإنها تغتسل وتصلي اهـ (¬2). فإذاً الجمهور يفسر أن قوله في الحديث: "فإذا أقبلت الحيضة، وإذا أدبرت" أن المقصود بإقباله عن طريق التمييز، أي فإذا أقبل الدم الأسود فاتركي الصلاة، وإذا أدبر الدم الأسود فاغتسلي وصلي. والصحيح أن المقصود بالإقبال ليس إقبال الدم الأسود، بل إقبال العادة والإدبار إدبارها، فيكون معنى الحديث، فإذا أقبل وقت العادة حملاً على الروايات الأخرى ... فإن الحديث هو حديث عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش ومداره على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. فرواه مالك عن هشام وفيه: ¬

_ (¬1) فتح الباري، في شرحه لحديث (306). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 56).

"فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" (¬1). وهذا ظاهره اعتبار العادة. ورواه أبو أسامة عن هشام في البخاري: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها" (¬2). ورواه ابن حبان، من طريق أبي عوانة عن هشام به، وفيه: "تدع الصلاة أيامها" (¬3). وقوله: "فإذا أقبلت وإذا أدبرت" لا يلزم منه العمل بالتمييز، فقد روى ابن حبان أيضاً حديث فاطمة بنت أبي حبيش، من طريق أبي حمزة السكري عن هشام به، وفيه: "فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيها، فإذا أدبرت فاغتسلي وتوضي لكل صلاة" (¬4). فهنا أمرها إذا أقبل الحيض أن تجلس مقدار عادتها، وعليه فيفهم من قوله: "فإذا أقبلت، وإذا أدبرت" أنه لا يعارض العمل بالعادة المستقرة، وكوننا نجمع بين الروايات المختلفة أولى من كوننا نعتبر بعض الروايات تردها إلى العادة وبعضها تردها إلى التمييز، مع أن القصة واحدة، واحتمال التعدد بعيد (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (306). (¬2) صحيح البخاري (325). (¬3) صحيح ابن حبان (1355). (¬4) صحيح ابن حبان (1354). (¬5) وإليك استكمال تخريج روايات حديث عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ حبيش. الحديث مداره على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ... وورد بعدة ألفاظ: اللفظ الأول: "فإذا أقلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي". أخرجه مالك في الموطأ (1/ 61) عن هشام به، ولفظه: "قالت فاطمة بنت أبي حبيش يا رسول الله، إني لا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي". وأخرجه البخاري (306): حدثنا عبد الله بن يوسف، قال أخبرنا مالك به. وأخرجه أبو داود (283)، حدثنا القعنبي، عن مالك به، ومن طريق القعنبي أخرجه البيهقي (1/ 329)، وابن حبان (1350). وأخرجه النسائي (366) أخبرنا قتيبة عن مالك به. وأخرجه الدارقطني (1/ 206) من طريق إسماعيل المدني، وابن وهب، ومعن بن عيسى، وعبد الله بن يوسف، أربعتهم عن مالك، عن هشام به. وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 321) من طريق الشافعي، أنبأ مالك به. وأخرجه البغوي في شرح السنة (324) من طريق مصعب، عن مالك به. وهل انفرد مالك بقوله: "فإذا ذهب قدرها"؟ الجواب: لا، فقد رواه أبو عوانة في مسنده (1/ 319)، والطحاوي (1/ 103، 102) قالا: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثني ابن وهب، قال: حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، ومالك بن أنس، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، أن هشام بن عروة أخبرهم عن أبيه عن عائشة، فذكر مثل لفظ مالك. قال ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 325): "وظاهر هذا موافقة من ذكر مع مالك في قوله: "فإذا ذهب قدرها ... الخ" ويحتمل أن يكون ابن وهب جعل اللفظ لمالك واتبع بالباقين، ولم يعتبر اللفظ. قال: وفي هذ الاحتمال بعد" اهـ. بل هو احتمال قريب جداً، بل متعين. قلت: تابع مالكاً أيضاً حماد بن سلمة، إلا أنه زاد ذكر الوضوء. فقد رواه الدارمي (779): أخبرنا حجاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة، عن هشام به،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني امراة استحاض، أفأترك الصلاة؟ قال: لا. إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي ... "، وسيأتي الحديث عن حكم الوضوء لكل صلاة في باب طهارة المستحاضة. اللفظ الثاني: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". وليس هناك فرق بينها وبين رواية مالك إلا في قوله: "وإذا أدبرت"، فإن لفظ مالك: "فإذا ذهب قدرها" وهو لفظ حماد بن سلمة. وأكثر الرواة على لفظ: "وإذا أدبرت" منهم وكيع، وزهير، وأبو معاوية، وحماد بن زيد، ومعمر، وعبد العزيز بن محمّد، وجرير، وعبد الله بن نمير، وعبدة، وجعفر بن عون، ويحيى ابن سعيد القطان، وأبو حنيفة فهؤلاء أحد عشر حافظاً رووه بلفظ: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". وإليك تخريجها: أمّا طريق وكيع عن هشام به. فأخرجها أحمد (6/ 194)، ومسلم (333)، والترمذي (125)، والنسائي (359)، وابن ماجه (621)، وأبو عوانة (1/ 319). وأما طريق زهير عن هشام به. فأخرجه البخاري (331)، وأبو داود (282). واما رواية يحيى بن سعيد القطان عن هشام. فعند أحمد (6/ 194)، وفي آخره قال يحيى: قلت لهشام: أغسل واحد تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم. وأخرجه الدارقطني (1/ 206) من طريقين عن يحيى بن سعيد القطان. وأما طريق ابن معاوية عن هشام به. فرواها البخاري (228)، ومسلم (333)، والترمذي (125)، والنسائي (359)، والدارقطني (1/ 206).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأما رواية حماد بن زيد عن هشام به. فرواها مسلم (234)، والنسائي (364). وأما رواية معمر عن هشام به. فرواها عبد الرزاق (1165). وأما رواية جعفر بن عون. فرواها أبو عوانة في مسنده (1/ 319)، والدارمي (774)، وابن الجارود في المنتقى (112). وأما رواية عبد العزيز بن محمّد عن هشام به. فعند مسلم (333). وأما رواية ابن جرير، وابن نمير. فعند مسلم (333). وأما رواية عبدة. فعند الترمذي (125). وأما رواية ابي حنيفة عن هشام. فعند الطحاوي (1/ 102). ورواه ابن عيينة بمثل روايتهم إلا أنه قال: "فاغتسلي وصلي"، ورواية الجماعة" فاغسلي عنك الدم وصلي". ورواية ابن عيينة في البخاري (320)، ورواه الحميدي في مسنده، وشك فيه ابن عيينة. قال الحميدي (193): ثنا يوسف، قال: ثنا هشام بن عروة به، وفيه: "فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي" أو قال: "اغسلي عنك الدم وصلي". وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 327) من طريق الحميدي على الشك. قلت: قد رواه جماعة عن ابن عيينة بدون شك. منهم: عبد الله بن محمّد كما عند البخاري (320) وتقدم ذكرها. وأخرجه البيهقي (1/ 327) من طريق ابن أبي عمر، عن ابن عيينة بدون شك "فاغتسلي وصلي" وذكر صاحب الجوهر النقي (1/ 324) أن الإسماعيلي أخرجه من طريق محمّد بن الصباح، عن ابن عيينة بدون شك، وكذا أخرجه أبو العباس السراج في مسنده، قال: وأورد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ابن منده رواية الحميدي عن ابن عيينة بدون شك. وجاء لفظ فاغتسلي وصلي من غير طريق ابن عيينة، ورواه البخاري (325) من طريق أبي أسامة عن هشام به، وفيه: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي". فخالف الجماعة بقوله: "قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها"، ووافق ابن عيينة بقوله: "فاغتسلي وصلي". وقد جاء لفظ "فاغتسلي وصلي" في قصة أم حبيبة، فقد روى مسلم (334) وغيره الحديث من طريق الزهري، عن عروة عن عائشة: "إنما ذلك عرق، فاغتسلي، ثم صلي". قال الحافظ في الفتح (306): "الاختلاف واقع بين أصحاب هشام، منهم من ذكر غسل الدم ولم يذكر الاغتسال، ومنهم من ذكر الاغتسال، ولم يذكر غسل الدم، وكلهم ثقات وأحاديثهم في الصحيحين" اهـ. قلت: لم يخرج مسلم لفظ: "فاغتسلي وصلي" من طريق هشام والذي ورد في مسلم إنما هو: "فاغسلي عنك الدم وصلي". ومن رواه بلفظ: "فاغسلي عنك الدم وصلي" سبعة عشر حافظاً ممن وقفت عليهم: 1 - مالك، 2 - الليث بن سعد، 3 - عمرو بن الحارث، 4 - سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، 5 - أبو حنيفة، 6 - وكيع، 7 - زهير، 8 - أبو معاوية محمّد بن خازم، 9 - حماد بن زيد، 10 - حماد بن سلمة، 11 - معمر، 12 - عبد العزيز بن محمّد الداروردي، 13 - جرير، 14 - عبد الله بن نمير، 15 - عبدة، 16 - يحيى بن سعيد القطان، 17 - جعفر بن عون. ورواه بلفظ: "فاغتسلي وصلي" ابن عيينة، وأبو أسامة، ولم يتفقوا على متنه. فلفظ سفيان: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذ أدبرت فاغتسلي وصلي". ولفظ أبي أسامة: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي" اللفظ الثالث للحديث: لفظ أبي أسامة عن هشام به. "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي" رواه البخاري (325)، ولم ينفرد أبو أسامة بل تابعه غيره، فقد أخرج البيهقي (1/ 324) من طريق

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ هارون بن عبد الله، ثنا أبو أسامة ومحمد بن كناسة، وجعفر بن عون عن هشام عن أبيه عن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي" أو كما قال. ورجح البيهقي أن اللفظ لفظ أبي أسامة، باعتبار أن هارون بن عبد الله جعل اللفظ لأول مذكور، وهو أبو أسامة، وأتبع بالباقين ولم يعتبر ألفاظهم. ومما يؤيد كلام البيهقي أن رواية جعفر بن عون قد خرجها أبو عوانة في مسنده (1/ 319)، وهي موافقة للفظ الجماعة وليست موافقة لرواية أبي أسامة. كما أن أبا أسامة قد اختلف عليه فجاء عنه الحديث كما سبق. أخرجه البيهقي (1/ 325) من طريق ابن كرامة، ثنا أبو أسامة عن هشام به فذكر الحديث، وفيه: "أفأدع الصلاة؟ قال: لا. وإنما ذلك عرق، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي". قال البيهقي: وهذا أولى أن يكون محفوظاً لموافقته رواية الجماعة إلا أنه قال: "فاغتسلي". اللفظ الرابع للحديث. طريق أبي عوانة عن هشام به، بلفظ: "تدع الصلاة أيامها، ثم تغتسل غسلاً واحداً ثم تتوضأ عند كل صلاة". أخرجها ابن حبان (1355) بسند صحيح، ولعل أبا عوانة اختصرها ورواها في المعنى. اللفظ الخامس للحديث: طريق أبي حمزة محمّد بن ميمون السكري عن هشام .. وفيه: "فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيها، فإذا أدبرت فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة". انفرد بهذا اللفظ أبو حمزة السكري واختلف عليه فيه. فرواه ابن حبان (1354) من طريق علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا أبو حمزة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعاً. وخالفه عبد الله بن عثمان، فرواه البيهقي (1/ 544) من طريق عبد الله بن عثمان، ثنا أبو حمزة قال: سمعت هشاماً يحدث عن أبيه أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول ...

الدليل الثاني

الدليل الثاني: مما يستدل به على تقديم التمييز على العادة (467) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمّد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن محمّد - يعني ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي (¬1). [والحديث إسناده منقطع، ومتنه منكر]، وسبق تخريجه في المستحاضة المبتدأة. والمعروف في قصة فاطمة بنت أبي حبيش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردها إلى العادة. وقد ضعفه النسائي، وأبو حاتم، وابن القطان، والباجي في المنتقى شرح الموطأ، ومن حسنه ظن أن حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش بلفظ: "فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" ظن أنه يشهد له من العمل بالتمييز، وقد بينا أن المراد فإذا أقبلت أي العادة، وإذا أدبرت: أي العادة أيضاً، وليس المراد إذا أقبل وأدبر الدم الأسود، جمعاً بينه وبين ¬

_ فأرسله. فهذه خمسة ألفاظ لحديث عائشة في قصة استحاضة فاطمة، ولي إن شاء الله تعالى وقفة أخرى مع الحديث حول تحقيق زيادة: "وتوضئي لكل صلاة" في طهارة المستحاضة. والذي أميل إليه أن رواية الجماعة هي المحفوظة، وما عداها فإما أن تكون قد رويت بالمعني، أو تكون شاذة. والله أعلم. (¬1) سنن أبي داود (304). انظر: حديث رقم (449).

الدليل الثالث

الألفاظ الأخرى في الحديث. والله أعلم. الدليل الثالث: (468) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن خالد - يعني الحذاء - عن أنس بن سيرين، قال: استحيضت امرأة من آل أنس، فأمروني فسألت ابن عباس، فقال: أما ما رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة من النهار - فلتغتسل وتصلي (¬1). [إسناده صحيح]، وسبق ذكره. والجواب: إما أن يقال: هذا موقوف، ولا يعارض به ما كان مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما أن يقال: نقبله في المرأة المبتدأة المميزة التي لا عادة لها، وكذا من نسيت عادتها، وأما المرأة المعتادة فلا يمكن أن نقدم قول ابن عباس على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد رد فاطمة بنت أبي حبيش إلى عادتها. الدليل الرابع: قالوا إن العمل بالتمييز أولى من العمل بالعادة، لأن العادة قد تختلف، والتمييز لا يختلف، ولأن النظر إلى اللون اجتهاد، والنظر إلى العادة تقليد، والاجتهاد أولى من التقليد (¬2). وهذا النظر هو في مقابلة النص فيكون نظراً فاسداً، وكل نظر في مقابلة ¬

_ (¬1) المصنف (1/ 120) رقم 1367. (¬2) عارضة الأحوذي لابن العربي (1/ 210).

الدليل الخامس

النص الشرعي فهو مطروح. الدليل الخامس: قالوا: إن دم الحيض موصوف بأنه أذى، وهو يختلف عن دم العرق الذي هو دم الاستحاضة بصفته، ولو كانت صفتهما واحدة لما فرق الشارع بينهما في الأحكام، فإذا رأت الدم الموصوف بالأذى رأت لونه ورائحته، وثخونته، وجب أن تعمل به، خاصة وأن الحيض من الأحكام المعقولة المعنى؛ لأن الله وصفه بكونه أذى، فوجب ترك الصلاة إذا رأت ما تعرفه المرأة من دم الحيض ولو خالف عادتها. وأجيب: بأن هذا النظر ممكن أن يكون جيداً لولا أنه في مقابلة النص، وكل نظر يصادم النص فهو نظر قاصر وإن كان قد يبدو في الظاهر خلاف ذلك، وممكن أن يقال: إن هذه المرأة المستحاضة اختلط دم حيضها بدم استحاضتها، فتركت العمل بالدم وحكمت العادة بصرف النظر عن لون الدم ورائحته ... والله أعلم. دليل المالكية على أنها إذا كانت مميزة جلست منه قدر عادتها، وإن لم تكن مميزة فهي طاهر أبداً. جمعوا بين روايات حديث عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي"، حملوه على التمييز، فإذا ميزت دم الحيض من دم

الاستحاضة صارت حائضاً، وتجلس مقدار العادة عملاً بحديث: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك". فحتى نعمل بكلا اللفظين فيقال: إذا تميز دم الحيض من دم الاستحاضة فأنت حائض، واجلسي من هذا الدم الأسود مقدار عادتك فقط. وقد جاءت رواية تجمع بينهما بين العمل بالتمييز، وبين الجلوس مقدار العادة، (469) وهو ما رواه ابن حبان (¬1)، من طريق علي بن الحسن بن شقيق، قال: أخبرنا أبو حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه. عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني استحاض الشهر والشهرين؟ قال: ليس ذاك بحيض، ولكنه عرق، فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيها، فإذا أدبرت فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة (¬2). فقوله "فإذا أقبل الحيض" أي أقبل الحيض بلونه، ورائحته وثخونته وهذا عمل بالتمييز، ومعناه إذا لم يقبل ولم يتميز فأنت طاهر أبداً. وقوله: "فدعي الصلاة عدد أيامك" أي فإذا تميز دم الحيض من دم الاستحاضة فاجلسي من الدم الأسود المنتن مقدار عادتك السابقة فقط لا مقدار ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (1354). (¬2) انفرد بهذا اللفظ أبو حمزة السكري عن هشام، وجميع من رواه عن هشام لم يذكر الحديث بهذا اللفظ، ثم إن أبا حمزة السكري قد اختلف عليه، فروى عنه مرسلاً، وروي عنه موصولاً، انظر: تخريج الحديث في القول الذي قبل هذا، وقد سقت جميع ألفاظه.

الدم الأسود. القول الراجح: الراجح من هذه الأقوال والله أعلم القول الأول، وأن المستحاضة المعتادة تعمل بعادتها ولا تعمل بالتمييز.

المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المعتادة غير المميزة

المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المعتادة غير المميزة إذا كانت المستحاضة المعتادة غير مميزة، بحيث يكون دمها على صفة واحدة، لا يتميز بعضه من بعض على الصحيح. أو يكون الدم الذي يصلح للحيض ينقص عن أقل الحيض أو يزيد على أكثره عندهم (¬1). فقيل: تجلس مقدار عادتها ثم تغتسل وتصلي. وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4). وأما مذهب مالك فيمن استمر معها الدم وكانت معتادة عدة روايات. الراوية الأولى: أنها تجلس عادتها، وتستظهر بثلاثة أيام، ومحل الاستظهار بالثلاثة ما لم تجاوز نصف الشهر، فمن اعتادت نصف الشهر فلا استظهار عليها، ومن عادتها أربعة عشر يوماً استظهرت بيوم واحد فقط، ومن كانت عادتها سبعة أيام استظهرت بثلاثة فقط، ثم اغتسلت وصامت وصلت. ¬

_ (¬1) وهو مبني على أن الحيض له حد لأقله وأكثره. وقد بينت ضعف هذه الأقوال. (¬2) بدائع الصنائع (1/ 41)، البناية - العيني (1/ 665)، المبسوط (3/ 178). (¬3) الوسيط (1/ 430)، روضة الطالبين (1/ 145)، حاشية الشيخ إبراهيم البيجوري على متن أبي شجاع (1/ 214)، نهاية المحتاج (1/ 344). (¬4) قال في الإنصاف (1/ 365): "اعلم أنه إذا كانت المستحاضة لها عادة تعرفها، ولم يكن لها تمييز، فإنها تجلس العادة بلا نزاع". اهـ. وانظر الإقناع (1/ 66)، المحرر (1/ 26، 27)، الفروع (1/ 274).

هذا قول مالك، وأصل مذهبه، والمذكور في المدونة (¬1). وبقي في مذهب مالك عدة روايات. قيل: تقعد إلى تمام خمسة عشر يوماً ثم هي مستحاضة (¬2). وقيل: تقعد عادتها بدون استظهار ثم تغتسل وتصلي. وهذا قول محمّد بن مسلمة (¬3). وقيل: تقعد أيامها المعتادة ثم تغتسل وتصلي وتصوم، ولا يأتيها زوجها، فإن انقطع الدم ما بينها وبين خمسة عشر يوماً علم أنها حيضة، وانتقلت إليها، ولا يضرها ما صامت وصلت فيه، وإن تمادى بها الدم على خمسة عشر يوماً علم ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 50)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 490)، المقدمات الممهدات (1/ 130)، الشرح الصغير (1/ 210). ولم يبين مالك - رحمه الله - إن كان يطؤها زوجها فيما بينها وبين الخمسة عشر يوماً ومن ثم اختلف أصحابه على قولين. الأول: أنها بعد الاستظهار، تغتسل وجوباً، وتصلي، وتصوم، وتطوف إن كانت حاجة، ويأتيها زوجها. وهو ظاهر رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة. وعلى هذه الرواية يكون غسلها بعد تمام خمسة عشر يوماً استحباباً لا وجوباً. الثاني: أنها بعد الاستظهار، تغتسل استحباباً، وتصوم وتقضي الصيام ولا يطؤها زوجها، ولا تطوف طواف الإفاضة إلى تمام خمسة عشر يوماً ثم تغتسل وجوباً وتكون مستحاضة. وهذا ظاهر رواية ابن وهب عن مالك في كتاب الوضوء من المدونة. والأول: هو الراجح في مذهب مالك، اختاره صاحب الشرح الصغير (1/ 210) ومختصر خليل (ص 19) وقال في حاشية الدسوقي (1/ 169): وهذا مذهب المدونة (¬2) المقدمات الممهدات (1/ 131)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 490)، (¬3) المقدمات (1/ 131)، وهذا القول من محمّد بن مسلمة موافق لما ذهب إليه الجمهور في القول الأول.

دليل الجمهور على اعتبار العادة.

أنها كانت مستحاضة، وأن ما مضى من الصلاة والصيام كان في موضعه. فإن استمر الدم لا يتميز بعد أن جلست ما جلست على التفصيل السابق فهي مستحاضة أبداً تصلي وتصوم حتى يتميز دمها، فإن تميز أصبحت مستحاضة معتادة مميزة وقد نقلنا الأقوال فيها في مسألة مستقلة (¬1). هذا ملخص أقوال مالك. دليل الجمهور على اعتبار العادة. الدليل الأول: (470) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا. إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي صلي (¬2). الدليل الثاني: (471) ما رواه مسلم، قال رحمه الله تعالى: حدثنا محمّد بن رمح، أخبرنا الليث (ح) وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جعفر، عن عراك، عن عروة، ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) صحيح البخاري (325).

دليل من قال: تجلس عادتها وتستظهر بثلاثة أيام.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أم حبيبة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدم؟ فقالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دماً، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي. وفي الباب حديث أم سلمة، وسودة، وجابر، وثابت الأنصاري عن أبيه، سقناه في المسألة التي قبل هذه وتكلمت عليها صحة وضعفاً. دليل من قال: تجلس عادتها وتستظهر بثلاثة أيام. الدليل الأول: (472) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر ابن إسحاق الفقيه، ثنا إبراهيم بن إسحاق، ثنا ابن عبد الملك - يعني: محمداً - ثنا الفريابي، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن حرام بن عثمان، عن ابن جابر، عن أبيه، أن ابنة مرشد الأنصارية، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: تنكرت حيضتي. قال: كيف؟ قالت: تأخذني، فإذا تطهرت منها عاودتني، قال: فإذا رأيت ذلك فامكثي ثلاثاً (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬

_ (¬1) سنن البيهقي (1/ 330). (¬2) قال البيهقي بعده: قال أبو بكر بن إسحاق: الخبر واهٍ. وقال البيهقي: حرام بن عثمان ضعيف لا تقوم بمثله حجة. وقال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 224): احتجوا بحديث رواه حرام بن عثمان، عن ابني جابر، عن جابر، أن أسماء بنت مرشد الحارثية، كانت تستحاض، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال لها: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اقعدي أيامك التي كنت تقعدين، ثم استظهري بثلاث، ثم اغتسلي

الدليل الثاني

الدليل الثاني من القياس: قال ابن عبد البر في الاستذكار (¬1): جعل الاستظهار بثلاثة أيام ليستبين منها انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة استدلالاً بحديث المصراة؛ إذ حَدَّ فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام في انفصال اللبن: لبن التصرية من اللبن الطارئ. والقول بالاستظهار قول ضعيف، ولا يعرف قائل به من الأئمة غير مالك. اهـ (¬2) ¬

_ وصلي". ورواه إسماعيل بن إسحاق، قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة، قال: ثنا عبد العزيز بن محمّد الداروردي، عن حرام بن عثمان، عن محمّد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله، عن أبيهما، عن أسماء بنت مرشد كانت تستحاض، فذكر معنى ما ذكرناه. قال ابن عبد البر: وهذا حديث لا يوجد إلا بهذا الإسناد، وحرام بن عثمان المدني متروك الحديث، مجتمع على طرحه لضعفه ونكارة حديثه، حتى لقد قال الشافعي: الحديث عن حرام بن عثمان حرام. وقال بشر بن عمر: سألت مالك بن أنس عن حرام بن عثمان، فقال: ليس بثقة. اهـ (¬1) الاستذكار (3/ 223، 224). (¬2) الاستظهار، قال الأزهري في تاج العروس (7/ 169): الاستظهار: الاحتياط، وأصله اتخاذ الظَّهْريْ من الدواب عُدَّةً للحاجة إليه احتياطاً؛ لأنه زيادة على قدر حاجة صاحبه إليه، وإنما الظِّهْرِي: الرجل يكون معه حاجته من الركاب لحمولته، فيحتاط لسفره، ويَعُدُّ بعيراً أو بعيرين أو أكثر تكون فرَّغاً تكون معدة لاحتمال ما انقطع من ركابه ثم أقيم الاستظهار مقام الاحتياط في كل شيء. وإذا كان الاستظهار هو الاحتياط فبين المعنى اللغوى والمعنى الاصطلاحي تقارب، وعليه فالاستظهار بثلاثة أيام عند المالكية، هو الاحتياط بحيث تجلس زيادة على حيضتها ثلاثة أيام لا تصلي ولا تصوم ولا يطؤها زوجها.

وقد استدل ابن عبد البر بحديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". على تضعيف القول بالاستظهار. قال في الاستذكار: "الحديث فيه رد على من قال بالاستظهار، لأنه أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت، وذهبت أن تغتسل وتصلي ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لاستظهار حيض يجيء أو لا يجيء، والاحتياط إنما يجب في عمل الصلاة، لا في تركها ثلاثة أيام. ولا يخلو قوله عليه السلام في الحيضة "فإذا ذهب قدرها" أن يكون أراد انقضاء أيام حيضها لمن تعرف الحيضة وأيامها، أو يكون أراد انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة لمن تميزه، فأي ذلك كان فقد أمرها عند ذهاب حيضتها أن تغتسل وتصلي، ولم يأمرها باستظهار" (¬1). وقال أيضاً: "السنة نفي الاستظهار، لأن أيام دمها جائز أن تكون استحاضة وجائز أن تكون حيضاً، والصلاة فرض بيقين، فلا يجوز أن تدعها ¬

_ والاستظهار عند مالك قال ابن عبد البر في حق امرأتين فقط. الأولى: في المعتادة التي تمادى بها الدم تجلس ثم تستظهر بثلاثة أيام فقط. الثانية: في المبتدأة تجلس أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة أيام، قال ابن عبد البر: ولا استظهار عند مالك إلا لهاتين المرأتين في هذين الموضعين. انظر: الاستذكار (3/ 223). قلت: المبتدأة فيها خلاف هل تستظهر أم لا. وكذا في الشرح الصغير (1/ 217) قال: أربعة لا تستظهر واحدة منهن وهي المبتدأة، والحامل، والمستحاضة، والنفساء. اهـ. (¬1) الاستذكار (3/ 222).

دليل من قال: تقعد المستحاضة المعتادة خمسة عشر يوما

حتى تستيقن أنها حائض. وذكروا أن مالكاً وغيره من العلماء قالوا: لأن تصلي المستحاضة وليس عليها ذلك، خير من أن تدع الصلاة، وهي واجبة عليها؛ لأن الواجب الاحتياط للصلاة فلا تترك إلا بيقين لا بالشك فيه" اهـ (¬1). دليل من قال: تقعد المستحاضة المعتادة خمسة عشر يوماً: هذا القول مبني على مسألة خلافية. وهو أن الحيض لا يمكن أن يتجاوز خمسة عشر يوماً. وقد فصلت الخلاف في هذه المسألة، وبينت الراجح وأن الحيض لا حد لأكثره. وإذا كان ذلك كذلك فإن هذا القول مبني على قول ضعيف فيكون ضعيفاً. الراجح: قول الجمهور، وأن المرأة تجلس مقدار عادتها. والأحاديث في هذا صريحة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق.

الفصل الرابع: في المرأة المستحاضة المتحيرة

الفصل الرابع: في المرأة المستحاضة المتحيرة المرأة المستحاضة المتحيرة لها ثلاثة أحوال: الأول: المتحيرة في العدد. وهي التي نسيت عدد أيامها في الحيض، مع علمها بمكان العادة من كل شهر. الثاني: المتحيرة في المكان. وهي التي علمت عدد حيضها ونسيت مكانها. الثالث: المتحيرة بهما، وهي التي نسيت عدد عادتها، ونسيت مكانها. والمتحيرة وتوصف بالمتحيرة بصيغة اسم الفاعل، لأنها تحير المفتي، وبصيغة اسم المفعول، لأنها تحيرت بسبب نسيانها. ومسائل المحيرة من أصعب مسائل الحيض وأدقها، ولها صور كثيرة، وتفريعات دقيقة، كلها أو جلها بنيت على الآراء المحضة حتى قال النووي: بأن الدارمي صنف فيها مجلداً ضخماً ليس فيه غير مسألة المتحيرة، وتقريرها (¬1). ولو أتينا على هذه التفريعات المرجوحة لكان هذا عيباً في الكتاب، وصارفاً لطلبة العلم من الاستفادة منه. ويكفينا من هذه الأقوال المرجوحة أن نأتي على ذكرها بأشد ما يكون الاختصار. لأن إهمالها قد ينتقد والتفصيل فيها كذلك ولقد ¬

_ (¬1) وقد طبع الكتاب بعد تحرير هذا الباب.

أحسن الشوكاني عندما قال في النيل: "وقد أطال المصنفون في الفقه الكلام في المستحاضة، واضطربت أقوالهم اضطراباً يبعد فهمه على أذكياء الطلبة فما ظنك بالنساء الموصوفات بالعي في البيان، والنقص في الأديان، وبالغوا في التعسير حتى جاءوا بمسألة المتحيرة فتحيروا، والأحاديث الصحيحة قد قضت بعدم وجودها، وذلك لأن بعضها ظاهر في معرفتها إقبال الحيضة وإدبارها، وبعضها صريح في أن دم الحيض يعرف ويتميز عن دم الاستحاضة فطاحت مسألة المتحيرة، ولله الحمد" اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (1/ 334) ح 368.

المبحث الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة بالعدد

المبحث الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة بالعدد المتحيرة بالعدد،: هي التي نسيت عدد أيامها في الحيض، مع علمها بمكان العادة من كل شهر. القول الأول: مذهب الحنفية. قسموا المستحاضة المتحيرة في العدد فقط إلى قسمين: الأول: إذا نسيت عدد أيامها، وعلمت أن الحيض يأتيها في كل شهر مرة فهذه يجب عليها أن تجلس أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليها من أول الاستمرار لتيقنها بالحيض فيها.، وتغتسل سبعة أيام لكل صلاة لتردد حالها فيها بين الحيض، والطهر، والخروج وإنما قالوا سبعة أيام، لأنه مع الثلاثة أيام تكون قد بلغت أكثر الحيض وهو عشرة أيام، ثم تتوضأ عشرين يوماً لوقت كل صلاة لتيقنها فيها بالطهر ويأتيها زوجها. الثاني: أن تنسى عدد أيامها، ولا تعلم أن الحيض يأتيها في كل شهر مرة فلا تدري كم دورتها. ففيها وجهان: الوجه الأول: لا تعلم عدد حيضها، ولا عدد طهرها. فهذه تعمل ما يلي: تدع الصلاة أقل الحيض ثلاثة أيام، لأنه حيض بيقين. ثم تصلي سبعة أيام بالاغتسال لكل صلاة بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر، والخروج من الحيض .. ولا يأتيها زوجها في هذه العشرة أيام،

ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة، ويأتيها زوجها فيها، لأنها بيقين الطهر في هذه الثمانية، فإنه إن كان حيضها ثلاثة أيام، فهذا آخر طهرها، وإن كان حيضها عشرة فهذا أول طهرها. ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ولا يأتيها زوجها، فبلغ الحساب واحداً وعشرين يوماً. ثم تصلي بعد ذلك بالاغتسال لكل صلاة بالشك، لأنه لم يبق لها يقين بالطهر ولا بالحيض بعد هذا، فما من ساعة بعد هذا إلا ويتوهم أنه وقت خروجها من الحيض إما بالزيادة في حيضها على الثلاثة، أو في طهرها على خمسة عشر. الوجه الثاني: لا تعلم عدد حيضها، وتعلم عدد طهرها. مثاله: امرأة تعلم أن عدد طهرها خمسة عشر، ولا تدري كم حيضها، فيلزمها ما يلي: - تترك الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة أيام لكونها أقل الحيض، لأنه حيض بيقين. - ثم تصلي سبعة أيام بالاغتسال لكل صلاة بالشك لتردد حالها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض، ولا يأتيها زوجها في هذه العشرة أيام. - ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة ويأتيها زوجها، لأنها بيقين الطهر في هذه الثمانية أيام. فإنه إن كان حيضها ثلاثة أيام فهذا آخر طهرها، وإن كان عشرة فهذا أول طهرها.

- ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك. فبلغ ذلك واحداً وعشرين يوماً، ولو كان حيضها ثلاثة فابتداء طهرها الثاني بعد واحد وعشرين يوماً، (¬1) وإن كان حيضها عشرة فابتداء طهرها الثاني بعد خمسة وثلاثين (¬2)، ففي هذه الأربعة عشر تصلي بالاغتسال لكل صلاة بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض، ثم تصلي يوماً واحداً بالوضوء لوقت كل صلاة، بيقين الطهر وذلك بعدما تغتسل عند تمام خمسة وثلاثين يوماً، لأن في هذا اليوم يقين الطهر، ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر، ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة أبداً؛ لأنه لم يبق لها يقين في شيء بعدها فما من ساعة إلا ويتوهم أنه وقت خروجها من الحيض (¬3). القول الثاني: المذهب الشافعي: المذهب الشافعي في المرأة المستحاضة الناسية لعددها الذاكرة لمكانها كالتالي: إذا تيقنت الحيض أو الطهر، فاليقين له حكمه. ¬

_ (¬1) لأن حيضها ثلاثة أيام، مضافاً إليه مقدار طهرها خمسة عشر يوماً، مضافاً إليه مقدار حيضها الثاني ثلاثة أيام، فيبدأ طهرها الثاني بعد واحد وعشرين يوماً. (¬2) لأن حيضها عشرة أيام، مضافاً إليه مقدار طهرها خمسة عشر يوماً، مضافاً إليه مقدار حيضها الثاني، فيكون الجميع خمسة وثلاثين يوماً. (¬3) المبسوط (3/ 204، 205) البحر الرائق (1/ 219) حاشية ابن عابدين (1/ 286 - 287).

وإذا كان الزمن يحتمل الحيض والطهر، فإنها تصلي بالوضوء لكل صلاة. ويسمى حيضاً مشكوكاً فيه. وإذا كان الزمن يحتمل الحيض، والطهر، والانقطاع، فإنها تصلي بالغسل لكل صلاة، ويسمى طهراً مشكوكاً فيه (¬1). فمثلاً: لو جاءت امرأة، وقالت: إني ذاكرة للوقت ناسية للعدد، فينظر: إن كانت ذاكرة لوقت ابتدائه، بأن قالت: كان ابتداء حيضي من أول يوم من الشهر، حيضناها يوماً وليلة من أول الشهر، لأنه حيض بيقين، ثم تغتسل بعده فتصير في طهر مشكوك فيه إلى آخر الخامس عشر، فتغتسل لكل صلاة؛ لجواز انقطاع الدم، وما بعده طهر بيقين إلى آخر الشهر، فتتوضأ لكل صلاة. وإن كانت ذاكرة لوقت انقطاعه بأن قالت: كان حيضي ينقطع في آخر الشهر حيضناها قبل ذلك يوماً وليلة، وكانت طاهراً من أول الشهر إلى آخر الخامس عشر، تتوضأ لكل صلاة فريضة، لأنه لا يحتمل انقطاع الحيض، ولا يجب الغسل إلا في آخر الشهر، في الوقت الذي تيقنا انقطاع الحيض فيه (¬2). ¬

_ (¬1) قال البيجوري في حاشيته (1/ 215) "الذاكرة لعادتها قدراً، لا وقتاً، كأن تقول: كان حيضي خمسة في العشر الأول من الشهر، لا أعلم ابتداءها، وأعلم أني في اليوم الأول طاهر بيقين، فالسادس حيض بيقين، والأول طهر بيقين، كالعشرين الأخيرين، والثاني إلى آخر الخامس محتمل للحيض والطهر دون الانقطاع، والسابع إلى آخر العاشر محتمل للحيض والطهر والانقطاع، فلليقين من حيض وطهر حكمه، وهي في المحتملة كناسية لهما - فيما مر - ومعلوم أنه لا يلزمها الغسل إلا عند احتمال الانقطاع، ويسمى ما يحتمل الانقطاع طهراً مشكوكاً فيه، وما لا يحتمله حيضاً مشكوكاً فيه" اهـ. (¬2) نهاية المحتاج (1/ 353) المجموع (2/ 510) مغني المحتاج (1/ 118).

القول الثالث: المذهب الحنبلي: قالوا في المرأة إذا نسيت عدد أيامها وهي تعلم موضعها. مثاله: امرأة تقول: عادتي تأتي في أول يوم من الشهر، لكني لا أدري هل هي خمسة أو ستة أو أكثر أو أقل. فتجلس غالب الحيض من كل شهر، إن اتسع شهرها لها بأن كان عشرين يوماً فأكثر (¬1)، وإن لم يتسع شهرها لغالب الحيض، جلست الفاضل من شهرها بعد أقل الطهر. فلو فرض أن شهرها خمسة عشر يوماً، جلست الزائد عن أقل الطهر بين الحيضتين، ومقداره هنا يومين (¬2). وهذا هو المشهور من المذهب (¬3) لحديث حمنة (¬4). وقيل: تجلس أقل الحيض، وهي رواية عند أحمد. ولم نذكر مذهب المالكية، لأن المرأة عندهم إذا لم تميز دمها فهي مستحاضة ¬

_ (¬1) شهر المرأة عند الحنابلة عرفه البهوتي في كشاف القناع (1/ 209) فقال: هو الزمن الذي يجتمع للمرأة فيه حيض وطهر صحيحان. وإنما قدره بعشرين يوماً؛ لأن أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً عندهم، وسبعة أو ستة أيام لغالب الحيض، فيكون المجموع عشرين. (¬2) لأن أقل الطهر عندهم ثلاثة عشر يوماً، فيكون الزائد يومين فقط. (¬3) معونة أولى النهى شرح المنتهى (1/ 484) كشاف القناع (1/ 208) الكافي (1/ 80) الإنصاف (1/ 371)، الممتع شرح المقنع - التنوخي (1/ 294). (¬4) ما رواه أحمد (6/ 439): عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها مرفوعاً، وفيه: "إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت، واستيقنت واستنقأت، فصل أربعاً وعشرين ليلة، أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزئك .... " الحديث. وإسناده ضعيف وسبق تخريجه. انظر: حديث رقم (456).

أبداً في حكم الطهر تصلي وتصوم وتوطأ أبداً حتى يتميز دمها، أو ينقطع فيأتي دفعة من الدم تنكره وإذا تميز لم تكن متحيرة. الراجح من الأقوال: يلاحظ أن الأقوال السابقة مبنية إما على أقل الحيض، وإما على أكثر الحيض والراجح أنه لا حد لأقله ولا لأكثره. والراجح في هذه المرأة التي نسيت عدد حيضها وهي تعلم موضعها أنها تجلس موضعه من الشهر وتعتبر حيضها عدد قريباتها من أم وأخت وعمة وخالة، لأن شبه المرأة بقريباتها أكثر من شبهها بالأجنبيات.

المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة بالوقت فقط

المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة بالوقت فقط المتحيرة بالوقت: هي المرأة التي علمت عدد حيضها، ونسيت وقت عادتها. وقد اختلف العلماء فيها. القول الأول: قالوا: إذا كانت ناسية لوقت الحيض، ذاكرة لعدده، فالقاعدة فيه أن كل زمان تيقنا فيه حيضها ثبت فيه جميع أحكام الحيض، وكل زمان تيقنا فيه طهرها، ثبت فيه جميع أحكام الطاهرة المستحاضة، وكل زمان أوجبنا فيه الاحتياط، فيجب عليها ما يجب على الطاهر من العبادات، وحكمها في الاستمتاع حكم الحائض. ثم إن كان هذا الزمن المحتمل للطهر والحيض لا يحتمل انقطاع الحيض لزمها الوضوء لكل فريضة، ولا يجب الغسل، وإن كان يحتمل انقطاع الحيض وجب الغسل لكل فريضة، لاحتمال انقطاع الدم قبلها، فإن علمت أنه كان ينقطع في وقت بعينه من ليل أو نهار اغتسلت كل يوم في ذلك الوقت، ولا غسل عليها إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الثاني. وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، ¬

_ (¬1) المبسوط (3/ 201) البحر الرائق (1/ 220) حاشية ابن عابدين (1/ 286 - 287). قال السرخسي في المبسوط (3/ 201) فيمن هذه حالها: "الأصل فيه أن كل زمان يتيقن فيه بالحيض تترك الصلاة، والصوم، ولا يأتيها زوجها بيقين، وكل زمان تيقنت فيه بالطهر، تصلي فيه بالوضوء لوقت كل صلاة باليقين، ولا يأتيها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ زوجها فيه، وكل زمان تردد بين الحيض والطهر تصلي فيه بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، ولا يأتيها زوجها فيه، وكل زمان تردد بين الحيض والطهر والخروج من الحيض، تصلي فيه بالاغتسال لكل صلاة بالشك، ولا يأتيها زوجها فيه. وأصل آخر: أنها متى أضلت أيامها في ضعفها من العدد أو أكثر من الضعف فلا يتيقن بالحيض في شيء منه، نحو ما إذا كانت أيامها ثلاثا، فضلت ذلك في ستة أو ثمانية، لأنها لا تتيقن بالحيض في شيء من أوله وأخره، ومتى ضلت أيامها فيما دون ضعفه، يتيقن بالحيض في بعضه. نحو ما إذا كانت أيامها ثلاث فضلت ذلك في خمسة فإنها تتيقن بالحيض في اليوم الثالث، فإنه أول الحيض أو آخره، أو الثاني منه بيقين فتترك الصلاة فيه لهذا، إذا عرفنا هذا جئنا إلى بيان المسائل فنقول: إن كانت تعلم أن أيامها كانت ثلاثة في العشر الآخر من الشهر، ولا تدري في أي موضع من العشر كانت، ولا رأي لها في ذلك، فهذه أضلت أيامها في أكثر من ضعفها، فتصلي ثلاثة أيام من أول العشر بالوضوء لوقت كل صلاة لأنه تردد حالها في هذه المسألة بين الحيض والطهر، ثم بعد ذلك تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشر؛ لأنه تردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض، إلا أنها إن كانت تذكر أن خروجها من الحيض في أي وقت من اليوم كان عليها أن تغتسل في كل يوم في ذلك الوقت مرة، وإن كانت لا تعرف ذلك تغتسل لكل صلاة. فإن كانت أيامها أربعة فأضلت ذلك في العشرة، فإنها تتوضأ أربعة أيام من أول العشرة لوقت كل صلاة، لأنه تردد حالها فيه بين الحيض والطهر، ثم بعد ذلك تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشرة، لأنه تردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض. وإن كانت أيامها خمسة فأضلت ذلك في عشرة، فإنها تصلي خمسة أيام من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة؛ لأنه تردد حالها فيه بين الحيض والطهر، ثم تصلي إلى آخر العشرة بالاغتسال لكل صلاة؛ لأنه تردد حالها فيه بين الحيض والطهر، والخروج من الحيض. فإن كانت أيامها ستة، فأضلت ذلك في عشرة، فإنها تصلي من أول العشرة أربعة أيام بالوضوء لوقت كل صلاة، ثم تدع يومين، ثم تصلي في أربعة أيام بالاغتسال لكل صلاة، لأن الأربعة الأولى ترددت بين الحيض والطهر، فأما اليوم الخامس والسادس فهو حيض بيقين، لأنه

والشافعية (¬1). ¬

_ إن كانت أيامها من أول العشر فهذا آخر حيضها، وإن كانت من آخر العشر فهذا أول حيضها فلهذا تركت الصلاة فيهما بيقين، ثم في الأربعة الآواخر تردد حالها بين الحيض، والطهر والخروج من الحيض فتصلي فيه بالاغتسال لكل صلاة. وإن كانت أيامها سبعة فأضلت ذلك في عشرة، فإنها تصلي ثلاثة من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة؛ لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر. ثم تدع أربعة بيقين؛ لأن هذه الأربعة فيها يقين الحيض، فإنها آخر الحيض إن كانت البداية من أول العشرة، وأول الحيض إن كانت أيامها في آخر العشرة. ثم تصلي ثلاثة أيام بالاغتسال لكل صلاة؛ لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض. وإن كانت أيامها ثمانية، فأضلت ذلك في عشرة. فإنها تصلي في يومين من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة؛ لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر. ثم تدع الصلاة ستة؛ لأن فيها يقين الحيض. ثم تصلي في اليومين الآخرين بالاغتسال لكل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض، والطهر والخروج من الحيض. فإن كان أيامها تسعة فأضلتها في عشرة. فإنها تصلي في يوم من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر. ثم تدع الصلاة ثمانية أيام، لأن فيها يقين الحيض. ثم تصلي في اليوم الآخر بالاغتسال لكل صلاة لتردد حالها بين الحيض والطهر. فإن كانت أيامها عشرة، فهي واحدة؛ لأن إضلال العشرة في العشرة لا يتحقق. (¬1) المجموع (2/ 500) مغني المحتاج (1/ 118) نهاية المحتاج (1/ 353). قال النووي في المجموع (2/ 500): "فالقاعدة فيه: أن كل زمان تيقنا فيه حيضها ثبت فيه جميع أحكام الحيض. وكل زمان تيقن فيه طهرها، ثبت فيه جميع أحكام الطاهر المستحاضة، وكل زمان احتمل الحيض والطهر

وأما مذهب الحنابلة (¬1)، فالمشهور من المذهب الحنبلي أن المرأة المستحاضة إذا كانت عالمة بالعدد ناسية للموضع جلست أيام حيضها من أول شهر هلالي. وقيل: تجلسها بالتحري. وكونهم اعتبروا الشهر الهلالي؛ لأن المواقيت الشرعية بالأهلة ولحديث ¬

_ أوجبنا فيه الاحتياط فيجب عليها ما يجب على الطاهر من العبادات، وحكمها في الاستمتاع حكم الحائض، ثم إن كان هذا الزمان المحتمل للطهر والحيض لا يحتمل انقطاع الحيض لزمها الوضوء لكل فريضة، ولا يجب الغسل، وإن كان يحتمل انقطاع الحيض وجب الغسل لكل فريضة لاحتمال انقطاع الدم قبلها، فإن علمت أنه كان ينقطع في وقت بعينه من ليل أو نهار اغتسلت لكل يوم في ذلك الوقت ولا غسل عليها إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الثاني. ثم أخذ النووي بعد ذلك يضرب أمثلة لما قال: مثاله: لو قالت: كانت حيضتي ستة أيام من العشرة الأولى من الشهر فيجعل شهرها أربعة أقسام. الأربعة الأولى زمن مشكوك فيه تحتمل الحيض والطهر، فتتوضأ لكل فريضة وتصلي. وأما الخامس والسادس فهو حيض بيقين؛ لأنه إن بدأ الحيض في أول العشرة انتهى إلى آخر السادس، وإن انقطع على العاشر بدأ من الخامس فالخامس والسادس حيض لدخولهما في التقديرين. وأما السابع، والثامن والتاسع والعاشر مشكوك فيه يحتمل الحيض والطهر، والانقطاع فيجب أن تغتسل لكل فريضة إلا أن تعلم أن الدم كان ينقطع في وقت من اليوم فيكفيها كل يوم غسل واحد في ذلك، وتتوضأ لباقي فرائض ذلك اليوم، وما بعد العشرة إلى آخر الشهر طهر بيقين. اهـ بتصرف وقال نحوه في الروضة (1/ 161، 162)، وقال في آخره: "ومتى كان القدر الذى أضلته زائداً على نصف المضل فيه حصل حيض بيقين من وسطه، وهو الزائد على النصف مع مثله". اهـ وهذا معنى ما ذكره السرخسي في المبسوط، وقد نقلته قبل قليل. (¬1) كشاف القناع (1/ 210) الفروع (1/ 275) الممتع شرح المقنع التنوخي (1/ 294) الإنصاف (1/ 368).

حمنة (¬1). والقول بأنها تجلس أول الشهر الهلالي قول ضعيف، بل تجلس أول ما رأت الدم وتحسب شهراً منذ رؤيته قياساً على الزكاة، والعدد والديات، والكفارات وغيرها، إنما تبتدئ من حين الشروع سواء وافقت الهلال أو خالفته. وأما كونه يقدم دم الحيض على دم الاستحاضة، لأن دم الحيض جبلة ودم الاستحاضة عارض، فإذا رأت الدم وجب تقديم دم الحيض ولحديث حمنة. وهذا هو القول الراجح: أنها تجلس أيام حيضها من أول ما رأت الدم ثم الباقي استحاضة. ¬

_ (¬1) ما رواه أحمد (6/ 439): عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها مرفوعاً، وفيه: "إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت، واستيقنت واستنقأت، فصلي أربعاً وعشرين ليلة، أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزئك .... " الحديث. وإسناده ضعيف وسبق تخريجه. انظر: حديث رقم (456).

المبحث الثالث: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة الناسية لعددها ووقتها

المبحث الثالث: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة الناسية لعددها ووقتها القول الأول: المذهب الحنفي: قالوا: إذا استحيضت ونسيت عدد أيامها ومكانها فإنها أولاً: تتحرى، فإن وقع تحريها على طهر تعطى حكم الطاهرات، وإن كان على حيض تعطى حكمه. لأن غلبة الظن من الأدلة الشرعية عند تعذر اليقين. ثانياً: إذا لم يمكنها التحري اغتسلت لكل صلاة على الصحيح. وقيل: لوقت كل صلاة. وتصلي المكتوبات، والواجبات، والسنن المؤكدة، ولا تصلي ولا تصوم تطوعاً (¬1)، ولا تقرأ شيئاً من القرآن خارج الصلاة، ولا تمس المصحف، ولا تدخل المسجد، وأما الصوم فإنها تصوم كل شهر رمضان؛ لاحتمال طهارتها كل يوم، وتعيد بعد رمضان عشرين يوماً، ووجه كون القضاء عشرين يوماً، فإننا نعلم أن أكثر ما أفسد من صيامها عشرة أيام، وهو أكثر الحيض، وإنما لم يجزها صيام عشرة أيام، ولا بد من عشرين حتى تخرج من العهدة بيقين، لأننا نخشى أن يوافق ابتداء حيضها ابتداء القضاء فلا يجزيها صومها في عشرة أيام فإذا ¬

_ (¬1) فرق الحنفية بين الصلاة إذا كانت من السنن المؤكدة فتصليها المستحاضة، وبين غيرها من السنن فلا تصليها، قالوا إن السنن المؤكدة شرعت جبراً لنقصان يمكن في الفرض، فيكون حكمها حكم الفرائض. انظر حاشية ابن عابدين (1/ 288).

صامت عشرين يوماً خرجت مما عليها من القضاء بيقين (¬1). القول الثاني: المذهب الشافعي: مذهب الشافعية في المرأة المستحاضة الناسية لعدد الحيض ووقتها لهم فيها قولان: الأول: حكمها حكم المبتدأة. وقد علينا مذهبهم في المبتدأة، وأن لهم فيها قولين: قيل: تجلس يوماً وليلة. وقيل: تجلس غالب الحيض ستاً أو سبعاً. القول الثاني: وهو المشهور من مذهبهم: وجوب الاحتياط، والاحتياط أن لا يعتبر لها حيض ولا طهر بيقين. فيحرم الوطء، ومس المصحف، والقراءة في غير الصلاة، وتصلي الفرائض أبداً، وكذا النفل في الأصح، وتغتسل لكل فرض. وأما كيف تصوم المتحيرة بالعدد والوقت: فقالوا: يجب أن تصوم شهر رمضان، وشهراً آخر كاملاً معه، فيحصل لها من كل شهر أربعة عشر يوماً .. فيكون مجموع ما صامته من الشهرين ثمانية وعشرين يوماً .. لأن غاية ما يفسده الحيض من كل شهر ستة عشر يوماً، وذلك أن الحيض لا يمكن أن يزيد على خمسة عشر يوماً، وقد يطرأ الحيض في أثناء يوم، ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 221، 220)، المبسوط (3/ 193)، شرح ابن عابدين (1/ 286 - 287).

وينقطع في أثناء يوم فيكون مجموع ما فسد عليها ستة عشر يوماً ... ويبقى عليها يومان حتى تصوم شهراً كاملاً بيقين. وحتى تصومهما بيقين، يجب أن تضاعفهما، وتضم إليهما يومين فيصير مجموع ما تصوم ستة أيام .. وكيفية صيام هذه الستة، قالوا: حتى يحصل لها يومان بيقين، يجب أن تصوم ثلاثة أيام،، ثم تفطر اثني عشر يوماً، فالمجموع خمسة عشر يوماً، ثم تصوم السادس عشر والسابع عشر، والثامن عشر، فيحصل لها اليومان يقيناً؛ لأن الحيض إن طرأ في أثناء اليوم الأول من صومها، انقطع في أثناء السادس عشر، فيحصل لها صيام اليومين بعده، أو طرأ في اليوم الثاني انقطع في السابع عشر، فيحصل لها صيام اليوم الأول والأخير، أو طرأ في اليوم الثالث فيحصل اليومان الأولان، أو طرأ في اليوم السادس عشر انقطع في اليوم الأول، فيحصل لها الثاني والثالث، وهكذا لا بد أن يحصل لها يومان بيقين، هذا فيما يتعلق بالصيام. وأما الصلاة فإنها تلزمها الصلوات الخمس أبداً، هذا لا خلاف فيه عند الشافعية؛ لأن كل وقت يحتمل طهرها، فمقتضى الاحتياط وجوب الصلاة. قال النووي: ظاهر نص الشافعي أنه لا يجب؛ لأنه نص على وجوب قضاء الصوم، ولم يذكر قضاء الصلاة. والتعليل لعدم وجوب القضاء أن المستحاضة المتحيرة إن كانت حائضاً فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهراً فقد صلت. واختار بعض الشافعية وجوب قضاء الصلاة كالصيام، لجواز انقطاع

الحيض في أثناء الصلاة، أو بعدها في الوقت، وعللوا ذلك بأنه مقتضى الاحتياط، والشافعي كما لم يذكر القضاء لم ينفه، ومقتضى مذهبه الوجوب. وأجاب القائلون بعدم القضاء بأنه لا يلزم المتحيرة كل ممكن لأنه يؤدي إلى حرج شديد، والشريعة تحط عن المكلف أموراً بدون هذا الضرر والدليل على أنه لا يلزمها كل ممكن أن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر، ولا تقعد إلى اليأس. وأما الغسل. قال النووي: أن علمت وقت انقطاع الحيض، بأن قالت: أعلم أن حيضتي كانت تنقطع مع غروب الشمس، لزمها الغسل كل يوم مع غروب الشمس، وليس عليها في اليوم والليل غسل سواه وتصلي بذلك الغسل المغرب، وتتوضأ لما سواه من الصلوات، لأن الانقطاع عند كل مغرب محتمل، ولا يحتمل فيما سواه، وإن لم تعلم وقت انقطاعه لزمها أن تغتسل لكل فريضة لاحتمال الانقطاع قبلها. الدليل على هذا العنت والتشديد. قال النووي: قال أصحابنا: وإنما أمرت بالاحتياط، لأنه اختلط حيضها بغيره وتعذر التمييز بصفة أو عادة، أو مرد كمرد المبتدأة، ولا يمكن جعلها طاهراً أبداً في كل شيء، ولا حائضاً أبداً في كل شيء، فتعين الاحتياط، ومن الاحتياط تحريم وطئها أبداً، ووجوب العبادات كالصوم، والصلاة، والطواف، والغسل لكل فريضة وغير ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 458) وما بعدها، مغني المحتاج (1/ 116 - 117)، نهاية المحتاج

قلت: ينبغي أن تكون المستحاضة أولى بالتخفيف من غيرها، لأن المريض أولى بالعذر من الصحيح، ولا أعلم حرجاً في الشرع كإيجاب صيام شهرين وإيجاب الصلاة ثم إيجاب قضائها، وتحريم الوطء أبداً، وتحريم قراءة القرآن في غير الصلاة، إلى غيرها من الأمور التي تؤدي إلى تبغيض عبادة الله إلى عباد الله، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}. القول الثالث: المذهب الحنبلي: في المرأة إذا نسيت عددها ووقتها تجلس غالب الحيض ستاً أو سبعاً. فإن عرفت ابتداء الدم، بأن علمت أن الدم كان يأتيها في أول النصف الأخير من الشهر، فهو أول دورها، فتجلس منه، وإن جهلت كون موضعها في شيء من ذلك فإنها تجلس غالب الحيض من أول كل شهر هلالي كمبتدأة. واستدلوا بحديث حمنة بنت جحش فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "تحيضي ستة أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي وصلي أربعاً وعشرين ليلة، أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها وصومي" فقدم حيضها على الطهر، ثم أمرها بالصلاة، والصوم إلى بقية الشهر. وقيل: تتحرى وهو وجه في المذهب، فأي وقت أداها الجلوس فيه جلسته سواء كان ذلك الوقت من أول الشهر أو وسطه أو آخره (¬1). ¬

_ (1/ 346) وما بعدها. (¬1) كشاف القناع (1/ 210) الفروع (1/ 275) شرح منتهى الإرادات (1/ 117 - 118)

الراجح في المستحاضة عموماً. أن يقال إذا أطبق الدم على المرأة وصارت مستحاضة نظر. فإن كانت مبتدأة .. عملت بالتمييز إن كانت تميز دم الحيض من دم الاستحاضة، بأن ترى بعضه أسود وبعضه أحمر؛ لأن التمييز علامة ظاهرة واضحة. فإن كان على صفة واحدة فإن لم يمكن التحري رجعت إلى عادة النساء من أقاربها: من أم، وأخت، وعمة، وخالة. فإن اختلفت عادتهن فالاعتبار بالغالب منهن، فإن لم يوجد غالب في النساء القريبات تحرت واجتهدت فإن لم تستطع فغالب النساء في بلدتها ... وإن كانت المرأة معتادة قدمنا العادة على التمييز فجلست عادتها. وإن كانت المرأة لا عادة لها، فإن كان لها تمييز عملت به. وإن كانت لا تمييز لها رجعت إلى عادة النساء القريبات، فإن اختلفت تحرت، فإن لم تستطع فالاعتبار بغالب النساء عموماً. ¬

_ الممتع شرح المقنع - التنوخي (1/ 293 - 294) الإنصاف (1/ 367).

الفصل الخامس: في طهارة المستحاضة

الفصل الخامس: في طهارة المستحاضة المبحث الأول: في خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة (*) اختلف العلماء هل يعتبر خروج دم الاستحاضة، وكذا من به حدث دأئم هل يعتبر حدثاً يوجب الوضوء أم لا؟ فقيل: يجب أن تتوضأ لوقت كل صلاة. وهو مذهب الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2). وقيل: يجب أن تتوضأ لكل فريضة، مؤداة أو مقضية، وأما النوافل فتصلي بطهارتها ما شاءت. وهو مذهب الشافعية (¬3). وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب. وهو مذهب المالكية (¬4). ¬

_ (¬1) الاختيار لتعليل المختار (3/ 508) حاشية ابن عابدين (1/ 504) البحر الرائق (1/ 226) مراقي الفلاح (ص 60) شرح فتح القدير (1/ 181) تبيين الحقائق (1/ 64) بدائع الصنائع (1/ 28). (¬2) المغني (1/ 421) شرح منتهى الإرادات (1/ 120) كشاف القناع (1/ 215) الإنصاف (1/ 377) الفروع (1/ 279) شرح الزركشي (1/ 437). (¬3) المجموع (1/ 543، 363)، مغني المحتاج (1/ 111)، روضة الطالبين (1/ 147، 125) (¬4) قال صاحب مواهب الجليل (1/ 291): "طريقة العراقيين من أصحابنا، أن ما خرج على وجه السلس لا ينقض الوضوء مطلقاً وإنما يستحب منه الوضوء". ثم قال: (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ليس بالفصل مبحث آخر

دليل القائلين بوجوب الوضوء لكل صلاة.

وقيل: الوضوء واجب لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج. وهذا اختيار ابن حزم (¬1). دليل القائلين بوجوب الوضوء لكل صلاة. [الدليل الأول] (*) (473) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. ¬

_ "والمشهور من المذهب طريقة المغاربة أن السلس على أربعة أقسام: الأول: أن يلازم، ولا يفارق، فلا يجب الوضوء، ولا يستحب؛ إذ لا فائدة فيه فلا ينتقض وضوء صاحبه بالبول المعتاد. الثاني: أن تكون ملازمته أكثر من مفارقته، فيستحب الوضوء إلا أن يشق ذلك عليه لبرد أو ضرورة فلا يستحب. الثالث: أن يتساوى إتيانه ومفارقته، ففي وجوب الوضوء واستحبابه قولان" ثم قال: والرابع: "أن تكون مفارقته أكثر، فالمشهور وجوب الوضوء خلافاً للعراقيين فإنه عندهم مستحب" اهـ. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 116) وانظر بهامش الصفحة التاج والإكليل. وانظر الخرشي (1/ 152)، فتح البر في ترتيب التمهيد (3/ 508)، الاستذكار (3/ 225 - 226) القوانين الفقهية لابن جزي (ص 29). (¬1) المحلى (مسألة: 168). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). [زيادة قال هشام قال أبي الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (228). (¬2) سبب اختلاف العلماء في دم الاستحاضة، هل هو حدث أم لا؟ اختلافهم في قول هشام: "وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت" هل هذه الزيادة موقوفة أو مرفوعة؟ وهل هي متصلة أو معلقة؟ وعلى تقدير كونها مرفوعة، هل هي محفوظة أو شاذة؟ فالحديث مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ورواه عن هشام جمع كثير على اختلاف يسير في متنه، وبعضهم يذكر هذه الزيادة وبعضهم لا يذكرها. وقد جاءت الزيادة بالوضوء من طريق أبي معاوية عن هشام به. واختلف على أبي معاوية فيه، فروى بعضهم الحديث عن أبي معاوية دون ذكر الزيادة، وبعضهم رواه عن أبي معاوية مصرحاً برفعها، وبعضهم روى الزيادة عن أبي معاوية موقوفة على عروة. وممن روى الزيادة أبو حمزة السكري، واختلف عليه أيضاً: فروي عنه مرفوعاً، وروى عنه مرسلاً. وروى الزيادة أيضاً حماد بن زيد، وحماد بن سلمة عن هشام، إلا أنهما ذكرا الوضوء ولم ينصا على التكرار لكل صلاة بل قال: "فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي" فكما أن الاغتسال يكفي فيه الامتثال مرة واحدة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ الحمادين، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه الوضوء. وممن روى الزيادة أيضاً أبو عوانة (الوضاح بن عبد الله اليشكري) وأبو حنيفة واختلف عليهما فيه كما سيأتي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ هؤلاء هم الذين انفردوا بذكر الزيادة على الخلاف السابق، وخالفهم جمع كثير، وفيهم من هو أحفظ منهم، فقد روى الحديث عن هشام ستة عشر حافظاً ولم يذكروها، منهم مالك، ووكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وزهير، وسفيان بن عيينة، وأبو أسامة، والليث ابن سعد، وعمرو بن الحارث، وعبدة، ومحمد بن كناسة، ومعمر، وجعفر بن عون، والداروردي، وعبد الله بن نمير، وسعيد بن عبد الرحمن. هذا بعض من وقفت عليه ممن رواه عن هشام ولم يذكر الزيادة، فلو كان من ذكر هذه الزيادة لم يضطرب فيها لكانت شاذة، لأن الحكم عند أهل الحديث للأحفظ، وللأكثر عدداً على من دونهم، كما فصلت ذلك في بحث زيادة الثقة. وقد حكم بضعف هذه الزيادة الإمام مسلم والنسائي والبيهقي، وأبو داود كما سيأتي، وضعفه ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري قال (2/ 72): والصواب أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة: فقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة" اهـ كلام ابن رجب. فهنا فصل مالك الحديث المرفوع من الموقوف في روايته عن هشام، فحين روى المرفوع لم يورد قال هشام: قال أبي ثم توضئي لكل صلاة، وحين روى الموقوف لم يذكر المرفوع، والله أعلم. هذا الكلام المجمل حول الحديث، وأما تفصيله فإليك هو: فالحديث كما ذكرت سابقاً مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وله طرق كثيرة إلى هشام. الأول: أبو معاوية عن هشام. وقد سقت لفظه في الباب، وقد أخرجه البخاري (228): حدثنا محمد - يعني ابن سلام - حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة به. وقال في آخره: قال - يعني هشاماً - قال أبي: "ثم توضئي لكل صلاة". ورواه الترمذي (125): حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية، عن هشام به، قال أبو معاوية في حديثه: "وقال توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت". وأخرجه مسلم (333): حدثنا يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام به، ولم يذكر الأمر بالوضوء. وأخرجه النسائي (359): أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو معاوية به، بدون ذكر الزيادة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأخرجه الدارقطني (1/ 206) من طريق يعقوب بن إبراهيم، نا أبو معاوية به، وفيه: "فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم اغتسلي" فخالف الجماعة فإن لفظهم" فاغسلي عنك الدم وصلي". فصار الحديث يرويه يحيى بن يحيى كما عند مسلم، وإسحاق بن إبراهيم كما عند النسائي، ويعقوب بن إبراهيم كما عند الدارقطني، ثلاثتهم عن أبي معاوية دون ذكر الوضوء لكل صلاة. ورواه هناد عن أبي معاوية كما في رواية الترمذي، وهي صريحة بالرفع. ورواه البخاري عن محمد بن سلام عن أبي معاوية بذكر الزيادة موقوفة على عروة بسند ظاهره التعليق؛ لأنه قال بعد ذكر الحديث، وقال هشام قال أبي، ويحتمل أنه موصول بالإسناد نفسه. وكذلك رواه إسماعيل بن قتيبة، عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية عند البيهقي (1/ 344)، قال هشام: قال أبي: "ثم توضئي لكل صلاة". وإسماعيل بن قتيبة ثقة له ترجمة في السير (13/ 344). واختلف العلماء في هذه الزيادة، هل هي معلقة أم لا؟ وهل هي موقوفة أو مرفوعة؟ قال البيهقي في السنن (1/ 327): وفيه زيادة الوضوء لكل صلاة، وليست بمحفوظة. وقال أيضاً (1/ 344): "والصحيح أن هذه الكلمة من قول عروة بن الزبير. وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 201): "وهذه اللفظة - أعني: توضئي لكل صلاة - هي معلقة عند البخاري، عن عروة في صحيحه"، ثم قال: "وقد جعل ابن القطان في كتابه مثل هذا تعليقاً". اهـ قلت: ذكر مسلم أنه ترك تخريجها في كتابه من طريق حماد، عن هشام، وكذلك أشار النسائي إلى أنها غير محفوظة، وسوف يأتي نقل كلامه عند الحديث على زيادة حماد. وقال بعضهم: إنها مرفوعة. قال الحافظ في الفتح (1/ 441) ح 228 وادعى بعضهم أن هذا معلق، وليس بصواب، بل هو بالإسناد المذكور، عن محمد، عن أبي معاوية، عن هشام، وقد بين ذلك الترمذي، وادعى آخر أن قوله: "ثم توضئي" من كلام عروة موقوفاً عليه، وفيه نظر؛ لأنه لو كان من كلام عروة لقال: "ثم تتوضأ" بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر شاكله الأمر الذي في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ المرفوع وهو قوله: "فاغسلي" اهـ. قلت: ظاهر نقل البخاري أنها موقوفة عليه، خاصة أن هشاماً لا يروي الحديث إلا عن أبيه، ولا يشاركه شيخ آخر، فلماذا إذاً قال، قال هشام: قال أبي، ولو أن هشاماً يروي الحديث عن أكثر من شيخ لأمكن أن يقال: إن هشاماً أراد أن يفصل زيادة أبيه عن لفظ مشايخه الآخرين، فلما لم يكن له شيخ إلا أبوه، علمنا أن هشاماً أضاف إلى أبيه هذا الكلام، ولم يقصد رفعها، وكون هذه الكلمة جاءت صريحة في رواية الترمذي فهذا من الاختلاف على أبي معاوية، ويرجح كونها موقوفة أيضاً أن الإمام مالك رحمه الله روى الحديث عن هشام فذكر المرفوع، ولم يذكر الزيادة، وروى الزيادة عن هشام موقوفاً على عروة دون ذكر المرفوع، ففصل المرفوع عن الموقوف كما روى الحديث ابن أبي شيبة (1/ 119) عن أبي معاوية عن هشام عن عروة قال: "المستحاضة تغتسل وتتوضأ لكل صلاة" موقوفاً عليه. كما رواه ابن أبي شيبة (1/ 119) عن حفص عن هشام به قرنه بأبي معاوية موقوفاً على عروة فصار الحديث عن أبي معاوية، تارة يروى بدون زيادة الوضوء. وتارة تروى عنه صريحة بالرفع. وتارة تروى عنه موقوفة على عروة. وهل السند معلق أو موصول ظاهره التعليق، وإن كنت أميل إلى أنه موصول بالإسناد نفسه، إلا أن الأمر بالوضوء لكل صلاة موقوف على عروة. وأبو معاوية قد قال فيه أحمد: في غير حديث الأعمش مضطرب لا يحفطها جيداً. وقال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام؟ قال: فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي التقريب: ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره. وقد جاءت الزيادة في غير طريق أبي معاوية كما في الطريق الآتي: الطريق الثاني: أبو حمزة، محمد بن ميمون السكري، عن هشام به. فقد تابع أبو حمزة أبا معاوية بذكر الزيادة بالأمر بالوضوء لكل صلاة، لكن قد اختلف عليه فيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فرواه ابن حبان (1354) من طريق علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا أبو حمزة عن هشام بن عروة به، وفيه: "فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيها، فإذا أدبرت فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة". لكن رواه البيهقي (1/ 544) من طريق عبد الله بن عثمان، ثنا أبو حمزة، قال: سمعت هشاماً يحدث عن أبيه، أن فاطمة بنت أبي حبيش، قالت: "يا رسول الله: إني أستحاض فلا أطهر ... " الحديث، وقال فيه: "فاغتسلي عند طهرك وتوضئي لكل صلاة". فصار الحديث يروى عن أبي حمزة تارة مرسلاً، وتارة موصولاً. وجاءت الزيادة من طريق الحمادين كما في الطريق التالي. الطريق الثالث والرابع: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد عن هشام به. فقد جاء ذكر الزيادة أيضاً من طريق حماد بن سلمة عن هشام، إلا أنه لم يأمرها بالوضوء لكل صلاة، بل أمرها بالوضوء عقب غسل الدم، فكما ذكرت سابقاً: أن غسل الدم يكفى في الامتثال مرة واحدة عند إدبار الحيضة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ حماد بن سلمة. فقد أخرج الحديث الدارمي (779): أخبرنا حجاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أمر، أفأترك الصلاة؟ قال: لا؛ إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي". قال هشام: فكان أبي يقوله: تغتسل غسل الأول، ثم ما يكون بعد ذلك فإنها تطهر وتصلي. قلت: في هذا الحديث دليل ظاهر على أن هشام يتبع الحديث المرفوع بكلام لأبيه موقوفاً عليه، فلا يبعد أن يكون بعض الرواة أدرج الموقوف في المرفوع، كما ذكر ابن رجب ونقلت كلامه سابقاً. وقد اختلف على حماد بن سلمة: فرواه حجاج بن منهال، عن حماد، عن هشام به، كما سبق بذكر الزيادة. ورواه ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/ 512) من طريق عفان، عن حماد بن سلمة به، وليس فيه "وتوضئي" وعفان من أثبت أصحاب حماد بن سلمة، فهو مقدم على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ غيره. ولم ينفرد حماد بن سلمة بلفظ: "وتوضئي" دون قوله: "عند كل صلاة" بل تابعه على هذا حماد بن زيد، فقد أخرجه النسائي (364) أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد، عن هشام به، وفيه "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، وتوضئي وصلي؛ فإنما ذلك عرق، وليست بالحيضة. قيل له: فالغسل؟ قال: وذلك لا يشك فيه". قال أبو عبد الرحمن (النسائي): وقد روى هذا الحديث غير واحد عن هشام بن عروة ولم يذكر فيه "وتوضئي" غير حماد، والله تعالى أعلم. وأخرجه مسلم (233): حدثنا خلف بن هشام، حدثنا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة به ثم قال مسلم: وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره. اهـ. يشير إلى زيادة الأمر بالوضوء، ولعله تركها للخلاف فيها. قال البيهقي في السنن (1/ 344): وكأنه - يعني مسلماً - ضعفه لمخالفته سائر الرواة عن هشام. اهـ فهذا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد روياه بلفظ: "فاغسلي عنك الدم، وتوضئي وصلي"، ولم يقل: "عند كل صلاة". وهذا وجه من المخالفة. الطريق الخامس: أبو عوانة عن هشام به. أخرجه ابن حبان (1355) بلفظ: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المستحاضة فقال: تدع الصلاة أيامها، ثم تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ عند كل صلاة"، فيظهر أنه روى الحديث بالمعنى فاختصره. الطريق السادس: عن أبي حنيفة عن هشام به. رواه أبو نعيم الفضل بن دكين، عن أبي حنيفة، واختلف على أبي نعيم به. فرواه الطحاوي (1/ 102) عن فهد بن سليمان، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبو حنيفة رحمه الله، عن هشام به، بذكر الوضوء لكل صلاة. وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/ 511, 510) من طريق محمد بن الحسين ابن سماعه، قال: حدثنا أبو نعيم به، ولم يذكر زيادة الوضوء لكل صلاة. وكتب لي الشيخ محمد الفراج وفقه الله مستدركاً بعض من ذكروا الزيادة، فقال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ "وقد ذكرت الزيادة أيضاً عن كل من: 1 - يحيى بن سليم. أخرجها السراج كما في فتح الباري (306)، والدارقطني معلقاً في العلل (5 - ورقة 32). 2 - الحجاج بن أرطاة. أخرجها الطبراني في الكبر (24/ 361) ح 361، 897. 3 - ومحمد بن عجلان. البيهقي (1/ 344). وعلقه الدارقطني في العلل (5 - ورقة 32). أربعتهم عن هشام به بنحوه. ثم قال الشيخ: وهذه ضعيفة كما تفضلت ببيان ذلك في سوابقها، بل هي أشد ضعفاً". اهـ كلام الشيخ محمد الفراج وفقه الله. هذا ما وقفت عليه ممن ذكر الزيادة، ولا يخلو أحد من الرواة ممن ذكر هذه الزيادة إلا وقد خالف واختلف عليه فيها، فأبو معاوية تارة يذكرها، وتارة لا يذكرها، وتارة مرفوعة، وتارة موقوفة. وأبو حمزة السكري، تارة يروي الحديث مرسلاً، وتارة موصولاً. وأما الحمادان فقد خالفا غيرهما بذكر الأمر بالوضوء، ولم يذكرا بأنه عند كل صلاة، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه هذه الزيادة، وكذا أب حنيفة تارة يذكرها، وتارة لا يذكرها، والذي لم يختلف عليه هو أبو عوانة فقد ذكرها، وقد روى الحديث بالمعنى، وهو ثقة إلا أن مخالفته لا تحتمل، فقد روى الحديث عن هشام أئمة ثقات أعلى قدراً، وأكثر عدداً فلم يذكروا هذه الزيادة وإليك هم: الأول: إمام دار الهجرة مالك بن أنس. أخرجه في الموطأ (1/ 61)، ومن طريق مالك أخرجه البخاري (306)، والنسائي (366)، وأبو عوانة (1/ 319)، والدارقطني (1/ 206)، وابن حبان (1350)، والبيهقي (1/ 321، 329)، والبغوي (324). الثاني: وكيع. أخرجه أحمد (6/ 194)، ومسلم (332)، والترمذي (125)، والنسائي (359)، وابن ماجه (621). الثالث: زهير. أخرجه البخاري (331)، وأبو داود (282).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (474) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول ¬

_ الرابع: يحيى بن سعيد القطان. عند أحمد (6/ 194)، والدارقطني (1/ 206). الخامس: جعفر بن عون، عند الدارمي (774)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 319)، وابن الجارود في المنتقى (112). السادس: معمر عند عبد الرزاق في المصنف (1165). السابع: عبد العزيز بن محمد عند مسلم (333). الثامن والتاسع: جرير، وابن نمير عند مسلم (333). العاشر: عبدة عند الترمذي (125)، والنسائي (359). الحادي عشر: سفيان بن عيينة. عند البخاري (320)، والحميدي (193)، والبيهقي (1/ 327). الثاني عشر: أبو أسامة عند البخاري (325)، والبيهقي (1/ 324). الثالث عشر: محمد بن كناسة كما عند البيهقي (1/ 324). الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر: سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، والليث ابن سعد، وعمرو بن الحارث كما عند أبي عوانة (1/ 319)، والطحاوي (1/ 103, 102)، فهؤلاء ستة عشر حافظاً رووا الحديث عن هشام ولم يذكروا زيادة الوضوء لكل صلاة، وهو المحفوظ فيما أرى. والله أعلم. وأما تحرير بعض ألفاظ الحديث والاختلاف بينهم: فبعضهم يقول: "وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي". وبعضهم يقول: "وإذا أدبرت". وبعضهم يقول: "فاغتسلي وصلي"، فقد خرجت هذه الألفاظ في بحث المستحاضة المعتادة المميزة، وبينت الراجح منها، فارجع إليها غير مأمور.

الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير (¬1). [الحديث ضعيف، وفيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وعروة مختلف فيه، قيل: عروة المزني، وهو مجهول، وقيل: عروة بن الزبير] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (6/ 204). (¬2) الحديث ذكر له ثلاث علل: الأول: عنعنة حبيب بن أبي ثابت،، وهو مدلس مكثر، ذكره في المدلسين الذهبي، والعلائي، والمقدسي، والحلبي، وابن حجر. وفي التقريب: ثقة فقيه جليل، كان كثير الإرسال والتدليس. العلة الثانية: اختلافهم في عروة، من هو؟ هل هو عروة المزني فيكون مجهولاً أو هو ابن الزبير فيكون منقطعاً؛ لأن حبيباً لم يسمع من عروة بن الزبير شيئاً. قال أحمد، ويحيى بن معين: لم يسمع حبيب بن أبي ثابت من عروة شيئاً. المراسيل لابن أبي حاتم (ص 28). قال الترمذي في السنن (1/ 135): عن البخاري: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة شيئاً. وقال أبو حاتم: روى عن عروة حديث المستحاضة وحديث القبلة، ولم يسمع ذلك من عروة. الجرح والتعديل (3/ 107)، والمراسيل (ص 28). وقال يحيى بن معين كما في تهذيب الكمال (5/ 362) قال أحمد بن سعيد بن أبي مريم قيل ليحيى: حبيب ثبت؟ قال: نعم، إنما روى حديثين. قال: أظن يحيى يريد منكرين: حديث تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير، وحديث القبلة للصائم. وساق البيهقي بسنده (1/ 126) عن يحيى بن سعيد قال: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيباً لم يسمع من عروة شيئاً. وروى الدارقطني (1/ 139): عن علي بن المديني، قال: سمعت يحيى - يعني: ابن القطان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ - وذكر عنده حديث الأعمش، عن حبيب عن عروة، عن عائشة: تصلي وإن قطر الدم على الحصير، وفي القبلة. قال يحيى: إحك عني أنهما شبه لا شيء. ونقله أبو داود (180)، والنسائي في السنن (1/ 105، 104) عن ابن القطان. وهناك من أثبت سماع حبيب من عروة بن الزبير. قال أبو داود في السنن (180): قد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثاً صحيحاً. اهـ قلت: حديث حمزة الزيات، ليس من قبيل الصحيح، فإنه في التقريب: صدوق زاهد ربما وهم. اهـ وقد تكلم فيه بعضهم. وقال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 52): وحبيب بن أبي ثابت لا ينكر لقاؤه عروة، لروايته عمن هو أكبر من عروة، وأجل وأقدم موتاً، وهو إمام من أئمة العلماء الجلة. قلت: قد جزم الأئمة بعدم سماع حبيب بن أبي ثابت من عروة: كسفيان، وأحمد، وابن القطان، والبخاري، ويحيى بن معين، وأبي حاتم الرازي وغيرهم، وليس عند ابن عبد البر إلا مجرد إمكان اللقي، وكم من راو عاصر رواة ولم يسمع منهم، فلا يكفي هذا الاحتمال لرد ما جزم به الأئمة، وأبو داود حكى عن حمزة الزيات عن حبيب عن عروة حديثاً صحيحاً، ولم يذكر الحديث حتى ينظر فيه، فإن صح فإن الانقطاع يكون للعنعنة حيث لم يصرح في التحديث في جميع طرقه وهو مدلس مكثر. وممن صرح في أن عروة هو ابن الزبير، ابن ماجه فقد رواه (624): حدثنا محمد بن علي وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: ثنا وكيع، عن الأعمش به، وصرح بأن عروة هو ابن الزبير. وقد رواه الدارقطني (1/ 212) من طريق وكيع وعبد الله بن داود مجتمعين، عن الأعمش به وصرحا بأنه ابن الزبير. وقد رواه أحمد (6/ 204)، وابن أبي شيبة (1/ 118) عن وكيع به، ولم ينسبا عروة. ورواه الدارقطني (1/ 212) من طريق محمد بن ربيعة، عن الأعمش به، ونسب عروة بأنه ابن الزبير إلا أنه أوقفه على عائشة. هذا الذى وقفت عليه ممن نسب عروة. ورواه جمع كثير كما سيأتي في تخريج الحديث ولم ينسبوا عروة. قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 200): واعلم أن أبا داود لم ينسب عروة في هذا الحديث، كما نسبه ابن ماجه، وأصحاب الأطراف لم يذكروه في ترجمة عروة بن الزبير، وإنما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ ذكروه في ترجمة عروة المزني، معتمدين في ذلك على قول ابن المديني: إن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير، ورواه أحمد، وإسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة، والبزار في مسانيدهم، ولم ينسبوا عروة. ولكن ابن راهويه، والبزار أخرجاه في ترجمة عروة ابن الزبير، عن عائشة" اهـ. العلة الثالثة: الاختلاف في وقفه ورفعه. قال الدارقطني في السنن (1/ 211) بعد أن ساق رواية على بن هاشم، عن الأعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن عروة عن، عائشة مرفوعاً. قال الدارقطني: تابعه وكيع، والحربي، وقرة بن عيسى، ومحمد بن ربيعة، وسعيد بن محمد الوراق، وابن نمير عن الأعمش فرفعوه. ووقفه حفص بن غياث، وأبو أسامة، وأسباط بن محمد، وهم أثبات. تخريج الحديث: بعد استعراض علل الحديث نأتي إلى تخريجه، فالحديث مداره على الأعمش، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش وذكرت القصة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وله طرق كثيرة إلى الأعمش .. فقد رواه أحمد كما قدمت في الباب (6/ 204)، ورواه ابن أبي شيبة (1/ 118) 1345 عن وكيع، عن الأعمش به. ورواه أبو داود (298): حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع به، وليس فيه: "وإن قطر الدم على الحصير". وأخرجه ابن ماجه (624): حدثنا علي بن محمد، وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا وكيع به وصرح بأن عروة هو ابن الزبير. وأخرجه الدارقطني (1/ 212) من طريق وكيع، وعبد الله بن داود جمعهما عن الأعمش به ونسبا عروة بأنه ابن الزبير. وأخرجه الدارقطني (1/ 212) من طريق يوسف بن موسى، ومحمد بن إسماعيل الحساني فرقهما عن وكيع به، ولم ينسبا عروة. وأخرجه أحمد (6/ 42) ثنا علي بن هاشم، ثنا الأعمش به، وأخرجه الدارقطني

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (475) ما رواه الدارمي، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها في كل شهر، فإذا كان عند انقضائها اغتسلت وصلت، وصامت، وتوضأت عند كل صلاة (¬1). [ضعيف جداً]. الدليل الرابع: (476) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد بن القاسم الطائي، ¬

_ (1/ 211) من طريق محمد بن معاوية بن مالج، نا علي بن هاشم به. وأخرجه الطحاوي (1/ 602) من طريق يحيى بن عيسى، قال: ثنا الأعمش به. وأخرجه الدارقطني (1/ 214, 213, 212, 211) من طريق قره بن عيسى، وسعيد بن محمد الوراق الثقفي، ومحمد بن ربيعة، وعبد الله بن نمير فرقهم كلهم عن الأعمش به. واختلف على الأعمش: فرواه وكيع، وعبد الله بن داود، وعلي بن هاشم، ويحيى بن عيسى، وقرة بن عيسى، وسعيد بن محمد الوراق، ومحمد بن ربيعة، وابن نمير كلهم رووه عن الأعمش به مرفوعاً كما سبق. ورواه الدارقطني (1/ 213) من طريق حفص بن غياث، وأبو أسامة فرقهما، عن الأعمش به موقوفاً على عائشة. قال الدارقطني بعده: وتابعهما أسباط بن محمد ولم يذكر سنده عن أسباط. (¬1) سنن الدارمي (793)، وقد سبق تخريجه. انظر: حديث رقم (60).

ثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا أبو يوسف القاضي، عن عبد الله بن علي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي أيوب الأفريقي، وهو عبد الله بن علي، إلا أبو يوسف (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2) ¬

_ (¬1) المعجم الأوسط (1620). (¬2) دراسة الإسناد: أحمد بن القاسم الطائي البغدادي: ثقة. انظر: تاريخ بغداد (4/ 350). بشر بن الوليد الكندي: صاحب أبي يوسف. ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه، قدم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (2/ 369). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (8/ 143). وقال ابن سعد: تكلم بالوقف، فأمسك أصحاب الحديث، وتركوه. الطبقات الكبرى (7/ 355). وقال الآجري: سألت أبا داود: بشر بن الوليد ثقة؟ قال: لا. تاريخ بغداد (7/ 80) لسان الميزان (2/ 35). وقال صالح جزرة: هو صدوق، لكنه لا يعقل، قد كان خرف. المرجعان السابقان. وقال الدارقطني: ثقة. تاريخ بغداد (7/ 80)، لسان الميزان (2/ 35). وقال مسلمة: ثقة. وكان ممن امتحن، وكان أحمد يثني عليه. اللسان (2/ 35). وقال البرقاني: ليس هو من شرط الصحيح. المرجع السابق. أبو يوسف القاضي: هو يعقوب بن إبراهيم، صاحب أبي يوسف. قال ابن كامل: لم يختلف يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني في ثقته في النقل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ قال ابن معين، كما في رواية إبراهيم بن أبي داود البرلسي: ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثاً، ولا أثبت من أبي يوسف. الميزان (4/ 447)، تذكرة الحفاظ (1/ 292)، اللسان (6/ 300). وقال أيضاً: لم يكن يعرف بالحديث، وكان ثقة، كما في رواية الغلابي عنه. تاريخ بغداد (14/ 242). وقال ابن معين في رواية الدوري: أبو يوسف أنبل من أن يكذب. المرجع السابق. وقال أيضاً في رواية أخرى عن الدوري: كان أيو يوسف يميل إلى أصحاب الحديث كثيراً، وكتبنا عنه، ولم يزل الناس يكتبون عنه. الجرح والتعديل (9/ 201). وقال أيضاً: ثقة إلا أنه ربما غلط، كما في رواية محمد بن سعد العوفي. تاريخ بغداد (14/ 242). وقال يحيى أيضاً: لا يكتب حديثه، كما في رواية ابن أبي مريم عنه. تاريخ بغداد (14/ 242)، وهذه الرواية شاذة بالنسبة لما سبق من الروايات عن يحيى بن معين. وقال عمرو بن علي: أبو يوسف صدوق كثير الغلط. تذكرة الحفاظ (1/ 292)، تاريخ بغداد (14/ 292). وكان ابن المبارك سيء الرأي فيه جداً، وفد تركت نقل كلامه عمداً. انظر الكامل (7/ 144)، تاريخ بغداد (14/ 242). وقال الإمام البخاري: تركوه. التاريخ الكبير (8/ 397). وقال أحمد: صدوق، ولكنه من أصحاب أبي حنيفة لا ينبغي أن يروى عنه شيء. الجرح والتعديل (9/ 201). وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وهو أحب إلي من الحسن اللؤلؤي. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 438). وقال ابن عدي: ليس من أصحاب الرأي أكثر حديثاً منه، إلا أنه يروي عن الضعفاء الكثير مثل الحسن بن عمارة، وغيره، وهو كثير ما يخالف أصحابه، ويتبع أهل الأثر إذا وجد فيه خبراً مسنداً، وإذا روى عنه ثقة، ويروي هو عن ثقة، فلا بأس برواياته. الكامل (7/ 144). وقال ابن حبان: كان شيخاً متقناً، لم يكن يسلك مسلك صاحبيه إلا في الفروع، وكان

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (477) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا مورع بن عبد الله، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم بن عتيبة عن جعفر، عن سودة بنت زمعة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلاً واحداً ثم تتوضأ لكل صلاة (¬1). ¬

_ يباينهما في الإيمان والقرآن. ثم قال: "لسنا من يوهم الرعاع ما لا يستحله، ولا ممن يحيض بالقدح في إنسان وإن كان لنا مخالفاً، بل نعطي كل شيخ حقه مما كان فيه، ونقول في كل إنسان ما يستحقه من العدالة والجرح. أدخلنا زفراً وأبا يوسف في الثقات لما تبين لنا من عدالتهما في الأخبار. الخ كلامه رحمه الله تعالى. الثقات (7/ 645). والذي ترجح لي في أبي يوسف ما قاله الامام أحمد وأنه صدوق، ولكن كون الإمام أحمد ترك الرواية عنه لكونه صاحب أبي حنيفة هذا لا يقدح في صدقه، والعدالة في الرواية مبنية على الصدق. والله أعلم. عبد الله بن العلي، أبو أيوب الإفريقي. تقدمت ترجمته. عبد الله بن محمد بن عقيل. سبق تحرير الكلام فيه، وأكثر الأئمة على ضعفه. وفي التقريب: صدوق، وفي حديثه بين، ويقال: تغير بآخره. فالإسناد صالح في الشواهد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 281) فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو مختلف في الاحتجاج به. (¬1) الأوسط (1984)، وسبق الكلام عليه. انظر: حديث رقم (463).

دليل القائلين بوجوب الوضوء لوقت كل صلاة.

[إسناده ضعيف]. فتبين أن الأمر بالوضوء لكل صلاة من حديث عائشة، المحفوظ أنه موقوف على عروة، ورفعه شاذ، والشاذ غير صالح للاعتبار. ومن حديث غيرها ضعيف، ومن يحسن بالشواهد مطلقاً، فإن الحديث عنده قد يرقى إلى الحسن. دليل القائلين بوجوب الوضوء لوقت كل صلاة. حمل الحنفية والحنابلة الأحاديث الواردة بالوضوء لكل صلاة، بأن المراد بكل صلاة، بوقت كل صلاة، قالوا: وإطلاق الصلاة على الوقت جاء الدليل على صحته من القرآن والسنة: الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ} (¬1). فقوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي: لوقت دلوكها. الدليل الثاني: (478) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن سنان - هو العوقي - قال: حدثنا: هشيم (ح) قال: وحدثني سعيد بن النضر، قال: أخبرنا هشيم، قال أخبرنا سيار، قال حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية (78).

الدليل الثالث

قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). وجه الاستدلال: قوله: "أدركته الصلاة" أي أدركه وقت الصلاة. الدليل الثالث: (479) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن فضيل، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس (¬2). وجه الاستدلال: قوله: "إن للصلاة أولاً وآخراً". أي إن لوقت الصلاة، فأطلقت الصلاة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (335)، ومسلم (521). (¬2) المسند (6/ 332).

وأريد بها الوقت. [والحديث ضعيف والمحفوظ أنه مرسل ووصله شاذ] (¬1). وقد رد ابن حزم هذا القول، فقال رحمه الله: "وأما قول أبي حنيفة ففاسد أيضاً؛ لأنه مخالف للخبر الذي تعلق به، ومخالف للمعقول والقياس، وما وجدنا ¬

_ (¬1) ومن طريق أحمد أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 278). والحديث مداره على محمد بن فضيل، ورجاله وإن كانوا ثقاة إلا أنه معلول، اختلف فيه على الأعمش، فرواه محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة. وخالفه أبو إسحاق الفزاري كما عند الترمذي (1/ 284)، وزائدة، وعبثر أبو زبيد كما عند الدارقطني (1/ 262) ثلاثتهم رووه عن الأعمش عن مجاهد، قال: كان يقال: إن للصلاة أولاً وآخراً وقوله: "كان يقال لم يضفه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا إلى الصحابة. قال الدارقطني (1/ 262): وهم في إسناده محمد بن فضيل. وقال البخاري فيما نقل عنه الترمذي في سننه (1/ 284): سمعت محمداً يقول: حديث الأعمش، عن مجاهد في المواقيت أصح من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد ابن فضيل خطأ، أخطأ فيه محمد بن فضيل. وقال عباس الدوري في تاريخه عن يحيى بن معين، نص رقم (1909): سمعت يحيى يضعف حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أحسب يحيى يريد: "إن للصلاة أولاً وآخراً"، وقال: إنما يروى عن الأعمش، عن مجاهد. وقال أبو حاتم في العلل (1/ 101): "هذا خطأ، وهم فيه محمد بن فضيل، يرويه أصحاب الأعمش، عن الأعمش، عن مجاهد". تخريج الحديث: الحديث أخرجه وابن أبي شيبة (1/ 281)، حدثنا محمد بن فضيل به. وأخرجه الترمذي (151): حدثنا هناد، حدثنا محمد بن فضيل به. وأخرجه الدارقطني (1/ 262) من طريق سلم بن جنادة، ثنا محمد بن فضيل به. وأخرجه البيهقي (1/ 375 - 376) من طريق محمد بن فضيل به.

دليل الشافعية على وجوب الوضوء لكل فريضة دون النافلة.

طهارة قط تنتقض بخروج وقت، وتصح بكون الوقت قائماً، وموه بعضهم في هذا بأن قالوا: قد وجدنا الماسح في السفر والحضر تنتقض طهارته بخروج الوقت المحدد لها، فنقيس عليها المستحاضة. قال ابن حزم: القياس كله باطل، ثم لو كان حقاً لكان هذا منه عين الباطل؛ لأنه قياس خطأ وعلى خطأ، وما انتقضت طهارة الماسح بانقضاء الأمد المذكور، بل هو طاهر كما كان، ويصلي ما لم ينتقض وضوءه بحدث من الأحداث". الخ كلامه (¬1). دليل الشافعية على وجوب الوضوء لكل فريضة دون النافلة. حمل الشافعية أحاديث الأمر بالوضوء لكل صلاة - والتي مرت معنا في أدلة القول الأول - حملوها على الفريضة دون النافلة، فأوجبوا الصلاة لكل فريضة مؤداة أو مقضية، بخلاف النافلة، فإنهم يجيزون لها أن تصلي ما شاءت من النوافل. وهذا التفريق بين الفريضة والنافلة، لا أعلم له دليلاً مسوغاً، وكلمة "كل" في قوله: "وتوضئي لكل صلاة" من ألفاظ العموم، فأين الدليل على إخراج النوافل. قال ابن حزم في المحلى: "ومن المحال الممتنع في الدين، الذي لم يأت به قط نص، ولا دليل، أن يكون إنسان طاهراً إن أراد أن يصلي تطوعاً، ومحدثاً غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلي فريضة، هذا ما لا خفاء به، وليس إلا ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة: 168).

أدلة المالكية على استحباب الوضوء للمستحاضة وأنه غير واجب.

طاهر أو محدث". اهـ (¬1). قلت: وحديث: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" كلمة "صلاة" نكرة في سياق النفي، فتعم كل صلاة، نفلاً كانت أو فرضاً، فلما صحت النافلة بكونها طاهرة، فلماذا لا تقبل الفريضة. أو يقال: لما لم تصح الفريضة علمنا أنها محدثة فلا تصح النافلة، لأن الله لا يقبل صلاة بغير طهور. أدلة المالكية على استحباب الوضوء للمستحاضة وأنه غير واجب. الدليل الأول: قالوا: إن من كان به حدث دائم لو تطهر فلن يرتفع حدثه، وإذا كان كذلك، كان طهارته استحباباً لا وجوباً. الدليل الثاني: إذا كان دم الاستحاضة لا يبطل الطهارة بعد الوضوء، وقبل الصلاة، لم يكن حدثاً يوجب الوضوء عند تجدد الصلاة أو خروج الوقت، ولذا حملنا الأمر على الاستحباب. الدليل الثالث: دم العرق لا ينقض الوضوء، فلو خرج دم من عرق اليد، أو الرجل لم ينتقض وضوءه على الصحيح، فكذلك دم الاستحاضة، فإنه دم عرق كما في ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة: 168).

الدليل الرابع

أحاديث الصحيحين، ولا يقال: إن خروجه من الفرج جعل حكمه يختلف؛ لأن المني يخرج من الفرج، ومع ذلك هو طاهر. الدليل الرابع: الشارع حكيم، لا يؤاخذ الإنسان إلا بما فعل، فإذا كان خروج الدم ليس من فعل الإنسان، ولا من قصده، لم تفسد عبادته، ولهذا لا يؤاخذ الإنسان باللغو في اليمين لعدم توفر القصد. قال ابن المنذر في الأوسط: "والنظر دال على ما قال ربيعة - يعني: في عدم وجوب الوضوء - إلا أنه قول لا أعلم أحداً سبقه إليه. وإنما قلت: النظر يدل عليه؛ لأنه لا فرق بين الدم الذي يخرج من المستحاضة قبل الوضوء، والذي يخرج في أضعاف الوضوء، والدم الخارج بعد الوضوء؛ لأن دم الاستحاضة إن كان يوجب الوضوء فقليل ذلك وكثيره في أي وقت كان يوجب الوضوء، فإذا كان هكذا، وابتدأت المستحاضة في الوضوء، فخرج منها دم بعد غسلها بعض أعضاء الوضوء، وجب أن ينتقض ما غسلت من أعضاء الوضوء، لأن الدم الذي يوجب الطهارة في قول من أوجب على المستحاضة الطهارة قائم. وإن كان ما يخرج منها بين أضعاف الوضوء، وما خرج منها قبل أن تدخل الصلاة، وما حدث في الصلاة منه لا ينقض طهارة، وجب كذلك أن ما خرج منها بعد فراغها من الصلاة لا تنقض طهارة إلا بحدث غير دم الاستحاضة هذا

الذي يدل عليه النظر". اهـ (¬1) فالراجح ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ولا ينهض عندي تحسين الأحاديث الضعيفة بالشواهد؛ لأن اللفظ في حديث عائشة بالأمر بالوضوء لكل صلاة شاذ، والشاذ لا يصلح للشواهد، وما عداه لا يكفي للتحسين بمثل هذه المسألة التي يحتاج إليها، وقد وقعت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكرر وقوعه مرات، فلو كان الأمر بها محفوظاً لجاءت الأحاديث الصحيحة التي تبين وجوب الوضوء بصورة تقوم بمثلها الحجة. والله أعلم. ولو قلنا: بموجب حديث: توضئي لكل صلاة، لكان الوضوء واجباً لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج، وهذا رأي ابن حزم، للأمر بالوضوء لكل صلاة وأما حمل الأمر بالوضوء لكل صلاة: أي لوقت كل صلاة، كما هو مذهب الحنفية فيحتاج الأمر إلى دليل على أن المراد الوقت، وليس خروج الوقت حدثاً، ويكفي أن حملهم خلاف ظاهر اللفظ بلا مسوغ. والجواب عما قاله الحنفية رحمهم الله: أن إطلاق الصلاة قد يطلق ويراد بذلك الوقت إذا صح إنما يصح لقرينة تمنع من إرادة الصلاة نفسها، وإلا فالأصل في الكلام عدم الحذف وعدم التقدير، ولا قرينة هنا تمنع من إرادة الصلاة، أي فعلها، فوجب حمل اللفظ على ظاهره، لو قلنا بصحة الحديث. وأما حمل الشافعية بالصلاة بأن المراد بها الفريضة دون النافلة، فهذا من أضعف الأقوال. ¬

_ (¬1) الأوسط (1/ 164).

الفرع الأول: خلاف العلماء في وجوب غسل فرج المستحاضة عنه الوضوء لم يذكر ذلك الحنفية، ولعل ذلك لأن الاستنجاء ليس بواجب عندهم (¬1) وغسله إنما هو من قبيل الاستنجاء (¬2). وأوجب غسل الفرج الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وهل يكفي غسله مرة واحدة؟ أو تغسله لكل صلاة. ¬

_ (¬1) قال في الاختيار (1/ 36): "والاستنجاء سنة من كل ما يخرج من السبيلين إلا الريح". اهـ ولا شك أن دم الاستحاضة خارج من أحد السبيلين، فالاستنجاء منه ليس بواجب عندهم" وانظر بدائع الصنائع (1/ 18). وهو رأي مرجوح، وليس هذا موضع بحثه. (¬2) الحنفية لم يوجبوا غسله حتى ولو أصاب ثوبها. قال في البحر الرائق (1/ 227): "وينبغي لصاحب الجرح أن يربطه تقليلاً للنجاسة، ولو سال على ثوبه فعليه أن يغسله إذا كان مفيداً بأن لا يصيبه مرة أخرى، وإن كان يصيبه المرة بعد الأخرى أجزأه، ولا يجب غسله ما دام العذر باقياً، وقيل: لا يجب غسله أصلاً، واختار الأول السرخسي، والمختار ما في النوازل: إن كان لو غسله تنجس ثانياً قبل الفراغ من الصلاة جاز أن لا يغسله، وإلا فلا". اهـ وهذا مقيس عليه. ولم أتعرض لمذهب مالك؛ لأننا عرفنا مذهبه أنه لا يوجب الوضوء من الخارج، فإذا كان لا يوجب الوضوء منه، لم يوجب غسل الفرج أيضاً. (¬3) مغني المحتاج (1/ 111)، روضة الطالبين (1/ 137)، حاشية البيجوري (1/ 212). (¬4) الإنصاف (1/ 377)، كشاف القناع (1/ 214)، المحرر (1/ 27)، المغني (1/ 421).

أدلة الشافعية والحنابلة على وجوب غسل الفرج.

المشهور من مذهب الشافعية ما قاله النووي: في شرح صحيح مسلم: قال: "وأما تجديد غسل الفرج وحشوه، وشده لكل فريضة، فينظر فيه: فإن زالت العصابة عن موضعها زوالاً له تأثير، أو ظهر الدم على جوانب العصابة وجب التجديد، وإن لم تزل العصابة عن موضعها ولا ظهر الدم، ففيه وجهان لأصحابنا، أصحهما: وجوب التجديد كما يجب تجديد الوضوء" اهـ (¬1). وأما المشهور من المذهب الحنبلي أنه لا يلزمها غسل الفرج لكل صلاة إذا لم تفرط (¬2). وفي مذهب الحنابلة قولان آخران: قيل: يلزمها ذلك. وقيل يلزمها إن خرج شيء، وإلا فلا (¬3). أدلة الشافعية والحنابلة على وجوب غسل الفرج. استدلوا بأدلة عامة، وخاصة. أما الدليل الخاص. (480) فقد استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، ¬

_ (¬1) شرح النووي لصحيح مسلم (4/ 25). (¬2) قال في الإنصاف (3/ 377): "وهو صحيح، وهو المذهب، وعليه جمهور الأصحاب، وقدمه في الفروع وغيره، وجزم به المصنف والشارح، وصححه المجد في شرحه ... الخ كلامه رحمه الله. وقال في كشاف القناع (1/ 214): "ولا يلزمها إذن إعادة شده، ولا إعادة غسله لكل صلاة إن لم تفرط في الشد للحرج، فإن فرطت في الشد وخرج الدم بعد الوضوء أعادته؛ لأنه حدث أمكن التحرز منه" اهـ. (¬3) الفروع (1/ 279) الإنصاف (1/ 378، 377).

عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: "فاغسلي عنك الدم وصلي". قال ابن رجب في شرحه للبخاري: "واختلفوا هل يجب عليها غسل الدم، والتحفظ والتلجم عند كل صلاة؟ فيه قولان: هما روايتان عن أحمد. وربما يرجع هذا الاختلاف إلى الاختلاف المشهور في أن الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أم لا؟ وفيه خلاف مشهور، لكن الأصح هنا أنه لا يقتضي التكرار لكل صلاة، فإن الأمر بالاغتسال وغسل الدم إنما هو معلق بانقضاء الحيضة وإدبارها فإذا قيل: إنه يقتضي التكرار لم يقتضيه إلا عند إدبار كل حيضة فقط. اهـ (¬2). وأما الأدلة العامة: فهي من قبيل القياس، فيقاس غسل الفرج من دم الاستحاضة بأحاديث الاستنجاء والاستجمار، بجامع أن كلاً منها قطع للنجاسة من السبيلين. وأحاديث الاستنجاء كثيرة، ويكفي منها: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (228)، ومسلم (333). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 68)

أدلة الحنفية على أنه لا يجب الاستنجاء ومنه غسل الفرج من دم الاستحاضة.

(481) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع والأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة. قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. رواه مسلم (¬1). ولا يسلم القياس إلا بتحقق أمرين: أولهما: أن يكون غسل الفرج قاطعاً للخارج، كما أن الاستنجاء يقطع الخارج. وهذا لا يتحقق هنا؛ لأن الاستنجاء هنا لن يقطع دم الاستحاضة. وثانيهما: أن يكون دم الاستحاضة نجساً، كالحال في الاستنجاء من البول والغائط، وأما من رأى أن دم الاستحاضة طاهر؛ لأنه دم عرق، مثله مثل دم سائر العروق من البدن، فلا يسلم القياس، ولا يوجب غسل الفرج؛ لأنه كالمني لا يجب الاستنجاء منه. والله أعلم. أدلة الحنفية على أنه لا يجب الاستنجاء ومنه غسل الفرج من دم الاستحاضة. الدليل الأول: (*) (482) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (262). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم يذكر المؤلف دليلا آخر

ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬1). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (2/ 371). (¬2) في الإسناد حصين الحبراني: ذكره البخاري، وسكت عليه. التاريخ الكبير (3/ 6). وقال أبو زرعة: شيخ. الجرح والتعديل (3/ 199). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (6/ 211). وقال الذهبي: لا يعرف في زمن التابعين. ميزان الإعتدال (1/ 555)، لسان الميزان (7/ 200). وقال الحافظ في التقريب: مجهول. وفي الإسناد أيضاً: أبو سعيد الحبراني: ذكره ابن حبان في الثقات (3/ 271)، وقال: له صحبة. قال أبو زرعة: لا أعرفه. الجرح والتعديل (9/ 378). وقال العجلي: تابعي، ثقة. ثقات العجلي (2/ 404). وقل الحافظ: مجهول. لسان الميزان (7/ 466). وخطأ الحافظ في التهذيب من ادعى أنه صحابي، وقال: هما اثنان: الأنماري، والحبراني، فأبو سعيد الحبراني تابعي قطعاً. ومع أن الحافظ ضعف الحديث في التلخيص (1/ 180) وقال: "حصين الحبراني: مجهول". إلا أنه سها في الفتح (1/ 348)، فقال: إسناده حسن". وقال النووي في المجموع (2/ 92): "وأما حديث أبي هريرة فحسن، رواه أحمد، والدارمي، وأبو داود، وابن ماجه بأسانيد حسنة!! ".

الشاهد منه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج". وجه الاستدلال: قال الكاساني: "الاستدلال به من وجهين: ¬

_ تخريج الحديث: الحديث مداره على ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعيد، وقيل سعد الخير، عن أبي هريرة. ويرويه عن ثور جماعة. الأول: عيسى بن يونس. أخرجه أبو داود (35) حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: حدثنا عيسى بن يونس به. وأخرجه الطحاوي (1/ 121) من طريق يحيى بن حسان، حدثني عيسى بن يونس به. وأخرجه البيهقي (1/ 94) من طريق عيسى بن يونس، وعمرو بن الوليد، قالا: حدثنا ثور بن يزيد، عن حسن الحبراني - والصواب: حصين - ثم إنه اقتصر على آخره: "من أتى الغائط فليستتر ... الخ الحديث. والثاني: عاصم، عن ثور. أخرجه الدارمي (662) أخبرنا أبو عاصم، عن ثور به. وأخرجه الطحاوي (1/ 122) وابن حبان (1410) من طريق أبي عاصم به. ولم يذكر ابن حبان قوله في الحديث: "ومن تخلل .. ومن لاك". الثالث: عبد الملك بن الصباح، عن ثور. أخرجه ابن ماجه (338, 337) عن محمد بن بشار، وعبد الرحمن بن عمر (رستة)، كلاهما، عن عبد الملك بن الصباح، عن ثور. وأعاده في الطب (3498) عن رستة وحده. وفي رواية أحمد، والبيهقي، والطحاوي، قالوا: أبو سعد الخير. وفي رواية أبي داود، وإحدى روايتي الطحاوي، وإحدى روايتي ابن ماجه، قالوا: أبو سعيد.

أحدهما: أنه نفى الحرج في تركه، ولو كان فرضاً لكان في تركه حرج. الثاني: أنه قال: "من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومثل هذا لا يقال في المفروض، وإنما يقال في المندوب إليه، والمستحب" اهـ (¬1). والجواب على هذا الحديث من وجهين: الأول: أن نفي الحرج لا يرجع إلى الاستنجاء، وإنما يرجع إلى الإيتار؛ لأنه أقرب مذكور، وهو صفة في الاستنجاء، وليس في أصله. الثاني: أن الحديث ضعيف، وما بني على الضعيف فهو ضعيف. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 18).

الفرع الثاني: شد عصابة الفرج عند الوضوء ذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أنه يجب على المستحاضة أن ¬

_ (¬1) قال في البحر الرائق (1/ 227): "ومتى قدر المعذور على رد السيلان برباط أو حشو، أو كان لو جلس لا يسيل، ولو قام سال وجب رده". وقال ابن الهمام في شرح فتح القدير (1/ 185): "ومتى قدر المعذور على رد السيلان برباط أو حشو، أو كان لو جلس لا يسيل، ولو قام سال وجب رده، فإنه يخرج برده عن أن يكون صاحب عذر". اهـ وانظر مراقي الفلاح (ص 60). (¬2) قال النووي في الروضة (1/ 137): "فتغسل المستحاضة فرجها قبل الوضوء أو التيمم، وتحشوه بقطنة أو خرقة دفعاً للنجاسة وتقليلاً، فإن اندفع به الدم، وإلا شدت مع ذلك خرقة في وسطها، وتلجمت بأخرى مشقوقة الطرفين، فكل هذا واجب إلا أن تتأذى بالشد أو تكون صائمة، فتترك الحشو وتقتصر على الشد". وقال في مغني المحتاج (1/ 111): "تشده - يعني فرجها - بعد غسله بخرقة مشقوقة الطرفين، تخرج أحدهما من أمامها والآخر من خلفها، وتربطهما بخرقة تشدها على وسطها كالتكة، فإن احتاجت في رفع الدم أو تقليله إلى حشو بنحو قطن، وهى مفطرة، ولم تتأذ به وجب عليها أن تحشو قبل الشد والتلجم، وتكتفي به إن لم تحتج إليهما، أما إذا كانت صائمة أو تأذت باجتماعه فلا يجب عليها الحشو". وقال أيضاً (1/ 112): "ويجب تجديد العصابة، وما يتعلق بها من غسل وحشو في الأصح، قياساً على تجديد الوضوء. والثاني: لا يجب تجديدها، لأنه لا معنى للأمر بإزالة النجاسة مع استمرارها، ومحل الخلاف إذا لم يظهر الدم على جوانب العصابة، ولم تزل العصابة عن موضعها زوالاً له وقع، وإلا وجب التجديد بلا خلاف؛ لأن النجاسة قد كثرت مع إمكان تقليلها. وانظر كلام النووى في شرح صحيح مسلم (4/ 25). (¬3) قال: ابن قدامة في المغني (1/ 421): "والمستحاضة تغسل المحل، ثم تحشوه بقطن أو ما أشبهه ليرد الدم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لحمنة حين شكت إليه كثرة الدم: "أنعت لك الكرسف؛

الأدلة على وجوب التلجم والتحفظ.

تشد فرجها وتعصبها، وهل يجب عليها ذلك في كل صلاة، على الخلاف السابق في غسل الفرج. الأدلة على وجوب التلجم والتحفظ. الدليل الأول: (483) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت فلتغتسل، ثم لتستثفر، ثم لتصلي" (¬1). [والحديث رجاله ثقات، إلا أنه أعل بالانقطاع، وفي إسناده اضطراب] (¬2). وجه الاستدلال: قوله: "ثم لتستثفر بثوب". ¬

_ فإنه يذهب الدم"، فإن لم يرتد الدم بالقطن استثفرت بخرقة مشقوقة الطرفين تشدها على جنبيها ووسطها على الفرج". ثم قال: "فإذا فعلت ذلك، ثم خرج الدم، فإن كان لرخاوة الشد فعليها إعادة الشد والطهارة، وإن كان لغلبة الخارج وقوته، وكونه لا يمكن شده أكثر من ذلك لم تبطل الطهارة؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، فتصلي ولو قطر الدم". (¬1) الموطأ (1/ 62). (¬2) سبق تخريجه.

قال ابن منظور في اللسان: وهو أن تشد فرجها بخرقة عريضة أو قطنة تحتشي بها، وتوثق طرفيها في شيء تشده على وسطها فتمنع سيلان الدم وهو مأخوذ من: ثَفَر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها. وفي نسخة: "وتوثق طرفيها، ثم تربط فوق ذلك رباطاً، تشد طرفيه إلى حقب تشده كما تشد الثفر تحت ذنب الدابة" (¬1). وقال في تاج العروس: "والاستثفار أن يدخل الإنسان إزاره بين فخذيه ملوياً ثم يخرجه، والرجل يستثفر بإزاره عند الصراع، إذا هو لواه على فخذيه فشد طرفيه في حجزته وزاد ابن ظفر في شرح المقامات: حتى يكون كالتُّبان، وقد تقدم أن التبان هو السراويل الصغير، لا ساقين له .. الخ كلامه" (¬2). وورد كذلك التلجم والتحفظ في حديث حمنة بنت جحش، فقد رواه أحمد، وفيه: "فقلت: يا رسول الله، إني استحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها، قد منعتني الصلاة والصيام، قال: أنعت لك الكرسف؛ فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فتلجمي. قالت: إنما اثج ثجاً ... الحديث". [والحديث ضعيف] (¬3). وجه الاستدلال: قوله: "تلجمي"، قال ابن منظور في اللسان: "تلجمت المرأة، إذا ¬

_ (¬1) اللسان (4/ 105). (¬2) تاج العروس (6/ 148). (¬3) المسند (6/ 439)، وسبق الكلام عليه في حديث رقم (456).

[الدليل الثاني]

استثفرت لمحيضها. واللجام: ما تشده الحائض، وفي حديث المستحاضة: "تلجمي" أي شدي لجاماً، وهو شبيه بقوله: "استثفري" أي: ألجمي موضع خروج الدم عصابة تمنع الدم، تشبيهاً بوضع اللجام في فم الدابة. (¬1) وقال: نحوه صاحب تاج العروس (¬2). وكانت النساء تستثفر ولو لم تجب عليها الصلاة حرصاً على عدم تلوثها في الدم. [الدليل الثاني] (*) (484) فجاء في حديث جابر عند مسلم في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، واستثفري، وأحرمي" (¬3). ¬

_ (¬1) اللسان (12/ 534). (¬2) تاج العروس (17/ 639). (¬3) صحيح مسلم (147 - 1218). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

الفصل السادس: خلاف العلماء في وجوب الغسل على المستحاضة

الفصل السادس: خلاف العلماء في وجوب الغسل على المستحاضة اختلف العلماء هل يجب على المستحاضة الغسل إلى أقوال: فقيل: يجب عليها الغسل لكل صلاة. وهو مروي عن ابن عمر، وابن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، وهو رواية أيضاً عن علي وابن عباس (¬1). وقيل: يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، تصلي به الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، وتغتسل للمغرب والعشاء كذلك تؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل للفجر غسلاً واحداً. وهو قول علي، وابن عباس، وإبراهيم النخعي، وعبد الله بن شداد وفرقة (¬2) وقيل: تغتسل كل يوم غسلاً واحداً. وهو مروي عن عائشة (¬3). وقيل: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر. ¬

_ (¬1) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 501)، شرح النووي لصحيح مسلم (4/ 19)، المجموع للنووي (2/ 553)، البناية (1/ 673). (¬2) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 504)، وانظر: صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 27)، والمجموع (2/ 553). (¬3) المجموع (2/ 553)، فئح البر (3/ 504)، وانظر سنن أبي داود (301).

أدلة من قال يجب عليها الغسل لكل صلاة.

وهو قول ابن المسيب، والحسن، وعطاء، وروى مثل ذلك عن ابن عمر، وأنس، وهو رواية عن عائشة (¬1). وقيل: لا يجب عليها الغسل لشيء من الصلوات إلا مرة واحدة عند إدبار حيضها. وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، وأحمد (¬5). إلا أن الحنفية والشافعية والحنابلة يرون أنه يجب عليها الوضوء إما لوقت كل صلاة أو لكل فريضة بخلاف مالك فإنه يستحب لها الوضوء، ولا يوجبه، وسبق بيانه. قال النووي: "وبهذا قال جمهور السلف والخلف. وهو مروى عن علي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن" (¬6). أدلة من قال يجب عليها الغسل لكل صلاة. الدليل الأول: (485) ما رواه أحمد: ثنا أحمد بن الحجاج، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي ¬

_ (¬1) فتح البر (3/ 504)، المجموع (2/ 553)، صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 27). (¬2) البناية (1/ 673)، حاشية ابن عابدين (1/ 305)، شرح فتح القدير (1/ 179). (¬3) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 509)، الاستذكار (3/ 226)، مقدمات ابن رشد (1/ 131, 130). (¬4) المجموع (2/ 553)، شرح صحيح مسلم - النووي (4/ 27) ح 333. (¬5) الإنصاف (1/ 377)، المحرر (1/ 27)، كشاف القناع (1/ 214). (¬6) المجموع (2/ 553).

حازم، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وأنها استحيضت فلا تطهر، فذكر شأنها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ليست بالحيضة، ولكنها ركضة من الرحم، فلتنظر له قدر قرئها التي كانت تحيض، فلتنظر له، فلتترك الصلاة، ثم لتنظر ما بعد ذلك، فلتغتسل عند كل صلاة ولتصل" (¬1). [المحفوظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بالغسل لكل صلاة، وإنما شيء فعلته هي من تلقاء نفسها] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (6/ 127 - 128). (¬2) دراسة الإسناد. أحمد بن الحجاج. ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (8/ 6). وروى له البخاري. وقال الخطيب: قدم بغداد، وحدث بها فأثنى عليه أحمد. تاريخ بغداد (4/ 116). وقال ابن أبي خيثمة: كان رجل صدق. الجرح والتعديل (2/ 45)، تاريخ بغداد (4/ 116). عبد العزيز بن أبي حازم. قال أحمد: لم يكن يعرف بطلب الحديث، إلا كتب أبيه، فإنهم يقولون إنه سمعها، وكان يتفقه، لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، ويقال إن كتب سليمان بن بلال وقعت إليه، ولم يسمعها، وقد روى عن أقوام لم يكن يعرف أنه سمع منهم. الجرح والتعديل (5/ 382). وقال عمرو بن علي: ما رأيت عبد الرحمن بن مهدي حدث عن ابن أبي حازم بحديث. الضعفاء الكبير - العقيلي (3/ 10). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 10). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، دون الداروردي. الطبقات الكبرى (5/ 424).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال ابن معين: ليس بثقة في حديث أبيه، كما في رواية ابن أبي خيثمة. فتعقبه الذهبي، فقال: بل هو ثقة حجة في أبيه، وقد يكون غيره أقوى وأثبت منه. تذكرة الحفاظ (1/ 268)، تهذيب التهذيب (6/ 297). وقال يحيى بن معين أيضاً: صدوق ثقة، ليس به بأس. كما في رواية ابن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (5/ 382). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد العزيز بن أبي حازم، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقال: متقاربون. وقال أيضاً: صالح الحديث. الجرح والتعديل (5/ 382). وقال أبو زرعة: أفقه من الداروردي، والداروردي أوسع حديثاً. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس به بأس، وقال في موضع آخر: ثقة. تهذيب الكمال (18/ 120)، وتهذيب التهذيب (6/ 297). وقال ابن نمير: ثقة. تهذيب التهذيب (6/ 297). وقال العجلي: ثقة. ثقات العجلي (2/ 96). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (7/ 117). وقال أيضاً: من خيار أهل المدينة، ومتقنيهم. مشاهير علماء الأمصار (1119). وقال مالك: قوم يكون فيهم ابن أبي حازم لا يصيبهم العذاب. تهذيب التهذيب (6/ 297). وقد روى له الجماعة. وفي التقريب: صدوق فقيه. قلت: قد تابعه في هذا الحديث الداروردي كما في مسند أبي عوانة (1/ 323). يزيد بن عبد الله بن الهاد. قال أحمد: لا أعلم به بأساً. الجرح والتعديل (9/ 275)، تهذيب الكمال (32/ 169). وقال يحيى بن معين: ثقة. الجرح والتعديل (9/ 275). ووثقه النسائي. اللسان (7/ 441). وقال أبو حاتم الرازي: ابن الهاد أحب إلي من محمد بن عمرو بن علقمة، وهو وابن عجلان متساويان، وهو ثقة في نفسه. الجرح والتعديل (9/ 275).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (486) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا محمد - يعن: ابن إسحاق ¬

_ وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (7/ 617). وقال أيضاً: من متقني أهل المدينة وصالحيهم. المشاهير (1055). وقال العجلي: مدني ثقة. ثقات العجلي (2/ 365). وفي التقريب: ثقة مكثر. أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. روى له الجماعة، وفي التقريب: ثقة عابد. عمرة بنت عبد الرحمن. قال عمر بن عبد العزيز: ما بقي أحد أعلم بحديث عائشة منها - يعني عمرة - الطبقات (2/ 387). وقال يحيى بن معين: ثقة. تهذيب التهذيب (12/ 466)، تهذيب الكمال (35/ 241). وقال العجلي: مدنية تابعية ثقة. ثقات العجلي (2/ 456). وذكر ابن المديني عمرة ففخم أمرها، وقال: عمرة أحد الثقات، العلماء بعائشة، الأثبات فيها. تهذيب التهذيب (12/ 466). وقال أبو حبان: تروي عن عائشة، وكانت من أعلم الناس بحديثها. الثقات (5/ 288). وفي التقريب: ثقة. فالإسناد رجاله كلهم ثقات، إلا عبد العزيز بن أبي حازم فإنه صدوق، إلا أن رفع الأمر بالغسل شاذ كما سيتبين من خلال تخريج حديث عائشة من طريق الزهري في الحديث الذى بعد هذا فانظره. وأما تخريج الحديث: فقد أخرجه الطحاوي (1/ 98) من طريق الحميدي، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم به، وأخرجه البيهقي (1/ 349) من طريق ابن كاسب، ثنا ابن أبي حازم به، وتوبع فيه ابن أبي حازم فخرج من عهدته، فقد رواه أبو عوانة (1/ 323) من طريق الداروردي، عن يزيد بن الهاد به.

- عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن زينب بنت جحش استحيضت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغسل لكل صلاة، فإن كانت لتدخل المركن مملوءاً ماء، فتنغمس فيه، ثم تخرج منه، وإن الدم لغالبه فتخرج فتصلي" (¬1). [وهم فيه ابن إسحاق، وقد رواه جماعة عن الزهري، وليس فيه الأمر بالغسل لكل صلاة] (¬2). ¬

_ (¬1) المسند (6/ 237). (¬2) الإسناد مداره على الزهري. فرواه ابن إسحاق عن الزهري عن عروة، عن عائشة في قصة استحاضة زينب بنت جحش، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالغسل لكل صلاة، وزينب هي أم حبيبة، وقد جاء في الموطأ (1/ 62) تسمية أم حبيبة بزينب، ولي في اسمها وقفة إن شاء الله تعالى. وتابع سليمان بن كثير ابن إسحاق، إلا أن سليمان بن كثير قد ضعف في الزهري، كما أنه قد اختلف عليه. فرواه أبو الوليد الطيالسي، عن سليمان بن كثير به، بذكر الأمر بالاغتسال لكل صلاة، ذكره أبو داود في السنن، قال بعد حديث (292)، ورواه أبو الوليد الطيالسي ولم أسمعه منه، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: استحيضت زينب بنت جحش، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اغتسلي لكل صلاة" وساق الحديث. ورواه البيهقي في السنن (1/ 35) من طريق مسلم بن إبراهيم، ثنا سليمان - يعني: ابن كثير - عن الزهري به، وفيه: "فاغتسلي وصلي" وليس فيه الأمر بالاغتسال لكل صلاة، ولا الرضوء لكل صلاة". قال البيهقي: وهذا أولى لموافقته سائر الروايات عن الزهري. اهـ. ورواه جمع من الرواة، عن الزهري، ولم يجعلوا الغسل لكل صلاة من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ 1 - ابن أبي ذيب، 2 - والليث، 3 - والأوزاعي، 4 - وإبراهيم بن سعد، 4 - وعمرو بن الحارث، 5 - وسفيان بن عيينة، 6 - والنعمان، 7 - وحفض بن غيلان. وكل هؤلاء مقدمون على بن إسحاق، بل فيهم من هو مقدم وحده على ابن إسحاق فكيف وفد اجتمعوا. وإليك تخريج رواياتهم، وما فيها من اختلاف. رواية ابن إسحاق عن الزهري. أخرجها أحمد كما قدمت في الباب (6/ 237)، عن يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق به. وأخرجه الدارمي (775) عن يزيد بن هارون به. وأخرجه أبو داود (292) حدثنا هناد بن السري، عن عبدة، عن ابن إسحاق به. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 350). وأخرجه الطحاوي (1/ 98) من طريق الوهبي، ثنا محمد بن إسحاق به. وقد عنعن ابن إسحاق في جميع هذه الطرق. وقد سمَّى ابن إسحاق المرأة المستحاضة عند أحمد (6/ 237) بـ "زينب بنت جحش، وسماها في سنن أبي داود (292)، والطحاوي (1/ 98) أم حبيبة، وعند الدارمي (775) ابنة جحش، وهي واحدة ذكر مرة اسمها ومرة كنيتها، وسأسوق الخلاف في اسمها في نهاية البحث إن شاء الله تعالى. وتابع ابن إسحاق سليمان بن كثير، وقد أخرجت الرواية عنه فيما سبق وأشرت إلى الاختلاف عليه، وأنه ضعيف في الزهري. وأما رواية ابن أبي ذئب عن الزهري. فأخرجها أبو داود الطيالسي (1439): حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "أن زينب بنت جحش استحيضت سبع سنين، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل عند كل صلاة". [وسنده صحيح]. فليس في الحديث أنه أمرها أن تغتسل عند كل صلاة، وإنما أمر أن تغتسل، وهذا لا يقتضي التكرار، والمقصود به الغسل من الحيض اللازم لكل امرأة حاضت وطهرت، سواء كانت مستحاضة أو غير مستحاضة، وزينب هي أم حبيبة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأخرجه أحمد (6/ 141): ثنا يزيد - يعني ابن هارون - قال: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة وعمرة، عن عائشة: "أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، وكانت امرأة عبد الرحمن بن عوف، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله: إنما ذلك عرق، وليس بحيضة فاغتسلي وصلي، وفكانت تغتسل عند كل صلاة" [وسنده صحيح]. وأخرجه أبو عوانة (1/ 321) من طريق حسين المروروذي، قال: ثنا ابن أبي ذئب به، وجمع بين عروة وعمرة. وأخرجه البخاري (327): ثنا إبراهيم بن المنذر، قال: ثنا معن، قال: ثني ابن أبي ذئب به بذكر عروة وعمرة. وأخرجه أبو داود (291): ثنا محمد بن إسحاق المسيّي، حدثني أبي، عن ابن أبي ذئب به، بذكر عروة وعمرة. وشيخ أبي داود محمد بن إسحاق صدوق، ووالده إسحاق بن محمد: صدوق فيه لين، وأخرجه الطحاوي (1/ 99) من طريق أسد بن موسى، ثنا ابن أبي ذئب به، بذكر عروة وعمرة. وأخرجه الدارمي (781): ثنا عبيد الله بن عبد المجيد، ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن أم حبيبة، قالت: يا رسول الله غلبني، قال: اغتسلي وصلي. فجعله عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي من مسند أم حبيبة، وخالف جميع من رواه عن ابن أبي ذئب، كيزيد بن هارون، وأبي داود الطيالسي، ومعن، ومحمد بن إسحاق، وأسد ابن موسى وغيرهم، فإنهم جعلوا قصة أم حبيبة من مسند عائشة. وعبيد الله بن عبد المجيد، قال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، ما حاله؟ قال: ليس به بأس. الجرح والتعديل (5/ 324). وروى العقيلي هذا النص بحروفه إلا أنه قال عن يحيى: ليس بشيء. ضعفاء العقيلي (3/ 123). وهو خطأ، وما في الجرح والتعديل أصح؛ فإن الذي في تاريخ الدارمي الترجمة (644): قلت: فعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، أخو أبي بكر الحنفي ما حاله؟ فقال: ليس به

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ بأس. وقد قال الحافظ في التقريب: لم يثبت أن ابن معين ضعفه. وقال أبو حاتم الرازي: صالح، ليس به بأس. الجرح والتعديل (5/ 324). وقال ابن سعد: ثقة إن شاء الله. الطبقات الكبرى (7/ 299). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (8/ 404). وقال العجلي: بصري ثقة. ثقات العجلي (2/ 112). ووثقه الدارقطني وابن قانع. تهذيب التهذيب (7/ 31). وقال الحافظ في التقريب: صدوق، ومع كونه صدوقاً إلا أن مخالفته لما سبق لا تحتمل، بل لو خالف يزيد بن هارون وحده لقدم عليه يزيد، فكيف بمن معه، ثم إنه قد خالف كل من رواه عن الزهري وهم جماعة كما سيأتي. وأما رواية الليث عن الزهري. أخرجها أحمد (6/ 82) ثنا إسحاق، قال: حدثني ليث، قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: "استفتت أم حبيبة بنت جحش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني استحاض قال: "إنما ذلك عرق، فاغتسلي، ثم صلي، فكانت تغتسل عند كل صلاة، قال ابن شهاب: لم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل عند كل صلاة إنما فعلته هي". فهذا صريح في وهم ابن إسحاق عن الزهري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالغسل لكل صلاة، إذ لو كان هذا في رواية الزهري لما قال الزهري ما قال: فإذا أضفت إلى ذلك مخالفة ابن إسحاق للجماعة الحفاظ الذين رووه عن الزهري، ولم يذكروا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالغسل لكل صلاة، قطع الباحث بوهم ابن إسحاق، والواحد من هؤلاء مقدم على ابن إسحاق، فكيف وقد اجتمعوا. وأخرجه الترمذي (129)، ومسلم (334) قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد، وأخرجه مسلم (334)، ثنا محمد بن رميح كلاهما، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة وذكر الحديث، وفي آخره، قال قتيبة: قال الليث: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله أمر أم حبيبة بنت جحش أن تغتسل عند كل صلاة ولكنه شيء فعلته هي. وأخرجه النسائي (206) أنا قتيبة، ثنا الليث به، إلا أنه لم يخرج قول الليث، عن ابن شهاب، واقتصر على ذكر عروة ولم يذكر عمرة، كطريق مسلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأخرجه أبو داود (290) حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني، حدثني الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة واختصر الحديث. وأخرجه الطحاوي (1/ 99) من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث ابن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة عن عائشة به. ثم ذكر في آخره قول الليث، لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أم حبيبة". وابن بكير ثقة في الليث. ورواه البيهقي (1/ 349، 321) من طريق يحيى بن بكير وقتيبة بن سعيد فرقهما، عن الليث به، ولم يذكر قول الليث. وأخرجه ابن حبان (1353) من طريق الوليد بن مسلم، قال: أخبرني الليث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة، فزاد عمرة، ولم يذكر قول الليث عن ابن شهاب، وزاد في متنه "فكانت تقعد في مركن أختها فكانت حمرة الدم تعلو الماء". وأما رواية الأوزاعي عن الزهري. فأخرجها النسائي (203) حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثنا الزهري، عن عروة، وعمرة، عن عائشة قالت: استحيضت أم حبيبة بنت جحش سبع سنين، فاشتكت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق فاغتسلي ثم صلي". وأخرجه النسائي (204)، والطحاوي (1/ 99) قالا: أخبرنا الربيع بن سلمان بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الهيثم بن حميد، قال: أخبرني النعمان والأوزاعي، وأبو معيد: حفص بن غيلان، عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة قالت: استحيضت أم حبيبة بنت جحش، امرأة عبد الرحمن بن عوف، وهي أخت زينب بنت جحش، فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي، وإذا أقبلت فاتركي لها الصلاة. قالت عائشة: وكانت تغتسل أحياناً في مركن في حجرة أختها زينب، وهي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إن حمرة الدم لتعلو الماء، وتخرج فتصلي مع رسول الله فما يمنعها ذلك من الصلاة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وانفرد هذا الطريق بقوله: "إذا أدبرت، وإذا أقبلت" وهذا غير محفوظ من حديث أم حبيبة، ولي فيه وقفة إن شاء الله. وأخرجه الدارمي (778): حدثنا محمد بن يوسف، ثنا الأوزاعي، حدثني الزهري، عن عروة، عن عائشة، بنحو رواية الهيثم بن حميد عن الأوزاعي، وزاد في قول عائشة، قالت عائشة: فكانت تغتسل لكل صلاة. وأخرجه البيهقي (1/ 327) من طريق الوليد بن يزيد، قال: سمعت الأوزاعي به، بذكر عروة وعمرة عن عائشة. وأخرجه ابن حبان (1353) من طريق الوليد بن مسلم، قال: أخبرني الأوزاعي عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة به. وخالفهم أبو المغيرة عند أحمد فأخرجه (6/ 83): ثنا أبو المغيرة، ثنا الأوزاعي، ثني الزهري، عن عروة، عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة به. فجعل أبو المغيرة عروة يروي الحديث عن عائشة، بواسطة عمرة. وأبو المغيرة: اسمه عبد القدوس بن حجاج الخولاني. وثقه الدارقطني. تهذيب التهذيب (6/ 329). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (18/ 237). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: صدوق، كدنا أن ندركه. قلت: فما قولك فيه: قال يكتب حديثه. الجرح والتعديل (6/ 56). وقال العجلي: أبو المغيرة الحمصي ثقة. ثقات العجلي (2/ 100). وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (8/ 419). فهذه الرواية شاذة، تخالف كل من روى الحديث عن الأوزاعي، فإنهم رووه عنه، عن الزهري، عن عروة وعمرة، عن عائشة. وكذلك تخالف كل من رواه عن الزهري، كابن أبي ذئب، والليث بن سعد، وإبراهيم بن سعد، وعمرو بن الحارث، وسفبان بن عيينة، وغيرهم، وقد خشيت أن يكون سند أحمد خطأ من الناسخ، فراجعت أطراف المسند لابن حجر فوافق المطبوع، فتبين أن الوهم من أبي المغيرة. وأما رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فقد أخرجها أحمد (6/ 187) ثنا عبد الرحمن بن مهدي، وأبو كامل، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة، قالت: جاءت أم حبيبة بنت جحش - قال أبو كامل: أم حبيب - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت استحيضت سبع سنين فاشتكت ذلك إليه، واستفتته فيه، فقال: ليس هذا بالحيضة، ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي. فكانت تغتسل لكل صلاة وتصلي، وكانت تجلس في مركن فتعلو حمرة الدم الماء، ثم تصلي. وأخرجه مسلم (334) ثنا أبو عمران محمد بن جعفر بن زياد، أخبرنا إبراهيم بن سعد به. وأخرجه الدارمي (782) أنا سليمان بن داود الهاشمي، ثنا إبراهيم بن سعد به. وأخرجه أبو عوانة (1/ 320) من طريق سليمان بن داود الهاشمي، وداود بن منصور، كليهما عن إبراهيم بن سعد به. وأخرجه الطحاوي (1/ 99) من طريق محمد بن إدريس، عن إبراهيم بن سعد به. وأخرجه ابن حبان (1351) من طريق محمد بن خالد بن عبد الله، قال: حدثنا إبراهيم ابن سعد به. وطريق إبراهيم بن سعد لم يختلف عليه، فكلها من طريق عمرة، عن عائشة، لم يذكر عروة. وأما طريق عمرو بن الحارث عن الزهري. فأخرجها مسلم (334) ثنا محمد بن سلمة المرادي، ثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو ابن الحارث، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، وفي آخره: فقالت عائشة: وكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها ... الخ. وليس فيه: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالغسل لكل صلاة. وأخرجه أبو داود (285) ثنا ابن أبي عقيل، ومحمد بن مسلمة المصريان، قالا: ثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة به. وأخرجه أبو داود (288) بالإسناد نفسه، وزاد في آخره: قالت عائشة: فكانت تغتسل في مركن ... الخ. وأخرجه النسائي (205) أنا محمد بن مسلمة، قال: ثنا ابن وهب به، بذكر عروة وعمرة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأخرجه أبو عوانة (1/ 322، 321)، وابن حبان (1352)، والحاكم (1/ 173)، ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 348) كلهم من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عروة وعمرة به. وأما رواية ابن عيينة عن الزهري. فأخرجها الحميدي (160) ثنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة به، وفيه: فأمرها أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة، وتجلس في المركن فيعلو الدم. وأخرجه مسلم (334) ثنا محمد بن المثنى، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة به ... قال بنحو حديثهم - يعني: حديث الليث، وعمرو بن الحارث، وإبراهيم ابن سعد به. وأخرجه النسائي (1/ 210) أنا محمد بن المثنى، ثنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة به وخالف محمد بن المثنى في لفظه حيث قال فيه: "فأمرها أن تترك الصلاة قدر أقرائها وحيضتها، وتغتسل وتصلي، وكانت تغتسل لكل صلاة". وأما طريق النعمان وحفص بن غيلان عن الزهري. فعند النسائي (204)، والطحاوي (1/ 99)، وقد سقت الأسانيد إليهما ومتونهما في طريق الأوزاعي حيث جمعا معه في سند واحد فارجع إليه. وأما رواية معمر عن الزهري. فأخرجها عبد الرزاق (1164) عن معمر، عن الزهري، عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة به. فتلخص من هذا البحث ما يأتي: أولاً: أن الأمر بالغسل لكل صلاة جاء مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق ابن الهاد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، ولم يختلف الرواة في هذا الحديث، وإن كان رفع الغسل شاذ في هذا الحديث. وأما رواية الزهري عن عمرة وعروة، فكل من رواه عن الزهري، كالليث، وابن سعد، وابن عيينة، وعمرو بن الحارث، والأوزاعي، ومعمر، والنعمان، وابن المنذر، وحفص بن غيلان وغيرهم رووه بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل فقط، والمقصود به الغسل من الحيض، اللازم لكل امرأة حاضت وطهرت، سواء كانت مستحاضة أو غيرها، وفهمت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ أم حبيبة أنها تغتسل عند كل صلاة. وخالف ابن إسحاق الجماعة فرواه عن الزهري، وفيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالغسل لكل صلاة، وهذا وهم من ابن إسحاق، لأن الزهري نفسه كان يقول كما في مسند أحمد (6/ 82) وغيره: لم يأمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل عند كل صلاة، وإنما فعلته هي". ثانياً: واختلف على الزهري في إسناده. فمرة يرويه عن عروة عن عائشة. ومرة عن عمرة عن عائشة. ومرة عن عروة وعمرة عن عائشة ومرة يرويه عن عروة عن عمرة عن عائشة فجعل بين عروة وعائشة واسطة وهي عمرة. وقيل: عن عروة وعمرة عن عائشة، عن أم حبيبة. وقيل: عن عروة، عن فاطمة بنت أبي حبيش. وحاول بعضهم تضعيف الحديث لهذا الاختلاف، كالحافظ ابن عبد البر، فقد قال في التمهيد، كما في فتح البر (3/ 482): "لهذا الاختلاف ومثله عن عروة، والله أعلم، ضعف أهل العلم بالحديث ما عدا حديث هشام بن عروة، وسليمان بن يسار من أحاديث الحيض والاستحاضة". وقال أيضاً (3/ 481): "وحديث ابن شهاب في هذا الباب مضطرب". والصحيح أن الأمر ممكن فيه الترجيح، فلا يصار إلى الاضطراب إلا عند تعذر الترجيح، ولا يمنع أن يكون الزهري سمعه من عروة وعمرة عن عائشة، فكان تارة يجمعهما، وتارة يفرقهما، خاصة أن الرواية عن عروة وعمرة مجتمعين جاءت عند البخاري (327) من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهري عن عروة وعمرة، وجاءت عند مسلم (334) من طريق عمرو ابن الحارث، عن الزهري عن عروة وعمرة. وما عدا هذا فهو شاذ، وبيان الاختلاف على الزهري كالتالي: فقد رواه ابن عيينة، ومعمر، وإبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عمرة، لم يختلف على أحد منهم، ولم يذكروا عروة في روايتهم. وأما رواية ابن أبي ذئب عن الزهري.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فرواه يزيد بن هارون كما عند أحمد ومعن عند البخاري، وإسحاق بن محمد عند أبي داود وأسد بن موسى كما عند الطحاوي كلهم رووه عن ابن أبي ذئب عن الزهري، عن عروة، وعمرة عن عائشة. وخالفهم أبو الوليد الطيالسي (1438) فرواه عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن عروة وحده. وأما رواية الليث عن الزهري. فرواه قتيبة بن سعيد كما عند مسلم والترمذي، والنسائي، ومحمد بن رمح كما عند مسلم، ويزيد بن خالد بن موهب، كما عند أبي داود، ويحيى بن بكير كما في الطحاوي والبيهقي، كلهم رووه عن الليث، عن ابن شهاب به عن عروة وحده. ورواه إسحاق كما عند أحمد (6/ 82) وابن حبان (1353) من طريق الوليد بن مسلم عن الليث، عن عروة وعمرة. وأما رواية النعمان وحفص بن غيلان. عند النسائي، والطحاوي، فقد روياه عن الزهري عن عروة وعمرة، لم يختلف عليهما. وأما رواية الأوزاعي عن الزهري. فقد روى الحديث إسماعيل بن عبد الله، والهيثم بن حميد، والوليد بن مزيد، والوليد ابن مسلم كلهم رووا الحديث عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة وعمرة، عن عائشة. وتابعهم محمد بن يوسف، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة وحده عن عائشة. وخالفهم أبو المغيرة عند أحمد، فرواه عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عمرة عن عائشة، فجعل حديث عروة يرويه عن عمرة لا عن عائشة، ولا شك بأن هذا وهم، ولا يمكن أن يحكم للحديث بالاضطراب لهذا الطريق. وأما رواية الزهري، عن عروة، عن فاطمة بنت أبي حبيش أو عن أسماء فقد أخرجها أبو داود (281) ثنا يوسف بن موسى، ثنا جرير، عن سهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة بن الزبير قال: حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش، أنها أمرت أسماء، أو حدثتني أسماء أنها أمرت فاطمة بنت أبي حبيش أن تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل". وأخرجه البيهقي (1/ 33) من طريق أبي داود، وضعفه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقد خالف سهيل بن أبي صالح جميع من رواه عن الزهري، خالفهم في الإسناد وخالفهم في المتن، كما أنه اختلف عليه في لفظ الحديث كما سأبين. وتارة يجزم بأنه عن أسماء، ويسميها أحياناً بأنها بنت عميس، وأحياناً يسميها بنت أبي بكر، وتارة يشك في الحديث هل هو عن أسماء أنها أمرت فاطمة أو بالعكس. وكل من رواه عن الزهري كالليث، وابن عيينة، والأوزاعي، وعمرو بن الحارث، وابن أبي ذئب، ومعمر كلهم رووه عن الزهري عن عروة، أو عمرة، وتارة يجمعها عن عائشة، ولم يذكروا أسماء وجعلوه في قصة أم حبيبة، ولم يجعلوا الحديث في قصة فاطمة، وحديث عروة عن عائشة في قصة فاطمة انفرد به هشام وقد سبق تخريجه. قال البيهقي رحمه الله في السنن (1/ 354): "هكذا رواه سهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة، واختلف فيه عليه، والمشهور رواية الجمهور عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في شأن أم حبيبة بنت جحش" اهـ، وسوف أخرج رواية سهيل في أدلة القول الثاني. هكذا فيما يتعلق في الكلام على الاختلاف في إسناده، وسبق الكلام على مسألة الغسل لكل صلاة. وأما متن الحديث، والاختلاف فيه كالتالي: فقد رواه إبراهيم بن سعد، والليث، وعمرو بن الحارث، وابن أبي ذئب، ومعمر وغيرهم، رووه بلفظ: "إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي". ورواه الأوزاعي، واختلف عليه فيه: فرواه إسماعيل بن عبد الله، عن الأوزاعي، عن الزهري بلفظ الجماعة. ورواه عبد الله بن يوسف، عن الأوزاعي بلفظ: "فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي، وإذا أقبلت فاتركي لها الصلاة". قال أبو داود: لم يذكره أحد من أصحاب الزهري غير الأوزاعي، ورواه عن الزهري عمرو بن الحارث، والليث، ويونس، وابن أبي ذئب، ومعمر، وإبراهيم بن سعد، وسليمان بن كثير، وابن إسحاق، وسفيان بن عيينة، ولم يذكروا هذا الكلام. قال أبو داود: وإنما هذا لفظ حديث هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة. اهـ. قلت: قد تابع الأوزاعي النعمان بن منذر، وحفص بن غيلان، وهما صدوقان عند

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ النسائي (204)، والطحاوي (1/ 99) من طريق الهيثم بن حميد، قال: أخبرني النعمان، والأوزاعي، وأبو معيد حفص بن غيلان عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة، وفيه: "إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي وإذا أقبلت فاتركي لها الصلاة". إلا أن الهيثم بن حميد عندما قرن الأوزاعي بالنعمان وحفص بن غيلان أخشى أن يكون لفظ الحديث هو لفظ الأوزاعي، وقدمه على غيره لأن الأوزاعي أوثق الثلاثة، وعلى تقدير أن يكون اللفظ لهم ثلاثتهم، فإن رواية الجماعة أولى وهي مقدمة عليها من وجهين: الأول: لم يختلف على الجماعة في لفظ الحديث، وقد اختلف على الأوزاعي، فتارة يرويه كرواية الجماعة، وتارة يخالفهم. ثانياً: أنهم أكثر عدداً، مع كونهم من الحفاظ الأثبات، ومن أصحاب الزهري المكثرين عنه بخلاف النعمان بن منذر وحفص بن غيلان. وكما اختلف على الأوزاعي في متنه، ففد سبق أن اختلف عليه في إسناده فقد رواه أبو المغيرة عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة، وقد بينت أن أبا المغيرة وهم فيه، في معرض كلامي على الاختلاف في الأسانيد. وأما رواية ابن عيينة فرواه الحميدي (160) عن سفيان، عن الزهري بلفظ الجماعة. ورواه محمد بن المثنى، كما عند النسائي، عن سفيان ولفظه: "فأمرها أن تترك الصلاة قدر أقرائها وحيضتها". وأخرجه مسلم عن محمد بن المثنى، ولم يذكر متناً، وإنما قال: بنحو حديثهم يعني: حديث عمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وإبراهيم بن سعد. والحميدي في سفيان بن عيينة مقدم على غيره، وكان البخاري لا يقدم عليه أحداً في روايته عن سفيان. وقال أبو داود في السنن (285): "وزاد ابن عيينة فيه أيضاً: "أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها". وهو وهم من ابن عيينة. اهـ.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (487) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج (أبو معمر)، حدثنا عبد الوارث، عن الحسين، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، قال: أخبرتني زينب بنت أبي سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدم، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل عند كل صلاة وتصلي (¬1). [رجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال] (¬2). ¬

_ فالراجح عندي رواية ابن أبي ذئب والليث بن سعد، وعمرو بن الحارث، وإبراهيم ابن سعد، ومعمر، وما وافقها من رواية الأوزاعي وابن عيينة. وأن الحديث ثابت عن الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة. والله أعلم. (¬1) سنن أبي داود (293). (¬2) اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير. فرواه حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زينب بنت أبي سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدم ... وذكرت الحديث كما سبق. وخالفه هشام الدستوائي، فرواه عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن أم حبيبة بنت جحش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مرسل. ورواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة مرسلاً، وجعل المستحاضة هي زينب بنت أبي سلمة. وقد جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/ 50): "سألت أبي عن حديث رواه هشام ومعمر وغيرهما، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم حبيبة أنها استحيضت فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل لكل صلاة" فلم يثبته، وقال: الصحيح عن هشام الدستوائي، عن يحيى، عن أبى سلمة أن أم حبيبة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مرسل، وكذا يرويه حرب بن شداد وقال الحسين المعلم، عن يحيى عن أبي سلمة، قال: أخبرتني زينب أن امرأة كانت تهراق الدم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وهو مرسل اهـ. واعتبر أبو حاتم رواية أبي داود مرسلة، أعني رواية حسين المعلم، وكذا اعتبرها ابن القطان الفاسي في كتابه "بيان الوهم والإيهام" فإنه قال (549) بعد أن ذكر رواية أبي داود: "وهو حديث مرسل فيما أرى، وزينب ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - معدودة في التابعيات، وإن كانت إنما ولدت بأرض الحبشة، فهي إنما تروي عن عائشة، وأمها أم سلمة". وعدها العجلي كذلك في التابعيات. انظر: معرفة الثقات (2/ 453). والراجح في رواية أبي داود أنها موصولة، لأن زينب صحابية، ولها رواية في صحيح البخاري (3492) من طريق كليب، حدثتني ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأظنها زينب - قالت: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدباء والحنتم والمقير والمزفت، لكن ينبغي أن تعل هذه الرواية الموصولة بالرواية المرسلة من طريق هشام والأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، قال هشام أن أم حبيبة بنت جحش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الأوزاعي: أن زينب بنت أبي سلمة كانت تعتكف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تهريق الدم فجعلها هي المستحاضة، فهذه صريحة بالإرسال. والله أعلم. تخريج الحديث: أخرج الحديث ابن الجارود (115) حدثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث به. أما رواية هشام عن يحيى بن أبي كثير. فقد أخرجها البيهقي (1/ 351) من طريق مسلم بن إبراهيم، عن هشام، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبي سلمة أن أم حبيبة بنت جحش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إني أهراق الدم فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة وتصلي. فهذه الرواية مع كونها مرسلة، ليس فيها ذكر لزينب بنت أبي سلمة. وأما رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير. فهي عند البيهقي أيضاً (1/ 351) من طريق بشر بن بكر، ثنا الأوزاعي، ثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة وعكرمة مولى مولى ابن عباس، أن زينب بنت أم سلمة كانت تعتكف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهى تهريق الدم، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل لكل صلاة". وأخرجه أحمد (6/ 71)، وأبو داود (293) من طريق حسين وأخرجه ابن ماجه

أدلة من قال تغتسل لكل صلاتين مجموعتين وتغتسل للفجر غسلا واحدا.

أدلة من قال تغتسل لكل صلاتين مجموعتين وتغتسل للفجر غسلاً واحداً. الدليل الأول: (488) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد، عن سهيل - يعني: ابن أبي صالح - عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت عميس، قالت: قلت: يا رسول الله، إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، منذ كذا وكذا فلم تصلي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله، إن هذا من الشيطان، لتجلس في مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وتتوضأ فيما بين ذلك (1). [الحديث ضعيف، خالف فيه سهيل بن صالح جميع من رواه عن الزهري، واختلف عليه في لفظه] (2). ¬

_ (646)، وابن الجارود في المنتقى (116) من طريق شيبان النحوي كلاهما، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم بكر أن عائشة قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر إنما هو عرق، أو قال عروق. وفي سنن ابن ماجه: أنها أخبرت عن عائشة، وفي المنتقى عن أم أبي بكر، والصواب أم بكر، وأم بكر هذه مجهولة. (1) سنن أبي داود (296). (2) اختلف في إسناده على الزهري. فرواه الليث، وإبراهيم بن سعد، وابن عيينة، ومعمر، والأوزاعي، وعمرو بن الحارث، وابن إسحاق، وابن أبي ذئب، وغيرهم كلهم رووه عن الزهري، عن عروة، وتارة عن عمرة، وتارة يجمعها، عن عائشة بقصة أم حبيبة. وسبق الكلام عليها. وخالفهم سهيل بن أبي صالح فرواه عن الزهري، عن عروة، عن أسماء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فإن قيل: ألا يحتمل أنهما حديثان، فالجواب: أن هذا خلاف الظاهر، وعلى التنزل بأنهما حديثان، فإن المخالفة لن تنفك عن سهيل بن أبي صالح، لأن حديث عروة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش في الصحيحين وفي غيرهما، وليس فيه أمرها بالاغتسال للصلوات المجموعة، وإنما رواية الأكثر: "وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي. ورواه بعضهم: "وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي". ولا شك أن أحاديث الصحيحين مقدمة على حديث سهيل بن أبي صالح. وهذا وجه واحد من الاختلاف على سهيل، وهو وحده كاف في إعلال الحديث. الوجه الثاني: الاختلاف على سهيل في لفظ الحديث. فقد رواه خالد بن عبد الله الطحان، وعلي بن عاصم كلاهما عن سهيل، عن الزهري عن عروة، عن أسماء بنت أبي عميس، وفيه: الاغتسال لكل صلاتين مجموعتين، وكذا الاغتسال لصلاة الفجر. ورواه جرير عن سهيل به، بلفظ: "أمرها - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل، وليس فيه الاغتسال لكل صلاة مجموعة، ولا الاغتسال لصلاتين، وهذا اللفظ قريب من لفظ البخاري من طريق أبي أسامة عن هشام، عن عروة، عن عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش، وفيه: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي". المخالفة الثالثة: أن الحديث رواه علي بن عاصم عن سهيل، عن الزهري، عن عروة، عن أسماء بنت عميس. ورواه جرير، عن سهيل به على الشك، قال: حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أنها أمرت أسماء، أو أسماء حدثتني أنها أمرت فاطمة. ورواه خالد بن عبد الله الواسطي عن سهيل، واختلف على خالد. فرواه الحماني، وهو حافظ مجروح، ووهب بن بقية، وأبي بشر، ثلاثتهم رووه عن خالد، عن سهيل، عن الزهري، عن عروة، عن أسماء. وخالفهم عبد الحميد بن بيان، فرواه عن خالد به، إلا أنه قال: عن أسماء بنت أبي بكر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ فمن أجل الاختلاف في إسناده، والاختلاف في متنه، ومخالفته لفظ الصحيحين في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش يجزم الباحث بخطأ سهيل بن أبي صالح، وسهيل لا تحتمل مخالفته خاصة أنه تغير في آخر عمره، قال الذهبي - فيمن تكلم فيه وهو موثوق -: سهيل: صدوق مشهور ساء حفظه، وذكر البخاري في تاريخه قال: قال: كان لسهيل أخ، فمات فوجد عليه، فنسي كثيراً من الحديث. وقال الأزدي: صدوق إلا أنه أصابه برسام في آخر عمره، فذهب بعض حديثه. وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (4/. . .) سمع منه ربيعة، ثم اختلط حفظه لشجة أصابته فكان يقول: أخبرني ربيعة، أني أخبرته عن أبي هريرة. وقال ابن حجر في التهذيب: روى عنه مالك، وهو الحكم في شيوخ أهل المدينة الناقد لهم، ثم قيل في حديثه في العراق أنه نسي الكثير منه، وساء حفظه في آخر عمره. اهـ. والراجح أن حديثه حسن ما لم يخالف أو يختلف عليه، وهذا الحديث قد جمع بينهما. تخريج الحديث. طريق خالد بن عبد الله الطحان عن سهيل. أخرجه أبو داود (296) كما في إسناد الباب، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 353)، حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد به. وأخرجه الدارقطني (1/ 215) من طريق أبي بشر، حدثنا خالد بن عبد الله به. ورواه الطحاوي (1/ 100) من طريق الحماني، ثنا خالد به. واختلف على خالد فيه ... فرواه من سبق، وهب بن بقية، والحماني، وأبو بشر كلهم، عن خالد، عن سهيل، عن الزهري، عن عروة، عن أسماء بنت عميس. ورواه البيهقي (1/ 353) من طريق عبد الحميد بن بيان، ثنا خالد، عن سهيل به إلا أنه قال: أسماء بنت أبي بكر. والأول الأصح، فقد تابع خالداً على بن عاصم عند الدارقطني (1/ 216) فرواه عن سهيل بن أبي صالح به، وجعله من مسند أسماء بنت عميس. أما رواية جرير عن سهيل. فقد أخرجها أبو داود (281): حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير، عن سهيل،

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (489) ما رواه أحمد، قال: عن حمنة بنت جحش من حديث طويل وفيه: "إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت، واستيقنت، واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلة، أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء، وكما يطهرن بميقات حيضهن وطهرن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغسلين، ثم تصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين، وكذلك فافعلي، وصلي، وصومي إن قدرت على ذلك". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهذا أعجب الأمرين إليَّ" (¬1). [والحديث ضعيف، وسبق تخريجه] وليس فيه دليل على وجوب الغسل لكل صلاة مجموعة، بل الحديث ¬

_ عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أنها أمرت أسماء، أو أسماء حدثتني أنها أمرتها فاطمة بنت أبي حبيش أن تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، ثم تغتسل. قال البيهقي في السنن (1/ 353): "هكذا رواه سهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة، واختلف فيه عليه والمشهور رواية الجمهور، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في شأن أم حبيبة بنت جحش" اهـ. (¬1) المسند (6/ 439) انظر حديث رقم 55.

الدليل الثالث

صريح في تخيير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد، وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وهذا أعجب الأمرين إلي" أي أحسن الأمرين أي فكلا الأمرين حسن، وهذا أحسن، يعني الغسل مع الجمع. وفي تاج العروس: شيء معجب: إذا كان حسناً جداً (¬1). وفي اللسان: أعجبه الأمر: سره وأعجب به (¬2). الدليل الثالث: (490) ما رواه عبد الرزاق في المصنف، قال: عن معمر، عن أيوب عن سعيد بن جبير، أن امرأة من أهل الكوفة كتبت إلى ابن عباس بكتاب، فدفعه إلى ابنه ليقرأه، فتعتع فيه، فدفعه إلي، فقرأته، فقال ابن عباس: أمَّا لو هذرمته كما هذرمه الغلام المصري، فإذا في الكتاب: إني امرأة مستحاضة، أصابني بلاء وضر، وإني أدع الصلاة الزمان الطويل، وإن علي بن أبي طالب سئل عن ذلك فأفتاني أن اغتسل عند كل صلاة، فقال ابن عباس: اللهم لا أجد لها إلا ما قال علي، غير أنها تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، والمغرب والعشاء بغسل واحد، وتغتسل للفجر، قال: فقيل له: إن الكوفة أرض باردة، وإنه يشق عليها. قال: لو شاء لابتلاها بأشد من ¬

_ (¬1) تاج العروس (2/ 209). (¬2) اللسان (1/ 581).

ذلك (¬1). [إسناده صحيح إلا أنه موقوف على ابن عباس]. والخلاف في المسألة بين الصحابة محفوظ، فمنهم من يرى عليها الاغتسال لكل صلاة، ومنهم من يرى عليها الاغتسال لكل صلاتين مجموعتين، والاغتسال لصلاة الفجر، ومنهم من يرى الاغتسال مرة واحدة في اليوم، ومنهم من يرى أن عليها الاغتسال مرة واحدة عند إدبار حيضها، وعند الاختلاف فليس قول بعضهم حجة على البعض. كما أن ابن عباس قد اختلف قوله في المسألة (¬2). ¬

_ (¬1) المصنف (1173). (¬2) اختلف فيه على سعيد بن جبير، فتارة يرويه عن ابن عباس بالغسل لكل صلاة، وتارة يرويه بالغسل ثلاث مرات في اليوم والليلة. فرواه المنهال، وأبو الزبير، وأبو حسان، وحماد بن أبي سليمان كلهم، عن سعيد، عن ابن عباس بالاغتسال لكل صلاة. ورواه أيوب، وإسماعيل بن رجاء، عن سعيد، عن ابن عباس بالاغتسال ثلاث مرات في اليوم. وكذلك رواه عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 119): حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد ابن جبير، قال: كنت عند ابن عباس، فجاءت امرأة بكتاب، فقرأته، فإذا فيه: إني امرأة مستحاضة، وإن علياً قال تغتسل لكل صلاة، فقال ابن عباس: ما أجد لها إلا ما قال علي". ورجاله كلهم ثقات، إلا المنهال فإنه صدوق ربما وهم. ورواه الطحاوي (1/ 99) من طريق الخصيب بن ناصح، ثنا همام، عن قتادة، عن أبي حسان، عن سعيد بن جبير أن امرأة أتت ابن عباس - رضي الله عنه - بكتاب فدفعه إلى ابنه فترتر فيه، فدفعه إليَّ فقرأته، فقال لأبنه: ألا هذرمته كما هذرمه الغلام المصري، فإذا فيه: "بسم الله

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الرحمن الرحيم، من امرأة من المسلمين أنها استحيضت، فاستفتت علياً - رضي الله عنه - فأمرها أن تغتسل وتصلي، فقال: اللهم لا أعلم القول إلا ما قال علي - رضي الله عنه - ثلاث مرات. قال قتادة: وأخبرني عزرة عن سعيد، أنه قيل له: إن الكوفة أرض باردة، وأنه يشق عليها الغسل لكل صلاة، فقال: لو شاء لابتلاها بما هو أشد. ورجاله ثقات إلا الخصيب بن ناصح فإنه صدوق يخطيء وأبو حسان الأعرج صدوق رمي برأي الخوارج. فهذه القصة واحدة والحكم مختلف. وأما عنعنة قتادة، فإنها قد زالت بالمتابعة. ورواه الطحاوي (1/ 100) من طريق يزيد بن إبراهيم، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير في قصة استحاضة امرأة من أهل الكوفة، وذكر في القصة ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، ولم يذكر في القصة علي بن أبي طالب، كما أنهم تتابعوا في وجوب الغسل لكل صلاة. وسنده حسن، وعنعنة أبي الزبير لمن يراه مدلساً قد زال أثرها بالمتابعة. وكذلك رواه الطحاوي (1/ 100) من طريق حماد بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير به بالغسل لكل صلاة ... وسنده حسن كذلك. وخالفهم إسماعيل بن رجاء فرواه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ... فذكر في القصة ابن عمر، وابن عباس، وعلي بن أبي طالب، ولم يذكر ابن الزبير. وفيه مخالفة أخرى، وهو أن ابن عمر أفتاها بترك الصلاة ما رأت الدم، وأنكر هذا ابن عباس، وقال: إن كاد ليكفرك، بينما في رواية أبي الزبير عن سعيد بن جبير، أن ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير أفتوها بترك الصلاة ما رأت الدم. ومن المخالفة أيضاً أن علياً أفتاها في هذه الرواية بالاغتسال عند كل صلاتين بينما يا رواية أيوب، وأبي حسان أفتاها بالاغتسال لكل صلاة. هذا هو وجه الاختلاف على سعيد بن جبير وقد رواه ابن أبي شيبة من غير طريق سعيد بن جبير (1/ 119) حدثنا حفص بن غياث، عن الليث، عن الحكم، عن علي في المستحاضة، تؤخر الظهر وتعجل العصر، وتؤخر من المغرب وتعجل العشاء، قال:

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (491) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثني أبي، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: استحيضت امرأة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرت أن تعجل العصر، وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلاً، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل لهما غسلاً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً (¬1). [ضعيف، وقد أعل بالإرسال، وفي إسناده اختلاف] (¬2) ¬

_ وأظنه قال: تغتسل للفجر، فذكرت ذلك لابن الزبير وابن عباس فقالا: ما نجد لها إلا ما قال علي. [وهذا الإسناد ضعيف فيه لين من أجل الليث بن أبي سليم]. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 119): حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء عن ابن عباس قال: تؤخر الظهر، وتعجل العصر، وتغتسل مرة واحدة، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل مرة واحدة، ثم تغتسل للفجر، ثم تقرن بينهما. [وهذا سند صحيح على شرط البخاري]. (¬1) سنن أبي داود (294). (¬2) مداره على عبد الرحمن بن القاسم. واختلف عليه فيه. فرواه شعبة، ومحمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه عن عائشة فجعلاه من مسند عائشة على اختلاف بينهم في لفظه كما سيأتي. ورواه الثوري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن زينب في قصة استحاضتها، فجعل الحديث من مسند زينب. ورواه ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أن امرأة من المسلمين استحيضت فأرسله.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وأما الاختلاف في متنه، فإن رواية شعبة على البناء للمجهول: "استحيضت امرأة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرت .... " وإلى هنا لا خلاف، لأن الراجح إذا قيل في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت" أن الآمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن في رواية أبي داود الطيالسي: "قال القاسم بن محمد لعائشة: من أمرها؟ النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: لا أحدثك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، فهنا عائشة رفضت أن تجعل الآمر هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكون الصحابية لا تجزم برفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذه علة في الحديث، ولذلك القاسم بن محمد يرسله كما في رواية ابن عيينة. ورواه معاذ بن معاذ، عن شعبة، فجعل السائل عن رفعه شعبة، وليس القاسم بن محمد، ففي لفظ أبي داود (296) فقلت لعبد الرحمن: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لا أحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، وفي بعض النسخ لا أحدثك إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء، ولعل زيادة إلا خطأ. وانفرد ابن إسحاق في روايته عن عبد الرحمن بن القاسم بأمرين: الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها في ابتداء الأمر بالغسل لكل صلاة، فلما جهدها أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد ... الخ الحديث. ولم يذكر هذا شعبة والثوري وابن عيينة. الثاني: أنه جعل المرأة سهلة بنت سهيل، بينما الثوري جعلها زينب بنت جحش. ولهذا الاختلاف بين الرواة في وصله وإرساله، وهل هو من مسند ج عائشة أو زينب، ورفض عائشة أن تجعل الآمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالحديث من أجل هذا لا يستطيع أن يجزم الباحث بصحته. تخريج الحديث: رواية شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم. فأخرجها أبو داود الطيالسي (1419): حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: استحيضت امرأة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرت - قلت: من أمرها؟ النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: لست أحدثك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً - قالت: فأمرت أن تؤخر الظهر، وتعجل العصر، وتغتسل لهما غسلاً واحداً. وأخرجه أبو داود (294) حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثني أبي، عن شعبة به. وفي آخره: فقلت لعبد الرحمن: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لا أحدثك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء. وأخرجه النسائي (360, 213) أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا شعبة به. وفيه: فقيل لها: إنه عرق عاند، وأمرت أن تؤخر الظهر .... الخ الحديث، وليس فيه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ قول شعبة لعبد الرحمن، وسؤاله عن رفعه. وأخرجه الدارمي (777) أخبرنا هاشم بن القاسم، ثنا شعبة به. وفيه: قال: قلت لعبد الرحمن: النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها؟ قال: لا أحدثك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً. وأخرجه البيهقي (1/ 352) من طريق أبي داود الطيالسي، ومن طريق عاصم بن علي، عن شعبة به. رواية سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن القاسم. أخرجه النسائي (361) أخبرنا سويد بن نصر،، قال: حدثنا عبد الله - يعني ابن المبارك - عن سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم، عن زينب بن جحش، قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها مستحاضة، فقال: تجلس أيام أقرائها، وتؤخر الظهر، وتعجل العصر، وتغتسل، وتصلي، وتؤخر المغرب، وتعجل العشاء، وتغتسل، وتصليهما جميعاً، وتغتسل للفجر. وأخرجه الطحاوي (1/ 100)، والبيهقي (1/ 353) من طريق نعيم بن حماد، عن ابن المبارك به. وأما رواية ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم. فأخرجها عبد الرزاق (1176) عن ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، أن امرأة من المسلمين استحيضت، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو سئل عنها، فقال: إنما هو عرق، تترك الصلاة قدر حيضتها، ثم تجمع الظهر والعصر بغسل واحد، والمغرب والعشاء بغسل واحد، وتغتسل للصبح غسلاً. وذكره أبو داود معلقاً، قال: إثر حديث (295): ورواه ابن عيينة، عن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: إن امرأة استحيضت، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها بمعناه .... " اهـ. وأخرجه البيهقي (1/ 353) من طريق إسحاق، أنبأ سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، أن امرأة ... فذكره. وأخرجه الطحاوي (1/ 100) حدثنا يونس - هو ابن عبد الأعلى - حدثنا سفيان به. واما رواية ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم. فأخرجها أحمد (6/ 139) أخبرنا يزيد بن هارون، أنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه، عن عائشة، قالت: إنما هي سهيلة بنت سهل، وأن

دليل من قال: تغتسل في كل يوم غسلا واحدا.

دليل من قال: تغتسل في كل يوم غسلاً واحداً. [الدليل الأول] (*) (492) استدلوا بما رواه الحاكم، من طريق أبي عاصم النبيل، ثنا عثمان ابن سعد القرشي، ثنا ابن أبي مليكة، قال: جاءت خالتي فاطمة بنت أبي جحش إلى عائشة فقالت: إني أخاف أن أقع في النار، إني أدع الصلاة السنة والسنتين لا أصلي فقالت انتظري حتى يجيء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء، فقالت عائشة: هذه فاطمة تقول كذا وكذا، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قولي لها فلتدع الصلاة في كل شهر أيام قرئها، ثم لتغتسل في كل يوم غسلاً واحداً، ثم الطهور عند كل صلاة، ولتتنظف، ولتحتشي فإنما هو داء عرض، أو ركضة من الشيطان، أو عرق انقطع (¬1). ¬

_ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالغسل لكل صلاة، فلما شق ذلك عليها، أمرها أن تجمع الظهر والعصر بغسل واحد، وبين المغرب والعشاء بغسل واحد، وأن تغتسل للصبح. وأخرجه أبو داود (295) حدثنا عبد العزيز بن يحيى، حدثنا محمد - يعني: ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق به. وأخرجه الطحاوي (1/ 101) من طريق الوهبي، ثنا محمد بن إسحاق به. وأخرجه البيهقي (352) من طريقين، عن محمد بن إسحاق به. لهذا الاختلاف في المتن، مع ما فيه من اختلاف في الاسناد، فروي موصولاً، وروي مرسلاً، وتارة عن عائشة، وتارة عن زينب بن جحش، وتارة المستحاضة زينب، وتارة سهلة، أرى أن هذا إضطراب في الحديث يوجب رده. قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد، كما في فتح البر (3/ 509): "وأما الأحاديث المرفوعة في إيجاب الغسل لكل صلاة، وفي الجمع بين الصلاتين بغسل واحد، والوضوء لكل صلاة على المستحاضة فكلها مضطربة، لا تجب بمثلها حجة" اهـ. (¬1) المستدرك (1/ 175). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

[إسناده ضعيف] (¬1) ¬

_ (¬1) الحديث مداره على عثمان بن سعد الكاتب، وهو ضعيف. قال النسائي: ليس بالقوي: الضعفاء والمتروكين له (421). ضعفه يحيى بن سعيد القطان من قبل حفظه. وقال ابن معين: ليس بذاك. كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (6/ 153). وكما في رواية الدورقي عنه. الكامل (5/ 168). وقال في رواية ابن أبي مريم عنه: ضعيف. الكامل (5/ 168). وقال أبو زرعة: لين. الجرح والتعديل (6/ 153). وقال أبو حاتم: شيخ. المرجع السابق. وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: عثمان بن سعد ضعيف. تهذيب التهذيب (7/ 108). وقال ابن حبان: كان ممن لا يميز شيخه من شيخ غيره، يحدث بما لا يدري، ويجيب فيما يسأل، فلا يجوز الاحتجاج به. المجروحين (2/ 96). وقال أبو نعيم الحافظ: بصري ثقة. تهذيب التهذيب (7/ 108). وقال ابن عدي: هو حسن الحديث، مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (5/ 168). وقال ابن نمير: شيخ ليس بذاك، بصري. الجرح والتعديل (6/ 153). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 204). وفي التقريب: ضعيف. وحديث عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش في الصحيحين، وليس فيه الاغتسال لكل يوم. وقد اختلف على عثمان بن سعد في ذكر الاغتسال. فرواه أبو عاصم الضحاك بن مخلد بالاغتسال كل يوم مرة. ورواه إسرائيل عن عثمان بن سعد به عند أحمد (6/ 464) بلفظ: "مري فاطمة بنت أبي حبيش فلتمسك كل شهر عدد أيام أقرائها، ثم تغتسل وتحتشي، وتستثفر وتنظف، ثم تطهر عند كل صلاة وتصلي، وهذا صريح بأنها تغتسل غسلاً واحداً عند انتهاء أيام أقرائها،

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (493) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، عن عبد الله بن نمير، عن محمد بن أبي إسماعيل - وهو محمد بن راشد - عن معقل الخثعمي، عن علي قال: المستحاضة إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم واتخذت صوفة فيها سمن وزيت (¬1). [وسنده ضعيف جداً] (¬2). ¬

_ ثم الوضوء عند كل صلاة، ولم يطلب منها تكرار الغسل كل يوم مرة. وكذا رواه محمد بن بكر البرساني عند الدارقطني (1/ 216) ولم يذكر تكرار الغسل، وهذا الوهم من قبل عثمان بن سعد. تخريج الحديث: أخرجه الحاكم كما في الباب (1/ 175) والدارقطني (1/ 217) من طريق أبي عاصم عن عثمان بن سعد، ثنا ابن أبي مليكة به. وأخرجه أحمد (6/ 464) حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: ثنا إسرائيل، عن عثمان بن سعد به وأخرجه الدارقطني (1/ 216) من طريق محمد بن بكر البرساني، ثنا عثمان بن سعد به. (¬1) سنن أبي داود (302). (¬2) فيه معقل الخثعمي، لم يرو عنه إلا محمد بن أبي إسماعيل، ذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (5/ 432). وذكره البخاري، ولم يذكر فيه شيئاً. التاريخ الكبير (7/ 393). وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/ 285). ولا أعلم أن أحداً وثقه غير ابن حبان، ولذا قال الذهبي: لا يعرف. الميزان (4/ الترجمة

دليل من قال: تغتسل من الظهر إلى الظهر.

والذي جاء عن علي إما الاغتسال لكل صلاة، وإما الاغتسال لكل صلاتين مجموعتين، والاغتسال لصلاة الصبح. دليل من قال: تغتسل من الظهر إلى الظهر. لا أعلم فيه حديثاً مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال أبو داود في السنن: وروى عن ابن عمر وأنس بن مالك: "تغتسل من ظهر إلى ظهر" (¬1) وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد (¬2)، والاستذكار (¬3)، ولم أقف عليه مسنداً عنهما (¬4) فالله أعلم من رواه عنهما. وأما التابعون فقد جاء ذلك عن سعيد بن المسيب، والحسن. (494) فقد رواه مالك في الموطأ، عن سمي مولى أبي بكر، أن القعقاع وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله كيف تغتسل المستحاضة؟ فقال: تغتسل من ظهر إلى ظهر، وتتوضأ لكل صلاة، فإن غلبها الدم استثفرت بثوب (¬5). ¬

_ 8666). وفي التقريب: مجهول. (¬1) سنن أبي داود، ذكره بعد حديث (301). (¬2) فتح البر (3/ 504). (¬3) الاستذكار (3/ 233). (¬4) بحثت عنه في الكتب التالية في مصنف عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وفي شرح معاني الآثار للطحاوي، وفي سنن البيهقي، وفي الأوسط لابن المنذر، وفي التمهيد لابن عبد البر، وفي الاستذكار له. (¬5) الموطأ (1/ 63).

[سنده صحيح] (¬1). (495) وكذلك روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، قال: تغتسل من صلاة الظهر إلى مثلها من الغد. [وسنده صحيح] (¬2). ¬

_ (¬1) ورواه من طريق مالك أبو داود (301). ورواه عبد الرزاق (1169) عن الثوري، عن سمي به، وزاد: "ويجامعها زوجها". ورواه ابن أبي شيبة (1/ 119) 1358 حدثنا وكيع، عن سفيان به. ورواه أيضاً (1/ 119) 1357: حدثنا وكيع، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد ابن المسيب. وفي المطبوع في الموطأ "من طهر إلى طهر" بالطاء وهو خطأ. وفي الاستذكار (3/ 232): "كان مالك يقول: ما أرى الذي حدثني به من ظهر إلى ظهر إلا أنه قد وهم. وقال أبو داود: قال مالك: إني لأظن حديث ابن المسيب من ظهر إلى ظهر قال فيه: "إنما هو من طهر إلى طهر، ولكن الوهم دخل فيه، فقلبها الناس، فقالوا: من ظهر إلى ظهر". ورواه مسور بن عبد الملك بن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع، قال فيه: "من طهر إلى طهر" فقلبها الناس: "من ظهر إلى ظهر". ورواه ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 232) فقال: "ليس ذلك بوهم؛ لأنه صحيح عن سعيد معروف عنه، من مذهبه في المستحاضة، تغتسل كل يوم مرة، من ظهر إلى ظهر" اهـ. قلت: كلام مالك محتمل، خاصة أنه جاء عن سعيد بن المسيب في المستحاضة ما يوافق قول الجمهور، فقد روى ابن أبي شيبة (1/ 119) حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن القعقاع بن حكيم، قال: سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة، فقال: ما أحد أعلم بهذا مني إذا أقبلت الحيضة فلتدع الصلاة، وإذا أدبرت فلتغتسل، ولتغسل عنها الدم، ولتتوضأ لكل صلاة. وسنده صحيح. (¬2) المصنف (1/ 120) رقم 1369.

الفصل السابع: خلاف العلماء في وطء المستحاضة

الفصل السابع: خلاف العلماء في وطء المستحاضة يحرم وطء المستحاضة أثناء نزول الدم الذي تعتبره حياضاً، لأنها حائض حقيقة وحكماً، وقد بينا في أدلة سابقة تحريم وطء الحائض. أما وطء المستحاضة أثناء نزول الدم التي تعتبره استحاضة، فقد اختلف العلماء فيه: فقيل: يجوز وطؤها، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4)، ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 176)، حاشية ابن عابدين (1/ 298)، مراقي الفلاح (ص: 60)، البناية (1/ 665، 664)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 27). (¬2) المدونة (1/ 50)، الشرح الصغير (1/ 210)، الخرشي (1/ 206)، الجامع لأحكام القرآن (3/ 86)، أسهل المدارك (1/ 78). (¬3) روضة الطالبين (1/ 137)، وقال في المجموع (2/ 561): "يجوز وطء المستحاضة في الزمن المحكوم بأنه طهر، ولا كراهة في ذلك، وإن كان الدم جارياً، هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، ولها قراءة القرآن، وإذا توضأت استباحت مس المصحف وحمله وسجود التلاوة والشكر، وعليها الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات التي على الطاهر، ولا خلاف في شيء من هذا عندنا، وجامع القول في المستحاضة أنه لا يثبت لها شيء من أحكام الحيض بلا خلاف، ونقل ابن جرير الإجماع على أنها تقرأ القرآن، وأن عليها جميع الفرائض التي على الطاهر" اهـ. قلت: هنا الحكم في غير المستحاضة المتحيرة، وأما المستحاضة المتحيرة فلها حكم سيأتي إن شاء الله تعالى. (¬4) الإنصاف (1/ 382)، الفروع (1/ 281).

أدلة الجمهور على جواز وطء المستحاضة.

واختيار ابن حزم (¬1). فقيل: يحرم، إلا مع خوف العنت من الزوج أو الزوجة، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬2). وقيل: يكره. وهو رواية عن أحمد (¬3). وقيل: إن تيقنت استحاضتها بتميزها من حيضها جاز وطؤها فيه وإن اختلط دم حيضها، بدم استحاضتها، فلم تميز لم توطأ. وهو مذهب إسحاق ابن راهوية (¬4)، وهو مذهب الشافعية في المرأة المتحيرة (¬5). أدلة الجمهور على جواز وطء المستحاضة. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬6). فالآية دليل على أنه لا يجب اعتزال النساء فيما سواه، والاستحاضة غير ¬

_ (¬1) المحلى (1/ 218). (¬2) الإنصاف (1/ 382)، الفروع (1/ 281)، المبدع (1/ 293، 292)، المغني (1/ 420)، كشاف القناع (1/ 217). (¬3) الفروع (1/ 281)، المبدع (1/ 293). (¬4) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 183, 182). (¬5) قال النووي في المتحيرة (2/ 461): "قال أصحابنا: يحرم على زوجها وسيدها وطؤها في كل حال، وكل وقت؛ لاحتمال الحيض في كل وقت، والتفريع على قول الاحتياط، وحكى صاحب الحاوي وغيره: وجهاً أنه يحل له؛ لأنه يستحق الاستمتاع، ولا نحرمه بالشك، ولأن في منعها دائماً مشقة عظيمة، والمذهب التحريم، وبه قطع الأصحاب في الطرق كلها، ونقل المتولي وغيره اتفاقهم عليه". (¬6) البقرة، آية: 222.

الدليل الثاني

الحيض. الدليل الثاني: (496) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن خالد، ثنا معلى بن منصور، عن علي بن مسهر، عن الشيباني، عن عكرمة قال: كانت أم حبيبة تستحاض، فكان زوجها يغشاها. قال أبو داود: قال يحيى بن معين: معلى ثقة، وكان أحمد بن حنبل لا يروى عنه؛ لأنه كان ينظر في الرأي (¬1). [إسناده صحيح إن كان عكرمة سمعه من أم حبيبة] (¬2). الدليل الثالث: (497) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي، أخبرنا عبد الله بن الجهم، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن عكرمة، عن حمنة بنت جحش، أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها (¬3). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (309). (¬2) الشيباني: هو أبو إسحاق، سليمان بن أبي سليمان. وقد أخرجه البيهقي (1/ 329) من طريق أبي داود، قال المنذري في مختصر سنن أبي داود (1/ 195): "وفي سماع عكرمة من أم حبيبة وحمنة نظر، وليس فيه ما يدل على سماعه منهما". والله أعلم. اهـ. وقال الحافظ في الفتح (1/ 565) في كتاب الحيض، باب: إذا رأت المستحاضة الطهر، قال: عن عكرمة، قال: "كانت أم حبيبة تستحاض، وكان زوجها يغشاها" وهو حديث صحيح إن كان عكرمة سمع منها. قلت: لم يذكر المزي من شيوخ عكرمة أم حبيبة، فينظر سماعها منها. (¬3) سنن أبي داود (310).

الدليل الرابع

[إسناده حسن إن شاء الله إن كان عكرمة سمعه من حمنة] (¬1) الدليل الرابع: أن أم حبيبة قد استحيضت، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف (¬2)، وكذلك ¬

_ (¬1) عاصم لم ينسب، فيحتمل أنه ابن بهدله، ويحتمل أنه الأحول، لأن عمرو بن أبي قيس يروي عنهما كليهما، كما أنهما يرويان عن عكرمة. وعبد الله بن الجهم: قال فيه أبو زرعة: رأيته، ولم أكتب عنه، وكان صدوقاً. الجرح والتعديل (5/ 27). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 344). وفي التقريب: صدوق فيه تشيع. وعمرو بن أبي قيس. قال الدوري، عن يحيى بن معين: ثقة. كما في تاريخه (2/ 451). وقال أبو عبيد الآجري، عن أبي داود: في حديثه خطأ. وقال في موضع آخر: لا بأس به. تهذيب الكمال (22/ 205). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (17/ 220). وقال الذهبي: صدوق له أوهام. الميزان (3/ 285). وفي التقريب: صدوق له أوهام. وعكرمة هل سمع من حمنة؟ أما المنذري، فقال: في مختصر سنن أبي داود (1/ 195): "وفي سماع عكرمة من أم حبيبة وحمنة نظر، وليس فيه ما يدل على سماعه منهما". والله أعلم. اهـ. وأما المزي، والحافظ ففي تهذيبهما ذكرا من شيوخ عكرمة حمنة. وأما البخاري فنص في التاريخ الكبير (7/ 49) على سماعه من عائشة. ولم أجد أحداً غير المنذرى تكلم في سماعه من حمنة. فالله أعلم، فإن ثبت سماعه منها فالإسناد حسن، كما قدمنا. (¬2) حديث استحاضة أم حبيبة في البخاري (327) من حديث عائشة، أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأمرها أن تغتسل، فقال: هذا عرق،

الدليل الخامس

وكذلك استحيضت حمنة (¬1)، وكانت تحت طلحة، وقد سألتا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم الاستحاضة، فلم يذكر لهما تحريم الجماع، ولو كان حراماً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما (¬2). الدليل الخامس: (498) روى البخاري معلقاً بصيغة الجزم، قال: قال ابن عباس: تغتسل وتصلي، ولو ساعة، ويأتيها زوجها إذا صلت، الصلاة أعظم (¬3) ¬

_ فكانت تغتسل لكل صلاة. وفي رواية لمسلم (64 - 334) عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة بنت جحش، ختنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي. (¬1) حديث حمنة، سبق تخريجه في غسل المستحاضة. (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 180). (¬3) كتاب الحيض، باب: إذا رأت المستحاضة الطهر ولو ساعة. وقد أشار الحافظ في الفتح أن الأثر الذي ساقه البخاري مركب من أثرين: الأول قوله تغتسل وتصلي، ولو ساعة. قلت: وهذا الأثر سنده صحيح، وسبق أن خرجته في مسألة: الفرق بين دم الاستحاضة، ودم الحيض. قال الحافظ: قوله: "ويأتيها زوجها" هذا أثر آخر، عن ابن عباس أيضاً وصله عبد الرزاق، وغيره، من طريق عكرمة. قلت: قد أخرجه عبد الرزاق (1189) عن ابن المبارك، عن الأجلح، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لا بأس أن يجامعها زوجها. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 216) من طريق عبد الرزاق. وهذا إسناد فيه لين، لأن الأجلح الأكثر على ضعفه لكن تابعه خصيف عند الدارمي، فأخرجه الدارمي (817) أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا عتاب - وهو ابن بشير الجزري - عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، في المستحاضة لم ير بأساً أن يأتيها زوجها.

الدليل السادس

الدليل السادس: من النظر: قال ابن المنذر: غير جائز يشبه دم الحيض بدم الاستحاضة، وقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، فقال في الحيض: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" وقال في الاستحاضة: "إنما ذلك عرق، وليس بالحيض" والمسوي بينهما بعد تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - غير منصف في تشبيه أحدهما بالآخر، وقد أجمع أهل العلم على التفريق بينهما، قالوا: دم الحيض مانع من الصلاة، ودم الاستحاضة ليس كذلك، ودم الحيض يمنع الصيام، والمستحاضة تصوم وتصلي، وأحكامها أحكام الطاهرة، وإذا كان كذلك جاز وطؤها؛ لأن الصلاة والصوم لا يجبان إلا على الطاهر من الحيض. والله أعلم (¬1). وقال ابن حزم في الرد على من أوجب الصلاة والصيام وحرم الوطء، قال: "هذا خطأ؛ لأنها - أي المستحاضة - إما حائض، وإما طاهر غير حائض، ولا سبيل إلى قسم ثالث في غير النفساء، فإن كانت حائضاً فلا تحل لها الصلاة، ولا الصوم، وإن كانت غير نفساء ولا حائض فوطء زوجها لها حلال، ما لم يكن أحدهما صائماً، أو محرماً، أو معتكفاً، أو كان مظاهراً منها، فبطل هذا القول. وبالله تعالى التوفيق" (¬2). وممن قال بجواز وطء المستحاضة عكرمة (¬3)، ¬

_ (¬1) الأوسط (2/ 218). (¬2) المحلى (2/ 218). (¬3) مصنف عبد الرزاق (1188)، ومصنف ابن أبي شيبة (3/ 537) 16959، وسند ابن أبي شيبة سند صحيح.

دليل من منع وطء المستحاضة.

وعطاء (¬1)، وسعيد ابن جبير (¬2)، وسعيد بن المسيب (¬3)، والحسن (¬4)، والزهري (¬5). دليل من منع وطء المستحاضة. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬6). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى حرم نكاح الحائض لوجود الأذى، ودم الاستحاضة أذى، ولهذا حرم الوطء في الدبر؛ لأنه محل الأذى (¬7). وكل دم هو أذى يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض ودم الاستحاضة؛ ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح (1194)، ورواه ابن أبي شيبة (16962) من طريق أشعث عنه، وهو سند صالح في المتابعات، ورواه الدارمي (824) من طريق خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن عطاء، وسنده حسن. (¬2) رواه عبد الرزاق (1187)، وابن أبي شيبة (3/ 538) 16965، والدارمي (818) بسند صحيح عنه. (¬3) رواه عبد الرزاق (1186) وابن أبي شيبة (3/ 538) 16966 والدارمي (819) بسند صحيح. (¬4) رواه عبد الرزاق (1185، 1186)، وابن أبي شيبة (3/ 538) 16966، والدارمي (820) بسند صحيح. (¬5) رواه ابن أبي شيبة (3/ 537) 16963 بسند صحيح. (¬6) البقرة، آية: 222. (¬7) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 183).

الدليل الثاني

لأنه كله رجس، وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلي بسلس البول (¬1). الدليل الثاني: (499) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن غيلان ابن جامع، عن عبد الملك، عن الشعبي، عن قمير، عن عائشة، قالت: المستحاضة لا يأتيها زوجها. [اختلف فيه، فروي موقوفاً على عائشة، ورواه بعضهم موقوفاً على الشعبي] (¬2). ¬

_ (¬1) جامع الأحكام الفقهية (1/ 99). (¬2) الأثر مداره على عبد الملك بن ميسرة، عن الشعبي، واختلف على عبد الملك. فرواه غيلان، عنه، عن الشعبي، عن قمير، عن عائشة موقوفاً عليها. ورواه شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد. واختلف على شعبة فيه. فرواه حجاج الأعور، عن شعبة، وأسنده إلى عائشة كرواية غيلان. رواه غندر، عن شعبة، فأوقفه على الشعبي، بلفظ: المستحاضة لا يغشاها زوجها. ورواه معاذ، عن شعبة، قال البيهقي: ففصل قول الشعبي، من قول عائشة، فرواه البيهقي، من طريق معاذ بن معاذ، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن الشعبي، عن قمير أمرأة مسروق، عن عائشة، قالت: المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، قال وقال الشعبي: لا تصوم، ولا يغشاها زوجها. قال البيهقي: فعاد الغشيان إلى قول الشعبي. [تخريج الأثر] أخرجه الإمام أحمد في العلل (5351) لابنه عبد الله، قال: رواه وكيع، عن سفيان، عن غيلان به، كرواية ابن أبي شيبة.

ولو صح، فهو موقوف على عائشة، معارض بمثله من قول ابن عباس رضي الله عنه. والقول بالمنع، هو قول ابن سيرين (¬1)، وإبراهيم النخعي (¬2)، والشعبي (¬3)، والحكم (¬4)، وسليمان بن يسار (¬5)، وغيرهم. ¬

_ قال: ورأيته في كتاب الأشجعي، عن سفيان، عن غيلان. رواه غندر، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن الشعبي هذا الحديث، وقال الشعبي من رأيه: المستحاضة لا يغشاها زوجها. وقال حجاج، عن شعبة كما قال وكيع، عن سفيان، رفعه إلى عائشة - خالف حجاج غندراً. قال أبي: بلغني، عن ابن مهدي، قال: وجدته في كتاب حسين بن عربي، كما قال حجاج، عن شعبة، وكما قال وكيع، عن سفيان. اهـ من العلل. ورواه الدارمي (830) أخبرنا الحكم بن المبارك، ثنا حجاج الأعور، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن الشعبي، عن قمير، عن عائشة، قالت: المستحاضة لا يأتيها زوجها. ورواه البيهقي (1/ 329) من طريق وكيع به. ورواه أيضاً (1/ 329) من طريق معاذ بن معاذ، عن شعبة، عن عبد الملك، عن الشعبي، عن قمير أمرأة مسروق، عن عائشة، قالت: المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، قال وقال الشعبي: لا تصوم، ولا يغشاها زوجها. قال البيهقي: فعاد الغشيان إلى قول الشعبي. والله أعلم. (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 537) بسند صحيح. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (1193)، والدارمي (829) بسند صحيح. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 537) 16957 بسند صحيح. (¬4) رواه ابن أبي شيبة (3/ 537) 16956 بسند صحيح. (¬5) أخرجه عبد الرزاق (1191) بسند صحيح، بلفظ: سئل سليمان بن يسار: أيصيب المستحاضة زوجهما؟ قال: إنما سمعنا بالرخصة في الصلاة.

دليل من قال بالكراهة

والراجح من القولين هو القول الأول لقوة أدلته. والله أعلم. دليل من قال بالكراهة: ربما استدل من قال بالكراهة؛ لأنه يرى جماع المستحاضة مباشرة للنجاسة، على القول بنجاسة دم الاستحاضة، وملابسة النجاسة عنده مكروهة. فإن كان هذا دليله، فأولاً: لا يسلم نجاسة دم الاستحاضة، والنجس من الدماء، الدم المسفوح، ودم الحيض، ودم الحيوان النجس، وهذا ليس منه، وليس هذا موضع تحرير نجاسة الدم. ثانياً: على القول بالنجاسة، فاين الدليل على كراهة مباشرة النجاسة في غير الصلاة، فهذا الاستنجاء يباشر الإنسان النجاسة بيده، ولم يمنع من ذلك. ثالثاً: على التسليم بالكراهة، فإن الجماع حاجة، ولا مكروه معها. والله أعلم.

الباب الثامن: في أحكام النفاس

الباب الثامن: في أحكام النفاس ويشتمل تمهيد وإحد عشر فصلاً. التمهيد: في تعريف النفاس لغة واصطلاحاً. الفصل الأول: بأي شيء يثبت حكم النفاس الفصل الثاني: في أحكام السقط. الفصل الثالث: في خلاف العلماء في الدم مع الولادة. الفصل الرابع: في خلاف العلماء في الدم التي تراه الحامل قبل الولادة. الفصل الخامس: في النقاء المتخلل بين الدمين. الفصل السادس: إذا ولدت المرأة ولم تر دماً. الفصل السابع: في جماع النفساء إذا طهرت قبل الأربعين. الفصل الثامن: خلاف العلماء في أقل النفاس. الفصل التاسع: في خلاف العلماء في أكثر النفاس. الفصل العاشر: إذا وضعت المرأة توأمين فالنفاس من أيهما؟ الفصل الحادي عشر: في الأحكام المترتبة على النفاس.

تمهيد

تمهيد تعريف النفاس: النفاس لغة، قال في تاج العروس: "النِّفاس بالكسر: ولادة المرأة" اهـ (¬1). وفي المصباح المنير: "مأخوذ من النَّفس، وهو الدم، ومنه قولهم: "لا نفس له سائلة: أي: لا دم له يجري، وسمي الدم نفساً؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان، قوامها بالدم. والنفساء من هذا" اهـ (¬2). وقال ثعلب: النفساء: الوالدة، والحامل، والحائض. وقال أبو حاتم: نفست، على ما لم يسم فاعله. وحكى ثعلب: نُفِسَت ولداً، على فعل المفعول، والولد منفوس. ومنه الحديث: "ما من نفس منفوسة": أي مولودة. وفي حديث ابن المسيب: "لا يرث المنفوس حتى يستهل صارخاً". ومنه قولهم: ورث فلان هذا قبل أن ينفس فلان: أي قبل أن يولد. ويقال: نُفِسَت، ونَفِست: كـ عُني، وسَمِع. نفساً، ونفاسة، ونِفاساً: أي ولدت. وأما الحيض فلا يقال فيه إلا نَفِست، قاله الأزهري (¬3). التعريف الإصطلاحي: اختلفت تعريفات الفقهاء لاختلافهم في حكم الدم الخارج مع الولادة، أو قبلها متصلاً بها، فمن اعتبر الدم الخارج قبل الولادة أو معها متصلاً بها، من اعتبره ¬

_ (¬1) تاج العروس (9/ 18). (¬2) المصباح المنير (ص: 317). (¬3) بتصرف تاج العروس (9/ 18).

نفاساً أدخله في الحد، ومن لم يعتبره لم يدخله. تعريف الحنفية: قالوا: هو الدم الخارج عقب الولادة (¬1). وزاد ابن الهمام في شرح فتح القدير: "من الفرج". ليخرج ما لو ولدت ولدها من بطنها، فإنها تكون عندهم صاحبة جرح سائل، لا نفساء. اهـ (¬2). وهي كثيرة في عصرنا هذا، وتسمى ولادة قيصرية. وتعريف الحنفية صريح بأنه لا يعتبر الدم الخارج أثناء الولادة نفاساً؛ لأنهم قصروه على الدم الخارج عقب الولادة. تعريف المالكية: عرفه خليل في مختصره: بأنه دم خرج للولادة. قال في الشرح الكبير: "النفاس دم صفرة أو كدرة خرج من القبل للولادة، معها أو بعدها لا قبلها على الأرجح" (¬3). وقال في الشرح الصغير: النفاس للولادة، معها أو بعدها، ولو بين توأمين (¬4). ثم قال: "أما ما خرج قبلها فالراجح أنه حيض". ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 186)، بدائع الصنائع (1/ 41)، المبسوط (3/ 210). (¬2) شرح فتح القدير (1/ 186). (¬3) الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 174). (¬4) الشرح الصغير (1/ 216).

تعريف النفاس عند الأطباء.

تعريف الشافعية: قال في مغني المحتاج: "النفاس: هو الدم الخارج بعد فراغ الرحم من الحمل". فخرج بها ذكر: "دم الطلق، والخارج مع الولد، فليسا بحيض؛ لأن ذلك من آثار الولادة، ولا نفاس لتقدمه على خروج الولد، بل ذلك دم فساد." (¬1). تعريف الحنابلة: قال في كشاف القناع: النفاس "دم ترخيه الرحم مع ولادة، وقبلها بيومين أو ثلاثة مع أمارة، وبعدها إلى تمام أربعين يوماً" (¬2). وقال ابن مفلح الصغير: "دم يرخيه الرحم للولادة، وبعدها إلى مدة معلومة". (¬3) تعريف النفاس عند الأطباء. الأصل فيه تمزق جدار الرحم الوظيفي، ونزول الدم منه بعد أن تحول أثناء فترة الحمل إلى ما يسمى Decidua، وهو مماثل تماماً لجدار الرحم في النصف الثاني من الحمل، ولكن بكثافة أكثر، وكذلك خروج أنسجة أخرى خصوصاً من مكان المشيمة - التي تقع أعلى الرحم - أثناء التئام ذلك المكان. وفي نفس الوقت يتكون جدار وظيفي جديد من جدار الرحم الأساسي ليحل مكان جدار السابق ذكره. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 108). (¬2) كشاف القناع (1/ 108). (¬3) المبدع (1/ 293).

ومكونات دم النفاس هي خلايا جدار الرحم، وكرويات دم بيضاء، ومكونات الدم الأخرى، ويكون أحمر في الأيام الأولى من النفاس، ثم يبهت لونه تدريجياً حتى يصبح سائلاً أبيض مائلاً للاصفرار في الإسبوع الثالث أو الرابع، ومكوناته كرويات الدم البيضاء على الأكثر. بعد هذا التمزق لجدار الرحم الوظيفي، ونزول الدم منه يستبدل جدار جديد به بعد أربعة أسابيع من الولادة غير أنه لا يكتمل رجوع جميع الأعضاء التناسلية إلى حجمها الطبيعي، ونزول العادة الشهرية - لدى المرأة غير المرضعة ورجوع الجسم إلى حالته - إلا بعد ستة أسابيع من نزول الولد في الغالب (¬1). جاء في وقائع الندوة الثالثة للفقه الطبي، المنعقدة في الكويت "وقد عرف الأطباء النفاس: بأنه الفترة التي تعقب الولادة، وتحدث أثناءها بعض التغييرات لعودة الجهاز التناسلي إلى وضعه الطبيعي قبل الحمل. وسائل النفاس: هو عبارة عن الإفرازات التي تخرج من الرحم بعد الولادة، ويكون عبارة عن دم في أول أربعة أيام، ثم يفتح لونه، وتقل كمية الدم حتى يصبح عبارة عن مخاط، لا لون له بعد عشرة أيام" (¬2). ويقول بعض الأطباء:"يعرف دم النفاس وما يتبعه من إفرازات في الطب: بأنه ¬

_ (¬1) نقله الدكتور عبد الله بن عبد المحسن الطريقي في كتابه أحكام مباشرة النساء (ص: 77) نقلاً من كتاب Current Obstetrics And Gynecology rd edition (¬2) نقله يحيى بن عبد الرحمن الخطيب، في كتابه المرأة الحامل من نبيهة الجيار، بحث في أقل مدة الحيض والنفاس والحمل وأكثرها، وقائع الندوة الثالثة للفقه الطبي - الكويت 18/ 4/ 1987.

الدم والافرازات التي تخرج من الرحم بعد الولادة، وتستمر لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع. وقد تطول إلى ستة أسابيع (أربعين يوماً). وفي الأيام الثلاثة أو الأربعة يكون الدم قانياً، وغليظاً ومحتوياً على جلطات (دم متجمد) ثم يخف تدريجياً بعد ذلك، ثم يصير بني اللون، مختلطاً بمادة مخاطية .. وأخيراً تظهر القصة البيضاء. ويكون دم النفاس وإفرازاته قلوي التفاعل في الرحم، وليس له رائحة عفنة، وإذا حدثت عفونة فإن ذلك دليل على وجود التهابات ميكروبية بالرحم أو المهبل، وتحتاج إلى علاج سريع قبل تحولها إلى حمى النفاس الخطيرة. وقد تتوقف الإفرازات الدموية لفترة، ثم يعود الدم إلى الظهور، ويعتبر ذلك نتيجة لوجود بقايا ولو بسيطة من المشيمة في الرحم، أو أن الرحم انقلب إلى الخلف بدلاً من وضعه الطبيعي إلى الأمام" (¬1). فبناء على هذا التعريف الطبي يكون النفاس هو الدم النازل بعد فراغ الرحم من الولد، فعند فراغ الرحم ينهدم الجدار الوظيف للرحم، فينزل على شكل دم في الأيام الأولى من النفاس، ثم يبهت لونه تدريجياً حتى ينقطع. والله أعلم. وذكر الأطباء أيضاً: "أن رحم المرأة بعد الولادة ينزل إلى مستوى السرة بعد أن كان يملأ تجويف البطن .. من القص إلى العانة ... وقبيل الولادة كان الرحم (بدون محتوياته) يزن كيلو جرام، وبعد أسبوع فقط يكون وزنه نصف كيلو جرام، وبعد أسبوعين من الولادة يصبح وزنه ربع كيلو إجرام، ثم ينخفض ¬

_ (¬1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 456).

تدريجياً حتى يعود في نهاية فترة النفاس إلى وزنه الطبيعي وهو خمسين جراماً فقط وتعود ثخانة جدار الرحم من خمسة سنتيمترات إلى أقل من سنتمتر .. وأما الفراغ الذي كان بداخل الرحم حيث كان الجنين وأغشيته .. والذي كان يتسع لسبعة آلاف ميليلتر؛ فإنه يعود بعد انتهاء فترة النفاس إلى شق صغير لا يتسع لأكثر من ميليلترين فقط .... وتستمر التغيرات في جدار الرحم .... وفي غشائه الداخلي حتى يعود أدراجه إلى سالف عهده قبل الحمل" (¬1). ¬

_ (¬1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 456).

الفصل الأول: بأي شيء يثبت حكم النفاس.

الفصل الأول: بأي شيء يثبت حكم النفاس. إذا القت المرأة نطفة في طورها الأول، فهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم أنه لا يترتب على ذلك الإسقاط حكم من أحكام إسقاط الحمل (¬1). وكذلك إذا أسقطت الجنين بعد أربعة أشهر فلا أعلم خلافاً أنها تكون نفساء (¬2) واختلف العلماء في العلقة والمضغة. فقيل: يثبت حكم النفاس إذا استبان من السقط بعض خلقه كالإصبع، والشعر والظفر، فهي نفساء. وهو مذهب الحنفية (¬3). وقيل: يثبت حكم النفاس بوضع ما يتبين فيه خلق الإنسان، فلو وضعت علقة أو مضغة لا تخطيط فيها لم يثبت لها حكم النفاس، وهو مذهب الحنابلة (¬4) وهو الراجح. وقيل: إذا ألقت علقة ثبت لها حكم النفساء، وهو مذهب المالكية (¬5). ¬

_ (¬1) أضواء البيان (5/ 32). (¬2) نفس المرجع السابق (5/ 35). (¬3) البناية - للعيني (1/ 693)، شرح فتح القدير (1/ 187)، (¬4) كشاف القناع (1/ 219)، المبدع (1/ 294)، الفروع (1/ 282). (¬5) الشرح الكبير (2/ 474) المطبوع بهامش حاشية الدسوقي. وانظر الشرح الصغير (2/ 672)، وقال: وعلامة أنه علقة أنه لو صب عليه ماء حار لا يذوب.

تعليل من قال: يثبت النفاس إذا تبين فيه خلق إنسان.

وقيل: إذا ألقت مضغة أو علقة وقال القوابل: إنه مبتدأ خلق آدمي، فالدم بعده نفاس، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: إذا وضعت مضغة مطلقاً ثبت حكم النفاس. وهي رواية في مذهب الإمام أحمد (¬2) وقيل: إذا وضعت لأربعة أشهر (¬3). تعليل من قال: يثبت النفاس إذا تبين فيه خلق إنسان. قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬4). ولم يقل أن يضعن أولادهن. تعليل آخر: إذا سقط الحمل وهو علقة، أو مضغة لم تتخلق، يحتمل أن يكون دماً متجمداً، أو قطعة لحم ليس أصلها الإنسان، ومع الإحتمال لا يمكن أن تترك الصلاة والصيام. وسبب ثالث: أن كثيراً من النساء لا ينتبهن إلى أنهن قد أجهضن إذا كان الحمل في دور العلقة أو المضغة، بخلاف ما إذا ألقت الجنين وقد تخلق. والله أعلم. تعليل من قال: إذا وضعت علقة. قالوا: لما تحولت إلى علقة انقلب من حاله إلى أصل الإنسان، فيكون نفاساً. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (1/ 174). (¬2) الفروع (1/ 282). (¬3) قال في الفروع (1/ 282): "ويتوجه أنها رواية مخرجة من العدة وغيرها". (¬4) الطلاق، آية: 4.

تعليل من قال: إذا وضعت مضغة.

تعليل من قال: إذا وضعت مضغة. قالوا: إن المضغة هي بداية خلق الآدمي، فيكون نفاساً (¬1) تعليل من قال: إذا وضعت لأربعة أشهر فهو نفاس وإلا فلا: (500) ربما استدلوا بما رواه البخاري، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق - قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة (¬2). وجه الإستدلال: أن الجنين لا ينفخ به الروح إلا بعد تمام أربعة أشهر، وقبل نفخ الروح لا يعتبر إنساناً بدليل لو سقط لم يبعث. والله أعلم والراجح والله أعلم القول بأنها إذا وضعت ما فيه خلق إنسان فإنها تكون نفساء لقوة أدلته. والله أعلم. وإذا رجحنا أن السقط متى ما تبين فيه خلق إنسان فإن المرأة تكون نفساء، ¬

_ (¬1) المغني (1/ 431). (¬2) البخاري (3208)، ومسلم (2643).

فالسؤال الذي يطرح نفسه، كم يحتاج الجنين من يوم ليبدأ في التخلق للجواب على هذا السؤال، وعلى غيره رأيت أن أفرد فصلاً مستقلاً عن السقط، وأحكامه في الفصل التالي. والله المستعان.

الفصل الثاني: في أحكام السقط

الفصل الثاني: في أحكام السقط تعريف الإسقاط لغة وشرعاً: جاء في المصباح المنير: "السِّقط: الولد ذكراً كان أو أنثى يسقط قبل تمامه، وهو مستبين الخلق". وفي تاج العروس: "الولد يسقط من بطن أمه لغير تمام" اهـ ولم يشترط كونه مستبين الخلق. وجاء في المصباح المنير، يقال: سقط الولد من بطن أمه سقوطاً، فهو سقط بالكسر. والتثليث لغة. ولا يقال: وقع. وأسقطت الحامل: القت سقطاً. وفي تاج العروس: السقط مثلثة، والكسر أكثر. وجاء في تاج العروس أيضاً: "أسقطت الناقة وغيرها ولدها: إذا القت ولدها، والذي في أمالي القالي: أنه خاص في بني آدم". اهـ وفي معنى الإسقاط: الإجهاض. جاء في المصباح المنير: أجهضت المرأة ولدها إجهاضاً: أسقطته ناقص الخلق اهـ (¬1) ملاحظة: الإطلاق اللغوي للإسقاط لا يفرق بين كون السقط سقط من تلقاء نفسه، أو كان السقط حدث بفعل فاعل من جناية أو دواء. وجاء في المعجم الوسيط: أن مجمع اللغة العربية أقر إطلاق كلمة إجهاض ¬

_ (¬1) تاج العروس (10/ 284)، والمصباح المنير (ص: 146)

على خروج الجنين قبل الشهر الرابع، وكلمة إسقاط على إلقائه ما بين الشهر الرابع والسابع، وهذا التعريف اصطلاح حادث. تعريف الإسقاط في اصطلاح الفقهاء. تبين لنا من تعريف الإسقاط لغة أنه يطلق على إلقاء العمل ناقصاً سواء كان النقص في المدة، أو كان النقص في الخلق. وتعريف الفقهاء لا يخرج عن هذا المعنى. عرف ابن عابدين الإجهاض في رسائله: "هو إنزال الجنين قبل أن يستكمل مدة الحمل (¬1). وللفقهاء ألفاظ مرادفة لمعنى الإسقاط والإجهاض، وهي تؤدي نفس المعنى منها: الإلقاء، الإملاص، الإنزال، الإخراج، الطرح. ¬

_ (¬1) (2/ 411) وانظر البحر الرائق (8/ 389)، رد المحتار (5/ 276)، نهاية المحتاج (8/ 442)، مغني المحتاج (4/ 103)، الفروع (6/ 13).

المبحث الأول: في أسباب الإسقاط

المبحث الأول: في أسباب الإسقاط الإسقاط تارة يكون تلقائياً، ويكون سببه والله أعلم إما تشوهات في الجنين، أو يكون رحم المرأة يعاني من أمراض معينة، أو يعاني من اتساع في عنق الرحم، أو غيرها من الإسباب التي يعرفها أهل الاختصاص (¬1). وتارة تكون أسبابه اجتماعية، كأن يقصد من الإسقاط التستر على الفاحشة (الزنا) أو الرغبة في تحديد النسل. وتارة تكون أسبابه صحية، كأن يكون الحامل على الإجهاض المحافظة على صحة الأم، أو إراحة الجنين بحيث لو ترك ينمو ولداً مشوهاً تشويهاً غير محتمل. وسوف نتناول حكم الإجهاض إذا كان اختيارياً، ومتى تكون المرأة المسقطة نفساء، ومتى لا تكون. أما الإجهاض التلقائي فلا يلحق به تكليف؛ لأنه خارج عن إرادة المرأة. ¬

_ (¬1) انظر مسألة تحديد النسل. د محمد البوطي (ص: 67)، الطبيب أدبه وفقهه. د محمد البار، الإجهاض من منظور إسلامي، د عبد الفتاح محمد إدريس. مجلة الحكمة. العدد التاسع (ص: 119 - 123).

المبحث الثاني: في الحكم التكليفي للإسقاط

المبحث الثاني: في الحكم التكليفي للإسقاط هناك من الفقهاء من فرق بين حكم الإجهاض بعد نفخ الروح، وبين حكمه قبل ذلك، لذلك سنعرض حكم كل حالة من الحالات على انفراد. الفرع الأول: في إسقاط الجنين بعد نفخ الروح ذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) , والشافعية (¬3) , والحنابلة (¬4) إلى تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح. الأدلة على تحريم الإسقاط بعد نفخ الروح. الدليل الأول: الإجماع. فقد حكى الإجماع غير واحد. جاء في الشرح الكبير:"لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق (2/ 166)، حاشية ابن عابدين (3/ 176)، البحر الرائق (8/ 233). (¬2) حاشية الدسوقي (2/ 267)، أسهل المدارك (1/ 405)، حاشية العدوي، مطبوع مع الخرشي (3/ 225)، منح الجليل (3/ 360). (¬3) نهاية المحتاج - الرملي (8/ 442)، وإحياء علوم الدين (2/ 51)، حاشية الجمل (5/ 490). (¬4) الفروع (1/ 281)، الإنصاف (1/ 386)، كشاف القناع (1/ 220).

الدليل الثاني

الأربعين يوماً، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعاً" (¬1). وقال ابن جزي: "وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح؛ فإنه قتل نفس إجماعا" (¬2). ونقله صاحب أسهل المدارك، وأقره (¬3). وقال ابن تيمية: إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد، الذي قال الله فيه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (¬4). وقد قال الله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (¬5) (¬6). الدليل الثاني: وجوب الدية في قتله دليل على تحريم إسقاطه؛ إذ لو كان جائزاً لما وجبت به عقوبة. (501) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أنه قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى لها بالغرة توفيت، فقضى ¬

_ (¬1) الشرح الكبير المطبوع مع حاشية الدسوقي (1/ 267, 266). (¬2) القوانين الفقهية (ص: 235). (¬3) أسهل المدارك (1/ 405). (¬4) التكوير، آية: 8، 9. (¬5) الإسراء، آية: 31. (¬6) مجموع الفتاوى (34/ 160).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها (¬1). وقد ذهب ابن حزم إلى وجوب القود، فيمن تعمد قتل الجنين بعد نفخ الروح، فقال رحمه الله: "فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها، وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين، فقتلته، أو تعمد أجنبي قتله في بطنها، فقتله، فمن قولنا: إن القود واجب في ذلك، ولا بد، ولا غرة في ذلك حينئذ إلا أن يعفى عنه، فتجب الغرة فقط؛ لأنها دية، ولا كفارة في ذلك؛ لأنه عمد، وإنما وجب القود؛ لأنه قاتل نفس مؤمنة عمداً، فهو نفس بنفس، وأهله مخيرين: إما القود، وإما الدية، أو المفادات كما حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن قتل مؤمناً. وبالله تعالى التوفيق" (¬2). وشرط الفقهاء في وجوب القود أن ينفصل حياً، ثم يموت. قال الحافظ: "وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتاً بسبب الجناية، فلو انفصل حياً، ثم مات، وجب فيه القود أو الدية كاملة" (¬3). وليس هذا موضع تحرير هذه المسألة، والذي يهمنا وجوب العقوبة على من أسقط الجنين، وهو ظاهر في تحريم الإسقاط. والله أعلم. بقي سؤال: متى نحكم بأن الجنين قد نفخت فيه الروح؟ ذهب الفقهاء إلى أن نفخ الروح يكون بعد أن يتم للحمل أربعة أشهر. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6740)، ومسلم (35 - 1681). (¬2) المحلى (مسألة: 2124). (¬3) الفتح (12/ 311) ح 6908.

الدليل على أن نفخ الروح يكون بمد تمام أربعة أشهر.

الدليل على أن نفخ الروح يكون بمد تمام أربعة أشهر. الدليل الأول: الإجماع، فقد نقل الإجماع غير واحد على أن مرحلة نفخ الروح بعد تمام الحمل أربعة أشهر: قال القرطبي: "لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس" (¬1). وقال النووي: "اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر" (¬2). وقال ابن حجر: "اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر" (¬3). الدليل الثاني: (502) روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال عبد الله: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق - قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرطبي (12/ 8). (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 191). (¬3) فتح الباري (11/ 588) ح 6594

وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم ينفخ فيه الروح" جعل هذا بعد أطوار النطفة، والعلقة، والمضغة، وقد كان لكل طور أربعون يوماً، فمجموع ذلك مائة وعشرون يوماً. ¬

_ (¬1) البخاري (3208)، ومسلم (2643).

الفرع الثاني: حكم الإسقاط قبل نفخ الروح.

الفرع الثاني: حكم الإسقاط قبل نفخ الروح. اختلف في هذه المسألة على أقوال: فقيل يحرم الإسقاط مطلقاً، ولو كان نطفة. ذهب إلى هذا بعض الحنفية (¬1) , وهو المعتمد عند المالكية (¬2) , وقول الغزالي (¬3) , وابن العماد من الشافعية (¬4)، واختيار ابن الجوزي من الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (3/ 176). (¬2) حاشية الدسوقي (2/ 267)، أسهل المدارك (1/ 405)، حاشية العدوي، مطبوع مع الخرشي (3/ 225)، منح الجليل (3/ 360). جاء في الشرح الكبير (2/ 267): "لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل الأربعين يوماً" قال الدسوقي في حاشيته تعليقاً عليه (2/ 267): "وهو المعتمد". وقال ابن جزي في القوانين الفقهية (ص 235): "وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له". (¬3) قال الغزالي في إحياء علوم الدين (2/ 51): "وليس هذا - يقصد العزل - كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله أيضاً مراتب، وأول الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح، واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفحشاً، ومنتهى التفحش في الجناية بعد الانفصال حياً". (¬4) جاء في تحفة المحتاج (8/ 241): "اختلفوا في التسبب لإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه، وهو مائة وعشرون يوماً، والذي يتجه وفاقاً لابن العماد وغيره الحرمة، ولا يشكل عليه جواز العزل لوضوح الفرق بينهما، بأن المني حال نزوله محض جماد، ولم يتهيأ للحياة بوجه بخلافه بعد استقراره في الرحم وأخذه في مبادئ التخلق". (¬5) أحكام النساء - ابن الجوزي (ص: 374).

وقيل: يجوز التسبب لإسقاط الجنين مطلقا، ما لم يتخلق، والمراد بالتخلق عندهم نفخ الروح. وهو الراجح عند الحنفية (¬1). فهذان قولان متقابلان: التحريم مطلقاً، والإباحة مطلقاً ما لم ينفخ فيه الروح. وبقي في المسألة أقوال: منها: وقيل: يباح الإسقاط ما دام نطفة مطلقاً لعذر أو لغير عذر، أما العلقة والمضغة فلا يجوز إسقاطها. انفرد به اللخمي من المالكية (¬2)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يباح إلقاء النطفة إذا كان لعذر، أما من غير عذر فلا يجوز، اختاره بعض الحنفية (¬4). ¬

_ (¬1) يقول ابن عابدين في حاشيته المشهورة (3/ 176): "قال في النهر: بقي هل يباح الاسقاط بعد الحمل؟ نعم يباح، ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مضي مائة وعشرين يوماً". وعلق ابن عابدين: "وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق نفخ الروح، وإلا فهو غلط؛ لأن التخلق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة". وهذا مذكور بحروفه في شرح فتح القدير (3/ 401). وجاء في تبيين الحقائق (2/ 166): "المرأة يسعها أن تعالج لإسقاط الحبل ما لم يستبن شيء من خلقه، وذلك ما لم يتم له مائة وعشرون يوماً". وانظر البناية (4/ 759)، الاختيار لتعليل المختار (5/ 168). (¬2) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني (3/ 264). (¬3) الفروع (1/ 281)، الإنصاف (1/ 386)، كشاف القناع (1/ 220). (¬4) جاء في حاشية ابن عابدين (3/ 176): "وفي كراهة الخانية: ولا أقول بالحل؛ إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمنه؛ لأنه أصل الصيد، فلما كان يؤخذ بالجزاء فلا أقل من أن

أدلة القائلين بتحريم إسقاط النطفة.

وقيل: يجوز التسبب لإسقاط النطفة والعلقة دون المضغة. حكاه الكرابيسي عن أبي بكر الفراتي من الشافعية (¬1). وقيل: يكره إلقاء النطفة اختاره علي بن موسى من الحنفية (¬2) , وهو رأي عند بعض المالكية فيما قبل الأربعين يوماً (¬3). أدلة القائلين بتحريم إسقاط النطفة. [الدليل الأول] (*) قالوا: النطفة بعد الإستقراء آيلة إلى التخلق، مهيأة لنفخ الروح فلا يجوز ¬

_ يلحقها إثم هنا إذا أسقطت بغير عذر" اهـ قال ابن وهبان: ومن الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاكه، ثم قال: قال ابن وهبان: فإباحة الإسقاط محمولة على حالة العذر، أو أنها لا تأثم إثم القتل". اهـ من حاشية ابن عابدين. وإسقاط الجنين إذا انقطع اللبن قول ضعيف جداً, لأن الرزاق هو الله سبحانه وتعالى، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وإذا هلك لقلة اللبن لم يكن من كسبها, ولا تأثم بذلك. (¬1) جاء في نهاية المحتاج - الرملي (8/ 442): "قال الزركشي: وفي تعاليق بعض الفضلاء، قال الكرابيسي: سألت أبا بكر بن أبي سعيد الفراتي عن رجل سقى جارية شراباً لتسقط ولدها؟ فقال: ما دامت نطفة أو علقة فواسع له ذلك إن شاء الله تعالى. اهـ (¬2) قال في حاشية ابن عابدين (3/ 176): "لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن ينفخ فيه الروح، هل يباح لها ذلك أم لا؟ اختلفوا فيه، وكان الفقيه علي بن موسى يقول: إنه يكره؛ فإن الماء بعد ما وقع في الرحم مآله إلى الحياة، فيكون له حكم الحياة كما في بيضة الحرم، ونحوه في الظهيرية". اهـ وربما قصد بالكراهة كراهة التحريم، فيرجع القول إلى القول بالتحريم، وهو غير بعيد. والله أعلم. (¬3) حاشية الدسوقي (2/ 267، 266). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

الدليل الثاني

إسقاطها، وهي أول مراحل الوجود؛ إذ الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعاً، فإذا امتزج ماء الرجل بماء المرأة، واستقر في الرحم فإن النطفة حينئذٍ تكون مهيأة للتخلق ووجود الولد. الدليل الثاني: حرم الله تعالى قتل الصيد حال الإحرام، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية (¬1). وجاء في السنة تحريم أكل بيض الصيد؛ لأنه أصل الصيد، فكذلك لا يجوز إلقاء النطفة؛ لأنها أصل الإنسان. (503) والحديث الذي فيه تحريم أكل بيض الصيد قد رواه أحمد، قال: حدثني أبي ثنا هاشم بن سليمان يعني بن المغيرة عن علي بن زيد ثنا عبد الله ابن الحارث بن نوفل الهاشمي قال: كان أبي الحرث على أمر من أمر مكة في زمن عثمان، فأقبل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة، فقال عبد الله بن الحارث، فاستقبلت عثمان بالنزل بقديد، فاصطاد أهل الماء حجلا، فطبخناه بماء وملح، فجعلناه عراقا للثريد، فقدمناه إلى عثمان وأصحابه، فأمسكوا، فقال عثمان: صيد لم أصطده ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل فأطعموناه، فما بأس؟ فقال عثمان: من يقول في هذا؟ فقالوا: على. فبعث إلى علي رضي الله تعالى عنه، فجاء. قال عبد الله بن الحارث: فكأني أنظر إلى علي حين جاء، وهو يحت الخبط عن كفيه، فقال له عثمان: صيداً لم نصطده، ولم ¬

_ (¬1) المائدة، آية: 95.

نأمر بصيده اصطاده قوم حل، فأطعموناه فما بأس؟ قال: فغضب على، وقال: أنشد الله رجلاً شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أتى بقائمة حمار وحش فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا قوم حرم فأطعموا أهل الحل. قال: فشهد اثنا عشر رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال على: أشهد الله رجلا شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أتى ببيض النعام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل، قال: فشهد دونهم من العدة من الاثني عشر. قال: فثنى عثمان وركه عن الطعام، فدخل رحله وأكل ذلك الطعام أهل الماء. [الحديث إسناده ضعيف، والحديث بقصة حمار الوحش صحيح لغيره، وزيادة بيض النعام زيادة منكرة] (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 100). والحديث يرويه كل من إسحاق بن عبد الله بن الحارث، وزيد ابن علي بن جدعان، كلاهما، عن عبد الله بن الحارث، عن عثمان، عن علي. واقتصر إسحاق بن عبد الله بن الحارث على قصة الحمار، ولم يذكر بيض النعام، وإسناد إسحاق إسناد حسن. وزاد زيد بن علي بن جدعان ذكر بيض النعام، وهو رجل ضعيف، فتكون زيادته منكرة. [تخريج الحديث]: أخرجه أحمد كما سبق (1/ 100) عن هاشم بن القاسم. والبزار (914) من طريق عامر العقدي، كلاهما عن سليمان بن المغيرة، عن علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث، عن عثمان، عن علي مرفوعاً. وأخرجه أبو يعلى (356) من طريق حماد بن زيد، عن علي به. وأخرجه أحمد (1/ 104) حدثنا عفان. وأخرجه الطحاوي (2/ 168) من طريق حجاج بن منهال، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد به.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: أول الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية. ووجهه قال: ماء المرأة ركن في الإنعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول، فمن أوجب، ثم رجع قبل القبول - يعني العزل - لم يكن جانياً على العقد بالنقض والفسخ، ومهما اجتمع الإيجاب والقبول - يعني ماء الرجل والمرأة - كان الرجوع بعده رفعاً، وفسخاً وقطعاً، وكما أن النطفة في الفقار لا يتخلق منها الولد، فكذا بعد الخروج من الإحليل، ما لم يمتزج بماء المرأة أو دمها، فهذا هو القياس الجلي (¬1). دليل من أباح إسقاط النطفة. الدليل الأول: القياس على جواز العزل، فإذا كان العزل جائزاً، وهو إلقاء الماء خارج الفرج، فكذلك إنزال المني بعد وجوده في الرحم إذ لا فرق، فإخراج النطفة من رحم المرأة لا يثبت لها حكم السقط أو الوأد؛ لأنه لا يصدق عليها ذلك، فلا ¬

_ وأخرجه أبو داود (1849)، ومن طريقه البيهقي (5/ 194) حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حميد الطويل، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه به. في قصة لحم الوحش، ولم يذكر بيض النعام. وهذا إسناد حسن. وقد خالف فيه إسحاق بن عبد الله بن الحارث خالف علي بن زيد، فلم يذكر قصة ببض النعام. وانفراد علي بن زيد بذكر البيض يجعل هذه الزيادة منكرة. (¬1) بتصرف يسير جداً إحياء علوم الدين (2/ 51).

الدليل الثاني

حرمة في إخراجها (¬1). الدليل الثاني: المني حال نزوله جماد محض، لا يتهيأ للحياة بوجه، بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادي التخلق. وبداية التخلق كما أرشد إليها حديث حذيفة الغفاري يكون بعد اثنتين وأربعين ليلة،. (¬2) (504) فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (¬3). ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج (8/ 442). (¬2) تحفة المحتاج (8/ 241)، حاشية الجمل (4/ 447)، الإجهاض من منظور إسلامي (¬3) مسلم (2645).

دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل التخلق.

فهذا الحديث نص أن المني قبل الأربعين لا يكون قد تهيأ للحياة، وإنما هو نطفة، هو والعزل سواء، بخلاف بعد الأربعين فقد بدأ بالتخلق، وهو مرحلة كونه علقة. والله أعلم دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل التخلق. قالوا: إذا لم يتخلق بظهور الأعضاء الدالة على كونه آدمياً، فلا يثبت له حكم الآدمي من وجوب صيانته وحرمة الاعتداء عليه، وعليه فلا إثم في إسقاطه (¬1). دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل أن ينفخ فيه الروح. قال ابن عقيل: ما لم تحله الروح يجوز إسقاطه؛ لأنه ليس وأداً؛ لأن الوأد لا يكون إلا بعد التارات السبع {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى قوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (¬2) .. قال ابن مفلح: وهذا منه فقه عظيم، وتدقيق حسن، حيث سمع {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (¬3). وهذا لما حلته الروح؛ لأن ما لم تحله الروح لا يبعث، فيؤخذ منه أنه لا يحرم إسقاطه. وله وجه. اهـ (¬4). الراجح جواز إلقاء النطفة بشروط: ¬

_ (¬1) رد المحتار (5/ 276). (¬2) المؤمنون، آية: 12 - 14. (¬3) التكوير، آية: 19. (¬4) الفروع (1/ 281).

أولاً: ألا يكون في ذلك ضرر على الأم، لا حالاً، ولا مآلاً. ثانياً: أن يكون ذلك برضى الزوج؛ لأن له حقاً في طلب الولد. ثالثاً: أن يكون في ذلك تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة. وإن قَلَّت؛ لأن إلقاء النطفة إذا كان خلواً من المصلحة كان منافياً لمقصود الشارع من تكثير النسل. رابعاً: ألا يكون الحامل على ذلك سوء ظن بالله، وذلك خوفاً من العالة والفقر. ثم اطلعت على مراحل تكوين الجنين من جهة الطب، فرأيت أن تحريم إلقاء النطفة أقرب من الإباحة، وأن النطفة لا تستوي هي والعزل من كل وجه. يذكر الأطباء أن ماء الرجل يحتوي على عدة مئات من الملايين من الحيوانات المنوية (¬1)، ويجب عليهم أن يعبروا المهبل، ومختنق عنق الرحم، وبعد ذلك يتوجهوا إلى قناة فالوب، وهي مسافة تبلغ (15 - 18) سم، ثم يستعدوا لاقتحام غشاء البويضة، ثم النزول إلى الرحم لتعلق في جداره، وتأخذ في النمو. وإليك رحلة الحيوان المنوي: ومن المعلوم أن كل الف حركة يبذلها ذيل الحيوان المنوي يقطع خلالها الحيوان المنوي مسافة قدرها سنتيمتراً واحداً، وفي حالة عدم وجود عوائق فإنه يستطيع قطع مسافة (10) سم في نصف ساعة، ومن يستهين بهذه المسافة فليعلم ¬

_ (¬1) يقول الدكتور محمد علي البار في كتابه (خلق الإنسان بين الطب والقرآن) (ص: 159): "في كل دفقة مني ما بين مائتين إلى ثلاثمائة مليون حيوان منوي".

أنها تفوق طول الحيوان المنوي أربعة الأف ضعف (¬1). وتسير تلك الحيوانات المنوية باحثة عن البويضة (نطفة المرأة) لا تدري أين هي، عن يمين أو يسار، فتخترق مجموعة منها القناة الرحمية، وتسير مجموعة منها عبر القناة الرحمية اليسرى، تدعى أيضاً قناة فالوب، فيهلك من يهلك، ويشاء الله سبحانه وتعالى بقدرته أن يقترب من البويضة مئات الحيوانات المنوية، بينما تحتوي الدفقة الواحدة من المني مئات الملايين تهلك معظمها قبل الوصول إلى البويضة، ويختار الله سبحانه وتعالى بحكمته واحداً من مئات الحيوانات، فيصل سالماً إلى البويضة، فتفتح له البويضة كوة في جدارها، حتى يلج، فإذا ما دخل أغلق الثقب حالاً، ولن يسمح لحيوان منوي آخر بالدخول في البويضة، وإذا ما دخل الحيوان المنوي هشت له نواتها، كما أن نواة الحيوان المنوي المتجمعة في رأسه تفعل الشيء ذاته. ورأس الحيوان المنوي لا يزيد عن خمسة ميكرونات (والميكرون: واحد على المليون من الميتر، ويحتوي هذا الرأس على أسرار الوراثة كاملة ينقلها من الأب إلى الأبن أو البنت على هيئة 23 جسيماً ملوناً (كروموسوماً) وتحتوي البويضة على 23 جسيماً ملوناً مثلما يحتوي الحيوان المنوي على نفس العدد، فإذا اجتمعا معاً صارت البويضة الملقحة تحتوي على 46 جسيماً ملوناً، مثل بقية الخلايا.، فيعتبر كلا من الحيوان المنوي والبويضة نصف خلية ¬

_ (¬1) انظر الآيات العجاب في رحلة الإنجاب (ص: 54).

فقط من ناحية العدد الكروموسومات، وعند تكون النطفة الأمشاج يكتمل عدد الكروموسومات الحاملة للصفات الوراثية من الأب والأم، وعبر هذه الكروموسومات تنتقل الصفات الوراثية، وحالما يتم التخصيب، وتتكون النطفة الأمشاج من الحيوان المنوي والبويضة يخلق الله سبحانه وتعالى جداراً سميكاً مصمتاً لا يمكن لأي حيوان منوي آخر اختراقه، ومنذ تلك اللحظة تبدأ العمل الجاد، وتبدأ بالانشطار: الخلية تصبح خليتان، الخليتان أربع، وهكذا دواليك حتى تتكون مئات الخلايا على هيئة ثمرة التوت، وعندئذ تسمى التوتة MORULLA كبرت الكرة قليلاً، صار ما بداخلها مجوفاً، وبه سائل رقيق .. وعندئذ تدعى بالتكور الجرثومي أو البلاستولا BLASTULA وفي هذه الأثناء لا تكف البويضة الملقحة أو النطفة الأمشاج عن الحركة بواسطة شعيرات قناة الرحم، وتقلصات جداره، وإن كانت حركة بطيئة فهي تنتقل من الثلث الوحشي لقناة الرحم (قناة فالوب) حيث يتم التلقيح وتتجه عبر القناة الرحمية حيث تقترب من الرحم، وفي خلال خمسة أيام أو أسبوع على الأكثر تكون قد وصلت إلى الرحم، وتنظر أين تتوسد وتنغرز وتوجهها عناية الله بها إلى أن خير مكان لها هو النصف العلوي من الرحم، وخاصة جداره الخلفي، وهناك تنشب، وتَعْلَق في جدار الرحم الذي قد أعد لاستقبالها بفرش الطنف والوسائد .. وجعل جداره مليئاً بالأوعية الدموية حتى يغذيها وينميها .. وعندما تنغرز الكرة الجرثومية تكون قد تحولت من نطفة الأمشاج إلى

علقة، وتبدأ عندئذ مرحلة جديدة في حياة الجنين .. وهي مرحلة العلقة (¬1). كل هذه الأمور تحدث للنطفة في العشرة الأيام الأولى على أكثر تقدير، فكيف يقال: إن هذا والعزل سواء. ¬

_ (¬1) انظر بتصرف يسير خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 197)، الآيات العجاب في رحلة الإنجاب (ص: 54).

الفرع الثالث: في حكم الإسقاط للضرورة بعد نفخ الروح

الفرع الثالث: في حكم الإسقاط للضرورة بعد نفخ الروح إذا قرر طبيبان أو أكثر أن في بقاء الجنين خطراً على حياة أمه، ولا سبيل إلى انقاذهما معاً, فإما الجنين وموت أمه، وإما إنقاذ أمه بهلاكه، فما هو العمل حينئذٍ؟ فقيل: لا يجوز، ولو كان في ذلك خطر على حياة الأم (¬1). وقيل: يجوز ذلك بشرط أن يقرر جمع من الأطباء الثقات المختصين أن بقاء الجنين في بطن أمه فيه خطر مؤكد على حياة الأم (¬2). ¬

_ (¬1) وهو ظاهر إطلاق كلام الفقهاء المتقدم، في تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح. يقول صاحب البحر الرائق (8/ 233): "وفي النوادر امرأة حامل اعترض الولد في بطنها, ولا يمكن إلا بقطعه ارباعاً، ولو لم يفعل ذلك يخاف على أمه من الموت، فإن كان الولد ميتاً فلا بأس به، وإن كان حياً، فلا يحوز؛ لأن إحياء نفس بقتل أخرى لم يرد في الشرع" اهـ. ووافقه ابن عابدين في حاشيته. انظر (2/ 238). (¬2) جاء في قرار "المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثانية عشرة المنعقدة. بمكة المكرمة: "إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً، لا يجوز إسقاطه، ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة، إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء الثقات المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه، سواء كان مشوهاً، أو لا، دفعاً لأعظم الضررين" اهـ. وجاء في قرار هيئة كبار العلماء رقم (140)، تاريخ 20/ 6/ 1407 هـ، "بعد الطور الثالث، وبعد إكمال أربعة أشهر للحمل، لا يحل إسقاطه إلا أن يقرر جمع من الأطباء المتخصصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمه بسبب موتها، وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته، وإنما رخص الأقدام على إسقاطه بهذه الشروط دفعاً لأعظم الضررين، وجلباً لعظمى المصلحتين" اهـ.

أدلة القائلين: لا يجوز إسقاط الجنين.

أدلة القائلين: لا يجوز إسقاط الجنين. عللوا ذلك: بأنه لا يجوز إحياء نفس بقتل أخرى، حيث لم يرد في الشرع (¬1). ولأننا إذا أسقطناه فقد تعمدنا قتل نفس مؤمنة، وإذا تركناه وماتت الأم لم يكن هذا من فعلنا، بل هو من تقدير الله سبحانه وتعالى. وقد يقدر الأطباء شيئاً، ويجزموا به، ولا يقع، وإذا كان كذلك، فلا يجوز دفع مفسدة متوقعة بارتكاب مفسدة محققة. وقد نسقط الجنين ولا تسلم الأم، فقد تعطب في نفاسها. قال ابن عابدين في حاشيته: لو كان الجنين حياً ويخشى على حياة الأم من بقائه؛ فإنه لا يجوز تقطيعه؛ لأن موت الأم به موهوم، فلا يجوز قتل الآدمي لأمر موهوم (¬2). دليل القائلين بجواز إسقاط الجنين إنقاذاً لأمه. إن هذه المسألة قد تعارض فيها واجب ومحرم، كل واحد منهما على درجة واحدة من الأهمية، بحيث لو أننا قمنا بالواجب، وقعنا في المحرم، ولو اتقينا المحرم أهدرنا الواجب، ولا سبيل للقيام بالواجب، وفي نفس الوقت اتقاء المحرم. وإنما رخصنا الأقدام على إسقاط الجنين دفعاً لأعظم الضررين، وجلباً ¬

_ (¬1) البحر الرائق (8/ 233). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 238).

لعظمى المصلحتين. يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره تعليقاً على آية قتل الخضر للغلام من أجل سلامة والديه: "ومنها القاعدة الكبيرة الجليلة، وهو أنه يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير, ويراعى أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شراً منه" (¬1). ويقول ابن القيم: "إذا تترس الكفار بأسرى من المسلمين بعدد المقاتلة، فإنه لا يجوز رميهم إلا أن يخشى على جيش المسلمين، وتكون مصلحة حفظ الجيش أعظم من مصلحة حفظ الأسرى، فحينئذٍ يكون رمي الأسرى، ويكون من باب دفع المفسدتين باحتمال أدناهما، فلو أنعكس الأمر، وكانت مصلحة الأسرى أعظم من رميهم لم يجز رميهم. فهذا الباب مبني على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن فرض الشك، وتساوى الأمران لم يجز رمي الأسرى" (¬2). ويقول العز بن عبد السلام: "وإذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير، للتنازع بين المتساويين، ولذلك أمثلة: أحدهما: إذا رأينا صائلاً يصول على نفسين من المسلمين متساويين، وعجز عن دفعه عنهما، فإنا نتخير. ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن (5/ 71، 70). (¬2) مفتاح دار السعادة (2/ 403).

والمثال الثاني: لو رأينا من يصول على بضعين متساويين، وعجزنا عن الدفع عنهما، فإنا نتخير. (¬1) فإذا كان لنا شرعاً أن نرتكب أدنى المفسدتين دفعاً لأعظمهما، ونحصل أعظم المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن انقاذ الأم أعظم مصلحة من إنقاذ الجنين للأسباب التالية: الأول: الأم هي أصل الجنين، متكون منها، فإنقاذها أولى. الثاني: أن الأم غالباً ما يكون لها أطفال، ومن الممكن أن يتعرضوا لمتاعب كثيرة بعد وفاة أمهم، والأسرة كثيراً ما تتمزق إذا فقدت أحد أعضائها البارزين، فكم من طفل تشرد، وساءت تربيته بسبب فقدانه لأمه، وأهمية الأم في الأسرة عظيمة؛ إذ إنها أصل المجتمع، بخلاف الجنين فلا تعلق به لأحد. ثالثاً: حياة الأم قطعية، وحياة الجنين محتملة، والظني أو الاحتمالي لا يعارض القطعي المعلوم، فإنقاذ الأم أولى. رابعاً: الأم أقل خطراً، وتعرضاً للهلاك من الجنين في مثل هذه الظروف، مما يجعل إنقاذها أكثر نجاحاً من إنقاذ جنينها, لذا تعطى الأولوية في الإنقاذ ففي إحصائية لمستشفى الولادة والاطفال بالرياض في عام 1400 هـ، بلغ عدد الوفيات للنساء سبع وفيات، بينما بلغت وفيات الأطفال 865 حالة. (¬2) كل ذلك يؤكد أهمية إنقاذ الأم دون الجنين عند تساوي الأمر في إنقاذهما (¬3). ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام (1/ 88). (¬2) صحيفة الرياض عدد 4431 في 26/ 2/ 1400 صفحة المجتمع. (¬3) نقلت أدلة هذا القول ببعض التصرف من كتاب تنظيم النسل (ص: 228).

المبحث الثالث: متى يبدأ الجنين بالتخلق

المبحث الثالث: متى يبدأ الجنين بالتخلق متى يبدأ الجنين بالتخلق. ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله المراحل التي يمر بها الجنين. أما الكتاب، فقوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬1). وقال سبحانه {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (¬2). وقال سبحانه: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) المؤمنون آية: 14, 13، 12. (¬2) الحج، آية: 5. (¬3) الزمر، آية: 6.

فقوله سبحانه: خلقاً من بعد خلق إشارة إلى الأطوار التي يمر بها الجنين. وقال سبحانه {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬1). وقال سبحانه وتعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} (¬2). وقال {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (¬3). {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} (¬4). (505) وأما السنة، فقد روى البخاري، حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق - قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة (¬5). ¬

_ (¬1) غافر، آية: 67. (¬2) الإنسان، آية: 2. (¬3) العلق، آية: 2. (¬4) القيامة: آية: 38، 37. (¬5) البخاري (3208)، ومسلم (2643).

(506) وروى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه، أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأتى رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (¬1). ¬

_ (¬1) مسلم (2645). قال القاضي عياض وغيره: ليس هو على ظاهره، ولا يصح حمله على ظاهره، بل المراد بتصويرها .... الخ أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجود في العادة وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة اهـ. كما في الديباج على صحيح مسلم (6/ 8). يقصد حديث ابن مسعود إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً ... الخ ولا يظهر لي جمع القاضي عياض، بل قد اطلعت على كتاب يصور مراحل الجنين، وكان يكبر العلقة، والمضغة عشرات المرات فكان يظهر فيها تخطيط، وحدود للجمجمة والأعضاء إلا أنه لا يتبين أنه خلق آدمي، وإنما هو خلق بدائي، فربما التخلق الذي في حديث حذيفة هو التخلق الخفي الذي لا يظهر بالعين المجردة وإنما عن طريق التكبير عشرات المرات،

وسوف يكون كلامنا في تناول هذه الآيات، والحديثين. فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أطوار خلق الإنسان، فبين أن ابتداء خلقه من تراب، فالتراب هو الطور الأول. والطور الثاني: هو النطفة. والنطفة في اللغة: هو الماء القليل. ومنه قول الشاعر وما عليك إذا أخبرتني دنفاً ... وغاب بعلك يوماً أن تعوديني وتجعلي نطفة في القعب باردة ... وتغمسي فاك فيها ثم تسقيني فقوله: وتجعلي نطفة: أي ماء قليلاً في القعب، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة: نطفة المني المختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة خلافاً لمن زعم أنها من ماء الرجل وحده. قال الزبيدي في تاج العروس: في التنزيل {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} قال الفراء: الأمشاج: هي الأخلاط: ماء الرجل، وماء المرأة، والدم والعلقة (¬1). ¬

_ والمقصود في حديث ابن مسعود هو التخلق الجلي الذي يظهر لكل الناس. والله أعلم. ثم وجدت من كلام أهل العلم ما يؤيد هذا، قال ابن القيم كما في فتح الباري: قوله "ثم تكون علقة مثل ذلك" فإن العلقة وإن كانت قطعة دم لكنها في هذه الأربعين الثانية تنتقل عن صورة المني، ويظهر التخطط فيها ظهوراً خفياً على التدريج، ثم يتصلب في الأربعين يوماً بتزايد ذلك التخلق شيئاً فشيئاً حتى يصير مضغة مخلفة ويظهر للحس ظهوراً لا خفاء به، وعند تمام الأربعين الثالثة والطعن في الأربعين الرابعة ينفخ فيه الروح. (¬1) ونقل البخاري هذا الكلام في صحيحه في تفسير سورة الإنسان (8/ 884) غير منسوب، وأوضح ابن حجر أن هذا الكلام للفراء. والله أعلم

وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط. يريد النطفة؛ لأنها ممتزجة من أنواع، ولذلك يولد الإنسان ذا طبائع مختلفة (¬1). ¬

_ (¬1) تاج العروس (3/ 487). وذكر ابن جرير الطبري في تفسيره (12/ 354 - 356): أربعة معان للنطفة الأمشاج، ورجح أن تكون الأمشاج بمعنى الأخلاط. قال ابن جرير الطبري في تفسيره وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} يقول تعالى ذكره: إنا خلقنا ذرية آدم من نطفة، يعني: من ماء الرجل وماء المرأة. والنطفة: كل ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة أو غير ذلك كما قال عبد الله بن رواحة: . . . . . . . . . . . . ... هل أنت إلا نطفة في شنه وقوله (أمشاج) يعني أخلاط، واحدها: مشج، ومشيج، مثل خدن وخدين ومنه قول رؤبة بن العجاج: يطرحن كل معجل نشاج ... لم يكس جلدا في دم أمشاج يقال منه: مشجت هذا بهذا إذا خلطه به، وهو ممشوج به ومشيج أي مخلوط به، كما قال أبو ذؤيب: كأن الريش والفوقين منه ... خلال النصل سيط به مشيج واختلف أهل التأويل في معنى الأمشاج الذي عنى بها في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة ذُكْرُ من قال ذلك: (35742) حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي، قالا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني عن عكرمة: أمشاج نبتليه، قال: ماء الرجل وماء المرأة يمشج أحدهما بالآخر. (35743) حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن عكرمة، قال: ماء الرجل وماء المرأة يختلطان. (35744) قال ثنا أبو أسامة، قال: ثنا زكريا، عن عطية، عن ابن عباس، قال: ماء المرأة وماء الرجل يمشجان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ (35746) قال ثنا عبد الله، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس قال: إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فهو أمشاج. (35747) قال ثنا أبو أسامة، قال: ثنا المبارك، عن الحسن، قال: مشج ماء المرأة مع ماء الرجل. (35748) قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة وقد قال الله: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى. (35749) قال: ثنا عبيد الله قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قال: خلق من تارات ماء الرجل وماء المرأة. القول الثاني: قال آخرون: إنما عني بذلك إنا خلقنا الإنسان من نطفة ألوان ينتقل إليها، يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة ثم عظما ثم كسي لحما. ذُكْرُ من قال ذلك. (35750) حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قوله إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه الأمشاج: خلق من ألوان خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم: وهي النطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما ثم أنشأه خلقاً آخر فهو ذلك. (35751) حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة في هذه الآية: أمشاج قال: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة ثم عظما. القول الثالث: وقال آخرون عني بذلك اختلاف ألوان النطفة ذِكْرُ من قال ذلك (35755) حدثني علي قال ثنا أبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله أمشاج نبتليه يقول مختلفة الألوان (35756) حدثنا أبو هشام قال ثنا يحيى بن يمان قال ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ألوان النطفة القول الرابع: قال آخرون بل هي العروق التي تكون في النطفة ذُكْرُ من قال ذلك.

وقال الشنقيطي: قوله تعالى {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} (¬1). ذكر جلا وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة؛ بدليل قوله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} (¬2) أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة (¬3). ¬

_ (35760) حدثنا أبو كريب وأبو هشام، قالا: ثنا وكيع، قال: ثنا المسعودي، عن عبد الله بن المخارق، عن أبيه، عن عبد الله قال: أمشاجها عروقها. (35761) حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا أسامة بن زيد، عن أبيه قال: هي العروق التي تكون في النطفة. وأشبه هذه الأقوال بالصواب قول من قال معنى ذلك من نطفة أمشاج نطفة الرجل ونطفة المرأة لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج وهي إذا انتقلت فصارت علقة فقد استحالت عن معنى النطفة فكيف تكون نطفة أمشاجا وهي علقة وأما الذين قالوا إن نطفة الرجل بيضاء وحمراء فإن المعروف من نطفة الرجل أنها سحراء على لون واحد وهي بيضاء تضرب إلى الحمرة وإذا كانت لونا واحدا لم تكن ألوانا مختلفة وأحسب أن الذين قالوا هي العروق التي في النطفة قصدوا هذا المعنى. وانظر هذه الأقوال أيضاً في تفسير أبي السعود (9/ 70)، وتفسير السيوطي (8/ 368)، وتفسير القرطبي (19/ 120)، وزاد المسير (8/ 428). (¬1) النحل، آية: 4. (¬2) الإنسان، آية: 2. (¬3) يقول د. محمد علي البار في كتابه: خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 185 - 192): "لم تكن البشرية تعرف شيئاً عن النطفة الأمشاج - يقصد عن طريق علومها التجريبية - (وهي الأخلاط من الذكر والأنثى) فقد كان الاعتقاد السائد لدى الفلاسفة والأطباء أن الجنين الإنساني إنما يتكون من ماء الرجل، وإن رحم المرأة ليس إلا محضناً لذلك

وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط من ماء الرجل وماء المرأة. وأخرج الطستي عن ابن عباس: أن نافع ابن الأزرق (¬1).، قال: أخبرني عن قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} قال: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول: كأن الريش والفوقين منه ... خلال النصل خالطه مشيج ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي، وأنشده هكذا: كأن النصل والفوقين منها ... خلال الريش سيط به مشيج ¬

_ الجنين، وشبهوا ذلك بالبذرة ترمى في الأرض فتأخذ منها غذاءها، وتخرج شجرة يافعة وارفة الظلال يانعة الثمار، وليس للمرأة دور في إيجاد الجنين سوى رعايته وتغذيته .. ثم ذكر نظريات الناس حول إيجاد الجنين من وقت ارسطو إلى القرن التاسع عشر، وقال بعد عرضها لها: وهكذا يبدو بوضوح أن الإنسانية لم تعرف بواسطة علومها التجريبية أن الجنين الإنساني أو الحيواني يتكون من امتشاج واختلاط نطفة الذكر ونطفة الأنثى إلا في القرن التاسع عشر، ولم يتأكد لها ذلك إلا في القرن العشرين، والاعجاز في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أنهما قد أكدا بما لا يدع مجالاً للشك أن الإنسان إنما خلق من نطفة مختلطة سماها النطفة الأمشاج {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}. (¬1) نافع بن الأزرق الحروري، له ترجمة في لسان الميزان (6/ 144)، وقال: ذكره الجوزجاني في كتاب الضعفاء. وكان نافع من رؤوس الخوارج، وإليه تنسب الطائفة الأزارقة، وكان قد خرج في أوائل دولة يزيد بن معاوية، وكان قتله في جمادى الآخرة، سنة خمس وستين، وكان يطلب العلم وله أسئلة عن ابن عباس، في جزء من روايته عن نافع المذكور، وأخرج الطبراني بعضها في مسند ابن عباس من المعجم الكبير.

حتى قال: إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب: وهو ماء الرجل. ومنه ما هو خارج من الترائب، وهو ماء المرأة (¬1) , وذلك في قوله جل وعلا: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (¬2). لأن المراد بالصلب: صلب الرجل، وهو ظهره. والمراد: ¬

_ (¬1) يقول د. محمد علي البار في كتابه: خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 120 - 122): الماء الذي يخرج من فرج المرأة لا علاقة له بتكوين الجنين؛ لأن الجنين إنما يتكون من الحيوان المنوي للرجل، وبويضة المرأة، ولكن العلم الحديث بكشف شيئاً مذهلاً: إن الحيوان المنوي يحمله ماء دافق: هو ماء المني. كذلك البويضة في المبيض تكون في حويصلة جراف، محاطة بالماء، فإذا انفجرت الحويصلة تدفق الماء على أقتاب البطن، وتلقفت أهداب البوق (قناة فالوب) البويضة لتدخلها إلى قناة الرحم، حيث تلتقي بالحيوان المنوي لتكون النطفة الأمشاج. مما تقدم، أن للمرأة نوعين من الماء: أولهما: ماء لزج، يسيل ولا يتدفق، وهو ماء المهبل، وليس له علاقة في تكوين الجنين سوى مساعدته في الإيلاج، وفي ترطيب المهبل، وتنظيفه من الجراثيم والميكروبات. وثانيهما: ماء يتدافق، وهو يخرج مرة واحدة في الشهر حويصلة جراف بالمبيض عندما تقترب هذه الحويصلة المليئة بالماء الأصفر - وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان: أن ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر - من حافة المبيض، فتنفجر عند تمام نموها وكماله، فتندلق المياه على أقتاب البطن، ويتلقف البوق، البويضة، فيدفعها دفعاً رقيقاً حتى تلتقي بالحيوان المنوي الذي يلقحها في الثلث الوحشي من قناة الرحم. هذا الماء يحمل البويضة تماماً كما يحمل ماء الرجل الحيوانات المنوية. كلاهما يتدفق، وكلاهما يخرج من بين الصلب والترائب: ماء دافق يحمل الحيوانات المنوية. وماء دافق من حويصلة إجراف بالمبيض يحمل البويضة. وصدق الله العظيم حيث يقول: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}. (¬2) الطارق، آية: 5 - 7.

بالترائب: ترائب المرأة، وهي موضع القلادة منها (¬1). ومنه قول امرئ القيس: ¬

_ (¬1) اختلف في الترائب: هل المراد بها ترائب المرأة، أم المراد بها ترائب الرجل، والعلم الطبي يؤكد أن المراد بها ترائب الرجل والمرأة. قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 158): "ولا خلاف أن المراد بالصلب: صلب الرجل. واختلف في الترائب: فقيل: المراد بها ترائبه أيضاً. وهي عظام الصدر: ما بين الترقوة إلى الثندوة. وقيل: المراد بها ترائب المرأة. قال ابن القيم: والأول: أظهر؛ لأنه سبحانه وتعالى قال {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} ولم يقل: يخرج من الصلب والترائب، فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجاً من بين هذين الملتقين، كما قال في اللبن: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ}. وذكر نحو هذا في التبيان في أقسام القرآن (ص: 102 - 103). وذكر القرطبي في تفسيره، والثعالبي في تفسيره (4/ 402): عن الحسن البصري بأنه يخرج من صلب الرجل وترائبه، وصلب المرأة وترائبها. يقول د. محمد البار: الخصية والمبيض إنما يتكونان من الحدبة التناسلية بين صلب الجنين وترائبه، والصلب: هو العمود الفقري. والترائب: هي الأضلاع. وتتكون الخصية والمبيض في هذه المنطقة بالضبط: أي بين الصلب والترائب، ثم تنزل الخصية تدريجياً حتى تصل إلى كيس الصفن (خارج الجسم) في أواخر الشهر السابع من الحمل، وبينما ينزل المبيض إلى حوض المرأة، ولا ينزل أسفل من ذلك". ثم يقول الدكتور وفقه الله: والآية الكريمة إعجاز علمي كامل حيث تقول: من بين الصلب والترائب، ولم تقل من الصلب والترائب، فكلمة (بين) ليست بلاغة فحسب، وإنما تعطي الدقة العلمية المتناهية، وقد أخطأ كثير من المفسرين القدامى حيث لم يهتموا بهذه اللفظة، وقالوا: إن المني يخرج من صلب الرجل، وماء المرأة يكون في ترائبها، وهذا خطأ علمي، وخطأ منهجي؛ حيث لم يعطوا الآية حقها فحذفوا كلمة (بين) ولذا وقعوا في الخطأ، والذي أوجب لهم هذا الخطأ أنهم رأوا أهل اللغة قالوا: الترائب: موضع القلادة من الصدر. قال الزجاج: أهل اللغة مجمعون على ذلك، وهذا لا يدل على اختصاص الترائب بالمرأة، بل يطلق على الرجل والمرأة. قال الجوهري: الترائب عظام الصدر، ما بين الترقوة إلى الثندوة

مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل واستشهد ابن عباس لنافع الأزرق على أن الترئب موضع القلادة يقول المخبل أو ابن أبي ربيعة والزعفران على ترائبها ... شرقاً به اللبات والبحر فقوله هنا من بين الصلب والترائب يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة (¬1). أما رأي الطب: في النطفة الأمشاج: يذكر الأطباء أنه فور دخول الحيوان المنوي البويضة، يأخذ الحيوان المنوي طريقه إلى الطبقة الشفافة، فيفرز إنزيم الأكروزين (ACROSIN) الذي يساعد على اختراق هذه الطبقة (15 - 25) دقيقة، بعدها يخترق الغشاء البلازيمي للبويضة في دقيقة واحدة، وينطلق رأس الحيوان المنوي صوب نواة البويضة، وينتفخ رأس الحيوان المنوي، وتصبح المادة الوراثية لكل من الأب والأم واضحة في النواة بعد (2 - 4) ساعات من الاقتحام، ولا يمكن التمييز بينهما حينئذ. وتسمى هذه النطفة التي تنشأ عن اختلاط نواتي البويضة والحيوان المنوي بالأمشاج، وذلك لأن الأمشاج يعني: الاختلاط (¬2). ¬

_ ...... الخ كلامه وفقه الله انظر كتابه الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 113 - 119). (¬1) أضواء البيان (3/ 213). (¬2) بتصرف، الآيات العجاب في رحلة الإنجاب (ص: 84). وانظر بتوسع كتاب الإنسان هذا الكائن العجيب (1/ 101)، ويذكر المؤلف أن البويضة قلما تعيش أكثر من 36 ساعة بعد خروجها من المبيض، ونطفة الرجل تحتاج من 7 - 30 ساعة للوصول إلى البويضة

الطور الثالث: العلقة. وهي القطعة من العلق، وهو الدم الجامد. فقوله سبحانه {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي قطعة دم جامدة (¬1). وقال الزبيدي: العلق: الدم عامة ما كان. أو هو الشديد الحمرة، أو الغليظ. أو الجامد قبل أن ييبس. قال تعالى {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (¬2). وفي حديث سرية بني سليم: فإذا الطير ترميهم بالعلق. أي بقطع الدم. وفي التنزيل {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (¬3) وفي حديث ابن أبي أوفى: "أنه بزق علقة، ثم مضى في صلاته" (¬4). (507) وروى مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل - صلى الله عليه وسلم - وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في ¬

_ لتلقيحها. وانظر روعة الخلق (ص: 50). (¬1) انظر تفسير أبي السعود (6/ 126, 93)، وتفسير الطبرى، سورة المؤمنون (. . .)، وتفسير القرطبي (12/ 6)، (20/ 119)، وتفسير ابن كثير (3/ 241)، وأضواء البيان (5/ 21)، وانظر مختار الصحاح (ص: 189). (¬2) العلق، آية: 2. (¬3) المؤمنون، آية: 14. (¬4) تاج العروس (13/ 344) وحديث سرية بني سليم، وابن أبي أوفى لم أقف عليهما مسندين، وقد ذكرهما ابن الأثير في النهاية (3/ 288). والله أعلم.

رأي الطب في العلقة

مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره، فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره (¬1). قال القرطبي: "فاستخرج منه علقة" أي قطعة دم. والعلقة: الدم. رأي الطب في العلقة: " اتفق الأطباء على أن العلقة هي المرحلة التي تعلق فيها النطفة الأمشاج (التوتة) بجدار الرحم، وتنشب فيه" (¬2). فيكون على هذا تسميتها علقة لكونها عالقة بجدار الرحم، وهذا التفسير له وجه في اللغة، جاء في تاج العروس: العلوق: ما يعلق بالإنسان. العَلَق: كل ما عُلَّق. وأيضاً الطين الذي يعلق باليد. والعلق: دويبة: وهي دويدة حمراء تكون في الماء تعلق في البدن فقوله: تعلق في البدن إشارة إلى المناسبة من تسميتها علقة. وعلقت الدابة: شربت الماء فعلقت بها العلقة. كما في الصحاح: أي لزمتها، وقيل: تعلقت بها. وعُلِقَ: نشب العلق في حلقه عند الشراب. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (261 - 162). (¬2) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 204).

العلائق من الصيد: ما علق الحبل برجلها (¬1). يقول الدكتور محمَّد البار: فلفظ العلقة يطلق على كل ما ينشب ويعلق .. وكذلك تفعل العلقة إذ تنشب في جدار الرحم، وتنغرز فيه .. وتكون العلقة محاطة بالدم من كل جهاتها، وإذا عرفنا أن حجم العلقة عند انغرازها لا يزيد على مليمتر أدركنا على الفور لماذا أصر المفسرون القدامى على أن العلقة هي الدم الغليظ ... فالعلقة لا تكاد ترى بالعين المجردة، وهي مع ذلك محاطة بالدم من كل جهاتها، فتفسير العلقة بالدم الغليظ ناتج عن الملاحظة بالعين المجردة (¬2)، ولم يبعد بذلك المفسرون القدامى عن الحقيقة كثيراً، فالعالقة بجدار الرحم، والتي لا تكاد ترى بالعين المجردة محاطة بدم غليظ يراه كل ذي عينين. وينتهي الدكتور إلى أن العلقة تنشب في الرحم وتعلق فيه في اليوم السابع من التلقيح بعد أن تكون أن تكون انقسمت الخلايا فيها، وصارت مثل الكرة تماماً أو مثل ثمرة التوتة، وقد فصلت القول فيها فيما سبق (¬3). الطور الرابع: المضغة. اختلفوا في معنى المضغة: ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس (13/ 344 - 354)، مختار الصحاح (ص: 189). (¬2) لا يظهر لي أن تفسير العلماء ناتج عن الملاحظة بالعين المجردة، بل ناتج عن استعمال أحد معاني الكلمة، فالعلقة باللغة تطلق على الدم، وتطلق على ما يعلق، فالمفسرون اختاروا أحد معاني الكلمة، ولم يطلق المفسرون على هذا التفسير، فقد ذكر ابن الجوزي في زاد المسير المسمى علم التفسير: وقيل: سميت علقة لرطوبتها، وتعلقها بما تمر به" وقد نقله الدكتور البار في كتابه فيما سبق. (¬3) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 205 - 206).

فقيل: هي القطعة الصغيرة من اللحم، على قدر ما يمضغه الآكل، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله. الحديث (¬1). وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (¬2). قال ابن كثير: "إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوماً كذلك، يضاف إليها ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوماً، ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط، ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس، ويدان، وصدر وبطن، وفخذان، ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط، ولهذا قال تعالى {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (¬3) أي كما تشاهدونها. {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬4). أي وتارة تستقر في الرحم لا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (52)، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا، عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. رواه مسلم (1599). (¬2) الحج، آية: 5. (¬3) الحج، آية: 5. (¬4) السورة والآية السابقة.

تلقيها المرأة، ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قال: هو السقط مخلوق، وغير مخلوق، فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكاً فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد كما ثبت في الصحيحين. وذكر حديث ابن مسعود السابق (¬1). فنأخذ من هذا ما يلي أولاً: أن النطفة حتى تكون مضغة تحتاج إلى ثمانين يوماً. وثانياً: أن المضغة منها ما هو مخلق أي قد ظهر فيه تخطيط، وتصوير، ومنها ما هو غير مخلق. أي ليس فيه تصوير. فمعنى ذلك أن الأربعين الأولى وهي مرحلة النطفة، والأربعين الثانية، وهي مرحلة العلقة لا تخطيط فيها، إنما التخطيط في مرحلة المضغة، وهي من بعد الثمانين. ولذلك قال سبحانه وتعالى {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} (¬2). فجعل خلق العظام وكسوها باللحم يعقب المضغة، وعبر بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، أي ليس هناك تراخ طويل. وهو مقتضى حديث ابن مسعود في الصحيحين، حيث قال: "ثم يكون مضغة مثل ذلك: أربعين يوماً، ثم قال: "ثم ينفخ فيه الروح" وواضح أنه لا ينفخ فيه الروح إلا وقد أصبح بشراً سوياً، كما قال تعالى {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} إذاً في الأربعين الثالثة هي مرحلة التخليق والتصوير الذي يسبق نفخ ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (5/ 395). (¬2) المؤمنون، آية: 14.

الروح. والله أعلم (¬1) القول الثاني: في معنى المخلقة. ذهب بعض العلماء إلى أن قوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} هي من صفة النطفة، قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة، فقالوا: فأما المخلقة فما كان من خلق سويٍ، وأما غير المخلقة فما دفعته الأرحام من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقاً. (508) روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟، أذكر أم أنثى؟، ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟، قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، قال: فينطلق الملك، فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها. [رجاله كلهم ثقات، ومثله لا يقال بالرأي، إلا أنه مخالف لما في الصحيحين من حديث ابن مسعود المرفوع] (¬2). ¬

_ (¬1) وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (12/ 9) في معنى "مخلقة" إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة؛ لأن الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال تعالى {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} فذلك ما قال ابن زيد وقد ساق قوله قبل: وهو المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير المخلقة التي لم يخلق فيها شيء. (¬2) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (24922)، وهذا الأثر على خلاف ما جاء في

القول الثالث: ومنها أن المخلقة: هي ما ولد حياً. وغير المخلقة: هي ما كان من سقط: يعني سواء كان مخلقاً أو غير مخلق .. وممن روي عنه هذا القول ابن عباس رضي الله عنهما، وقال صاحب الدر المنثور: أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وصححه ونقله عنه القرطبي. وأنشد لذلك قول الشاعر. أفي غير المخلقة البكاء ... فأين الحزم ويحك والحياء (¬1). القول الرابع: معنى مخلقة: أي تامة، وغير مخلقة غير تامة. حكاه ابن جرير الطبري بإسناده من طريقين عن قتادة. قال الشنقيطي في تفسير معنى: تامة وغير تامة، قال والمراد بهذا القول عند قائله أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة، منها ما هو كامل الخلقة سالم من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك. فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم، وطولهم، وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم. اهـ فيكون معنى غير مخلقة: ليس السقط، ولكن معناه: أي غير سالم من العيوب: الخَلْقِية وغير الخلقية. وممن روي عنه هذا القول قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك (¬2). ¬

_ الصحيحين من حديث ابن مسعود، وما جاء في حديث مسلم من حديث حذيفة بأن الله يأمر الملك أن يكتب، ولا يحيله إلى أم الكتاب. والله أعلم. (¬1) أضواء البيان (5/ 21). (¬2) أضواء البيان (5/ 21).

القول الخامس: في معنى مخلقة وغير مخلقة. معنى ذلك المضغة مصورة إنساناً، وغير مصورة، فإذا صورت فهي مخلقة، وإذا لم تصور فهي غير مخلقة: وهو السقط. ذكر ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره من ثلاثة طرق، عن مجاهد، وحكاه عن عامر الشعبي، وعن أبي العالية (¬1). والفرق بينه وبين القول الأول: يتفقان أن كلا منهما كان سقطاً، إلا أن القول الأول حده بالنطفة إذا سقطت، وهذا لم يقيده، فهذا القول أعم منه. والله أعلم. روجح ابن جرير هذا القول، فقال: وأولى الأقول بالصواب قول من قال: المخلقة: المصورة خلقاً تاماً، وغير المخلقة: السقط قبل تمام خلقه؛ لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقاً سوياً إلا التصوير، وذلك هو المراد من قوله {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (¬2). خلقاً سوياً، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة، ولا تصوير، ولا ينفخ فيها الروح (¬3). ورد هذا الشنقيطي رحمه الله، فقال: هذا القول الذي اختاره الإِمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، لا يظهر صوابه، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك، وهي قوله جل وعلا في أول الآية ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (9/ 111, 110). (¬2) الحج، آية: 5. (¬3) المرجع السابق.

{فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ولأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى: ثم خلقناكم من مضغة مخلقة وخلقناكم من مضغة غير مخلقة، وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة فيه من التناقض كما ترى فافهم. فإن قيل: في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة: السقط؛ لأن قوله {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬1) يفهم منه أن هناك قسماً آخر لا يقره الله في الأرحام إلى ذلك الأجل المسمى، وهو السقط. فالجواب: أنه لا يتعين فهم السقط من الآية؛ لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة، وقد يقره أكثر من ذلك كيف يشاء. أما السقط فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} الآية لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتاً ولو بعد التشكيل والتخطيط لم يخلق الله منه إنساناً واحداً من المخاطبين بقوله {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الآية. فظاهر القرآن يقتضي أن كلاً من المخلقة وغير المخلقة يخلق منه بعض المخاطبين، بقوله {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} الآية (¬2). وبذلك تعلم أن أولى الأقوال بالآية هو القول الذي لا تناقض فيه؛ لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضاً، لا ليتناقض بعضه مع بعض، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك، وقد اقتصر عليه الزمخشري في ¬

_ (¬1) الحج، آية: 5. (¬2) الحج، آية: 5.

رأي الطب في معنى مخلقة وغير مخلقة.

الكشاف ولم يحك غيره، وهو أن المخلقة هي التامة وغير المخلقة هي غير التامة. اهـ (¬1). ولا يترجح لي ما رجحه الشيخ رحمه الله، فالذي يظهر لي أن المخلقة هي المصورة، التي ظهر فيها التخطيط، وغير المخلقة التي لا تخطيط فيها، وهي مرحلة يمر بها الجنين، ولا يلزم منه أن يكون سقطاً حتى نعترض على هذا التفسير بما ذكره الشنقيطي. فقد لا يسقط ويكون الله سبحانه وتعالى خلقنا من المضغة قبل تخليقها، كما خلقنا من النطفة والعلقة التي لا تخليق فيها. والله أعلم. رأي الطب في معنى مخلقة وغير مخلقة. مر معنا مرحلة النطفة الأمشاج، ثم العلقة: والتي فسرناها طبياً: بما يعلق في جدار الرحم فيما بين اليوم السادس والسابع منذ التلقيح. وفي اليوم العشرين أو الحادي والعشرين تبدأ بالظهور كتلة بدنية على جانبي المحور، ثم يتولى ظهورها تباعاً فيما يعرف بالكتل البدنية وتتولى هذه الكتل بالظهور حتى ليبلغ عددها عند اكتمالها 42 إلى 45 كتلة على كل جانب من القمة إلى المؤخرة، ولا يكاد ظهورها يكتمل حتى تبدأ الكتل التي في القمة تتمايز بحيث لا تكون جميع الكتل في مستوى واحد. ويتضح أمامنا أن المضغة somites أو الجنين ذو الكتل البدنية من اليوم العشرين أو الحادي والعشرين، وتستمر في الظهور إلى اليوم الثلاثين حيث يكون هناك 28 كتلة بدنية على كل جانب، ولا تكاد تظهر كتل جديدة حتى ¬

_ (¬1) أضواء البيان (5/ 21).

تكون الكتل القديمة قد تمايزت إلى قطاع عظمي، وقطاع عضلي، وقطاع جلدي وهكذا نرى الأسبوع الرابع (21 - 30) مخصص لظهور الكتل البدنية، والأسبوع الخامس والسادس، لتحول الكتل البدنية إلى قطاع عظمي وعضلي، والأسبوع السادس والسابع: لتكسي العظام بالعضلات. فتكون مرحلة التخلق قد ظهرت عند تمام أربعين أو أثنين وأربعين يوماً، وهذا التقدير يتفق مع حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسلم، وسوف نذكره إن شاء الله تعالى. يقول الدكتور البار: وقد كان المفسرون القدامى يصفون المضغة بأنها مقدار ما يمضغ من اللحم، وقد ذهبت إلى ذلك في الطبعة الأولى .. ولكني بعد إعادة النظر والمناقشة أرى الآن أن وصف المضغة ينطبق تمام الإنطباق على مرحلة الكتل البدنية، إذ يبدو الجنين فيها وكأن أسناناً انغرزت فيه ولاكته، ثم قذفته (¬1). ¬

_ (¬1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 252). هذا وقد ذكر الدكتور البار تفسيرات أخرى في حاشيته (208)، فقال في معنى مخلقة وغير مخلقة: إن العلقة وهي تنغرز في جدار الرحم، وتنشب فيه في اليوم السابع من التلقيح تبدأ بالتمايز إلى طبقتين: خارجية: ووظيفتها قضم خلايا الرحم، والاتصال المباشر بالبرك الدموية الرحمية لامتصاص الغذاء منها. وداخلية: ووظيفتها تكوين الجنين وأغشيته. باختصار أن هناك طبقتين: مخلقة، وغير مخلقة، فالطبقة الخارجية غير مخلقة قطعاً، والداخلية مخلقة؛ لأنه يخلق منها الجنين، وأغشيته.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ قال البار: وهناك وجه قوي أشار إليه الدكتور عزيز عبد العليم رئيس قسم وأستاذ جراحة الأطفال في جامعة طنطا، قال: الآية مخلقة وغير مخلقة تتحدث عن خلايا غير متميزة undiferrentiated cells وهي خلايا عميمة وجميمة، ولها قدرة بأمر بارئها وخالقها على التشكل والتحول، وهي موجودة في الجنين في مرحلة المضغة وما بعدها، وتعرف بالخلايا الميزانيكيمية mesenchymal cells ومصدرها الطبقة المتوسطة (الميزودرم)، وهذه الخلايا تتحول إلى خلايا متميزة عند تكون العظام، أو خلايا الدم الحمراء، أو البيضاء أو عندما تلتئم الجروح والكسور، ولها دور هام في الجنين والطفل، بل وفي البالغ والكبير. هذه الخلايا غير المتميزة هي الخلايا غير المخلقة، وأما الخلايا المتميزة فيه مخلقة، وعلى ذلك فإن مخلقة وغير مخلقة فهي صفة للمضغة، وما بعد الضغة حتى نهاية العمر. قال البار تعقيباً: وهو وجه مستساغ، ودليله من علم الطب قائم، ولا يمنعه مفهوم الآية، بل يؤيده. يقول الدكتور ليزلي في كتابه DEVEVOPMENTAL ANATOMY الطبعة السابعة (ص: 26): "وفي الجنين تتمايز الخلايا على حسب برامج زمنية مختلفة، فمنها ما يتمايز (يتخلق) بسرعة، ويسير في طريقه حثيثاً إلى نهايته المحددة المرسومة له (المقدرة) .. ومنها ما يسير ببطء في هذا التمايز .. ومنها ما يتوقف بعد المسير، ثم يواصل سير التمايز، وتبقى مجموعة من هذه الخلايا غير متمايزة إلى آخر العمر .. وتشكل بذلك الاحتياطي الذي يمكن أن يطلب في أي لحظة. وفي كتاب مع الطب في القرآن للدكاترة عبد الحميد دياب، وأحمد قرقوز: "فطور المضغة يمر إذاً بمرحلتين: .. المرحلة الأولى: حيث لم يتشكل أي عضو أو أي جهاز وأسميها مرحلة المضغة غير المخلقة. والمرحلة الثانية: حيث تم فيها تمييز الأجهزة المختلفة، وأسميناها: مرحلة المضغة المخلقة. وهكذا يتضح جلياً إعجاز القرآن الكريم في وصفه لطور المضغة بقوله: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}، وقد اعتبر المؤلفان أن مرحلة المضغة تبدأ من الأسبوع الثالث، وتكون في هذه المرحلة غير مميزة حتى نهاية الأسبوع الرابع .. ويبدأ التمايز في بداية الأسبوع الخامس، وهو ما يؤدي إلى ظهور الأعضاء، والأجهزة، وبذلك يكون قبل مرحلة التمايز DIFFERENTIATION هو المضغة غير المخلقة، وما بعد التمايز، يعتبر المضغة المخلقة. قال الدكتور البار تعليقاً: وهو قريب من المفهوم السابق الذي ذكرناه عن الدكتور عزيز عبد العليم، والذي وسع مفهومه باعتبار التمايز يستمر منذ مرحلة المضغة إلى أن يولد، ثم يستمر

هذا فيما يتعلق بالآيات، بقي أن نستعرض الأحاديث التي ذكرناها. (509) منها حديث ابن مسعود رواه البخاري، قال: حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق - قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة (¬1). قال الحافظ في الفتح: "حديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار، كل طور منها في أربعين، ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح" (¬2). ¬

_ بعد ذلك أثناء الحياة متفاوتة حتى نهاية العمر. اهـ نقلاً من كتاب الدكتور محمد البار. (¬1) البخاري (3208)، ومسلم (2643). (¬2) فتح الباري (11/ 591)، وإليك بقية كلام الحافظ، قال رحمه الله: "وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في عدة سور. منها في الحج، ودلت الآية على أن التخليق يكون للمضغة، وبين الحديث أن ذلك يكون فيها إذا تكاملت الأربعين، وهي المدة التي إذا انتهت سميت مضغة، وذكر الله النطفة ثم العلقة، ثم المضغة في سورة أخرى وزاد في سورة قد أفلح بعد المضغة {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} ثم قال: وقد رتب الأطوار في الآية بالفاء؛ لأن المراد أنه لا يتخلل بين الطورين طور آخر، ورتبها في الحديث بـ "

بينما حديث حذيفة في مسلم ظاهره يعارض حديث ابن مسعود. فبداية التخلق كما أرشد إليها حديث حذيفة الغفاري يكون بعد اثنتين وأربعين ليلة، (510) فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (¬1). ومر معنا رأي الأطباء بما يوافق حديث حذيفة. فقد ذكرنا عن الأطباء أن النطفة الأمشاج تبقى إلى اليوم السادس، ففي اليوم السادس أو السابع تتحول ¬

_ ثم" إشارة إلى المدة التي تتخلل بين الطورين ليتكامل فيها الطور، وإنما أتى بـ ثم بين النطفة والعلقة؛ لأن النطفة قد لا تكون إنساناً، وأتى بـ ثم في آخر الآية عند قوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ليدل على ما يتجدد له بعد الخروج من بطن أمه .. (¬1) مسلم (2645).

إلى علقة، بحيث تعلق في جدار الرحم. وفي الاسبوع الرابع (21 - 30) مخصص لظهور الكتل البدنية، والأسبوع الخامس والسادس، لتحول الكتل البدنية إلى قطاع عظمي وعضلي، والأسبوع السادس والسابع: لتكسى العظام بالعضلات. وهكذا يبقى في الرحم جنيناً مخلقاً في الأسبوع السابع (¬1). يقول الدكتور محمد البار: في نهاية الأسبوع السادس (42) يوماً تكون ¬

_ (¬1) وهذا التقدير موافق تقريباً ما ذكره ابن القيم قال في التبيان (ص: 336)، ونقله الحافظ في الفتح ببعض التصرف كعادته (11/ 588) ح 6594، قال ابن القيم: "اقتضت حكمة الخلاق العليم سبحانه وتعالى أن جعل داخل الرحم خشن كالاسفنج .. وجعل فيه طلباً للمني وقبولاً له كطلب الأرض الشديدة العطش للماء، وقبولها له، فجعله طالباً حافظاً، مشتاقاً إليه بالعطش، فلذلك إذا ظفر به، ضمه، ولم يضيعه، بل يشتمل عليه أتم الاشتمال، وينضم أعظم انضمام، لئلا يفسده الهواء، فيتولى القوة والحرارة التي هناك بإذن الله ملك الرحم، فإذا اشتمل على المني، ولم يقذف به إلى خارج، استدار على نفسه وصار كالكرة في الشدة إلى تمام ستة أيام (وقد ذكرت فيما سبق عن الأطباء أن نطفة الأمشاج تبقى ستة أيام قبل أن تتحول إلى علقة) فإذا اشتد نقط نقطة في الوسط، وهو موضع القلب، ونقطة في أعلاه وهي نقطة الدماغ، وفي اليمين: وهي نقطة الكبد. ثم تتباعد تلك النقط، ويظهر بينها خطوط حمر، إلى تمام ثلاثة أيام أخر، ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر، فيصير ذلك خمسة عشر يوماً، ويصير المجموع سبعة وعشرين يوماً، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنبين، وذلك في تسعة أيام، فتصير ستة وثلاثين يوماً، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهوراً بيناً في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يوماً تجمع خلقه، وهذا مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم - الحديث المتفق على صحته: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، واكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الإجمال عن التفصيل، وهذا يقتضي أن الله قد جمع فيها خلقاً جمعاً خفياً، وذلك الخلق في ظهور خفي على التدريج" اهـ.

النطفة قد بلغت أوج نشاطها في تكوين الأعضاء، وهي قمة المرحلة الحرجة الممتدة من الأسبوع الرابع حتى الثامن، فيكون دخول الملك في هذه الفترة تنويهاً بأهميتها، وإلا فللملك ملازمة ومراعاة بالنطفة الإنسانية في كافة مراحلها ... نطفة وعلقة ومضغة، ودخوله هنا لتصويرها وشق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم بعد ذلك يحدد جنس الجنين ذكراً أم أنثى حسب ما يؤمر به، فيحول الغدة إلى خصية أو إلى مبيض ... والدليل على ذلك ما يشاهد في السقط حيث لا يمكن تمييز الغدة التناسلية قبل انتهاء الأسبوع السابع، وبداية الثامن: أي أنه لا يمكن تمييزها قبل دخول الملك لتحديد جنس الجنين ذكراً أم أنثى كما يؤمر به من خالقها (¬1). ¬

_ (¬1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 389). يقول الطبيب سيف الدين السباعي في كتابه: الإجهاض بين الفقه والطب والقانون (ص: 37): "المضغة: هي المرحلة الثالثة من تكون الجنين، فبعد أن زودت المضغة بمصادر التغذية المناسبة وانفصلت خلاياها إلى وريقات ثلاث، تبدأ تلك الوريقات بالتمايز، وتصوير الأعضاء، والأجهزة، ويكون ذلك في بدء الشهر الثاني، وبينما كانت العلقة تقيس 5 مم، تصبح المضغة في نهاية الشهر الثاني 30 مم طولاً، و11 غراماً وزناً. في هذه الفترة يتشكل الجهاز العصبي والحويصلان السمعي والبصري، وتظهر مولدات الغضروف والعضلات، والأدمة ووحدات الجهاز البولي والتناسلي، والأغشية المصلية، والقلب، وجهاز الهضم، وبراعم الأطراف العلوية والسفلية، وتمر المضغة بطورين: أولهما المضغة غير المخلقة، حيث تتصور الأعضاء دون أن تظهر أي تتمايز مجموعات خلوية مختلفة، ومن ثم تتطور وتتخلق معطية الأجهزة والأعضاء، ونلك المضغة المخلقة (الطور الثاني). وفي منتصف هذا الشهر: أي في يوم (40 - 45) تحدث تبدلات خاصة تنتقل بالجنين نقلة واسعة نحو تكونه الإنساني، فالقلب الذي كان بشكل أنبوب مغلق ابتدائي يدق دقات خفيفة، يصبح في اليوم 38 قلباً رباعي الأجواف، يضرب ضربات عادية، ويتصل بالدوران المشيمي،

موقف العلماء من حديث حذيفة وحديث ابن مسعود

موقف العلماء من حديث حذيفة وحديث ابن مسعود: إما الترجيح وإما الجمع: قال القاضي عياض وغيره: ليس هو على ظاهره، يعني حديث حذيفة، ولا يصح حمله على ظاهره، بل المراد بتصويرها. إلخ أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجود في العادة وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة اهـ (¬1). قال ابن الصلاح: "أعرض البخاري عن حديث حذيفة بن أسيد، إما لكونه من رواية أبي الطفيل عنه، وإما لكونه لم يره ملتئماً مع حديث ابن مسعود، وحديث ابن مسعود لا شك في صحته، وأما مسلم فأخرجهما معاً، فاحتجنا إلى وجه الجمع بينهما بأن يحمل إرسال الملك على التعدد، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح، وأما قوله في حديث حذيفة في ابتداء الأربعين الثانية، فصورها، فإن ظاهر حديث ابن مسعود أن التصوير إنما يقع بعد أن تصير مضغة، فيحمل الأول على أن المراد أنه يصورها لفظاً وكتابة، لا فعلاً، أي يذكر كيفية تصويرها، ويكتبها، بدليل أن جعلها ذكراً ¬

_ إلا أن سماع دقات القلب بوسائلنا العادية لا يكون قبل الأسبوع 22 من الحمل، وكذا تتشكل العينان، والأذنان والأنف، والشفتان، وبراعم الأسنان، وبعض العضلات، وتكون اليدان قصيرتين، والساقان أقصر، إلا أنها واضحت المعالم، وهكذا تصورت وتخلقت المضغة، وهذا ما أثبته الحديث الشريف الصحيح، عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إلىها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم يقول: أي رب ذكر أم أنثى؟ اهـ. (¬1) نقلاً من الديباج على صحيح مسلم (6/ 8).

أو أنثى إنما يكون عند المضغة. وقال ابن حجر متعقباً: "وقد نوزع في أن التصوير حقيقة إنما يقع في الأربعين الثالثة بأنه شوهد في كثير من الأجنة التصوير في الأربعين الثانية، وتمييز الذكر من الأنثى، فعلى هذا فيحتمل أن يقال: أول ما يبتديء به الملك تصوير ذلك لفظاً وكتباً، ثم يشرع فيه فعلاً عند استكمال العلقة، ففي بعض الأجنة يتقدم ذلك، وفي بعضها يتأخر، ويكون بقي في حديث حذيفة أنه ذكر العظم واللحم، وذلك لا يكون إلا بعد أربعين العلقة (¬1) , فيقوي ما قاله عياض ومن تبعه" (¬2). قال ابن القيم في التبيان: فإن قيل: قد ذكرتم أن تعلق الروح بالجنين إنما يكون بعد الأربعين الثالثة، وإن خلق الجنين يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، وبينتم أن كلام الأطباء لا يناقض ما أخبر به الوحي من ذلك. فما تصنعون بحديث حذيفة بن أسيد الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: يدخل الملك في النطفة بعد أن تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان، أي رب، ذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم يطوى الصحيفة، فلا يزاد فيها، ولا ينقص. ¬

_ (¬1) الثابت طبياً خلافه كما شرحت من قبل. (¬2) فتح الباري (11/ 592) ح 6594

قيل: نتلقاه بالقبول والتصديق، وترك التحريف، ولا ينافي ما ذكرناه إذ غاية ما فيه أن التقدير وقع بعد الأربعين الثالثة، وكلاهما حق، قاله الصادق - صلى الله عليه وسلم -، وهذا تقدير بعد تقدير. فالأول: تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق، التي هي أول مراتب الإنسان. وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق. والتقدير الثاني: تقدير عند كمال خلقه ونفخ الروح، فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره، وهذا تقدير عند تمام خلقه وتصويره، وهذا أحسن من جواب من قال: إن المراد بهذه الأربعين التي في حديث حذيفة الأربعين الثالثة، وهذا بعيد جداً من لفظ الحديث، ولفظه يأباه كل الإباء، فتأمله. فإن قيل فما تصنعون بحديثه الآخر الذي في صحيح مسلم، (511) فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبر في عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب

أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (¬1). وفي لفظ آخر في الصحيح أيضاً: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذني هاتين، يقول: إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ أسوي أم غير سوي؟ ثم يقول: يا رب ما رزقه؟ وما أجله؟ وما خلقه؟ ثم يجعله الله عز وجل شقياً أم سعيداً. وفي لفظ آخر في الصحيح أيضاً: "أن ملكاً موكلاً بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئاً بإذن الله لبضع وأربعين ليلة" ثم ذكر نحوه. قيل: نتلقاه أيضاً بالتصديق والقبول، وترك التحريف وهذا يوافق ما أجمع عليه الأطباء من أن مبدأ التخليق والتصوير بعد الأربعين (¬2). فإن قيل: فكيف توفقون بين هذا، وبين حديث ابن مسعود، وهو صريح في أن النطفة: أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة .. ومعلوم أن العلقة والمضغة لا صورة فيها، ولا جلد، ولا لحم، ولا عظم ... وليس بنا حاجة إلى التوفيق بين حديثه هذا وبين قول الأطباء؛ فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم، وقولهم عرضة للخطأ، ولكن الحاجة إلى التوفيق بين حديثه ¬

_ (¬1) مسلم (2645). (¬2) في كلام ابن القيم ما يشير إلى أنه في عهده كان إجماعاً من الأطباء على أن التصوير بعد الأربعين، وهذا ما فصله الطب الحديث بعد وصوله لعلم التصوير والتكبير. والله أعلم.

وحديث حذيفة المتقدم .. قيل: لا تنافي بين الحديثين بحمد الله، وكلاهما خارج من مشكاة صادقة معصومة، وقد ظن طائفة أن التصوير في حديث حذيفة إنما هو بعد الأربعين الثالثة. وخطأ هذا ابن القيم، ثم قال: وظنت طائفة أن التصوير والتخليق في حديث حذيفة في التقدير والعلم، والذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجي. والصواب يدل على أن الحد ما دل عليه الحديث من أن ذلك في الأربعين الثانية، ولكن هناك تصويران: أحدهما: تصوير خفي، لا يظهر، وهو تصوير تقديري، كما تصور حين تفصل الثوب أو تنجر الباب: مواضع القطع، والفصل، فيعلم عليها، ويضع مواضع الفصل والوصل، وكذلك كل من يضع صورة في مادة لا سيما مثل هذه الصورة .. ينشئ فيها التصوير والتخليق على التدريج شيئاً بعد شيء، لا وهلة واحدة كما يشاهد بالعيان في التخليق الظاهر في البيضة. أحدهما تصوير وتخليق علمي، لم يخرج إلى الخارج. الثانية: مبدأ تصوير خفي، يعجز الحس عن إدراكه. الثالثة: تصوير يناله الحس، ولكنه لم يتم بعد. الرابعة: تمام التصوير الذي ليس بعده إلا نفخ الروح. فالمرتبة الألى علمية .. والثلاث الآخر عينية. وهذا التصوير بعد التصوير، نظير التقدير بعد التقدير .. فالرب تعالى قدر مقادير الخلائق تقديراً عاماً قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف

سنة. وهنا كتب الشقاوة والسعادة والأعمال والأرزاق والآجال. والثاني تقدير بعد هذا، وهو أخص منه. وهو التقدير الواقع عند القبضتين حين قبض تبارك وتعالى أهل السعادة بيمينه، وقال: هؤلاء إلى الجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، وقبض أهل الشقاوة باليد الأخرى، وقال: هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. والثالث: تقدير بعد هذا، وهو أخص منه عندما يمنى به، كما في حديث حذيفة بن أسيد المذكور. والرابع: تقدير آخر بعد هذا .. وهو عندما يتم خلقه وينفخ فيه الروح، كما صرح به الحديث الذي قبله يعني: حديث ابن مسعود - (¬1). وفي الفتح: "وقال بعضهم يحتمل أن يكون الملك عند انتهاء الأربعين الأولى يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء بحسب الأعضاء، أو يقسم بعضها إلى جلد، وبعضها إلى لحم، وبعضها إلى عظم، فيقدر ذلك كله قبل وجوده، ثم يتهيأ ذلك في آخر الأربعين الثانية، ويتكامل في الأربعين الثالثة. وقال بعضهم: معنى حديث ابن مسعود أن النطفة يغلب عليها وصف المني في الأربعين الأولى، ووصف العلقة في الأربعين الثانية، ووصف المضغة في الأربعين الثالثة، ولا ينافي ذلك أن يتقدم تصويره. (¬2) ¬

_ (¬1) التبيان في أقسام القرآن (ص: 345) (¬2) فتح الباري (11/ 592) 6594.

وذهب بعضهم إلى أن قوله: مخلقة وغير مخلقة صفة للنطفة، وليست للمضغة، روي ذلك عن ابن مسعود بسند صحيح، رواه ابن جرير الطبري عنه. (512) فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفتها ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟، قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، قال: فينطلق الملك، فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها (¬1). هذا ما تيسر لي جمعه من أقوال أهل العلم في الجمع بين حديث ابن مسعود، وحديث حذيفة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) والحديث وإن كان رجاله ثقات إلا أنه شاذ لمخالفته ما في الصحيحين، وقد سبق بيان المخالفة.

الفصل الثالث: في خلاف العلماء في الدم مع الولادة

الفصل الثالث: في خلاف العلماء في الدم مع الولادة اختلف العلماء في الدم الخارج مع الولادة. فقيل: لا يعتبر نفاساً مطلقاً. وهو قول محمد وزفر من الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب الشافعية (¬2). وقيل: يعتبر نفاساً مطلقاً. وهو مذهب المالكية (¬3)، والحنابلة (¬4)، ووجه في مذهب الشافعية (¬5). وقيل: إن خرج أكثر الولد اعتبر نفاساً، وإلا فلا، وهذا القول هو المشهور من مذهب الحنفية (¬6). ¬

_ (¬1) البحر الرائق (1/ 229)، تبيين الحقائق (1/ 67)، البناية (1/ 691). (¬2) روضة الطالبين (1/ 175)، وقال النووي في المجموع (2/ 537): "الصحيح عند جمهور المصنفين، وبه قطع جمهور أصحابنا المتقدمين أنه ليس بنفاس". اهـ (¬3) الشرح الصغير (1/ 216)، منح الجليل (1/ 175)، حاشية الدسوقي (1/ 174)، حاشية الخرشي (1/ 209). (¬4) الإنصاف (1/ 387)، المبدع (1/ 293)، كشاف القناع (1/ 218)، الفروع (1/ 282)، المحرر (1/ 27)، شرح منتهى الإرادات (1/ 122)، الإقناع (1/ 72). (¬5) الحاوي الكبير (1/ 438)، روضة الطالبين (1/ 175)، المجموع (2/ 537). (¬6) مراقي الفلاح (ص: 57)، البحر الرائق (1/ 229)، تبينن الحقائق (1/ 67)، البناية (1/ 691) شرح فتح القدير (1/ 187)، حاشية ابن عابدين (1/ 299).

دليل من لم يعتبره نفاسا.

دليل من لم يعتبره نفاساً. الدليل الأول: قالوا: لم نجعله نفاساً؛ لأنه ما لم ينفصل جميع الولد فهي في حكم الحامل، ولهذا يجوز للزوج رجعتها، فصار كالدم الذي تراه في حال الحمل (¬1). الدليل الثاني: قالوا: بأن دم النفاس دم رحم، ودم الرحم لا يوجد من الحامل؛ لأن الحبل يسد فم الرحم؛ لأن الله تعالى أجرى عادته بذلك لئلا ينزل ما فيه، لكون الثقب من أسفل (¬2). دليل من قال بأنه دم نفاس. التعليل الأول: قالوا: بأنه دم خرج بسبب الولادة فكان نفاساً كالخارج بعده، وإنما يعلم خروجه إذا كان قريباً منها، ويعلم ذلك برؤية أماراتها من المخاض ونحوه في وقته (¬3). التعليل الثاني: قالوا: إن النفاس مأخوذ من تنفس الرحم بخروج النفس الذي هو الدم، وفي المصباح المنير، قال عن النفاس: "مأخوذ من النَّفس، وهو الدم، ومنه قولهم: "لا نفس له سائلة: أي: لا دم له يجري، وسمي الدم نفساً؛ لأن النفس ¬

_ (¬1) المهذب المطبوع من المجموع (2/ 535). (¬2) شرح العناية على الهداية، المطبوع مع شرح فتح القدير (1/ 187). (¬3) المغني (1/ 445).

دليل من اشترط خروج أكثر الولد.

التي هي اسم لجملة الحيوان، قوامها بالدم. والنفساء من هذا" اهـ (¬1). ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنفست لدم الحيض. وسبق الكلام على ذلك. واعترض على ذلك بأن النفاس مأخوذ من خروج النَّفْس، الذي هو الولد (513) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثني جرير، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتب شقية أو سعيدة. فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية. وأخرجه مسلم (¬2). وعندي لا مانع أن يكون النفاس مأخوذاً من الاثنين معاً. دليل من اشترط خروج أكثر الولد. استدلوا بقولهم: أولاً: أن خروج الأكثر له حكم الكل. ¬

_ (¬1) المصباح المنير (ص: 31). (¬2) صحيح البخاري (1362)، ومسلم (2647).

ثانياً: أن بقاء الأقل لا يمنع خروج الدم من الرحم (¬1). القول الراجح: الذي يظهر لي والله أعلم أن الدم يعتبر نفاساً إذا خرج مع الولد بسبب الولادة، فإذا نزل المخاض بالمرأة فإن الرحم ينفتح شيئاً فشيئاً، فيخرج الدم من المرأة ويستمر، ويتصل بالدم الخارج بعد الولادة، فهما دم واحد، وكلاهما خرج من الرحم، إلا أن الذي يعكر على هذا الترجيح ما قرره الطب، فإن كان ما قرره الطب حقيقة مسلمة بينهم سلمنا لهم، وإن كان بينهم خلاف في هذا فإني على ما ترجح لدي والله أعلم جاء في وقائع الندوة الثالثة للفقه الطبي، المنعقدة في الكويت" وقد عرف الأطباء النفاس: بأنه الفترة التي تعقب الولادة، وتحدث أثناءها بعض التغييرات لعودة الجهاز التناسلي إلى وضعه الطبيعي قبل الحمل. وسائل النفاس: هو عبارة عن الإفرازات التي تخرج من الرحم بعد الولادة، ويكون عبارة عن دم في أول أربعة أيام، ثم يفتح لونه، وتقل كمية الدم حتى يصبح عبارة عن مخاط، لا لون له بعد عشرة أيام" (¬2). والأصل في النفاس تمزق جدار الرحم الوظيفي، ونزول الدم منه بعد أن ¬

_ (¬1) العناية، شرح الهداية (1/ 187). (¬2) نقله يحيى عبد الرحمن الخطب، في كتابه المرأة الحامل من نبيهة الجيار، بحث في أقل مدة الحيض والنفاس والحمل وأكثرها، وقائع الندوة الثالثة للفقه الطبي - الكويت 18/ 4/ 1987.

تحول أثناء قرة الحمل إلى ما يسمى Decidua، وهو مماثل تماماً لجدار الرحم في النصف الثاني من الحمل، ولكن بكثافة أكثر، وكذلك خروج أنسجة أخرى خصوصاً من مكان المشيمة - التي تقع أعلى الرحم أثناء التئام ذلك المكان. وفي نفس الوقت يتكون جدار وظيفي جديد من جدار الرحم الأساسي ليحل مكان جداره السابق ذكره. ومكونات دم النفاس هي خلايا جدار الرحم، وكرويات دم بيضاء، ومكونات الدم الأخرى، ويكون أحمر في الأيام الأولى من النفاس، ثم يبهت لونه تدريجياً حتى يصبح سائلاً أبيض مائلاً للاصفرار في الإسبوع الثالث أو الرابع، ومكوناته كرويات الدم البيضاء على الأكثر. بعد هذا التمزق لجدار الرحم الوظيفي، ونزول الدم منه يستبدل جدار جديد به بعد أربعة أسابيع من الولادة غير أنه لا يكتمل رجوع جميع الأعضاء التناسلية إلى حجمها الطبيعي، ونزول العادة الشهرية - لدى المرأة غير المرضعة ورجوع الجسم إلى حالته - إلا بعد ستة أسابيع من نزول الولد في الغالب (¬1). ويقول بعض الأطباء: "يعرف دم النفاس وما يتبعه من إفرازات في الطب: بأنه الدم والافرازات التي تخرج من الرحم بعد الولادة، وتستمر لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع. وقد تطول إلى ستة أسابيع (أربعين يوماً). ¬

_ (¬1) نقله الدكتور عبد الله بن عبد المحسن الطريقي في كتابه أحكام مباشرة النساء (ص: 77) نقلاً من كتاب: Current Obstetrics And Gynecology 3rd edition

وفي الأيام الثلاثة أو الأربعة يكون الدم قانياً، وغليظاً ومحتوياً على جلطات (دم متجمد) ثم يخف تدريجياً بعد ذلك، ثم يصير بني اللون، مختلطاً بمادة مخاطية .. وأخيراً تظهر القصة البيضاء (¬1). فبناء على هذا التقرير الطبي يكون النفاس هو الدم النازل بعد فراغ الرحم من الولد، فعند فراغ الرحم ينهدم الجدار الوظيفي للرحم، فينزل على شكل دم في الأيام الأولى من النفاس، ثم يبهت لونه تدريجياً حتى ينقطع. والله أعلم. ¬

_ (¬1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 456).

الفصل الرابع: في خلاف العلماء في الدم الذي تراه الحامل قبل الولادة

الفصل الرابع: في خلاف العلماء في الدم الذي تراه الحامل قبل الولادة اختلف العلماء في الدم الخارج قبل الولد: فقيل: لا يعتبر نفاساً. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: إن خرج الدم قبل الولادة بيوم أو يومين ومعه طلق (¬4)، كان نفاساً، وإلا فلا. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) مراقي الفلاح (ص: 57)، البحر الرائق (1/ 229)، تبيين الحقائق (1/ 67)، البناية (1/ 691) شرح فتح القدير (1/ 187)، حاشية ابن عابدين (1/ 299). (¬2) الشرح الصغير (1/ 216)، منح الجليل (1/ 175)، حاشية الدسوقي (1/ 174)، حاشية الخرشي (1/ 209). (¬3) الحاوي الكبير (1/ 438)، روضة الطالبين (1/ 175)، المجموع (2/ 537). (¬4) ظاهر كلام ابن تيمة أنه لا يقيده بيوم أو يومين، ولذلك قال في مجموع الفتاوى (19/ 240): "وما تراه من حين أن تشرع في الطلق فهو نفاس" اهـ. وقال السعدي في الفتاوى السعدية (151): "صريح كلام الفقهاء أن ما رأته النفساء قبل الولادة بأكثر من ثلاثة أيام دم فساد، وليس بنفاس، ولو مع وجود الأمارة، وفي هذا نظر ..... وليس تحديد الثلاثة منصوصاً عليه"، ثم رجح أن الدم الخارج بسبب الولادة أنه نفاس ولو زاد على ثلاثة أيام. (¬5) الإنصاف (1/ 387)، المبدع (1/ 293)، كشاف القناع (1/ 218)، الفروع

أدلة الجمهور على أن الدم قبل الولادة لا يعتبر نفاسا.

أدلة الجمهور على أن الدم قبل الولادة لا يعتبر نفاساً. أدلتهم في هذه المسألة هي أدلتهم في استدلالهم في أن الدم الذي يخرج مع الولادة لا يعتبر نفاساً، وقد سقت أدلتهم في المسألة التي قبل هذه. فإذا كان الدم الذي مع الولادة لا يعتبر نفاساً، فما بالك بالدم الذي قبل الولادة. دليل الحنابلة على أن الدم قبل الولادة بيوم أو يومين نفاس. استدلوا بقولهم: إنه دم خرج بسبب الولادة فكان نفاساً كالخارج بعده، وإنما يعلم خروجه بسبب الولادة إذا كان قريباً منها، ويعلم ذلك برؤية أماراتها من المخاض ونحوه في وقته، وأما إن رأت الدم من غير علامة على قرب الوضع لم تترك له العبادة؛ لأن الظاهر أنه دم فساد. فإن تبين كونه قريباً من الوضع كوضعها بعده بيوم أو يومين أعادت الصوم المفروض إن صامته فيه (¬1). ¬

_ (1/ 282)، المحرر (1/ 27)، شرح منتهى الإرادات (1/ 122)، الإقناع (1/ 72). (¬1) المغني (1/ 445).

الفصل الخامس: في النقاء المتخلل بين الدمين في مدة النفاس

الفصل الخامس: في النقاء المتخلل بين الدمين في مدة النفاس اختلف العلماء في النفساء تطهر، ثم يعود الدم قبل انتهاء مدة النفاس. فقيل: الطهر والدم نفاس؛ لأن الطهر المتخلل في الأربعين لا يفصل، فلو رأت ساعة دماً، وأربعين إلا ساعتين طهراً، ثم ساعة دماً كان الأربعون كله نفاساً. وهذا مذهب أبي حنيفة (¬1). وقيل: إن كان الطهر أقل من خمسة عشر يوماً كان الجميع نفاساً وإن كان الطهر خمسة عشر يوماً فصاعداً، يكون الأول نفاساً، والثاني حيضاً إن أمكن وإلا كان استحاضة. وهو رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة (¬2)، واختيار أبي يوسف ومحمد من الحنفية (¬3). القول الثاني: المذهب المالكي. مذهب المالكية في النفاس المتقطع، نحو مذهبهم في الحيضة المتقطعة (¬4). ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق (1/ 68)، البناية (1/ 696)، شرح فتح القدير (1/ 189) حاشية ابن عابدين (1/ 301). (¬2) البنابة (1/ 696). (¬3) انظر تبيين الحقائق (1/ 68)، البناية (1/ 696). وانظر بقية الروايات في مذهب الحنفية في مسألة النقاء المتخلل بين الحيض. (¬4) الشرح الصغير (1/ 212) أسهل المدارك (1/ 89) مقدمات ابن رشد (1/ 132) مواهب الجليل (1/ 369 - 370) منح الجليل (1/ 169 - 170).

القول الثالث

قالوا: المرأة إذا أتاها دم، ثم انقطع، ثم نزل دم آخر، فإن كان بين الدمين طهر صحيح خمسة عشر يوماً فالدم الثاني حيض مستأنف، والأول نفاس. وإن كان الطهر لا يبلغ نصف شهر كأن يأتيها الدم يوماً ثم تطهر يومين ثم يأتيها يوماً آخر وهكذا، فإنها تلفق من أيام الدم ستين يوماً، وتلغي أيام الانقطاع، وتغتسل كما انقطع، وتصوم وتصلي وتوطأ. (¬1) القول الثالث: مذهب الشافعية. المرأة إذا رأت يوماً دماً ويوماً نقاء فلها حالان: الأولى: أن ينقطع دمها، ولا يتجاوز ستين يوماً: الثاني: أن يجاوز التقطع ستين يوماً. الحال الأولى: إذا لم يجاوز ستين يوماً (¬2)، نظر: فإن لم يبلغ مدة النقاء بين الدمين أقل الطهر: وهو خمسة عشر يوماً: ففيه قولان مشهوران. أحدها: أن أيام الدم نفاس، وأيام النقاء طهر. التعليل: لأن الدم إذا دل على الحيض، وجب أن يدل النقاء على الطهر. وهذا يسمى قول اللفظ أو التلفيق. الثاني: أن أيام الدم وأيام النقاء كلها نفاس. ويسمى قول السحب ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 217)، الخرشي (1/ 210)، أسهل المدارك (1/ 92)، مقدمات ابن رشد (1/ 132) حاشية الدسوقي (1/ 175) قال: ومحل التلفيق ما لم لم يأت الدم بعد طهر تام، وإلا كان حيضاً مؤتنفاً. (¬2) قيدوه بالستين؛ لأن النفاس أكثره عندهم ستون يوماً.

واختلف الشافعية في الأصح منهما. قال النووي: "صحح الأكثرون قول السحب" (¬1). وقال المرداوي: "الذي صرح به الشافعي في سائر كتبه أن كل ذلك حيض أيام الدم وأيام النقاء" (¬2). قلت: وحكم النفاس عندهم حكم الحيض في هذه المسألة. ووجهه: أن عادة النساء في الحيض مستمرة بأن يجري الدم زماناً، ويرقأ زماناً، وليس من عادته أن يستديم جريانه إلى انقضاء مدته، فلما كان زمان إمساكه نفاساً، لكونه بين دمين، كان زمان النقاء نفاساً لحصوله بين دمين. فعلى هذا تكون المدة كلها نفاساً، يحرم عليها في أيام النقاء ما يحرم عليها في أيام الدم. أما إذا بلغت مدة النقاء أقل الطهر خمسة عشر يوماً فصاعداً، ثم عاد الدم. فالأصح أن العائد دم حيض، والأول نفاس، وما بينهما طهر؛ لأنهما دمان تخللهما طهر كامل، فلا يضم أحدهما إلى الآخر كدمي الحيض. والوجه الثاني: أنه نفاس، لوقوعه في زمن الإمكان، كما لو تخللهما دون خمسة عشر يوماً، وأما النقاء المتخلل ففيه قولان: أحدهما أنه طهر. والثاني: أنه نفاس. الحال الثاني: أن ترى يوماً دماً ويوماً نقاء ويتجاوز ستين يوماً، فهذه مستحاضة اختلط حيضها باستحاضتها. قال النووي: "هذا هو الصحيح ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 518). (¬2) الحاوي (1/ 424).

القول الرابع

المشهور الذي نص عليه الشافعي في كتاب الحيض، وقطع به جماهير الأصحاب المتقدمين والمتأخرين" (¬1). وقد تكلمنا عن أحكام المستحاضة في باب مستقل، فارجع إليه إن شئت (¬2). القول الرابع: المذهب الحنبلي في المذهب الحنبلي روايتان: الأولى: وهي المشهورة من المذهب الحنبلي أنه مشكوك فيه، تصوم وتصلي، وتقضي الواجب، (¬3) وجه كونه مشكوكاً فيه، أي أنه تعارض فيه أمارتان، في كونه دم نفاس أو فساد. الرواية الثانية: أنه دم نفاس (¬4). القول الخامس: قال أبو ثور: إذا رأت النفساء الطهر والنقاء، فهو طهرها، فإن عاودها الدم بعد أيام، فهو دم فساد، ليس بحيض ولا نفاس، فإن رأت بعد خمسة عشر ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 523). (¬2) المجموع (2/ 545، 544)، روضة الطالبين (1/ 178)، مغني المحتاج (1/ 119). (¬3) قال في الإنصاف (1/ 385): "وهو المذهب نص عليه". (¬4) قال في الإنصاف (1/ 384): "اختارها المصنف - يعني ابن قدامة - والمجد وابن عبدوس في تذكرته، وقال في الفائق: فهو نفاس في أصح الروايتين، وجزم به في الوجيز، والمنور، والمنتخب، والإفادات، وقدمه في المذهب الأحمد، والمحرر، وابن تميم، والرعايتين، والحاويين، وابن رزين في شرحه، والكافي، والهادي" اهـ.

يوماً دماً يوماً وليلة، فهو حيض (¬1). الراجح من هذه الأقوال: ما رجحناه في باب الحيض نرجحه هنا، وأن الانقطاع اليسير لا يلتفت إليه؛ لأن عادة النساء في الحيض مستمرة بأن يجري الدم زماناً، ويرقأ زماناً، وليس من عادته أن يستديم جريانه إلى انقضاء مدته، أما إذا كان انقطاع الدم طويلاً كاليوم واليومين والثلاثة فإننا نحكم بطهارتها، فإذا عاد الدم في زمن الأربعين فإن وافق زمن عادتها فهو حيض، وإن لم يوافق فإنه نفاس. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ذكره ابن المنذر في الأوسط (2/ 254).

الفصل السادس: إذا ولدت المرأة ولم تر دما

الفصل السادس: إذا ولدت المرأة ولم تر دماً اختلف العلماء فيما يجب على المرأة إذا ولدت ولم تر دماً. فقيل: يجب عليها الغسل، ويبطل صومها إن كانت صائمة. وهو قول أبي حنفية، وزفر (¬1)، والراجح في مذهب مالك (¬2) وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬3) ووجه في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: لا يجب عليها غسل. وهو اختيار أبي يوسف رحمه الله (¬5)، وقول ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 186)، تبيين الحقائق (1/ 68)، البحر الرائق (1/ 299)، وقال في البناية (1/ 696): "وأكثر المشايخ أخذوا بقول أبي حنيفة، وبه كان يفتي الصدر الشهيد". (¬2) الشرح الصغير (1/ 166)، قال الصاوي: هذا هو المستحسن عند ابن عبد السلام وخليل، من روايتين عن مالك، وهو الأقوى ذكره شيخنا في مجموعه". اهـ وانظر الخرشي (1/ 165) وقال العدوي في حاشيته المطبوعة مع الخرشي، قال: يجب الغسل، وضعف الرواية الثانية عن مالك في عدم الوجوب. وقال في الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 130)، قال: وهو المعتمد: يعني وجوب الغسل، وإن كانت الولادة عارية عن الدم. (¬3) مغني المحتاج (1/ 69)، نهاية المحتاج (1/ 211) وفيه: "يجوز جماعها بعد الولادة بلا بلل؛ لأنها جنابة، وهي لا تمنع الجماع. قال الرملي: وتفطر به إذا كانت صائمة يشكل على جواز وطئها. والحاصل أنه علل وجوب الغسل بالولادة تارة بأنها مظنة النفاس، وتارة بأن الولد مني مجتمع، فالثاني من التعليلين يقتضي جواز الوطء، وعدم المفطر؛ لأن الجنابة بمجردها لا تبطل الصوم، فلعلهم بنوا جواز الوطء على أن الولادة جنابة، والفطر على أنه مظنة للنفاس احتياطاً للعبادة بالنسبة للفطر تخفيفاً على الزوج للشك في المحرم". (¬4) الإنصاف (1/ 241)، المبدع (1/ 1/ 186). (¬5) البناية (1/ 696)، شرح فتح القدير (1/ 186).

دليل من قال: يجب عليها الغسل.

للمالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يستحب لها الغسل. اختاره اللخمي من المالكية (¬4). دليل من قال: يجب عليها الغسل. التعليل الأول: قالوا: إن الولادة بلا دم مظنة خروج الدم الموجب، فتعلق الحكم بها، كما جعل النوم ناقضاً للوضوء لأنه مظنة خروج الحدث، وكالتقاء الختانين. التعليل الثاني: إذا وجب الغسل بخروج المني، الذي هو أصل الولد، فوجوبه بنفس الولد أولى (¬5). التعليل الثالث: يجب الغسل بناء على إعطاء الصورة النادرة حكم غالبها (¬6) ¬

_ (¬1) الخرشي (1/ 165)، حاشية الدسوقي (1/ 130). (¬2) مغني المحتاج (1/ 69)، نهاية المحتاج (1/ 211). (¬3) الإقناع (1/ 45)، الإنصاف (1/ 241)، المبدع (1/ 186). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 130). (¬5) الوسيط الغزالي (1/ 337). (¬6) الخرشي (1/ 165).

دليل من قال: لا يجب الغسل.

التعليل الرابع: أن النفاس، هو تنفس الرحم، وقد وجد (¬1) التعليل الخامس: لا تخلو الولادة من رطوبة، ودم قليل، وإن خفي (¬2). التعليل السادس: قال ابن قدامة: ولأن الولادة يستبرأ بها الرحم، أشبهت الحيض، يعني فيجب الغسل (¬3). دليل من قال: لا يجب الغسل. الدليل الأول: أن الوجوب بالشرع، ولم يرد الغسل هنا، ولا هو في معنى المنصوص عليه، فإنه ليس بدم، ولا مني، وإنما ورد الشرع بالإيجاب بهذين الشيئين (¬4). الدليل الثاني: أن الغسل في النفاس إنما هو للدم لا لخروج الولد (¬5)، ولا يحكم بطهارتها ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) شرح فتح القدير بتصرف (1/ 186). (¬3) المغني (1/ 278). (¬4) المرجع السابق. (¬5) الخرشي (1/ 165)

ما زال الدم باقياً، فإذا انقطع وجب الغسل، وهنا لم يوجد دم، فلم يوجد الموجب. قال ابن قدامة: وقولهم: إنه مظنة. قلنا: المظان إنما يعلم جعلها مظنة بنص أو إجماع، ولا نص في هذا ولا إجماع (¬1). الراجح القول الثاني، لأن الأصل في العبادات الحضر، حتى يرد دليل صريح على المشروعية. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 278).

الفصل السابع: في جماع المرأة النفساء إذا طهرت قبل الأربعين

الفصل السابع: في جماع المرأة النفساء إذا طهرت قبل الأربعين إذا طهرت المرأة قبل تمام الأربعين: فقيل: يباح وطؤها. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: يكره وطؤها. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق (1/ 67)، بدائع الصنائع (1/ 41)، البحر الرائق (1/ 230)، المبسوط (3/ 210)، البناية (1/ 695)، مراقي الفلاح (ص: 57)، حاشية رد المحتار (1/ 299)، شرح فتح القدير (1/ 187)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 30). قال ابن الهمام في شرح فتح القدير (1/ 187). (¬2) حاشية الخرشي (1/ 210)، الكافي (ص: 31)، مواهب الجليل (1/ 376)، أسهل المدارك (1/ 92). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 550): "إذا انقطع دم النفاس، واغتسلت جاز وطؤها، كما تجوز الصلاة وغيرها، ولا كراهة في وطئها، هذا مذهبنا، وبه قال الجمهور. قال العبدري: هو قول أكثر الفقهاء". اهـ وقال في روضة الطالبين (1/ 179): "وإذا انقطع دم النفاس، واغتسلت، أو تيممت حيث يجوز، فللزوج وطؤها في الحال بلا كراهة. حتى قال صاحب الشامل والبحر: لو رأت الدم بعد الولادة ساعة وانقطع لزمها الغسل وحل الوطء. فإن خافت عود الدم استحب له التوقف احتياطاً. والله أعلم. اهـ. (¬4) الإنصاف (1/ 384)، المستوعب (1/ 412، 411). (¬5) الإنصاف (1/ 384)، المستوعب (1/ 411)، الإقناع (1/ 72)، الزاد مع الروض (1/ 115)، كشاف القناع (1/ 220) شرح منتهى الإرادات (1/ 122).

دليل الجمهور على إباحة الوطء.

وقيل: يحرم، وهي رواية عن أحمد (¬1). دليل الجمهور على إباحة الوطء. الدليل الأول: حرم الوطء لوجود الأذى، فإذا ارتفع الأذى ارتفع حكمه. الدليل الثاني: إذا أوجبنا عليها الصلاة والصوم جاز الجماع، لأن إيجاب الصلاة دليل على الطهارة، إذ لو كانت نفساء لم تجب عليها الصلاة، فإذا حكم بطهارتها جاز وطؤها. الدليل الثالث: لا يجوز تحريم الجماع إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولا دليل على التحريم، واحتمال عود الدم وحده لا يكفي للتحريم، وإذا عاد الدم رجع تحريم الجماع، كما أن المرأة الطاهرة لا يحرم نكاحها، ولو كانت تنتظر نزول عادتها حتى تنزل. الدليل الرابع: إذا انقطع عنها الأذى، فقد رأت النقاء الخالص، فأشبه ما إذا رأته بعد الأربعين. ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 282).

دليل الحنابلة على كراهة الوطء.

دليل الحنابلة على كراهة الوطء. الدليل الأول: (514) ما رواه الدارمي: قال: أخبرنا سعيد بن عامر، عن هشام، عن جلد، عن معاوية بن قرة، عن امرأة لعائذ بن عمرو نفست، فجاءت بعدما مضت عشرون ليلة، فدخلت في لحافه، فقال: من هذه؟ قالت: أنا فلانة، إني قد طهرت. فركضها برجله، فقال: لا تغريني عن ديني حتى تمضي أربعون ليلة (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬

_ (¬1) سنن الدارمي (956). (¬2) فيه الجلد بن أيوب: قال ابن المبارك: أهل البصرة يضعفون حديث الجلد. التاريخ الكبير (2/ 257)، الضعفاء الصغير (75). وقال عبد الله سمعت أبي وذكر الجلد بن أيوب، فقال: ليس يسوي حديثه شيئاً. قلت له: الجلد ضعيف؟ قال: نعم، ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (2/ 548). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين. (97). وقال ابن حبان: هو صاحب حديث: الحيض ثلاث، أربع، خمس، ست، سبع، كان، تسع، عشرة، فما زاد على العشرة فهو استحاضة، يروى عن معاوية بن قرة، عن أنس، وهذا موضوع عليه، ما أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتى بهذا. المجروحين (1/ 210). قال حماد بن زيد وذُكِر الجلد بن أيوب، فقال: عمدوا إلى شيخ لا يميز بين قرء وحيض، فحملوه على أمر عظيم، فكان في أوله يقول: عن غير أنس، فحملوه إلى أن قاله عن أنس. الجرح والتعديل (2/ 548)، تعجيل المنفعة (145).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (515) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زنجويه، ثنا محمد ابن إبراهيم أبو أمية، ثنا حفص بن عمر بن ميمون، ثنا محمد ابن سعيد الشامي، حدثني عبد الرحمن بن غنم، قال: سمعت معاذ بن جبل يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا حيض فوق عشرة أيام، فما زاد على ذلك فهي مستحاضة فما زاد تتوضأ لكل صلاة إلى أيام أقرائها، ولا نفاس دون أسبوعين، ولا نفاس فوق أربعين فإن رأت النفساء الطهر دون الأربعين صامت وصلت ولا يأتيها زوجها إلا بعد الأربعين [موضوع] (¬1). الدليل الثالث: قالوا: لأن زمان النفاس باق، فلا تأمن من معاوية الدم في حال وطئها، فيكون قد صادف وطؤها نفاساً، فكره له ذلك (¬2). ¬

_ وقال الدارقطني: متروك. اللسان (2/ 133)، تعجيل المنفعة (145). قال ابن عليه: الجلد أعرابي لا يعرف الحديث. اللسان (2/ 133). وكان ابن عليه يرميه بالكذب. المجروحين (1/ 210). وقال أبو حاتم: شيخ أعرابي ضعيف، يكتب حديثه ولا يحتج به. الجرح والتعديل (2/ 548). (¬1) أخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 141) وانظر تخريجه في بحث أكثر النفاس. (¬2) الأنتصار في المسائل الكبار - (1/ 602).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: قالوا: لأن هذا الطهر مشكوك فيه، لأنها إن رأت الدم فقد يكون نفاساً، وقد يكون دم فساد، وإذا كان معرضاً لذلك كره الوطء فيه (¬1). وهذه التعليلات واهية، فلا تكفي لتحريم الوطء. والله أعلم دليل من قال: يحرم الوطء. لا أعلم لهم دليلاً إلا إن كانوا يرون أنه برجوع الدم أثناء الأربعين يكون الجفاف له حكم النفاس، فتكون أيام الدم وأيام النقاء كلها نفاس. ويسمى قول السحب، وإذا كان يمكن أن يكون جفافها لا يدل على طهارتها حرم جماعها فيه. وهذا قول شاذ. ¬

_ (¬1) المرجع السابق بتصرف.

الفصل الثامن: خلاف العلماء في أقل النفاس

الفصل الثامن: خلاف العلماء في أقل النفاس اختلف العلماء في أقل النفاس: فقال بعضهم: لا حد لأقله، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق (1/ 67)، بدائع الصنائع (1/ 41)، البحر الرائق (1/ 230)، المبسوط (3/ 210)، البناية (1/ 695)، مراقي الفلاح (ص: 57)، حاشية رد المحتار (1/ 299)، شرح فنح القدير (1/ 187)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 30). قال ابن الهمام في شرح فتح القدير (1/ 187): "قال شيخ الإسلام في مبسوطه: اتفق أصحابنا على أن أقل النفاس ما يوجد، فإنها إذا رأت الدم ساعة ثم انقطع عنها الدم فإنها تصوم وتصلي، وكان ما رأت نفاساً لا خلاف في هذا بين أصحابنا" اهـ. وفي البناية للعيني (1/ 695): "وأما إطلاق جماعة من أصحابنا أن أقله ساعة، ليس معناه أن الساعة التي هي جزء من اثني عشر جزءاً من النهار، بل المراد اللحظة فيما ذكر الجمهور. هذا هو الصحيح" اهـ وهذا النص ذكره النووي في المجموع (2/ 539). وإنما اختلف علماء الحنفية في تحديد أقل النفاس إذا احتيج إليه في انقضاء العدة، كما لو قال لها: إذا ولدت فأنت طالق. فقالت: انقضت عدتي. فأي مقدار يعتبر لأقل النفاس مع ثلاث حيض. فذهب أبو حنيفة إلى أن أقل النفاس خمسة وعشرون يوماً. وقيل: أقله أحد عشر يوماً، وهو قول أبي يوسف. وقيل: أقله ساعة. وهو قول محمد. انظر المراجع السابقة. (¬2) قال ابن رشد في المقدمات (1/ 129): "وأما النفاس فلا حد لأقله عندنا، وعند أكثر الفقهاء". وانظر الكافي (ص: 31)، حاشية الخرشي (1/ 210)، مواهب الجليل (1/ 376). وقال في الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 174): "وأقله - يعني النفاس - دفعة". وانظر أسهل المدارك (1/ 92)، وفي الاستذكار (3/ 250): "إذا ولدت المرأة

والشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، وابن تيمية (¬4)، وهو الراجح (¬5). وقيل: أقله يوم. وهو رواية عن أحمد (¬6). وقيل: أقله ثلاثة أيام، وهو قول الثوري (¬7)، ورواية عن ¬

_ ولم تر دماً اغتسلت وصلت". (¬1) المجموع (3/ 539)، روضة الطالبين (1/ 174)، مغني المحتاج (1/ 119)، الوسيط في المذهب - الغزالي (1/ 477)، نهاية المحتاج (1/ 356). وقال الماوردي في الحاوي (1/ 436): "فأما أقل النفاس فليس للشافعي في كتبه نص عليه، وإنما روى أبو ثور عنه أنه قال: أقل النفاس ساعة. فاختلف أصحابنا هل الساعة حد لأقله أو لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي العباس وجميع البغدادين أنه محدود الأقل بساعة، وبه قال محمد بن الحسن وأبو ثور. الثاني: وهو قول البصريين: أن لا حد لأقله، وإنما ذكر الساعة تقليلاً وتفريقاً. لا أنه جعله حداً. وأقله مجة". (¬2) كشاف القناع (1/ 219)، الممتع في شرح المقنع - التنوخي (1/ 301)، الكافي - ابن قدامة (1/ 85) المبدع (1/ 294)، شرح العمدة - ابن تيمية (1/ 519). الفروع (1/ 282)، المحرر (1/ 27). (¬3) المحلى (مسألة 268). (¬4) مجموع الفتاوى (19/ 339). (¬5) الجامع للاختيارات (1/ 204). (¬6) الإنصاف (1/ 384). المبدع (1/ 294). (¬7) نسب هذا القول للثوري الماوردي في الحاوي (1/ 436)، والعيني في البناية (1/ 695) والمقنع في شرح كتاب مختصر الخرقي (1/ 289). ونقل ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 250) خلاف ما نقلوه. قال: "ولم يحد الثوري، وأحمد وإسحاق في أقل النفاس حداً".

أدلة الجمهور على أن النفاس لا حد لأقله.

أحمد (¬1). وقيل: أقله أربعة أيام. وهو قول المزني (¬2). أدلة الجمهور على أن النفاس لا حد لأقله. الدليل الأول: دم النفاس دم أذى كالحيض، قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬3). فإذا وجد الأذى وجد حكمه. وإذا ارتفع الأذى ارتفع حكمه. الدليل الثاني: تحديد أقل النفاس لا يصح إلا بتوقيف. ولم يأت دليل على التحديد. وإذا لم يرد دليل تحديده من الشرع فالمرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد قليلاً وكثيراً (¬4). الدليل الثالث: وجود دم النفاس هو الموجب لترك الصلاة، فإذا انقطع الدم عاد الفرض بحاله كما كان قبل وجود دم النفاس. وهذا يشبه الدليل الأول (¬5). ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 384). (¬2) حكاه الغزالي في الوسيط عن المزني (1/ 477)، والنووي في المجموع (2/ 542). (¬3) البقرة، آية: 222. (¬4) بتصرف الاستذكار (3/ 250)، المغني - ابن قدامة (1/ 428). (¬5) الأوسط - ابن المنذر (2/ 253).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (516) روى البخاري في التاريخ الكبير (¬1) قال لنا موسى بن إسماعيل، عن سهم مولى بني سليم، أن مولاته أم يوسف ولدت بمكة فلم تر دماً فلقيت عائشة فقالت أنت امرأة طهرك الله فلما نفرت رأت. [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (517) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن مخلد، ثنا محمد بن إسماعيل الحساني، ثنا وكيع، ثنا إسرائيل، عن عمر بن يعلى الثقفي، عن عرفجة السلمي، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: لا يحل للنفساء إذا رأت الطهر إلا أن تصلي. [ضعيف جداً] (¬3). ¬

_ (¬1) (4/ 194). (¬2) وأخرجه البيهقي (1/ 343) من طريق البخاري. وفيه سهم مولى بني سليم. له ترجمة في الجرح والتعديل، روى عنه اثنان، وسكت عنه فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. (4/ 291)، وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 431). ومولاته أم يوسف لم أقف عليها. (¬3) ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي (2/ 342) وسبب ضعفه فيه عمر بن يعلى الثقفي. قال النسائي ضعيف. انظر كتاب الضعفاء والمتروكين - النسائي (457). وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. قيل: فما حاله؟. قال: اسأل الله السلامة. الجرح

الدليل الخامس

الدليل الخامس: ما يحكى من دعوى الإجماع من أن النفساء إذا رأت الطهر وجب عليها أن تغتسل وتصلي. قال الترمذي في سننه: "أجمع أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإنها تغتسل وتصلي .... " إلخ كلامه رحمه الله (¬1). أدلة القائلين بأن أقل النفاس ثلاثة أيام. لا أعلم للثوري رحمه الله دليلاً على كون النفاس ثلاثة أيام إلا أن يكون ¬

_ والتعديل (6/ 118). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر. المرجع السابق. وكان يشرب الخمر. انظر التاريخ الكبير - البخاري (6/ 170)، الكامل في الضعفاء (5/ 34) وتهذيب الكمال (21/ 417). وقال أحمد وابن معين، والنسائي: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (7/ 413). وقال البخاري: يتكلمون فيه. تهذيب الكمال (21/ 417). وقال ابن حبان: منكر الرواية عن أبيه، وكان جرير يحكي أن زائدة رآه يشرب الخمر. المجروحين (2/ 91). وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 176). وقال الدارقطني: متروك. انظر تهذيب التهذيب (7/ 413)، الضعفاء للعقيلي (3/ 176)، والمجروحين (2/ 91). وفي التقريب: ضعيف. وقال الذهبي: ضعفوه. الكاشف (4082). وفيه عرفجة السلمي. روى عنه جماعة. ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/ 118)، وسكت عنه. وذكره ابن حبان في كتاب الثقات (5/ 273). وقال ابن القطان: مجهول، كما في تهذيب التهذيب (7/ 160). (¬1) سنن الترمذي (1/ 258).

أدلة القائلين بأن أقله يوم.

قاسه على الحيض، فإنه يرى أن الحيض أقله ثلاثة أيام كمذهب الحنفية، ويستدلون بأدلة كثيرة مرفوعة وموقوفة، سقتها في الخلاف في أقل الحيض فارجع إليها إن شئت. وهذا القياس باطل. أولاً: لأننا لا نسلم الحكم في الأصل حتى نسلم الحكم في الفرع. فلا يثبت أن الحيض أقله ثلاثة أيام. وثانياً: وعلى فرض ثبوت أن الحيض أقله ثلاثة أيام، لا يصح القياس، فإن النفاس أكثره عند الجمهور أربعون يوماً، وقيل: أكثر من ذلك كما سيأتي. فإذا اختلف أكثر النفاس عن أكثر الحيض اختلف أقل النفاس عن أقل الحيض. أدلة القائلين بأن أقله يوم. هذا القول مروي عن أحمد كما سبق، ولا أعلم له دليلاً إلا أن يكون قاسه على أقل الحيض؛ لأن الجمهور على أن أقل الحيض يوم - يعني بليلته - وما قيل في الجواب عن القائلين بأن أقل النفاس ثلاثة أيام يقال هنا. فالقياس ضعيف من وجهين بينتهما في القول السابق. أدلة القائلين بأن أقله أربعة أيام. ذكر الغزالي في الوسيط تعليلاً لحكم المزني بأن أقله أربعة أيام، فقال: "لأن أكثره مثل أكثر الحيض أربع مرات" اهـ (¬1). ويقصد رحمه الله أن أكثر النفاس عنده ستون يوماً، وأكثر الحيض عندهم ¬

_ (¬1) الوسيط - الغزالي (1/ 477).

خمسة عشر يوماً، فكان أكثر النفاس حاصل ضرب أكثر الحيض في أربعة، فجعل الأربعة هي أقل النفاس. وهذا القول ضعيف جداً، والاستدلال له أضعف منه. وقد نقل صاحب المهذب عن المزني أنه قال: أكثر النفاس أربعون يوماً، وإذا ثبت هذا عنه لم يصح تخريج قوله على ما ذكرنا. والله أعلم. والقول الراجح أنه لا حد لأقل النفاس. لقوة أدلتهم، وضعف أدلة القائلين بالتحديد. والله أعلم.

الفصل التاسع: في خلاف العلماء في أكثر النفاس

الفصل التاسع: في خلاف العلماء في أكثر النفاس اختلف العلماء في أكثر النفاس إلى أقوال. فقيل: أكثر النفاس أربعون يوماً. وهو مذهب الحنفية (¬1) , والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: أكثره ستون يوماً، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬3)، ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 41)، المبسوط (3/ 210)، تبيين الحقائق (1/ 68)، الأصل (1/ 514، 238 - 517)، البناية (1/ 697)، حاشية ابن عابدين (1/ 300). فإن زاد على الأربعين فإن كانت مبتدأة فما زاد فهو استحاضة. وإن كانت لها عادة، بأن كانت عادتها ثلاثين مثلاً، فإن لم يجاوز الدم أربعين يوماً، فالجميع نفاس. وإن جاوزت الأربعين بأن رأت خمسين مثلاً، فنفاسها عادتها (الثلاثين)، والباقي استحاضة. والله أعلم. (¬2) شرح منتهى الإرادات (1/ 116)، الكافي (1/ 85) الإنصاف (1/ 383)، المبدع (1/ 293)، الفروع (1/ 282)، كشاف القناع (1/ 218)، المغني (1/ 427، 428) ومسائل عبد الله (ص 49)، المحرر (1/ 27)، المقنع (1/ 97)، مطالب أولي النهى (1/ 269). وإن جاوز الدم الأربعين عندهم فهو استحاضة إلا أن يصادف عادة حيضها، ولم يزد عليه، فالمجاوز حيض؛ لأنه في عادتها أشبه، وإن زاد الدم المجاوز للأربعين عن العادة، وتكرر ثلاث مرات، ولم يجاوز أكثر الحيض فهو حيض؛ لأنه دم متكرر صالح للحيض أشبه ما لو لم يكن قبله نفاس. وإن زاد الدم المجاوز للأربعين عن العادة، ولم يتكرر، أو جاوز أكثر الحيض مطلقاً، سواء تكرر أم لم يتكرر، أو لم يصادف عادة الحيض، فهو استحاضة؛ لأنه لا يصلح حيضاً ولا نفاساً. انظر المراجع السابقة. (¬3) انظر المدونة (1/ 53)، مقدمات ابن رشد (1/ 53، 54)، الاستذكار (3/ 240)، التفريع (1/ 206)، الشرح الصغير (1/ 217)، منح الجليل (/ 175)، الشرح الكبير المطبوع

والشافعية (¬1)، وهو رواية عن أحمد (¬2). وقيل: أكثره سبعون يوماً (¬3). وقيل: أكثره خمسون يوماً، وهو قول الحسن البصري (¬4). وقيل: تسأل النساء وأهل المعرفة، فتجلس أبعد ذلك. قيل إن مالكاً رجع إليه (¬5). وقيل: أكثره في الغلام خمسة وثلاثون، وفي الجارية أربعون. وهو قول ¬

_ بهامش حاشية الدسوقي (1/ 174)، قال الخرشي (1/ 210): "وأما أكثر زمنه - يعني النفاس - إذا تمادى متصلًا أو منقطعاً ستون يوماً على المشهور، ثم هي مستحاضة". (¬1) روضة الطالبين (1/ 174)، المهذب (1/ 52)، مغني المحتاج (1/ 119)، نهاية المحتاج (1/ 357)، مختصر المزني (ص: 11)، الحاوى الكبير (1/ 534)، حاشية قليوبي وعميرة (1/ 109)، الوجيز (1/ 31)، وقال في المجموع (2/ 539): "مذهبنا الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي رحمه الله، وقطع به الأصحاب أن أكثر النفاس ستون". (¬2) الإنصاف (1/ 383)، المبدع (1/ 1/ 293)، الفروع (1/ 282). (¬3) قال في المجموع (2/ 541): "وقال القاضي أبو الطيب: قال الطحاوي: قال الليث: قال بعض الناس إنه سبعون يوماً. (¬4) رواه عبد الرزاق (1201)، عن الثوري، عن يونس، عن الحسن قال: أربعين أو خمسين - يعني أنها تجلس - أربعين إلى خمسين، فإن زاد فهي مستحاضة. وإسناده صحيح. وأخرجه الدارمي (949)، من طريق هشيم، ثنا يونس به. ورواه البيهقي (1/ 342) من طريق أشعث عن الحسن. وذكره مذهباً للحسن كل من الترمذي (139)، الأوسط - ابن المنذر (2/ 250)، المجموع (2/ 541). (¬5) المدونة (1/ 53)، وقال ابن رشد في بداية المجتهد (2/ 43): "وأما أكثره - يعني النفاس - فقال مالك مرة: هو ستون يوماً ثم رجع عن ذلك فقال: يسأل عن ذلك النساء، وأصحابه ثابتون على القول الأول".

أدلة من قال: أكثر النفاس أربعون.

الأوزاعي (¬1). أدلة من قال: أكثر النفاس أربعون. الدليل الأول: (518) ما رواه أحمد (¬2) , ثنا أبو النضر، قال: ثنا أبو خثيمة - يعني زهير بن معاوية - عن علي بن عبد الأعلى، عن أبي سهل من أهل البصرة، عن مسة، عن أم سلمة، قالت: كانت النفساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً، أو أربعين ليلة - شك أبو خثيمة - وكنا نطلي على وجوهنا الورس من الكلف. [إسناد ضعيف، وهو صالح في الشواهد] (¬3). ¬

_ (¬1) انظر المجموع (2/ 539)، والأوسط (2/ 251). (¬2) المسند (6/ 300). (¬3) أعل الحديث بعلل بعضها لا يصح. منها. أولاً: جاء في رواية لأبي داود (312)، قال: حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا محمد بن حاتم - يعني حبي - حدثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس بن نافع، عن كثير بن زياد، قال: حدثتني الأزدية - يعني مسة - قالت: حججت فدخلت على أم سلمة، فقلت: يا أم المؤمنين إن سمرة بن جندب يأمر النساء يقضين صلاة المحيض، فقالت: لا يقضين كانت المرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء صلاة النفاس. قال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 329): "فخبر هذا ضعيف الإسناد، منكر المتن، فإن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما منهن من كانت نفساء أيام كونها معه إلا خديجة، وزوجيتها كانت قبل الهجرة؛ فإذاً لا معنى لقولها: "كانت المرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - تقعد في النفاس أربعين يوماً". والجواب على هذا أن يقال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الحديث مداره على أبي سهل، ويرويه عنه اثنان: علي بن عبد الأعلى، وهو مشهور عنه هذا الحديث، رواه عنه خلق، وليس فيه إشارة إلى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: كانت النفساء على عهد رسول الله تقعد أربعين يوماً. وليس فيه إشارة إلى فتوى سمرة بن جندب. وخالفه يونس بن نافع فرواه عن أبي سهل بلفظ أبي داود الذي سقناه آنفاً، وفيه: كانت المرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء صلاة النفاس. وبالمقارنة بين ترجمة يونس بن نافع، وبين علي بن عبد الأعلى، نجد عبد الأعلى أحفظ منه، وإليك تراجمهما ليتبين الراجح منهما. فأما علي بن عبد الأعلى. فقال فيه أحمد، والنسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (21/ 44). وقال البخاري: ثقة. سنن الترمذي (139). ووثقه الترمذي. انظر سنن الترمذي (2633)، تهذيب التهذيب (7/ 313). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 214). وفي الكاشف (3940): صدوق. وقال أبو حاتم: ليس بقوي. انظر الجرح والتعديل (6/ 195). وقال الدارقطني في العلل: ليس بالقوي. انظر تهذيب التهذيب (7/ 313). وأبو حاتم معروف بتشدده، وأما ما نقل عن الدارقطني فهذا الجرح المبهم لا يعارض التوثيق الصريح عن البخاري وأحمد والنسائي والترمذي والذهبي. وأما ترجمة يونس بن نافع. فقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/ 247) وسكت عنه. وذكره ابن حبان في كتاب الثقات (7/ 650)، وقال: يخطي. فأين هذا من علي بن عبد الأعلى الذي وثقه أئمة الجرح والتعديل كالبخاري، وأحمد والنسائي، والترمذي. فالذي يظهر لي شذوذ رواية يونس بن نافع، وأن العلة هذه غير مؤثرة. والله أعلم. العلة الثانية: قال ابن حبان في المجروحين (2/ 224) عن أبي سهل: "يروي عن الحسن وأهل العراق الأشياء المقلوبة، استحب مجانبة ما انفرد به من الرويات". قلت: ذكره ابن حبان في الثقات (7/ 353). وقال: كان ممن يخطئ. وقد وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم الرازي: ثقة من أكابر أصحاب الحسن، لا بأس به

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ بصري. الجرح والتعديل (7/ 151) - صلى الله عليه وسلم - وقال البخاري ثقة: انظر سنن الترمذي (139)، ووثقه النسائي. انظر تهذيب التهذيب (8/ 370). وبهذا نتبين أن ابن حبان لم يصب عند ما ضعف الحديث بأبي سهيل. العلة الثالثة: جهالة مسة. قال ابن حزم في المحلى (2/ 204) "ذكروا روايات عن أم سلمة من طريق مسة الأزدية، وهي مجهولة". وقال ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (3/ 329): "وعلة الخبر المذكور مسة المذكورة، وهي تكنى أم بسة، ولا تعرف حالها ولا عينها، ولا تعرف في غير هذا الحديث. قاله الترمذي في علله". وقال ابن حجر في التلخيص (1/ 303) ح 239 "مسة مجهولة الحال قال الدارقطني لا تقوم بها حجة" اهـ كلام الحافظ. وقول الدارقطني لم أجده في السنن، وقد نقله عنه ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 620). وذكرها الذهبي في الميزان من المجهولات (4/ 610). وقال ابن حجر في التقريب: مقبولة. يعني حيث توبعت، وإلا ففيها لين. وحاول بعضهم أن يدفع الجهالة عن مسة، فقال ابن الملقن كما في عون المعبود (1/ 501) "لا نسلم جهالة عينها، وجهالة حالها مرتفعة؛ فإنه روى عنها جماعة كثير بن زياد، والحكم بن عتيبة، وزيد بن علي بن الحسين، ورواه محمد بن عبيد الله العرزمي، عن الحسن، عن مسة أيضاً. فهؤلاء رووا عنها، وقد أثنى على حديثها البخاري، وصحح الحاكم إسناده، فأقل أحواله أن يكون حسناً". قلت: رواية الحكم بن عتيبة عن مسة وقفت عليها في سنن الدارقطني (1/ 223)، فإن لم يكن طريق غيرها فلا تثبت؛ لأنها من طريق عبد الرحمن بن محمد العرزمي، عن أبيه، عن الحكم جاء في اللسان في ترجمة محمد (5/ 255) محمد بن عبد الرحمن بن محمد العرزمي قال الدارقطني متروك الحديث هو وأبوه وجده. وكذلك رواية الحسن فقد صرح ابن المقن أنها من طريق محمد بن عبيد الله العرزمي. وهو متروك.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (519) ما رواه الدارمي، قال: أخبرنا أبو نعيم، ثنا أبو عوانة، عن أبي ¬

_ ويبقى زيد بن علي بن الحسين لم أقف على إسناده في روايته عن مسة لينظر فيه. وبالتالي لم يبق إلا أبو سهل كثير بن زياد، وهذا روايته ثابتة عن مسة. وقال النووي في المجموع (2/ 479): "حديث حسن". وقال الخطابي في معالم السنن (1/ 169): "وحديث مسة أثنى عليه محمد بن إسماعيل" وقال ابن الملقن: مثله. انظر تحفة المحتاج (1/ 242). قلت: الذي وقفت عليه من كلام البخاري في سنن الترمذي وعلله لم يتعرض لمسة. قال الترمذي: قال محمد بن إسماعيل: علي بن عبد الأعلى ثقة، وأبو سهل ثقة، ولم يعرف محمد هذا الحديث إلا من حديث أبي سهل". وقال في العلل الكبير (1/ 193 - 194): "وسألت محمداً عنه، فقال: "علي بن عبد الأعلى ثقة، روى له شعبة. وأبو سهيل كثير بن زياد ثقة. ولا أعرف لمسة غير هذا الحديث. وصححه الحاكم في المستدرك (1/ 175)، وأقره الذهبي!!! [تخريج الحديث]. الحديث مداره على أبي سهل، عن مسة عن أم سلمة. ويرويه عن أبي مهل راويان. الأول: علي بن عبد الأعلى. ويرويه عنه اثنان. زهير بن معاوية، وشجاع بن الوليد. أما رواية زهير فأخرجها أحمد (6/ 300، 309، 304 - 310)، وأبو داود (311)، ومن طريقه البغوي في شرح السنة (2/ 136)، والدارمي (955) والدارقطني (1/ 222)، والطبراني في الكبير (23/ 371، 370)، والبيهقي في السنن في الكبرى (1/ 341)، من طرق كثيرة عن زهير بن معاوية، عن علي بن عبد الأعلى، عن أبي سهل، عن مسة، عن أم سلمة به. وأما رواية شجاع بن الوليد، عن علي بن عبد الأعلى. فأخرجها أحمد (6/ 303، 302)، والترمذي في السنن (139)، وابن ماجه (648)، وأبو يعلى في مسنده (7023)، والدارقطني (1/ 222، 221) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 341) من طرق عن شجاع بن الوليد، عن علي بن عبد الأعلى، عن أبي سهل به.

الدليل الثالث

بشر، عن يوسف بن ماهك، عن ابن عباس قال: النفساء تنتظر نحواً من أربعين يوماً. [إسناده صحيح والموقوف شاهد للمرفوع، ولو لم يوجد إلا هذا الأثر لكفى] (¬1). الدليل الثالث: (520) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن يونس، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص، أنه كان لا يقرب نساءه إذا تنفست إحداهن أربعين ليلة. [رجاله ثقات، إلا أن الحسن لم يسمع من عثمان بن أبي العاص، وروي مرفوعاً، ولا يصح، ومع ذلك يبقى صالحاً للاعتبار] (¬2). ¬

_ (¬1) والأثر أخرجه ابن الجارود في المنتقى (119) حدثنا زياد بن أيوب، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر به، قال ابن عباس: تمسك النفساء عن الصلاة أربعين يوماً. وأخرجه البيهقي (1/ 341)، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا هارون بن سليمان، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثني أبو عوانة عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن ابن عباس، قال: النفساء تنتظر أربعين يوماً أو نحوه. وبإسناده قال ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن بشر بن منصور عن ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس: تنتظر يعني النفساء سبعاً فإن طهرت وإلا فأربعة عشر فإن طهرت وإلا فواحدة وعشرين فإن طهرت وإلا فأربعين ثم تصلي. (¬2) المصنف (1201). وقد اختلف في رفعه ووقفه. فرواه الحاكم في المستدرك (1/ 176)، من طريق أبي بلال الأشعري، ثنا أبو شهاب، عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "وقت للنفساء في نفاسهن أربعين يوماً". ضعفه الدارقطني كما في السنن (1/ 220).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وجاء في اللسان: قال ابن القطان: لا يعرف البتة. وتعقبه الحافظ فقال: هو مشهور بكنيته. أبو بلال من أهل الكوفة. قال ابن حبان في الثقات: يغرب ويتفرد. ولينه الحاكم أيضاً. وقول ابن القطان: لا يعرف البتة وهم في ذلك؛ فإنه معروف. وممن رواه مرفوعاً أيضاً أبو بكر الهذلي، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص. واختلف على أبي بكر، فرواه عنه عمر بن هارون البلخي مرفوعاً كما في سنن الدارقطني (1/ 220)، ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (3/ 413). وعمر بن هارون متروك. كما رواه مرفوعاً القاسم بن الحكم الهمذاني، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص مرفوعاً. وأبو بكر الهذلي متروك أيضاً، وقد خالفهما وكيع، فرواه عن أبي بكر الهذلي عن الحسن عن عثمان موقوفاً. وهو المعروف. قال الحافظ في التلخيص (1/ 303): "الحسن عن عثمان بن أبي العاص منقطع، والمشهور عن عثمان موقوف فقد رواه جماعة عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص موقوفاً. وإليك بيانهم. الأول: يونس بن عبيد كما في مصنف عبد الرزاق، وقد ذكرت روايته في المتن، والدارمي (950). الثاني: أشعث بن سوار الكندي. رواه الطبراني في المعجم الكبير (8384)، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حبان بن علي، عن أشعث، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص قال: وقت للنفساء أربعون يوماً. وأشعث: ضعيف. جاء في الجرح والتعديل (2/ 27): "كان يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن ابن مهدي لا يحدثان عن أشعث. وقال أبو زرعة: لين. اهـ. وضعفه النسائي. الضعفاء والمتروكين له (58). والكامل في الضعفاء (1/ 371). وضعفه يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل. ضعفاء العقيلي (1/ 31). وقال العجلي: كوفي ضعيف، يكتب حديثه. معرفة الثقات (1/ 233). وقال مرة: لا بأس به، وليس بالقوي. تهذيب التهذيب (1/ 308). وذكره ابن حبان في المجروحين، وقال: فاحش الخطأ، كثير الوهم. المجروحين (1/ 171). وضعفه الدارقطني، وأبو داود تهذيب التهذيب (1/ 308).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في حديثه. الطبقات (6/ 358). ومع ضعفه إلا أنه يعتبر به. الثالث ممن رواه موقوفاً: هشام بن حسان. رواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 249) من طريق زائدة، عنه. الرابع: إسماعيل بن مسلم. أخرجه الدارمي (951)، قال: أخبرنا جعفر بن عون، أنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص، قال: وقت النفساء أربعين يوما فإن طهرت وإلا فلا تجاوزه حتى تصلي. وإسماعيل بن مسلم، متفق على تضعيفه. وقال عمرو بن علي كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن إسماعيل المكي. تهذيب التهذيب (1/ 289). وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن علي بن المديني: سمعت يحيى يعني القطان وسئل عن إسماعيل بن مسلم المكي قيل له كيف كان في أول أمره قال لم يزل مخلطا قال: يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب. الضعفاء الكبير (1/ 91)، تهذيب التهذيب (1/ 289). وعن إسحاق بن أبي إسرائيل سمعت سفيان يقول، وذكر إسماعيل بن مسلم فقال: كان يخطيء في الحديث، جعل يحدث فيخطيء أسأله عن الحديث من حديث عمرو بن دينار فلا يدري إن كان علمه أيضا لما سمع منه الحديث كما رأيته فما كان يدري شيئا. تهذيب الكمال (3/ 198). وقال أبو طالب قال أحمد بن حنبل إسماعيل بن مسلم المكي منكر الحديث. المرجع السابق. وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين إسماعيل بن مسلم المكي ليس بشيء. وقال محمد بن أحمد بن البراء وأبو العباس القرشي عن علي بن المديني إسماعيل بن مسلم المكي لا يكتب حديثه. وقال عمرو بن علي إسماعيل المكي يحدث عنه أهل الكوفة الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وجماعة وكان ضعيفا في الحديث يهم فيه وكان صدوقا يكثر الغلط يحدث عنه من لا ينظر في الرجال. وقال البخاري: تركه ابن المبارك. الضعفاء الصغير (ص: 17).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (521) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن مخلد، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا وكيع نا إسرائيل، عن جابر، عن عبد الله بن يسار، عن سعيد بن المسيب، ¬

_ وقال إبراهيم بن يعقوب السعدي: إسماعيل بن مسلم واهي الحديث جداً. وقال أبو زرعة هو بصري سكن مكة ضعيف الحديث. تهذيب التهذيب (1/ 289). الخامس: أبو حرة. أخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 87) ومن طريقه البيهقي (1/ 341)، قال: ثنا أحمد بن الحسين بن عبد الصمد، ثنا يحيى بن حكيم، ثنا أبو داود، عن أبي حرة، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص الثقفي، قال: تنتظر النفساء أربعين يوما ثم تغتسل. فيه أبو حرة. اسمه واصل بن عبد الرحمن. قال البخاري: تكلموا في روايته عن الحسن. الضعفاء للعقيلي (4/ 326). وقال غندر: وقفت أبا حرة على حديث الحسن، قال: لم أسمعها من الحسن، أو قال غندر: فلم أقف على شيء منها أنه سمعه من الحسن. وقال يحيى بن معين: صالح، وحديثه عن الحسن ضعيف. انظر الكامل في الضعفاء - ابن عدي (6/ 86) جامع التحصيل (855). وقال ابن سعد: كان فيه ضعف. الطبقات الكبرى (7/ 275). قلت: وثقه أحمد. وقال شعبة: هو أصدق الناس. الجرح والتعديل (9/ 31). لسان الميزان (7/ 423). وأثبت سماعه من الحسن البخارى في التاريخ الكبير (8/ 17). نعم كان يدلس عن الحسن، ذكره سبط بن العجمي وغيره. أسماء المدلسين (94). وفي التقريب: صدوق عابد، وكان يدلس عن الحسن. فهؤلاء خمسة رواة رووه عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص موقوفاً، وليس له علة مع كثرة هذه المتابعات إلا كون الحسن لم يسمعه من عثمان، فيبقى هذا الموقوف صالحاً للاعتبار.

عن عمر قال: تجلس النفساء أربعين يوما. [إسناده ضعيف، أو ضعيف جداً فيه جابر الجعفي وهو متروك] (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني (1/ 221). دراسة الإسناد: محمد بن مخلد ثقة. قال فيه الخطيب البغدادي: كان أحد أهل الفهم موثوقاً به في العلم متسع الرواية، مشهوراً بالديانة، موصوفاً بالأمانة مذكوراً بالعبادة. وقال: أيضاً: وثقه الدارقطني. انظر تاريخ بغداد (3/ 310). محمد بن إسماعيل، هو الحساني. ذكره ابن حبان في الثقات (9/ 118). وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الدارقطني: ثقة. تهذيب الكمال (24/ 471)، وتهذيب التهذيب (9/ 148). ووثقه الذهبي. الكاشف (4721). وعبد الله بن يسار هو الجهني الكوفي. ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 15). وقال النسائي: ثقة. انظر تهذيب الكمال (6/ 326)، وتهذيب التهذيب (6/ 77). ووثقه الحافظ في التقريب. لكن علة الإسناد جابر الجعفي. وثقه بعضهم، ورماه بالكذب آخرون. ممن وثقه الثوري، وشعبة، وزهير بن معاوية، ووكيع. واتهمه بالكذب يحيى بن معين في رواية. وإسماعيل بن أبي خالد، وأبي حنيفة وآخرون. وقد سبقت ترجمته في حديث رقم: 400 فارجع إليه غير مأمور. [تخريج الأثر] أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 249) من طريق يحيى، عن إسرائيل. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/ 312) أخبرنا معمر، عن جابر به. واختلف فيه على جابر الجعفي. فرواه الدارقطني من طريق محمد بن إسماعيل الحساني, وابن المنذر من طريق يحيى، كلاهما عن وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عبد الله بن يسار, عن ابن المسيب، عن عمر. وتابعهما معمر، فرواه عن جابر به كما في المصنف.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (522) ما رواه البيهقي في الخلافيات، قال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأ أبو محمد بن حيان، ثنا محمد بن نصر، ثنا إسماعيل ابن عمرو، ثنا الحسن بن صالح، عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك، قال: وقت للنفساء أربعين يوماً. [إسناده ضعيف، وهذا أمثل طريق روي به الحديث عن أنس] (¬1). وقد روي الحديث عن أنس من طريق سلام بن سلم، عن حميد، عن أنس. وهو ضعيف جداً (¬2). ¬

_ ورواه البيهقي في الخلافيات (3/ 437) فرواه من طريق سعدان، عن وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن سعيد بن المسيب، عن عمر. فجعل بدلاً من عبد الله بن يسار جعل عامراً الشعبي. والظاهر إن لم يكن هناك خطأ، فالأول أصح. (¬1) الخلافيات - للبيهقي (3/ 434, 433)، وفيه إسماعيل بن عمرو بن نجيح. قال أبو حاتم: ضعيف. الجرح والتعديل (2/ 190)، اللسان (1/ 425). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يغرب. وقال الخطيب: إسماعيل صاحب غرائب ومناكير. وقال ابن عقدة: ضعيف، ذاهب الحديث. اللسان (1/ 425). (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه (649)، قال: حدثنا عبد الله بن سعيد، ثنا المحاربي، عن سلام بن سليم - أو سلم - شك أبو الحسن، وأظنه هو أبو الأحوص، عن حميد، عن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت للنفساء أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك. قال البوصيرى في مصباح الزجاجة: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات". قلت: وهم البوصيري، كما أخطأ الظن راوي سنن ابن ماجه عندما ظن أنه أبو الأحوص الثقة سلام بن سليم. وإنما هو سلام بن سلم الطويل. وقد وقع منسوباً في بعض

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ الكتب. قال الدارقطني في السنن (1/ 220) بعد أن روى الحديث، قال: "لم يروه عن حميد غير سلام هذا، وهو سلام الطويل، وهو ضعيف الحديث". والطويل هذا. قال فيه يحيى بن معين: ضعيف، لا يكتب حديثه. الكامل (3/ 299). وتهذيب الكمال (12/ 279). وقال مرة: ليس بثقة. كما في رواية ابن طهمان (378). وقال أخرى: ليس حديثه بشيء. الجرح والتعديل (4/ 260). وقال النسائي والدارقطني: متروك. الضعفاء والمتروكين للنسائي (237) وأيضاً للدارقطني (265). سنن الدارقطني (2/ 150). وضعفه العجلي، معرفة الثقات (1/ 444). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، تركوه. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (4/ 260). وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات كأنه المتعمد لها. المجروحين (1/ 339). وقال البخاري: تركوه. التاريخ الكبير للبخاري (4/ 133)، الكاشف (2204). وقال أيضاً: يتكلمون فيه. تهذيب الكمال (12/ 277). وقال الجوزجاني: ليس بثقة. وقال أبو نعيم في الحلية: متروك بالاتفاق. وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة. تهذيب التهذيب (4/ 247). وفي التقريب: متروك. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أبو يعلى في المسند (3791) حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا المحاربي به. ومن طريق أبي سعيد الأشج أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 301)، والدارقطني في السنن (1/ 220) والبيهقي في الخلافيات (3/ 429، 428) وابن حزم في المحلى (2/ 206). وقد ضعف الحديث جمع من أهل العلم منهم الدارقطني (1/ 220)، والبيهقي (1/ 343)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 386)، والزيلعي في نصب الراية (1/ 205)، وابن حزم في المحلى (2/ 206) وغيرهم. والله أعلم.

وروي من طريق زيد العمي، عن أبي إياس جلد بن أيوب، عن أنس. وهو أيضاً ضعيف جدا (¬1). وروي من طريق جابر، عن خيثمة، عن أنس. وهو ضعيف جداً (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 343)، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، ثنا محمد بن أيوب، ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان، عن زيد العمي، عن أبي إياس، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وقت للنفساء أربعون ليلة إلا أن ترى الطهر قبل ذلك. ورواه في الخلافيات بسنده، ومتنه (3/ 433). وفيه زيد العمي. قال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. الطبقات الكبرى (7/ 240). وقال ابن معين: ليس بشيء. تاريخ ابن معين رواية ابن طهمان (47). وقال أبو داود: "ليس بذاك". سؤالات الآجري لأبي داود (411). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء للنسائي (226). وذكره العقيلي في الضعفاء (2/ 74). وقال أبو حاتم: عن أنس مرسل. وقال أحمد: صالح. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به، وكان شعبة لا يحمد حفظه. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، واهي الحديث، ضعيف. الجرح والتعديل (3/ 560 - 561). وقال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة لا أصل لها، حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها ... وهو عندي لا يجوز الاحتجاج بخبره، ولا كتابة حديثه إلا للاعتبار". وقال ابن عدي: "هو في جملة الضعفاء، ويكتب حديثه على ضعفه".الكامل (3/ 1055). وقال الدارقطني: صالح. الضعفاء للدارقطني (342) في ترجمة ابنه عبد الرحيم بن زيد العمي. وفي التقريب: ضعيف. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (1198)، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/ 250) أخبرنا

الدليل السادس

الدليل السادس: (523) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا محمد بن منير، قال: ثنا إبراهيم الجشاش، قال: ثنا غسان بن مالك، قال: ثنا عنبسة بن عبد الرحمن القرشي، ثنا العلاء بن كثير الدمشقي، عن مكحول، عن أبي الدرداء وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تنتظر النفساء أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإن بلغت أربعين يوما ولم تر الطهر فلتغتسل وهي بمنزلة المستحاضة. [وسنده ضعيف جداً] (¬1). الدليل السابع: (524) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا عمر بن سنان، ثنا موسى ابن سليمان، ثنا بقية عن إسماعيل بن عياش، عن عطاء، عن ابن أبي مليكة، ¬

_ معمر، عن جابر، عن خيثمة، عن أنس بن مالك، قال: تنتظر البكر إذا ولدت وتطاول بها الدم أربعين ليلة، ثم تغتسل. وجابر هو ابن الجعفي متروك، سبقت ترجمته قريباً. (¬1) الكامل في الضعفاء (5/ 219). وأخرجه البيهقي في الخلافيات (3/ 417) من طريق سليمان بن الحكم، عن العلاء بن كثير به. وفيه العلاء بن كثير. قال ابن عدي: "وللعلاء بن كثير، عن مكحول، عن الصحابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نسخ كلها غير محفوظة، وهو منكر الحديث. الكامل (5/ 219). وفي التقريب: متروك. رماه ابن حبان في الوضع. وسبقت ترجمته في حديث رقم: 136.

عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن النفساء فوقت لها أربعين يوما. [ضعيف جداً] (¬1). ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في الكامل (5/ 365). ورواه الدارقطني في السنن (1/ 222 - 223) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (3/ 426) عن سعد بن الصلت، عن عطاء بن عجلان به. ورواه البيهقي (3/ 427) من طريق نوح بن أبي مريم، عن ابن عجلان به. وأخرجه الدارقطني (1/ 220) من طريق أبي بلال الأشعري، ثنا حبان، عن عطاء به. وفي هذه الأسانيد عطاء بن عجلان. قال عمرو بن علي: كان كذاباً. وقال يحيى بن معين: كوفي ليس حديثه بشيء، كذاب. الجرح والتعديل (6/ 335). والضعفاء للعقيلي (3/ 402). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً مثل أبان بن أبي عياش وذا الضرب، وهو متروك. الجرح والتعديل (6/ 335). وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الصغير (2/ 95) والكبير (6/ 476). قال يحيى بن معين: ليس بثقة. وقال أيضاً: لم يكن بشيء كان يوضع له الأحاديث فيحدث. تاريخ ابن معين (2/ 404). الضعفاء للعقيلي (3/ 402). وقال ابن حبان: سمع الحديث فكان لا يدري ما يقول، يتلقن كما يلقن، ويجيب فيما يسأل، حتى صار يروي الموضوعات عن الثقات. لا يحل كتابة حديثه إلا على سبيل الاعتبار. المجروحين (2/ 129). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين له (480). وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال الجوزجاني: كذاب. وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (6/ 186). وفي التقريب: متروك، بل أطلق عليه ابن معين والفلاس الكذب. وأخرجه البيهقي في الخلافيات (3/ 424) من طريق يحيى بن العلاء، حدثني عبد الحميد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ بن عبد الرحمن، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت للنفساء أربعين يوماً. وهذا الإسناد أيضاً ضعيف جداً. فيه يحيى بن العلاء. قال ابن معين: ليس بثقة. تاريخ ابن معين (2/ 651). وقال البخارى: كان وكيع يتكلم فيه. التاريخ الكبير (8/ 297). قال وكيع: كان يكذب. تهذيب التهذيب (11/ 261). وقال النسائي: متروك الحديث (658). ورماه بالكذب مكي، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوهري: شيخ واه. الضعفاء للعقيلي (4/ 437). وقال عمرو بن علي الفلاس: متروك الحديث جداً، وقال أبو زرعة: في حديثه ضعف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوى. الجرح والتعديل (9/ 179). وقال ابن حبان: كان ممن ينفرد عن الثقات، بالأشياء المقلوبات التي إذا سمعها من الحديث صناعته سبق إلى قلبه أنه كان المتعمد لذلك. لا يجوز الاحتجاج به، وكان وكيع شديد الحمل عليه المجروحين (4/ 115 - 116). وقال أحمد: كذاب يضع الحديث. الضعفاء لابن الجوزى (3/ 200). ورواه البيهقي في الخلافيات أيضاً (3/ 422) من طريق عبد العزيز بن أبان، حدثنا الحسن بن صالح، عن عطاء بن السائب، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عمرة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النفساء إذا تطاول بها الدم، قال: تمسك أربعين يوماً، ثم تغتسل وتتطهر وتتوضأ لكل صلاة. وحال هذا الإسناد كالذي قبله أو أشد. فيه عبد العزيز بن أبان. قال يحيى بن معين: كذاب خبيث يضع الحديث. سؤالات ابن الجنيد (82). وقال أيضاً: ليس بشيء. تاريخ ابن معين (3/ 277). وقال أيضاً: ليس بثقة. قال الدارمي: من أين جاء ضعفه؟ فقال: كان يأخذ أحاديث الناس فيرويها. تاريخ الدارمي (569). وقال النسائي: متروك. الضعفاء للنسائي (413). قال ابن نمير: ما رأيت أحداً أبين أمراً منه، وهو كذاب.

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (525) ما رواه الحاكم، قال: أخبرناه أبو بكر محمد بن عبد الله بن الجنيد، ثنا موسى بن زكريا التستري. وثنا عمرو بن الحصين، ثنا محمد بن عبد الله بن علاثة، عن عبدة بن أبي لبابة، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تنتظر النفساء أربعين ليلة، فإن رأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر، وإن جاوزت الأربعين فهي بمنزلة المستحاضة تغتسل وتصلي، فإن غلبها الدم توضأت لكل صلاة. قال الحاكم: عمرو بن الحصين ومحمد بن علاثة ليسا من شرط الشيخين وإنما ذكرت هذا الحديث شاهداً متعجباً. [الحديث ضعيف جداً] (¬1). ¬

_ وقال يعقوب بن شيبة: هو عند أصحابنا جميعاً متروك، كثير الخطأ، كثير الغلط، وقد ذكروه بأكثر من هذا. تاريخ بغداد (10/ 442 - 447). وفي التقريب: متروك، وكذبه ابن معين وغيره. (¬1) في الإسناد عمرو بن الحصين العقيلي. قال فيه أبو حاتم: "هو ذاهب الحديث، ليس بشيء، أخرج أول شيء أحاديث مشبهة حساناً، ثم أخرج بعد لابن علاثة أحاديث موضوعة فأفسد علينا ما كتبناه عنه، فتركنا حديثه. وقال أبو رزعة: ليس هو في موضع يحدث عنه، هو واهي الحديث. الجرح والتعديل (6/ 229). وقال الدارقطني: متروك. الضعفاء له (390). وقال الخطيب: كذاب. تاريخ بغداد (5/ 390). وفيه أيضاً: محمد بن عبد الله بن علاثة. اختلف فيه. فقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. الطبقات الكبرى (7/ 483).

الدليل التاسع

الدليل التاسع: (526) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زنجويه، ثنا محمد بن إبراهيم أبو أمية، ثنا حفص بن عمر بن ميمون، ثنا محمد ابن سعيد الشامي، حدثني عبد الرحمن بن غنم، قال: سمعت معاذ بن جبل يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا حيض فوق عشرة أيام، فما زاد على ذلك فهي مستحاضة فما زاد ¬

_ وقال ابن معين: ثقة. تاريخ ابن معين (2/ 524). وقال ابن عدي: هو حسن الحديث، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (6/ 223). وقال أبو زرعة: صالح. الجرح والتعديل (7/ 302). وفيه عن أبي حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال البخاري: في حفظه نظر. التاريخ الكبير (2/ 132). وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات، ويأتي بالمعضلات عن الأثبات، لا يحل ذكره في الكتب إلا على جهة القدح فيه، ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب. المجروحين (2/ 274 - 280). وقال الدارقطني: عمرو بن حصين، وابن علاثة ضعيفان، متروكان. السنن (1/ 221). وقال الأزدي: حديثه يدل على كذبه، وكان أحد العضل في التزيد عن الأوزاعي. وتعقبه الخطيب، فقال: قد أفرط أبو الفتح الأزدي في الميل عن ابن علاثة، وأحسبه وقعت إليه روايات من جهة عمرو بن الحصين، فإنه كان كذاباً، وأما ابن علاثة فقد وصفه يحيى ابن معين بالثقة، ولم أحفظ لأحد من الأئمة فيه خلاف ما وصفه يحيى. تاريخ بغداد (5/ 388 - 391). وكلام الخطيب مقبول إلا قوله: لم أحفظ عن أحد من الأئمة ..... الخ فإنه قد علم أن الدارقطني، والبخاري، وغيرهما قد تكلموا فيه. والله أعلم. وفي التقريب: صدوق يخطئ. والحديث أخرجه البيهقي في الخلافيات (3/ 416) من طريق الحاكم به. وأخرجه الدارقطني في السنن (1/ 221) ومن طريقه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 386).

تتوضأ لكل صلاة إلى أيام إقرائها، ولا نفاس دون أسبوعين، ولا نفاس فوق أربعين فإن رأت النفساء الطهر دون الأربعين صامت وصلت ولا يأتيها زوجها إلا بعد الأربعين. [موضوع] (¬1). هذه الأحاديث التي وقفت عليها، وفيها التحديد، والصالح للاستدلال منها حديث أم سلمة، وأثر ابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، فأثر ابن عباس صحيح الإسناد، ووحده كاف في الاحتجاج، لأن قول الصحابي أراه حجة فيما لم يخالف فيه، وأثر أم سلمة قد حسنه بعضهم كالخطابي، وابن الملقن، والنووي، ويبقى حتى على القول بضعفه يتقوى بأثر ابن عباس، وحديث عثمان بن أبي العاص، فيه انقطاع لا يخرجه عن الاعتبار. والله أعلم. ولقد أحسن ابن عبد البر رحمه الله حين قال: "وليس في مسألة أكثر النفاس موضع للاتباع والتقليد إلا من قال: بالأربعين؛ فإنهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا مخالف لهم منهم، وسائر الأقوال جاءت عن غيرهم، ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم؛ لأن إجماع الصحابة حجة على من بعدهم، والنفس تسكن إليهم. فأين المهرب عنهم دون سنة ولا أصل؟ وبالله التوفيق" (¬2). وقال الترمذي في السنن: أجمع أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 141). وفيه محمد بن سعيد المصلوب. قال العقيلي: صلب في الزندقة، متروك الحديث. وقال سفيان: كذاب. الضعفاء للعقيلي (4/ 70). وسبقت ترجمته وافية. (¬2) الاستذكار (3/ 250).

ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي. فإذا رأت الدم بعد الأربعين فإن أكثر أهل العلم قالوا: لا تدع الصلاة بعد الأربعين، وهو قول أكثر الفقهاء، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك والشافعي (¬1) وأحمد وإسحاق. اهـ الدليل الثاني: أن القول بالتحديد لا بد منه، لأنه لا يمكن أن يقال إنه دم نفاس، ولو مكث ما مكث، فلا بد من القول إذا أطبق الدم صارت مستحاضة، فمتى تحكمون له بأنه استحاضة؟ فإن قيل: بعد السبعين أو الثمانين قيل: هذا رجوع إلى القول بالتحديد، وإذا كان لا بد من القول بالتحديد فالأخذ بقول ابن عباس أولى من الأخذ بقول غيره. وإن قلتم: فما الفرق بين دم الحيض حيث رجحت بأنه لا حد لأكثر الحيض، ورجحت هنا بأن النفاس لأكثره حد. فالجواب: أولاً: الحيض عندنا أجل معلوم إذا بلغته المرأة أصبحت مستحاضة، وهو في حالة ما إذا أطبق الدم عليها شهراً كاملاً، أما النفاس فليس عندنا أجل معين ¬

_ (¬1) المشهور عن الشافعي أنه يقول: أكثر النفاس ستين يوماً. ولقد استغرب النووي في المجموع ما نقله الترمذي عن الشافعي. وقال ابن رجب في شرح البخاري (2/ 188): "وحكاه الترمذي عن الشافعي وهو غريب عنه".

أدلة القائلين بأن أكثر النفاس ستون.

من الشرع إذا بلغته النفساء أصبحت مستحاضة. وثانياً: أنه قد صح عن ابن عباس القول بالتحديد، وهو مذهب كثير من الصحابة، ولا يعلم لهم مخالف. ذكر ابن المنذر في الأوسط بأنه مذهب لعمر، وابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأنس بن مالك، وأم سلمة (¬1). ونقلت عن الترمذي قريباً أنه قال: إنه مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. أدلة القائلين بأن أكثر النفاس ستون. قال النووي: الاعتماد في هذا الباب على الوجود في الستين بما ذكره المصنف - يعني صاحب المهذب - حيث قال: والدليل على ما قلناه ما روى عن الأوزاعي أنه قال: عندنا امرأة ترى النفاس شهرين. وعن عطاء والشعبي وعبيد الله بن الحسن العنبري والحجاج بن أرطاة: أن النفاس ستون يوماً" (¬2). وقال المرداوي: "حد الحيض والنفاس مأخوذ من وجود العادة المستمرة فيه. وقد وجد الشافعي الستين في عادة مستمرة، وتحرر هذا قياساً، فيقال: لأنه دم أرخاه الرحم جرت به عادة مستقرة، فجاز أن يكون نفاساً كالأربعين، ولأن أكثر الدم يزيد على عادته في الغالب كالحيض غالبه السبع، وأكثره يزيد على السبع، فلما كان غالب النفاس أربعين، وجب أن يزيد أكثره على الأربعين ولأن ¬

(¬1) الأوسط (2/ 248). (¬2) المجموع (2/ 539 - 541).

الأول

النفاس هو ما كان محتبساً من الحيض في مدة الحمل، فلما كان غالب الحمل تسعة أشهر، وغالب الحيض ست أو سبع، فإن اعتبرنا السبع كان النفاس ثلاثة وستين يوماً، وإن اعتبرنا الست كان النفاس أربعة وخمسين يوماً، وإن اعتبرناهما معاً كان النفاس ستين يوماً، (¬1) وهو أن يجعل حيضها في ستة أشهر سبعاً، وفي ثلاثة أشهر ستاً. فصح أن ما ذهبنا إليه أصح" (¬2). والنقاش من وجهين: الأول: أين الدليل على أنه لا يوجد نفاس أكثر من ستين، ما دمتم تحكمون لكل دم جاوز الستين بأنه ليس دم نفاس، وإنما هو استحاضة. فقد يلزمكم خصمكم بأنه وجد أكثر من الستين، ما دام أن التعويل على الوجود. ويعسر دعوى الاستقراء والأمر يتعلق بالنساء. الثاني: نحن لا نناقش وجود دم أكثر من أربعين، بل قد يوجد أكثر من ستين، وسبعين، وربما أكثر من ذلك. ولكن النقاش هل هذا يعتبر دم نفاس أو استحاضة. فالحيض عندنا لا يمكن أن يستمر شهراً كاملاً، لأن الشهر يتخلله حيض وطهر كما دللنا على ذلك في باب الحيض وكما هو مقرر طبياً. وأما النفاس فإن لم نأخذ بقول ابن عباس، فلا بد أن نحدد أجلاً إذا جاوزه الدم أصبح دم فساد ¬

_ (¬1) حاصل ضرب ستة في تسعة أو ضرب سبعة في تسعة. والستة السبعة غالب الحيض، والتسعة المراد بها تسعة أشهر غالب الحمل. (¬2) الحاوي الكبير (1/ 437).

الثالث

واستحاضة. فيرجع القول إلى التحديد، وقول ابن عباس أحب إلى، خاصة أنه مذهب جملة من الصحابة. وأكثر التابعين. كما حكاه الترمذي. الله أعلم الدليل الثالث: قالوا: كيف نحكم للدم في الساعة الأخيرة قبل تمام الأربعين بأنه نفاس، وبعده بلحظة نحكم له بأنه استحاضة، والدم هو الدم، والرائحة هي الرائحة، فكيف يفرق الشارع بين متماثلين. والجواب على هذا أن يقال: هذا يرد أيضاً على الستين، فكيف يكون قبل تمام الستين بساعة واحدة نفاساً، وبعد تمام الستين دم استحاضة، مع أن الدم هو الدم، والرائحة هي الرائحة. فإن قالوا: هذا أكثر ما قيل في المسألة. فالجواب، قد وجدنا من يقول بأكثر من الستين. قال ابن تيمية: "ولا حد لأقل النفاس، ولا لأكثره، ولو زاد على الأربعين، أو الستين أو السبعين وانقطع، فهو نفاس" (¬1). ولا أعلم أن القول بأكثر ما قيل يكون من أدلة الشرع المتفق عليها أو المختلف فيها، فهذه كتب الأصول تذكر الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، والقياس وغيرها من الأدلة المتفق عليها أو المختلف فيها، ولم نجد من بين أدلتهم: القول بأكثر ما قيل. والله المستعان. ¬

_ (¬1) الاختيارات (ص: 30). وقال في المجموع (2/ 541): "وقال القاضي أبو الطيب: قال الطحاوي: قال الليث: قال بعض الناس إنه سبعون يوماً.

دليل من قال لا حد لأكثر النفاس.

دليل من قال لا حد لأكثر النفاس. الدليل الأول: القول بالتحديد يحتاج إلى دليل، وما ورد فيه لا يصح. قال ابن رشد: "ليس هناك سنة يعمل عليها، كالحال في اختلافهم في أيام الحيض، والطهر" (¬1). والجواب قد بينت في الأدلة السابقة أنه قد صح عن ابن عباس رضي الله عنه، وعن أم سلمة وله حكم الرفع وقد حسنه الخطابي، والنووي وابن الملقن. وعن عثمان بن أبي العاص بسند منقطع، وعن عمر بسند ضعيف. الدليل الثاني: (527) سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحيض نفاساً، بما رواه البخاري، قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة أن زينب بنت أم سلمة حدثته، أن أم سلمة حدثتها، قالت: بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، قال أنفست؟ قلت: نعم فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة (¬2). وإذا كان الحيض نفاساً فقد أمر الله سبحانه وتعالى باعتزال الحيض، وأخبر أنه أذى، فما دام الأذى موجوداً، فحكمه موجود من وجوب اعتزال الصلاة ¬

_ (¬1) بداية المجتهد (2/ 44). (¬2) رواه البخاري (298)، ورواه مسلم (296).

رأي الطب في أكثر النفاس.

والوطء ونحوهما، ولذلك تجد أحكام الحيض والنفاس متشابهة. وهذا من أقوى أدلة القائلين بعدم التحديد. إلا أننا نسألهم، إذا استمر الدم واتصل مع المرأة هل تقولون بأنه دم نفاس. الجواب: لا يمكن أن يقولوا بأنه دم نفاس حتى ولو مكث ما مكث. فإذا لا بد أن يقولوا في يوم من الأيام إن الدم دم فساد، وحينئذ نسألهم. متى تقطعون بأنه دم فساد، فإن قالوا بعد السبعين أو الثمانين. قلنا: هذا هو القول بالتحديد. وإن قالوا: ممكن أن نحكم بأنه دم فساد مع امرأة بعد السبعين، وأخرى بعد الثمانين، متى ما تيقنا أن الدم يعتبر متصلاً، فالجواب أن هذا تناقض واضطراب، إذ كيف تجعلونه مع امرأة إلى السبعين ومع أخرى إلى الثمانين. والله أعلم. رأي الطب في أكثر النفاس. يقول بعض الأطباء: يعرف الفقهاء النفاس تعريفاً يختلف إلى حد ما عن تعريف الأطباء .. فالأطباء يركزون على حالة الرحم وعودته إلى حالته الطبيعية بينما يحرص الفقهاء على ربط النفاس بدم النفاس وإفرازاته .. وكلاهما مرتبط بالآخر إلى حد ما، ولكنهما ليسا شيئاً واحداً. وسبب الخلاف أن الطب ينظر إلى الناحية الصحية والفسيولوجية لجهاز المرأة التناسلي، وللرحم على وجه الخصوص؛ إذ أن ذلك متعلق بصحة المرأة وجهازها التناسلي بصورة خاصة .. وعودة الرحم إلى حالته الطبيعية هي العلامة الهامة والمؤشر الوحيد على عودة النفساء إلى حالتها المعتادة .. وأنها قد تجاوزت تماماً مرحلة الخطر، ومرحلة إصابتها بحمى النفاس أو النزيف الذي

يعقب الولادة أحياناً .. أو سقوط الرحم، أو غيرها من الأمراض التي تعتري النفساء .. بينما اهتمام الفقيه بالدم والافرازات التي تمنع الصلاة والصيام ومس المصحف، والمباشرة، فلا بد إذن من نوع اختلاف بين الطب والفقه في هذه النقطة. ويقول أيضاً: ويتفق قول القائلين بأن أكثر الدم أربعون يوماً مع رأي الأطباء .. ويتفق قول القائلين بأن أكثر النفاس ستون يوماً مع التعريف الطبي للنفاس، وهو عودة الرحم إلى حالته الطبيعية. إذ إن أكثر ذلك في رأي الأطباء هو ثمانية أسابيع أو ستون يوماً. ولكن الاختلاف بينهم في التعريف، فالأطباء حين يتحدثون عن النفاس يريدون به حالة الرحم حتى يعود إلى وضعه الطبيعي، ويسمى PEURPURIM أما الدم والإفرازات التي تصحبه فتسمى LOCHIA أي دم النفاس، ومدته عند الأطباء لا تزيد على ستة أسابيع. اهـ (¬1) فإذا كان دم النفاس لا يزيد عند الأطباء على ستة أسابيع (42)، فهو النفاس الذي يتعلق به حكم شرعي، أما عودة الرحم إلى وضعه الطبيعي فلا يتعلق به حكم أرأيت لو أنها ولدت بدون أن ترى دماً أليس يحكم لها بالطهارة، ولو كانت أرحامها تشكو من آلام ونحوها، فالأمر يتعلق بالدم، وهو لا يزيد عند الأطباء على ستة أسابيع، واليومان الزائدان إنما هو منهم لجبر الكسر، وإلا فهو لا يزيد على أربعين يوماً. والله أعلم. ¬

_ (¬1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 458 - 461).

"وانتهت المقولات الطبية في الندوة الثالثة للفقه الطبي المنعقدة في الكويت إلى الاتفاق مع بعض الآراء الفقهية القائلة بأن النفاس: هو ما ينزل من المرأة بعد الولادة أو الإسقاط ريثما يندمل موقع المشيمة المنفصلة من تجويف الرحم، ويبدأ دماً، ثم سائلاً مصفراً حتى يتوقف، ولا حد لأقله. وأقصاه السوي ستة أسابيع (40 يوماً) فإن زاد عليها اعتبر غير سوى، ويلحق بالاستحاضة، وقد يكون من جراء بقايا المشيمة داخل الرحم، أو نتيجة وهن الرحم عن الانقباض الكافي لحبس الدم أو غير ذلك مما يلتمس له التشخيص والعلاج. والنفاس إذا انتهى قد يفضي إلى حيض، وقد يفضي إلى طهر تمتد فترة تطول أو تقصر" (¬1). ¬

_ (¬1) الحيض والنفاس والحمل بين الفقه والطب (ص: 63 - 64).

الفصل العاشر: إذا وضعت المرأة توأمين فالنفاس من أيهما

الفصل العاشر: إذا وضعت المرأة توأمين فالنفاس من أيهما اختلف العلماء في المرأة تلد توأمين بينهما فاصل، من أين تحسب مدة النفاس على القول بأن النفاس لأكثره حد. فقيل: ابتداء النفاس من الأول. وهذا مذهب أبي حنيفة، واختيار أبي يوسف (¬1)، والمعتمد عند المالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: ابتداء النفاس من الثاني. وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬5) ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 189)، البناية (1/ 701)، تبيين الحقائق (1/ 68)، حاشية ابن عابدين (1/ 302، 301)، البحر الرائق (1/ 231). (¬2) اشترط المالكية اعتبار النفاس من الأول بشرطين: الأول: أن ألا يكون بينهما شهران، فإن كان بينهما شهران، فلا خلاف أنها تستأنف؛ لأن أكثر النفاس عندهم ستون يوماً. الثاني: ألا يأتي بعد الدم الأول طهر تام: - خمسة عشر يوماً عندهم -، فإن تخللهما طهر تام استأنفت للثاني. انظر حاشية العدوي المطبوع من الخرشي (1/ 209)، الشرح الصغير (1/ 217)، (¬3) روضة الطالبين (1/ 176)، المجموع (2/ 543). (¬4) قال في كشاف القناع (1/ 220): "وإن وضعت توأمين فأكثر، فأول النفاس وآخره من ابتداء خروج بعض الأول. وانظر المغني (1/ 431)، شرح العمدة (1/ 518). (¬5) روضة الطالبين (1/ 176)،

دليل من قال: ابتداء النفاس من الأول.

وقول زفر ومحمد من الحنفية (¬1). وقيل: ابتداءه من الأول، ثم تستأنف المدة من الثاني. وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2) , ورواية عن أحمد (¬3). وعلى القول بأن الدم بين التوأمين ليس بنفاس: فقيل: إنه دم حيض، بناء على أن الحامل تحيض. وقيل: يعتبر دم فساد. وهما وجهان في مذهب الشافعية (¬4). دليل من قال: ابتداء النفاس من الأول. قالوا: لأنه دم خرج عقيب الولادة، فكان نفاساً، كالخارج عقيب الولد الواحد (¬5). تعليل آخر: قالوا: إن الولد الثاني تبع للأول، فلم يعتبر في آخر النفاس كأوله (¬6). دليل من قال: ابتداء النفاس من الولد الثاني قالوا: لأن الدم قبل وضع الثاني لو اعتبرناه نفاساً يلزم منه أن تكون المرأة نفساء، وهي ما زالت حاملاً. ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 189) البناية (1/ 701)، تبيين الحقائق (1/ 68)، بدائع الصنائع (1/ 43). (¬2) المجموع (2/ 542). (¬3) المستوعب (1/ 412). (¬4) المجموع (2/ 543)، روضة الطالبين (1/ 176). (¬5) تبيين الحقائق (1/ 68)، المبدع (1/ 296). (¬6) المرجع السابق.

وتعليل آخر: قالوا: إن النفاس يتعلق بوضع ما في البطن، كانقضاء العدة، فإذا كان انقضاء العدة بالولد الثاني بالإجماع، كان النفاس من وضع الولد الثاني، فكما لا يتصور انقضاء عدة الحامل بدون وضع الولد الثاني، لا يتصور وجود النفاس من الحبلى. (¬1) تعليل آخر: قالوا: إن النفاس مأخوذ من تنفس الرحم، ولا يتحقق ذلك على الكمال إلا بوضع الولد الثاني. تعليل آخر: إذا ولدت ولداً واحداً، وخرج بعضه دون البعض، لا يعتبر نفاساً، حتى تضعه، فكذلك إذا خرج ولد، وبقي آخر، فكان الدم الموجود قبل وضع الولد الثاني نفاساً من وجه دون وجه، فلا تسقط الصلاة عنها بالشك (¬2). تعليل آخر: قالوا: إن النفاس بمنزلة الحيض، فكما أن الحامل لا تحيض، فكذلك لا يتصور وجود النفاس من الحامل (¬3). وتعقب هذا: بأن النفاس إن كان دماً يخرج عقب النفس، فقد وجد بولادة الأول، وإن كان دماً يخرج بعد تنفس الرحم، فقد وجد أيضاً، بخلاف انقضاء العدة؛ لأن ذلك يتعلق بفراغ الرحم، ولم يوجد، والنفاس يتعلق بتنفس الرحم أو بخروج النفس، وقد وجد (¬4). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 43). (¬2) المرجع السابق. (¬3) بتصرف المرجع السابق. (¬4) بدائع الصنائع (1/ 43).

دليل من قال: ابتداؤه من الأول وتستأنف المدة من الثاني.

دليل من قال: ابتداؤه من الأول وتستأنف المدة من الثاني. قالوا: قلنا تجلس ما تراه من الأول، ما لم تجاوز أكثر النفاس، فإذا وضعت الثاني استأنفت له مدة أخرى، ودخلت بقية مدة الأولى في مدته إن كانت باقية؛ لأنه ولد فاعتبرت له المدة كالأول، وكالمنفرد؛ ولأن الرحم تنفس به كما تنفس بالأول، فكثر الدم بسبب ذلك، فيجب اعتبار المدة له (¬1). الراجح من هذه الأقوال: سبق أن عرضنا رأي الطب في مدة النفاس، وهل تعتبر من الطلق، أو حين خروج الولد، أو بعد الوضع، وذكرنا أن الأطباء يرون أن دم النفاس يبدأ من وضع الولد، فإن كان المقصود من وضع الولد فراغ الرحم من الولد، فالمعتبر من وضع الولد الثاني، وإن كان المقصود من وضع الولد، ولو كان الرحم مشغولا، فاعتبار المدة من الأول. فإن كان للطب رأي فذاك، وإلا اعتبرنا نفاسها من الأول، لأنها بوضعها الولد أصبحت والداً لغة. ¬

_ (¬1) شرح العمدة - ابن تيمية (1/ 518).

الفصل الحادي عشر: في الأحكام المترتبة على النفاس

الفصل الحادي عشر: في الأحكام المترتبة على النفاس قال ابن قدامة: وحكم النفساء حكم الحائض في جميع ما يحرم عليها، ويسقط عنها، لا نعلم في هذا خلافاً، وكذلك تحريم وطئها، وحل مباشرتها، والاستمتاع بما دون الفرج منها، والخلاف في الكفارة بوطئها (¬1). وقال في المهذب: "ودم النفاس يحرم ما يحرمه الحيض، ويسقط ما يسقطه الحيض؛ لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل، فكان حكمه حكم الحيض (¬2). وقال في المعونة: وجميع ما ذكرناه من الظواهر - يعني من أحكام الحيض - وإن كان النص فيها متناولاً للحيض وحده، فإن النفاس ملحق به بالإجماع؛ لأن أحداً لم يفرق بينهما في هذه الأحكام، أو بالقياس، وهو أنه دم خارج من الفرج، لا يكون إلا مع البلوغ (¬3). وقال ابن رجب: ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض، فيما يحرمه ويسقطه، وقد حكى الإجماع غير واحد من العلماء، منهم ابن جرير وغيره (¬4). وقال صاحب المجموع، وصاحب نيل المآرب يزيد بعضهم على بعض، قالا: والنفاس كحيض، فيما يحرم: كصلاة وصوم ووطء في فرج، وطلاق. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 432). (¬2) المجموع (2/ 535). (¬3) المعونة (1/ 187). (¬4) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 187).

وفيما يجب: كغسل،، وقضاء صوم، وكفارة بوطء فيه. وفيما يسقط: كقضاء الصلاة، وطواف الوداع. وفيما يحل: كاستمتاع بما دون فرج. وفيما يمنع: صحة الصلاة، والصوم، والطواف، والاعتكاف، والغسل (¬1). وقال ابن حزم: "ودم النفاس يمنع ما يمنع منه دم الحيض، هذا لا خلاف فيه من أحد، حاشا الطواف بالبيت، فإن النفساء تطوف به؛ لأن النهي ورد في الحائض، ولم يرد في النفساء، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬2)، ثم استدركنا فرأينا أن النفاس حيض صحيح، وحكمه حكم الحيض في كل شيء لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: أنفست؟ قالت: نعم. فسمى الحيض نفاساً، وكذلك الغسل منه واجب بإجماع" (¬3). فيجب على النفساء الاغتسال إذا طهرت. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم أن على النفاس الاغتسال عند خروجها من النفاس. اهـ (¬4). ومنها سقوط الصلاة عن النفساء. لا تجب الصلاة على النفساء، ولا قضاء عليها، قال ابن حزم: "وأما ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 536)، ونيل المآرب (1/ 112). (¬2) مريم، آية: 64. (¬3) المحلى (مسألة: 261). (¬4) الأوسط (2/ 248).

الحائض والنفساء وإسقاط القضاء عنهما، فإجماع متيقن" (¬1) وقال النووي: حكى البغوي والمتولي وجهاً أنها لو شربت دواء ليسقط الجنين ميتاً، فأسقطته ميتاً وجب عليها قضاء صلوات أيام النفاس؛ لأنها عاصية. والأصح الأشهر أنه لا يجب (¬2). ومنه سقوط الصيام عن النفساء، ووجوب القضاء عليها. ومنها صحة إحرام النفساء. (528) فقد روى مسلم رحمه الله، في صحيحه، فقال: حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن يحيى بن سعيد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديث أسماء بنت عميس حين نفست بذي الحليفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر رضي الله عنه فامرها أن تغتسل، وتهل (¬3). قال ابن رجب: فيه دليل أن حكم النفاس حكم الحيض في الإهلال بالحج. ويرى ابن حزم: وجوب الغسل للإحرام على النفساء. قال رحمه الله: "والنفساء والحائض شيء واحد، فأيتهما أرادت الحج أو ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة: 277). (¬2) المجموع (2/ 537). (¬3) صحيح مسلم (1210).

العمرة ففرض عليها أن تغتسل، ثم تهل" (¬1). وقال أيضاً: "الغسل عند الإحرام نستحبه للرجال والنساء، وليس فرضاً إلا على النفساء" (¬2). والصحيح أنه مستحب منها كغيرها. ومنها صحة دخول النفساء المسجد قال ابن حزم: جائز للحائض والنفساء أن يدخلا المسجد، وكذلك الجنب، لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن لا ينجس. وقد كان أهل الصفة يبيتون في المسجد بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم جماعة كثيرة، ولا شك في أن فيهم من يحتلم، فما نهوا قط عن ذلك (¬3). قلت: حكم النفساء حكم الحائض، وقد فصلت الخلاف في الحائض في باب عبادات الحائض، فارجع إليه إن شئت. ومنه طهارة بدن النفساء قال النووي بعد أن دلل على طهارة الآدمي، قال: "فإذا ثبتت طهارة الآدمي مسلما كان أو كافرا فعرقه ولعابه ودمعه طاهران، سواء كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء وهذا كله بإجماع المسلمين" (¬4). ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة: 184). (¬2) المحلى (مسألة: 824). (¬3) المحلى (مسألة 262). (¬4) شرح النووي لصحيح مسلم (4/ 89) ح 372.

صحة عقد النكاح على النفساء كالحائض قال ابن حزم: جائز للحائض والنفساء أن يتزوجا (¬1). القول في كفارة وطء النفساء، كالحائض قال ابن قدامة: النفساء كالحائض في كفارة الوطء في الحيض؛ لأنها تساويها في سائر أحكامها (¬2). ومنها تحريم طلاق النفساء، قال النووي في المجموع: يحرم على الزوج طلاقها - يعني النفساء (¬3). وقال ابن حزم: "الطلاق في النفساء كالطلاق في الحيض" (¬4). وخالف في ذلك الحنفية. قال ابن عابدين في حاشيته في الفروق بين الحيض والاستحاضة، فذكر منها: "وأنه لا يحصل به الفصل بين طلاق السنة والبدعة" (¬5). والراجح أن الطلاق حال النفاس لا يجوز، لأنه لا فرق بينهما وقد سمى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحيض نفاساً كما مر معنا. ومنها حكم الصفرة والكدرة في النفاس حكمه في الحيض ¬

_ (¬1) المحلى (مسألة: 262). (¬2) المغني، بتصرف يسير (1/ 419). (¬3) المجموع (2/ 536). (¬4) المحلى (مسألة: 1953). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 299).

قال النووي: والصفرة والكدرة في النفاس كهي في الحيض، وفاقا وخلافاً، ثم قال: وقطع الماوردي: بأنها نفاس قطعاً؛ لأن الولادة شاهد للنفاس، بخلاف الحيض. (¬1) وتفترق النفساء عن الحائض في الأحكام الآتية: الأول: الحيض دليل على بلوغ المرأة، والنفاس لا يكون دليلاً عليه؛ لأن المرأة لا تحمل إلا وقد حاضت. الثاني: الاعتداد، وذلك أن انقضاء العدة بالقروء، والنفاس ليس بقرء. فإن كان الطلاق قبل وضع الحمل انقضت العدة بوضعه، لا بالنفاس، وإن كان الطلاق بعد الوضع فإنها تحتاج إلى ثلاث حيض ما خلا النفاس (¬2). الثالث: لا يحتسب النفاس في مدة الإيلاء. وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬3) والمشهور عند الحنابلة (¬4). والإيلاء: أن يحلف الرجل على ترك جماع امرأته مدة تزيد على أربعة أشهر، فإذا حلف وطالبت الزوجة بحقها في الجماع ضرب له مدة أربعة أشهر، فإذا ¬

_ (¬1) الروضة (1/ 179). (¬2) انظر البناية (1/ 634)، حاشية ابن عابدين (1/ 299)، حاشية الدسوقي (1/ 175)، مغني المحتاج (1/ 120)، المجموع (2/ 536)، كشاف القناع (1/ 199)، المبدع (2/ 262). (¬3) المجموع (2/ 536)، مغني المحتاج (1/ 120). (¬4) كشاف القناع (1/ 199)، نيل المآرب (1/ 112)، المغني (1/ 432)، المبدع (8/ 22)، الكافي في فقه الإمام أحمد (3/ 247).

أنتهت خير بين الجماع أو الفراق بطلب الزوجة، فإذا مر بالمرأة نفاس لم يحسب على الزوج من الأربعة أشهر. وعللوا ذلك بأنه ليس بمعتاد، بخلاف الحيض فإنه يحسب من المدة باعتباره معتاداً، ولأن الحيض في الغالب لا يخلو منه شهر، فيؤدي عدم احتسابه إلى إسقاط حكم الإيلاء (¬1). وقيل: يحتسب النفاس في مدة الإيلاء كالحيض، وعللوا ذلك بأن النفاس مثل الحيض في سائر الأحكام فكذلك في هذه المسألة. وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). الرابع: قيل: النفاس يقطع التتابع في صوم الكفارة، بخلاف الحيض فإنه لا يقطعها. وهو مذهب الحنفية (¬4)، ووجه في مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ووجهه: قالوا: إنه فطرٌ أمكن التحرز منه، ولا يتكرر في العام، أشبه الفطر لغير عذر، ولا يصح قياسه على الحيض؛ لأنه أندر منه. وقيل: النفاس كالحيض لا يقطع التتابع. وهو أصح الوجهين عند ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 199)، المبدع (8/ 22). (¬2) المجموع (2/ 536)، روضة الطالبين (8/ 253). (¬3) المبدع (8/ 22)، الكافي (3/ 247) (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 299) (¬5) المجموع (2/ 536)، روضة الطالبين (8/ 302). (¬6) المبدع (8/ 61).

الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2). قال ابن مفلح الصغير: "أجمع أهل العلم، ونص عليه أحمد على أن الصائمة متتابعاً إذا حاضت قبل إتمامه، تقضي إذا طهرت وتبني؛ لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس، والنفاس كالحيض لأن أحكامهما واحدة (¬3). الخامس: أن أقل الحيض محدود عند الجمهور. ولا حد لأقل النفاس عندهم. والراجح أنه لا فرق بين الحيض والنفاس في هذه المسألة، كما بيناها في ثنايا البحث. السادس: في المشهور عند الحنابلة إذا طهرت قبل تمام عادتها جاز لزوجها جماعها من غير كراهة، وأما في النفاس إذا طهرت قبل أربعين يوماً فإنه يكره لزوجها جماعها، وهو من مفردات مذهب أحمد، والجمهور على جوازه بلا كراهة، وهو الراجح، وقد فصلت القول في أدلة هذه المسألة فيما سبق. وذكر ابن عابدين فى حاشيته سبعة فروق بعضها قد ذكرناه، وبعضها مرجوح. فقال: وحكمه - يعني النفاس - إلا في سبعة: البلوغ، والاستبراء والعدة، وأنه لا حد لأقله، وأن أكثره أربعون يوماً، وأنه يقطع التتابع في صوم الكفارة، ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (8/ 302)، المجموع (2/ 536). (¬2) الكافي (3/ 269)، المبدع (8/ 61). (¬3) المبدع (8/ 61).

وأنه لا يحصل به الفصل بين طلاق السنة والبدعة. اهـ ويقصد في الاستبراء ما قاله ابن عابدين: وصورته في الاستبراء إذا اشترى جارية حاملاً، فقبضها، ووضعت عنده ولداً، وبقي ولد آخر في بطنها، فالدم الذي بين الولدين نفاس، ولا يحصل الاستبراء إلا بوضع الولد الثاني. اهـ.

فصل: في سجود التلاوة والشكر للحائض

استدراك (¬1) فصل: في سجود التلاوة والشكر للحائض اختلف الفقهاء هل تشترط الطهارة لسجود التلاوة أم لا؟ فقيل: إن سجود الصلاة يشترط له ما يتشرط للصلاة، من طهارة الحدث والخبث، وستر العورة، واستقبال القبلة. وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3) والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) هناك فصل نسيت أن أذكره في مكانه، فرأيت الحاقه في آخر الكتاب. (¬2) شرح فتح القدير (2/ 60)، البناية (738)، تبيين الحقائق (1/ 208) وقال السرخسي في المبسوط (2/ 5): "وليس على الحائض سجدة قرأت أو سمعت؛ لأن السجدة ركن من الصلاة، والحائض لا تلزمها الصلاة". اهـ وقال في بدائع الصنائع (1/ 186): "فيشترط لوجوبها - يعني سجدة التلاوة - أهلية وجوب الصلاة من الإسلام والعقل والبلوغ والطهارة من الحيض والنفاس"، تحفة الفقهاء - السمرقندي (1/ 236)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (2/ 310). (¬3) الشرح الصغير (1/ 567)، المعونة (1/ 285)، التفريع (1/ 270)، التاج والإكليل لمختصر خليل - المواق (2/ 60)، الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة أبي زيد القيرواني - الأزهري (ص: 221)، الفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني- النفراوي (1/ 250 - 251). وقال ابن جزي في القوانين الفقهية (ص: 62) "يمنع الحيض والنفاس اثني عشر شيئاً منها السبعة التي تمنعها الجنابة: وهي الصلوات كلها، وسجود التلاوة ومس المصحف ودخول المسجد .... الخ كلامه رحمه الله تعالى. وانظر حاشية العدوي (1/ 455). (¬4) المهذب - الشيرازي (2/ 91)، مغني المحتاج (1/ 217)، الحاوي (2/ 201)، المجموع (4/ 63) (¬5) المغني (2/ 358)، الإنصاف (2/ 193)، المبدع (2/ 27)، المستوعب (2/ 262).

دليل الجمهور على اشتراط الطهارة

وقيل: لا تشترط الطهارة لسجود التلاوة وهو مذهب ابن عمر (¬1)، وابن المسيب، والشعبي (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3)، وابن تيمية (¬4)، وابن القيم (¬5) دليل الجمهور على اشتراط الطهارة [الدليل الأول] (*) قالوا: إن السجود صلاة، وقد جاء في الشرع إطلاق السجود على الصلاة، فهذا دليل على أن له حكم الصلاة، فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، في كتاب سجود سجود القرآن، باب (5) سجود المسلمين مع المشركين، وسيأتي نصه قريباً إن شاء الله تعالى. (¬2) قال ابن قدامة في المغني (2/ 358): "يشترط لسجود التلاوة ما يشترط من الطهارتين من الحدث والنجس وستر العورة واستقبال القبلة والنية، لا نعلم خلافاً إلا ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه في الحائض تسمع السجدة تومئ برأسها، وبه قال سعيد ابن المسيب، قال: ويقول: اللهم لك سجدت، وعن الشعبي فيمن سمع السجدة على غير وضوء يسجد حيث كان وجهه" اهـ. (¬3) قال ابن حزم في المحلى (5/ 165) مسألة: قال: وأما سجودها على غير وضوء، وإلى غير القبلة كيف ما يمكن فلأنها ليست صلاة، وقد قال عليه السلام: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" فما كان أقل من ركعتين فليس صلاة إلا أن يأتي نص بأنه صلاة كركعة الخوف والوتر وصلاة الجنازة، ولا نص في أن سجدة التلاوة صلاة" اهـ. (¬4) مجموع الفتاوى (23/ 165). (¬5) تهذيب السنن (1/ 55). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع

سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء - زاد مسلم والجمعة - ففي بيته (¬1). وروى البخاري من حديث حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سجدتين خفيفتين بعد ما يطلع الفجر (¬2). فلو لم يكن السجود صلاة ما أطلق السجود على الصلاة، وإذا كان السجود صلاة فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا سعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري - واللفظ لسعيد - قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا بن عمر، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول وكنت على البصرة (¬3). وأجيب عن ذلك: قال ابن حزم في المحلى: "لا يكون بعض الصلاة صلاة إلا إذا تمت كما أمر بها المصلي، ولو أن أمرأً كبر وركع، ثم قطع عمداً لما قال أحد من أهل الإسلام ¬

(¬1) صحيح البخاري (1172)، ومسلم (729). (¬2) صحيح البخارى (1173)، وهو في مسلم (723) بغير هذا اللفظ. (¬3) صحيح مسلم (224).

الدليل الثاني

إنه صلى شيئاً، بل يقولون كلهم إنه لم يصل، فلو أتمها ركعة في الوتر، أو ركعتين في الجمعة والصبح والسفر والتطوع لكان قد صلى بلا خلاف، ثم نقول لهم: إن القيام بعض الصلاة، والتكبير بعض الصلاة وقراءة أم القرآن بعض الصلاة فيلزمكم على هذا أن لا تجيزوا لأحد أن يقوم ولا أن يكبر، ولا أن يقرأ أم القرآن، ولا يجلس، ولا يسلم إلا على وضوء، فهذا ما لا يقولونه، فبطل احتجاجهم. وبالله تعالى التوفيق" (¬1). وقال ابن القيم: "قياسه على الصلاة ممتنع لوجهين: أحدهما: أن الفارق بينه وبين الصلاة أظهر وأكثر من الجامع؛ إذ لا قرآءة فيه، ولا ركوع، ولا فرضاً ولا سنة ثابتة بالتسليم، ويجوز أن يكون القارئ خلف الإمام فيه، ولا مصافة فيه، وليس إلحاق محل النزاع بصورة الاتفاق أولى من إلحاقه بصورة الافتراق. الثاني: أن هذا القياس إنما يمتنع لو كان صحيحاً إذا لم يكن المقيس قد فعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تقع الحادثة، فيحتاج المجتهد أن يلحقها بما وقع على عهده - صلى الله عليه وسلم - من الحوادث أو شملها نصه، وأما مع سجوده وسجود أصحابه، وإطلاق الإذن في ذلك من غير تقييد بوضوء، فيمتنع التقييد به (¬2). الدليل الثاني: قال القرطبي: "لا خلاف في أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه ¬

_ (¬1) المحلى (1/ 106). (¬2) تهذيب السنن (1/ 55).

دليل من قال: لا تشترط الطهارة

الصلاة من طهارة حدث ونجس إلا ما ذكره البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يسجد على غير طهارة، وذكره ابن المنذر عن الشعبي" (¬1). ويجاب عن ذلك: أولاً: أن الصواب لا يعرف بالكثرة، ومع ذلك فهو معارض بما قاله ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن بأن القول بعدم اشتراط الطهارة هو قول كثير من السلف حكاه عنهم ابن بطال في شرح البخاري (¬2). دليل من قال: لا تشترط الطهارة الدليل الأول: عدم الدليل الموجب للطهارة. والأصل براءة الذمة حتى يرد دليل عليها. الدليل الثاني: ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (7/ 358). (¬2) تهذيب السنن (1/ 55). (¬3) صحيح البخارى (1071).

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: قال الحافظ ابن حجر: بأنه يبعد في العادة أن يكون جميع من حضر من المسلمين كانوا عند قراءة الآية على وضوء؛ لأنهم لم يتأهبوا لذلك، وإذا كان كذلك فمن بادر منهم إلى السجود خوف الفوت بلا وضوء، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك استدل بذلك على جواز السجود بلا وضوء عند وجود المشقة بالوضوء، ويؤيده أن لفظ المتن: "وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس" فسوى ابن عباس في نسبة السجود بين الجميع، وفيهم من لا يصح منه الوضوء، فيلزم أن يصح السجود ممن كان بوضوء وممن لم يكن بوضوء. والله أعلم (¬1). الدليل الثالث: ما رواه البخاري، قال: حدثنا بشر بن آدم، قال: حدثنا علي ابن مسهر، قال: أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ السجدة، ونحن عنده، فيسجد، ونسجد معه، فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه. ورواه مسلم (¬2). قال ابن القيم: المسلمون الذين سجدوا معه - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالطهارة، ولا سألهم هل كنتم متطهرين أم لا؟ ولو كانت الطهارة شرطاً فيه للزم أحد الأمرين: ¬

_ (¬1) فتح الباري (2/ 705) ح 1071. (¬2) صحيح البخاري (1075)، ومسلم (575).

الدليل الرابع

إما أن يتقدم أمره لهم بالطهارة. وإما أن يسألهم بعد السجود؛ ليبين لهم الاشتراط، ولم ينقل مسلم واحداً منهما "ثم قال بعد:" ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ عليهم القرآن في المجامع كلها، ومن البعيد جداً أن يكون كلهم إذ ذاك على وضوء، وكانوا يسجدون حتى لا يجد بعضهم مكاناً لجبهته، ومعلوم أن مجامع الناس تجمع المتوضئ وغيره. فإن قيل: لعل الوضوء تاخرت مشروعيته عن ذلك، وهذا جواب بعض الموجبين. قيل: الطهارة شرعت للصلاة من حين البعث، ولم يصل قط إلا بطهارة، أتاه جبريل فعلمه الطهارة والصلاة" (¬1). الدليل الرابع: ما رواه الترمذي، قال: حدثنا قتيبة وهناد ومحمود بن غيلان، قالوا: حدثنا وكيع، عن سفيان (ح) وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليها التسليم (¬2). [الحديث حسن، وسبق بحثه] (¬3). ¬

_ (¬1) تهذيب السنن (1/ 54). (¬2) سنن الترمذي (3). (¬3) انظر تخريجه في رقم (338).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: قال البخاري رحمه الله في صحيحه: وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسجد على غير وضوء (¬1). قال ابن تيمية: "كان ابن عمر يسجد على غير وضوء، ومن المعلوم أنه لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لأصحابه أن السجود لا يكون إلا على وضوء لكان هذا مما يعلمه عامتهم؛ لأنهم كانوا يسجدون معه، وكان هذا شائعاً في الصحابة، فإذاً لم يعرف عن أحد منهم أنه أوجب الطهارة لسجود التلاوة، وكان ابن عمر من أعلمهم وأفقههم وأتبعهم للسنة، وقد بقي إلى آخر الأمر، ويسجد للتلاوة على غير طهارة، كان هذا مما يبين أنه لم يكن معروفاً بينهم أن الطهارة واجبة لها، ولو كان هذا مما أوجبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان ذلك شائعاً بينهم كشياع وجوب الطهارة للصلاة وصلاة الجنازة. وابن عمر لم يعرف أن غيره من الصحابة أوجب الطهارة فيها، ولكن سجودها على طهارة أفضل باتفاق المسلمين". الخ كلامه رحمه الله (¬2). هذا فيما يتعلق الكلام بسجود التلاوة، والراجح فيه أن الطهارة ليست بشرط كما تبين لنا من خلال الأدلة. أما سجود الشكر: وهو السجود الذي سببه شكر الله سبحانه وتعالى عند ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، في كتاب سجود سجود القرآن، باب (5) سجود المسلمين مع المشركين. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/ 278).

أدلة من قال بوجوب الطهارة

تجدد النعم أو اندفاع النقم، فالخلاف في اشتراط الطهارة له كالخلاف في سجود التلاوة، بل هو أضعف؛ لأن سجود الشكر مختلف في مشروعيته بين الفقهاء كما سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى في بحث صلاة التطوع، بخلاف سجود التلاوة فإنه مشروع بالإجماع. فالمشهور من مذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) أن سجود الشكر يشترط له ما يشترط للصلاة من الطهارة واستقبال القبلة، وستر العورة، واجتناب النجاسة. واختار بعض المالكية بأنه لا تشترط له الطهارة، مع أن المالكية مختلفون في حكمه، فأكثرهم على أن سجود الشكر مكروه. واختار بعضهم أنه جائز (مباح) (¬3). وكونه لا تشترط له الطهارة هو اختيار ابن تيمية (¬4). أدلة من قال بوجوب الطهارة أدلتهم في اشتراط الطهارة لسجود الشكر هو عين أدلتهم في سجود التلاوة من كونه يطلق السجود ويراد به الصلاة؛ ولأنه ركن في الصلاة، وبعض ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 79)، (4/ 58 - 62)، روضة الطالبين (1/ 325، 321)، مغني المحتاج (1/ 214)، نهاية المحتاج (2/ 92). (¬2) كشاف القناع (1/ 445)، شرح منتهى الإرادات (1/ 254، 252)، الكافي (1/ 160، 158). (¬3) الشرح الصغير (1/ 422)، مواهب الجليل (2/ 60)، منح الجليل (1/ 333). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 277).

دليل من لم يشترط الطهارة.

الصلاة صلاة، وقياساً على سجود السهو .. الخ أدلتهم التي ذكرنها هناك. دليل من لم يشترط الطهارة. عللوا ذلك مع كونه لم يرد الأمر بالطهارة له، ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالطهارة له فإن الأخبار السارة قد تأتي بغتة للعبد وهو على غير طهارة فلو تراخى حتى يتطهر لفاتت المناسبة.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله وحده الذي وفقني إلى إتمام هذا البحث، والذي أرجو أن يكون لبنة في بناء، حيث سبقني من كتب عن هذا الباب المهم من أمور الفقه، من العلماء والأساتذة في رسائل قد لا تكون كبيرة، ولكنها مهمة في تغطية هذا الجانب، والذي أرجو أن أكون قد استفدت منهم، وأضفت ما يمكن إضافته، وقد يختلف معي القارئ، وقد يوافقني في ترجيح بعض المسائل؛ إلا أني في ترجيحي أرجو أن أكون طالب حق، وقد رجحت بعض المسائل في بداية بحثي، ثم أعلنت رجوعي عنها بعد المذاكرة مع بعض طلبة العلم دون أن أكتب البحث من جديد، ليتبين للقارئ عجز الإنسان، وقصوره، وأنه في بحث مستمر طلباً للحق، ولا يضير طالب العلم أن يقول: كنت أرجح كذا، وقد تبين لي خطأ ذلك، ويعلن رجوعه عنه، نصحاً للأمة، وبراءة للذمة وتعويداً للنفس في قبولها للحق، وأن يكون الإنسان مع الدليل، كالأعمى مع دليله، قد سلم له زمام نفسه يقوده حيث يشاء، وأن يكون عند بحثه خالي الذهن من اعتقاد سابق، حتى يكون متحرراً من الهوى، ومن تأويل النصوص لتوافق ما استقر عنده. والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد. ومن خلال البحث قد تبين لي ما يلي: أولاً: المرأة لا تحيض إلا في الشهر مرة واحدة، حيث تقرر طبياً أن الحيض يعقب بإذن الله إفراز البويضة فإذا لم تتم عملية إخصاب البويضة أعقب ذلك

نزول الدم من رحم المرأة، والمرأة لا تفرز بويضة إلا في الشهر مرة واحدة وبالتالي لا يمكن أن تحيض إلا في الشهر مرة واحدة. يقول الدكتور دوجالد بيرد في كتابه (المرجع في أمراض النساء والولادة): "إن مدة الحيض ودورته لا تختلف من امرأة إلى أخرى فحسب، وإنما قد يختلف ذلك في المرأة ذاتها من حين لآخر في حياتها التناسلية .. إذ تختلف كمية الدم ومدته عند بداية البلوغ عما هو عليه عند تمام البلوغ، كما يقل دم الحيض ومدته عند سن اليأس .... وما بين البلوغ وسن اليأس تكون العادة في أغلب النساء منتظمة، وهن يعرفن موعد حيضهن ومدته ومقداره ... فإذا اختلف ذلك عرفته بسرعة .. وتستطيع معرفة ذلك أغلب النساء دون صعوبة، ومدة الحيض في الغالب ستة أيام، وتحتسب الدورة من بداية الحيض إلى بداية الحيضة التي تليها، ومدتها في أغلب النساء 28 يوماً، وقد تزيد أو تنقص يوماً أو يومين" (¬1). وجاء في توصيات الندوة الثالثة للفقه الطبي المنعقدة في الكويت: "مدة الدورة الحيضية فيما إذا كانت الدورة سوية في غالب النساء ثمانية وعشرين يوماً، وأدناها ثلاثة أسابيع" (¬2). ولا يمكن أن تحيض المرأة في الشهر أكثر من مرة، لأنها لا يمكن أن تفرز أكثر من بويضة في الشهر الواحد. الثاني: أن الحامل لا يمكن أن تحيض، لأن الحيض هو انهدام جدار الرحم ¬

_ (¬1) نقله الدكتور البار في كتابه (خلق الإنسان بين الطب والقرآن) (ص: 89). (¬2) الحيض والنفاس والحمل بين الفقه والطب - الأشقر (ص: 52).

بعد موت البويضة، وحبس الغذاء عن الغشاء المبطن للرحم، وانهدام جدار الرحم لا يمكن أن يتم مع الحمل. وهذا ما قررته طبياً من كلام أهل الاختصاص. وقد كنت فيما مضى أرجح إمكان حيض الحامل، وقد تراجعت عن ذلك بعد ما تبين لي الحق. والحمد لله على توفيقه. الثالث: لا حد لأكثر الطهر، وهذا لا خلاف فيه بين الأطباء والفقهاء، فقد اتفق الأطباء والفقهاء على أنه لا حد لأكثر الطهر (¬1). الرابع: رجحت أن عادة المرأة ممكن أن تنقص وتزيد، وممكن أن تنتقل، ولا يشترط تكراره، بل إذا رأته المرأة كان حيضاً. الخامس: كما رجحت أن للحائض أن تقرأ القرآن، ولا حرج في ذلك، ولكن لا تمسه إلا وهي على طهارة، أو بحائل، وقد كنت أميل إلى جواز مس الحائض المصحف، ومع المذاكرة مع بعض مشايخي، ذكر لي طريقاً آخر لمرسل عمرو بن حزم، وهو ما رواه عبد الرزاق من طريق ابن المسيب عن عمر، وقد رجعت عن رأيي، وبينت ذلك من خلال البحث. فالحمد لله على توفيقه. السادس: كما رجحت بأن المرأة إذا حاضت أثناء وقت الصلاة لم يجب عليها قضاء تلك الصلاة إلا إذا حاضت ولم يبق من الوقت إلا وقت لا يتسع لتلك الصلاة فيجب عليها القضاء. والله أعلم. السابع: إذا طهرت المرأة من الحيض في شهر رمضان في أثناء اليوم لم يجب عليها الإمساك بقية اليوم. ¬

_ (¬1) الحيض والنفاس والحمل بين الفقه والطب - الأشقر (ص: 54).

الثامن: رجحت أن طلاق الحائض يقع، ولم ينشرح صدري لقول ابن تيمية، مع أني تذاكرت في هذه المسألة مع بعض طلبة العلم، ولم نتفق على شيء. التاسع: لا تجب الكفارة على من جامع امرأته، وهي حائض، ولو قيل بالاستحباب بناء على أنه ثابت هذا من قول ابن عباس فهو قول جيد. العاشر: لا أرى وجوب الوضوء على المرأة المستحاضة؛ لأن الأمر بالوضوء لم يتبين لي أنه مرفوع، والمرأة لا تكلف بشيء ليس من فعلها، ولم تقصده. الحادي عشر: النفاس أكثره أربعون يوماً، فإذا زاد عن الأربعين فإن كان وقت عادة المرأة فهو حيض، وإلا استحاضة، ولا حد لأقله. الثاني عشر: إذا أسقطت المرأة جنينها، وقد تبين فيه خلق إنسان فهي نفساء، ولو لم تنفخ فيه الروح. الثالث عشر: لا يجوز إلقاء النطفة أو العلقة أو المضغة من غير ضرورة، ويجوز إسقاط الجنين ولو نفخت فيه الروح إذا قرر اثنان من الأطباء أنه لا سبيل إلى إنقاذ الأم مع جنينها، ولا بد من التضحية بأحدهما. وهذا من باب ارتكاب أخف الضررين. والله أعلم. الرابع عشر: حكم النفاس حكم الحيض فيما يجب ويمنع، ويسقط. إلا في مسائل معدودة ذكرتها في فصل خاص. هذه من أهم النتائج التي توصلت إليها خلال البحث، وأرجو من إخواني طلبة العلم أن يتواصلوا معي في كتابة ملاحظاتهم واستدراكاتهم، فإن الدين

النصيحة، والإنسان يرجو أن يكون طالب حق متى ما تبين له الحق، ومن شاء مراسلتي فالعنوان كالتالي: دبيان بن محمد الدبيان العنوان: مكتب الدعوة والإرشاد ببريدة تلفون العمل: 063820082

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع الآيات العجاب في رحلة الإنجاب د. حامد أحمد حامد، دار القلم، الأولى 1417 هـ. أبحاث فقهية. محمّد نعيم ياسين. دار النفائس. ط - الأولى: 1416 هـ الإجهاض بين الفقه والطب والقانون. للطبيب سيف الدين السباعي. دار الكتب العربية. ط 1397 هـ. الإجهاض من منظور إسلامي. للدكتور عبد الفتاح محمّد إدريس، مجلة الحكمة، بريطانيا، العدد 9 - 13. أحكام القرآن. للجصاص أحمد بن علي الرازي، دار إحياء التراث، ط - 1405. أحكام النساء. عبد الرحمن بن الجوزي، المكتبة العصرية، ط 1408 هـ. أحكام مباشرة النساء في أثناء فترة الدماء. د. عبد الله بن عبد المحسن الطريقي، بدون، ط الأولى 1418 هـ. أحكام المرأة الحامل في الشريعة الإسلامية. يحيى بن عبد الرحمن الخطيب. دار النفائس. الأولى 1418 هـ إحياء علوم الدين محمّد بن محمّد الغزالي. المكتبة التجارية الكبرى. بدون أخبار ذكر أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني طبع إيران. الإختيار لتعليل المختار. عبد الله بن محمود الحنفي. دار الفكر العربي. بدون الإختيارات العلمية من الإختيارات الفقهية. للبعلي: علي بن محمّد بن عباس. دار العاصمة. الأولى 1418 هـ. الإختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. اختيار علي بن محمّد البعلي. تحقيق الفقي. دار المعرفة. بدون. الأدب المفرد. للإمام محمّد بن إسماعيل البخاري. دار البشائر الإسلامية. ط 1409 هـ

إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن. محمّد بن محمّد العمادي. دار إحياء التراث. بدون الإرشاد في معرفة علماء الحديث. الخليل بن عبد الله بن أحمد. مكتبة الرشد. ط 1 - 1409 هـ إرواء الغليل تخريج منار السبيل. للعلامة محمّد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي. ط 1 - 1399 هـ. أسهل المدارك. أبو بكر بن حسن الكشناوي. دار الكتب العلمية. ط. الأولى. الإستذكار. للإمام ابن عبد البر. دار قتيبة. ط 1 - 1413 هـ. الأصل (المعروف محمّد بن الحسن الشيباني بالمبسوط). عالم الكتب. ط 1 - 1410 هـ. إعلام الموقعين. للعلامة ابن القيم. الإقناع في فقه الإمام أحمد. شرف الدين موسى الحجاوي. دار المعرفة. بدون. الإقناع. محمّد بن إبراهيم بن المنذر. بدون. الأولى 1408 هـ. الإكمال في معرفة الرجال. محمّد بن علي بن الحسن الحسيني. دار اللواء. بدون. الأم. للإمام محمّد بن إدريس الشافعي. دار المعرفة. بدون. الإنتصار في المسائل الكبار. محفوظ بن أحمد الكلوذاني. مكتبى العبيكان. الأولى. 1413 هـ. الأنساب. للإمام عبد الكريم بن محمّد السمعاني. مؤسسة الكتب الثقافية. ط - 1، 1408 هـ. الإنسان هذا الكائن العجيب. د. تاج الدين محمود العاجي. دار عمار. الأولى 1413 هـ. الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. علي بن سليمان المرداوي. دار إحياء التراث. الطبعة الثانية 1400 هـ. أوجز المسالك شرح موطأ مالك. محمّد بن زكريا الكاندهلوي. الطبعة الباكستانية. بدون. الأوسط في الإجماع والإختلاف. محمّد بن إبراهيم بن المنذر. دار طيبة. الأولى 1405 هـ. البحر الرائق. زين الدين ابن نجيم الحنفي. دار الكتاب الاسلامي. ط 2 بدون.

البحر الزخار (مسند البزار). للإمام البزار. ط مؤسسة علوم القرآن. ط 1. تحقيق محفوظ الرحمن. بدائع الصنائع. أبو بكر بن مسعود الكاساني. دار الكتاب العربي. ط 2 - 1402 هـ. بدائع الفوائد. للإمام محمّد بن أبي بكر، المعروف بابن القيم. دار الكتاب العربي. بدون. بداية المجتهد مع الهداية. أبو الوليد محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي. عالم الكتب. الأولى 1407 هـ. البناية شرح الهداية. محمّد بن محمّد العيني. دار الفكر. ط 2 - 1411 هـ. البيان والتحصيل. محمّد بن أحمد بن رشد (الجد). دار الغرب. الأولى 1406 هـ. التاريخ الكبير. للإمام محمّد بن إسماعيل البخاري. دار الفكر. ط 1986 م. التاج الإكليل لمختصر خليل. محمّد بن يوسف العبدري المشهور بالمواق. دار الفكر. مطبوع بهامش مواهب الجليل. تاج العروس من جواهر القاموس. محمّد مرتضي الحسيني الزبيدي. دار الفكر (ومصطفى الباز) ط 1414 هـ. تاريخ ابن معين يحيى بن معين. رواية الدوري إحياء التراث الإسلامي. ط - 1399 هـ. تاريخ يحيى بن معين. رواية الدارمي. دار المأمون للتراث. ط - 1400 هـ تاريخ بغداد. أحمد بن علي الخطيب. دار الكتب العلمية. ط 1374 هـ. التبيين لأسماء المدلسين. إبراهيم بن محمّد بن سبط العجمي. مؤسسة الريان. ط 1414 هـ. تبين الحقائق. للإمام عثمان بن علي الزيلعي. دار الكتاب العربي. ط 2. بدون تاريخ. تحديد النسل. الدكتور محمّد سعيد البوطي. تحفة الأحوذي. محمّد بن عبد الكريم المباركفوري. مكتب المطبوعات الإسلامية .. دار الفكر. ط - 3 سنة 1399 هـ. تحفة المحتاج. عمر بن علي بن الملقن. دار حراء. ط 1 - 1406 هـ.

التحقيق في مسائل الخلاف. عبد الرحمن بن علي بن الجوزي. دار الكتب العلمية. الثانية 1415 هـ. تذكرة الحفاظ. للإمام الذهبي. دار الكتب العلمية. ط 1374 هـ. تعجيل المنفعة. أحمد بن علي بن حجر. دار الكتاب العربي. بدون. التفريع. عبد الله بن الحسين بن الجلاب. دار الغرب الإسلامي. الأولى. 1408 هـ تفسير الطبري. محمّد بن جرير الطبري. دار الكتب العلمية. ط الأولى 1412 هـ. تفسير القرآن العظيم. للحافظ ابن كثير. دار طيبة. ط 1 - 1418 هـ. تقريب التهذيب. للحافظ ابن حجر العسقلاني. دار العاصمة. تحقيق أبي الأشبال. ط 1 - 1416 هـ. تلخيص الحبير. للحافظ ابن حجر. مؤسسة قرطبة. ط 1416 هـ. تلخيص المستدرك. للحافظ الذهبي مطبوع مع المستدرك فانظر المستدرك. التمهيد. لابن عبد البر مع فتح البر لابن عبد البر. مؤسسة قرطبة. ط 1 - 1400 هـ تنظيم الأسرة في الإسلام. محمّد أبو زهرة. دار الفكر العربي. بدون. تنظيم النسل وموقف الشريعة الإسلامية منه. مكتبة الحرمين. ومكتبة الرشد. الثانية 1410 هـ. تنقيح التحقيق. محمّد بن أحمد بن عبد الهادي. المكتبة الحدثة. الأولى. 1409 هـ تنوير المقالة حل ألفاظ الرسالة. محمّد بن إبراهيم التنائي. بدون الأولى. 1409 هـ. تهذيب التهذيب. للحافظ ابن حجر العسقلاني. دار الفكر. ط 1404 هـ تهذيب السنن. محمّد بن أبي بكر (ابن القيم الجوزية). دار المعرفة. بدون. تهذيب الكمال في أسماء الرجال. أبو الحجاج يوسف المزي. مؤسسة الرسالة. ط 1 - 1406 هـ.

الثقات. محمّد بن حبان بن أحمد البستي. دار الفكر. ط 1395 هـ. الجامع لأحكام القرآن. للإمام القرطبي. تحقيق أحمد البردوني. الجامع الكبير. لأبي الفضل جلال الدين السيوطي. الجامع للإختيارات الفقهية. د. أحمد موافي. دار ابن الجوزي. الأولى. 1413. الجرح والتعديل عبد الرحمن بن أبي حاتم. دار إحياء التراث. ط 1371 هـ. الجنين المشوه والأمراض الوراثية. د. محمّد علي البار. دار القلم - دار المنار الأولى 1411 هـ. حاشية البيجوري على متن أبي شجاع. للعلامة ابن القاسم الغزي. دار الكتب العلمية. الأولى 1415 هـ. حاشية الجمل على شرح المنهاج. سليمان الجمل. دار الفكر. بدون. حاشية السندي على النسائي. نور الدين بن عبد الهادي السندي. مكتب المطبوعات الإسلامية. ط - 1406 هـ. حاشية العدوي. علي العدوي. دار صادر. بدون. حاشية ابن قاسم على الروض المربع. للعلامة ابن قاسم النجدي. حاشية قليوبي وعميرة. قليوبي وعميرة. دار الفكر. بدون. حاشية رد المحتار على الدر المختار. محمّد أمين المشهور بابن عابدين. دار الكتاب الاسلامي. ط 2. بدون تاريخ. الحاوي الكبير. علي بن محمّد الماوردي. دار الكتب العلمية. الأولى 1414 هـ. حاشية الروض المربع. عبد الرحمن بن محمّد بن قاسم. بدون. الثالثة 1403 هـ حلية الأولياء. لأبي نُعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. دار الكتاب العربي ط 1405 هـ. حواشي تحفة المحتاج. عبد الحميد الشرواني. وأحمد القاسم. دار صادر. ط 1315 هـ الحيض والنفاس بين الفقه والطب. للدكتور عمر الأشقر. دار النفائس. الأولى. 1413 هـ.

الحيض. لإبراهيم الجمل. الخرشي على مختصر خليل. محمّد بن عبد الله الخرشي. دار صادر. بدون. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. للدكتور محمّد بن علي البار. الدار السعودية. الطبعة العاشرة 1415 هـ. الخلاصة. للإمام النووي. مؤسسة الرسالة. ط 1 - 1418 هـ. الخلافيات. للإمام البيهقي. دار الصميعي. الأولى. 1414 هـ. الدراري المضية. محمّد بن علي الشوكاني. دار المعرفة. ط 1398 هـ. الدر المنثور بالتفسير بالمأثور. للحافظ جلال الدين السيوطي. دار الفكر. ط 1414 هـ الديباج على صحيح مسلم. دار ابن عفان. ط 1 - 1416 هـ. روضة الطالبين. للإمام يحيى بن شرف الدين النووي. المكتب الإسلامي. الثالثة 1412 هـ. الروض المربع شرح زاد المستقنع. منصور بن يونس البهوتي. تحقيق الشيخ خالد المشيقح ومجموعة معه. دار الوطن. الأولى 1416 هـ. روعة الخلق. ترجمة ماجد طيفور. الدار العربية للعلوم الأولى 1412 هـ. رؤوس المسائل محمود بن عمر الزمخشري. دار البشائر. ط 1 - 1407 هـ. زاد المستقنع مطبوع مع الروض المربع. زاد المسير في علم التفسير. لابن الجوزي. المكتب الإسلامي. ط 3 - 1404 هـ زاد المعاد. لابن القيم. المكتبة العلمية (ودار الباز) ط بدون، والنسخة غير محققة. سبل السلام. أحمد بن إسماعيل الصنعاني. الجامعة. ط - 2 - 1400 هـ السنن (المجتبى) والكبرى. للإمام النسائي. دار الكتب العلمية. ط 1411 هـ. السنن. للإمام أبي داود. دار الفكر. بدون. الجامع الصحيح (السنن). لأبي عيسى الترمذي. دار إحياء التراث العربي. ط الحلبي السنن. لابن ماجة القزويني. دار الفكر. بدون.

السنن. للإمام الدارقطني. دار المعرفة. بدون. السنن الكبرى. للإمام أبي بكر البيهقي. دار المعرفة. بدون. سؤالات الآجري. سليمان بن الأشعث أبو داود. الجامعة الإسلامية. ط - 1399 هـ. سؤالات البرقاني. علي بن عمر الدارقطني. كتب خانه جميلي. ط - 1404 هـ. سؤالات الحاكم. علي بن عمر الدارقطني. مكتبة المعارف. ط 1404 هـ سؤالات حمزة السهمي. علي بن عمر الدارقطني. مكتبة المعارف. ط 1404 هـ. السيل الجرار. محمّد بن علي الشوكاني. دار الكتب العلمية. دار المعرفة. 1405 هـ. شرح الزرقاني على مختصر خليل. دار الفكر. بدون. شرح الزركشي على مختصر الخرقي. مكتبة العبيكان. الأولى. 1412 هـ. شرح سنن ابن ماجة. قديمي كتب خانة. بدون. شرح السنة. للإمام البغوي. المكتب الإسلامي. الأول. 1400 هـ. الشرح الصغير. أحمد بن محمّد الدردير. دار المعارف. بدون. شرح الطيبي على مشكاة المصابيح. مكتبة نزار مصطفى الباز. ط - 1 - 1417 هـ. شرح العمدة (الطهارة). لابن تيمية. مكتبة العبيكان. الأولى 1409 هـ. شرح العناية على الهداية. محمّد بن محمود البابرتي. دار الفكر. مطبوع مع شرح فتح القدير بدون تاريخ. شرح فتح القدير. محمّد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام. دار الفكر. ط 2. الشرح الكبير. دار الفكر. مطبوع مع حاشية الدسوقي. بدون. شرح معاني الآثار. للإمام الطحاوي. دار الكتب العلمية. ط 399 هـ. شرح منتهى الإرادات. منصور بن محمّد بن مفلح. المكتب الإسلامي. بدون. الشرح الكبير. مطبوع بحاشية الدسوقي. انظر حاشية الدسوقي. الصحيح. للإمام أبي عبد الله البخاري. بيت الأفكار. ط 1419 هـ.

الصحيح. للإمام مسلم ابن الحجاج. دار إحياء التراث العربي. بدون. الصحيح. للإمام ابن خزيمة. المكتب الإسلامي. ط 1399 هـ. الصحيح. لابن حبان البستي. مؤسسة الرسالة. تحقيق الأرنؤوط. ط 414 هـ. الضعفاء. محمّد بن عمرو العقيلي. تحقيق قلعجي. دار الكتب العلمية. ط 1 - 1404 هـ الضعفاء الصغير. للإمام محمّد بن إسماعيل البخاري. دار الوعي. ط - 1396 هـ الضعفاء والمتروكون. أحمد بن شعيب النسائيُّ. مؤسسة الكتب الثقافية ط - 1405 هـ. الطبقات الكبرى لابن سعد دار صادر. بدون، طبقات المدلسين. أحمد بن علي بن حجر. مكتبة المنار. ط - 1403 هـ. الطهارة عند المرأة لجاسم المهلهل. الطهور. لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم مكتبة الصحابة بجدة ط. الأولى. عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي. لأبي بكر ابن العربي. دار الكتب العلمية. بدون. العلل المتناهية. لابن الجوزي. دار الكتب العلمية. العلل. لابن أبي حاتم. دار السلام. بدون. العلل. لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني. دار طيبة. ط 1 - 1405 هـ العلل للترمذي. بشرح الحافظ ابن رجب. تحقيق السامرائي. فتح الباري. للحافظ ابن حجر العسقلاني. دار الكتب العلمية. ط 2 - 1418 هـ. فتح الباري شرح صحيح البخاري. للحافظ ابن رجب. مكتبة الغرباء. ط 1 - 1417 هـ. فتح البر بترتيب التمهيد. لابن عبد البر للمغراوي. ط 1 - 1416 - مجموعة التحف والنفائس الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني. تحقيق د. عبد الله الطيار ط الأولى فتح القدير للشوكاني. دار الفكر. بدون. الفروع محمّد بن مفلح. عالم الكتب. الثالثة. 1402 هـ.

فقه الشيخ السعدي. تحقيق د. عبد الله الطيار - أبا الخيل. ط الأولى. فقه الأوزاعي فيض القدير شرح الجامع الصغير. محمّد المدعو عبد الرؤوف المناوي. دار المعرفة. بدون. الفقه الإسلامي وأدلته. وهبة الزحيلي. دار الفكر. الثالثة. 1409 هـ. القوانين الفقهية. محمّد بن أحمد بن جزيء. دار الكتب العلمية. بدون. الكاشف لمعرفة من له رواية في الكتب الستة. للإمام الذهبي. دار القبلة. ط 1 - 1413 هـ. الكافي في فقه أهل المدينة. لابن عبد البر. دار الكتب العلمية. الثانية. 1413 هـ. الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل. عبد الله بن قدامة المقدسي. المكتب الإسلامي. الثانية 1399 هـ. الكامل في تاريخ الرجال. للحافظ ابن عدي. دار الفكر. ط - 1409 هـ. كشاف القناع عن متن أبي شجاع. عالم الكتب. بدون. الكشف الحثيث فيمن رمي بوضع الحديث. لسبط ابن العجمي. عالم الكتب. ط 1407 هـ. الكواكب النيرات. محمّد بن أحمد الكيال. دار المأمون للتراث. ط 1 - 1401 هـ لسان العرب. للعلامة ابن منظور. لسان الميزان. للحافظ ابن حجر العسقلاني. مؤسسة الأعلمي. ط - 1406 هـ. مائة سؤال وجواب في النساء والولادة. للدكتورة سلوى بنت محمّد بهلكي. دار الميمان. الأولى 1418 هـ المبدع شرح المقنع. إبراهيم بن محمّد بن مفلح. المكتب الإسلامي. ط بدون. المبسوط. للإمام السرخسي. دار المعرفة. بدون. المبسوط. لابن المنذر. دار طيبة. ط الأولى 1409 هـ متن أبي شجاع. المسمى الغاية والتقريب. أحمد بن الحسين الأصفهاني. دار ابن حزم ط الأولى. 1413 هـ.

المجروحين من الحدثين والضعفاء والمتروكين. لابن حبان البستي. دار المعرفة. ط - 1412 هـ مجمع البحرين في زوائد المعجمين. للحافظ نور الدين الهيثمي. ط الرشد. الأولى 1413 مجموع الفتاوى. لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. جمع عبد الرحمن بن محمّد بن قاسم بدون طـ - 1398 هـ. المجموع. للإمام النووي. مكتبة الإرشاد. بدون. المحرر. مجد الدين أبو البركات. مكتبة المعارف. ط الثانية 1404 هـ المحلى. للإمام ابن حزم الظاهري. تحقيق العلامة أحمد شاكر. دار الآفاق الجديدة. بدون. مختصر المزني. للإمام المزني. ملحق بالأم انظر الأم. المدونة الكبرى. مالك بن أنس. دار صادر. بدون. مراتب الإجماع. علي بن أحمد بن حزم. دار الكتب العلمية. بدون. مراتب المدسلين. للحافظ ابن حجر. مراقي الفلاح. حسن بن عمار الحنفي. دار الكتب العلمية الأولى 1415 هـ. مسائل الإمام أحمد. سليمان بن الأشعث أبو داود. دار المعرفة. بدون. المستوعب. محمّد بن عبد الله السامري. مكتبة المعارف. الأولى. 1413 هـ. المسند. للإمام أحمد رحمه الله. المكتب الإسلامي. ط 5، 1405 هـ المسند. للإمام أحمد رحمه الله. مؤسسة الرسالة. بتحقيق شعيب الأرنؤوط. 1416 هـ. المسند الجامع (المعروف بسنن الدارمي). للإمام أبي محمّد الدارمي. مسند الحميدي. للإمام أبي عبد الله الحميدي. دار الكتب العلمية. بدون. مسند الشاميين. للإمام الطبراني. مؤسسة الرسالة. ط 1، 1405 هـ مسند الطيالسي. لأبي داود الطيالسي. دار المعرفة. بدون. مسند أبي يعلى الموصلي. لأبي يعلي الموصلي. دار المأمون. ط 1404 هـ

مسند أبي عوانة. لأبي عوانة الإسفرائيني. ط. 1 دار الكتبي. مشاهير علماء الأمصار. محمّد بن حبان البستي. دار الكتب العلمية. ط 1959 م. مشكل الآثار. للإمام الطحاوي. مؤسسة الرسالة. تحقيق الأرنؤط. ط الأولى 1415 هـ. المصنف. للإمام عبد الرزاق الصنعاني. المكتب الإسلامي. ط 2، 14034 المصنف. لأبي بكر ابن أبي شيبة. دار الكتب العلمية. المكتب الإسلامي. ط 2، 1416 هـ. المطالب العالية (النسخة المسندة). للحافظ ابن حجر العسقلاني. معالم السنن. للإمام الخطابي. دار الحديث بدون. المعجم الكبير. للإمام الطبراني ز مكتبة العلوم والحكم. ط 1404 هـ المعجم الصغير. للإمام الطبراني. المكتبة السلفية. ط 1388 هـ. المعجم الأوسط. تحقيق أيمن شعبان. ط 1 - 1417 هـ معرفة السنن والآثار. للإمام البيهقي. دار الوعي. 1411 هـ. معرفة الثقات. أحمد بن علي العجلي. مكتبة الدار. ط - 1405 هـ. المعونة. القاضي عبد الوهاب البغدادي. مكتبة نزار الباز. ط. 1415 هـ. معونة أولي النهى شرح المنتهى. محمّد بن أحمد التنوخي. دار خضر. الأول. 1416 هـ. المغني. لابن قدامة والمقدسي. هجر. د. الدكتور التركي، والحلو. هجر ط الأولى 1408 هـ. مغني المحتاج إلى معرفة معاني الألفاظ. محمد الشربيني الخطيب. مطبعة مصطفي البابي الحلبي. ط 1377 هـ. المفهم شرح صحيح مسلم للإمام القرطبي. دار ابن كثير. ط 1 - 1417 هـ. المقدمات الممهدات. محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي. دار الغرب. الأولى 1408 هـ. الممتع شرح المقنع. للتنوخي. ط الأولى. منار السبيل. إبراهيم بن محمّد بن ضويان. المكتب الإسلامي. الخامسة. 1402 هـ. المنتخب من مسند عبد بن حميد. لعبد ابن حميد.

المنتقى لابن الجارود مع غوث المكدود. دار الكتاب العربي. ط. 1408 هـ المنتقى. لأبي الوليد الباجي. دار الكتاب العربي. الأولى 1332 هـ. منح الجليل. محمّد بن عليش. دار الفكر. ط. 1409 هـ. مواهب الجليل. محمّد بن إبراهيم المنذر. بدون. الأولى. 1408 هـ. موسوعة الإجماع. سعيد أبو حبيب. دار العربية. بدون. الموسوعة الفقهية الكوينية. وزارة الأوقاف. ذات السلاسل. ط - 1404 هـ. الموطأ. للإمام مالك. رواية يحيى بن يحيى ومحمد بن الحسن وأبي مصعب. دار إحياء التراث. بدون. المهذب في فقه الإمام الشافعي. إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي. ميزان الاعتدال. لأبي عبد الله الذهبي. دار المعرفة. بدون نصب الراية. للإمام الزيلعي. دار الحديث. ط - 1357 هـ نهاية المحتاج. دار الفكر. ط - 1404 هـ. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار. للإمام محمّد بن علي الشوكاني. دار زمزم. ط - 1 - 1413 هـ. نيل المآرب على دليل الطالب. عبد القادر بن عمر الشيباني. مكتبة الفلاح. الأولى. 1403 هـ. الهداية في تخريج أحاديث البداية. أحمد الغماري. الأولى 1407 هـ. الوجيز محمّد بن محمّد الغزالي. دار المعرفة. ط 1399 هـ. الوسيط في المذهب. لأبي حامد الغزالي. دار السلام. ط الأولى 1417 هـ الوهم والإيهام. لابن القطان. دار طيبة الأولى.

[الوضوء]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتدى بهديه. أما بعد، فهذه هي الدفعة الأخيرة من كتاب أحكام الطهارة، وقد صدر منها سابقاً ثمانية مجلدات ولله الحمد: كتاب الحيض والنفاس في ثلاثة مجلدات، وصفحاته (1360) صفحة. وكتاب أحكام المياه في مجلد واحد، وعدد صفحاته (589) صفحة. وكتاب سنن الفطرة في مجلدين. وعدد صفحاته (979) صفحة. وكتاب آداب الخلاء في مجلد واحد، وعدد صفحاته (636) صفحة. وكتاب أحكام المسح على الحائل في مجلد واحد، وصفحاته (676) صفحة. وها أنا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى وبفضله أتبعها في بقية أحكام الطهارة، منها: الوضوء شروطه وسننه وآدابه ونواقضه. في مجلدين كبيرين. والغسل في مجلد واحد كبير. والتيمم في مجلد واحد، والنجاسة في مجلد كبير جداً ليكون الجميع ثلاثة عشر مجلداً، فلله سبحانه وتعالى وحده الفضل والمنة والثناء الذي يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، {وما بكم من نعمة فمن الله} (¬1)، {وإن تعدوا نعمة الله لا ¬

(¬1) النحل: 53.

تحصوها} (¬1)، {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} (¬2). وأشكر جميع من تواصل معي في هذه البحوث، سواء من كتب لي شاكراً أو ناصحاً، وملحوظاتهم محل تقديري واحترامي، وأخص بالذكر الشيخ الفاضل عبد الله بن جابر الحمادي- جزاه الله خيراً، وكنت قد حكمت على زيادة غسل الأنثيين في طهارة المذي بالشذوذ وفق القواعد الحديثية، فأخبرني الشيخ بأنه وقف على تضعيف هذه الزيادة للإمام أحمد في مسائل أبي داود، وقد وجدتها فيه فعلاً، ففرحت لهذه الموافقة، خاصة أن الإمام أحمد هو الوحيد بين الأئمة الذي يرى وجوب غسل الأنثيين في رواية عنه، كما وقفت بعد طبع كتاب الأحكام الوسطى للإشبيلي بأنه يذهب فيه إلى تضعيف زيادة غسل الأنثيين، فزادني هذا طمأنينة خاصة أن زيادة غسل الأنثيين قد صححها جمع من المتأخرين. كما رجحت في حديث عائشة في البخاري في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش، وفيه الوضوء لكل صلاة، على أن الصحيح أنه موقوف على عروة، وليس مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلاف ما فهمه ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، ورأيت أن حدث المستحاضة لا يجب عليها منه وضوء إلا أن تحدث حدثاً بإرداتها، ليست مغلوبة عليه، فليس خروج دم المستحاضة موجباً للحدث، كما أن خروج الوقت ليس موجباً للحدث كذلك، كما هو مذهب مالك رحمه الله تعالى، ويقاس على المستحاضة من به سلس بول، فلا يكلف الوضوء لخروج بوله إلا أن يتبول بإرادته. ¬

(¬1) إبراهيم: 34. (¬2) إبراهيم: 7.

وقد ذكر لي الشيخ عبد الله بن علي الجعيثن أنه وقف على كلام للحافظ ابن رجب في شرحه للبخاري يفيد أن جميع الأحاديث التي فيها الأمر للمستحاضة بالوضوء لكل صلاة لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نقلت هذا الكلام من الحافظ ابن رجب في بحث نواقض الوضوء، فلله الحمد والمنة. مثال ثالث: حديث سفيان، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط ابن صبرة عن أبيه مرفوعاً. رواه وكيع، ويحيى بن آدم، ومحمد بن كثير عن سفيان به، ولم يذكر المبالغة بالمضمضة، وإنما اقتصروا على المبالغة بالاستنشاق إلا من الصائم. ورواه أبو بشر الدولابي، عن ابن مهدي، عن سفيان به بلفظ: «إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً» فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة. وصحح ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (¬1)، رواية أبي بشر الدولابي، وقال: ابن مهدي أحفظ من وكيع وأجل قدراً. وقد ضعفت هذه الزيادة، وجعلت الخطأ ليس من ابن مهدي حتى تكون المقارنة بينه وبين غيره، وإنما المخالفة من أبي بشر الدولابي، فقد قال الدارقطني: تكلموا فيه. وقال أبو سعيد بن يونس: إنه من أهل الصنعة وكان يضعف. وقال ابن عدي: متهم (¬2). ¬

(¬1) (5/ 193). (¬2) انظر شذرات الذهب (2/ 260).

فأخبرني الشيخ الفاضل علي الدخيل بأنه وقف على رواية للإمام أحمد عن ابن مهدي توافق رواية وكيع، ليس فيها ذكر المبالغة في المضمضة، وقد ألحقت هذا الطريق بالتخريج عند إعادة الحديث في هذا الكتاب، فثبت الخطأ على أبي بشر الدولابي، وخرج ابن مهدي من العهدة، وتبين خطأ ابن القطان رحمه الله حين جعل الترجيح بين وكيع وبين ابن مهدي. هذه بعض الأمثلة لتواصل بعض أهل الفضل ذكرتها ليذكروا بالدعاء من إخوانهم، وليطمئن بعض الطلبة إلى سلامة المنهج الحديثي المتبع في الحكم على ما يرد من زيادات في بعض ألفاظ الحديث، وفي ذلك أيضاً جواب على ما يستشكله بعض إخواننا من مخالفتي لبعض أهل العلم في الحكم على بعض ألفاظ الحديث، أن ذلك كان وفق القواعد الحديثية، كما فيه تدليل على أن منهج الأئمة المتقدمين لا يشترطون في رد زيادة الثقة أن تكون منافية على خلاف ما ذكر في نخبة الفكر، بل يدرس الأئمة كل زيادة ترد في الحديث على انفراد، ولا يعطون حكماً عاماً على كل زيادة، ويتبعون في الحكم على الزيادة بالحفظ أو الشذوذ حسب ما يتوفر من قرائن في قبولها أو وردها، ومقارنة من زاد على من لم يذكر الزيادة، سواء كانت الزيادة في المتن أو في الإسناد، ويقدم العدد الكثير على القليل في الجملة، ويقدم الأوثق على الثقة، وهكذا، وكل زيادة لها ما يخصها من القرائن التي تجعل الباحث يقبل أو يرد تلك الزيادة. بقي أن أنوه على مقالة تتردد بين طلبة العلم أسمعها كثيراً، وهو أن العبادات مخدومة لا تحتاج إلى عناية بحث، وقد تأكد لي أن هذه المقالة ليست دقيقة، فإني عندما شرعت في أحكام المياه بحثت في المكتبات عن الكتب الفقهية المقارنة التي صدرت في هذا الباب فلم أجد فيها كتاباً واحداً مختصاً

يجمع أطراف مسائله، ويغني القارئ عن الرجوع إلى كتب المذاهب، فطلبت كتاباً في الوضوء وفي الحيض والنفاس فلم أجد بغيتي، فإذا كان هذا الكلام في أحكام الطهارة، فما بالك في أحكام الحج والنوازل فيه، وفي أحكام الصيام، بل وفي أحكام الصلاة، فتبين لي أن الكلام بأن العبادات مخدومة عبارة تحتاج إلى تدقيق، إلا إن كانت الخدمة المعنية هي غير الخدمة التي أبحث عنها، وإنما تقتصر على كتاب المجموع والمغني والسيل الجرار وفتح البارئ، فهذه الكتب قد بحث فيها أيضاً غير العبادات من أحكام الفقه الأخرى كالمعاملات والنكاح والنفقات والجنايات وغيرها، فيكون الفقه الإسلامي كله مخدوماً، ولا معنى لتخصيص العبادات، والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد. هذا ما أردت ذكره بين يدي هذه المجموعة من كتاب أحكام الطهارة، والله أعلم. كتبه أبو عمر دبيان بن محمد الدبيان السعودية - القصيم - بريدة

خطة البحث

خطة البحث كتاب الوضوء يشتمل على مقدمة، ومجموعة من الأبواب، والمباحث، والفصول، والفروع، والمسائل بشكل هرمي على النحو التالي. المقدمة: وتشتمل على خمسة مباحث: المبحث الأول: في تعريف الوضوء. المبحث الثاني: في فضل الوضوء. المبحث الثالث: في حكم الوضوء. المبحث الرابع: متى شرع الوضوء. المبحث الخامس: هل كان الوضوء في شريعة من قبلنا؟. الباب الأول: في شروط الوضوء. الشرط الأول: الإسلام. الشرط الثاني: التكليف. الشرط الثالث: ارتفاع دم الحيض والنفاس. الشرط الرابع: طهورية الماء. الشرط الخامس: إزالة ما يمنع وصول الماء إلى أعضاء الوضوء. الشرط السادس: دخول الوقت على من به حدث دائم. الشرط السابع: هل يشترط أن يكون ماء الوضوء مباحاً؟ الشرط الثامن: القدرة على استعمال الماء. الشرط التاسع: قيام الحدث. الشرط العاشر: النية، وفيها مباحث:

المبحث الأول: تعريف النية. المبحث الثاني: في حكم النية. المبحث الثالث: في محل النية. المبحث الرابع: في أقسام النية. المبحث الخامس: في الجهر بالنية. المبحث السادس: الحكمة من مشروعية النية. المبحث السابع: في شروط النية. الشرط الأول: الإسلام. الشرط الثاني: التمييز. الشرط الثالث: عدم الإتيان بما ينافي النية حتى يفرغ من وضوئه. الشرط الرابع: أن تكون النية مقارنة للمنوي أو متقدمة عليه بشيء يسير. الشرط الخامس: أن يكون جازماً بالنية. المبحث السابع: في صفة النية. الفرع الأول: إذا نوى طهارة مطلقة. الفرع الثاني: إذا نوى ما تسن له الطهارة. الفرع الثالث: إذا نوى ما لا تشرع له الطهارة. الفرع الرابع: إذا نوى رفع الحدث ونية التبرد مقرونين. الفرع الخامس: إذا نوى رفع حدث واحد، وعليه مجموعة أحداث، وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: أن ينوي رفع أحدها ناسياً بقيتها، أو ذاكراً ولم يخرجها. المسألة الثانية: أن ينوي رفع أحد الأحداث وينوي بقاء غيره. الباب الثاني: في سنن الوضوء وآدابه. الفصل الأول: كون التسمية من سنن الوضوء. الفصل الثاني: من سنن الوضوء السواك. مبحث: في محل السواك من الوضوء. الفصل الثالث: من سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثاً. المبحث الأول: السنة أن يغسل كفيه قبل أن يدخلهما الإناء. المبحث الثاني: من توضأ ثم أحدث في أثناء وضوئه، فهل يعيد غسل يديه إذا أعاد الوضوء. المبحث الثالث: هل يحتاج غسل الكفين إلى نية؟ الفصل الرابع: من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق. المبحث الأول: حكم المضمضة والاستنشاق. المبحث الثاني: يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق. المبحث الثالث: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق. المبحث الرابع: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم. المبحث الخامس: في حكم استنثار الماء بعد الاستنشاق. المبحث السادس: حكم كون المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال.

المبحث السابع: في الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة. فرع: في صفة الجمع والفصل بين المضمضة والاستنشاق. الفصل الخامس: من سنن الوضوء تخليل اللحية والأصابع في الوضوء. المبحث الأول: في حكم تخليل اللحية. المبحث الثاني: في صفة تخليل اللحية. المبحث الثالث: في تخليل الأصابع. المبحث الرابع: في صفة تخليل الأصابع. الفصل السادس: في استحباب تحريك الخاتم الواسع. الفصل السابع: من سنن الوضوء التيامن. الفصل الثامن: من سنن الوضوء استحباب الغسلة الثانية والثالثة. الفصل التاسع: استحباب الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه. الفصل العاشر: في مسح العنق. مبحث: في كيفية مسح العنق. الفصل الحادي عشر: من سنن الوضوء دلك أعضاء الوضوء. الفصل الثاني عشر: في إطالة الغرة والتحجيل. المبحث الأول: في تعريف الغرة والتحجيل. المبحث الثاني: خلاف العلماء في استحباب إطالة الغرة والتحجيل. الفصل الثالث عشر: في تنشيف أعضاء الوضوء بمنديل ونحوه. الفصل الرابع عشر: يستحب تجديد الوضوء.

الفصل الخامس عشر: في استقبال القبلة حال الوضوء. الفصل السادس عشر: من سنن الوضوء أن يقول الذكر الوارد بعده. الفصل السابع عشر: في الاستعانة في الوضوء. الفصل الثامن عشر: في الكلام أثناء الوضوء. المبحث الأول: في الوضوء قبل الوقت. الباب الثالث: في فروض الوضوء. الفصل الأول: من فروض الوضوء غسل الوجه. المبحث الأول: حد الوجه. الفرع الأول: حد الوجه طولاً وعرضاً. الفرع الثاني: في حكم البياض الواقع بين العذار وبين الأذن. الفرع الثالث: في غسل شعر الوجه. المسألة الأولى: في شعر اللحية. المسألة الثانية: شعر اللحية هل يغسل أم يمسح. المسألة الثالثة: شعر الوجه فيما عدا اللحية. المسألة الرابعة: في غسل المسترسل من اللحية. الفرع الرابع: إذا غسل وجهه غسل جزءاً من الجوانب. الفرع الخامس: في الكلام على الأنف والفم. الفرع السادس: في غسل ما تحت الذقن.

الفصل الثاني: من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرافقين. المبحث الأول: في غسل المرفقين مع اليدين. المبحث الثاني: في غسل اليد الزائدة ونحوها من أعضاء الوضوء. المبحث الثالث: في الجلد المنكشط. المبحث الرابع: في أقطع اليد أو بعضها. المبحث الخامس: في الوسخ يكون تحت الظفر. الفصل الثالث: من فروض الوضوء مسح الرأس. المبحث الأول: خلاف العلماء في القدر الواجب مسحه من الرأس. المبحث الثاني: في تكرار مسح الرأس. المبحث الثالث: حكم مسح الأذنين. الفرع الأول: في صفة مسح الأذنين. الفرع الثاني: تمسح الأذنان معاً. المبحث الرابع: خلاف العلماء في المسح على العمامة. المبحث الخامس: خلاف العلماء في المسح على الخمار. المبحث السادس: خلاف العلماء في المسح على القلانس. الفصل الرابع: من فروض الوضوء غسل الرجلين. الفصل الخامس: من فروض الوضوء الترتيب بين الأعضاء. الفصل السادس: من فروض الوضوء الموالاة. مبحث: في حد الموالاة.

كتاب نواقض الوضوء. الباب الأول: في مسببات الحدث. الفصل الأول: في الخارج من السبيلين. المبحث الأول: في البول والغائط. المبحث الثاني: في خروج الريح. المبحث الثالث: في خروج المذي. المبحث الرابع: في خروج الودي. المبحث الخامس: في خروج دم الاستحاضة. المبحث السادس: في الخارج النادر من السبيلين. الفصل الثاني: خروج النجس من البدن من غير السبيلين. المبحث الأول: خروج البول والغائط من غير السبيلين. المبحث الثاني: في خروج النجس عدا البول والغائط من غير السبيلين. الفصل الثالث: من نواقض الوضوء زوال العقل. المبحث الأول: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالجنون والإغماء ونحوهما. المبحث الثاني: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالنوم. الفصل الرابع: في نقض الوضوء بمس الفرج. المبحث الأول: الخلاف في نقض الوضوء من مس الذكر. المبحث الثاني: في مس المرأة فرجها.

المبحث الثالث: في مس المرأة ذكر الرجل أو العكس، ومس فرج الصغير. الفرع الأول: في مس فرج الميت. الفرع الثاني: في مس الذكر المنفصل. المبحث الرابع: في الملموس ذكره. فرع: في مس المرأة شفري فرجها. المبحث الخامس: في مس فرج البهيمة. المبحث السادس: في مس الأنثيين والأليتين والرفغين. المبحث السابع: في مس الخنثى المشكل. الفرع الأول: في مس الخنثى المشكل فرجه. الفرع الثاني: في مس الأجنبي فرج الخنثى المشكل. الفصل الخامس: في مس المرأة والأمرد. المبحث الأول: في مس بدن المرأة من غير حائل. المبحث الثاني: في مس شعر وظفر المرأة. المبحث الثالث: في مس المرأة مع حائل. المبحث الرابع: في مس المحارم. المبحث الخامس: في مس الطفلة الصغيرة بشهوة. المبحث السادس: في لمس الأمرد. الفصل السادس: من نواقض الوضوء أكل لحم الجزور. المبحث الأول: خلاف أهل العلم في الوضوء من لحم الإبل. المبحث الثاني: في العلة من الوضوء من لحم الإبل.

المبحث الثالث: في الوضوء من شحم الإبل وكبده وطحاله. المبحث الرابع: في الوضوء من لبن الإبل. المبحث الخامس: في الوضوء من مرق لحم الإبل. المبحث السادس: في الوضوء من أكل اللحوم الخبيثة كالسباع. الفصل السابع: في نقض الوضوء من القهقهة في الصلاة. الفصل الثامن: في نقض الوضوء بالردة. الفصل التاسع: في الوضوء من تغسيل الميت. الفصل العاشر: في نقض الوضوء بالشك. الفصل الحادي عشر: كل ما يوجب الحدث الأكبر فإنه يوجب الوضوء. الباب الثاني: فيما يحرم على المحدث. الفصل الأول: يحرم على المحدث فعل الصلاة. الفصل الثاني: في تحريم الطواف على المحدث. الفصل الثالث: في وجوب الوضوء من مس المصحف.

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب المبحث الأول: في تعريف الوضوء تعريف الوضوء. الوضوء: من الوضاءة: وهو الحسن والنظافة والبهجة، كما يقال: رجل وضيء: أي حسن الهيئة. قال أبو حاتم: توضأت للصلاة وُضُوءاً، وتطهرت طُهُوراً، أتوضأ، توضؤاً، وهي الحسن. اهـ والوُضُوءُ بالضم: الفعل، وبالفتح: الوَضُوء: هو الماء المعد له، كما حكاه أبو الحسن الأخفش في قوله تعالى: {وَقُودها الناس والحجارة} (¬1)، فقال: الوَقود: بالفتح: الحطب، والوُقُود بالضم: الاتقاد، وهو الفعل، ومثل ذلك الوَضُوء: هو الماء، والوُضُوء: هو الفعل. وقيل: الوُضُوء بالضم: هو المصدر. وقيل: هما لغتان بمعنى واحد: يعني الفتح والضم. ولا تقل: توضيت بالياء بدل الهمز، قاله غير واحد. قال الجوهري: وبعضهم يقوله، وهي لغية أو لثغة. وذكر قاسم عن الحسن أنه قال يوماً: توضيت بالياء، فقيل له: أتلحن يا أبا سعيد؟ فقال: إنها لغة هذيل، وفيهم نشأت. والميضأة بالكسر والقصر: الموضع الذي يتوضأ فيه (¬2). ¬

(¬1) البقرة: 24. (¬2) تاج العروس (1/ 276،277) لسان العرب (1/ 194) مختار الصحاح (ص:303).

الوضوء في اصطلاح الفقهاء

الوضوء في اصطلاح الفقهاء: تعريف الحنفية: جاء في البحر الرائق: الوضوء في الاصطلاح الشرعي: غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس (¬1). وقال الكاساني: الوضوء: اسم للغسل والمسح، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فأمر بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس (¬2). تعريف المالكية: الوضوء: هو غسل ومسح في أعضاء مخصوصة لرفع حدث (¬3). تعريف الشافعية: الوضوء: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة مفتتحاً بنية (¬4). تعريف الحنابلة: قال البهوتي: استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة (¬5). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 11). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 2). (¬3) حدود ابن عرفة (ص: 32). (¬4) أسنى المطالب (1/ 28). (¬5) كشاف القناع (1/ 82).

وهذه التعريفات متقاربة، وتتفق على تعريف الوضوء بأنه غسل ومسح لأعضاء مخصوصة، وبعضهم يذكر النية أو قصد رفع الحدث في التعريف؛ لأن النية عنده شرط، وهو مذهب الجمهور كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وبعضهم لا يذكرها كالحنفية؛ لأن النية عندهم سنة، وليست فرضاً، وبعضهم ينص بأن غسل الأعضاء يجب أن يكون على صفة مخصوصة؛ لأن الترتيب عنده والموالاة فرض، وبعضهم لا يذكرها؛ لأنه يخالف في كونها فرضاً في الوضوء، وسيأتي إن شاء الله بيان الراجح من هذه الأمور في مكانها.

المبحث الثاني: في فضل الوضوء

المبحث الثاني: في فضل الوضوء ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة، نذكر منها: الحديث الأول: (772 - 1) روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها (¬1). الحديث الثاني: (773 - 2) ما رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا - قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم ¬

(¬1) صحيح مسلم (223).

الحديث الثالث

يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه، فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول، في مقام واحد يعطي هذا الرجل، فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله، لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك (¬1). الحديث الثالث: (774 - 3) ما رواه أحمد، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن ثوبان، حدثني حسان بن عطية، أن أبا كبشة السلولي حدثه، أنه سمع ثوبان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سددوا وقاربوا واعملوا وخيروا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن (¬2). [إسناد حسن إن شاء الله، والحديث صحيح] (¬3). ¬

(¬1) صحيح مسلم (832). (¬2) المسند (5/ 282). (¬3) رجاله ثقات إلا ابن ثوبان، واسمه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى، وقد توبع، جاء في ترجمته: قرئ على العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين قال: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان صالح الحديث. الجرح والتعديل (5/ 219). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال يحيى في رواية عثمان بن سعيد عنه: عبد الرحمن ضعيف، وأبوه ثقة. الكامل (4/ 281). وقال معاوية عن يحيى: ضعيف يكتب حديثه على ضعفه، وكان رجلاً صالحاً. المرجع السابق. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: ابن ثوبان أحاديثه مناكير. الجرح والتعديل (5/ 219). وقال أيضاً: لم يكن بالقوي في الحديث. ضعفاء العقيلي (2/ 326). وقال أبو حاتم الرازي: ثقة. الجرح والتعديل (5/ 219). وسئل أبو زرعة عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان: فقال شامي لا بأس به. المرجع السابق. وقال العجلي: شامي لا بأس به. معرفة الثقات (2/ 73). وقال ابن حبان: من صالحي أهل الشام، ممن صحب نافعاً زماناً، وكان ثبتاً قد عمر. المشاهير (1439)، وذكره في الثقات (7/ 92). وقال النسائي: ليس بالقوي. الكامل (4/ 281). وقال ابن عدي: كان رجلا صالحاً ويكتب حديثه على ضعفه. المرجع السابق. وقال يعقوب بن شيبة: اختلف أصحابنا فيه، فأما ابن معين فكان يضعفه، وأما علي فكان حسن الرأي فيه، وقال: ابن ثوبان رجل صدق لا بأس به، وقد حمل عنه الناس. تهذيب التهذيب (6/ 136). وقال عمرو بن علي: حديث الشاميين ضعيف إلا نفيراً فاستثناه منهم. المرجع السابق. وقال عثمان الدارمي عن دحيم: ثقة يرمي بالقدر. المرجع السابق، ودحيم من أعلم الناس بأهل الشام. وفي التقريب: صدوق يخطئ، ورمي بالقدر وتغير بآخرة. قلت: ما كان من خطئه فقد توبع كما سيأتي إن شاء الله تعالى. [تخريج الحديث] الحديث روي عن ثوبان من عدة طرق، فقيل: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن ثوبان. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقيل: عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، وهو منقطع. وقيل: عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن ثوبان، وهو ضعيف. الطريق الأول: عن أبي كبشة السلولي، عن ثوبان. أخرج الحديث أحمد كما في إسناد الباب، والدارمي (656) والطبراني في الكبير (1444) وابن حبان في صحيحه (1037) والبيهقي في شعب الإيمان (2715) من طريق الوليد بن مسلم به. وأخرجه الطبراني (217) من طريق علي بن الجعد، عن ابن ثوبان به. وهذا الطريق سبق الكلام عليه عند الكلام على عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان. الطريق الثاني: عبد الرحمن بن ميسرة، عن ثوبان. وأخرجه أحمد (5/ 280) والطبراني في مسند الشاميين (1078) عن علي بن عياش زاد أحمد: عصام بن خالد، كلاهما عن حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن ثوبان به. وفي إسناده عبد الرحمن بن ميسرة، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (5/ 285). وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/ 88). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 109). وقال ابن المديني: مجهول. ميزان الاعتدال (4986). وقال أبو داود: شيوخ حريز كلهم ثقات. تهذيب التهذيب (6/ 254). وفي التقريب: مقبول، يعني: إن توبع، وقد توبع. الطريق الثالث: سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان. أخرجه أبو داود الطيالسي (996) والحاكم في المستدرك (447) عن شعبة، وأحمد (5/ 276) ثنا أبو معاوية، وأخرجه أيضاً (5/ 282) ثنا وكيع ويعلى، وأخرجه الحاكم في المستدرك (448) من طريق زائدة، وأخرجه البيهقي (1/ 82) من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1040) والحاكم (448)، والبيهقي في شعب الإيمان (2713) وفي السنن الكبرى (1/ 82) من طريق محمد بن عبيد. وأخرجه البيهقي أيضاً (1/ 457) من طريق ابن نمير، كلهم (شعبة وأبو معاوية ويعلى ووكيع ويعلى وزائدة وأبو بدر شجاع بن الوليد ومحمد بن عبيد وابن نمير رووه) عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان. وتابع كل من منصور وابن عتيبة: الأعمش في روايته عن سالم. أخرجه ابن أبي شيبة (35)، وابن ماجه (277) والدارمي (655)، وأبو عبيد في كتاب الطهور (16)، والطبراني في المعجم الأوسط (7019)، وفي المعجم الصغير (1011)، والروياني في مسنده (614)، والحاكم (449)، والبيهقي في شعب الإيمان (2802)، أبو عمر العدني في الإيمان (22)، وابن أبي عاصم في الزهد (ص: 214)، والخطيب في تاريخ بغداد (1/ 293)، من طرق عن منصور، عن سالم به. ولفظ ابن أبي شيبة مختصراً: لا يحافظ على الطهور إلا مؤمن. ورواه الحارث في مسنده كما في المطالب العالية (218) من طريق منصور، عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عمر مرفوعاً، فجعله من مسند ابن عمر، قال ابن حجر: هذا مقلوب، والمحفوظ عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان. اهـ وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1335) وفي المعجم الصغير (8) من طريق الحكم ابن عتيبة، عن سالم به. وهذا إسناد منقطع، سالم بن أبي الجعد لم يلق ثوبان، قاله الإمام أحمد رحمه الله تعالى، انظر المراسيل لابن أبي حاتم (79 - 80)، وجامع التحصيل (217)، وتحفة الأشراف (2/ 131). وقال في مصباح الزجاجة (1/ 41): هذا الحديث رجاله ثقات اثبات، إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان؛ فإنه لم يسمع منه بلا خلاف، لكن له طريق أخرى متصلة، أخرجها أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو يعلى الموصلي، والدارمي في مسنده، وابن حبان في صحيحه من طريق حسان بن عطية، أن أبا كبشة حدثه أنه سمع ثوبان. ورواه الحاكم من طريق سالم عن ثوبان وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، قلت: علته أن سالماً لم يسمع من ثوبان، قاله أحمد وأبو حاتم والبخاري وغيره. الخ كلامه رحمه الله. =

الحديث الرابع

الحديث الرابع: (775 - 4) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا خلف -يعني ابن خليفة- عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم قال: ¬

_ = قال العقيلي في الضعفاء الكبير (4/ 168): هذا يروى بإسناد ثابت عن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/ 318): وهذا الحديث يتصل مسنداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ثوبان، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص. الخ كلامه رحمه الله. وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فأخرجه ابن ماجه (278) والبيهقي في شعب الإيمان (2803) من طريق ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بلفظ: استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن من أفضل أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن. وهذا إسناد ضعيف من أجل ليث بن أبي سليم. كما روي من مسند أبي أمامة، رواه ابن ماجه (279) والطبراني في الكبير (8094)، والبيهقي في شعب الإيمان (2804) من طريق إسحق بن أسيد، عن أبي حفص الدمشقي، عن أبي أمامة يرفع الحديث، قال: استقيموا ونعما إن استقمتم، وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن. وهذا إسناد ضعيف أيضاً، فيه إسحاق بن أسيد فيه ضعف، وأبو حفص الدمشقي مجهول، والله أعلم. ورواه الطبراني في الكبير (4596) والعقيلي في الضعفاء الكبير (4/ 168) من مسند سلمة بن الأكوع، وفيه الواقدي، وهو متروك. ورواه مالك في الموطأ بلاغاً (66). انظر لمراجعة الطرق السابقة كل من: 1 - أطراف مسند الإمام أحمد (1/ 656). 2 - تحفة الأشراف (2/ 131). 3 - إتحاف المهرة لابن حجر (3/ 31). 4 - السلسلة الصحيحة (115)، صحيح الجامع (952)، إرواء الغليل (405، 412).

الحديث الخامس

كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ أنتم هاهنا لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (¬1). الحديث الخامس: (776 - 5) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (¬2). الحديث السادس: (777 - 6) ما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة يعني ابن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر ح وحدثني أبو عثمان عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، عن عمر، مرفوعاً، وفيه: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء (¬3). ¬

(¬1) مسلم (250). (¬2) صحيح البخاري (136)، مسلم (246). (¬3) مسلم (234).

المبحث الثالث: في حكم الوضوء

المبحث الثالث: في حكم الوضوء يختلف حكم الوضوء من عبادة لأخرى، فقد يكون واجباً، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون محرماً. مثال الوضوء الواجب: أما الوضوء الواجب (أي الفرض) (¬1)، فإنه يجب على المحدث إذا أراد الصلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، والدليل على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (¬2) الآية. (778 - 7) وأما السنة، فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثني إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (¬3). ¬

(¬1) يفرق الحنفية بين الواجب والفرض، بخلاف الجمهور فلا فرق بينهما. مثاله: الطهارة من الحيض ومن الحدث الأصغر للطواف واجبة عندهم، وما دامت واجبة فإن الطواف يصح بدونها، وتجبر بدم، انظر البحر الرائق (1/ 203)، شرح فتح القدير (1/ 166)، بدائع الصنائع (2/ 129)، المبسوط (4/ 38). وقد تكلمت عنها في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، في فصل اختلاف العلماء في اشتراط الطهارة للطواف. (¬2) المائدة: 6. (¬3) البخاري (. . . .) ومسلم (225). [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع، والحديث في البخاري رقم 135 وبلفظه هذا في 6954 بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي]

الدليل على مشروعية الوضوء للذكر

وأما الإجماع، فقد قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة إذا وجد المرء إليها السبيل (¬1). وسئل ابن تيمية: عما تجب له الطهارتان الغسل والوضوء؟. فأجاب: ذلك واجب للصلاة بالكتاب والسنة والإجماع فرضها ونفلها، واختلف في الطواف ومس المصحف، واختلف أيضاً في سجود التلاوة، وصلاة الجنازة هل تدخل في مسمى الصلاة التي تجب لها الطهارة؟ وأما الاعتكاف فما علمت أحداً قال: إنه يجب له الوضوء (¬2). [مثال الوضوء المندوب] وأما الوضوء المندوب فأمثلته كثيرة جداً، أذكر منها على سبيل المثال الوضوء للذكر، والوضوء للنوم، والبقاء على طهارة. فالدليل على مشروعية الوضوء للذكر (779 - 8) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (¬3). ¬

(¬1) الإجماع (ص: 29). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 268). (¬3) صحيح البخاري (337)، ومسلم (369).

الدليل على مشروعية الوضوء للنوم

(780 - 9) وروى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان، عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر، أو قال: على طهارة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). والدليل على مشروعية الوضوء للنوم (781 - 10) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به، الحديث (¬3). وأما الدليل على مشروعية البقاء على طهارة. (782 - 11) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثني حسين بن واقد، قال: حدثني عبد الله بن بريدة، ¬

(¬1) سنن أبي داود (17). (¬2) سبق بحثه في كتاب آداب الخلاء، انظر رقم (186). (¬3) البخاري (247) وترجم له البخاري رحمه الله: باب فضل من بات على وضوء.

عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت في الجنة خشخشة أمامي، فقلت: من هذا؟ قالوا: بلال، فأخبره، قال: بما سبقتني إلى الجنة؟ قال: يا رسول الله ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت إلا رأيت أن لله علي ركعتين أصليهما. قال: بها (¬1). [إسناده حسن والحديث صحيح] (¬2) قال الحافظ: وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة على ذلك بدخول الجنة (¬3). ¬

(¬1) المصنف (6/ 396) رقم: 32335. (¬2) رجاله ثقات إلا زيد بن الحباب فإنه صدوق، وقد تابعه علي بن الحسن بن شقيق، وهو ثقة. [تخريج الحديث]: الحديث أخرجه ابن أبي شيبة كما في إسناد الباب، وأحمد كما في المسند (5/ 354)، وفي الفضائل (1731) وأحمد بن عمرو في الآحاد والمثاني (263) والطبراني في المعجم الكبير (1/ 337) رقم 1012، وأبو نعيم في الحلية (1/ 150)، وابن حبان في صحيحه (7086، 7087) عن زيد بن الحباب به. وأخرجه أحمد (5/ 360) وفي الفضائل (713) وابن خزيمة (1209)، والحاكم (1/ 313)، (3/ 285) عن علي بن الحسن بن شقيق، والترمذي (3689) من طريق علي بن الحسين بن واقد، كلاهما عن الحسين بن واقد به. واقتصر أحمد في الفضائل على قصة عمر رضي الله عنه. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وانظر لمراجعة طرق الحديث: تحفة الأشراف (2/ 82) ح 1966، أطراف مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى (1/ 615)، إتحاف المهرة (2/ 567) ح 2273، وصحيح الجامع (7894). (¬3) الفتح (3/ 35).

(783 - 12) وروى البخاري، قال: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا أبو أسامة، عن أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. وترجم له البخاري: باب فضل الطهور بالليل والنهار، وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار (¬1). [مثال الوضوء المكروه] يمثل بعض الفقهاء للوضوء المكروه ما إذا جدد الوضوء بعد فراغه منه، وقبل استعماله بعبادة مشروعة. فقيل: إن الوضوء على الوضوء لا يكون قربة إلا إذا اختلف المجلس، وأما إذا اتحد المجلس فلا يكون قربة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2). وقيل: إن يفعل فيه عبادة يستحب لها الوضوء، لأنه إذا لم يفعل به ذلك كان إسرافاً محضاً، ذكره ابن عابدين من الحنفية (¬3)، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وقد ذكر ابن تيمية أن من توضأ قبل الوقت لا يعيد الوضوء بعد دخول الوقت، ولا يستحب لمثل هذا تجديد الوضوء (¬5). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1449) صحيح مسلم (2458). (¬2) انظر البحر الرائق (1/ 98)، مراقي الفلاح (ص:35). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 119). (¬4) الفروع (1/ 124)، الإنصاف (1/ 147). (¬5) مجموع الفتاوى (21/ 376).

وقيل: إن صلى بالوضوء فرضاً استحب له الوضوء، وإلا فلا، وهو مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية كما سيأتي بيانه. وقال النووي من الشافعية: اتفق أصحابنا على استحباب تجديد الوضوء، وهو أن يكون على وضوء، ثم يتوضأ من غير أن يحدث. ومتى يستحب؟ فيه خمسة أوجه: أصحها: إن صلى بالوضوء الأول فرضاً أو نفلاً، وبه قطع البغوي. والثاني: إن صلى فرضاً استحب، وإلا فلا، وبه قطع الفوراني. والثالث: يستحب إن كان فعل بالوضوء الأول ما يقصد له الوضوء وإلا فلا، ذكره الشاشي في كتابيه المعتمد والمستظهري، في باب الماء المستعمل، واختاره. ¬

(¬1) جاء في مواهب الجليل أيضاً (1/ 303): قال القاضي عياض: الوضوء الممنوع تجديده قبل أداء فريضة به. وفي شرح الرسالة للشبيبي في الوضوء المستحب وتجديده لكل صلاة بعد صلاة فرض، ثم قال: الممنوع لثلاثة أشياء، تجديده قبل صلاة فرض به، والزيادة على الثلاثة، وفعله لغير ما شرع له أو أبيح. انتهى. وقال ابن العربي في العارضة: اختلف العلماء في تجديد الوضوء لكل صلاة، فمنهم من قال: يجدد إذا صلى وفعل فعلا يفتقر إلى الطهارة، وهم الأكثرون، ومنهم من قال: يجدد وإن لم يفعل فعلا يفتقر إلى الطهارة، انتهى. وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة في قوله: فعليه أن يتأهب لذلك بالوضوء وبالطهر إن وجب عليه الطهر، وإنما شرط في الاستعداد بالغسل وجوبه دون الوضوء؛ لأن الاستعداد به يكون دون وجوب إذ يستحب تجديده لكل صلاة فرض بعد صلاته به. وقيل: يشترط كونها فرضاً بخلاف الغسل، فإنه لا يستحب لكل صلاة، بل ربما كان بدعة وإن قال به بعض العباد، والله أعلم انتهى. (تنبيه) إن لم يصل بالوضوء فلا يعيده، إلا أن يكون توضأ أولا واحدة واحدة، أو اثنتين اثنتين، قاله الجزولي في قول الرسالة، ولكنه أكثر ما يفعل , والله تعالى أعلم. اهـ نقلاً من مواهب الجليل، وانظر التاج والإكليل (1/ 302، 303).

دليل من قال: لا يشرع التجديد قبل استعماله بعبادة مشروعة

والرابع: إن صلى بالأول، أو سجد لتلاوة أو شكر، أو قرأ القرآن في المصحف استحب وإلا فلا، وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني في أول كتابه الفروق. والخامس: يستحب التجديد، ولو لم يفعل بالوضوء الأول شيئاً أصلاً، حكاه إمام الحرمين، قال: وهذا إنما يصح إذا تخلل بين الوضوء والتجديد زمن يقع بمثله تفريق، فأما إذا وصله بالوضوء فهو في حكم غسلة رابعة. قال النووي: وهذا الوجه غريب جداً، وقد قطع القاضي أبو الطيب في كتابه شرح الفروع والبغوي والمتولي والروياني وآخرون بأنه يكره التجديد إذا لم يؤد بالأول شيئاً. قال المتولي والروياني: وكذا لو توضأ وقرأ القرآن في المصحف يكره التجديد. قالا: ولو سجد لتلاوة أو شكر لم يستحب التجديد ولا يكره، والله أعلم اهـ كلام النووي (¬1). دليل من قال: لا يشرع التجديد قبل استعماله بعبادة مشروعة. الدليل الأول: النهي عن الزيادة على الثلاث. (784 - 13) فقد روى أحمد، قال: ثنا يعلي، ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ¬

(¬1) المجموع (1/ 494)، وانظر حلية العلماء (1/ 83). وقال ابن حجر في فتح الباري (2/ 233): ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها -يعني في الوضوء- أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق، واختلف عند الشافعية في القيد الذي يمتنع منه حكم الزيادة على الثلاث، فالأصح من صلى به فرضاً أو نفلاً. وقيل: الفرض فقط. وقيل: مثله حتى سجدة التلاوة والشكر ومس المصحف. وقيل: ما يقصد له الوضوء، وهو أعم. وقيل: إذا وقع الفصل بزمن يحتمل في مثله نقض الوضوء عادة. اهـ كلام الحافظ.

الدليل الثاني

جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم (¬1). [رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، فهو حسن عند من يحسن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده] (¬2). الدليل الثاني: أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه جدد الوضوء بعد فراغه مباشرة من الوضوء الأول. دليل من قال بالتجديد بعد الفاصل الطويل. (785 - 14) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى بن عباس، عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل، فبال، ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوء. فقلت له: الصلاة؟ قال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً (¬3). فالظاهر أنه نقض الوضوء قبل وصوله مزدلفة بقليل، ثم توضأ، فيبعد أن يكون أحدث حدثاً آخر حين وصل مزدلفة، إلا أن يقال: فيه دليل لمن قال: يشرع التجديد إذا فعل به عبادة يشرع لها الوضوء كالذكر، والتلبية من الذكر، فالله أعلم. ¬

(¬1) مسند أحمد (2/ 180). (¬2) وقد سبق بحثه في كتاب أحكام المسح على الحائل رقم (68). (¬3) صحيح مسلم (1280).

[الوضوء المحرم] مثل له الفقهاء بالماء المغصوب، فإذا تعدى الإنسان على مال غيره، وكان غيره بحاجة إليه، كالماء مثلاً فإنه يأثم بذلك، ولكن هل يرتفع الحدث، ويزول الخبث، أم لا؟. اختلف العلماء في ذلك: فقيل: يأثم، ويرتفع حدثه وخبثه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: لا تصح الطهارة به، ويرتفع به الخبث، اختاره بعض الحنابلة (¬4). وقيل: لا يرتفع به حدث، ولا خبث، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، وهو اختيار ابن حزم (¬6). وقد ذُكِرَت أدلة كل قول في كتاب المياه (¬7). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 48)، الفصول في الأصول (2/ 179)، حاشية ابن عابدين (1/ 341). (¬2) أنواع البروق في أنواع الفروق (2/ 84)، الخرشي (1/ 181)، و (3/ 44)، الفواكه الدواني (1/ 124)، حاشية الدسوقي (1/ 144) و (3/ 54)، منح الجليل (1/ 138). (¬3) إعانة الطالبين (1/ 55)، المجموع (2/ 295)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 59،68). (¬4) قال في منار السبيل (1/ 15): " ماء يحرم استعماله ولا يرفع الحدث، ويزيل الخبث وهو ماليس مباحاً كمغصوب ونحوه ". اهـ (¬5) قال في الإنصاف (1/ 28): وأما الوضوء بالماء المغصوب، فالصحيح من المذهب، أن الطهارة لا تصح به، وهو من مفردات المذهب. وعنه: تصح وتكره، اختاره ابن عبدوس في تذكرته. اهـ وانظر قواعد ابن رجب، القاعدة التاسعة (ص: 12)، كشاف القناع (1/ 30)، مطالب أولي النهى (4/ 62)، المبدع (1/ 40). (¬6) المحلى (1/ 208). (¬7) انظر أحكام الطهارة (المياه والآنية) ص: 95.

[الوضوء المباح] مثل له المالكية بالوضوء للتبرد، والوضوء للدخول على السلطان (¬1). والذي يظهر لي: أن الوضوء لا يكون مباحاً، وذلك أنه عبادة مطلوب فعلها، فإن فعلها امتثالاً كان مأجوراً عليها، وهذا يخرجها عن حد المباح؛ لأن المباح يستوي فيه الفعل والترك، والله أعلم. فهذه أحكام التكاليف الخمسة، الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والمباح، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر مواهب الجليل (1/ 181).

المبحث الرابع: متى شرع الوضوء

المبحث الرابع: متى شرع الوضوء من المعلوم أن الصلاة فرضت بمكة، فهل شرع الوضوء معها بمكة، أو أن الوضوء شرع بالمدينة حين نزلت آية المائدة، وهي مدنية: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...} (¬1). فقيل: إن الوضوء فرض بمكة، ونزوله في آية المائدة تثبيت لهذا الحكم، لا أكثر، وهذا اختيار ابن عابدين من الحنفية (¬2). وقيل: إن فرض الوضوء إنما شرع بالمدينة، وكان الوضوء بمكة سُنَّة (¬3). وقيل: إن الوضوء لم يشرع إلا بالمدينة، وهو اختيار ابن حزم (¬4). قال ابن حجر: وتمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض ... بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بمكة، كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، قال: وهذا مما لا يجهله عالم. وقال الحاكم في المستدرك: وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس دخلت فاطمة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: ائتوني بوضوء، فتوضأ. الحديث. ¬

(¬1) آية المائدة: 6. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 91). (¬3) شرح الزرقاني (1/ 64)، مواهب الجليل (1/ 180، 380)، فتح الباري (1/ 233). (¬4) المحلى (1/ 198).

قال الحافظ: وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ، وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوباً، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة، عنه، أن جبريل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضاً، لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشد بن سعد عن عقيل، عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولاً، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة (¬1). ¬

(¬1) فتح الباري (1/ 233).

المبحث الخامس: هل الوضوء في شريعة من قبلنا؟

المبحث الخامس: هل الوضوء في شريعة من قبلنا؟ ذهب الجمهور إلى أن الوضوء كان في شريعة من قبلنا، وإنما الغرة والتحجيل فقط مما خص الله به هذه الأمة (¬1). وقيل: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة، اختاره بعض الفقهاء (¬2). وقيل: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم (¬3). دليل من قال بعدم الخصوصية. الدليل الأول: (786 - 15) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر إبراهيم بسارة، دخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة، فأرسل إليه أن أرسل إلي بها، فأرسل بها، فقام إليها فقامت توضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي الكافر فغط حتى ركض برجله (¬4). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 90)، شرح الزرقاني (1/ 64)، انظر شرح زبد ابن رسلان (ص: 41)، مغني المحتاج (1/ 61، 47)، الفروع (1/ 325)، كشاف القناع (1/ 109). (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 135)، كشاف القناع (1/ 109)، فتح الباري (1/ 236). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 90)، المنهج القويم (ص: 28)، شرح الزرقاني (1/ 65). (¬4) صحيح البخاري (6950).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (787 - 16) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج يصلي، فجاءته أمه فدعته فأبى أن يجيبها، فقال: أجيبها أو أصلي، ثم أتته فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فقالت امرأة: لأفتنن جريجاً، فتعرضت له، فكلمته، فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: هو من جريج، فأتوه وكسروا صومعته، فأنزلوه وسبوه، فتوضأ، وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب قال: لا إلا من طين (¬1). دليل من قال: الوضوء من خصائص هذه الأمة. (788 - 17) ما رواه البخاري، حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (¬2). (789 - 18) ورواه مسلم من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة مرفوعاً، ¬

(¬1) صحيح البخاري (2482). (¬2) صحيح البخاري (136)، مسلم (246).

دليل من قال: الوضوء من خصائص هذه الأمة إلا الأنبياء

وفيه: لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غراً محجلين من أثر الوضوء (¬1). وأجيب: بأن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغر والتحجيل، لا أصل الوضوء؛ ولذلك قال: سيما ليست لأحد غيركم دليل أن هذا ما اختصت به الأمة، وليس الوضوء، والله أعلم. دليل من قال: الوضوء من خصائص هذه الأمة إلا الأنبياء (790 - 19) روى أبو داود الطيالسي قال: حدثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وقال: هذا وظيفة الوضوء الذي لا تحل الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من أراد أن يضاعف له الأجر مرتين، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي (¬2). [إسناده ضعيف جداً] (¬3). ¬

(¬1) صحيح مسلم (247). (¬2) مسند أبي داود الطيالسي (1924). (¬3) معاوية بن قرة لم يدرك ابن عمر، كما ذكره أبو زرعة، وفي إسناده سلام الطويل، وهو متروك، جاء في ترجمته: قال البخاري: تركوه. التاريخ الكبير (4/ 133). وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: سلام بن سلم المدائني ليس حديثه بشيء. الجرح والتعديل (4/ 260). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال يحيى أيضاً: ضعيف، لا يكتب حديثه. الكامل (3/ 299)، تهذيب الكمال (12/ 279). وقال مرة: ليس بثقة، كما في رواية ابن طهمان عنه (378). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث تركوه. الجرح والتعديل (4/ 260). وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال النسائي والدارقطني: متروك. الضعفاء والمتروكين للنسائي (237)، وأيضاً للدارقطني (265)، سنن الدارقطني (2/ 150). وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات، كأنه المتعمد لها. المجروحين (1/ 339). وفي إسناده أيضاً زيد العمي، وهو ضعيف. جاء في ترجمته: قال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. الطبقات الكبرى (7/ 240). وقال ابن معين: ليس بشيء. تاريخ ابن معين رواية ابن طهمان (47). وقال أبو داود: " ليس بذاك ". سؤالات الآجري لأبي داود (411). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء للنسائي (226). وذكره العقيلي في الضعفاء (2/ 74). وقال أحمد: صالح. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به، وكان شعبة لايحمد حفظه. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، واهي الحديث، ضعيف. الجرح والتعديل (3/ 560 - 561). وقال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة لا أصل لها، حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها ... وهو عندي لا يجوز الاحتجاج بخبره، ولا كتابة حديثه إلا للاعتبار ". وقال ابن عدي: " هو في جملة الضعفاء، ويكتب حديثه على ضعفه ". الكامل (3/ 1055). وقال الدارقطني: صالح. الضعفاء للدارقطني (342) في ترجمة ابنه عبد الرحيم بن زيد العمي. وفي التقريب: ضعيف. [تخريج الحديث]: الحديث على ضعف إسناده فيه اختلاف، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقيل: زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر. وقيل: زيد العمي، عن نافع، عن ابن عمر. وقيل: عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن عبيد بن عمير، عن أبي. وقيل: عن المسيب بن واضح، عن حفص بن ميسرة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. الطريق الأول: عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر. أخرجه أبو داود الطيالسي، كما في إسناد الباب عن سلام الطويل، ومن طريق سلام الطويل أخرجه الدارقطني (1/ 80) في سننه، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر. وأخرجه الدارقطني (1/ 79) من طريق محمد بن الفضل، عن زيد العمي به. وهذا الطريق سبق أن تكلمنا على إسناده. الطريق الثاني: عن زيد العمي، عن نافع، عن ابن عمر. أخرجه أحمد (2/ 98) ومن طريقه الدارقطني (1/ 81) ثنا أسود بن عامر، أنا أبو إسرائيل، عن زيد العمى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا من تخليط زيد العمي. وأخرجه ابن ماجه (419) وأبو يعلى في مسنده (5598) من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه به. وأخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (427) إلا أنه قال: عن عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، عن جده، وفيه: هذا وضوئي ووضوء خليل الله إبراهيم. وعبد الرحيم ضعيف جداً، جاء في ترجمة عبد الرحيم بن زيد العمي: قال البخاري: تركوه. التاريخ الكبير (6/ 104). وقال يحيى بن معين: عبد الرحيم بن زيد العمي ليس بشيء. الجرح والتعديل (5/ 339). قال أبو حاتم الرازي: عبد الرحيم بن زيد العمي ترك حديثه، كان يفسد أباه، يحدث عنه بالطامات. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن عبد الرحيم بن زيد، فقال: واهي ضعيف =

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة نجد أن القائلين بأن هذا الوضوء كان في شريعة ¬

_ = الحديث. المرجع السابق. فأمره واضح، فلا نطيل في ترجمته. وقال أبو حاتم كما في علل الحديث لابنه (1/ 45): " عبد الرحيم بن زيد متروك الحديث، وزيد العمي ضعيف الحديث، ولا يصح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وفيه أيضاً: " وسئل أبو زرعة عن هذا الحديث، فقال: هو عندي واه، ومعاوية بن قرة لم يلحق ابن عمر ". وقال البوصيري كما في مصباح الزجاجة (1/ 61): " وهذا إسناد فيه زيد العمي، وهو ضعيف، وعبد الرحيم متروك، بل كذاب، ومعاوية بن قرة لم يلحق ابن عمر، قاله ابن أبي حاتم في العلل، وصرح به الحاكم في المستدرك ". وضعفه ابن عبد البر في التمهيد (20/ 259)، والحافظ في الفتح (1/ 236). وقال النووي في شرح مسلم (3/ 136): " إنه حديث ضعيف معروف الضعف، ولو صح لحتمل أن يكون الأنبياء اختصوا بالوضوء دون أممهم ". الطريق الثالث: أخرجه الدارقطني (1/ 80) والبيهقي في السنن (1/ 80) من طريق المسيب بن واضح، حدثنا حفص بن ميسرة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. قال الدارقطني: تفرد به المسيب بن واضح، عن حفص بن ميسرة، والمسيب ضعيف. الطريق الرابع: رواه ابن ماجه (420) والدارقطني (1/ 81) وابن المنذر في الأوسط (1/ 409)، من طريق عبد الله بن عرادة الشيباني، عن زيد الحواري، عن معاوية ابن قرة، عن عبيد بن عمير الليثي المكي، عن أبي مرفوعاً. وعبد الله بن عرادة ضعيف، وشيخه زيد العمي مثله. وانظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (3/ 511)، تحفة الأشراف (7460) و (65)، وإتحاف المهرة لابن حجر (10235، 10533، 97)، تلخيص الحبير (81).

من قبلنا أقوى دليلاً من غيره، وأن الغرة والتحجيل جاء ما يدل على أنهما من خصائص هذه الأمة، ولا يلزم من هذا أن يكون الوضوء كله من خصائص هذه الأمة، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن التيمم من خصائص هذه الأمة، فهذا يدل على أن الوضوء ليس من خصائصها، والله أعلم.

الباب الأول: في شروط الوضوء

الباب الأول: في شروط الوضوء للوضوء شروط كثيرة، وبعضهم يقسمها إلى أقسام: شروط وجوب وصحة معاً، وشروط وجوب فقط، وشروط صحة فقط، وشروط الوجوب: هي ما إذا اجتمعت وجبت الطهارة، فإذا عدمت لم تجب الطهارة. وشروط الصحة: وهي ما لا تصح الطهارة إلا بها، فإذا عدمت لم تصح الطهارة. وسوف نذكرها شرطاً شرطاً ونبين ما ذكر فيها من خلاف إن شاء الله تعالى. الشرط الأول: الإسلام اختلف الفقهاء هل الإسلام شرط في وجوب الوضوء وصحته أو ليس بشرط؟. فقيل: يجوز الوضوء من الكافر، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يصح الوضوء من كافر، وهذا الشرط لا يختص بالوضوء، بل هو شرط في جميع العبادات، من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج (¬2). ¬

(¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 18): وإيمان المتوضئ ليس بشرط لصحة وضوئه عندنا، فيجوز وضوء الكافر عندنا. اهـ (¬2) انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 132)، الفواكه الدواني (1/ 135)، نهاية المحتاج (1/ 154)، الأشباه والنظائر (1/ 429)، المقدمة الحضرمية (ص: 33)، المنهج القويم (ص: 51)، كشاف القناع (1/ 85).

قال تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} (¬1). وهل يجب على كافر وضوء، فيه خلاف، وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أصولية، وهي هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ وللجواب على هذا أن نقول: أما مخاطبة الكفار بأصول الدين من التوحيد والإقرار بالنبوات ونحوها فهذا إجماع لا نزاع فيه، قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (¬2). واختلفوا هل يخاطبون بالفروع أم لا؟ فذهب بعض الحنفية (¬3) واختاره أبو حامد الاسفراييني من الشافعية (¬4)، إلى أن الكافر غير مخاطب بفروع الشريعة، فيكون الإسلام عندهم شرط وجوب للوضوء. وذهب الجمهور إلى أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، فهو عندهم شرط للصحة لا للوجوب (¬5). ¬

(¬1) التوبة: 54. (¬2) الأعراف: 158. (¬3) وهو قول البخاريين والسمرقنديين من أصحاب أبي حنيفة، انظر أصول السرخسي (1/ 74)، شرح المحلى على جمع الجوامع (1/ 212)، تيسير التحرير (2/ 148). (¬4) انظر قواطع الأدلة (1/ 187). (¬5) وهو قول العراقيين من الحنفية، ومذهب المالكية والشافعية والحنابلة، انظر أصول السرخسي (1/ 74)، تفسير القرطبي (2/ 300)، و (4/ 146)، إعانة الطالبين (3/ 24)، =

دليل من قال: إن الكافر لا يخاطب بفروع الشريعة

دليل من قال: إن الكافر لا يخاطب بفروع الشريعة. الدليل الأول: (791 - 20) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا زكرياء بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، ¬

_ = الإنصاف (10/ 233)، و (4/ 160)، كشاف القناع (1/ 223)، و (5/ 115)، حاشية البجيرمي (1/ 162)، وقال النووي في المجموع (3/ 5): وأما الكافر الأصلي فاتفق أصحابنا في كتب الفروع على أنه لا يجب عليه الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من فروع الإسلام، فأما في كتب الأصول فقال جمهورهم: هو مخاطب بالفروع كما هو مخاطب بأصل الإيمان. وقيل: لا يخاطب بالفروع. وقيل: يخاطب بالمنهي عنه كتحريم الزنا والسرقة والخمر والربا وأشباهها، دون المأمور به كالصلاة. قال النووي: والصحيح الأول، وليس هو مخالفاً لقولهم في الفروع؛ لأن المراد غير المراد هناك، فمرادهم في كتب الفروع أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم، وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي، ولم يتعرضوا لعقوبة الآخرة، ومرادهم في كتب الأصول أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعاً، لا على الكفر وحده، ولم يتعرضوا للمطالبة في الدنيا، فذكروا في الأصول حكم أحد الطرفين، وفي الفروع حكم الطرف الآخر، والله أعلم.

الدليل الثاني

فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن هذه الواجبات لا تلزم إلا بعد الإيمان، ولو لزمت بعد لزوم الإيمان لم يكن لتأخير ذكر الإيجاب معنى. الدليل الثاني: قالوا: إن الكافر ليس أهلاً لأداء العبادات؛ لأن أداء العبادة لاستحقاق الثواب في الآخرة بحكم الله تعالى، والكافر ليس بأهل لثواب الآخرة؛ لأن ثواب الآخرة هي الجنة، وهو ليس من أهل الجنة، فتبين أنه ليس بأهل للعبادة، وإذا لم يكن من أهل هذا العمل لم يكن من أهل الخطاب بالعمل؛ لأن الخطاب بالعمل للعمل، وهذا كالعبد لا يخاطب بالعبادات المالية من الكفارات والزكوات وغيرها؛ لأنه ليس من أهل ملك المال، فلا يخاطب بواجب المال (¬2). دليل من قال: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. الدليل الأول: قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين} (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1496)، مسلم (19). (¬2) قواطع الأدلة (1/ 189). (¬3) المدثر: 42 - 45.

الدليل الثاني

فقد بين أن دخولهم النار على تركهم الصلاة والزكاة. وقال تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} (¬1). فأوجب لهم الويل بكفرهم وإخلالهم بالزكاة. وقال تعالى: {ولله على الناس حج من استطاع إليه سبيلا} (¬2). وهذا يتناول المسلم والكافر. الدليل الثاني: قالوا: لما لزمت الكافر النواهي، لزمه الأوامر؛ لأن الأوامر أحد قسمي الشرع، فصار كالقسم الآخر، والدليل على لزومهم النواهي إجماع الأمة في أن الكافر يحد إذا زنا، ويقطع إذا سرق، ولو لم يكن مكلفاً بترك الزنا والسرقة لم يكن الزنا والسرقة منه معصية، ولو لم تكن معصية لم يعاقب على فعله. فإن قالوا: إنما وجب ذلك عليهم بالتزامهم أحكام الإسلام. قيل: لزوم الأحكام بإلزام الله تعالى، لا بالتزام العبيد ذلك، ألا ترى أن الخطاب متوجه على جميع الكفار بالإيمان بالله عز وجل، وإن كانوا لم يلتزموا شيئاً من ذلك، ثم من أحكامنا أن لا يحد الإنسان على مباح، فلو كان الزنا غير محظور عليه، كان مباحاً، والحد لا يجب بارتكاب المباح. وبقي قولان آخران: أحدهما: أن الكفار مخاطبون بالنواهي دون الأوامر، لأن النواهي يمكنهم تركها، وليس كذلك الصلاة والصيام؛ لأنه مع كفره لا يمكنه فعلها، فلم يخاطب بفعلها. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد. ¬

(¬1) فصلت: 6 - 7. (¬2) آل عمران: 97.

وقيل: لا يخاطب من الكفار إلا المرتد، فإنه مخاطب بالأوامر والنواهي. والراجح أن الكافر مخاطب بالأوامر والنواهي، وإيجاب الشي عليه لا يلزم منه صحته لو فعله، لأن المانع من قبله هو، وليس من قبل الشرع، فإذا أمر الإنسان بأن يفعل فعلاً، وكان هناك مانع يمنع من صحة الفعل، فإن كان المانع من قبل الشرع، كالعجز عن الفعل سقط الفعل، وإن كان المانع من قبل المكلف أثم ولم يرتفع عنه الخطاب، وذلك مثل شارب الخمر، فإنه لا يصلي حتى يعلم ما يقول، وإذا خرج وقت الصلاة وهو لم يصل أثم بذلك، وإن كان منهياً عن الصلاة حال السكر، وذلك لأن المانع قام من قبله هو، لا بإذن الشارع، والله أعلم. وهذه المسألة مبسوطة في كتب الأصول، وليس محلها كتب الفروع، وإنما اكتفينا بإشارة عجلة، والله الموفق.

الشرط الثاني: التكليف

الشرط الثاني: التكليف والمكلف: هو البالغ العاقل، فلا يجب ولا يصح وضوء مجنون، وأما المميز: فيصح منه الوضوء، ولا يجب عليه (¬1). وتعريف التمييز: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب، ولا ينضبط بسن، بل يختلف باختلاف الناس (¬2). وقيل: هو من يصل إلى حالة بحيث يأكل وحده، ويشرب وحده، ويستنجي وحده، ولا يتقيد بسبع سنين (¬3). وهذا التعريف هو ما يدل عليه اشتقاق كلمة مميز. وقيل: هو من استكمل سبع سنين (¬4). الأدلة على اشتراط التكليف. الدليل الأول: أما كون الوضوء لا يصح من مجنون وغير مميز فلأن من شرط الوضوء النية على الصحيح كما سيأتي، وهما ليس لهما نية صحيحة. ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 10)، حاشية ابن عابدين (1/ 86)، حاشية الدسوقي (1/ 84)، الفواكه الدواني (1/ 135)، المجموع (1/ 372)، شرح البهجة (1/ 77)، مغني المحتاج (1/ 47)، نهاية المحتاج (1/ 154)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 51)، حاشية البجيرمي على المنهج (1/ 64)، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 129)، المقدمة الحضرمية (ص:33) كشاف القناع (1/ 85)، شرح منتهى الإرادات (1/ 52). (¬2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 725)، وانظر مطالب أولي النهى (1/ 77). (¬3) شرح البهجة للأنصاري (4/ 406). (¬4) مطالب أولي النهى (1/ 77).

وأما كونه لا يجب عليهما؛ فلأن من شرط الوجوب التكليف، وهما غير مكلفين. (792 - 21) فقد روى أحمد، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن، عن علي، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المصاب حتى يكشف عنه (¬1). [إسناده منقطع ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وقفه] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 116). (¬2) الحسن لم يسمع من علي رضي الله عنه، قاله الترمذي في سننه (1423)، وانظر جامع التحصيل (ص: 163)، وتحفة التحصيل (ص: 74). واختلف على يونس بن عبيد، فرواه هشيم عن يونس، عن الحسن، عن علي مرفوعاً كما في حديث الباب. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (7347) من طريق يزيد بن زريع، عن يونس به موقوفاً على علي رضي الله عنه. ورواه قتادة عن الحسن به مرفوعاً. أخرجه أحمد (1/ 140) حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة به. وأخرجه البيهقي (4/ 325) من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة به. ويزيد سمع من سعيد قبل تغيره. وأخرجه أحمد (1/ 118) حدثنا بهز وحدثنا عفان. وأخرجه النسائي في الكبرى (7346) والحاكم في المستدرك (8170) من طريق عفان، وسقط من إسناد الحاكم عفان، وتم استدراكه من إتحاف المهرة لابن حجر (14155). وأخرجه الترمذي (1423) من طريق بشر بن عمر، ثلاثتهم (بهز وعفان وبشر) عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = همام، عن قتادة به مرفوعاً. هذا في ما يتعلق بطريق الحسن، عن علي. قال النسائي كما في تحفة الأشراف (7/ 360): " حديث يونس - يعني: الموقوف - أولى من حديث همام عن قتادة". يعني: المرفوع. وقال في السنن الكبرى المطبوع: ما فيه شيء صحيح، والموقوف أصح، هذا أولى بالصواب. اهـ ورواه عن علي جماعة غير الحسن، وإليك بيان مروياتهم: الأول: أبو ظبيان، عن علي. رواه جرير بن حازم، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي، واختلف على جرير: فرواه أبو داود كما في السنن (4399)، والنسائي في الكبرى (7343)، وابن خزيمة في صحيحه (1003)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 74)، وفي مشكل الآثار (3986)، وابن حبان في صحيحه (143)، والدارقطني (3/ 138)، والحاكم في المستدرك (949،2351)، والبيهقي في السنن (4/ 269)، و (8/ 264)،كلهم من طريق ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي مرفوعاً. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وخالفه جماعة رووه عن الأعمش موقوفاً، منهم جرير بن عبد الحميد كما في سنن أبي داود (4399). ووكيع كما في سنن أبي داود أيضاً (4399). وشعبة كما في مسند ابن الجعد (741)، والمستدرك للحاكم (8169). وجعفر ابن عون كما في مستدرك الحاكم (8168). وابن فضيل وعمار بن رزيق كما في علل الدارقطني (3/ 72)، ستتهم رووه عن الأعمش به موقوفاً. كما رواه سعد بن عبيدة عن أبي ظبيان موقوفاً كما في علل الدارقطني (4/ 73). ورواه أبو حصين عن أبي ظبيان به موقوفاً أيضاً، كما هي رواية الستة عن الأعمش. أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 200) رقم: 19237 عن ابن عياش. والنسائي في الكبرى (7345) من طريق إسرائيل، كلاهما عن أبي حصين، عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أبي ظبيان، عن علي به موقوفاً، ولم يذكر في إسناده ابن عباس، وأبو ظبيان لم يسمع من علي، وقد عرف الواسطة بينهما، وهو ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه الطيالسي (90). وأحمد (1/ 154) عن عفان. وأخرجه أيضاً (1/ 158) عن أبي سعيد (عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد مولى بني هاشم) ثلاثتهم عن حماد بن سلمة. وأخرجه أبو داود (4402) من طريق أبي الأحوص وجرير بن عبد الحميد، وأخرجه أبو يعلى (587) من طريق جرير وحده. والبيهقي (8/ 264) من طريق أبي الأحوص وحده. وأخرجه النسائي في الكبرى (7344) من طريق أبي عبد الصمد كلهم (حماد بن سلمة وأبو الأحوص وجرير وأبو عبد الصمد) عن عطاء بن السائب، عن أبي ظبيان، عن علي مرفوعاً. ورجح النسائي رواية أبي حصين، عن أبي ظبيان، على رواية عطاء، عن أبي ظبيان. قال في السنن الكبرى (7345): وهذا حديث أولى بالصواب، وأبو حصين أثبت من عطاء بن السائب، وما حدث جرير بن حازم فليس بذاك. اهـ الثاني: أبو الضحى عن علي. وأخرجه أبو دواد (4403) والبيهقي (3/ 83) و (6/ 56،57)، و (7/ 359)، و (8/ 265) من طريق خالد الحذاء، عن أبي الضحى، عن علي مرفوعاً. وأبو الضحى هو مسلم بن صبيح، لم يدرك علياً. الثالث: القاسم بن يزيد، عن علي. أخرجه ابن ماجه (2042) من طريق ابن جريج، عن القاسم بن يزيد، عن علي مرفوعاً. وذكره أبو داود معلقاً، فقال على إثر حديث (4403) قال: ورواه ابن جريج، عن القاسم بن يزيد، عن علي رضي الله عنه، زاد فيه: والخرف. اهـ والقاسم بن يزيد لم يرو عنه غير ابن جريج، ولم يدرك علياً، وقال فيه الحافظ: مجهول. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وحديث علي بالجملة قد رجح الترمذي وقفه كما في العلل الكبير (ص: 226) رقم 406. كما رجح الدارقطني وقفه كذلك، قال في العلل (3/ 72): وسئل عن حديث ابن عباس، عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون والنائم والصبي، فقال: هو حديث يرويه أبو ظبيان حصين بن جندب واختلف عنه: فرواه سليمان الأعمش واختلف عنه، فقال جرير بن حازم: عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن علي وعن عمر، تفرد بذلك عبد الله بن وهب، عن جرير بن حازم. وخالفه ابن فضيل ووكيع، فروياه عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي وعمر موقوفاً. ورواه عمار بن رزيق، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن علي وعمر موقوفاً، ولم يذكر فيه ابن عباس، وكذلك رواه سعد بن عبيدة، عن أبي ظبيان موقوفاً، ولم يذكر ابن عباس. ورواه أبو حصين، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي وعمر موقوفاً، واختلف عنه: فقيل عن أبي ظبيان، عن علي موقوفاً، قاله أبو بكر بن عياش وشريك عن أبي حصين. ورواه عطاء بن السائب، عن أبي ظبيان، عن علي وعمر مرفوعاً، حدث به عنه حماد ابن سلمة وأبو الأحوص وجرير بن عبد الحميد وعبد العزيز بن عبد الصمد العمى وغيرهم، وقول وكيع وابن فضيل أشبه بالصواب، والله أعلم. قيل: لقي أبو ظبيان عليا وعمر رضي الله عنهما؟ قال: نعم. وقد سبق أن نقلنا عن أبي عبد الرحمن النسائي ترجيح وقفه، فهؤلاء ثلاثة أئمة النسائي والترمذي والدارقطني كلهم رجح الرواية الموقوفة على المرفوعة، والله أعلم بالصواب. وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث كل من: أطراف مسند أحمد (4/ 396)، تحفة الأشراف (7/ 360، 413)، إتحاف المهرة (14155، 14521). والحديث له شواهد، منها حديث عائشة، وأبي قتادة، وابن عباس، وثوبان وغيرهم. الشاهد الأول: حديث عائشة. أخرجه أبو داود الطيالسي (1485) طباعة دار هجر. ورواه أحمد (6/ 100، 101)، والدارمي (2296) والطحاوي في مشكل الآثار (3987)، من طريق عفان. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أحمد أيضاً (6/ 101) عن حسن بن موسى وروح. وأخرجه ابن أبي شيبة (4/ 200) رقم 19239، وأحمد (6/ 144) وأبو داود (4398)، وابن ماجه (2041) من طريق يزيد بن هارون. وأخرجه النسائي في المجتبى (3432) وفي الكبرى (5625) وابن ماجه (2041) وابن الجارود في المنتقى (148، 808) من طريق عبد الرحمن بن مهدي. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (4400)، وابن حبان في صحيحه (142) من طريق شيبان بن فروخ. وأخرجه الحاكم في المستدرك (2350)، والبيهقي (6/ 84،206) و (8/ 41) من طريق أبي الوليد الطيالسي وموسى بن إسماعيل. وأخرجه البيهقي (10/ 317) من طريق محمد بن أبان، كلهم (عفان ويزيد بن هارون وعبد الرحمن بن مهدي وحسن بن موسى وروح بن عبادة وشيبان بن فروخ وأبو الوليد الطيالسي وموسى بن إسماعيل ومحمد بن أبان) رووه عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً. والحديث له ثلاث علل. الأول: تغير حماد بن سلمة. لكن يقال: إن الراوي عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه، وقد قال ابن معين: من أراد أن يكتب حديث حماد بن سلمة، فعليه بعفان بن مسلم. العلة الثانية: تفرد حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان، وقد قال الإمام أحمد: سماع هشام من حماد بن أبي سليمان صالح، ولكن حماد - يعني ابن سلمة - عنده عنه تخليط كثير. اهـ تهذيب التهذيب في ترجمة حماد بن أبي سليمان (3/ 14). العلة الثالثة: حماد بن أبي سليمان، مختلف فيه. وانظر لمراجعة طرق هذا الحديث غير ما عزوت له سابقاً: إتحاف المهرة (21539، 21575)، أطراف مسند الإمام أحمد (9/ 17)، تحفة الأشراف (11/ 353)، التمهيد (1/ 109)، وفي فتح الباري كلام مهم في بيان راجح الموقوف من المرفوع (12/ 121). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الشاهد الثاني: حديث أبي قتادة. رواه الحاكم في المستدرك (8171) من طريق عكرمة بن إبراهيم، حدثني سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي رباح، عن أبي قتادة، رضي الله عنه مرفوعاً. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. قال الذهبي متعقباً: عكرمة ضعفوه. وقد ضعف عكرمة جمع من الأئمة. قال يحيى بن معين كما في رواية عباس بن محمد الدوري: بصري ليس بشيء. الجرح والتعديل (7/ 11). وقال النسائي: ضعيف. وقال أيضاً: ليس بثقة. الضعفاء والمتروكين للنسائي (482)، لسان الميزان (4/ 181). وقال أبو داود: ليس بشيء. لسان الميزان (4/ 181). وقال يعقوب بن سفيان: منكر الحديث. المرجع السابق. وقال البزار: لين الحديث. المرجع السابق. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي المرجع السابق. وذكره بن الجارود وابن شاهين في الضعفاء. المرجع السابق. الشاهد الثالث: حديث ابن عباس. رواه الطبراني في الأوسط (3403) وفي الكبير (11/ 89) رقم 1141 من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبيد الله، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعاً. قال الهيمثي في مجمع الزوائد (6/ 251) رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وقال: لا يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، وفيه عبد العزيز بن عبيد الله بن حمزة، وهو ضعيف. قلت: قال يحيى بن معين: ضعيف لم يحدث عنه إلا إسماعيل بن عياش. الكامل في الضعفاء (5/ 284)، الضعفاء للعقيلي (3/ 21). الشاهد الرابع: حديث شداد بن أوس وثوبان. رواه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 287) رقم (7156) وفي مسند الشاميين =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: الإجماع على أن الكافر والطفل غير المميز لا يصح منه الوضوء، قال ابن تيمية: الأقوال في الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول، ويقصده، فأما المجنون والطفل الذي لا يميز فأقواله كلها لغو في الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود، ولا شيء من الأقوال باتفاق المسلمين (¬1). ¬

= (1/ 216) قال: حدثنا عبد الرحمن بن سلم الرازي، ثنا عبد المؤمن بن علي، أنا عبد السلام بن حرب، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن أبي إدريس واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم شداد بن أوس وثوبان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رفع القلم في الحد عن الصغير حتى يكبر وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق، وعن المعتوه الهالك. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 251): رواه الطبراني، ورجاله ثقات. (¬1) التفسير الكبير (3/ 80).

الشرط الثالث: ارتفاع دم الحيض والنفاس

الشرط الثالث: ارتفاع دم الحيض والنفاس من شروط الوضوء ارتفاع دم الحيض والنفاس، فلو توضأت المرأة، وهي حائض أو نفساء لم يرتفع حدثها، فارتفاعه شرط للوجوب، فلا يجب الوضوء على حائض ونفساء، وشرط للصحة أيضاً، وهذا مذهب الجمهور (¬1). وقيل: ارتفاع الحيض والنفاس شرط وجوب فقط، فيصح الوضوء من الحائض والنفساء، ولا يجب عليها (¬2). قال ابن نجيم من الحنفية: وأما أئمتنا فقالوا: إنه يستحب لها - يعني الحائض- أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وتقعد على مصلاها تسبح، وتهلل وتكبر (¬3). وقد ذهب جمع من السلف إلى تصحيح وضوء الحائض والنفساء، وكأنهم رأوا أن في ذلك تخفيفاً للحدث، كما يتوضأ الجنب للنوم، وإن كان حدثه باقياً. قال ابن رجب: وقد استحب طائفة من السلف أن تتوضأ - يعني الحائض- في وقت كل صلاة مفروضة، وتستقبل القبلة، وتذكر الله عز وجل ¬

(¬1) حاشية العدوي (1/ 129)، الشرح الصغير (1/ 133)، منح الجليل (1/ 77)، الإنصاف (1/ 144) المبدع (1/ 118)، الفروع (1/ 225). (¬2) البحر الرائق (1/ 10)، حاشية ابن عابدين (1/ 86،87)، إلا أن ابن نجيم ذكر أن عدم الحيض والنفاس من شروط الوجوب، ثم ذكر في شروط الصحة: انقطاع الحيض والنفاس فليتأمل. (¬3) البحر الرائق (1/ 203).

بمقدار تلك الصلاة، منهم الحسن وعطاء وأبو جعفر محمد بن علي، وهو قول إسحاق، وروي عن عقبة بن عامر أنه كان يأمر الحائض بذلك، وتجلس بفناء مسجدها، خرجه الجوزجاني. وقال مكحول: كان ذلك من هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن (¬1). (793 - 22) أما قول عطاء: فأخرجه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الملك، عن عطاء أنه كان يقول في الحائض: تتنظف، وتتخذ مكاناً في مواقيت الصلاة تذكر الله فيه (¬2). وسنده صحيح. وأما قول الحسن فقد ثبت عنه بسند صحيح (794 - 23) فقد روى ابن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن يزيد ابن إبراهيم، عن الحسن قال: سمعته يقول في الحائض: تتوضأ عند كل صلاة وتذكر الله. [إسناده صحيح] (¬3). وأما قول أبي جعفر: (795 - 24) فرواه ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: إنا لنأمر نساءنا في الحيض أن يتوضأن في وقت كل صلاة، ثم ¬

(¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 130). (¬2) المصنف (2/ 128) 7265. (¬3) المصنف (1/ 129) رقم 7271.

يجلسن ويسبحن ويذكرن الله (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). وأما قول عقبة بن عامر (796 - 25) فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، عن سعيد ابن أبي أيوب، قال: حدثني خالد بن يزيد الصدفي، عن أبيه عن عقبة بن عامر أنه كان يأمر المرأة الحائض في وقت الصلاة أن تتوضأ وتجلس بفناء المسجد، وتذكر الله وتهلل وتسبح (¬3). ولم أقف على ترجمة خالد بن يزيد الصدفي، ولا ترجمة أبيه، وباقي رجاله ثقات (¬4). والله أعلم. والحق أن استحباب ذلك بدعة. قال ابن رجب: «وأنكر ذلك أكثر العلماء، وقال أبو قلابة: قد سألنا عن هذا فما وجدنا له أصلاً». وقال سعيد بن عبد العزيز: ما نعرف هذا ولكننا نكرهه. ¬

(¬1) المصنف (1/ 128) رقم 7270 (¬2) فيه جابر بن يزيد الجعفي، اتهمه بالكذب، زائدة. وقال أبو حنيفة: ما أتيته بشيء من رأيي إلا جاءني فيه بأثر. وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الحاكم: أبو أحمد ذاهب الحديث. (¬3) المصنف (1/ 128) رقم 7269 (¬4) إلا أن يكون خالد بن يزيد الجمحي، فإنه مصري، يروي عنه سعيد بن أبي أيوب، خاصة أن النسبة إلى الصدف: قال عنها السمعاني في الأنساب (3/ 528): " هي قبيلة من حمير نزلت مصر ". فإن كان هو فإنه ثقة، من رجال الجماعة.

وقال ابن عبد البر: على هذا القول جماعة من الفقهاء، وعامة العلماء في الأمصار (¬1). (797 - 26) وقول أبي قلابة الذي أشار إليه الحافظ ابن رجب. قد رواه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا معتمر، عن أبيه، قال: قيل لأبي قلابة: الحائض تسمع الأذان فتوضأ، وتكبر، وتسبح، قال: قد سألنا عن ذلك فما وجدنا له أصلاً. [وسنده صحيح] (¬2). روى ابن أبي شيبة قال: حدثنا ابن مهدي، عن شعبة، قال: سألت الحكم وحماداً فكرهاه (¬3). فأين الدليل على مشروعية الوضوء للحائض؟ قال النووي: إذا قصدت الطهارة تعبداً مع علمها بأن لا تصح فتأثم بهذا؛ لأنها متلاعبة بالعبادة، فأما إمرار الماء عليها بغير قصد العبادة فلا تأثم به بلا خلاف، وهذا كما أن الحائض إذا أمسكت عن الطعام بقصد الصوم أثمت، وإن أمسكت بلا قصد لم تأثم اهـ (¬4). ¬

(¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 130). (¬2) المصنف ـ ابن أبي شيبة (1/ 128) رقم 7266. (¬3) المصنف (1/ 128) رقم 7268. (¬4) المجموع (2/ 382).

الشرط الرابع: طهورية الماء

الشرط الرابع: طهورية الماء اشترط الجمهور أن يكون الماء طهوراً مطلقاً، فإن كان الماء نجساً فلا يصح الوضوء منه قولاً واحداً، وإن كان الماء طاهراً - كالماء المستعمل في رفع حدث- فإن الحدث لا يرتفع عند جماهير أهل العلم (¬1). وقيل: يصح الوضوء بالماء المستعمل، ولا يوجد قسم من الماء اسمه طاهر، فليس هناك إلا ماء طهور ونجس، ولا وجود لقسم ثالث طاهر غير مطهر. وقد قدمت أدلة كل فريق في كتاب المياه، وترجح أن الماء قسمان فقط، فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق. ¬

(¬1) قال ابن نجيم من الحنفية، وهو يعدد شروط الوضوء (1/ 10): ووجود الماء المطلق الطهور الكافي. وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 87) وغمز عيون البصائر (2/ 6). وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 134): وجود ما يكفي جميع البدن من الماء المطلق. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 84)، وحاشية العدوي (1/ 129). وقال ابن رسلان من الشافعية في زبده (ص: 44): ماء طهور مطلق. وانظر حاشية البجيرمي (1/ 64)، وحاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 51). ونص على هذا الشرط أيضاً الحنابلة في كتبهم، انظر كشاف القناع (1/ 85)، مطالب أولي النهى (1/ 104)، الإنصاف (1/ 144) المبدع (1/ 118)، الفروع (1/ 225). وقد اختلف الفقهاء في ما لو وجد ماء يكفي بعض طهره، هل يتوضأ أو يتيمم، أو يتوضأ بما يقدر عليه، ويتيمم للباقي، وسوف تأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى في فصل مستقل، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه.

الشرط الخامس: إزالة ما يمنع وصول الماء إلى أعضاء الوضوء

الشرط الخامس: إزالة ما يمنع وصول الماء إلى أعضاء الوضوء من شروط الوضوء: إزالة ما يمنع وصول الماء على أعضاء الوضوء، من دهن جامد أو شمع ونحوهما، وهذا محل اتفاق بين المذاهب الأربعة. لأن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل أعضاء الوضوء: الوجه واليدين والرجلين إذا كانتا مكشوفتين، فإذا كان على العضو المغسول ما يمنع من وصول الماء لم يتحقق امتثال الأمر، فيكون الغسل ناقصاً، وإذا كان ناقصاً لم يتم وضوءه. وإنما اختلفوا في الوسخ يكون على الظفر، ويمنع من وصول الماء هل يصح وضوءه أم لا؟ فقيل: تجب إزالته مطلقاً، ولا يصح الوضوء مع وجوده، اختاره المتولي من الشافعية (¬1)، وابن عقيل من الحنابلة (¬2). وقيل: لا تجب إزالته مطلقاً، ويعفى عنه، اختاره الغزالي من الشافعية (¬3)، ومال إليه ابن قدامة من الحنابلة (¬4). ¬

(¬1) المجموع (1/ 340). (¬2) قال ابن قدامة في المغني (1/ 86): " وإذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته، فقال ابن عقيل: لا تصح طهارته حتى يزيله " اهـ. (¬3) تحفة المحتاج (1/ 187)، وقال النووي في المجموع (1/ 340): " ولو كان تحت الأظفار وسخ، فإن لم يمنع وصول الماء إلى ما تحته لقلته صح الوضوء. وإن منع، فقطع المتولي بأنه لا يجزيه، ولا يرتفع حدثه، كما لو كان الوسخ في موضع آخر من البدن. وقطع الغزالي في الإحياء بالإجزاء وصحة الوضوء والغسل، وأنه يعفى عنه للحاجة اهـ. (¬4) المغني (1/ 86).

وقيل: إن كان ما تحت الظفر يسيراً عفي عنه، وإن فحش وجبت إزالته، وهو مذهب المالكية (¬1)، وأومأ إليه ابن دقيق العيد (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3). وقد ذكرت أدلة كل قول، وما هو الراجح فيه في كتابي سنن الفطرة، فأغنى عن إعادته هنا، فارجع إليه غير مأمور. ¬

(¬1) قال في الفواكه الدواني (1/ 140): " ولا يلزمه إزالة ما تحت أظافره من الأوساخ إلا أن يخرج عن المعتاد، فيجب عليه إزالته، كما يجب عليه قلم ظفره الساتر لمحل الفرض. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 88). (¬2) قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (1/ 125): " إذا لم يخرج طول الأظفار عن العادة يعفى عن يسير الوسخ، وأما إذا زاد على المعتاد، فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة، وقد ورد في بعض الأحاديث الإشارة إلى هذا المعنى. اهـ. وقد يعتبر هذا من ابن دقيق العيد قولاً رابعاً، وهو أن الأظفار إذا خرج طولها عن المعتاد أصبح ما يتعلق بها من الوسخ مانعاً من حصول الطهارة، وإذا كان طولها معتاداً لم يمنع الوسخ. والله أعلم. (¬3) يرى ابن تيمية العفو عن كل يسير يمنع وصول الماء، ولم يخصصه في الأظفار، قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/ 303): " وإن منع يسير وسخ ظفر ونحوه وصول الماء صحت الطهارة، وهو وجه لأصحابنا، ومثله كل يسير منع وصول الماء حيث كان كدم وعجين الخ كلامه اهـ.

الشرط السادس: دخول الوقت على من به حدث دائم

الشرط السادس: دخول الوقت على من به حدث دائم ذهب الجمهور إلى اشتراط دخول الوقت في صحة طهارة من به حدث دائم كالمستحاضة ومن به سلس بول ونحوهما، فلو تطهر قبل دخول الوقت لم تصح طهارته (¬1). وقيل: لا يشترط دخول الوقت، بل لا يعتبر خروج دم الاستحاضة وكذا من به سلس بول، لا يعتبر حدثاً ناقضاً للوضوء، وإنما يستحب منه الوضوء ولايجب، وهذا مذهب المالكية (¬2). وقد بحثت هذه المسألة بشيء من الاستفاضة في كتابي الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا (¬3). ¬

(¬1) الاختيار لتعليل المختار (3/ 508)، حاشية ابن عابدين (1/ 504)، البحر الرائق (1/ 226)، مراقي الفلاح (ص: 60)، تبيين الحقائق (1/ 64)، بدائع الصنائع (1/ 28). المجموع (1/ 543،363)، مغني المحتاج (1/ 111)، روضة الطالبين (1/ 147،125). المغني (1/ 421)، شرح منتهى الإرادات (1/ 120)، كشاف القناع (1/ 215)، الإنصاف (1/ 377)، الفروع (1/ 279)، شرح الزركشي (1/ 437). (¬2) مواهب الجليل (1/ 291)، حاشية الدسوقي (1/ 116)، الخرشي (1/ 152)، القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 29)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 508)، الاستذكار (3/ 225 - 226). (¬3) انظر (3/ 1109) في خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة.

الشرط السابع: هل يشترط أن يكون ماء الوضوء مباحا؟

الشرط السابع: هل يشترط أن يكون ماء الوضوء مباحاً؟ اختلف الفقهاء هل يشترط في الوضوء أن يكون الماء مباحاً؟ فقيل: لا يشترط، فلو توضأ بماء محرَّم كالمغصوب أثم، وارتفع حدثه وخبثه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: لا تصح الطهارة به، ويرتفع به الخبث، اختاره بعض الحنابلة (¬4). وقيل: لا يرتفع به حدث، ولا خبث، وهو من مفردات مذهب الحنابلة (¬5)، وهو اختيار ابن حزم (¬6). وسبب اختلافهم في هذه المسألة: أنه ورد على هذا الوضوء أمران: واجب ومحرم، فالوضوء للصلاة واجب، وأخذ مال الغير بدون وجه حق ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 48)، الفصول في الأصول (2/ 179)، حاشية ابن عابدين (1/ 341). (¬2) أنواع البروق في أنواع الفروق (2/ 84)، الخرشي (1/ 181)، و (3/ 44)، الفواكه الدواني (1/ 124)، حاشية الدسوقي (1/ 144) و (3/ 54)، منح الجليل (1/ 138). (¬3) إعانة الطالبين (1/ 55)، المجموع (2/ 295)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 59،68). (¬4) قال في منار السبيل (1/ 15): " ماء يحرم استعماله ولا يرفع الحدث، ويزيل الخبث وهو ماليس مباحاً كمغصوب ونحوه ". اهـ (¬5) قال في الإنصاف (1/ 28): وأما الوضوء بالماء المغصوب فالصحيح من المذهب أن الطهارة لا تصح به، وهو من مفردات المذهب. وعنه: تصح وتكره، اختاره ابن عبدوس في تذكرته. اهـ وانظر قواعد ابن رجب، القاعدة التاسعة (ص: 12)، كشاف القناع (1/ 30)، مطالب أولي النهى (4/ 62)، المبدع (1/ 40). (¬6) المحلى (1/ 208).

محرم، فلا يمكن أن يكون الشيء واجباً ومحرماً في الوقت نفسه، كما أن الوضوء قربة لله سبحانه وتعالى، ووضوءه بماء مغصوب محرم، والمحرم لا يكون قربة يتقرب بها العبد إلى الله. والذين ذهبوا إلى صحة الوضوء رأوا أن التحريم راجع إلى أمر خارج عن الوضوء، وهو الغصب، وقد غسل الإنسان أعضاءه فارتفع حدثه مع الإثم، فالتحريم والصحة غير متلازمين، وهناك أدلة أثرية ونظرية لكل فريق ذُكِرَتْ بشيء من التفصيل في كتابي أحكام الطهارة (المياه والآنية) (¬1) فارجع إليها غير مأمور، فقد أغنى ذكرها هناك عن إعادتها هنا. ¬

(¬1) أحكام الطهارة، الباب الثاني: الوضوء بالماء المحرم (ص: 95 - 102).

الشرط الثامن: القدرة على استعمال الماء

الشرط الثامن: القدرة على استعمال الماء نص الحنفية والمالكية على هذا الشرط (¬1)، وأن من شروط الوضوء القدرة على استعمال الماء، والحقيقة أن القدرة على الفعل ليست شرطاً خاصاً بالوضوء، بل إن جميع التكاليف لا تجب إلا بالقدرة على فعلها، فمن عجز عن أداء شيء فإن كان له بدل، وجب البدل، وإن لم يكن له بدل سقط عنه حتى يقدر على فعله {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (¬2)، {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬3). (798 - 27) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبدان، عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان قال: حدثني الحسين المكتب، عن ابن بريدة، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صل قائماً؛ فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب (¬4). وما دام أن هذا الشرط لا يختص بالوضوء فكان الأفضل عدم ذكره من شروط الوضوء، والله أعلم. ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 10)، حاشية ابن عابدين (1/ 87)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 6)، غمز عيون البصائر (2/ 6)، مواهب الجليل (1/ 182)، حاشية الدسوقي (1/ 84)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 134)، منح الجليل (1/ 77). (¬2) البقرة: 286. (¬3) التغابن: 16. (¬4) الوضوء (1117).

الشرط التاسع: قيام الحدث

الشرط التاسع: قيام الحدث وهذا شرط وجوب، فمن لم يكن محدثاً لم يجب عليه الوضوء. الدليل على هذا من السنة والإجماع. (799 - 28) أما السنة فقد روى البخاري، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال حدثنا سفيان، عن عمرو بن عامر قال: سمعت أنس بن مالك قال ح وحدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن سفيان قال: حدثني عمرو بن عامر، عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث (¬1). الدليل الثاني: (800 - 29) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد ح وحدثني محمد بن حاتم واللفظ له، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال: حدثني علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه. قال: عمداً صنعته يا عمر (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (214). (¬2) صحيح مسلم (277).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (801 - 30) ما رواه البخاي، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار مولى بني حارثة، أن سويد بن النعمان أخبره، أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء، وهي أدنى خيبر، فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به، فثري، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ (¬1). الدليل الرابع: أن المسألة شبه إجماع، قال ابن تيمية: «من توضأ لصلاة صلى بذلك الوضوء صلاة أخرى - فهذا قول عامة السلف والخلف، والخلاف في ذلك شاذ. وقد علم بالنقل المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يوجب الوضوء على من صلى ثم قام إلى صلاة أخرى؛ فإنه قد ثبت بالتواتر، أنه صلى بالمسلمين يوم عرفة الظهر والعصر جميعاً، جمع بهم بين الصلاتين، وصلى خلفه ألوف مؤلفة لا يحصيهم إلا الله، ولما سلم من الظهر صلى بهم العصر، ولم يحدث وضوءاً لا هو ولا أحد، ولا أمر الناس بإحداث وضوء، ولا نقل ذلك أحد، وهذا يدل على أن التجديد لا يستحب مطلقاً» (¬2). وقال أيضاً: ((لما قدم مزدلفة: صلى بهم المغرب والعشاء جمعاً من غير تجديد وضوء للعشاء، وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة. وأقام لكل صلاة إقامة، وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من ¬

(¬1) صحيح البخاري (209). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 371).

حديث ابن عمر وابن عباس وأنس رضي الله عنهم كلها تقتضي: أنه هو - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون خلفه - صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى، لم يحدثوا لها وضوءاً. وكذلك قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث ابن عباس وعائشة وغيرهم أنه كان يتوضأ لصلاة الليل، فيصلي به الفجر، مع أنه كان ينام حتى يغط، ويقول: تنام عيناي ولا ينام قلبي، فهذا أمر من أصح ما يكون أنه: كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأ للنافلة يصلي به الفريضة، فكيف يقال: إنه كان يتوضأ لكل صلاة؟ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، ثم قدم عليه وفد عبد القيس، فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر، ولم يحدث وضوءاً، وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة، وتارة النافلة ثم الفريضة، وتارة فريضة ثم فريضة، كل ذلك بوضوء واحد، وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة، وكان المسلمون على عهده يتوضئون، ثم يصلون ما لم يحدثوا، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، ولم ينقل عنه - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف -: أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة، فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل. وأما القول بوجوبه: فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولإجماع الصحابة. والنقل عن علي رضي الله عنه بخلاف ذلك لا يثبت؛ بل الثابت عنه خلافه، وعلي رضي الله عنه أجل من أن يخفى عليه مثل هذا، والكذب على علي كثير مشهور أكثر منه على غيره، وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله أن يكون في هذه المسألة نزاع، مع جلالة قدره وسعة معرفته بآثار الصحابة والتابعين، قال أحمد بن القاسم: سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد؟ فقال: لا بأس بذلك إذا لم ينتقض وضوءه، ما ظننت أن أحداً أنكر هذا)) (¬1). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 372).

(802 - 31) وأما ما رواه أحمد، قال: ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازني مازن بني النجار، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر، قال: قلت له: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر عمَّ هو؟ فقال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبى عامر ابن الغسيل حدثها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. قال: فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك فكان يفعله حتى مات (¬1). [في إسناده اختلاف، وحسن إسناده الحافظ] (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (5/ 225) (¬2) سبق تخريجه في كتابي أحكام الطهارة (سنن الفطرة) رقم الحديث: 691.

الشرط العاشر: النية

الشرط العاشر: النية والكلام في النية طويل ومتشعب، لذا سوف يحصر الكلام على النية في المباحث التالية: في تعريفها، وبيان حكمها، وذكر محلها، وشروطها، وفي وقتها، وفي كيفيتها. المبحث الأول: تعريف النية تعريف النية لغة: النيات جمع نية، نوى الشيء ينويه نواة، ونية: قصد وعزم عليه. يقال: نوى القوم منزلاً: أي قصدوه، ونوى الأمر ينويه: إذا قصد إليه. ويقال: نواك الله بالخير: أي أوصله إليك. ويقال: نوى الشيء ينويه: أي عزم عليه. وقيل: النوى التحول من دار إلى دار، قال ابن فارس: هو الأصل في المعنى، ثم حملوا عليه الباب كله، فقالوا: نوى الأمر ينويه إذا قصده، والنية: الوجه الذي تنويه (¬1). وقيل: النية: هي الإرادة (¬2). وعلى هذا فالنية تدور على القصد والعزم والإرادة والجهة والتحول. ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة (5/ 366). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 127)، جامع العلوم والحكم (ص: 15) ..

النية في اصطلاح الفقهاء

النية في اصطلاح الفقهاء. تعريف الحنفية: قال ابن عابدين: النية: قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل (¬1). تعريف المالكية: النية: قصد المكلف الشيء المأمور به (¬2). تعريف الشافعية: قال الماوردي: هي قصد الشيء مقترناً بفعله، فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم (¬3). وقال النووي: النية عزم القلب على عمل فرض أو غيره (¬4). تعريف الحنابلة: قال البهوتي: النية شرعاً: هي عزم القلب على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى. وهذا التعريف جيد، وذلك أنه أشار في التعريف إلى ذكر التقرب إلى الله بالامتثال، وهو ما يخرج العادة إلى العبادة، والنية إنما يحتاج إليها في العبادات؛ وأما في المباحات فليست محل ثواب ولا عقاب لذاتها. ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 105). (¬2) حاشية العدوي (1/ 203). (¬3) المنثور في القواعد (3/ 284)، منتهى الآمال (ص: 83). (¬4) المجموع (1/ 353).

المبحث الثاني: في حكم النية

المبحث الثاني: في حكم النية اختلف الفقهاء في النية، هل هي شرط من شروط الوضوء، أو لا؟. فقيل: النية سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في طهارة التيمم، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: النية شرط لطهارة الحدث مطلقاً: الأصغر والأكبر، بالماء أو التيمم، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وهو الراجح. وقيل: يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بلا نية، وهو قول الأوزاعي (¬5). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 32)، البناية في شرح الهداية (1/ 173)، تبيين الحقائق (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 24)، بدائع الصنائع (1/ 19)، مراقي الفلاح (ص:29). (¬2) المالكية يرون أن النية فرض من فروض الوضوء، فهم يتفقون مع الجمهور على وجوبها، ويختلفون في حكم الوجوب هل هي شرط في صحة الوضوء، أو فرض من فروض الوضوء؟ فالشافعية والحنابلة يرون أن النية شرط، بينما المالكية يرون أن النية من فروض الوضوء انظر حاشية الدسوقي (1/ 85)، مواهب الجليل (1/ 182،230)، الفواكه الدواني (1/ 135)، مختصر خليل (ص: 13)، القوانين الفقهية (ص:19)، الخرشي (1/ 129)، الشرح الصغير (1/ 114،115)، منح الجليل (1/ 84)، الكافي (1/ 19). (¬3) المجموع (1/ 355)، الروضة (1/ 47)، مغني المحتاج (1/ 47)، نهاية المحتاج (1/ 156)، الحاوي الكبير (187)، متن أبي شجاع (ص:5). (¬4) معونة أولي النهى شرح المنتهى (1277)، الممتع شرح المقنع (1/ 176)، المحرر (1/ 11)، كشاف القناع (1/ 85)، المغني (1/ 156)، الكافي (1/ 23)، المبدع (1/ 116). (¬5) الأوسط لابن المنذر (1/ 370).

وسبب الاختلاف في اشتراط النية للطهارة ما قاله ابن رشد: اختلف العلماء هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا؟ بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (¬1) ثم قال: وسبب اختلافهم: تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة أعني غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى، كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى نية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين (¬2). وقد ذكرت أدلة الأقوال وناقشتها نقاشاً مستفيضاً في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية فارجع إليه غير مأمور. ¬

(¬1) البينة: 5. (¬2) بداية المجتهد (1/ 103).

المبحث الثالث: في محل النية

المبحث الثالث: في محل النية أكثر الفقهاء على أن النية محلها القلب (¬1). وقيل: محلها الدماغ، وهو رواية عن أحمد (¬2)، ونسب هذا القول لأبي حنيفة (¬3). ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (2/ 95)، أدب الدنيا والدين - علي بن محمد الماوردي (ص:18) أسنى المطالب (4/ 59)، إغاثة اللهفان (1/ 136)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 35)، غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 469). (¬2) قال في شرح الكوكب المنير (25): المشهور عن أحمد أنه في الدماغ، وقاله الطوفي والحنفية. اهـ العدة (1/ 89)، التمهيد (1/ 48)، شرح الكوكب المنير (1/ 84). (¬3) جاء في البحر المحيط (1/ 122): اختلفوا في محله: فقيل لا يعرف محله, وليس بشيء. وعلى المشهور فيه ثلاثة أقوال , وعند أصحابنا -كما نقله ابن الصباغ وغيره - أنه القلب; لأنه محل لسائر العلوم. وقالت الفلاسفة والحنفية: الدماغ, والأول منقول عن أحمد والشافعي ومالك, والثاني: منقول عن أبي حنيفة حكاه الباجي عنه, ورواه ابن شاهين عن أحمد بن حنبل أيضا. والثالث: أنه مشترك بين الرأس والقلب. وقال الأشعري: لكل حاسة منه نصيب, وهذا يصلح أن يكون قولاً رابعاً. وذكر إمام الحرمين في " النهاية " في باب أسنان إبل الخطأ: أنه لم يتعين للشافعي محله، وهذا يصلح أن يكون قولا خامساً. وقيل: الصدر, ولعل قائله أراد القلب. وقيل: هو معنى يضيء في القلب, وسلطانه في الدماغ; لأن أكثر الحواس في الرأس، ولهذا قد يذهب بالضرب على الدماغ، حكاه ابن سراقة، قال: وقال آخرون من أصحابنا: هو قوة وبصيرة في القلب منزلته منه منزلة البصر من العين. الخ كلامه رحمه الله.

دليل القول الأول

وقيل: محلها مشترك بين الرأس والقلب (¬1). دليل القول الأول: قال تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} (¬2). وقال تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} (¬3). وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} (¬4). وقال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (¬5). (803 - 32) ومن السنة ما رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً، قال: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب، ورواه مسلم أيضاً (¬6). دليل من قال: العقل في الدماغ. لم أقف على شيء من الآيات والأحاديث تدل على أن العقل في الدماغ، ولكن يذكر الأطباء المعاصرون والفلاسفة المتقدمون: أن القلب إنما هو عبارة عن مضخة للدم، تدفعه إلى جميع أجزاء الجسم، وأن العقل محله ¬

(¬1) جاء في تبيين الحقائق (4/ 32) العقل معدنه القلب، وشعاعه في الدماغ، والجنون انقطاع ذلك الشعاع. اهـ وانظر البحر المحيط (1/ 122). (¬2) الأعراف: 179. (¬3) الأنعام: 25. (¬4) الحج: 46. (¬5) الحج: 46 (¬6) البخاري (52)، ومسلم (1599).

الدماغ، وأن الدماغ هو مصدر الذاكرة والتذكر، وأن الدماغ إذا أصيب بشيء عرض له ما يسمى بفقدان الذاكرة، فلا يتذكر الإنسان من ماضيه شيئاً، وأن هناك عمليات أجريت في نقل القلب من إنسان كافر إلى إنسان مسلم، وأن المسلم بمجرد أن أفاق نطق الشهادة، وأقام الصلاة، مع أن قلبه قد نقل من بدن كافر لا يعرف الله سبحانه وتعالى. وهذا الكلام لا يمكن أن يعارض به النصوص الشرعية، فإننا نتهم الطب، إذا كان فهم النص قاطعاً، فإن لم يكن الفهم قاطعاً بأن كان ظنياً فإن العلماء مطالبون بفهم النصوص بما يتفق مع الحقائق العلمية، بشرط أن تكون هذه حقائق، وليست نظريات قابلة للتغير؛ لأن الطب ما زال ينقصه الشيء الكثير، ولن يزال كذلك ما دام من نتاج العقل البشري، فإن العقل آفته النقص وهو مهما أوتي يبقى كما قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} (¬1). {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (¬2). {قل أأنتم أعلم أم الله} (¬3). وقد سمعت بعض مشايخي يقول: إن العقل يصور الشيء، والقلب يقبله أو يرده، فيكون القلب محل الرغبة والرهبة والقبول والرفض، والعقل محل إدراك الشيء وتصوره، وهذا جمع حسن، وقد رأينا أن عاطفة الإنسان من حبه للشيء وميله إليه يجده في قبله، كما أن كراهية الشيء ومقته يجدها في ¬

(¬1) الإسراء: آية: 85. (¬2) الملك: آية: 14. (¬3) البقرة: 140.

قلبة، فمحل الفرح والحزن والحسرة هي في القلب، وقد يكون القلب وهو يتحكم في الدم، وقد سمي الدم نفساً كما في قول الفقهاء: ما لا نفس له سائلة، فإذا كان يتحكم في هذا الدم (النفس) الذي بواسطته بعد الله سبحانه وتعالى تكون حياة جميع الأعضاء بما في ذلك الدماغ يكون هو مصدر إمداد مادة الحياة لها كلها، فيكون هو محل ذلك كله، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) جاء في مواهب الجليل (1/ 231): قال المازري في شرح التلقين: أكثر الفقهاء وأقل الفلاسفة على أن العقل في القلب، وأكثر الفلاسفة وأقل الفقهاء على أنه في الدماغ، محتجين بأنه إذا أصيب الدماغ فسد العقل، وبطلت العلوم والفكر وأحوال النفس. وأجيب: بأن استقامة الدماغ لعلها شرط، والشيء يفسد لفساد شرطه، ومع الاحتمال فلا جزم، بل النصوص واردة بأن ذلك في القلب، وذكر الآيات، ثم قال: وإذا تقرر أن العقل في القلب لزم على أصولنا أن النفس في القلب؛ لأن جميع ما ينسب للعقل من الفكر والعلوم صفات للنفس، فتكون النفس في القلب عملا بظاهر النصوص، وقد قال بعض العلماء: إن النفس هي الروح، وهي العقل تسمى نفساً باعتبار ميلها إلى الملاذ والشهوات، وروحا باعتبار تعلقها بالجسد تعلق التدبير بإذن الله تعالى، وعقلا باعتبار كونها محصلة للعلوم، فصار لها ثلاثة أسماء باعتبار ثلاثة أحوال، والموصوف واحد، وإذا كانت النفس في القلب كانت النية وأنواع العلوم وجميع أحوال النفس في القلب، والعبارة التي ذكرها في كتاب الأمنية عن المازري لم أرها في شرح التلقين في الكلام على النية، وإنما رأيت العبارة التي ذكرها المصنف في التوضيح، ونقلها في الذخيرة، ولعل العبارة الأخرى ذكرها المازري في غير هذا الموضع، وزاد المازري بعد ذكره القولين: وهذا أمر لا مدخل للعقل فيه، وإنما طريقه السمع، وظواهر السمع تدل على صحة القول الأول. وذكر ابن رشد نحو ما تقدم ثم قال: والتحقيق أن الجسم قالب للنفس هي فيه كالسيف في الغمد وكالسلطان الجالس بقبته، والقلب سرير والدماغ كرسيه، الخ كلامه رحمه الله. (تنبيه) قال القرافي في الفرق السادس والعشرين: فتاوى العلماء متظافرة على أن الطهارة وستر العورة والاستقبال من واجبات الصلاة , وأجمعوا على أن من توضأ قبل الوقت واستتر واستقبل ثم جاء الوقت وهو على هذه الصورة وصلى من غير أن يجدد فعلا في هذه الثلاثة أجزأته صلاته إجماعاً، والله تعالى أعلم.

المبحث الرابع: في أقسام النية

المبحث الرابع: في أقسام النية تنقسم النية إلى أقسام، نتعرض فيها إلى ما يخصنا في باب الفقه، فقد قسمها الفقهاء إلى قسمين: نية فعلية موجودة: وهي النية التي يأتي بها الإنسان في أول العبادة، كنية الوضوء والصلاة والصيام ونحوها. ثم إذا ذهل عنها فهي تسمى نية حكمية، بمعنى أن الشرع حكم باستصحابها، وكذلك الإخلاص والإيمان والنفاق والرياء وجميع هذا النوع من أحوال القلوب إذا شرع فيها واتصف القلب بها كانت نية فعلية, ثم إذا ذهل عنها حكم صاحب الشرع ببقاء أحكامها لمن اتصف بها، وتسمى نية حكمية. وهو ما يطلق عليه الفقهاء بقولهم: يجب استصحاب حكم النية، ولا يجب استصحاب ذكرها. والدليل على ذلك قوله تعالى {إنه من يأت ربه مجرما} (¬1)، مع أنه يوم القيامة لا يكون أحد مجرماً، ولا كافراً؛ لظهور الحقائق (¬2). ¬

(¬1) طه: 74. (¬2) مواهب الجليل (1/ 233).

المبحث الخامس: في الجهر بالنية

المبحث الخامس: في الجهر بالنية ومع أن محل النية عند الفقهاء هو القلب، فقد اختلف الفقهاء في الجهر بالنية باللسان، فقيل: لا يشرع، وحكي إجماعاً (¬1)، واستثنى بعضهم الحج (¬2). وقيل: يستحب التلفظ بالنية، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، ¬

(¬1) قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/ 214): وقد اتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع، بل من اعتاده فإنه ينبغي له أن يؤدب تأديبا يمنعه عن التعبد بالبدع، وإيذاء الناس برفع صوته، والله أعلم. وقال ابن تيمية كما في الفروع (1/ 139): واتفق الأئمة أنه لا يشرع الجهر بها، ولا تكريرها، بل من اعتاده ينبغي تأديبه، وكذا بقية العبادات، وقال: الجاهر بها مستحق للتعزير بعد تعريفه، لا سيما إذا آذى به أو كرره، وقال: الجهر بلفظ النية منهي عنه عند الشافعي وسائر أئمة الإسلام، وفاعله مسيء، وإن اعتقده دينا خرج عن إجماع المسلمين، ويجب نهيه، ويعزل عن الإمامة إن لم ينته. اهـ ولعل الاتفاق يقصد به اتفاق أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد دون أصحابهم، فإن الخلاف بين أصحاب المذاهب محفوظ في استحباب الجهر بها، ولذلك قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (2/ 90): التلفظ بها هل هو مستحب أم لا؟ هذا فيه قولان معروفان للفقهاء، منهم من استحب التلفظ بها، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وقالوا: التلفظ بها أوكد، واستحبوا التلفظ بها في الصلاة والصيام والحج وغير ذلك، ومنهم من لم يستحب التلفظ بها، كما قال ذلك من قاله من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما. اهـ (¬2) قال في الإقناع (1/ 24): والتلفظ بها وبما نواه هنا وفي سائر العبادات بدعة، إلا في الإحرام، واستحبه سراً مع القلب كثير من المتأخرين، ومنصوص أحمد وجميع المحققين خلاف هذا إلا في الإحرام. اهـ (¬3) قال ابن عابدين في حاشيته (1/ 108): وهل يستحب التلفظ بها - يعني: النية- أو يسن أو يكره؟ فيه أقوال، اختار في الهداية الأول.

دليل من قال: يشرع التلفظ بها

ومذهب الشافعية (¬1). واختلفوا في النطق بها سراً، فقيل: لا يشرع، وهو المنصوص عن أحمد (¬2). وقيل: يستحب النطق بها سراً، قال به المتأخر ون من الحنابلة (¬3). دليل من قال: يشرع التلفظ بها. قالوا: يستحب التلفظ بها ليوافق اللسان القلب. وربما قاسه بعضهم على التلبية عند الإحرام، وليست التلبية جهراً بالنية، وإنما كما قلنا: هي بمثابة تكبيرة الإحرام، ولا يشرع أن يقول عند التلبية: اللهم إني أريد نسك كذا وكذا فيسره لي. ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (6/ 302): ومحل النية القلب ولا يشترط نطق اللسان بلا خلاف، ولا يكفي عن نية القلب بلا خلاف، ولكن يستحب التلفظ مع القلب كما سبق في الوضوء. اهـ وقال أيضاً (3/ 358): النية الواجبة في الوضوء هي النية بالقلب، ولا يجب اللفظ باللسان معها، ولا يجزئ وحده، وإن جمعهما فهو آكد وأفضل، هكذا قاله الأصحاب واتفقوا عليه. اهـ وقال في روضة الطالبين (1/ 50): يستحب أن ينوي بقلبه، ويتلفظ بلسانه. وذكر في سنن الوضوء (1/ 63) أن يجمع في النية بين القلب واللسان. اهـ (¬2) جاء في الفروع (1/ 111) قال أبو داود: قلت لأحمد: أنقول قبل التكبير شيئاً، قال: لا، واختاره شيخنا، وأنه منصوص أحمد. الخ كلامه رحمه الله، وانظر شرح منتهى الإرادات (1/ 183)، كشاف القناع (1/ 328). (¬3) كشاف القناع (1/ 87) الفروع (1/ 111) الشرح الكبير (1/ 26)، الإقناع (1/ 24).

دليل من قال: لا يشرع الجهر بالنية

دليل من قال: لا يشرع الجهر بالنية. الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، قال تعالى: {قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض} (¬1). الدليل الثاني: لا يوجد دليل يدل على مشروعية الجهر بالنية، وعليه يكون الجهر بها بدعة. قال ابن القيم: ولم يكن يقول - صلى الله عليه وسلم - في أوله: نويت رفع الحدث، ولا إستباحة الصلاة، لا هو ولا أحد من الصحابة البتة، ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف (¬2). وقال ابن تيمية: اتفق الأئمة أنه لا يشرع الجهر بها، ولا تكريرها، بل من اعتاده ينبغي تأديبه، وكذا بقية العبادات، وقال: الجاهر بها مستحق للتعزير بعد تعريفه، لا سيما إذا آذى به، أو كرره، وقال: الجهر بها بلفظ النية منهي عنه عند الشافعي وسائر أئمة الإسلام، وفاعله مسيء، وإن اعتقده ديناً خرج من إجماع المسلمين، ويجب نهيه، ويعزل عن الإمامة إن لم ينته (¬3). واستحب في المشهور من مذهب الإمام أحمد النطق بها سراً كما في الشرح الكبير، لكن قال في الإقناع: ((والتلفظ بها وبما نواه هنا وفي سائر ¬

(¬1) الحجرات: 16. (¬2) زاد المعاد (1/ 296). (¬3) الفروع (1/ 139).

العبادات بدعة، واستحبه سراً مع القلب كثير من المتأخرين، ومنصوص أحمد وجميع المحققين خلافه إلا في الإحرام)). اهـ قلت: لا يستثنى شيء، لا في الإحرام ولا في غيره على الصحيح، فلا يشرع لمن أراد الإحرام أن يقول: اللهم إني نويت نسك كذا، ولم يرد ذلك في حديث صحيح، ولا ضعيف، والتلبية ليست جهراً بالنية، وإنما هي بمثابة تكبيرة الإحرام للصلاة، لا تعتبر جهراً بالنية.

المبحث السادس: الحكمة من مشروعية النية

المبحث السادس: الحكمة من مشروعية النية الحكمة من مشروعيتها تمييز العبادات عن العادات، وتمييز ما كان لله سبحانه وتعالى عما كان لغيره، وكذلك تمييز العبادات بعضها عن بعض، فهذه فريضة، وهذه نافلة. فالصيام مثلاً قد يكون حمية، وقد يكون قربة، والغسل قد يكون تبرداً ونظافة، وقد يكون عبادة، ولا يميز هذا عن ذاك إلا النية. قال في مواهب الجليل، في بيان حكمة مشروعيتها: وحكمة ذلك والله تعالى أعلم تمييز العبادات عن العادات، ليتميز ما هو لله تعالى عما ليس له، أو تتميز مراتب العبادات في أنفسها لتمييز مكافأة العبد على فعله، ويظهر قدر تعظيمه لربه، فمثال الأولى: الغسل، يكون عبادة وتبرداً، وحضور المساجد يكون للصلاة وفرجة، والسجود لله أو للصنم. ومثال الثاني الصلاة: لانقسامها إلى فرض ونفل، والفرض إلى فرض على الأعيان، وفرض على الكفاية، وفرض منذور وفرض غير منذور، ومن هنا يظهر كيفية تعلقها بالفعل فإنها للتمييز، وتمييز الشيء قد يكون بإضافته إلى سببه كصلاة الكسوف والاستسقاء والعيدين، وقد يكون بوقته كصلاة الظهر أو بحكمه الخاص به كالفريضة، أو بوجود سببه كرفع الحدث، فإن الوضوء سبب في رفع الحدث، فإذا نوى رفع الحدث ارتفع وصح الوضوء، ولما كانت حكمة مشروعيتها ما ذكر كانت القرب التي لا لبس فيها لا تحتاج إلى نية، كالإيمان بالله وتعظيمه وجلاله والخوف من عذابه والرجاء لثوابه والتوكل عليه والمحبة لجماله وكالتسبيح والتهليل وقراءة القرآن وسائر

الأذكار، فإنها متميزة لجنابه سبحانه وتعالى، وكذلك النية منصرفة إلى الله سبحانه وتعالى بصورتها فلا جرم، ولم تفتقر النية إلى نية أخرى، ولا حاجة للتعليل بأنها لو افتقرت إلى نية أخرى لزم التسلسل، وكذلك يثاب الإنسان على نية مفردة ولا يثاب على الفعل مفرداً، لانصرافها بصورتها لله تعالى، والفعل متردد بين ما هو لله تعالى وما هو لغيره، وأما كون الإنسان يثاب على نيته حسنة واحدة وعلى فعله عشر حسنات إذا نوى فلأن الأفعال هي المقاصد والنيات وسائل، والوسائل أنقص رتبة من المقاصد، وعلم من الحكمة المذكورة: أن الألفاظ إذا كانت نصوصا في شيء لا يحتاج إلى نية وكذلك الأعيان المستأجرة إذا كانت المنافع المقصودة فيها متعينة لم تحتج إلى تعيين كمن استأجر قميصا أو عمامة أو خباء أو نحو ذلك، وكذلك النقود إذا كان بعضها غالبا لم يحتج إلى تعيينه في العقد وكذلك الحقوق إذا تعينت لربها كالدين الوديعة ونحوها. ولملاحظة هذه الحكمة اختلف العلماء في النية في صوم رمضان وفي الوضوء ونحوهما، فمن رأى أنهما متعينان لله تعالى بصورتهما قال: لا حاجة إلى النية فيهما، ومن رأى أن الإمساك في رمضان قد يكون لعدم الغذاء ونحوه وقلما يكون لله تعالى، وأن الوضوء قد يكون لرفع الحدث أو للتجديد أو للتبرد، أوجب النية.

المبحث السابع: في شروط النية

المبحث السابع: في شروط النية للنية شروط عامة في جميع العبادات، وشروط خاصة في كل عبادة، وسوف أعرض للشروط العامة للنية، مبيناً ما ورد فيها من خلاف.

الشرط الأول: الإسلام

الشرط الأول: الإسلام فلا تصح النية من كافر، لأنه ليس أهلاً للنية، وليس من أهل العبادة، قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} (¬1). فلو توضأ الكافر أو اغتسل لم يصحا منه عند الجمهور. وصحح الحنفية وضوءه وغسله، فلو أسلم بعدهما صلى بوضوئه وغسله؛ لأن النية عندهم ليست شرطاً في الوضوء والغسل، وقد ذكرت في مسألة مستقلة حكم النية في الوضوء، ورجحت أنها شرط في صحة الوضوء، والله أعلم. إلا أنه يستثنى من ذلك الكتابية تكون تحت المسلم، فإذا طهرت من المحيض أو النفاس فإنها تغتسل للزوج حتى يتمكن من جماعها، وهل تشترط النية لغسلها؟ على قولين: فقيل: يصح غسلها بلا نية، لأنها ليست أهلاً للنية، فغسلها إنما هو لحق الآدمي وليس حقاً لله، وإذا لم يكن عبادة لم تشترط له النية، وهو ظاهر مذهب المالكية (¬2)، ووجه في مذهب الحنابلة، وهو المشهور عند المتأخرين (¬3). ¬

(¬1) الفرقان: 23. (¬2) قال في مواهب الجليل (1/ 311): غسل الذمية وقع صحيحاً حال الكفر في حق الآدمي ولم يقع عبادة، وصحة الغسل في حق الله تعالى لا تكون إلا بوقوع الغسل منها عبادة وقربة، والكفر لا يصح معه قربة بوجه. اهـ وانظر الخرشي (1/ 75) حاشية الدسوقي (1/ 42)، حاشية الصاوي (1/ 37). (¬3) كشاف القناع (1/ 85)، وقال أيضاً (1/ 90): ولا تجب النية في غسل الذمية للعذر (ولا) تجب أيضا (التسمية في غسل ذمية) كالنية، هذا أحد الوجهين، وصوبه في الإنصاف =

وقيل: لا بد لها من نية، إلا إذا امتنعت فتسقط للضرورة، كما لو امتنع الرجل عن أداء زكاته، فإنها تؤخذ منه قهراً، وتجزئ عنه في الدنيا، وهو مذهب الشافعية (¬1)، ووجه آخر في مذهب الحنابلة (¬2). ¬

= وتصحيح الفروع، وظاهر ما قدمه في الإنصاف في كتاب الطهارة اعتباراً للتسمية، وهو ظاهر كلام المصنف هناك وتقدم. (ولا تتعبد) الذمية (به) أي بغسلها للحيض أو النفاس (لو أسلمت بعده) فلا تصلي به، ولا تطوف، ولا تقرأ قرآناً، ولا غير ذلك مما يتوقف على طهارة. قال القاضي: إنما يصح في حق الآدمي؛ لأن حقه لا يعتبر له النية، فيجب عوده إذا أسلمت، ولم يجز أن تصلي به، انتهى. (¬1) قال السيوطي في الأشباه والنظائر (ص: 35): الذمية تحت المسلم يصح غسلها عن الحيض؛ ليحل وطؤها بلا خلاف للضرورة، ويشترط نيتها كما قطع به المتولي والرافعي في باب الوضوء، وصححه في التحقيق، كما لا يجزي الكافر العتق عن الكفارة إلا بنية العتق، وادعى في المهمات أن المجزوم به في الروضة وأصلها في النكاح عدم الاشتراط، وما ادعاه باطل، سببه سوء الفهم، فإن عبارة الروضة هناك: إذا طهرت الذمية من الحيض والنفاس ألزمها الزوج الاغتسال، فإن امتنعت أجبرها عليه واستباحها؛ وإن لم تنو للضرورة، كما يجبر المسلمة المجنونة فقوله " وإن لم تنو " بالتاء الفوقية عائد إلى مسألة الامتناع، لا إلى أصل غسل الذمية، وحينئذ لا شك في أن نيتها لا تشترط، كالمسلمة المجنونة. وأما عدم اشتراط نية الزوج عند الامتناع والمجنون، أو عدم اشتراط نيتها في غير حال الإجبار فلا تعرض له في الكلام لا نفيا ولا إثباتاً، بل في قوله في مسألة الامتناع " استباحها وإن لم تنو للضرورة " ما يشعر بوجوب النية في غير حال الامتناع، وعجبت للإسنوي كيف غفل عن هذا؟ وكيف حكاه متابعوه عنه ساكتين عليه؟ والفهم من خير ما أوتي العبد. اهـ كلام السيوطي. وقال العراقي في طرح التثريب (2/ 12): وأما الذمية الممتنعة فقال في شرح المهذب الظاهر أنه على الوجهين في المجنونة، بل قد جزم ابن الرفعة في الكفاية في غسل الذمية لزوجها المسلم أن المسلم هو الذي ينوي، ولكن الذي صححه النووي في التحقيق في الذمية غير الممتنعة اشتراط النية عليها نفسها، والله أعلم. (¬2) الإنصاف (1/ 152).

والأول أقوى؛ بل إن إيجاب غسل البدن كله عليها إن قال أحد بعدم وجوبه، فله وجه؛ لأن طهارة الحائض مركبة من طهارتين: عن حدث وعن خبث، وإذا كان يتوجه وجوب الطهارة عليها من الخبث لحق الزوج، فإن الطهارة من الحدث غير معقولة المعنى، وإنما هي طهارة تعبدية محضة، فإن قال أحد: يكفي أن تغسل فرجها، وتنظفه من الأذى، فهذا كاف في حل وطء زوجها فهو قول قوي جداً، ولا يستبعد القول به، خاصة أن الحنفية يقولون بجوازه في حق المسلمة إذا طهرت لتمام المدة، فإنهم لا يوجبون الغسل لحل الوطء، فهذه من باب أولى، والله أعلم.

الشرط الثاني: التمييز

الشرط الثاني: التمييز فلا تصح النية من صغير غير مميز، لعدم صحة القصد منه. ولا تصح النية من مجنون، للعلة نفسها، وأما غسل المرأة المجنونة من المحيض لتحل لزوجها، فيرى الشافعية والحنابلة أن زوجها يغسلها، وينوي عنها لتعذر النية منها: قال النووي: وأما المجنونة إذا انقطع حيضها فلا يحل لزوجها وطؤها حتى يغسلها، فإذا غسلها حل الوطء؛ لتعذر النية في حقها، وإذا غسلها الزوج هل يشترط لحل الوطء أن ينوي بغسله استباحة الوطء؟ فيه وجهان حكاهما الروياني، وقطع المتولي باشتراط النية، وقطع الماوردي بعدم الاشتراط، قال: بخلاف غسل الميت، فإنه يشترط فيه نية الغسل على أحد الوجهين؛ لأن غسله تعبد , وغسل المجنونة لحق الزوج، فإذا أفاقت لزمها إعادة الغسل على المذهب الصحيح المشهور، وذكر المتولي فيه وجهين، كالذمية إذا أسلمت، قال: وكذا الوجهان في حل وطئها للزوج بعد الإفاقة والله أعلم (¬1). وقال البهوتي في كشاف القناع: وغسل مجنونة من حيض ونفاس، مسلمة كانت أو كتابية، حرة أو أمة، فلا تعتبر النية منها لتعذرها، ولكن ينويه عنها من يغسلها كالميتة. وقال أبو المعالي: لا نية كالكافرة، لعدم تعذرها مآلا بخلاف الميت، ¬

(¬1) المجموع (1/ 374).

ولأنها تعيده إذا أفاقت وأسلمت. اهـ قلت: ومقتضاه أنها لا تعيده على الأول، لقيام نية الغاسل مقام نيتها. اهـ (¬1). وما ترجح في غسل الكافرة فهو الراجح هنا، بجامع أن كلاً منهما ليس من أهل العبادة، والله أعلم. ¬

(¬1) كشاف القناع (1/ 85).

الشرط الثالث: عدم الإتيان بما ينافيها حتى يفرغ من وضوئه

الشرط الثالث: عدم الإتيان بما ينافيها حتى يفرغ من وضوئه والمنافي للنية بأن يأتي بما يقطعها أو يبطلها، أو يصرف النية لغير الوضوء في أثنائه كما لو نوى في أثناء الوضوء التبرد فقط، ويعبر عنه الفقهاء بوجوب استصحاب حكمها: بأن لا ينوي قطعها حتى يفرغ من وضوئه، ولا يجب عليه أن يستصحب ذكر النية بعد أن نواها، وإنما الواجب استصحاب حكمها، فلا يأتي ما يقطعها من رفض الوضوء قبل فراغه، أو يبطلها، كما لو تخلل وضوءه ردة والعياذ بالله، أو ينقل نية الوضوء في أثنائه من نية القربة إلى التبرد فقط، وهذا رأي الأئمة الثلاثة (¬1). وأما الحنفية فهم كما سبق يرون النية سنة في الطهارة، وبالتالي لا يؤثر مثل ذلك في صحة الوضوء. ¬

(¬1) أسهل المدارك (1/ 83، 98) القوانين الفقهية (ص: 19)، نهاية المحتاج (1/ 162)، تحفة الطلاب (1/ 65)، الروض المربع (1/ 33).

الشرط الرابع: أن تكون النية مقارنة للمنوي أو متقدمة عليه بشيء يسير

الشرط الرابع: أن تكون النية مقارنة للمنوي أو متقدمة عليه بشيء يسير النية تارة تكون متقدمة على المنوي، وتارة تكون مقارنة له، وتارة تكون متأخرة عن أول العمل، وإليك بيان حكم كل حال من هذه الأحوال. حكم تقدم النية على العمل. أجاز العلماء تقدم النية على المنوي في الصوم للمشقة فجوزوا عدم مقارنة النية لأول المنوي لإتيان أول الصوم حالة النوم غالبا, والزكاة في الوكالة على إخراجها (¬1). واختلفوا في غير الصوم من العبادات: فقيل: يجوز تقدم النية على المنوي بشرطه، وهو مذهب الحنفية والحنابلة. قال أبو حنيفة وصاحباه: من نوى عند الوضوء أنه يصلي به الظهر أو العصر مع الإمام ولم يشتغل بعد النية بما ليس من جنس الصلاة إلا أنه لما انتهى إلى مكان الصلاة لم تحضره النية جازت صلاته بتلك النية (¬2). ¬

(¬1) قال ابن جزي في القوانين الفقهية (ص: 19): فإن تأخرت عن محلها أو تقدمت بكثير بطلت، وإن تقدمت بيسير فقولان. اهـ وقال في الفروع (1/ 143) ويجوز تقديمها بزمن يسير كالصلاة. اهـ ويفهم منه أنه لا يجوز تقديمها بزمن كثير. (¬2) شرح فتح القدير (1/ 266)، وجاء في البحر الرائق (1/ 292):

ولا يضر اشتغاله بالمشي إليها وإن لم يكن من جنسها، فالمهم ألا يوجد فاصل أجنبي بين النية وبين العمل، وهذا ما يسميه بعض الفقهاء النية الحكمية، أي استصحاب حكم النية. قال ابن نجيم: والمراد بقوله «بلا فاصل أي بين النية والتكبير، والفاصل الأجنبي: هو العمل الذي لا يليق في الصلاة كالأكل والشرب; لأن هذه الأفعال تبطل الصلاة، فتبطل النية، وشراء الحطب والكلام, وأما المشي والوضوء فليس بأجنبي» (¬1). اهـ وقال ابن قدامة: قال أصحابنا: يجوز تقديم النية على التكبير بالزمن اليسير, وإن طال الفصل، أو فسخ نيته بذلك لم يجزئه (¬2). وعلى هذا فالحنفية والحنابلة أجازوا تقدم النية على المنوي، والحنفية أوسع من الحنابلة في هذا، حيث لم يقيدوه بالزمن اليسير بخلاف الحنابلة. وقيل: يجب أن تكون النية مقارنة للتكبير، لا قبله ولا بعده، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬3). وذهب أبو منصور بن مهران من الشافعية إلى وجوب تقدم النية على أول التكبير بشيء يسير، وعلل ذلك بأن لا يتأخر أولها عن أول التكبير (¬4). وقيل: يجوز تقدم النية على العبادة بشرط أن يكون وقت العبادة قد ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 291). (¬2) المغني (1/ 279)، وذكر صاحب كشاف القناع شروطاً لجواز تقدم النية، بأن يكون العمل يسيراً، ولم يفسخ النية، مع بقاء إسلامه بحيث لا يرتد، فإن الردة تبطل النية، انظر كشاف القناع (1/ 316). (¬3) المجموع (3/ 242). (¬4) المرجع السابق.

دليل من قال بجواز تقدم النية على العبادة

دخل، فإن تقدمت النية قبل وقت العبادة ولو بزمن يسير لم تصح النية، اختاره كثير من الحنابلة (¬1). دليل من قال بجواز تقدم النية على العبادة. الدليل الأول: قالوا: تقدم النية على التكبير بالزمن اليسير لا يخرج الصلاة عن كونها منوية، ولا يخرج الفاعل عن كونه ناوياً مخلصاً. الدليل الثاني: القياس على الصوم، فإذا صح أن تتقدم النية على الصوم، جاز أن تتقدم النية على سائر العبادات. الدليل الثالث: النية شرط من شروط الصلاة فجاز تقدمها كبقية الشروط. الدليل الرابع: إيجاب مقارنة النية للمنوي فيه حرج ومشقة، وهو مدفوع بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬2). ¬

(¬1) قال البهوتي في كشاف القناع (1/ 316): وعلم مما تقدم: أن النية لو تقدمت قبل وقت الأداء أو الراتبة ولو بيسير لم يعتد بها, للخلاف في كونها ركناً للصلاة، وهو لا يتقدم كبقية الأركان، وأول من اشترط لتقدم النية كونه في وقت المنوية: الخرقي، وتبعه على ذلك ابن الزاغوني والقاضي أبو يعلى وولده أبو الحسين وصاحب الرعاية والمستوعب, والحاويين وجزم به في الوجيز وغيره، ولم يذكر هذا الشرط أكثر الأصحاب، فإما لإهمالهم أو بناء منهم على الغالب قال في الإنصاف: وظاهر كلام غيرهم , أي: غير من تقدم الجواز, لكن لم أر الجواز صريحاً. اهـ (¬2) الحج: 78.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: الزمن اليسير لا يؤثر في العبادة كما أن الكلام اليسير في الزمن اليسير لا يبطل الصلاة إذا حصل في أثنائها لمصلحة متحققة كما هو معلوم، (804 - 33) فقد روى البخاري في صحيحه، من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي - قال محمد: وأكثر ظني العصر - ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: أقصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين، فقال: أنسيت أم قصرت؟ فقال: لم أنس، ولم تقصر. قال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين. الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). فهذا الرسول تكلم مع الصحابة، والكلام في الأصل مبطل للصلاة، ولكن حين كان لمصلحة الصلاة، وكان يسيراً، ولم يطل الفصل، بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاته، ولم يستأنف، فكذلك النية إذا تقدمت على العمل بزمن يسير عرفاً، لم يؤثر ذلك في الصلاة، والله أعلم. دليل من قال يجب أن تكون النية مقارنة للمنوي. استدلوا بقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (1229)، ومسلم (573). (¬2) البينة: 5.

دليل من اشترط دخول وقت العبادة

فقوله «مخلصين» حال لهم في وقت العبادة، فإن الحال: هي وصف هيئة الفاعل وقت الفعل، والإخلاص هو النية. وقال - صلى الله عليه وسلم - «إنما الأعمال بالنيات». وأجيب: بأن حديث «إنما الأعمال بالنيات» مطلق، وليس فيه ما يفيد أن النية إن تقدمت فليس له ما نوى، بل يحصل له ما نوى مطلقاً تقدمت النية أو صاحبت العمل، وهو لم يرفض النية، وإنما استصحب حكمها، وكما أنه يجوز استصحاب حكمها أثناء العمل، فيجوز استصحاب حكمها قبله بيسير. دليل من اشترط دخول وقت العبادة. لعل الحنابلة يرون أن دخول وقت العبادة هو سبب الوجوب، والنية عبادة وتقديمها على سبب وجوبها لا يجوز، ويجوز تقديمها قبل شرط الوجوب. مثال ذلك: الزكاة سبب وجوبها بلوغ النصاب، وشرط الوجوب تمام الحول لما يشترط له الحول، فتقديم الزكاة قبل بلوغ النصاب لا يجوز؛ لأنه قدم العبادة قبل سبب وجوبها، فإذا بلغ المال النصاب جاز تقديمها قبل تمام الحول: أي قبل شرط وجوبها. مثال آخر: لو أن رجلاً أراد أن يقدم كفارة يمين قبل أن يعقدها لم تصح كفارة، لأن عقد اليمين هو سبب وجوب الكفارة، ولو أنه عقد اليمين ثم أخرج الكفارة قبل أن يحنث جاز؛ لأن الحنث هو شرط الوجوب، وتقديم العبادة على شرط وجوبها جائز، وعلى سبب الوجوب لا يجوز، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) قواعد ابن رجب: القاعدة الرابعة (1/ 24).

الحال الثانية: أن تكون النية مقارنة للمنوي ذهب عامة أهل العلم إلى استحباب أن تكون النية مقارنة للمنوي (¬1)، وقيل: يجب أن تكون النية مقارنة للمنوي، وهو مذهب الشافعية (¬2)، واختاره الآجري (¬3)، واختلفوا في الصيام الواجب. فقال الشيرازي من الشافعية: وهل تجوز نيته مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان: من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأنه عبادة، فجاز بنية تقارن ابتداءها، كسائر العبادات. قلت: وهذا مذهب الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5). ثم قال الشيرازي: وأكثر أصحابنا يقولون: لا يجوز إلا بنية من الليل، لحديث حفصة رضي الله عنها، ولأن أول وقت الصوم يخفى، فوجب تقديم النية عليه (¬6). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 10)، بدائع الصنائع (1/ 199)، مواهب الجليل (1/ 233)، حاشية الدسوقي (1/ 520)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 695، 696) (¬2) المجموع (3/ 242)، وقال الزركشي في كتابه المنثور في القواعد (1/ 104): كل عبادة تجب أن تكون النية مقارنة لأولها إلا الصوم والزكاة والكفارة. اهـ. (¬3) كشاف القناع (1/ 316). (¬4) قال ابن عابدين في حاشيته (2/ 377): وإن نوى مع طلوع الفجر جاز؛ لأن الواجب قران النية بالصوم، لا تقدمها. اهـ وانظر تبيين الحقائق (1/ 316). (¬5) قال في مواهب الجليل (2/ 418): ويشترط أن تكون النية مبيتة من الليل، للحديث المتقدم، ويصح أن يكون اقترانها مع الفجر؛ لأن الأصل في النية أن تكون مقارنة لأول العبادة، وإنما جوز الشرع تقديمها لمشقة تحرير الاقتران. اهـ (¬6) المهذب (1/ 70). قال النووي في المجموع (6/ 303) الصحيح عند سائر المصنفين أنه لا يجوز - يعني: أن ينوي مع طلوع الفجر- قال: وهو قول أكثر أصحابنا المتقدمين، كما ذكره المصنف، وقطع به الماوردي والمحاملي في كتبه وآخرون، والمعتمد في دليله: ما ذكره المصنف. والغريب =

دليل من جوز أن تكون النية في الصيام مقارنة لأول الصوم

دليل من جوز أن تكون النية في الصيام مقارنة لأول الصوم. استدل بأن هذا هو الأصل في النية، وهو أن تكون النية مقارنة للمنوي، وإنما جاز تقدمها تخفيفاً ودفعاً للحرج. دليل من أوجب تقدم النية في الصيام على المنوي. (805 - 34) ما رواه مالك في الموطأ، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يقول: لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر (¬1). [إسناده من أصح الأسانيد، وروي عن ابن عمر عن حفصة مرفوعاً، ولا يثبت] (¬2). والراجح بين القولين: قبل ترجيح أحد القولين لا بد أن نعرف تفسير المقارنة، فإن كان المقصود بالمقارنة ألا يوجد فاصل بين النية وبين المنوي، بحيث ينوي العبد الطاعة، ثم يدخل فيها مباشرة فلا حرج في مقارنة النية للمنوي في هذه الحال، لأن النية قد وجدت قبل العمل ولو ببرهة. ¬

= هنا: أن الشافعية الذين يوجبون أن تكون النية مقارنة للمنوي لم يطردوه في الصوم، بينما الجمهور الذين يجيزون تقدم النية على المنوي أجازوا هنا أن تكون النية مقارنة للمنوي في الصيام. (¬1) الموطأ (1/ 288). (¬2) سيأتي تخريج طرق حديث حفصة إن شاء الله تعالى في كتاب الصوم، وقد تكلم على المرفوع، وأنه لا يثبت كل من البخاري في التاريخ الأوسط (1/ 134)، ونقله الترمذي في العلل الكبير (1/ 348) وصوب وقفه النسائي في السنن الكبرى (2/ 117 - 118)، والدارقطني في العلل (5/ الورقة: 163).

وإن كان المقصود من المقارنة أن تنوي حال التلبس بالعبادة فهذا لا يجوز، لأنه في هذه الحال سوف يكون هناك جزء من العبادة ولو يسيراً عارياً من النية. وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة، فقال: ((أما مقارنتها التكبير فللعلماء فيه قولان مشهوران: أحدهما: لا يجب، والمقارنة المشروطة قد تفسر بوقوع التكبير عقيب النية, وهذا ممكن لا صعوبة فيه, بل عامة الناس إنما يصلون هكذا, وهذا أمر ضروري, لو كلفوا تركه لعجزوا عنه، وقد تفسر بانبساط آخر النية على آخر التكبير, بحيث يكون أولها مع أوله, وآخرها مع آخره، وهذا لا يصح; لأنه يقتضي عزوب كمال النية في أول الصلاة, وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة. وقد تفسر بحضور جميع النية مع جميع آخر التكبير, وهذا تنازعوا في إمكانه، فمن العلماء من قال: إن هذا غير ممكن, ولا مقدور للبشر عليه, فضلا عن وجوبه, ولو قيل بإمكانه, فهو متعسر, فيسقط بالحرج. وأيضا فمما يبطل هذا والذي قبله, أن المكبر ينبغي له أن يتدبر التكبير ويتصوره, فيكون قلبه مشغولا بمعنى التكبير, لا بما يشغله عن ذلك من استحضار النية; ولأن النية من الشروط, والشروط تتقدم العبادات, ويستمر حكمها إلى آخرها, كالطهارة)) , والله أعلم (¬1). الحالة الثالثة: أن تكون النية متأخرة عن بعض المنوي. ذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يجوز أن تتأخر النية عن أول العبادة، خاصة إذا كان أول العبادة واجباً فيها، فلا تتأخر النية في الوضوء عن غسل ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (2/ 94).

الوجه، ولو تأخرت عن غسل اليدين فلا يؤثر ذلك في صحة الوضوء؛ لأن غسل الكفين سنة، ولا تتأخر النية في الصلاة عن تكبيرة الإحرام وهكذا؛ لأن أول العبادة لو عرا عن النية لكان أولها متردداً بين القربة وبين غيرها, وآخر الصلاة مبني على أولها، فإذا كان أولها متردداً، كان آخرها كذلك. وخالف في ذلك الكرخي من الحنفية، فقال: يجوز تأخير النية عن تكبيرة الإحرام، وهذا بناء على قول في مذهب الحنفية: أن تكبيرة الإحرام ليست من الصلاة (¬1). ولعل هذا القول لا يخرج عن القول السابق، وإنما الخلاف في تحقيق المناط، فتكبيرة الإحرام عند من يراها ركناً في الصلاة - وهو الصحيح - لايجوز أن تتأخر النية عن تكبيرة الإحرام، وأما عند من يرى تكبيرة الإحرام ليست من الأركان ولا الواجبات لا يمنع من تأخير النية عنها، كما أجاز الحنابلة تأخر نية الوضوء عن أول مسنونات الطهارة، وهي غسل الكفين، وتجب عندهم عند أول واجبات الطهارة. واختلفوا في صيام النفل، هل يجوز أن تتأخر النية عن أول العبادة؟ على قولين: فذهب الجمهور من الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، إلى أن تبييت ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 99). (¬2) البحر الرائق (1/ 314)، حاشية ابن عابدين (2/ 292)، مواهب الجليل (2/ 418) (¬3) المجموع (6/ 305). (¬4) قال في الإنصاف (3/ 297): ويصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده، هذا المذهب، نص عليه. قال في الفروع: وعليه أكثر الأصحاب. اهـ وانظر نيل المآرب (1/ 345).

النية من الليل في صيام النفل ليس بواجب، فلو نوى في أثناء اليوم في صيام النفل صح صومه بشرطه: وهو ألا يتناول مفطراً من طلوع الفجر. وخالف في ذلك مالك رحمه الله (¬1)، فقال: يجب تبييت النية من الليل، وهو مذهب الظاهرية (¬2)، ورجحه المزني من الشافعية (¬3). وسوف يأتي بسط أدلة هذه المسألة في كتاب الصيام أبلغنا الله إياه بمنه وكرمه. ¬

(¬1) قال في مواهب الجليل (2/ 418): شرط صحة الصوم مطلقاً فرضاً كان أو نفلاً معيناً أو غير معين أن يكون بنية، لقوله e إنما الأعمال بالنيات، ثم قال: وصفتها أن تكون مبيتة من الليل، ويصح أن يكون اقترانها مع الفجر، سواء كان صوم واجب أو تطوع. (¬2) المحلى (3/ 429). (¬3) المجموع (6/ 305).

الشرط الخامس: أن يكون جازما بالنية

الشرط الخامس: أن يكون جازماً بالنية فلا يصح تعليق النية إلا إن قصد بكلمة «إن شاء الله تعالى» التبرك، وهذا مذهب الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وأما الحنفية فقد سبق أنهم يرون النية سنة، فلا يضر تعليقها (¬4). فلو توضأ بنية إن كان محدثاً فهذا الوضوء لرفع الحدث، وإلا فهو تجديد، فقد اختلف الفقهاء في هذه الصورة، فذهب المالكية إلى أنه لا يصح وضوءه، لعدم الجزم بالنية. جاء في حاشية الدسوقي: «فالواجب عليه إذا توضأ أن يتوضأ بنية جازمة، فإن توضأ بنية غير جازمة - بأن علقها بالحدث المحتمل - كان هذا الوضوء باطلاً» (¬5). ووجهه: أن هذا الإنسان إما أن يكون متطهراً أو محدثاً, فإن كان متطهراً فلا اعتبار به، إذ لم ينو التجديد, بل نوى رفع الحدث وليس عليه, وإن كان محدثاً فلا يصح, لعدم جزم نيته. وذهب الشافعية إلى صحة الوضوء في هذه الصورة. ¬

(¬1) حاشية الدسوقي (1/ 94)، منح الجليل (1/ 50)، مواهب الجليل (1/ 239). (¬2) حاشية قليبوبي وعميرة (1/ 45). (¬3) قال في الإنصاف (3/ 296): لو قال: أنا صائم غداً إن شاء الله تعالى، فإن قصد بالمشيئة الشك والتردد في العزم والقصد فسدت نيته، وإلا لم تفسد. (¬4) انظر العزو إليهم في مسألة " حكم النية " وقد مر معنا في هذا الباب. (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 94)، وجاء في التاج والإكليل (1/ 343).

جاء في المجموع: قال البغوي: لو توضأ ونوى إن كان محدثا فهو عن فرض طهارته، وإلا فهو تجديد, صح وضوءه عن الفرض, حتى لو زال شكه وتيقن الحدث لا يجب إعادة الوضوء (¬1). وقالوا: يغتفر التعليق هنا, كالمسافر إذا نوى خلف من شك في نية القصر, فقال , إن قصر قصرت. اهـ قلت: ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فهذا غاية ما يمكن أن يفعله، وهو أن يقول: إن كنت محدثاً فهذا الوضوء عنه، فإن كان على طهارة لم يضره هذا الوضوء، وإن كان محدثاً فقد نواه معلقاً، والتعليق يغتفر، وقد رجح المحققون من العلماء صحة التعليق في مسألة مشابهة، كما لو قال رجل: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، فتصح نيته على الصحيح (¬2)؛ لأن هذا غاية ما يمكن أن يفعله، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وقال بعضهم: يرتفع حدثه، إلا إن انكشف الحال وتبين أنه محدث فيلزمه استئناف الوضوء. وإنما صح الوضوء للضرورة، لأن هذا غاية ما يسعه، وإذا زالت الضرورة، وانكشف الحال، وتبين أنه محدث فقد زالت الضرورة، فيلزمه أن يعيد الوضوء؛ لأن النية لم تكن جازمة. قال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: لا نقول بأنه لا يرتفع حدثه على تقدير تحقق الحدث, وإنما نقول: لا يرتفع على تقدير انكشاف الحال، ويكون ¬

(¬1) المجموع (1/ 374). (¬2) ذكر صاحب الإنصاف (3/ 295) أن هذا القول رواية عن أحمد، ورجحها ابن تيمية، قال في الإنصاف: وهو المختار.

وضوءه هذا رافعاً للحدث إن كان موجودا في نفس الأمر، ولم يظهر لنا للضرورة, فإذا انكشف الحال زالت الضرورة، فوجبت الإعادة بنية جازمة (¬1). ولا يشرع للإنسان أن يحدث لكي يجزم بالنية، فلم يرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحالة إلى هذا الفعل، وإنما أرشد بالأخذ باليقين وطرح الشك، كما قال - صلى الله عليه وسلم - إذا شك أحدكم في الصلاة فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. ومثل تعليق النية التردد بالنية، وعدم الجزم بها، وله حالتان: الأولى: أن يحصل التردد منه بعد فراغه من الوضوء، أو ينوي رفض الوضوء بعد الفراغ منه. فالصحيح عند الجمهور أن ذلك لا يؤثر في وضوئه (¬2). ودليلهم: القياس على الصلاة والصوم والحج، فكما أنه لو رفض الصوم أو الصلاة أو الحج بعد فراغه منه لم يبطل صومه ولا صلاته ولا حجه، فكذلك لا يبطل وضوءه. وقيل: إن وضوءه يبطل، وهو وجه ثان في مذهب الأئمة الثلاثة (¬3). وتعليهم: أن حكم الوضوء - وهو رفع الحدث - ما زال باقياً، بدليل ¬

(¬1) المجموع (1/ 375). (¬2) قال صاحب (البيان في مذهب الشافعي) (1/ 106): إذا فرغ من الطهارة، ثم نوى قطعها ففيه وجهان: أحدهما، وهو المشهور: أن طهارته لا تبطل، كما لو فرغ من الصلاة، ثم نوى قطعها. والثاني: حكاه الصيدلاني: أن طهارته تبطل، كما لو ارتد. اهـ الإنصاف (1/ 151)، المبدع (1/ 120)، الشرح الكبير على المقنع (1/ 53،54). (¬3) انظر المراجع السابقة.

أنه يصح له أن يصلي به، بخلاف الصلاة والصوم والحج فإنها تنقضي حساً بعد أدائها وخروج وقتها، والصحيح الأول. الحالة الثانية: أن يتردد في الوضوء هل يتمه أو يقطعه، وهذا فيه تفصيل: الأول: أن يحصل له التردد من أول الوضوء إلى آخره، فهذا وضوءه باطل على الصحيح؛ لأن التردد ينافي النية؛ لأن النية هي القصد إلى الشيء قصداً جازماً. الثاني: أن يكون التردد حصل له أثناء الوضوء، فهو قد شرع في الوضوء، وهو جازم على رفع الحدث، وفي أثنائه حصل له التردد، ففي هذا خلاف بين أهل العلم: فقيل: وضوءه باطل، وهو الصحيح من مذهب أحمد (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: لا يبطل الوضوء فيما مضى، وإذا أراد إتمام الطهارة قبل تطاول الفصل فلا بد من تجديد النية لما بقي، وهو مذهب المالكية (¬3)، والصحيح في مذهب الشافعية (¬4)، واختاره بعض الحنابلة (¬5)، وهذا أصح من القول الأول. ¬

(¬1) قال في الإنصاف (1/ 151): لو أبطل النية في أثناء الطهارة بطل ما مضى منها على الصحيح من المذهب، اختاره ابن عقيل والمجد في شرحه، وقدمه في الرعايتين والحاويين. اهـ (¬2) البيان في مذهب الشافعي (1/ 106). (¬3) مواهب الجليل (1/ 241)، والتاج والإكليل (1/ 239) بهامش المواهب. (¬4) انظر البيان في مذهب الشافعي (1/ 106)، (¬5) قال في الإنصاف (1/ 151) وقيل: لا يبطل ما مضى منها، جزم به المصنف في المغني، لكن إن غسل الباقي بنية أخرى قبل طول الفصل صحت طهارته، وإن طالت انبنى على وجوب المولاة. اهـ

وهذا التفصيل بالنسبة للوضوء، وأما غيره من العبادات فإن الحكم يختلف إذا خرج من النية قبل تمام العبادة، فهناك من العبادات ما يخرج منها قولاً واحداً، فإذا نوى قطع الإيمان صار مرتداً، والعياذ بالله. وإذا نوى الخروج من الحج أو العمرة بعد دخوله في النسك لم يخرج منهما بهذه النية، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (¬1)، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه المسألة في كتاب المناسك، بلغنا الله إياه بمنه وكرمه. ¬

(¬1) البقرة: 196.

المبحث الثامن: في صفة النية

المبحث الثامن: في صفة النية كيفية النية في الوضوء أن ينوي رفع الحدث، أو أداء الفرض، أو استباحة ممنوع مما لا يستباح إلا بالطهارة، كاستباحة الصلاة. قال الخرشي: وفي كيفية النية ثلاثة أوجه: أحدهما: أن ينوي رفع الحدث. الثاني: أن ينوي أداء الفرض، أي امتثال أمر الله، وتدخل السنن والنوافل بالتبعية. زاد الصاوي: والمقصود بأداء الفرض ما تتوقف صحة العبادة عليه ليشمل وضوء الصبي (¬1). ¬

(¬1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 115) وجاء في مواهب الجليل (1/ 234): قال العلامة أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني في قول المصنف أو الفرض: هذه النية إذا صاحبت وقت الفرض فلا إشكال، وإن تقدمته ففي صحتها نظر; لأنه لم يجب. فإن قلت: قد رخصوا في الوضوء قبل الوقت. قلت: أما نية رفع الحدث أو استباحة ما لا يستباح إلا به فظاهر, وأما نية الفرض فمشكل; لأنه إذا نوى فرضية وضوئه ذلك فكذب; لأن وقته لم يحضر, وإن نوى فرض الوضوء من حيث الجملة لم يصح; لأن النية إنما شرعت لتمييز المنوي, وإن نوى فرض ما يأتي لم يصح الجزم به; لأنه لا يدري هل يصل إليه أو لا؟ وإن نوى: إن بقيت لم يصح أيضا للتردد في النية كمغتسل. انتهى. قال الحطاب: قد تقدم في مقدمة هذا الكتاب عن القرافي أن الفرض له معنيان، أحدهما: ما يأثم بتركه. والثاني: ما يتوقف عليه الشيء وإن لم يأثم بتركه, كقولنا: الوضوء للنافلة واجب, وهو أعم من الأول, والفرض المنوي هنا بالمعنى الثاني: أي ما يتوقف عليه الإتيان بالأشياء التي منع منها الحدث، فهو راجع إلى معنى استباحة ما يمنع منه الحدث وإلى رفع الحدث، ولهذا قال ابن بشير بَعْدُ: إن الأوجه الثلاثة متلازمة متى ذكر جميعها لا يمكن أن يقصد ذكر أحدها دون الآخر، كما تقدم فتأمله، والله تعالى أعلم. اهـ

ثالثها: أن ينوي استباحة ممنوع مما لا يستباح إلا بالطهارة. ومتى خطر ذكر جميع الثلاثة تلازمت، وإن خطر بباله بعضها أجزأ عن جميعها، ما لم يقصد عدم حصول الآخر، كأن يقول: أرفع الحدث ولا أستبيح الصلاة أو العكس، فتبطل النية، وتكون عدما للتنافي (¬1). فإذا نوى رفع الحدث فقد ارتفع حدثه، وهذا هو المقصود من الطهارة، ولأن معنى رفع الحدث: استباحة كل فعل كان الحدث مانعاً من فعله. أو بمعنى آخر: أنه إذا نوى رفع الحدث يكون بذلك قد نوى إزالة الوصف القائم بالأعضاء المانع من الصلاة ونحوها (¬2) والمقصود من رفع الحدث رفع حكمه؛ لأن الحدث قد وقع، فلا يمكن رفعه. ¬

(¬1) الخرشي على مختصر خليل (1/ 129) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 114) الحاوي الكبير (1/ 94) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 103)، وذكر النووي في روضة الطالبين (1/ 48) أنه ينوي ثلاثة أمور: الأول: رفع الحدث. الثاني: استباحة الصلاة. الثالث: فرض الوضوء أو أداء الوضوء، وذلك كاف قطعاً، وإن كان الناوي صبياً. والحنابلة يذكرون في كتبهم أمرين في صفة الوضوء: أن ينوي رفع الحدث، أو استباحة أمر تجب له الطهارة كالصلاة، انظر الكافي (1/ 23)، غاية المطلب (ص: 21)، المحرر (1/ 11)، بلغة الساغب (ص: 42)، ولم أتعرض لمذهب الحنفية؛ لأنهم لا يرون النية شرطاً في صحة الوضوء. (¬2) مواهب الجليل (1/ 234).

الفرع الأول: إذا نوى طهارة مطلقة

الفرع الأول: إذا نوى طهارة مطلقة إذا نوى طهارة وأطلق، فهل يرتفع حدثه؟. فقيل: يرتفع حدثه، وهو أحد القولين في مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: لا يرتفع، وهو قول ثان في مذهب المالكية (¬3)، والمشهور من مذهب الشافعية (¬4)، والصحيح في مذهب الحنابلة (¬5). وجه قول من قال: يرتفع حدثه: قالوا: إن نية الطهارة أو الوضوء المطلق تنصرف إلى الوضوء الشرعي المعهود. وجه من قال: لا يرتفع حدثه. قالوا: إن نيته متناولة لما تشرع له النية، ولما لا تشرع له النية كإزالة ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 237)، الخرشي (1/ 130)، حاشية الدسوقي (1/ 94). (¬2) المجموع (1/ 365). (¬3) مواهب الجليل (1/ 237)، الخرشي (1/ 130)، حاشية الدسوقي (1/ 94). (¬4) قال في المهذب المطبوع مع المجموع (1/ 365): " وإن نوى الطهارة المطلقة لم يجزئه؛ لأن الطهارة قد تكون عن حدث، وقد تكون عن نجس، فلم تصح بنية مطلقة " قال النووي شارحاً لهذه العبارة: هذا الذي جزم به المصنف هو المشهور، الذي قطع به الجمهور. (¬5) قال في الإنصاف (1/ 148): لو نوى طهارة مطلقة أو وضوءاً مطلقاً عليه لم يصح على الصحيح.

النجاسة؛ لأن كلايهما يسمى طهارة شرعية، فلم تصح طهارته. والراجح: القول بالصحة؛ لأن نية الطهارة في أعضاء الوضوء على الترتيب المخصوص لا تكون عن نجاسة، فتعين أن تكون عن حدث، والله أعلم.

الفرع الثاني: إذا نوى ما تسن له الطهارة

الفرع الثاني: إذا نوى ما تسن له الطهارة إذا نوى ما تسن له الطهارة فهل يرتفع حدثه؟ فقيل: يرتفع، وهو أحد القولين في مذهب المالكية (¬1)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3)، وهو الراجح. وقيل: لا يرتفع، وهو المشهور في مذهب المالكية (¬4)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬5)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬6). وجه قول من قال: لا يرتفع. قالوا: لأن الفعل الذي قصد إليه يصح فعله مع بقاء الحدث، فلم يتضمن القصد إليه القصد برفع الحدث جملة. وجه قول من قال يرتفع حدثه. قالوا: لأنه بهذه النية نوى أن يكون على أكمل الحالات، فنيته مستلزمة لرفع الحدث كله. ولأن هذه طهارة شرعية مأمور بها، مثاب عليها، ولا يوجد دليل على اشتراط كون الطهارة لا بد أن تكون شرطاً في العبادة، وليست مسنونة. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 237). (¬2) المجموع (1/ 366) البيان في مذهب الشافعي (1/ 104)، روضة الطالبين (1/ 48) (¬3) الإنصاف (1/ 144)، المغني (1/ 79)، الفروع (1/ 140، 141). (¬4) مواهب الجليل (1/ 237)، الخرشي (1/ 130)، حاشية الدسوقي (1/ 94). (¬5) المجموع (1/ 366)، البيان في مذهب الشافعي (1/ 104)، روضة الطالبين (1/ 48) (¬6) الإنصاف (1/ 144)، المغني (1/ 79)، الفروع (1/ 140، 141).

الفرع الثالث: إذا نوى ما لا تشرع له الطهارة

الفرع الثالث: إذا نوى ما لا تشرع له الطهارة إذا نوى التبرد والنظافة من وضوئه، فهل يرتفع حدثه أم لا؟ فقيل: يرتفع، وهو مذهب الحنفية. وقيل: لا يرتفع، وهو مذهب الجمهور. وهذا المسألة ترجع إلى مسألة سابقة ذكرت أدلتها ونوقشت بشيء من التفصيل، وهي هل تشترط النية في رفع الحدث؟ فمن قال: لا تشترط كالحنفية قالوا: يرتفع حدثه، لأن الوضوء حقيقته جريان الماء على الأعضاء، وقد وجد. ومن قال: تشترط النية في رفع الحدث، قال: لا يرتفع حدثه هنا؛ لأن الوضوء عبادة من شرطها النية ولم توجد، وقد مضى بحث هذه المسألة فأغنى عن إعادته هنا، فيمكن أن ترجع إليها إذا أردت الوقوف على أدلة كل فريق، والله أعلم.

الفرع الرابع: إذا نوى رفع الحدث ونية التبرد مقرونين

الفرع الرابع: إذا نوى رفع الحدث ونية التبرد مقرونين إذا نوى بطهارته أمرين معاً أحدهما مشروع والآخر غير مشروع، كما لو نوى رفع الحدث وما لا تشرع له النية كالتبرد والتنظف، فهل يرتفع حدثه؟. فقيل: يرتفع حدثه، وهو مذهب المالكية (¬1)، والوجه الصحيح في مذهبي الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يرتفع، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). وجه من قال: يرتفع حدثه. قالوا: حين نوى هذا الرجل رفع الحدث فقد أتى بما هو واجب عليه، وكونه ينضم إلى هذه النية نية التبرد لا تنافي رفع الحدث، فلا تضر هذه النية؛ ولأن غسل أعضاء الوضوء يتضمن التبرد فهو حاصل له نواه أو لم ينوه، ولا تقدح في الإخلاص حتى يقال: إن النية ليست خالصة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» (¬6) فلو قصد المسلم الأمرين ¬

(¬1) حاشية الدسوقي (1/ 91، 92)، الخرشي (1/ 129). (¬2) البيان في مذهب الشافعي (1/ 105)، وقال النووي في الروضة (1/ 49) وإن نوى رفع الحدث والتبرد أو رفع الجنابة والتبرد فالصحيح صحة طهارته. (¬3) الإنصاف (1/ 147)، وقال ابن قدامة في الكافي (1/ 24) وإن نوى رفع الحدث والتبرد صحت طهارته؛ لأنه أتى بما يجزئه، وضم إليه ما لاينافيه. اهـ (¬4) المرجع السابق. (¬5) المحلى (1/ 94). (¬6) سبق تخريجه في كتاب سنن الفطرة، رقم (231).

دليل من قال: لا يرتفع حدثه

(نظافة الفم ومرضاة الرب) في التسوك لم يكن ذلك قادحاً في نيته، فكذلك الوضوء طهارة حسية للأعضاء، وطهارة معنوية من الذنوب، فلو نوى الطهارتين لم يكن ذلك قادحاً في النية، والله أعلم. دليل من قال: لا يرتفع حدثه. قال ابن حزم في ذكر دليله: إن خلط بنية الطهارة للصلاة نية لتبرد أو لغير ذلك لم تجزه الصلاة بذلك الوضوء. برهان ذلك قول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} (¬1)، فمن مزج بالنية التي أمر بها نية لم يؤمر بها , فلم يخلص لله تعالى العبادة بدينه ذلك, وإذا لم يخلص فلم يأت بالوضوء الذي أمره الله تعالى به, فلو نوى مع وضوئه للصلاة أن يعلم الوضوء من بحضرته أجزأته الصلاة به؛ لأن تعليم الناس الدين مأمور به وبالله تعالى التوفيق (¬2). والراجح القول الأول، وهو أن نية التبرد تدخل تبعاً، ولا تؤثر في النية، وقد قام بما هو واجب عليه من نية رفع الحدث، والله أعلم. ¬

(¬1) البينة: 5. (¬2) المحلى (1/ 94).

الفرع الخامس: إذا نوى رفع حدث واحد وعليه مجموعة أحداث

الفرع الخامس: إذا نوى رفع حدث واحد وعليه مجموعة أحداث إذا تعددت الأحداث وكان سببها واحداً كمن نام عدة مرات، أو جامع عدة مرات، ولم يرفع حدثه الأول، فإن هذه الأحداث كلها ترتفع بنية واحدة حتى ولو لم يقصد ذلك، ولو نسي عددها. الدليل على هذا من السنة: (806 - 35) ما رواه مسلم من طريق هشام بن زيد، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغسل واحد (¬1). وأما إذا كان عليه نوع واحد من الأحداث، ولكن تعددت أسبابه كمن بال وتغوط ونام، فنوى رفع أحدها، فهل يرتفع حدثه؟ هذا فيه تفصيل، وهو ما سوف يتناوله الحديث - إن شاء الله - في هذا التقسيم، ويمكن تقسيمه إلى مسألتين: ¬

(¬1) مسلم (309).

المسألة الأولى: أن ينوي رفع أحدها ناسيا بقيتها أو ذاكرا ولم يخرجها

المسألة الأولى: أن ينوي رفع أحدها ناسياً بقيتها أو ذاكراً ولم يخرجها فإذا نوى أن يرفع الحدث عن النوم، وكان عليه مجموعة أحداث ولم ينوها بالرفع ولم يخرجها من نيته، فإن حدثه يرتفع، سواء كان الحدث المنوي هو الذي حدث أولاً أو آخراً، وهذا مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3)، وهو الصحيح. وقيل: لا يرتفع إلا ما نواه، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬4). وجه من قال: يرتفع جميع حدثه. قالوا: لأن هذه الأحداث كان موجبها واحداً، واجتمعت، فيتداخل حكمها، وينوب موجب أحدها عن الآخر. ولأن الحدث شيء واحد وإن تعددت أسبابه، فلا يقال: لو بال وتغوط ونام يقال: عليه ثلاثة أحداث، بل يقال: عليه حدث واحد من أسباب متعددة. ولأنه لم يكن معروفاً عند السلف أمر المتطهر باستحضار نية رفع الأحداث عند الطهارة، فلم يكن الواحد منهم يحصي كم عليه من الأحداث. ولأن اشتراط النية لكل حدث واستحضار جميعها أمر فيه حرج ومشقة. ولأنه حين نوى رفع الحدث عن النوم ارتفع، فلا يبقى الحدث الآخر مع ارتفاع الأول. ¬

(¬1) الخرشي (1/ 129, 130) منح الجليل (1/ 84، 85). (¬2) الحاوي الكبير (1/ 94)، البيان في مذهب الشافعي (1/ 105). (¬3) الإنصاف (1/ 148، 149). (¬4) المرجع السابق.

وجه من قال: لا يرتفع إلا ما نواه

وجه من قال: لا يرتفع إلا ما نواه. هذا القول مبني على أن الأحداث لا تتداخل، وأن ليس للإنسان إلا ما نوى بمقتضى الحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) فهذا لم ينو رفع حدث النوم أو البول أو نحوهما. والقول الأول هو الصواب لقوة أدلته الأثرية والنظرية.

المسألة الثانية: أن ينوي رفع أحد الأحداث وينوي بقاء غيره

المسألة الثانية: أن ينوي رفع أحد الأحداث وينوي بقاء غيره مثاله: لو كان عليه حدثان: حدث من بول وحدث من نوم، فنوى رفع أحدهما على ألا يرتفع الأخر، ففيه أربعة أقوال: قيل: إن وضوءه باطل، وهو مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، والصحيح في مذهب الحنابلة (¬3). وجه كون الوضوء باطلاً: أن هذا المتوضئ جاء بنية متضادة، فتتنافى النية، وتكون كالعدم، فكونه يقول: هذا الوضوء أرفع به الحدث، ولا أستبيح به الصلاة، هذا نوع من التناقض والتضاد. وقيل: يصح وضوءه؛ لأن الأحداث تتداخل، فإذا نوى واحداً منها ارتفع الجميع؛ ولأنه لما نوى رفع أحد الحدثين كان ذلك أقوى حكماً فبطل الشرط، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬4). ولأن الحدث وصف واحد، وإن تعددت أسبابه، فإذا نوى رفعه من البول ارتفع كله. وقيل: إن نوى رفع الحدث الأول ارتفع الجميع، وإن نوى غيره لم يصح وضوءه؛ لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول، فإذا نواه ارتفع الجميع، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5). ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 234)، الخرشي (1/ 129)، منح الجليل (1/ 184، 185). (¬2) البيان في مذهب الشافعية (1/ 105 - 106)، الحاوي الكبير (1/ 94)، (¬3) الإنصاف (1/ 149). (¬4) البيان في مذهب الشافعية (1/ 106). (¬5) البيان في مذهب الشافعي (1/ 106).

وقيل: إن نوى رفع الحدث الأخير ارتفع الجميع، وإن نوى غيره لم يصح؛ لأنها تتداخل في الآخر منها، وهذا الوجه حكاه ابن الصباغ من الشافعية (¬1). والراجح والله أعلم: أن حدثه يرتفع، ويكون قوله الآخر باطلاً لا عبرة به، وقد ارتفع الحدث، خاصة أن هذا الفعل قد يقع من الإنسان لا على وجه التلاعب، ولكن قد يتذكر، وهو ينوي رفع الحدث أن يفعل عبادة معينة بهذا الوضوء، وينوي معه عدم استباحة الصلاة بهذا الوضوء، لا على وجه التلاعب، ولكن قد يكون نوى ذلك في تلك الساعة لغرض صحيح لشغل أو غيره، وإن كان حصل منه ذلك على وجه التلاعب فإنه لا يسلم من الإثم مع رفع الحدث، وقد يقال: إن كان متلاعباً فإنه قد يعاقب بحرمان رفع الحدث، والله أعلم. ¬

(¬1) المرجع السابق.

الباب الثاني: سنن الوضوء

الباب الثاني: سنن الوضوء الفصل الأول: كون التسمية من سنن الوضوء اختلف العلماء في حكم التسمية في الوضوء: فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 3،4) البحر الرائق (1/ 19)، حاشية ابن عابدين (1/ 108،109) المبسوط (1/ 55) شرح فتح القدير (1/ 21،22) بدائع الصنائع (1/ 20) الفتاوى الهندية (1/ 6) (¬2) الأم (1/ 31)، المجموع (1/ 385)، إعانة الطالبين (1/ 43)، منهج الطلاب (1/ 4)، أسنى المطالب (1/ 37)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 59). (¬3) قال صالح بن أحمد بن حنبل في مسائل أحمد (49): " سألت أبي عن الرجل يتوضأ ولا يسمي؟ قال: يسمي أعجب إلي، وإن لم يسم أجزأه ". اهـ وقال ابن هانئ في مسائل أحمد (ص: 3): " سألت أبا عبد الله عن التسمية في الوضوء؟ فقال: لا يثبت حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. وسألته عن الذي ينسى التسمية عند الوضوء؟ قال أبو عبد الله يجزئه ذلك، حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التسمية ليس إسناده بقوي. وسئل عن رجل يترك التسمية عمداً عشر سنين؟ قال: هذا معاند، ولكن لو كان ناسياً كان أسهل، ولكن العمد أشد. قيل له: فترى أن يعيد؟ قال: دع هذه الأشياء ". اهـ وقال ابن قدامة في المغني (1/ 73): والتسمية عند الوضوء ظاهر مذهب أحمد رضي الله عنه أن التسمية مسنونة في طهارة الأحداث كلها، رواه عنه جماعة من أصحابه، وقال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه: أنه لا بأس به - يعني إذا ترك التسمية - وهذا قول الثوري =

وقيل: تعتبر من فضائل الوضوء، وهو المشهور عند المالكية (¬1). وقيل: مباحة، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: تكره التسمية في الوضوء، وهو قول في مذهب مالك، وهو الراجح (¬3). وتأول ربيعة الأحاديث الواردة بالتسمية، فقال: إن تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، أنه الذي يتوضأ ويغتسل، ولا يذكر وضوءاً للصلاة، ولا غسلاً للجنابة (¬4). وقيل: واجبة، وتسقط مع النسيان، وهو المشهور عند متأخري الحنابلة (¬5). ¬

= ومالك والشافعي وأبي عبيدة وابن المنذر وأصحاب الرأي". وانظر التحقيق في أحاديث الخلاف (1/ 137)، الإنصاف (1/ 1/ 128). (¬1) قال في حاشية الدسوقي (1/ 103): وجعلها من الفضائل هو المشهور من المذهب خلافاً لمن قال بعدم مشروعيتها فيه، وأنها تكره. اهـ وانظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 122)، والكافي في فقه أهل المدينة (ص: 23)، وحاشية العدوي (1/ 181)، ومنح الجليل (1/ 94). (¬2) حاشية العدوي (1/ 182). (¬3) جاء في حاشية العدوي (1/ 182): ولم ير بعض العلماء القول بالبداءة بالتسمية من الأمر المعروف عند السلف، بل رآه من الأمر المنكر. وقد نقل عن مالك ثلاث روايات: إحداها: وبها قال ابن حبيب، الاستحباب. الثانية: الإنكار، وقال: أهو يذبح؟ الثالثة: التخيير. اهـ بتصرف يسير. (¬4) سنن أبي داود (102) قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن الدراوردي، قال: وذكر ربيعة ... فذكر قوله، فحمل الحديث على اشتراط النية. (¬5) كشاف القناع (1/ 90)، مطالب أولي النهى (1/ 99)، وقال أبو داود في مسائل أحمد (ص: 11): " سمعت أحمد يقول: إذا بدأ يتوضأ يقول: بسم الله. قلت لأحمد: إذا نسي التسمية في الوضوء؟ قال أرجو أن لا يكون عليه شيء، ولا يعجبني أن يتركه خطأ ولا عمد، وليس فيه إسناد - يعني: لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا وضوء لمن لم يسم ". وانظر مسائل أحمد في رواية عبد الله (1/ 89،90).

دليل من قال: إن التسمية في الوضوء سنة

وقيل: التسمية شرط لصحة الوضوء، قال صاحب عون المعبود، وهو مذهب أهل الظاهر (¬1). دليل من قال: إن التسمية في الوضوء سنة. الدليل الأول: (807 - 36) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: قال العيني: لما كان حال الوقوع أبعد حال من ذكر الله تعالى، ومع ذلك تسن التسمية فيه، ففي سائر الأحوال بطريق الأولى، فلذلك أورده البخاري في كتاب الوضوء للتنبيه على مشروعية التسمية عند الوضوء (¬3). ¬

(¬1) عون المعبود (1/ 121)، ولعله يقصد مذهب داود، وأما مذهب ابن حزم فإنه يرى التسمية سنة، قال في المحلى (2/ 295): " وتستحب تسمية الله تعالى على الوضوء، وإن لم يفعل فوضوءه تام ". وقال في نيل الأوطار (1/ 173): وقد ذهب إلى وجوب التسمية العترة والظاهرية وإسحاق، وإحدى الروايتين عن أحمد. (¬2) رواه البخاري (141) ومسلم (1434)، ولفظ مسلم: " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله ... " وقال في آخره: لم يضره شيطان أبداً. (¬3) عمدة القارئ (2/ 266).

الدليل الثاني

وأجيب: بأن التسمية ليست مشروعة عند كل حال، بل لا تشرع التسمية للأذان والإقامة، وكذلك لا تشرع عند تكبيرة الإحرام، فلا بد من دليل صحيح صريح في مشروعية التسمية، وإلا فالأصل عدم المشروعية. الدليل الثاني: أحاديث لا صلاة لمن لا وضوء له (¬1)، وإن كانت ضعيفة في آحادها، لكنها بالمجموع صالحة للاحتجاج، والنفي فيها للكمال، أي: لا وضوء كامل؛ لأن صفة الوضوء الصحيح قد ثبتت في أحاديث صحيحة بدون التسمية كحديث عبد الله بن زيد، وعثمان وابن عباس، وسيأتي ذكرها قريباً إن شاء الله تعالى، فيبقى النفي للكمال، كما جاء في الحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬2)،: أي لا يؤمن الإيمان الكامل، فالنفي دال على استحباب التسمية في الوضوء، لا على وجوبها. الدليل الثالث: (808 - 37) حمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ثابت وقتادة، عن أنس قال: نظر بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءا فلم يجدوا، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هاهنا ماء؟ قال: فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال: توضؤوا بسم الله، فرأيت الماء يفور: يعني بين أصابعه، والقوم يتوضؤون حتى توضؤوا عن آخرهم. ¬

(¬1) سيأتي ذكرها بالتفصيل عند الكلام على أدلة القائلين بوجوب التسمية. (¬2) متفق عليه: البخاري (13)، ومسلم (45).

قال ثابت: قلت لأنس: كم تراهم كانوا؟ قال: نحواً من سبعين (¬1). [تفرد بزيادة التسمية معمر، عن قتادة وثابت، وروايته عنهما فيها كلام] (¬2). ¬

(¬1) المسند (3/ 165). (¬2) الحديث في مصنف عبد الرزاق (20535)، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه النسائي (1/ 61)، وأبو يعلى (3036)، وابن خزيمة (144)، وابن حبان (6544)، والدارقطني (1/ 71)، والبيهقي (1/ 43). وقد انفرد معمر في زيادة " التسمية " عن كل من رواه عن قتادة وثابت، فقد رواه حماد بن زيد وحماد بن سلمة وسليمان بن المغيرة عن ثابت. كما رواه سعيد بن أبي عروبة وهمام وهشام الدستوائي عن قتادة، ولم يذكروا ما ذكره معمر عن قتادة وثابت، كما جاء الحديث عن أنس من طرق أخرى، فقد رواه الحسن البصري وحميد الطويل وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة كلهم رووه عن أنس بدون بذكر التسمية. وقد تكلم العلماء في رواية معمر عن قتادة وثابت. قال ابن رجب في شرحه للبخاري (1/ 299): " رواية معمر عن قتادة ليست بالقوية. قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: قال معمر: جلست إلى قتادة وأنا صغير، فلم أحفظ عنه الأسانيد. وقال الدارقطني في العلل: معمر سيء الحفظ لحديث قتادة " ا. هـ وجاء في التهذيب: وحديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبي النجود وهشام بن عروة وهذا الضرب مضطرب كثير الأوهام. وفي التقريب قال الحافظ عن معمر: ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابت والأعمش وهاشم شيئاً. ا. هـ وإليك تخريج الحديث: أما رواية ثابت، عن أنس. فقد أخرجها أحمد (3/ 147)، وعبد بن حميد (1365)، والبخاري (200)، ومسلم (2279)، وأبو يعلى (3329)، وابن خزيمة (124)، وابن حبان (6546) وأبو عوانة في المناقب كما في إتحاف المهرة (1/ 455) من طريق حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه أحمد (3/ 248، 249) وابن سعد في الطبقات (1/ 178) عن عفان، ورواه أحمد (3/ 175) عن مؤمل مقروناً بعفان، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن ثابت به. وأخرجه أحمد (3/ 139) وابن سعد في الطبقات (1/ 177 - 178)، وعبد بن حميد (1284)، وأبو يعلى (3327)، وابن حبان (6543) من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت به. وأما طريق قتادة عن أنس. فقد أخرجه أحمد (3/ 170) و (3/ 215) والبخاري (3572)، ومسلم (2279)، وأبو يعلى (3193) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس. وأخرجه مسلم (2279) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة به. وأخرجه أحمد (3/ 289) وأبو يعلى (2895)، وابن حبان (6547) من طريق همام، عن قتادة، عن أنس به. وأما طريق حميد الطويل عن أنس. وأخرجه أحمد (3/ 106) وابن أبي شيبة (6/ 316) والبخاري (3575،195)، وابن حبان (6545) من طريق حميد الطويل، عن أنس به. وأما طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. وأخرجه مالك في الموطأ (1/ 32) ومن طريقه أخرجه الشافعي في مسنده (2/ 186)، وأحمد (3/ 132)، والبخاري (169، 3573)، ومسلم (2279)، والترمذي (3631)، والنسائي (76)، وابن حبان (6539) وأبو عوانة كما في إتحاف المهرة (1/ 413)، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس. وأما طريق الحسن البصري، عن أنس. وأخرجه أحمد (3/ 216) والبخاري (3574)، وأبو يعلى (2759) من طريق الحسن البصري، حدثنا أنس بن مالك به. فكل هذه الطرق تجعل الباحث يجزم بوهم معمر في روايته عن قتادة وثابت في زيادة التسمية في قوله: " توضؤوا باسم الله " هذا مع أن زيادة التسمية لو صحت لم يكن فيه دليل على أمرهم بالتسمية على الوضوء، والله أعلم. وانظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف مسند أحمد (1/ 313، 471)، وتحفة الأشراف (201، 297، 484، 527، 700، 1183، 1888، 1379)، وإتحاف المهرة (333، 438، 457، 647).

دليل من قال بوجوب التسمية

قال البيهقي: هذا أصح ما في التسمية (¬1). وقال الحافظ: أصله في الصحيحين بدون هذه اللفظة، ولا دلالة فيها صريحة لمقصودهم (¬2). دليل من قال بوجوب التسمية الدليل الأول: (809 - 38) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب ومحمد بن عبد الله بن الزبير، عن كثير بن زيد، قال: حدثني ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 43). (¬2) التلخيص (1/ 129). (¬3) المصنف (1/ 12) رقم 14. (¬4) تخريج الحديث: الحديث أخرجه أحمد (3/ 41)، وابن أبي شيبة، كما في حديث الباب، وأبو يعلى (1060)، وابن ماجه (397)، وابن عدي في الكامل (3/ 173)، والحاكم في المستدرك (520)، والبيهقي (1/ 43)، وابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (1/ 137) من طريق زيد بن الحباب. وأخرجه عبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (910)، والدارمي (691)، وابن ماجه (397)، والدارقطني (1/ 71) وابن الجوزي في التحقيق (1/ 137) من طريق أبي عامر العقدي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه أحمد (3/ 41)، وأبو يعلى (1221)، والترمذي في العلل (ص: 33) رقم 18، وابن ماجه (397)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 337) وفي التحقيق (1/ 137) من طريق أبي أحمد الزبيري. ثلاثتهم عن كثير بن زيد، قال: حدثني ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده أبي سعيد. وفي إسناده ربيح بن عبد الرحمن. جاء في ترجمته: قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، فقال: شيخ. الجرح والتعديل (3/ 518). قال أحمد بن حفص السعدي: سئل أحمد بن حنبل - يعني: وهو حاضر - عن التسمية في الوضوء؟ فقال: لا أعلم حديثاً يثبت، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد، عن ربيح، وربيح رجل ليس بمعروف. الكامل (3/ 173)، وانظر بحر الدم (287). وقال الترمذي: قال البخاري: ربيح بن عبد الرحمن منكر الحديث. العلل (ص: 33). وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. الكامل (3/ 174). وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 309). وفي التقريب: مقبول. أي حيث يتابع، وإلا فلين. كما أن في إسناده كثير بن زيد، مختلف فيه: قال أحمد: ما أرى به بأساً. بحر الدم (857). قال ابن عدي: لم أر بحديثه بأسا وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (6/ 68). ذكره ابن حبان في الثقات. (7/ 354). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين له (505). وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سئل يحيى بن معين عن كثير بن زيد، فقال: ليس بذاك القوى. الجرح والتعديل (7/ 150). وقال عنه أخرى: ليس بذاك، وقال عنه أخرى ليس بشيء. تهذيب الكمال (24/ 115). وقال المفضل بن غسان الغلابي ومعاويه بن صالح، عن يحيى بن معين: صالح. المرجع السابق. وقال الدورقي عن يحيى بن معين: ليس به بأس. المرجع السابق. وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي: ثقة. المرجع السابق. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (810 - 39) ما رواه أحمد، قال: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا محمد بن موسى يعني المخزومي، عن يعقوب بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬

= وقال يعقوب بن شيبة: ليس بذاك الساقط وإلى الضعف ما هو. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: صالح، ليس بالقوي، يكتب حديثه. الجرح والتعديل (7/ 150). وقال أبو زرعة: صدوق فيه لين. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق يخطئ. وانظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف مسند أحمد (6/ 272)، تحفة الأشراف (4128)، إتحاف المهرة (5403). (¬1) المسند (2/ 418). (¬2) الحديث مداره على محمد بن موسى، عن يعقوب بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، ويرويه عن محمد بن موسى راويان: قتيبة بن سعيد، وابن أبي فديك. أما رواية قتيبة بن سعيد، فأخرجها أحمد (2/ 418) وأبو داود (101)، والطبراني في الأوسط (8/ 96) رقم 8080، والدارقطني (1/ 79)، والحاكم في المستدرك (518)، والبيهقي (1/ 41،43)، والبغوي في شرح السنة (209). وأما رواية ابن أبي فديك، فأخرجها أبو يعلى الموصلي في مسنده (6409)، وابن ماجه (399)، والدارقطني (1/ 79). وأخرجه الحاكم في المستدرك (519) إلا أنه قال: يعقوب بن أبي سلمة، فخالف جميع من رواه، فإنهم قالوا: يعقوب بن سلمة، ولذلك قال الحاكم: إسناده صحيح، وقد احتج مسلم بيعقوب بن أبي سلمة الماجشون. فتعقبه الذهبي في تلخيصه بأنه الليثي، ولين إسناده. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن دقيق العيد في الإمام كما في البدر المنير (3/ 228)، ونصب الراية (1/ 3): "والذي نراه أن الحديث ليعقوب بن سلمة، وأنه وقع انتقال ذهني من يعقوب بن سلمة إلى يعقوب بن أبي سلمة، ثم قال: ولو سلم أنه يعقوب بن أبي سلمة فيحتاج إلى معرفة حال أبيه: أبي سلمة، واسمه: دينار. قال ابن الملقن: وهذا متين، فقد كشفت كتب الأسماء جرحاً وتعديلاً، فلم أر ديناراً هذا، بل لم أر أحداً قال: إن الماجشون يروي عن أبيه، فتعين غلط الحاكم. اهـ وقال ابن حجر: ظن الحاكم أن يعقوب هو الماجشون، فصححه على شرط مسلم، فوهم، ويعقوب بن سلمة: هو الليثي، مجهول الحال. انظر فيض القدير (6/ 430)، تلخيص الحبير (1/ 72). والحديث فيه ثلاث علل: الأولى: ضعف يعقوب بن سلمة. روى عنه اثنان، ولم يوثقه أحد. وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/ 208). وقال الذهبي: شيخ ليس بعمدة. ميزان الاعتدال (9822)، وفي الكاشف: ليس بحجة. وقال الحافظ في التقريب: مجهول الحال. الثانية: جهالة سلمة الليثي. ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (4/ 177). ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. الثقات (4/ 317) رقم 3091، فقال الحافظ: وهذه عبارة عن ضعفه فإنه قليل الحديث جداً، ولم يرو عنه سوى ولده، فإذا كان يخطئ مع قلة ما روى، فكيف يوصف بكونه ثقة. تلخيص الحبير (1/ 72). وقال المنذري في الترغيب: سلمة لا يعرف، ما روى عنه غير ابنه يعقوب. وقال الذهبي: لا يعرف، ولا روى عنه سوى ولده يعقوب. الميزان (3420). قلت: ولم يسمع منه. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثالثة: الانقطاع بين يعقوب بن سلمة، وبين أبيه، والانقطاع بين سلمة وأبي هريرة. قال البخاري رحمه الله: لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة، ولا ليعقوب من أبيه. التاريخ الكبير (4/ 76). وجاء الحديث عن أبي هريرة من طرق أخرى، كالتالي: الطريق الأول: أخرج الدارقطني (1/ 71)، والبيهقي (1/ 44) من طريق محمود ابن محمد أبو يزيد الظفري، عن أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً " ما توضأ من لم يذكر اسم الله عليه، وما صلى من لم يتوضأ ". قال البيهقي: وهذا الحديث لا يعرف من حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة إلا من هذا الوجه، وكان أيوب بن النجار يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير إلا حديثاً واحداً، وهو حديث التقي: " آدم وموسى " ذكره يحيى بن معين فيما رواه عنه ابن أبي مريم، فكان حديثه هذا منقطعاً. اهـ كلام البيهقي. وفي إسناده محمود بن محمد الظفري، قال الدارقطني: ليس بالقوي، فيه نظر. ميزان الاعتدال (6/ 383،384). الطريق الثاني: روى الطبراني في المعجم الصغير (1/ 131) رقم 196، قال: حدثتا أحمد بن مسعود الزنبري أبو بكر بمصر، حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، ثنا إبراهيم بن محمد البصري، عن علي بن ثابت، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (: يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله؛ فإن حفظتك لا تستريح تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء. قال الطبراني: لم يروه عن علي بن ثابت إلا إبراهيم بن محمد، تفرد به عمرو بن أبي سلمة. وفي إسناده: إبراهيم بن محمد بن ثابت الأنصاري: قال ابن عدي: إبراهيم بن محمد بن ثابت الأنصاري، مدني، روى عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره مناكير، ثم قال: ولإبراهيم بن محمد بن ثابت هذا غير ما ذكرته من الأحاديث، وأحاديثه صالحة محتملة، ولعله أتي ممن قد روى عنه. الكامل (1/ 262). وقال الذهبي: ذو مناكير. ميزان الإعتدال (186). وقال الحافظ: لسان الميزان: أخرج الطبراني في الصغير من طريق عمرو بن أبي سلمة، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن إبراهيم بن محمد البصري، عن علي بن ثابت، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رفعه: يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله ... الحديث، وهو منكر. لسان الميزان (1/ 98). وفيه إسناده عمرو بن أبي سلمة، مختلف فيه: قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: عمرو بن أبى سلمة ضعيف. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى عن عمرو بن أبى سلمة، فقال: يكتب حديثه ولا يحتج به. الجرح والتعديل (6/ 235). وقال العقيلي: في حديثه وهم. ضعفاء العقيلي (3/ 272). وقال ابن يونس: كان من أهل دمشق، قدم مصر، وسكن تنيس، حدث عن الأوزاعي وعن مالك بالموطأ، كان ثقة. تهذيب التهذيب (8/ 39). ذكره ابن حبان في الثقات. (8/ 482). وفي التقريب: صدوق له أوهام. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: إسناده حسن!! وقال الشوكاني في النيل: إسناده واهٍ. الطريق الثالث: ما رواه الطبراني في الأوسط (9/ 63) رقم 9130، قال حدثنا مسعدة ابن سعد، نا إبراهيم بن المنذر، ثنا عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (: إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها؛ فإنه لا يدري أين باتت، ويسمي قبل أن يدخلها. قال الحافظ: تفرد بهذه الزيادة عبد الله بن محمد بن يحيى، وهو متروك. التلخيص (1/ 73). قلت: وعلى التنزل، فليست التسمية في الوضوء؛ لأنه خاص في من أراد أن يدخل يده في الإناء بعد الاستيقاظ، سواء كان لوضوء أم غيره، ولا يدخل فيه من أراد أن يتوضأ، وكان مستيقظاً. وانظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف مسند أحمد (7/ 301)، تحفة الأشراف (13476)، إتحاف المهرة (18887) و (20397).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (811 - 40) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، ثنا ابن أبي فديك، عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه، عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة من لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه. ولا صلاة لمن لا يصلي علي النبي، ولا صلاة لمن لا يحب الأنصار. قال أبو الحسن بن سلمة: حدثنا أبو حاتم، ثنا عيسى عبيس بن مرحوم العطار، ثنا عبد المهيمن بن عباس، فذكر نحوه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (400). (¬2) الحديث رواه الطبراني في الكبير (6/ 121) بإسناد ابن ماجه، إلا أنه اقتصر على قوله: "لا صلاة لمن لم يصل على النبي (. ورواه الدارقطني (1/ 355) من طريق علي بن بحر، حدثنا عبد المهيمن بن عباس به، بلفظ: لا صلاة لمن لم يصل على نبيه (. قال الدارقطني: عبد المهيمن ليس بالقوي. وأخرجه الحاكم في المستدرك (992) من طريق علي بن بحر، عن عبد المهيمن به، بلفظ: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصل على نبي الله في صلاته. قال الحاكم: لم يخرج هذا الحديث على شرطهما؛ فإنهما لم يخرجا لعبد المهيمن. ومن طريق الحاكم أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 379). وفي إسناده عبد المهيمن: قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/ 137). وقال أبو حاتم الرازي: مثله. الجرح والتعديل (6/ 67). =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (812 - 41) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة، عن حارثة، عن عمرة قالت: سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = وقال ابن معين: ضعيف. ضعفاء العقيلي (3/ 114). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (386). وقال الحافظ أبو نعيم الأصباني: عبد المهيمن عن آبائه أحاديث منكرة لا شيء. ضعفاء الأصبهاني (138). وقد تابع أبي بن عباس أخاه عبد المهيمن، فقد أخرجه الطبراني في الكبير (5699) من طريق عبيد الله بن محمد بن المنكدري، ثنا بن أبي فديك، عن أبي بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، به. ولم أقف على ترجمة عبيد الله بن محمد المنكدري لأنظر في مخالفته لدحيم وعلي بن بحر، فإنهما روياه عن ابن أبي فديك، عن عبد المهيمن، وليس عن أخيه، ولذلك قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 509): عبد المهيمن هذا متروك، وقد رواه الطبراني من رواية أخيه أبي ابن عباس، ولكن في ذلك نظر؛ وإنما يعرف من رواية عبد المهيمن. قلت: وأبي بن عباس فيه ضعف. جاء في ترجمته: ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/ 290). وقال ابن معين: ابنا العباس أبي وعبد المهيمن ضعيفان. ضعفاء العقيلي (1/ 16). ذكره ابن حبان في الثقات (4/ 51). وقال أحمد: منكر الحديث. الكاشف (229). وقال النسائي: ليس بالقوي. روى له البخاري حديثاً واحداً في كتاب الجهاد، قال ابن حجر في هدي الساري (ص:389): تابعه عليه أخوه عبد المهيمن ابن العباس ". وفي التقريب: ضعيف. وانظر تحفة الأشراف (4803)، إتحاف المهرة (6265).

الدليل الخامس

قالت: كان إذا توضأ، فوضع يده في الماء، سمى فتوضأ، ويسبغ الوضوء. [إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الخامس: (813 - 42) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو جعفر، قال: حدثنا يحيى بن يزيد بن عبد الله بن أنيس، قال: حدثني عيسى بن سبرة، عن أبيه، ¬

(¬1) المصنف (1/ 12) رقم 16. والحديث رواه إسحاق بن راهوية في مسنده (999) عن عبدة. وأبو يعلى في مسنده (4687،4796، 4864) وابن عدي في الكامل (2/ 198) من طريق ابن أبي زائدة بنحوه. ورواه البزار كما في كشف الأستار (1/ 137) من طريق كلهم عن حارثة بن أبي الرجال، عن عمرة به. وحارثة جاء في ترجمته: قال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (113). قال أحمد بن حنبل: ضعيف ليس بشيء. الجرح والتعديل (3/ 255). وقال الدوري عن يحيى بن معين: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث، ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال أبو زرعة عن حارثة: واهي الحديث ضعيف الحديث. المرجع السابق. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 220): رواه أبو يعلى، وروى البزار بعضه، ومدار الحديثين على حارثة بن محمد، وقد أجمعوا على ضعفه. وقال الحافظ في التخليص (1/ 75): وفي إسناده حارثة بن محمد، وهو ضعيف، وضعف به. قال ابن عدي: بلغني عن أحمد أنه نظر في جامع إسحاق بن راهوية، فإذا أول حديث أخرجه هذا الحديث، فأنكره جداً، وقال: هذا أول حديث يكون في الجامع عن حارثة!! وروى الحربي أنه قال: هذا يزعم أنه اختار أصح شيء في الباب، وهذا أضعف حديث فيه. اهـ

الدليل السادس

عن جده قال: صعد رسول الله ذات يوم المنبر فحمد، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولم يؤمن بالله من لم يؤمن بي، ولم يؤمن بي من لم يعرف حق الأنصار. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن ابن سبرة إلا بهذا الإسناد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السادس: (814 - 43) ما رواه ابن عدي في الكامل، قال: حدثنا محمد بن علي ابن مهدي العطار، ثنا الحسن بن محمد بن أبي عاصم، ثنا عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). ¬

(¬1) المعجم الأوسط (2/ 26) رقم 1115. (¬2) أخرجه أبو بكر في الآحاد والمثاني (873) والطبراني في الكبير (22/ 296) من طريق يحيى بن يزيد بن عبد الله بن أنيس به. ورواه الدولابي في الكنى، والبغوي في الصحابة كما في تلخيص الحبير (1/ 75) من طريق عيسى بن سبرة به. وذكره ابن حجر في الإصابة (2/ 146) رقم 1893. قال الهيمثي في المجمع (1/ 228): " وعيسى بن سبرة، وأبوه، وعيسى بن يزيد لم أر من ذكر أحداً منهم ". وضعفه الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 75). (¬3) الكامل (5/ 243)، قال ابن عدي عقبه: وبهذا الإسناد أحاديث حدثناها ابن مهدي ليست بمستقيمة. (¬4) في إسناده عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر. قال أبو حاتم الرازي: لم يكن بقوي الحديث. الجرح والتعديل (6/ 280). =

الدليل السابع

الدليل السابع: (815 - 44) ما رواه أحمد في المسند، قال: ثنا هيثم - يعنى: ابن خارجة- ثنا حفص بن ميسرة، عن ابن حرملة، عن أبي ثفال المزني أنه قال: سمعت رباح بن عبد الرحمن بن حويطب يقول: حدثتني جدتي أنها سمعت أباها يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= قال فيه أبو نعيم: روى عن أبيه، عن آبائه أحاديث مناكير، لا يكتب حديثه لا شيء. ضعفاء الأصبهاني (175). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: في حديثه بعض المناكير. الثقات (8/ 492) إلا أنه رجع فذكره في المجروحين، وقال: يروي، عن أبيه، عن آبائه أشياء موضوعة، لا يحل الاحتجاج به، كأنه كان يهم ويخطيء حتى كان يجيء بالأشياء الموضوعة عن أسلافه، فبطل الاحتجاج بما يرويه لما وصفت. المجروحين (2/ 121). وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. الكامل (5/ 242). وقال الدارقطني: متروك الحديث. السنن (2/ 263). (¬1) المسند (5/ 381). (¬2) الحديث اختلف في إسناده: فجعل تارة من مسند سعيد بن زيد. وجعل تارة من مسند أسماء بنت سعيد بن زيد. وجعل أيضاً من مسند أبي هريرة، وإليك تخريجه: الحديث أخرجه أحمد وابنه عبد الله أيضاً (4/ 70) عن الهيثم به. وأخرجه أحمد (6/ 382)، وابن أبي شيبة (1/ 12) والطحاوي (1/ 26 - 27)، والدارقطني (1/ 73)، والبيهقي (1/ 43)، والعقيلي في الضعفاء (1/ 177) من طريق وهيب. =

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (816 - 45) ما ذكره عبد الحق في أحكامه كما في البدر المنير (¬1) من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، ¬

= وأخرجه الترمذي (27) والدراقطني (1/ 73) من طريق بشر بن المفضل. وأخرجه الدارقطني (1/ 73)، والبيهقي (1/ 43) من طريق ابن أبي فديك. وأخرجه الدارقطني (1/ 73) من طريق يعقوب بن عبد الرحمن. كلهم عن عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي ثفال المري، عن رباح بن عبد الرحمن بن حويطب، عن جدته، عن أبيه سعيد بن زيد. وتابع يزيد بن عياض عبد الرحمن بن حرملة متابعة تامة عند أحمد (4/ 70)، والترمذي (26)، وابن ماجه (398). وأخرجه أبو داود الطيالسي (243) قال: حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن أبي ثفال عن أبي حويطب بن عبد العزى عن جدته عن أبيها به. ورواه الطحاوي (1/ 27) والحاكم (6899) من طريق سليمان بن بلال، عن أبي ثفال به، ولم يقل: إنها سمعت أباها، جعله من مسندها. ورواه الطحاوي (1/ 27) من طريق الدراوردي، عن ابن حرملة، عن أبي ثفال المري، عن رباح بن عبد الرحمن، عن ابن ثوبان، عن أبي هريرة، فجعله من مسند أبي هريرة. والحديث ضعيف، فيه أبو ثفال المري، واسمه ثمامة بن وائل بن حصين، جاء في ترجمته: ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (2/ 467). قال البخاري: أبو ثقال، عن رباح بن عبد الرحمن في حديثه نظر. ضعفاء العقيلي (2/ 177)، تهذيب التهذيب (2/ 27). وقال الذهبي: ما هو بقوي، ولا إسناده بمرضي، ميزان الاعتدال (4/ 508). وقال أبو حاتم الرازي وأبو زرعة: ليس عندنا بذاك الصحيح. انظر العلل (129). وانظر لمراجعة طرقه: أطراف المسند (2/ 473)، تحفة الأشراف (4470)، إتحاف المهرة (5871). (¬1) البدر المنير (3/ 251).

عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: لا إيمان لمن لم يؤمن بي، ولا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يسم الله. [الحديث ضعيف جداً] (¬1). قالوا: فهذه أحاديث ثمانية منها الضعيف جداً الذي لا ينجبر، ومنها الضعيف المنجبر بالمتابعات. قال أبو بكر بن أبي شيبة: «ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله». وقال المنذري: «ولا شك أن الأحاديث التي وردت فيها على الوضوء، وإن كان لا يسلم شيء منها عن مقال، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها، وتكتسب قوة، والله أعلم» (¬2). وقال ابن الملقن في البدر المنير (¬3): وذكرنا من الأحاديث ما يستدل الفقهاء بمثله، ويستند العلماء في الأحكام إليه، فليس من شأنهم أن لا يحتجوا إلا بالصحيح، بل أكثر احتجاجهم بالحسن، ولا يخلو هذا الباب في ذلك عن حسن صريح. وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: روي هذا الحديث من وجوه في كل منها نظر، لكنها غير مطرحة، وهي من قبيل ما يثبت باجتماعه الحديث ثبوت الحديث الموسوم بالحسن. وحسنه العراقي كما في نتائج الأفكار. ¬

(¬1) قال الحافظ في التلخيص (1/ 128): وعبد الملك شديد الضعف، وفي التقريب ذكره تمييزاً، وقال: صدوق ضعيف الحفظ، كثير الغلط. (¬2) الترغيب والترهيب (1/ 88). (¬3) (3/ 253).

دليل من قال: لا تشرع التسمية

وقال الحافظ: «والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً» (¬1). دليل من قال: لا تشرع التسمية: الدليل الأول: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} الآية (¬2). وجه الاستدلال: أن الآية لم تذكر التسمية، ولو كانت مشروعة لذكرت فيها. وممكن أن يجاب عن ذلك: أن الآية غاية ما فيها أنها لم تذكر التسمية، وهذا لا يمنع أن الزيادة على ما في الآية من دليل آخر، فلا يشترط في الدليل الواحد أن يكون مشتملاً على جميع الشروط والواجبات، ولا تحرم الزيادة على ما في الآية من دليل آخر كما زيد في تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير على ما ورد في آية المائدة. الدليل الثاني: الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل صحيح على المشروعية، ولم يثبت في الباب حديث صحيح. ¬

(¬1) تلخيص الحبير (1/ 128). (¬2) المائدة: 6.

جاء في مسائل الكوسج لأحمد «قال: قلت: إذا توضأ، ولم يسم؟ قال: لا أعلم فيه حديثاً له إسناد جيد» (¬1). وفي مسائل أحمد رواية أبي داود: «قلت: لأحمد: التسمية في الوضوء؟ قال: أرجو أن لا يكون عليه شيء، ولا يعجبني أن يتركه خطأ ولا عمداً، وليس فيه إسناد، قال أبو داود: يعني: لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لا وضوء لمن لم يسم» (¬2). وقال أحمد بن حفص السعدي: «سئل أحمد بن حنبل - يعني: وهو حاضر - عن التسمية في الوضوء؟ فقال: لا أعلم حديثاً يثبت، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد، عن ربيح، وربيح رجل ليس بمعروف» (¬3). فلو كانت التسمية واجبة في الوضوء، ومنزلتها من الوضوء كمنزلة الوضوء من الصلاة لجاءت الأحاديث الصحيحة التي تقوم بها الحجة على الخلق، ولم ينفرد بهذه الأحاديث الرواة المتكلم فيهم، وفيهم المجروح جرحاً شديداً، {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} (¬4). ¬

(¬1) مسائل الكوسج (2)، وقال الترمذي في السنن (1/ 38): " لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد "، وانظر مسائل أبي داود (31)، وابن هاني (17) ومسائل عبد الله (1/ 89 - 90). (¬2) مسائل أبي داود (31). (¬3) الكامل (3/ 173)، وانظر بحر الدم (287). (¬4) التوبة: 115.

الدليل الثالث

وأجيب: قال ابن حجر تعليقاً على مقالة الإمام أحمد: «لا يلزم من نفي العلم نفي الثبوت، وعلى التنزل لا يلزم من نفي الثبوت ثبوت الضعف؛ لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة، فلا ينتفي الحكم بالحسن، ولا على التنزل لا يلزم من نفي الثبوت عن كل فرد نفيه عن المجموع» (¬1). وسوف يأتي الجواب عن تعقيب ابن حجر ضمن الكلام على الدليل التالي: الدليل الثالث: قالوا: لم يرد ذكر التسمية في الأحاديث الصحيحة التي سيقت في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يليق بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم ينقلون لنا صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهملوا التسمية، وهي واجبة كوجوب الوضوء للصلاة، وإليك بعضاً منها. (817 - 46) منها ما رواه البخاري، من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فقال عبد الله بن زيد نعم فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه. ورواه مسلم (¬2). ¬

(¬1) الفتح (1/ 223). (¬2) صحيح البخاري (185)، ومسلم (235).

فهذا الحديث سيق جواباً على سؤال: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ والسؤال إنما هو عن الوضوء الشرعي الصحيح، فلو كان الوضوء لا يصح إلا بالتسمية لوجب بيانها؛ لأن تركها حينئذ سوف يخل بصحة الوضوء، فلا يصدق عليه أن هذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف تكون التسمية واجبة كوجوب الوضوء للصلاة؟! ولا يصح مخرجاً من هذا أن يقال: إن قوله: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه إنما هو نفي للكمال؛ وذلك لأن الأحاديث التي فيها ذكر التسمية، جعلت منزلة التسمية من الوضوء، كمنزلة الوضوء من الصلاة، فسقط حمل النفي فيها على الكمال، فيلزم من يصحح أحاديث التسمية أن يقول: بأن التسمية شرط لصحة الوضوء، لا يصح الوضوء مطلقاً إلا بها، فإذا تركها لم يصح وضوؤه، سواء كان تركه لها ناسياً أو ذاكراً، كالصلاة بلا وضوء، وقد جمع بينهما الحديث، لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، فكما أن الصلاة لا تصح مطلقاً إلا بالطهارة، ولو ترك الطهارة ناسياً لم تصح صلاته، فكذلك الوضوء، ولو قالوا بهذا لزمهم القدح بالأحاديث الصحيحة التي ذكرت صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس فيها ذكر التسمية، وكان لزاماً إما القول بأن الصحابي قصر في هذا النقل، أو عدم الأخذ بظاهر أحاديث التسمية. ولذلك فالحنابلة القائلون بوجوب التسمية في الوضوء يصححون الوضوء إذا نسي التسمية، ولا يجعلون التسمية بمثابة الوضوء للصلاة، وهذا دليل على ضعف هذا القول؛ لأنهم لم يأخذوا بظاهر أحاديث التسمية، ولم يدعوها بالكلية.

ومن الأحاديث التي سيقت في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تذكر التسمية: (818 - 47) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره، أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ثم قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال من الحديث كوجه الاستدلال من الذي قبله، حيث لم يشتمل هذا الوضوء على التسمية، ثم قال: «من توضأ نحو وضوئي هذا» أي نحو فعلي هذا، فصحح الوضوء مع خلوه من التسمية. والجواب عن أحاديث التسمية أن يقال: إذا كانت الأحاديث ضعيفة، لم تكن صالحة للاحتجاج، وليس كل ضعيف ينجبر إذا جاء من طريق آخر، خاصة إذا كانت الأحاديث تخالف أصلاً شرعياً، أو تخالف أحاديث صحيحة، فآية الوضوء من سورة المائدة ليس فيها ذكر التسمية، والأحاديث الصحيحة التي سيقت لنا في وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عثمان رضي الله عنه في الصحيحين، وحديث عبد الله ابن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، وغيرهم كثير لم تذكر لنا التسمية، وهي إنما سيقت في بيان صفة الوضوء الشرعي الصحيح. ¬

(¬1) صحيح البخاري (159)، ومسلم (236).

وهناك قاعدة: إذا كان الحكم يحتاج إليه حاجة عامة متكررة، لا بد أن يأتي فيه البلاغ بأدلة صحيحة تقوم بها الحجة، فانظر إلى الوضوء ومنزلته في الشرع، إنه شرط لأعظم أركان الإسلام العملية: وهي الصلاة، وبدون هذا الوضوء تكون الصلاة باطلة، وعبادة الوضوء تتكرر في اليوم عدة مرات، فالحاجة إلى معرفة الوضوء الصحيح حاجة ملحة عامة، فكيف تأتي سنن الوضوء بأحاديث صحيحة قاطعة للنزاع، ثم تعرض جميع الأحاديث الصحيحة عن ذكر التسمية، ويكون مدارها على أحاديث ضعيفة مع أن منزلة التسمية من الوضوء بمنزلة الوضوء من الصلاة؟. فهذا القول هو أقوى الأدلة بحسب فهمي القاصر، وأن التسمية غير مشروعة في الوضوء، كما هي غير مشروعة في الغسل من الجنابة وفي طهارة التيمم، والتسمية لا تشرع لكل عبادة حتى يقال بمشروعيتها في الوضوء، فهناك عبادات لا تشرع فيها التسمية جزماً، كالدخول في الصلاة، والشروع في الأذان، ومثلهما على الصحيح رمي الجمارات، وابتداء الطواف، والله أعلم. ويأتي بعد هذا القول من حيث القوة القول بأنها مستحبة، وأما القول بالوجوب فهو قول ضعيف، وأضعف منه القول بأن التسمية شرط لصحة الوضوء، وكنت فيما كتبت في كتاب الحيض والنفاس قد ذهبت إلى استحباب التسمية في الوضوء، ثم رجعت عن ذلك في هذا البحث حين تأملت الأدلة، ورأيت أن القول المنسوب إلى مالك من كراهة التسمية في الوضوء يتمشى مع القواعد الفقهية، وهذا شأن الأمور الفقهية، بل الأمور الاجتهادية، فربما يرى الإنسان رأياً، ويخلص في بحثه أنه الصواب ثم يقف على ما يدعوه إلى تركه، وهذا طريق من يبحث عن الحق بتجرد، ودون تعصب لقول من الأقوال، ولم يبتل بإتباع الجمهور، والله أعلم.

الفصل الثاني: من سنن الوضوء السواك

الفصل الثاني: من سنن الوضوء السواك وقد أفردت أحكام السواك بكتاب مستقل نظراً لكثرة أحكامه، وبينت فيه مكانته في الشريعة، وفضله، والأوقات التي يتأكد فيها، وغيرها من الأحكام، فجاء في أكثر من خمسين وثلاثمائة صفحة، طبع مع كتاب سنن الفطرة، فالحمد لله على توفيقه، وسوف أشير هنا فقط لما له تعلق في الوضوء، في كون السواك من سنن الوضوء، فأقول: في هذه المسألة خلاف بين العلماء: فقيل: السواك مستحب في الوضوء، وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب المالكية (¬2)، وقيل: سنة، وهو قول في مذهب الحنفية أيضاً (¬3)، ومذهب ¬

(¬1) وفي مذهب الحنفية قولان. قال ابن عابدين: قيل: إنه مستحب؛ لأنه ليس من خصائص الوضوء، وصححه الزيلعي وغيره. وقال في فتح القدير: إنه الحق، قال ابن عابدين: لكن في شرح المنية الصغير: وقد عده القدوري والأكثرون من السنن، وهو الأصح. قال ابن عابدين: وعليه المتون. حاشية ابن عابدين (1/ 113)، وانظر البحر الرائق (1/ 1/21)، وتبيين الحقائق (1/ 4)، العناية شرح الهداية (1/ 25)، الجوهرة النيرة (1/ 6)، شرح فتح القدير (1/ 24،25)، وانظر بدائع الصنائع (1/ 19). (¬2) وفي مذهب المالكية أيضاً قولان: المشهور: أنه مستحب، واختار ابن عرفة أنه سنة. انظر: التاج والإكليل (1/ 380)، وعده فضيلة (أي من المستحبات)، وكذلك اعتبره الخرشي (1/ 138) من الفضائل. وقال في مواهب الجليل (1/ 264): " أما حكمه فالمعروف في المذهب أنه مستحب، وقال ابن عرفة: والأظهر أنه سنة؛ لدلالة الأحاديث على مثابرته - صلى الله عليه وسلم - عليه " وانظر المنتقى شرح الموطأ (1/ 130). (¬3) البحر الرائق (1/ 1/21)، وتبيين الحقائق (1/ 4)، العناية شرح الهداية (1/ 25)، =

دليل من قال: السواك مستحب وليس بسنة

الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، واختاره ابن عرفة (¬3)، وابن العربي من المالكية (¬4). دليل من قال: السواك مستحب وليس بسنة. فرق بعض الفقهاء بين المستحب والسنة فقالوا: السنة: ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمستحب: مافعله مرة أو مرتين. وألحق بعضهم به ما أمر به، ولم ينقل أنه فعله (¬5). ¬

= الجوهرة النيرة (1/ 6)، شرح فتح القدير (1/ 24، 25). (¬1) قال النووي في المجموع (1/ 328): " الثالث ـ يعني من الأحوال التي يتأكد فيها استحباب السواك - عند الوضوء، اتفق عليه أصحابنا، ممن صرح به صاحبا الحاوي، والشامل، وإمام الحرمين، والغزالي، والروياني، ولا يخالف هذا اختلاف الأصحاب في أن السواك هل هو من سنن الوضوء أم لا؟ فإن ذلك الخلاف إنما هو في أنه يعد من سنن الوضوء أم سنة مستقلة عند الوضوء لا منه. وكذا اختلفوا في التسمية وغسل الكفين، ولا خلاف أنهما سنة، وإنما الخلاف في كونها من سنن الوضوء ". اهـ. وانظر أسنى المطالب (1/ 36)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 58)، وفتاوى الرملي (1/ 51)، تحفة المحتاج (1/ 213). نهاية المحتاج (1/ 177). (¬2) الإنصاف (1/ 118)، كشاف القناع (1/ 94).مطالب أولي النهى (1/ 92). (¬3) التاج والإكليل (1/ 380)، الشرح الصغير (1/ 125). (¬4) قال ابن العربي في أحكام القرآن (2/ 79) وقال: " السواك من سنن الوضوء، لا من فضائله ". (¬5) بعض العلماء لم يفرق بين المستحب والسنة والمندوب والنفل، وجعلها كلها ألفاظاً مترادفة، وقد ذكر الرازي في المحصول ستة أسماء تطلق على المندوب، هي: مرغب فيه، ومستحب، ونفل، وتطوع، وسنة، وإحسان. انظر المحصول (1/ 129 - 130). وقال السبكي في الإبهاج (1/ 57): بعدما عرف المندوب، قال: ويسمى سنة ونافلة، ومن أسمائه أيضا أنه مرغب فيه وتطوع ومستحب والترادف في هذه الأسماء عليه أكثر الشافعية وجمهور الأصوليين. اهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وجاء في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (1/ 207): والمندوب في عرف الشرع ما أثيب فاعله، كالسنن الرواتب ولو قولا كأذكار الحج وغيره , أو عمل قلب كالخشوع في الصلاة، ولم يعاقب تاركه. ويسمى المندوب سنة ومستحبا وتطوعا وطاعة ونفلا وقربة ومرغبا فيه وإحسانا. قال الإمام العلامة ابن حمدان في مقنعه: ويسمى الندب تطوعا وطاعة ونفلا وقربة إجماعاً، وهذا والله أعلم بحسب اصطلاح الفقهاء والأصوليين، وأما المحدثون فيخصون المسنون بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وتقريراته، لا على سبيل الوجوب. اهـ وبعضهم فرق بينها، كما هو مذهب الحنفية والقاضي حسين والبغوي من الشافعية وبعض الحنابلة، وإليك النقول عنهم: جاء في البحر الرائق (1/ 29): ما واظب - صلى الله عليه وسلم - عليه مع تركٍ ما بلا عذر سنة. وما لم يواظب عليه مندوب ومستحب، وإن لم يفعله بعد ما رغب فيه كذا في التحرير. وجاء في بدائع الصنائع (1/ 24): الفرق بين السنة , والأدب أن السنة ما واظب عليه رسول الله (ولم يتركه إلا مرة أو مرتين لمعنى من المعاني. والأدب ما فعله مرة أو مرتين، ولم يواظب عليه. اهـ وانظر حاشية ابن عابدين (2/ 375). وجاء في طرح التثريب (3/ 29): المشهور عند أصحابنا الشافعية أن التطوع ما رجح الشرع فعله على تركه وجاز تركه، فالتطوع والسنة والمستحب والمندوب والنافلة والمرغب فيه والحسن ألفاظ مترادفة. وقال آخرون: ما عدا الفريضة ثلاثة أقسام: (سنة) وهو ما واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ومستحب): وهو ما فعله أحيانا ولم يواظب عليه، وكذا لو أمر به ولم يفعله، كما صرح به الخوارزمي في الكافي، ومثاله الركعتان قبل المغرب. (وتطوع): وهو ما ينشئه الإنسان ابتداء من غير أن يرد فيه نقل من الشرع. وفرق المالكية بين السنة والفضيلة، وضابطه عندهم كما قال بعضهم: إن كل ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مظهراً له في جماعة، فهو سنة، وما لم يواظب عليه وعده في نوافل الخير فهو فضيلة، وما واظب عليه ولم يظهره كركعتي الفجر ففي كونه سنة أو فضيلة قولان. اهـ نقلاً من طرح التثريب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وجاء في البحر المحيط (1/ 378): قال القاضي حسين والبغوي: ما عدا الفرائض ثلاثة أقسام: سنة: وهي ما واظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومستحب: وهو ما فعله مرة أو مرتين، وألحق بعضهم به ما أمر به ولم ينقل أنه فعله. وتطوعات: وهو ما لم يرد فيه بخصوصه نقل، بل يفعله الإنسان ابتداء كالنوافل المطلقة. ورده القاضي أبو الطيب في " المنهاج " بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج في عمره مرة واحدة، وأفعاله فيها سنة وإن لم تتكرر، والاستسقاء من الصلاة والخطبة لم ينقل إلا مرة، وذلك سنة مستحبة اهـ. وفيه وجه ثالث: أن النفل والتطوع لفظان مترادفان، وهما ما سوى الفرائض والسنن، والمستحب، ونحو ذلك أنواع لها. وفيه وجه رابع: قاله الحليمي: السنة ما استحب فعله وكره تركه، والتطوع ما استحب فعله ولم يكره تركه. وفيه وجه خامس: حكاه في باب الوضوء من " المطلب ": السنة ما فعله - صلى الله عليه وسلم -، والمستحب ما أمر به سواء فعله أو لا، أو فعله ولم يداوم عليه، فالسنة إذا مأخوذة من الإدامة , وقيل: السنة ما ترتب كالرواتب مع الفرائض , والنفل والندب ما زاد على ذلك. حكاه الشيخ أبو إسحاق في " اللمع ". وقال ابن السمعاني في " القواطع ": النفل قريب من الندب، إلا أنه دونه في الرتبة. وعند المالكية ما ارتفعت رتبته في الأمر وبالغ الشرع في التخصيص منه يسمى سنة، وما كان في أول هذه المراتب تطوعا ونافلة، وما توسط بين هذين فضيلة ومرغبا فيه. وفرق أبو حامد الإسفراييني بين السنة والهيئة: بأن الهيئة ما يتهيأ بها فعل العبادة , والسنة ما كانت في أفعالها الراتبة فيها , وجعل التسمية وغسل الكفين في الوضوء من الهيئات , والمشهور أنهما سنة , والخلاف يرجع إلى العبارة. وقال ابن العربي أخبرنا الشيخ أبو تمام بمكة. قال: سألت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ببغداد عن قول الفقهاء: إنه سنة وفضيلة ونفل وهيئة، فقال: هذه عامية في الفقه، وما يجوز أن يقال: إلا فرض لا غير، قال: وقد اتبعهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني فذكر أن في الصلاة سنة وهيئة، وأراد بالهيئة رفع اليدين ونحوه. قال: وهذا كله يرجع إلى السنة. قال: وأما أنا فقد سألت عن هذا أستاذي القاضي أبا العباس الجرجاني بالبصرة. فقال: هذه ألقاب لا أصل لها , ولا نعرفها في الشرع. قلت له: قد ذكرها أصحابنا =

وهذا التفريق بين السنة والمستحب لا دليل عليه،، والصحيح: أن لفظ السنة والمندوب والمستحب ألفاظ مترادفة، في مقابل الواجب، ولو سلم هذا التفريق فإن السواك سنة أيضاً، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، حتى استاك - صلى الله عليه وسلم -، وهو في سكرات الموت. قال ابن العربي: «لا زم النبي - صلى الله عليه وسلم - السواك فعلاً، وندب إليه أمراً، حتى قال في الحديث الصحيح: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» وما غفل عنه قط، بل كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، فهو مندوب إليه، ومن سنن الوضوء، لا من فضائله)). اهـ كلام ابن العربي (¬1). ¬

= البغداديون عبد الوهاب وغيره، فقال: الجواب عليكم. قال ابن العربي: وفرق أصحابنا النظار، فقالوا: السنة ما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في جماعة وداوم عليها، ولهذا لم يجعل مالك ركعتي الفجر سنة، والفضيلة ما دخل في الصلاة وليس من أصل نفسها كالقنوت وسجود التلاوة، قال: وهذا خلاف لفظي لا يظهر إلا في الثواب، فالسنة أعلى المراتب، والندب ومتعلقه من الثواب أكثر من غيره، وقد ركب الشافعي مسلكا ضيقاً، فأطلق على الجميع سنة، ثم قال: إن ترك السورة لا يقتضي سجود السهو، وترك القنوت يقتضي، حتى قال أصحابنا: لا يوجد بينهما فرق. اهـ نقلاً من البحر المحيط. وجاء في شرح الكوكب المنير وهو حنبلي (ص: 126): ويسمى المندوب: سنة ومستحباً وتطوعاً وطاعةً ونفلاً وقربةً ومرغباً فيه وإحساناً، قال ابن حمدان في مقنعه: ويسمى الندب تطوعاً وطاعةً ونفلاً وقربةً إجماعاً. ثم قال: (وأعلاه) أي أعلا المندوب (سنة)، ثم فضيلة، ثم نافلة) قال الشيخ أبو طالب مدرس المستنصرية من أئمة أصحابنا في حاويه الكبي: إن المندوب ينقسم ثلاثة أقسام. أحدها: ما يعظم أجره، فيسمى سنة. والثاني: ما يقل أجره، فيسمى نافلة. والثالث: ما يتوسط في الأجر بين هذين، فيسمى فضيلة ورغيبة. اهـ (¬1) أحكام القرآن (2/ 79).

دليل من قال: السواك سنة عند الوضوء

وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على السواك منها، ما يلي: (819 - 48) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. ورواه مسلم أيضاً. فقوله: «إذا قام من الليل» دليل على تكرار ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - كلما قام من الليل. (820 - 49) ومنها حديث عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته بدأ بالسواك، وهو حديث صحيح (¬1). ولفظ: «كان» يدل على فعله دائماً أو غالباً. فكيف يقال بعد هذه الأحاديث الصحيحة: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب عليه. دليل من قال: السواك سنة عند الوضوء. (821 - 50) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (¬2). ¬

(¬1) انظر تخريجه في ح 731، من كتابي سنن الفطرة. (¬2) سبق تخريجه في مسألة: حكم السواك من كتابي سنن الفطرة.

واختلف القائلون بأنه سنة: هل هو من سنن الوضوء، أو هو سنة مستقلة عند الوضوء على قولين: فقيل: إنه سنة مستقلة، يسن عند الوضوء تعليلهم: أن السواك أولاً، ليس مختصاً بالوضوء. وثانياً: أنه ليس من جنس أفعال الوضوء؛ لأن الوضوء هو استعمال الماء بنية مخصوصة، والسواك ليس فيه استعمال ماء (¬1). وقيل: بل هو من سنن الوضوء، قال إمام الحرمين: ليس شرط كون الشيء من الشيء أن يكون من خصائصه، فإن السجود ركن في الصلاة، ومشروع في غيرها لتلاوة، وشكر (¬2). وأرى أن الخلاف لفظي. ¬

(¬1) حاشية الجمل (1/ 123). (¬2) المجموع شرح المهذب (1/ 386).

مبحث: في محل السواك من الوضوء فقيل: عند المضمضة. وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: قبل الوضوء، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4). ¬

(¬1) قال في البحر الرائق (1/ 21): " واختلف في وقته، ففي النهاية وفتح القدير أنه عند المضمضة، وفي البدائع والمجتبى قبل الوضوء، والأكثر على الأول، وهو الأولى " وقال في العناية شرح الهداية (1/ 24): " ويستاك عرضاً لا طولاً عند المضمضة ". وقال في الجوهرة النيرة (1/ 5): " السواك: هو سنة مؤكدة، ووقته عند المضمضة". اهـ وانظر شرح فتح القدير (1/ 24)، بريقة محمودية (1/ 161). وفي مذهب المالكية قال في الفواكه الدواني: " ويسن الاستياك عند المضمضة (1/ 136). وقال في مواهب الجليل (1/ 265): " ويفعل ذلك مع المضمضة ". وقال في شرح مختصر خليل (1/ 138، 139): " ويكون ـ يعني السواك ـ قبل الوضوء، ويتمضمض بعده ". اهـ وانظر الشرح الصغير (1/ 124). وفي مذهب الشافعية قال في حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 59) " ويستاك قبل المضمضة". وقال في تحفة المحتاج (1/ 214): " ومحله ـ يعني السواك ـ بين غسل الكفين والمضمضة ". اهـ وانظر نهاية المحتاج (1/ 178). وفي مذهب الحنابلة قال في كشاف القناع " ويسن تسوكه عند المضمضة (1/ 93). وانظر شرح منتهى الإرادات (1/ 46). (¬2) البحر الرائق (1/ 21)، حاشية ابن عابدين (1/ 113). (¬3) قال في حاشية العدوي (1/ 183): " في المسألة قولان، فقيل: يستاك عند المضمضة، لا قبل ولا بعد، وهل مع كل مرة أو مع البعض؟ وقيل: إنه يستاك قبل الوضوء، ويتمضمض بعده ليُخْرج الماء ما حصل بالسواك ". اهـ (¬4) قال الرملي في فتاويه (1/ 51): يبدأ بالسواك قبل التسمية وغيرها، كما صرح به =

دليل من قال السواك قبل الوضوء

دليل من قال السواك قبل الوضوء. (822 - 51) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «عند كل وضوء» فالعندية لا تقتضي المصاحبة، كما في السواك عند كل صلاة، فمعلوم قطعاً أنه لم يرد المصاحبة، بل قبل الصلاة، فالوضوء كذلك، والله أعلم. دليل من قال السواك عند المضمضة. (823 - 52) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (¬2). ¬

= جماعة منهم القفال في محاسن الشريعة والماوردي في الإقناع، والغزالي في الوسيط، وصاحب البيان، ومال إليه الأذرعي ". اهـ وقال في تحفة المحتاج (1/ 214): " ومحله بين غسل الكفين على ما قاله ابن الصلاح وابن النقيب في عمدته، وكلام الإمام وغيره يميل إليه، وينبغي اعتماده. وقال الغزالي كالماوردي والقفال: محله قبل التسمية مغني، وجرى على ما قاله الغزالي والشهاب الرملي، والنهاية والزيادي ". (¬1) المصنف (1/ 155) رقم 1787. (¬2) سبق تخريجه في مسألة: حكم السواك، من كتابي سنن الفطرة.

فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مع كل وضوء» المعية هنا تقتضي المصاحبة، لأن من تسوك بعد غسل الكفين، وقبل المضمضة يصدق عليه أنه تسوك مع الوضوء، وليس قبله. والذي يظهر والله أعلم أن الحديثين حديث واحد، إحدى الروايتين تفسر الأخرى، فالعندية لا تعارض المعية هنا، والله أعلم. والتسوك والمضمضة كلاهما متعلق بالفم دون سائر أعضاء الوضوء. والأفضل والله أعلم أن يكون تسوكه قبل المضمضة، سواء كان بعد غسل الكفين أو قبل الشروع في الوضوء؛ وذلك لأن السواك إذا نظف الأسنان، ثم جاءت بعده المضمضة، ومج الماء يكون قد سقط كل أذى اقتلعه السواك من الأسنان أو اللثة، والله أعلم. وهناك تفسير آخر فيه بُعْدٌ، ذكره بعض الفقهاء. قال الزرقاني: «قوله: ((مع كل وضوء» أي مصاحباً له، كقوله في رواية: «عند كل وضوء». ويحتمل أن معناه لأمرتهم به كما أمرتهم بالوضوء)) (¬1). ¬

(¬1) شرح الزرقاني لموطأ مالك (1/ 195).

الفصل الثالث: من سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثا

الفصل الثالث: من سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثا هذه سنتان من سنن الوضوء، فغسل الكفين في ابتداء الوضوء سنة، وكون الغسل ثلاثاً سنة أخرى. فأما غسل الكفين فإن فيه تفصيلاً: فإن كان بعد القيام من نوم الليل الناقض للوضوء، ففيه خلاف على النحو التالي: فقيل: غسل اليد سنة، وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: غسل اليد ثلاثاً واجب، وإليه ذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه (¬5)، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن حزم (¬6)، والحسن البصري (¬7). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 20)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 497)، العناية شرح الهداية (1/ 20،21)، الجوهرة النيرة (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 17)، شرح فتح القدير (1/ 21)، حاشية ابن عابدين (1/ 111،112). (¬2) المنتقى (1/ 48)، الخرشي (1/ 132)، الفواكه الدواني (1/ 134)،. (¬3) الأم (1/ 39)، المجموع (1/ 214)، إحكام الأحكام (1/ 68،69)، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 160). (¬4) الفتاوى الكبرى (1/ 217). (¬5) المغني (1/ 70،71)، الفروع (1/ 144)، الإنصاف (1/ 40)، مطالب أولي النهى (1/ 92). (¬6) المحلى (1/ 155). (¬7) المغني (1/ 70).

الدليل على أن غسل الكفين سنة من الكتاب والسنة والإجماع

وقد ذكرت أدلة كل قول مع مناقشتها في بحث موسع في كتاب المياه، فأغنى عن إعادته هنا (¬1). وإن كان غسل اليدين لم يكن على إثر نوم، فإن غسلهما سنة من سنن الوضوء (¬2)، وقيل: سنة مستقلة عند الوضوء، لا من الوضوء كالسواك، اختاره الخرسانيون من الشافعية (¬3). والدليل على أن غسل الكفين سنة من الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا أقمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (¬4). ¬

(¬1) (ص: 241). (¬2) وفي مذهب الحنفية ثلاثة أقوال في حكم غسل اليدين. يقول ابن نجيم في البحر الرائق (1/ 18): اعلم أن في غسل اليدين ابتداء ثلاثة أقوال: قيل: إنه فرض، وتقديمه سنة. واختاره في فتح القدير والمعراج والخبازية وإليه يشير قول محمد في الأصل بعد غسل الوجه: ثم يغسل ذراعيه ولم يقل يديه، فلا يجب غسلهما ثانياً. وقيل: إنه سنة تنوب عن الفرض، كالفاتحة فإنها واجبة تنوب عن الفرض، واختاره في الكافي. وقيل: إنه سنة لا ينوب عن الفرض، فيعيد غسلهما ظاهرهما وباطنهما، اختاره السرخسي، ثم قال: وظاهر كلام المشايخ أن المذهب الأول. اهـ وهذا التفصيل إنما هو في مذهب الحنفية، وأما بقية المذاهب فإن غسل الكفين من سنن الوضوء، ولا ينوب عن الفرض، انظر الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 117)، الخرشي (1/ 132)، حاشية الدسوقي (1/ 96)، روضة الطالبين (1/ 58)، الحاوي الكبير (1/ 101)، المغني (1/ 70). (¬3) المجموع (1/ 328،388). (¬4) المائدة: 6.

الدليل على أن غسلهما ثلاثا سنة أيضا من سنن الوضوء

فلم يذكر غسل اليدين، ولو كان غسلهما فرضاً لذكره فيما ذكر. وأما السنة فأحاديث كثيرة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها: حديث عثمان في الصحيحين، وحديث عبد الله بن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب وسوف يأتي ذكر متونها وتخريجها - إن شاء الله تعالى عند الكلام على صفة الوضوء - كلها تذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل كفيه في وضوئه، وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - دال على السنية إن كان على وجه التعبد كما هو الحال هنا. وأما الإجماع فقد نقله طائفة من أهل العلم. قال ابن المنذر: «أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن غسل اليدين في ابتداء الوضوء سنة، يستحب استعمالها، وهو بالخيار إن شاء غسلها مرة، وإن شاء غسلها مرتين، وإن شاء ثلاثاً، أي ذلك شاء فعل، وغسلهما ثلاثاً أحب إلي، وإن لم يفعل ذلك فأدخل يده الإناء قبل أن يغسلها فلا شيء عليه، ساهياً ترك ذلك أم عمداً إذا كانتا نظيفتين» (¬1). وقال ابن قدامة: «وليس ذلك - يعني غسل الكفين في الوضوء - بواجب عند غير القيام من النوم بغير خلاف نعلمه». وأما الدليل على أن غسلهما ثلاثاً سنة أيضاً من سنن الوضوء، فالإجماع: قال ابن رشد في بداية المجتهد: «اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وأن الاثنين والثلاث مندوب إليهما». ¬

(¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 34).

وقال النووي في شرح مسلم: «وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة، وعلى أن الثلاث سنة» (¬1). وسوف يأتي إن شاء الله تعالى أن السنة في الوضوء أن يتوضأ الإنسان مرة مرة، وأحياناً مرتين مرتين، وأحياناً ثلاثاً ثلاثاً، وذلك لأن العبادة إذا جاءت على وجوه مختلفة فالسنة أن تفعل كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يصيب السنة من جميع وجوهها، وفيها يتحقق الموافقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في فعله وتركه. ¬

(¬1) شرح مسلم (1/ 106، 114).

المبحث الأول: السنة أن يغسل كفيه قبل أن يدخلهما الإناء

المبحث الأول: السنة أن يغسل كفيه قبل أن يدخلهما الإناء. نص الفقهاء على أن السنة لا تثبت إلا بغسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء أو في الماء إذا كان الماء قليلاً (¬1). وقيل: لا تتحقق السنة إلا إذا غسل يديه خارج الماء مطلقاً سواء توضأ من نهر أو حوض أو إناء، وسواء كان الماء قليلاً أو كثيراً، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). ¬

(¬1) مذهب الحنفية: إن كان الإناء صغيراً، أو كبيراً، وكان معه إناء صغير يغرف منه، فلا يدخل يده، وإن كان الإناء كبيراً، ولم يكن معه إناء توجه النهي إلى إدخال الكف، فلا مانع من أن يغرف بأصابعه ولا يدخل جميع كفه، قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق (1/ 18): وكيفية غسلهما كما ذكر في الشروح: أنه إن كان الإناء صغيراً بحيث يمكن رفعه، لا يدخل يده فيه، بل يرفعه بشماله، ويصبه على كفه اليمنى، ويغسلها ثلاثاً، ثم يأخذ الإناء بيمينه، ويصبه على كفه اليسرى ويغسلها ثلاثاً، وإن كان الإناء كبيراً لا يمكن رفعه، فإن كان معه إناء صغير يفعل كما ذكرنا، وإن لم يكن يدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء، ويصب على كفه اليمنى، ثم يدخل اليمنى في الإناء، ويغسل اليسرى. ثم قال: ولا يدخل الكف، حتى لو أدخله صار الماء الملاقي للكف مستعملاً إذا انفصل، وذكر قولاً آخر: بأنه لا يصير مستعملاً، وإن إدخال اليد في الإناء قبل غسله مكروه، فحسب. وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 110 - 111). وقال في الشرح الصغير وهو من كتب المالكية (1/ 117): وسننه غسل يديه إلى كوعيه قبل إدخالهما في الإناء إن أمكن الإفراغ، وإلا أدخلهما فيه كالكثير والجاري ". اهـ (¬2) قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 117): وقيل السنة متوقفة على الغسل خارج الإناء مطلقاً، سواء توضأ من نهر، أو حوض، أو إناء، كان الماء قليلاً، أو كثيراً. اهـ وقال الخرشي (1/ 132): ويكون الغسل لليدين قبل إن يدخلهما في الماء، ولو على نهر. اهـ =

الدليل على أن غسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء سنة. (824 - 53) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق. الحديث. وأخرجه مسلم (¬1). فلم يدخل يمينه في الإناء حتى غسلها ثلاثاً. ¬

= وقال الدسوقي في حاشيته (1/ 96): واعلم أن كون الغسل قبل إدخالهما في الإناء مما تتوقف عليه السنة، قيل: مطلقاً، أي سواء توضأ من نهر أو من حوض أو من إناء يمكن الإفراغ منه أم لا، كان الماء الذي في الإناء قليلاً أو كثيراً. وقيل: ليس مطلقاً، بل في بعض الحالات، وذلك إذا كان الماء غير جار، وقدر آنية الوضوء أو الغسل وأمكن الإفراغ منه، فإن تخلف واحد من هذه الأمور الثلاثة فلا تتوقف السنة على كون الغسل خارج الماء، وعلى هذا القول مشى الشارح، وهو المعتمد. اهـ وقال الماوردي الشافعي في الحاوي (1/ 101) غسل الكفين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء سنة على كل متوضئ أو مغتسل، وليس بواجب، وهو قول الجمهور. اهـ وقال النووي في الروضة (1/ 58): إن أراد غمس يديه في إناء قبل غسلهما كره إن لم يتيقن طهارتهما، فإن تيقنها فوجهان، الأصح لا يكره الغمس، قال النووي: ولا تزول الكراهة إلا بغسلهما ثلاثاً قبل الغمس، نص عليه البويطي، وصرح به الأصحاب للحديث الصحيح، وقال أصحابنا: إذا كان الماء في إناء كبير، أو صخرة مجوفة بحيث لا يمكن أن يصب منه على يده، وليس معه ما يغترف به استعان بغيره، أو أخذ الماء بفمه، أو طرف ثوب نظيف ونحوه، والله أعلم. وانظر في مذهب الحنابلة المغني (1/ 70). (¬1) صحيح البخاري (160)، ومسلم (226).

ومن أدخل يديه في الإناء قبل غسلهما لم يضر ذلك وضوءه، فإن كانت يده نظيفة فالأمر ظاهر، يد طاهرة لا قت ماء طهوراً فلم تؤثر فيه. وإن كان في يده نجاسة، وتغير الماء بالنجاسة نجس إجماعاً، وإن لم يتغير الماء رجعت هذه المسألة إلى مسألة أخرى سبق أن حُرِّرت الأقوال فيها، وهي في حكم الماء إذا لا قته نجاسة فلم تغيره، وقد فصلت القول فيها في كتاب المياه.

المبحث الثاني: من توضأ ثم أحدث في أثناء وضوئه فهل يعيد غسل يديه إذا أعاد الوضوء

المبحث الثاني: من توضأ ثم أحدث في أثناء وضوئه فهل يعيد غسل يديه إذا أعاد الوضوء فمن نظر إلى أن غسل الكفين من باب النظافة لأنهما آلة الوضوء لم ير حاجة إلى إعادة غسلهما. ومن نظر إلى كون الغسل ثلاثاً، ولم يكن غسلة واحدة نظر إلى معنى العبادة، فقد أُعْطِيت الكفان حكم أعضاء الوضوء من التثليث في الغسل، ولو كان غسلهما من باب النظافة لكفى في ذلك غسلة واحدة؛ لأن اليد لو كان فيها نجاسة متحققة كفى غسلها مرة واحدة تذهب بعين النجاسة، ومثل هذه المسألة المسألة التالية (¬1). ¬

(¬1) المنتقى للباجي (1/ 48).

المبحث الثالث: هل يحتاج غسل الكفين إلى نية

المبحث الثالث: هل يحتاج غسل الكفين إلى نية في هذه المسألة قولان لأهل العلم: من اعتبر غسل الكفين من سنن الوضوء اعتبر فيهما النية. ومن رأى أن غسلهما للنظافة لم يعتبر النية في غسلهما، وعن الإمام مالك ما يقتضي الوجهين (¬1). ولهذا السبب أيضاً اعتبر الخرسانيون من الشافعية أن غسل الكفين سنة مستقلة، وليست من سنن الوضوء كالتسمية والسواك عندهم. واعتبار النية أرجح حتى على القول بأنها شرعت للنظافة، لأن الطهارة إذا دخلتها أحكام العبادة المحضة غلبت عليها، فلم يراع فيها السبب، فغسل اليدين حين دخله العدد غلبت عليه أحكام العبادة المحضة، ومثله غسل الجمعة أصله إزالة الرائحة، فلما دخلت عليه أحكام العبادة لزمه الاتيان بها، وإن لم يوجد سببها، والله أعلم (¬2). ¬

(¬1) التاج والإكليل (1/ 242). (¬2) المنتقى للباجي (1/ 48).

الفصل الرابع: من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق فيه

الفصل الرابع: من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق فيه يدخل في المضمضة والاستنشاق سنن كثيرة من سنن الوضوء، وقبل أن نأتي على أكثرها، نذكر أولاً خلاف العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء. المبحث الأول: حكم المضمضة والاستنشاق اختلف العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل إلى أقوال: فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء وفي الغسل، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: واجبان في الوضوء والغسل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). ¬

(¬1) الخرشي (1/ 133 - 170)، منح الجليل (1/ 128)، مواهب الجليل (1/ 313)، القوانين الفقهية (ص:22)، مقدمات ابن رشد (1/ 82)، بداية المجتهد مع الهداية (2/ 12)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:23،24)، حاشية الدسوقي (1/ 136)، الشرح الصغير (1/ 118 - 170). (¬2) الأم (1/ 41)، المجموع (1/ 396)، روضة الطالبين (1/ 88،58)، مغني المحتاج (1/ 73 - 57). (¬3) الفروع (1/ 144)، الإنصاف (1/ 152، 153)، المحرر (1/ 11، 20)، كشاف القناع (1/ 154)، معرفة أولي النهى شرح المنتهى (1/ 403)، المبدع (1/ 122)، الكافي (1/ 26)، الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (1/ 59).

هذان قولان متقابلان. وفيه قولان آخران متقابلان أيضاً: فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، واجبان في الغسل، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل (¬2). وقيل: المضمضة سنة، والاستنشاق واجب فيهما (¬3). والراجح: أن المضمضة سنة في الوضوء وفي الغسل، وأما الاستنشاق فواجب في الوضوء سنة في الغسل، والله أعلم. وسبب اختلاف العلماء اختلافهم في الأدلة الواردة في الباب، فآية المائدة في الوضوء ليس فيها ذكر للمضمضة والاستنشاق، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (¬4). (825 - 54) وروى مسلم أن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله ? من أتم الوضوء كما أمره الله تعالى فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن (¬5). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 25،56)، البناية (1/ 250)، تبيين الحقائق (1/ 4،13)، البحرالرائق (1/ 47)،حاشية ابن عابدين (1/ 156)، مراقي الفلاح (ص:42)، بدائع الصنائع (1/ 34)، رؤوس المسائل (ص:101). (¬2) انظر الفروع (1/ 144 - 145)، المبدع (1/ 122)، الإنصاف (1/ 152 - 153). (¬3) انظر المصادر السابقة. (¬4) المائدة: 6. (¬5) صحيح مسلم (231).

وليس في كتاب الله ذكر المضمضمة والاستنشاق، فدل على أنهما غير واجبين. هذا في الحدث الأصغر، وأما في الأكبر فقد روى البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فأفرغه عليك (¬1). (826 - 55) وروى مسلم عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬2). فعبر بـ «إنما» الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر المضمضة والاستنشاق. فأخذ بعض أهل العلم من هذه الأدلة أن المضمضة والاستنشاق ليسا واجبين لا في حدث أصغر ولا في حدث أكبر. وذهب آخرون إلى أن الاستنشاق قد جاء الأمر به في السنة الصحيحة (827 - 56) فقد روى البخاري، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر. ولفظ مسلم: «إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر» (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (337). (¬2) صحيح مسلم (330). (¬3) البخاري (162) ومسلم (237).

وأحاديث الأمر بالاستنشاق، هي دليل على وجوب الاستنشاق صراحة والمضمضة ضمناً، لأنهما كالعضو الواحد، فإيجاب أحدهما إيجاب للآخر، ألا ترى أنه لا يفصل بين المضمضة والاستنشاق، ومن عادة الأعضاء المستقلة في الوضوء ألا ينتقل إلى عضو حتى يفرغ من العضو الذي قبله، بخلاف المضمضة والاستنشاق فإنه يمضمض ثم يستنشق ثم يرجع إلى المضمضة فالاستنشاق وهكذا، فهذا يدل على أنهما في حكم العضو الواحد، فالأمر بأحدهما أمر بالآخر. (828 - 57) كما استدلوا بحديث رواه أبو داود (¬1)، عن لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق ـ أو في وفد بني المنتفق ـ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكر حديثاً طويلاً، وفيه: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما. الشاهد من هذا الحديث قوله «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً». وفي رواية لأبي داود، وزاد فيه: «إذا توضأت فمضمض» (¬2). وذهب بعض اهل العلم إلى أن الاستنشاق واجب دون المضمضة، قال ابن المنذر: «والذي به نقول: إيجاب الاستنشاق خاصة دون المضمضة، لثبوت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالاستنشاق، ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر بالمضمضة» (¬3). ¬

(¬1) سنن أبي داود (142). (¬2) السنن (144)، وزيادة إذا توضأت مضمض زيادة شاذة، انظر كلامي عليها في كتابي الحيض والنفاس رواية ودارية (129)، وانظر أيضاً رقم (830) من هذا الكتاب. (¬3) الأوسط (1/ 379).

وقال ابن عبد البر: «وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل المضمضة ولم يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها، ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنثار وأمر به، وأمره على الوجوب أبداً، إلا أن يتبين غير ذلك من مراده» ا. هـ (¬1) وقد بسط الكلام في المسألة، وجمعت الأدلة الواردة في الباب وتم تخريجها، والكلام عليها من حيث الصحة والضعف، في كتابي أحكام الحيض والنفاس، وقد وترجح هناك قول ابن عبد البر وابن المنذر، وأن الواجب هو الاستنشاق خاصة، فأغنى عن إعادته هنا، فارجع إليه غير مأمور. ¬

(¬1) التمهيد كما في فتح البر (3/ 208).

المبحث الثاني: يستحب تقديم المضمضة على الاستنشاق

المبحث الثاني: يستحب تقديم المضمضة على الاستنشاق اختلف العلماء في حكم تقديم المضمضة على الاستنشاق، فقيل: سنة، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: تقديم المضمضة على الاستنشاق شرط، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل القائلين بأنه سنة: الدليل الأول: الإجماع على مشروعية تقديم المضمضة على الاستنشاق. ¬

(¬1) قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 21): ومنها - أي من سنن الوضوء الذي في أثنائه - الترتيب في المضمضة والاستنشاق , وهو تقديم المضمضة على الاستنشاق ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على التقديم. اهـ وانظر الفتاوى الهندية (1/ 8). وانظر في مذهب المالكية: الخرشي (1/ 138) إلا أنه جعل التقديم من الفضائل، ولم يجعله من السنن على أصل بعض الفقهاء في التفريق بين الفضيلة والسنة. وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/ 84)، والإنصاف (1/ 132)، (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 400): " اتفق أصحابنا على أن المضمضة مقدمة على الاستنشاق، سواء جمع أو فصل بغرفة أو بغرفات, وفي هذا التقديم وجهان، حكاهما الماوردي والشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين وآخرون أصحهما أنه شرط, فلا يحسب الاستنشاق إلا بعد المضمضة; لأنهما عضوان مختلفان , فاشترط فيهما الترتيب كالوجه واليد. والثاني: أنه مستحب ويحصل الاستنشاق وإن قدمه كتقديم اليسار على اليمين. والله أعلم. اهـ وقال النووي نحوه في شرح صحيح مسلم (3/ 104). (¬3) المغني (1/ 84).

الدليل الثاني

قال ابن نجيم: المضمضة والاستنشاق سنتان مشتملتان على سنن منها تقديم المضمضة على الاستنشاق بالإجماع (¬1). اهـ الدليل الثاني: القياس على تقديم اليمين على الشمال في الوضوء، فإذا كان تقديم اليمين سنة، فكذلك هنا. دليل من قال: التقديم شرط: قالوا: لأن الفم والأنف عضوان مختلفان، فيشترط الترتيب بينهما قياساً على الترتيب بين الوجه واليد. وأجيب: بأن الفم والأنف من الوجه، فهما في حكم العضو الواحد، ثم إن تقديم المضمضة على الاستنشاق جاء من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. الراجح بين القولين: الراجح هو القول الأول، لقوة دليله، والشرطية تحتاج إلى دليل صحيح صريح، ولم يقم دليل يكفي على ذلك، والله أعلم. ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 22).

المبحث الثالث: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق

المبحث الثالث: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق تعريف المبالغة في المضمضة: قال ابن الهمام: والسنة المبالغة فيهما -يعني: المضمضة والاستنشاق- وهو في المضمضة إلى الغرغرة، وفي الاستنشاق إلى ما اشتد من الأنف (¬1). وقال الخرشي: ويستحب المبالغة: وهي إدارة الماء في أقاصي الحلق في المضمضة، وفي الاستنشاق: جذبه لأقصى الأنف (¬2). وقال النووي: قال أصحابنا: المبالغة في المضمضة أن يبلغ الماء أقصى الحلق ويديره فيه (¬3). وقال في مطالب أولي النهيى: أن يبلغ بالماء أقصى الحنك، ووجهي الأسنان واللثة (¬4). وقيل: المبالغة: إدارة الماء في الفم كله أو أكثره. والمبالغة في الاستنشاق: جذب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف كله أو أكثره. وكل هذه التعريفات قريبة من بعض، فالمضمضة مكانها الفم، فيحرص الإنسان على إدارة الماء في جميع الفم من مقدم أسنانه واللثة إلى أقصى حلقه، وحكم الأكثر حكم الكل، فإذا أدار الماء في أكثر فمه، واستنشق الماء إلى أكثر أنفه فقد حصلت له سنة المبالغة، والله أعلم. ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 23). (¬2) الخرشي (1/ 134). (¬3) المجموع (1/ 396). (¬4) مطالب أولي النهى (1/ 95).

الدليل على مشروعية المبالغة في الاستنشاق

وإذا عرفنا معنى المبالغة في المضمضة والاستنشاق، فما حكمهما؟. فقيل: المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة، وهو قول الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: المبالغة فيهما واجبة، ذكرها من الحنابلة ابن عقيل في فنونه (¬2). وقيل: المبالغة في الاستنشاق وحده سنة دون المضمضة، وهو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة (¬3). وقيل: المبالغة واجبة في الاستنشاق وحده، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). الدليل على مشروعية المبالغة في الاستنشاق. (829 - 58) ما رواه أبو داود (¬5)، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، قالوا: ثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط ابن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق ـ أو في وفد بني المنتفق ـ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث طويل، وفيه: ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (1/ 23)، البحر الرائق (1/ 22)، الفتاوى الهندية (1/ 8). وانظر في مذهب المالكية: الخرشي (1/ 134)، مواهب الجليل (1/ 246)، الفواكه الدواني (1/ 137). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/ 396)، أسنى المطالب (1/ 39)، وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/ 133)، كشاف القناع (1/ 94). (¬2) الإنصاف (1/ 133). (¬3) المرجع السابق. (¬4) المرجع السابق. (¬5) سنن أبي داود (142).

الدليل على مشروعية المبالغة في المضمضة

فقلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً. الشاهد من هذا الحديث الطويل، قوله «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» (¬1). [الحديث صحيح] (¬2). والدليل على مشروعية المبالغة في المضمضة ما يلي: الدليل الأول: الإجماع على مشروعية المبالغة في المضمضة لغير صائم. قال النووي: «المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة بلا خلاف» (¬3). وقد نقلنا في الأقوال أن هناك قولاً يرى أن المبالغة في الاستنشاق وحده دون المضمضة، وهو قول غير مشهور، ولذلك لم يره النووي خارقاً للإجماع، أو كان نقله ذلك بحسب علمه، ولم يطلع عليه. الدليل الثاني: القياس على المبالغة في الاستنشاق، فإذا كانت المبالغة في الاستنشاق مشروعة، فكذلك المبالغة في المضمضة، بجامع أن كلاً من الفم والأنف له تجويف يتفاوت مرور الماء في داخله، فالمبالغة فيهما يحصل منها كمال الطهارة في جميع باطنهما. ¬

(¬1) السنن (144). (¬2) انظر تخريج الحديث بتمام ألفاظه، والكلام على ما ورد فيه من زيادات في المتن، وبيان المحفوظ منها والشاذ في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (129) فلا داعي لتكراره. (¬3) المجموع (1/ 396).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: أن المبالغة في المضمضة والاستنشاق من إسباغ الوضوء المأمور به شرعاً. الدليل الرابع: (830 - 59) ما رواه أبو بشر الدولابي، قال: ثنا محمد بن بشار، ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة بلفظ: إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً (¬1). فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة. وذكره الزيلعي في نصب الراية (¬2). [وزيادة المضمضة غير محفوظة] (¬3). ¬

(¬1) الوهم والإيهام (5/ 593). (¬2) (1/ 16). (¬3) الحديث اختلف فيه على الثوري. فرواه وكيع ويحيى بن آدم، ومحمد بن كثير عن سفيان موافقاً في لفظه رواية يحيى ابن سليم، وابن جريج، وداود بن عبد الرحمن العطار، والحسن بن علي في روايتهم عن إسماعيل ابن كثير في عدم ذكر المبالغة في المضمضة في الحديث، وقد ذكرنا تخريج رواياتهم والكلام على ما ورد في الحديث من زيادات في المتن، وبيان المحفوظ منها والشاذ في تخريج الحديث بتمامه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (129)، وهو جزء من هذه السلسلة، فانظره غير مأمور. ورواه أبو بشر الدولابي، كما في كتاب (الوهم والإيهام) (5/ 593) فخالف فيه، قال: ثنا محمد بن بشار، ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن إسماعيل به، بلفظ: "إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً " فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة. وصححه ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (5/ 193) وقال: ابن مهدي أحفظ من وكيع وأجل قدراً. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وهذا الكلام من ابن القطان فيه نظر كبير. أولا: لأن وكيعاً تابعه يحيى بن آدم، ومحمد بن كثير، ولم يتابع ابن مهدي. ثانياً: أن رواية وكيع، ويحيى بن آدم، ومحمد بن كثير عن سفيان، عن إسماعيل بن كثير موافقة لرواية يحيى ابن سليم، وابن جريج، وداود بن عبد الرحمن العطار، والحسن بن علي في روايتهم عن إسماعيل بن كثير. ثالثا: أن المخالفة ليست من ابن مهدي، حتى تكون المقارنة بينه وبين غيره، وإنما المخالفة من أبي بشر الدولابي بدليل أن أحمد رواه في المسند (4/ 33) عن ابن مهدي موافقاً لرواية وكيع بعدم ذكر المضمضة، فخرج ابن مهدي من عهدته، وعلى هذا فيكون ابن مهدي قد اختلف عليه في الحديث، فرواه أحمد عن ابن مهدي، عن سفيان، موافقاً لرواية وكيع، عن سفيان، وخالف أبو بشر الدولابي الإمامَ أحمدَ، فرواه عن ابن مهدي بزيادة (المبالغة في المضمضة)، فتبين أن الخطأ من أبي بشر الدولابي، وليس من ابن مهدي. وأبو بشر الدولابي قد قال الدارقطني: تكلموا فيه. وقال أبو سعيد بن يونس: إنه من أهل الصنعة، وكان يضعف. وقال ابن عدي: متهم. انظر شذرات الذهب (2/ 260). [تخريج الحديث من طريق الثوري] أخرجه عبد الرزاق (79) عن الثوري به، بلفظ: " أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر أشياء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وإذا استنثرت فأبلغ، إلا أن تكون صائماً". وقوله: " إذا استنثرت " المقصود به الاستنشاق، لأن المبالغة في الاستنثار لا تؤثر في الصائم، فالذي يؤثر هو الاستنشاق، وهو جذب الماء بقوة إلى داخل الأنف. وأخرجه أحمد (4/ 33) حدثنا وكيع، ثنا سفيان به، بلفظ: " إذا توضأت فخلل الأصابع ". ومن طريق وكيع أخرجه الترمذي (38) والنسائي (87) وأخرجه النسائي (114) من طريق يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان به، مختصراً. وأخرجه البيهقي (1/ 50) من طريق محمد بن كثير، حدثنا سفيان به. سفيان بهذا اللفظ =

دليل من قال: لا تشرع المبالغة في المضمضة

دليل من قال: لا تشرع المبالغة في المضمضة. لعله يرى أن الأمر بالمبالغة ورد في الاستنشاق خاصة، ولم يصح دليل في الأمر بالمبالغة في المضمضة، والأصل عدم المشروعية حتى يثبت دليل خاص، ولم يثبت. دليل من قال بوجوب المبالغة فيهما. الدليل الأول: ثبت الأمر بالمبالغة في الاستنشاق، والأصل في الأمر الوجوب. الدليل الثاني: (831 - 60) الأمر بالمبالغة في الاستنشاق من إسباغ الوضوء، وقد روى مسلم في صحيحه من طريق عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سالم مولى شداد قال: دخلت على عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم توفي سعد بن أبي وقاص، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر، فتوضأ عندها فقالت: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ويل للأعقاب من النار. الراجح: لم أقف على حديث في الأمر بالمبالغة في المضمضة إلا إلحاقها بالاستنشاق، مع أن الأنف أحوج إلى التنظيف والمبالغة فيه من الفم، لأن ¬

_ = وقد سبق له طرق كثيرة تم الكلام عليها وتخريجها والمقارنة بين متونها في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (129).

الأنف أكثر عرضة للأتربة والغبار، وقد يعلق بشعيراته أجزاء من الأتربة والغبار، فتتأكد المبالغة في حقه؛ لكمال النظافة، بخلاف الفم والذي يكون اللعاب فيه أكثر، فهو يتنظف باستمرار، وأما القول بأن المبالغة في المضمضة من إسباغ الوضوء فهذا لا يصح لأن الحديث فرق بينهما، فقال: أسبغ الوضوء، وبالغ في الاستنشاق، فلو كانت المبالغة من إسباغ الوضوء لكان في ذلك تكرار إلا أن يقال: إن هذا مثل قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى} (¬1)، والله أعلم. ¬

(¬1) البقرة: 238.

المبحث الرابع: في حكم المبالغة بالمضمضة والاستنشاق للصائم

المبحث الرابع: في حكم المبالغة بالمضمضة والاستنشاق للصائم اختلف العلماء في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم، فقيل: تكره المبالغة فيهما، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: تحرم المبالغة فيهما، وهو قول في مذهب الحنابلة، واختاره القاضي أبو الطيب من الشافعية (¬2). وقيل: تكره المبالغة في الاستنشاق دون المضمضة، اختاره الماوردي والصيرمي من الشافعية (¬3). دليل من قال بكراهية المبالغة في المضمضة. قالوا: قياساً على النهي عن المبالغة في الاستنشاق للصائم، وقد مر معنا حديث لقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً». ولأن كلا منهما منفذ للطعام، يخشى منه إفساد الصوم. ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 21)، شرح فتح القدير (1/ 25)، الفتاوى الهندية (1/ 8). وفي مذهب المالكية: الخرشي (1/ 134)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 39)، مواهب الجليل (1/ 246). وفي مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/ 58)، المجموع (1/ 392). وفي مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/ 133)، كشاف القناع (1/ 94)، المغني (1/ 157). (¬2) المجموع (1/ 396). (¬3) مغني المحتاج (1/ 58).

دليل من قال: تحرم المبالغة في المضمضة والاستنشاق

دليل من قال: تحرم المبالغة في المضمضة والاستنشاق. قال: كما أن القبلة تحرم على الصائم إذا خشي على نفسه الإنزال، فكذلك تحرم المبالغة في المضمضة والاستنشاق، بجامع أن كلاً منهما يخشى منه إفساد الصيام. وأجيب: بأن القبلة غير مطلوبة، بل داعية لما يضاد الصوم من الإنزال بخلاف المبالغة، وبأنه في المبالغة في المضمضة يمكنه إطباق الحلق، ومج الماء، ولا يمكنه رد المني إذا خرج ... وهذا على القول بأن الإنزال بدون إيلاج مفطر، وهي مسألة خلافية بابها باب الصوم، بلغنا الله إياه بمنه وكرمه. دليل من قال لا تكره المبالغة في المضمضة للصائم. الدليل الأول: النص ورد في النهي عن المبالغة في الاستنشاق، ولم يرد نهي عن المبالغة في المضمضة، وما كان ربك نسياً. التعليل الثاني: أن هناك فرقاً بين المبالغة في المضمضة والمبالغة في الاستنشاق، فيمكنه رد الماء في المضمضة بإطباق حلقه، ولا يمكنه هذا في الاستنشاق، ولهذا قال الشافعي في الأم: وإن كان صائما رفق بالاستنشاق؛ لئلا يدخل رأسه (¬1). ¬

(¬1) الأم (1/ 39).

المبحث الخامس: حكم استنثار الماء بعد الاستنشاق

المبحث الخامس: حكم استنثار الماء بعد الاستنشاق تعريف الاستنثار: الاستنثار: مأخوذ من النثرة: وهي طرف الأنف. وقال الخطابي وغيره: هي الأنف. وقال الأزهري: روى سلمة، عن الفراء: نثر الرجل واستنثر: إذا حرك النثرة في الطهارة، والله أعلم. وأما اصطلاحاً: فالاستنثار: هو استفعال: من النثرة بالنون المثلثة، وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ بريح أنفه، سواء كان بإعانة يده أم لا (¬1). وكره مالك فعل الاستنثار بغير اليد، لكونه يشبه فعل الحمار (¬2). والراجح عدم الكراهة؛ لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، والعلة التي ذكر الإمام مالك ليست كافية في الكراهة. وقال ابن الأعرابي ابن قتيبة: الاستنثار: هو الاستنشاق (¬3). والصواب الأول، وأن الاستنشاق غير الاستنثار. (832 - 61) فقد روى البخاري ومسلم من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، قال: ¬

(¬1) فتح الباري (161). (¬2) روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك، أنه قيل له: أيستنثر من غير أن يضع يده على أنفه؟ فأنكر ذلك، وقال: إنما يفعل ذلك الحمار، الخرشي (1/ 134)، فتح الباري (161). (¬3) شرح النووي على مسلم (3/ 104).

دليل من قال: إن الاستنثار سنة

شهدت عمرو بن أبي حسن، سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأكفأ على يديه من التور، فغسل يديه ثلاثاً، ثم أدخل يده في التور، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات، ثم أدخل يده، فغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم أدخل يده فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين. هذا لفظ البخاري، وأورده مسلم مختصراً (¬1). فجمع في الحديث بين الاستنشاق والاستنثار، ولو كانا واحداً لم يجمع بينهما. وقد اختلف الفقهاء في حكم الاستنثار فقيل: سنة، وهو مذهب الجمهور (¬2). وقيل: هو فرض، وهو اختيار ابن حزم (¬3). دليل من قال: إن الاستنثار سنة. انظر أدلته في حكم المضمضة والاستنشاق. دليل من قال: الاستنثار واجب. (833 - 62) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1) صحيح البخاري (186)، ومسلم (235). (¬2) انظر أقوال الفقهاء في حكم المضمضة والاستنشاق، فإن الاستنثار فرع عن الاستنشاق. (¬3) المحلى (1/ 296).

إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينثر. ورواه مسلم (¬1). والأصل في الأمر الوجوب. ولا شك أن الاستنشاق يراد منه نظافة الأنف، فكمال النظافة أن يغسل داخل الأنف بالاستنشاق، ويطرد الوسخ منه بالاستنثار. وإذا كان قد ترجح أن الاستنشاق واجب في الوضوء، فلا يبعد أن يكون الاستنثار منه، خاصة وأن الأمر فيه محفوظ، والله أعلم. ¬

(¬1) البخاري (162) ومسلم (237).

المبحث السادس: حكم كون المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال

المبحث السادس: حكم كون المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال اختلف الفقهاء في الاستنشاق هل يكون في اليد اليمنى أو في اليسرى، فقيل: يتمضمض ويستنشق باليد اليمنى، ويستنثر باليد اليسرى، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: المضمضة في اليد اليمنى، والاستنشاق باليد اليسرى (¬5). دليل من قال المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال. أما الدليل على كون المضمضة والاستنشاق باليمين، (834 - 63) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح ¬

(¬1) الفتاوى الهندية (1/ 9)، شرح فتح القدير (1/ 36). (¬2) قال الخرشي (1/ 134): " ومن السنن الاستنثار وهو نثر الماء أي طرحه من أنفه بنفسه بالسبابة والإبهام من اليد اليسرى ماسكا له من أعلاه يمر بهما عليه لآخره". اهـ وانظر منح الجليل (1/ 91) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 21) حاشية الدسوقي (1/ 98). (¬3) المجموع (1/ 397). (¬4) المغني (1/ 84). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 21).

الدليل على كون الاستنثار بالشمال

برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه (¬1). (835 - 64) وروى مسلم في صحيحه، من طريق خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى بن عمارة عن أبيه، عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري وكانت له صحبة قال: قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه، فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً. الحديث، وهو في البخاري بنحوه (¬2). فقوله رضي الله عنه: فمضمض واستنشق من كف واحدة، دليل أن كف المضمضة هي كف الاستنشاق، وإذا كانت المضمضة في اليمين فكذلك الاستنشاق، والله أعلم. وأما الدليل على كون الاستنثار بالشمال، (836 - 65) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زائدة بن قدامة، عن خالد بن علقمة، حدثنا عبد خير قال: جلس علي بعد ما صلى الفجر في الرحبة، ثم قال لغلامه: ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست. قال عبد خير: ونحن جلوس ننظر إليه، فأخذ بيمينه الإناء فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، فعله ثلاث مرار قال ¬

(¬1) صحيح البخاري (155)، ومسلم (331). (¬2) صحيح مسلم (235)، البخاري (191).

عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فمضمض، واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاث مرات. الحديث وفي آخره قال: هذا طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أحب أن ينظر إلى طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا طهوره (¬1). [رجاله ثقات، وقد تفرد خالد بن علقمة بذكر الاستنثار بالشمال، على اختلاف عليه في ذكرها، وقد رواه جماعة عن عبد خير ولم يذكروا الاستنثار بالشمال، كما رواه غير عبد الخير ولم يذكر الاستنثار] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 135). (¬2) في إسناده خالد بن علقمة: قال فيه يحيى بن معين: ثقة. الجرح والتعديل (3/ 34). وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. المرجع السابق. وقال فيه النسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (3/ 93). وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 260). وقال فيه الحافظ: صدوق، ولعله نظر إلى كلام أبي حاتم فيه مع توثيق ابن معين والنسائي، فحطه درجة عن المرتبة الأولى من التوثيق، ولكن ابن معين والنسائي من المتشددين فإذا أجمعا على توثيق الراوي فقد جاوز الرواي القنطرة. وبقية رجال الإسناد ثقات. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه أبو داود (112)، والنسائي (91)، وأبو يعلى (286)، وابن الجارود (68)، والبزار (791)، والدارمي (701)، والطحاوي (1/ 35)، وابن خزيمة (147)، وابن حبان (1056)، والدارقطني (1/ 90، 105)، والبيهقي (1/ 47، 48، 58، 59، 74) من طريق زائدة بن قدامة به. وقد انفرد زائدة بن قدامة عن خالد بن علقمة بذكر الاستنثار بالشمال. وقد رواه أبو عوانة وشعبة وسفيان بن عيينة، وأبو حنيفة وشريك وغيرهم عن خالد بن علقمة، ولم يذكروا الاستنثار بالشمال، وبعضهم اختصر الحديث فيكون تركه لهذه اللفظة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ليس دليلاً على تفرد غيره، ولا على الموافقة، وبعضهم ذكر الحديث مفصلاً وليس فيه ذكر الاستنثار بالشمال، ولم أعلم أحداً خالف في استحباب الاستنثار بالشمال فيما أعلم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وإليك تخريج هذه الطرق. الطريق الأول: أبو عوانة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي. رواه أحمد (1/ 154) حدثنا عفان، أراه عن أبي عوانة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، قال: أتيت علياً، وقد صلى، فدعاء بطهور، فقلنا: ما يصنع بالطهور، وقد صلى؟ ما يريد إلا أن يعلمنا، فأتي بطست وإناء، فرفع الإناء، فصب على يده، فغسلها ثلاثاً، ثم غمس يده في الإناء، فمضمض، واستنثر ثلاثاً، ثم تمضمض وتنثر من الكف الذي أخذ منه، ثم غسل وجهه. وذكر بقية الحديث. وسنده صحيح. ورواه عبد الله بن أحمد في زوائده أيضاً (1/ 141) حدثنا أبو بحر (وفي أطراف المسند: أبو بكر بن أبي شيبة وكلاهما من شيوخ عبد الله بن أحمد)، حدثنا أبو عوانة به، بلفظ: ثم تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، تمضمض من الكف الذي يأخذ. الحديث. ورواه أبو داود (111) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 50) عن مسدد، أبي عوانة به. ولفظه: أتانا علي رضي الله تعالى عنه، وقد صلى، فدعا بطهور فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى؟ ما يريد إلا أن يعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه ثلاثاً، ثم تمضمض واستنثر ثلاثاً، فمضمض، ونثر من الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثاً. وذكر بقية الحديث. ورواه البيهقي (1/ 68) أيضاً عن مسدد من غير طريق أبي داود، ولفظه: ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً مضمض ونثر من الكف الذي يأخذ منه الماء. وإذا كانت كف المضمضة هي كف الاستنثار علم أن ذلك باليمين، وليس بالشمال، إلا أن يقال: إن المقصود بالاستنثار هو الاستنشاق، فقد يعبر بالاستنثار عن الاستنشاق، وذلك لكونه من لوازمه. ورواه النسائي في المجتبى (92) وفي الكبرى (77) من طريق قتيبة، عن أبي عوانة به، بلفظ: ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً من الكف الذي يأخذ به الماء. الحديث ورواه البزار (792) من طريق محمد بن عبد الملك القرشي، عن أبي عوانة به، ولم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يذكر متناً، وإنما اقتصر على ذكر الإسناد، واقتصر على ذكر متن شعبة، عن خالد بن علقمة، وإليك تخريج طريق شعبة. الطريق الثاني: شعبة، عن خالد بن علقمة. رواه أبو داود الطيالسي (149)، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 50). رواه أحمد (1/ 139) وأبو داود (113) وأبو يعلى (535) عن محمد بن جعفر ورواه أحمد (1/ 139) عن حجاج بن محمد. ورواه أحمد (1/ 122) حدثنا يحيى بن سعيد. ورواه النسائي في المجتبى (93)، وفي الكبرى (99، 163) من طريق عبد الله بن المبارك. ورواه أيضاً في المجتبى (94) وفي الكبرى (83،164) من طريق يزيد بن زريع ورواه الطحاوي (1/ 35) من طريق أبي عامر. وأخرجه البزار (793) من طريق وهب بن جرير. ثمانيتهم عن مالك بن عرفطة، عن عبد خير، عن علي. قال أحمد كما في العلل رواية ابنه (1/ 515)، والنسائي كما في السنن (1/ 68 - 69) والترمذي كما في سننه (1/ 69) وعبد الله بن أحمد كما في المسند (1/ 122) وأبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (1/ 56)، والدارقطني في علله (4/ 49) وغيرهم: وَهِمَ شعبة باسم الراوي، وإنما اسمه خالد بن علقمة، فقال: مالك بن عرفطة. وليس في هذا الطريق ذكر الاستنثار بالشمال. الطريق الثالث: سفيان الثوري، عن خالد بن علقمة. رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 115) من طريق القاسم الجرمي، عن سفيان، عن خالد بن علقمة به، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً. وقد اختلف على سفيان الثوري. فرواه القاسم، عنه عن عبد خير، عن علي. ورواه هياج بن بسطام، كما في المعجم الصغير للطبراني (939) عن سفيان، عن شريك، عن خالد بن علقمة به، فأدخل بين الثوري وخالد شريكاً. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الطبراني: لم يروه عن سفيان عن شريك إلا هياج بن بسطام تفرد به خالد، ورواه غيره عن سفيان عن خالد بن علقمة نفسه. اهـ وهياج ضعيف. وقد روى الحديث شريك عن خالد بن علقمة، وإنما النكارة في جعل سفيان يرويه عن شريك، ولو كان هياج حافظاً لقلت: لعله دلسه، فأسقط شريكاً، والله أعلم. وإليك تخريج طريق شريك. الطريق الرابع: عن شريك، عن خالد بن علقمة. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 43) ح 406، قال: حدثنا شريك، عن خالد بن علقمة به، بلفظ: توضأ، فمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً من كف واحدة، قال: هكذا وضوء نبيكم. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 125) حدثنا محمد بن جعفر الوركاني، أخبرنا شريك به. بأطول من رواية ابن أبي شيبة. الطريق الخامس: أبو حنيفة، عن خالد بن علقمة. أخرجه الدارقطني (1/ 89) من طريق أبي يحيى الحماني، وعن أبي يوسف القاضي، كلاهما عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة به، إلا أنه قال: ومسح برأسه ثلاثاً. قال الدارقطني: هكذا رواه أبو حنيفة، عن خالد بن علقمة، وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات منهم زائدة بن قدامة، وسفيان الثوري، وشعبة، وأبو عوانة، وشريك، وأبو الأشهب جعفر بن الحارث، وهارون بن سعد، وجعفر بن محمد، وحجاج بن أرطأة، وأبان بن تغلب، وعلي بن صالح، وحازم بن إبراهيم، وحسن بن صالح، وجعفر الأحمر، فرووه عن خالد بن علقمة، فقالوا فيه: ومسح برأسه مرة .. الخ كلامه رحمه الله. وقد رواه غير خالد بن علقة عن عبد خير، فلم يذكر الاستنثار بالشمال، وإليك ذكر رواياتهم. الأول: حسن بن عقبة المرادي، عن عبد خير. أخرجه أحمد في المسند (1/ 123)، وابن أبي شيبة في المصنف (1/ 16)، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 114) عن وكيع، حدثنا الحسن بن عقبة المرادي به، مختصراً بلفظ: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً. ورواه الدارمي (720) أخبرنا أبو نعيم، ثنا حسن بن عقبة المرادي به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأبو نعيم هو الفضل بن دكين، والحسن بن عقبة المرادي ثقة، له ترجمة في الجرح والتعديل (3/ 28، 29). فإسناده صحيح. الثاني: أبو إسحاق السبيعي، عن عبد خير. أخرجه عبد الله بن أحمد في زائد المسند (1/ 127) وأبو يعلى في مسنده (500) حدثنا خلف بن هشام، حدثنا أبو الأحوص، عن إبي إسحاق، قال: وذكر عبد خير عن علي مثل حديث أبي حية، إلا أن عبد خير قال: كان إذا فرغ من طهوره أخذ بكفيه من فضل طهوره، فشرب. وأخرجه الترمذي (49) حدثنا قتيبة وهناد، قالا: حدثنا أبو الأحوص به. الثالث: عبد الملك بن سلع الهمداني، عن عبد خير به. أخرجه أحمد (1/ 110) حدثنا مروان. ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 123) من طريق مسهر بن عبد الملك بن سلع، كلاهما عن عبد الملك بن سلع الهمداني به. مطولاً، ولم يذكر الاستنثار بالشمال. وإسناده صالح، وعبد الملك بن سلع الهمداني ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. وفي التقريب: صدوق. وكونه قد توبع، فقد زال ما يخشى من خطأ عبد الملك، والله أعلم. كما رواه أبو حية، عن علي بمثل رواية عبد خير عن علي. أخرجها أحمد في المسند (1/ 120) حدثنا عبد الله بن الوليد، حدثنا سفيان، حدثنا أبو إسحاق عن أبي حية بن قيس، عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وشرب فضل وضوئه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل. ورواه أحمد (1/ 125) حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان به. كما أخرجه أحمد (1/ 142) حدثنا عبد الرزاق، عن سفيان به. وهذا إسناد حسن، والراوي عن أبي إسحاق سفيان الثوري، وهو من قدماء أصحابه، فلا يخشى من اختلاطه، وروى عنه أبو الأحوص، وقد أخرج الشيخان حديث أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، وأما عنعنته فقد روى عنه هذا الحديث شعبة، كما في سنن النسائي (136)، وهو لا يحمل عنه إلا ما ثبت له اتصاله. =

الدليل الثاني: قالوا: يستحب الاستنثار بالشمال لما فيه من إزالة الوسخ الذي في الأنف، ¬

_ = وفي الإسناد أبو حية الوادعي، قال أحمد: شيخ. الجرح والتعديل (9/ 360). وذكره ابن حبان في الثقات. (5/ 180). وقال ابن المديني: مجهول. وقال الذهبي: لا يعرف. وقال ابن الجارود في الكنى: وثقه ابن نمير. تهذيب التهذيب (12/ 88). وفي التقريب: مقبول. يعني: حيث يتابع، وقد تابعه عبد خير، فالإسناد صالح إن شاء الله في المتابعات. والحديث قد أخرجه عبد الرزاق في المصنف (120)، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 156) والترمذي (44)، وابن ماجه (2447)، والبزار (734، 735) من طريق سفيان الثوري. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (121)، وأحمد (1/ 127)، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 157)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 35) من طريق إسرائيل. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 127)، وأبو يعلى (499)، وأبو داود (116)، والنسائي (96)، وابن ماجه (456)، والبيهقي في السنن (1/ 75) من طريق أبي الأحوص. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 158) من طريق العلاء بن هلال الرقي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة وأخرجه النسائي (136) من طريق شعبة. وأخرجه أيضاً (115) من طريق زكريا ابن أبي زائدة، كلهم عن أبي إسحاق به. انظر لمراجعة طرق حديث عبد خير، عن علي: أطراف المسند (4/ 453)، تحفة الأشراف (10203، 10204)، إتحاف المهرة (14556). وانظر لطرق أبي حية بن قيس، عن علي: أطراف المسند (4/ 494)، تحفة الأشراف (10321، 10322)، إتحاف المهرة (14853).

(837 - 66) فقد روى أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه، وكانت اليسرى لخلائه، وما كان من أذى. قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه [الراجح في الحديث أن إسناده منقطع] (¬1). ¬

(¬1) سبق تخريجه في باب الاستنجاء رقم (177).

المبحث السابع: في الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة

المبحث السابع: في الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة اختلف العلماء هل السنة في المضمضة والاستنشاق الجمع أم الفصل؟ على قولين: فقيل: يفصل بين المضمضة والاستنشاق، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، وعليه أكثر أصحاب الشافعية (¬3). وقيل: السنة أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة. اختاره ابن رشد من المالكية (¬4)، وهو المنصوص عن الشافعي (¬5)، ¬

(¬1) قال في الهداية (1/ 23): وكيفيته: أن يمضمض ثلاثاً، يأخذ لكل مرة ماء جديداً، ثم يستنشق كذلك". وانظر درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 11)، البحر الرائق (1/ 22)، الفتاوى الهندية (1/ 6)، حاشية ابن عابدين (1/ 116)، تبيين الحقائق (1/ 4). (¬2) المنتقى شرح الموطأ (1/ 45)، والخرشي (1/ 134). (¬3) قال النووي في المجموع (1/ 397): " اتفق نص الشافعي والأصحاب على أن سنتهما تحصل بالجمع والفصل على أي وجه أوصل الماء إلى العضوين، واختلف نصه واختيار الأصحاب في الأفضل من الكيفيتين، فنص الأم ومختصر المزني أن الجمع أفضل، ونص البويطي أن الفصل أفضل" ثم قال: وأما الجمهور الذين حكوا قولين، فاختلفوا في أصحهما، فصحح المصنف -يقصد الشيرازي صاحب المهذب- والمحاملي في المجموع، والروياني والرافعي وكثيرون الفصل. وصحح البغوي والشيخ نصر المقدسي وغيرهما الجمع. هذا كلام الأصحاب". وقال في المنهاج (1/ 58): " والأظهر أن فصلهما أفضل ". (¬4) حاشية العدوي على الخرشي (1/ 134)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 45). (¬5) قال الشافعي في الأم (1/ 24): أحب إلي أن يبدأ المتوضئ بعد غسل يديه أن =

دليل من قال بالفصل بين المضمضة والاستنشاق

ورجحه النووي (¬1)، والعراقي (¬2)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). دليل من قال بالفصل بين المضمضة والاستنشاق. الدليل الأول: (838 - 67) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا معتمر، قال: سمعت ليثاً يذكر عن طلحة، عن أبيه، عن جده قال: دخلت يعني على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬

= يتمضمض ويستنشق ثلاثاً، يأخذ بكفه غرفة لفيه وأنفه. (¬1) قال النووي في المجموع (1/ 398): " والصحيح بل الصواب تفضيل الجمع (يعني بين المضمضة والاستنشاق) للأحاديث الصحيحة المتظاهرة فيه". (¬2) طرح التثريب (2/ 53). (¬3) كشاف القناع (1/ 93)، المغني لابن قدامة (1/ 169،170)، الفتاوى الكبرى (5/ 303). (¬4) رقم (139). (¬5) في إسناده ليث بن أبي سليم، قال فيه الحافظ: صدوق، اختلط جداً فلم يتميز، فترك. وفي إسناده طلحة، لم ينسب، فلم تعرف عينه، فقيل: هو طلحة بن مصرف، وقيل: غيره. وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث كما في كتاب العلل (1/ 53) قال: فلم يثبته، وقال: طلحة هذا يقال: إنه رجل من الأنصار، ومنهم من يقول: هو طلحة بن مصرف، ولو كان طلحة بن مصرف لم يختلف فيه. اهـ وجاء في الجرح والتعديل (4/ 473): سئل أبو زرعة عن طلحة الذي يروي عن أبيه عن جده، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ... ؟ فقال: لا أعرف أحداً سمى والد طلحة إلا أن بعضهم يقول: ابن مصرف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وذكر أبو داود عن أحمد قوله: كان ابن عيينة ينكره، ويقول: إيش هذا طلحة عن أبيه عن جده؟ وكذلك حكى عثمان الدارمي عن علي بن المديني". اهـ انظر سنن البيهقي (1/ 51)، وتلخيص الحبير (1/ 78) وفي نصب الراية (1/ 134): صرح بأنه طلحة بن مصرف ابن السكن وابن مردوية في كتاب أولاد المحدثين ويعقوب بن سفيان في تاريخه، وابن أبي خيثمة وخلق. اهـ وفي إسناده والد طلحة، فعلى تقدير أنه والد طلحة، وأن اسمه مصرف بن عمرو بن كعب، وقيل: ابن كعب بن عمرو، فإنه لم يرو عنه إلا ولده طلحة، ولم يوثق، وفي التقريب: مجهول. وإن لم يكن مصرفاً فلا يعرف. قال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام كما في البدر المنير (3/ 284): وعلة الخبر عندي الجهل بحال مصرف بن عمرو، والد طلحة بن مصرف ". اهـ وفي إسناده جد طلحة، فإن كان طلحة هو ابن مصرف، فقد اختلف هل له صحبة أم لا على قولين: وإن لم يكن والد طلحة فهو مجهول أيضاً، فيكون الحديث يرويه مجهول عن مجهول، عن مجهول. فعلى تقدير أنه جد طلحة بن مصرف، فقد قيل: إنه لا صحبة له. جاء في البدر المنير (3/ 282): قال عباس الدوري في ما رواه الحاكم، عن الأصم عنه: " قلت ليحيى بن معين: طلحة بن مصرف عن أبيه، عن جده، رأى جده النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال يحيى: المحدثون يقولون هذا، وأهل بيت طلحة يقولون: ليست له صحبة " اهـ وفي سؤالات ابن الجنيد: قال ولد طلحة بن مصرف: ما أدرك جدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - " اهـ وممكن أن يقال: إن أهل بيته ألصق به وأقرب، وأحرص من غيرهم على حصول هذا الشرف، وممكن أن يقال: إن أهل الحديث أكثر عناية في هذا الباب من آل بيت طلحة، كما يشكل عليه أيضاً ما أورده ابن الملقن في البدر المنير (3/ 282): عن الخلال، عن أبي داود: سمعت رجلاً من ولد طلحة بن مصرف يذكر أن جده له صحبة، وجزم ابن مهدي بأن جده له صحبة، وأنكر ابن عيينة أن يكون جده له صحبة. اهـ والله أعلم. فالحديث بكل حال إسناده ليس بالقائم. =

الدليل الثاني

وأجيب عنه بثلاثة أجوبة: الأول: أنه ضعيف. الثاني: أن المراد: تمضمض، ثم مج، ثم استنشق، أي ولم يخلطهما. الثالث: أنه محمول على بيان الجواز، وكان هذا منه - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة؛ لأن لفظه عند أبي داود: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق. وهذا لا يقتضي أكثر من مرة (¬1). الدليل الثاني: قال ابن الملقن في البدر المنير (¬2): رأيت في سنن ابن السكن المسماة بـ (الصحاح المأثورة) ما نصه: روى شقيق بن سلمة، قال: شهدت علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان توضأا ثلاثاً ثلاثاً، وأفردوا المضمضة من الاستنشاق، ثم قال: هكذا توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الإسناد معلق كما ترى، وصحته تتوقف على معرفة الساقط من إسناده، ولم أقف عليه، فيبقى عندي ضعيفاً، وقد ذكر بعض العلماء أن أحاديث الفصل لا تثبت، وهذا منها. ¬

= [تخريج الحديث]: الحديث أخرجه أبو داود كما قدمنا، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 51). وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/ 181) ح 410 من طريق ليث بن أبي سليم به. وأخرجه أيضاً (12/ 26) من طريق أبي سلمة الكندي، حدثنا ليث به، بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمضمض واستنشق ثلاثاً، يأخذ لكل واحدة ماء جديداً. الحديث. انظر تحفة الأشراف (11127). (¬1) المجموع (1/ 398). (¬2) البدر المنير (3/ 288).

الدليل الثالث

قال النووي: وأما الفصل فلم يثبت فيه حديث أصلاً، وإنما جاء فيه حديث طلحة بن مصرف، وهو ضعيف. وقال أيضاً: فلا يحتج به لو لم يعارضه شيء, فكيف إذا عارضه أحاديث كثيرة صحاح؟ (¬1). الدليل الثالث: (839 - 68) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا مختار، عن أبي مطر قال: بينا نحن جلوس مع أمير المؤمنين علي في المسجد على باب الرحبة جاء رجل فقال: أرني وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهو عند الزوال فدعا قنبراً فقال: ائتني بكوز من ماء، فغسل كفيه ووجهه ثلاثاً، وتمضمض ثلاثاً، فأدخل بعض أصابعه في فيه، واستنشق ثلاثاً. الحديث (¬2). وجه الاستدلال: أنه لما أدخل بعض أصابعه فيه حال المضمضة دل على أن الاستنشاق مفصول عن المضمضة. وأجيب: أولاً: الحديث ضعيف جداً (¬3). ¬

(¬1) المجموع (1/ 398). (¬2) المسند (1/ 158). (¬3) في الإسناد: مختار بن نافع التيمي. قال أبو حاتم الرازي: شيخ منكر الحديث. الجرح والتعديل (8/ 311) رقم 1440. وقال البخاري: مختار بن نافع التيمي، عن ابن مطر، منكر الحديث. الضعفاء الصغير (ص:110) رقم 357. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/ 210) رقم 1797. =

الدليل الرابع

ثانياً: الحديث ليس صريحاً في المسألة، فإدخال بعض الأصابع في الفم حال المضمضة لا يلزم منه فصل المضمضة عن الاستنشاق، فقد تكون الأصابع المدخلة هي أصابع اليد اليسرى، ومعلوم أن المضمضة والاستنشاق في اليد اليمنى كما قدمنا. الدليل الرابع: من النظر، أن الفم والأنف عضوان مستقلان، فكان القياس أن المتوضئ لا ينتقل إلى عضو آخر حتى يفرغ من العضو الذي قبله، فلا ينتقل إلى الأنف إلا بعد الفراغ من الفم، كسائر أعضاء الوضوء. ¬

_ = وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً كان يأتي بالمناكير عن المشاهير حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلك. المجروحين (3/ 9) 1038. وقال أبو زرعة واهي الحديث. تهذيب الكمال (27/ 321). وقال النسائي: منكر الحديث، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. المرجع السابق. وفي الإسناد أيضاً أبو مطر قال أبو زرعة: ما أعرف اسمه. الجرح والتعديل (9/ 455) الرقم 2251. وقال عمر بن حفص بن غياث: ترك أبى حديث أبى مطر. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن أبى مطر، فقال: مجهول لا يعرف. وقد نقل ما تقدم الحسيني في الإكمال (1172)، وابن حجر في تعجيل المنفعة (ص: 520) 139. وقال الحافظ في اللسان: مجهول. لسان الميزان (7/ 107) 1150. والحديث أخرجه عبد بن حميد، كما في المنتخب (95) عن محمد بن عبيد به. والحديث قد رواه محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن عباس، عن علي كما في المسند (1/ 82، 83)، وسنن أبي داود (117)، والبزار (463، 464)، وأبو يعلى (600)، وابن خزيمة (153)، وابن حبان (1080)، والبيهقي (1/ 53، 54)، من طرق كثيرة، عن ابن إسحاق به، ولم يذكر ما ذكره مختار بن نافع. انظر طرق الحديث في أطراف المسند (4/ 507)، وإتحاف المهرة (14882).

الدليل الخامس

وأجيب: بأنهما وإن كانا في الحس عضوين إلا أنهما عضوان في عضو واحد، وهو الوجه، وحتى مع التسليم أنهما عضوان مستقلان حساً، فالشرع حكم لهما بأنهما عضو واحد حكماً، وإنما تلقينا صفة المضمضة والاستنشاق من السنة الصحيحة، فلا دخل للنظر فيهما وقد ورد النص، والله أعلم. الدليل الخامس: استدل بعضهم ببعض الأحاديث المجملة، كقوله: «فمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً» من أن ظاهرها الفصل بين المضمضة والاستنشاق. وأجيب: بأن هذه الأحاديث مجملة، تحتمل الفصل وتحتمل الجمع، والمجمل يحمل على المبين والمفصل كما في حديث عبد الله بن زيد، وحديث ابن عباس وحديث علي رضي الله عنهم أجمعين، وسوف يأتي ذكرها في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. دليل من قال: يجمع بين المضمضة والاستنشاق الدليل الأول: (840 - 69) ما رواه البخاري، من طريق وهيب قال: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم، فكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث

الدليل الثاني

غرفات من ماء. الحديث. وقد رواه مسلم من هذا الطريق إلا أنه قال: فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات (¬1). وفي رواية للبخاري ومسلم من طريق خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى به، بلفظ: فمضمض واستنشق من كف واحدة (¬2). قال الحافظ: واستدل به على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة. وقال النووي: في هذا الحديث دلالة ظاهرة للمذهب الصحيح المختار، أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات، يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منهما (¬3). وقال ابن القيم: لم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة (¬4). اهـ الدليل الثاني: (841 - 70) ما رواه البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة ¬

(¬1) البخاري (192)، ومسلم (235). (¬2) البخاري (191)، ومسلم (235). (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 621). (¬4) زاد المعاد (1/ 192).

الدليل الثالث

من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله يعني اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (¬1). وجه الاستدلال: إذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ غرفة من ماء للمضمضة والاستنشاق، فلا يمكن أن تكون هناك صفة إلا صفة واحدة هي الوصل بين المضمضة والاستنشاق، ولا يمكن الفصل في هذه الحالة والغرفة واحدة. وقد روى الحديث الدارمي (¬2)، من طريق عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم به، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وجمع بين المضمضة والاستنشاق. وهذه رواية للحديث بالمعنى. الدليل الثالث: (842 - 71) ما رواه أحمد من طريق خالد بن علقمة، حدثنا عبد خير قال: جلس علي بعد ما صلى الفجر في الرحبة، ثم قال لغلامه: ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست. قال عبد خير: ونحن جلوس ننظر إليه، فأخذ بيمينه الإناء، فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، فعله ثلاث مرار، قال ¬

(¬1) البخاري (140). وقد خرجته بمزيد من التفصيل حول ألفاظه المختلفة في كتابي المسح على الحائل رقم (37). (¬2) سنن الدارمي (700).

الراجح

عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فمضمض، واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاث مرات. الحديث. [رجاله ثقات وسبق الكلام عليه] (¬1). وقد أجاب أصحاب القول الأول عن هذه الأدلة بأجوبة فيها نظر، منها: أنه ربما فعل ذلك لبيان الجواز. ورد هذا: بأن روايات الجمع كثيرة من جهات عديدة وعن جماعة من الصحابة, ورواية الفصل واحدة وهي ضعيفة, وهذا لا يناسب بيان الجواز في الجمع , فإن بيان الجواز يكون في مرة ونحوها ويداوم على الأفضل , والأمر هنا بالعكس. الثاني: قالوا: إن معنى تمضمض واستنشق من كف واحد: أي لم يستعن باليدين مثل ما يفعل في غسل الوجه، أو معناه فعلهما باليد اليمنى، فيكون ردا على من يقول: الاستنشاق باليسرى ; لأن الأنف موضع الأذى، كموضع الاستنجاء (¬2). الراجح: بعد استعراض أدلة كل قول، تبين أن الفصل بين المضمضة والاستنشاق مجزئ، إلا أن الجمع بين المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة هو السنة، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر رقم (836) من هذا الكتاب. (¬2) تبيين الحقائق (1/ 4).

دليل من قال: يأخذ ثلاث غرفات

فرع: في صفة الجمع والفصل بين المضمضة والاستنشاق اختلف العلماء في صفة الجمع بين المضمضة والاستنشاق على ثلاثة أقوال: فقيل: أن يأخذ غرفة يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك، ثم ثالثة كذلك، وهذا أصحها، ورجحها النووي. وقيل: صفة الجمع أن يأخذ غرفة واحدة، فيمضمض منها ثم يستنشق، ثم يمضمض منها ثم يستنشق، ثم يفعل ذلك مرة ثالثة، كل هذه الثلاث من غرفة واحدة. وقيل: أن يأخذ غرفة واحدة، فيتمضمض منها ثلاثاً، ثم يستنشق منها ثلاثاً بلا خلط، وهذه لا فرق بينها وبين الأولى إلا أنه لا يستنشق حتى يفرغ من المضمضة. فصارت الصفات ترجع إلى صفتين: أخذ ثلاث غرفات، في كل غرفة يتمضمض ويستنشق منها. أو يأخذ غرفة واحدة يتمضمض ويستنشق منها ثلاث مرات. دليل من قال: يأخذ ثلاث غرفات. (843 - 72) ما رواه البخاري من طريق وهيب، قال: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم، فكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات من ماء. الحديث

دليل من قال غرفة واحدة يتمضمض ويستنشق منها ثلاث مرات

فهذا الحديث صريح أن الغرفات ثلاث، وأن المضمضة والاستنشاق ثلاث، فتكون غرفة مستقلة لكل مضمضة واستنشاق. دليل من قال غرفة واحدة يتمضمض ويستنشق منها ثلاث مرات. (844 - 73) ما رواه البخاري من طريق سليمان بن بلال قال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه قال: كان عمي يكثر من الوضوء قال لعبد الله بن زيد أخبرني كيف رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فدعا بتور من ماء، فكفأ على يديه، فغسلهما ثلاث مرار، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة (¬1). فقوله رضي الله عنه: ثلاث مرات من غرفة واحدة ظاهر أن تكرار الاستنشاق والمضمضة من غرفة وحدة. وأجيب: بأن قوله: «فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة» المقصود: تمضمض واستنثر كل مرة من غرفة واحدة، فالراوي والله أعلم أراد أن يشير إلى جمع المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة، ولم يرد أن المضمضة والاستنشاق يكرران من نفس الغرفة الواحدة، لاسيما والحديث واحد، ومخرجه واحد، وقد جاء فيه في الرواية الأخرى: فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات. ¬

(¬1) صحيح البخاري (199).

الفصل الخامس: من سنن الوضوء تخليل اللحية والأصابع في الوضوء

الفصل الخامس: من سنن الوضوء تخليل اللحية والأصابع في الوضوء (معنى التخليل) جاء في اللسان (¬1): الخَلل: مُنْفَرَج ما بين كل شيئين. وخَلَّل بينهما: فَرَّج، والجمع الخِلال مثل جَبَل وجبال، وقرىء بهما قوله عز وجل: {فترى الوَدْق يخرج من خِلاله} (¬2)، وخَلَلَه. وخَلَلُ السحاب وخِلالُه: مخارج الماء منه. والخَلَل: الفُرْجة بين الشيئين. والخَلَّة: الثُّقْبة الصغيرة، وقيل: هي الثُّقْبة ما كانت. وخِلالُ الدار: ما حوالَى جُدُرها وما بين بيوتها. وتَخَلَّلْتُ ديارهم: مَشَيت خِلالها. وتَخَلَّلتُ الرملَ أَي مَضَيت فيه. وفي التنزيل العزيز: {فجاسُوا خِلالَ الدِّيار} (¬3)، وتَخَلَّل القومَ: دخل بين خَلَلهم وخِلالهم، ومنه تَخَلُّل الأَسنان. هذا معنى التخليل في لسان العرب. وأما التخليل في الاصطلاح: فلا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فإذا كان معنى التخليل في الأصل: هو إدخال الشيء في خلال الشيء: وهو وسطه، فيكون معنى تخليل اللحية: هو إدخال الماء بين شعرها، حتى يوصل الماء إلى بشرته بأَصابعه. ¬

(¬1) لسان العرب (11/ 213). (¬2) النور: 43. (¬3) الإسراء: آية: 5.

المبحث الأول: في حكم تخليل اللحية

المبحث الأول: في حكم تخليل اللحية اختلف العلماء في حكم تخليل اللحية في الطهارة الصغرى (¬1). فقيل: يستحب تخليل اللحية الكثيفة (¬2)، وهو مذهب ¬

(¬1) أما الطهارة الكبرى فيجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر مطلقاً كثيفاً كان الشعر أو خفيفاً. وقيل: لا يجب حتى في الطهارة الكبرى، وهو قول في مذهب المالكية. قال الباجي في المنتقى (1/ 94): قد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك- أي في تخليل الشعر في الطهارة الكبرى - فروى ابن القاسم عنه ليس على المغتسل من الجنابة تخليل لحيته. وروى عنه أشهب أن ذلك عليه. وجه رواية ابن القاسم أن الفرض قد انتقل إلى الشعر النابت على البشرة فوجب أن يسقط حكم إيصال الماء إلى البشرة بإمرار اليد عليها. ووجه قول أشهب: قول عائشة في الحديث: "ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره" ومن جهة المعنى: أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب، والبشرة التي تحت اللحية من جملته فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها بالبلل، وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى؛ لأنها مبنية على التخفيف، ونيابة الإبدال فيها من غير ضرورة ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجزئ في الغسل. اهـ (¬2) وفي ضابط اللحية الكثيفة من الخفيفة أوجه, أحدها: أن ما عده الناس خفيفاً، فهو خفيف، وما عدوه كثيفاً فهو كثيف، فكأن هذا القول اعتبر العرف. والعرف لا ينضبط في مثل ذلك لاختلاف الناس، فبعضهم متساهل، وبعضهم متشدد. الوجه الثاني: ما وصل الماء إلى تحته بمشقة فهو كثيف، وما كان وصول الماء إلى تحته بغير مشقة فهو خفيف. والمشقة أيضاً غير منضبطة. الوجه الثالث: ما ستر البشرة عن الناظر في مجلس التخاطب فهو كثيف، وما لا فهو خفيف. وهذا أحسنها. انظر المجموع (1/ 409،410). فإذا عرفنا الفرق بين الشعر الخفيف والشعر الكثيف، ففي المسألة خلاف: =

الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)،وقول في مذهب المالكية (¬4). ¬

= فقيل: الشعر الخفيف يجب غسل ما تحته من البشرة، لأنه البشرة ترى من تحته، فيتعين غسل البشرة، ولا يكفي غسل الشعر فقط، وهو مذهب الأئمة الأربعة وقيل: يستوي كثيف اللحية وخفيفها كما في مواهب الجليل (1/ 189) قال سند: المذهب استواء كثيف اللحية وخفيفها في عدم وجوب التخليل، وقول القاضي عبد الوهاب في الخفيف: " يجب إيصال الماء إلى ما تحته " لا يناقص ذلك; لأنه إذا مر بيديه على عارضيه وحركهما وصل الماء إلى كل محل مكشوف من الشعر , فإن لم يصل الماء لقلته فلا يجزئه. وظاهر عبارة الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 3) حيث يقول: الوجه يجب غسله قبل نبات الشعر , فإذا نبت الشعر سقط غسل ما تحته عند عامة العلماء, وقال أبو عبد الله البلخي: إنه لا يسقط غسله، وقال الشافعي: إن كان الشعر كثيفا يسقط, وإن كان خفيفاً لا يسقط. اهـ فهو جعل الأقوال ثلاثة: الأول: يسقط غسل الوجه مطلقاً عند عامة العلماء إذا نبت الشعر، والقول الثاني: لا يسقط مطلقاً عند أبي عبد الله البلخي، كثيفاً كان الشعر أو خفيفاً، والثالث: مذهب الشافعي: وهو التفصيل بين الشعر الكثيف والخفيف، فيسقط غسل البشرة في الكثيف، ولا يسقط غسله في الخفيف. وقال ابن عابدين في حاشيته (1/ 101): أما ما في البدائع من أنه إذا نبت الشعر يسقط غسل ما تحته عند عامة العلماء كثيفاً كان أو خفيفاً ; لأن ما تحته خرج من أن يكون وجها; لأنه لا يواجه به اهـ فمحمول على ما إذا لم تر بشرتها كما يشير إليه التعليل. اهـ وهذا الحمل غير ظاهر، لأنه لو حمل على ذلك لم يكن بينه وبين مذهب الشافعي فرق، والله أعلم. (¬1) تخليل اللحية عند أبي حنيفة ومحمد من الآداب، وعند أبي يوسف سنة، وهذا لغير المحرم، وأما المحرم فمكروه له ذلك، انظر بدائع الصنائع (1/ 23)، وعبر عنه الزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 4) بأن تخليل اللحية جائز عند أبي حنيفة ومحمد، قال: ومعناه: أنه لا يكون بدعة، وليس بسنة، وسنة على رأي أبي يوسف عليهم رحمة الله جميعاً. وانظر العناية شرح الهداية (1/ 29)، شرح فتح القدير (1/ 28، 29)، البحر الرائق (1/ 22، 23)، الفتاوى الهندية (1/ 7). (¬2) حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 62)، تحفة المحتاج (1/ 234)، نهاية المحتاج (1/ 192)، (¬3) الإنصاف (1/ 134)، شرح منتهى الإرادات (1/ 47)، كشاف القناع (1/ 106). (¬4) مواهب الجليل (1/ 189)،

أدلة القائلين باستحباب تخليل اللحية

وقيل: يكره تخليل اللحية، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). وقيل: يجب تخليل اللحية مطلقاً كثيفة أو خفيفة، وهو قول ثالث في مذهب المالكية (¬2). وعلى القول بالوجوب فهل ذلك حتى يصل الماء إلى داخل الشعر فقط، أو لا بد من وصول الماء إلى البشرة؟ في ذلك قولان حكاهما المازري (¬3). أدلة القائلين باستحباب تخليل اللحية: الدليل الأول: (845 - 74) ما رواه عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، ومضمض واستنشق واستنثر، وغسل وجهه ثلاثاً، وفي آخره قال: «وخلل لحيته حين غسل وجهه قبل أن يغسل قدميه، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كالذي رأيتموني أفعل» (¬4). [ذكر التخليل منكر في هذا الحديث، وحديث عثمان في الصحيحين وفي غيرهما ليس فيه ذكر التخليل] (¬5). ¬

(¬1) جاء في التمهيد (20/ 121): " قال مالك: تخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله". (¬2) مواهب الجليل (1/ 189)، الفواكه الدواني (1/ 139). (¬3) مواهب الجليل (1/ 190). (¬4) المصنف (125). (¬5) في إسناده عامر بن شقيق، جاء في ترجمته: قال أبو بكر بن أبى خيثمة: سئل يحيى بن معين عن عامر بن شقيق فقال ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (6/ 322). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أبو حاتم الرازي: شيخ ليس بقوي وليس من أبى وائل بسبيل. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (5/ 60). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 249). وقال الحافظ ابن حجر: صحح الترمذي حديثه في التخليل، وقال في العلل الكبير: قال محمد: أصح شيء في التخليل عندي حديث عثمان، قلت: إنهم يتكلمون في هذا فقال: هو حسن، وصححه بن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم. اهـ تهذيب التهذيب (5/ 60). ومع أن ابن حجر حاول تقوية عامر هذا إلا أنه قال في التقريب: لين الحديث. ولو كان عامر هذا ثقة لكان انفراده بذكر التخليل في حديث عثمان علة توجب رد حديثه، كيف وهو مع هذا فيه لين؟ والله أعلم. [تخريج الحديث]: الحديث مداره على إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان. فقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه كما في حديث الباب، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الترمذي (31) مختصراً، وابن ماجه (430)، والحاكم (527)، والبيهقي في السنن (1/ 54). وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 21) ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن حبان (1081)، والدارقطني (1/ 86) عن ابن نمير. وأخرجه الدارمي (704) وابن الجارود على إثر حديث (72) والدارقطني (1/ 86) عن مالك بن إسماعيل (أبي غسان). ورواه ابن الجارود في المنتقى (72) وابن خزيمة (152) والدارقطني (1/ 86) من طريق ابن مهدي. وأخرجه ابن خزيمة أيضاً (151) من طريق خلف بن الوليد وأبي عامر. وأخرجه الحاكم (1/ 148) من طريق عبد الله بن موسى، كلهم عن إسرائيل به. واختلف على إسرائيل في ذكر التخليل، فرواه من سبق: عبد الرزاق وعبد الله بن نمير ومالك بن إسماعيل وابن مهدي وأبو عامر العقدي وخلف بن الوليد رووه عن إسرائيل بذكر التخليل. وخالفهم وكيع ويحيى بن آدم، وأسد بن موسى فرووه عن إسرائيل به بدون ذكر التخليل إلا أن وكيعاً ويحيى بن آدم اختلف عليهما فيه، فروي عنهما تارة بذكر التخليل، وتارة بدون ذكره. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقد أخرجه أحمد (1/ 57) وابن أبي شيبة (1/ 17) عن وكيع، عن إسرائيل به، بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً. وأخرجه البزار (393) من طريق وكيع به مطولاً بذكر التخليل، فأخشى أن تكون رواية أحمد وابن أبي شيبة تعمد فيها اختصار الحديث. وأما رواية يحيى بن آدم، فقد أخرجها أبو داود (110) بلفظ: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعية ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا. اهـ ولم يذكر التخليل، لكن رواه الدارقطني (1/ 91) من طريق يحيى بن آدم، وفيه ذكر التخليل. وأما رواية أسد بن موسى، فأخرجها الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 32) بلفظ: عن عثمان بن عفان أنه توضأ، فمسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ". فتلاحظ أن من رواه عن إسرائيل بذكر التخليل أكثر عدداً، وكلهم ثقات، وممن أخرج أحاديثهم الجماعة إلا خلف بن الوليد، وهو ثقة، لكن علة الحديث تفرد عامر بن شقيق بذكر التخليل، وقد خالفه عبدة بن أبي لبابة، وهو أوثق منه، فقد أخرجه أبو عبيد في الطهور (81)، والطيالسي (81)، وابن ماجه (413)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 29)، والبزار في المسند (394) من طريق عبد الرحمن بن ثابت، عن عبدة بن أبي لبابة، عن أبي وائل به، وليس فيه ذكر التخليل. وعبد الرحمن بن ثابت، قال فيه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ، ورمي بالقدر، وقد تغير بآخرة. كما أن حديث عثمان في صفة الوضوء رواه جماعة عن عثمان من غير طريق أبي وائل، ولم يذكروا فيه التخليل، وإليك بعض من وقفت عليه منهم: الأول: حمران مولى عثمان بن عفان، عن عثمان، وحديثه في الصحيحين انظر (البخاري 159، ومسلم226). الثاني: أبو أنس: مالك بن عامر الأصبحي، عن عثمان، وحديثه في صحيح مسلم (230). الثالث: عطاء، عن عثمان. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 66، 72) من طريق حماد بن زيد عن حجاج بن أرطاة، عن عطاء، عن عثمان رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً، ومسح برأسه، وغسل رجليه غسلاً. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 17) من طريق أبي معاوية عن حجاج به. وأخرجه أيضاً (1/ 22) عن عباد بن العوام، عن حجاج به، ومن هذا الطريق أخرجه ابن ماجه (435). وهذا الطريق له علتان: الأولى: ضعف عطاء، وهو مدلس أيضاً وقد عنعن. الثانية: عطاء لم يسمع من عثمان رضي الله عنه، ولذلك أخرجه عبد الرزاق (124) عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه بلغه عن عثمان أنه مضمض ثلاثاً، واستنثر ثلاثاً، ثم أفرغ على وجهه ثلاثاً، وعلى يديه ثلاثاً، ثم قال: هكذا توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ولم أستيقنها عن عثمان، ولم أزد عليه ولم أنقص. اهـ فقوله: بلغه عن عثمان صريح أنه لم يسمعه منه. وذكره الحافظ في التلخيص (1/ 63)، وقال: رواه البيهقي والدارقطني. اهـ قلت: أما البيهقي فذكره معلقاً، قال (1/ 63): وروي ذلك عن عطاء بن أبي رباح، عن عثمان، وهو مرسل. وأما الدارقطني فلم أجده في سننه، ولم يشر الحافظ إلى رواية عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن ماجه وعبد الله بن أحمد للحديث. الرابع: زيد بن ثابت عن عثمان رضي الله عنهما. أخرجه البزار (343) من طريق عثمان بن عمر، قال: نا فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، عن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ. قال البزار: وهذا الحديث حسن الإسناد، ولا نعلم روى زيد بن ثابت عن عثمان حديثاً مسنداً إلا هذا الحديث، ولا له إسناد عن زيد بن ثابت إلا هذا الإسناد. كما أن الحافظ ابن حجر قد حسن إسناده في التلخيص (1/ 146). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الخامس: عبد الرحمن البيلماني، عن عثمان. أخرجه الدارقطني (1/ 92) من طريق صالح بن عبد الجبار، حدثنا محمد بن عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن عثمان في صفة الوضوء ثلاثاً، وذكر التثليث، ومسح الرأس، وعدم الكلام أثناء الوضوء، والذكر بعده، وثواب ذلك. وهذا الإسناد ضعيف جداً. جاء في نصب الراية (1/ 32): قال ابن القطان: صالح بن عبد الجبار لا أعرفه إلا في هذا الحديث، وهو مجهول الحال. ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني جاء في تلخيص الحبير عن الحافظ أنه ضعيف جداً، وفي التقريب: ضعيف. وقد اتهمه ابن عدي ابن حبان. وأما أبوه فضعفه الحافظ في التلخيص والتقريب. السادس: عن زيد بن داره، عن عثمان. أخرجه أحمد (1/ 61) حدثنا صفوان بن عيسى، عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم، قال: دخلت على ابن داره مولى عثمان، قال: فسمعني أمضمض، قال: فقال: يا محمد، قال: قلت: لبيك. قال: ألا أخبرك عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: رأيت عثمان، وهو بالمقاعد دعا بوضوء، فمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه، ثم قال: من أحب أن ينظر إلى وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا إسناد ضعيف، فيه زيد بن داره، وهو مجهول الحال. انظر تلخيص الحبير (1/ 146). والحديث أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 36)، والدارقطني (1/ 91، 92) والبيهقي في السنن (1/ 62، 63) من طريق صفوان بن عيسى به. فتبين من هذا التخريج أن جميع من روى الحديث عن عثمان في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا تخليل اللحية، وإنما انفرد بذكره عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان، وعامر لا يحتمل تفرده بمثل هذا، وأما قول البخاري في علل الترمذي الكبير: أصح شيء عندي حديث عثمان. قيل: إنهم يتكلمون في هذا. قال: هو حسن. فقوله: أصح شيء لا يقتضي أنه صحيح، والحسن الذي في كلام البخاري لا يراد به الحسن الاصطلاحي عند المتأخرين والله أعلم. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (846 - 75) ما رواه أحمد، قال: حدثنا علي بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله يعني ابن مبارك، قال: أخبرنا عمر بن أبي وهب الخزاعي، قال: حدثني موسى بن ثروان، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل لحيته بالماء. [رجاله موثوقون] (¬1). ¬

= فإن قيل: إن عامر بن شقيق قد عدله النسائي، ووثقه ابن حبان، وروى عنه شعبة، وشعبة لا يروي إلا عن ثقة، فلعل جرح أبي حاتم وابن معين من قبيل الجرح غير المفسر فلا يقدم على التعديل. فالجواب: غاية ما يمكن أن يصل إليه عامر أن يكون حسن الحديث، وهذا بشرط عدم المخالفة، فإذا خالف من هو أوثق منه صار حديثه شاذاً، وقد خالف هنا جميع من روى الحديث عن عثمان حيث لم يذكروا التخليل، وانفرد بذكره فلا تقبل زيادته، والله أعلم. انظر لمراجعة طرق حديث عثمان في ذكر التخليل: أطراف مسند أحمد (4/ 305) تحفة الأشراف (9809، 9810)، إتحاف المهرة (13672). (¬1) مداره على عمر بن أبي وهب: رواه عنه عبد الصمد بن عبد الوارث كما في مسند إسحاق بن راهوية (1371). وهلال بن فياض كما في مستدرك الحاكم (1/ 150). وشعبة، كما في الطهور لأبي عبيد (314) والخطيب في تاريخه (11/ 414) في ترجمة القاسم كلهم رووه عن عمر بن أبي وهب، عن موسى بن ثروان، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي، عن عائشة. ورواه زيد بن الحباب كما في مسند أحمد (6/ 233) عن عمرو بن أبي وهب، حدثني موسى بن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي، عن عائشة. وقوله: (موسى بن طلحة) خطأ مطبعي، والصواب، موسى عن طلحة كما في أطراف =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (847 - 76) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم، عن حسان بن بلال، قال: ¬

_ = مسند أحمد (9/ 58) وليتفق مع الروايات السابقة، والله أعلم. ورواه أحمد (6/ 234) من طريق عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا عمر بن أبي وهب به. قال ابن دقيق العيد في الإمام (1/ 485): والذي أعتل به في هذا الحديث الاضطراب، قيل: موسى بن ثروان من رواية شعبة. وقيل: ابن ثروان، من رواية وكيع وأبي عبيدة الحداد. وقال: إن أباه قال: موسى النجدي: هو موسى بن سروان. وقال يحيى بن معين: موسى بن سروان معلم بصري. واختلف في اسم الراوي عن موسى، فقيل: عمرو بن أبي وهب الخزاعي برواية ... . وبقية الكلام ساقط من الأصل، واعتذر محقق الكتاب بأنه لم يتمكن من استداركه. وفيه أمر آخر، وهو أن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي لم أقف على من نص على سماعه من عائشة. كما أن الحديث قد تفرد به عمر بن أبي وهب، عن موسى، وتفرد به موسى عن طلحة، وتفرد به طلحة عن عائشة، والمتقدمون ربما أعلوا الحديث بالتفرد، خاصة إذا كان للرواي أصحاب يأخذون عنه الحديث ويهتمون بحديثه، فإذا تفرد راو مما لم يعرف أنه من أصحاب الشيخ لم يقبل ما تفرد به. قال أبو داود كما في مسائل الإمام أحمد (40): قلت لأحمد بن حنبل: تخليل اللحية؟ قال: يخللها، قد روي فيه أحاديث، ليس يثبت فيه حديث - يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي ليس يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخليل شيء. حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (1/ 170). وقال مثله ابن أبي حاتم، عن أبيه. المرجع السابق. ولمراجعة طرق الحديث انظر أطراف المسند (9/ 58)، إتحاف المهرة (21747).

رأيت عمار بن ياسر توضأ، فخلل لحيته، فقلت له، فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعله (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 19) رقم 98. (¬2) فيه ثلاث علل: الأولى: ضعف عبد الكريم بن أبي أمية. الثانية: الاختلاف في إسناده، فقد رواه ابن عيينة، عن عبد الكريم، عن حسان بن بلال، عن عمار. وقيل: عن ابن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار. العلة الثالثة: قال البخاري: لم يسمع عبد الكريم من حسان. كما في التاريخ الكبير (3/ 31). وقال أحمد في رواية إسحاق بن منصور عنه: لم يسمع عبد الكريم من حسان بن بلال حديث التخليل. انظر سنن الترمذي (29). وقال الحافظ في النكت الظراف (7/ 473): " رواه ابن المقرئ، عن سفيان، عن عبد الكريم، عمن يحدث عن حسان ". وهذا صريح بأنه لم يسمعه منه. وقال الحافظ في التلخيص (1/ 155): وهو معلول، أحسن طرقه ما رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عنه، وحسان ثقة، لكن لم يسمعه ابن عيينة من سعيد، ولا قتادة من حسان. اهـ لكن يشكل عليه أن في رواية الحاكم تصريحاً من ابن عيينة بالسماع من سعيد، إلا أن يكون هذا خطأ في الإسناد. وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 32): قال أبي: لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة، عن ابن عروبة. قلت: صحيح؟ قال: لو كان صحيحاً لكان في مصنفات سعيد بن أبي عروبة، ولم يذكر ابن عيينة في هذا الحديث، وهذا أيضاً مما يوهنه. اهـ قال ابن دقيق العيد: ليس هذا بعلة قوية. إتحاف المهرة (11/ 720)، فتعقبه الحافظ =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (848 - 77) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن عمر بن سليم الباهلي، قال: حدثني أبو غالب، قال: قلت لأبي إمامة: أخبرنا عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فتوضأ ثلاثاً، وخلل لحيته، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، ووقفه أرجح] (¬2). ¬

= بقوله: قد بين ابن المديني علة هذا الحديث، فقال: لم يسمعه قتادة إلا من عبد الكريم. اهـ [تخريج الحديث]: الحديث أخرجه أبو داود الطيالسي (680) والحميدي (146)، والترمذي (29)، وابن ماجه (429)، وأبو يعلى (1604)، والحاكم (1/ 149) وصححه، كلهم رووه من طريق سفيان بن عيينة به. وفي رواية أبي يعلى التصريح بالتحديث بين عبد الكريم وحسان، وهو مخالف لرواية الجماعة، ومخالف أيضاً لنص الأئمة. ووقع عند الحاكم عبد الكريم الجزري، وهو ثقة، وإنما هو ابن أبي المخارق. وأخرجه الحميدي (147)، والترمذي (30)، والحاكم (1/ 149) من طريق ابن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال به. انظر في طرق الحديث: إتحاف المهرة (14930)، تحفة الأشراف (10346). (¬1) المصنف (1/ 21). (¬2) في إسناده عمر بن سليم الباهلي، جاء في ترجمته: قال أبو زرعة: صدوق. الجرح والتعديل (6/ 112). وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 176). وقال العقيلي: غير مشهور بالنقل، ويحدث بمناكير. الضعفاء للعقيلي (3/ 168). وفي التقريب: صدوق له أوهام. وفي إسناده أيضاً: أبو غالب. =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (849 - 78) رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن عبيد، ثنا واصل، عن أبي سورة، عن أبي أيوب الأنصاري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ تمضمض، ومسح لحيته من تحتها بالماء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= قال يحيى بن معين: أبو غالب صالح الحديث. الجرح والتعديل (3/ 315). وقال أبو حاتم الرازي: أبو غالب الحزور ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. المغني في الضعفاء (1366)، تهذيب التهذيب (12/ 215). وقال ابن حبان: منكر الحديث على قلته، لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما يوافق الثقات، وهو صاحب حديث الخوارج. المجروحين (1/ 267). وقال ابن عدي: روى عنه جماعة من الأئمة وغير الأئمة، وهو حديث معروف به، ولأبي غالب غير ما ذكرت من الحديث، ولم أر في أحاديثه حديثا منكراً جداً وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (2/ 455) واختلف قول الدراقطني فيه، فقال مرة: ثقة. وقال أخرى: بصري يعتبر به. تهذيب التهذيب (12/ 215). وفي التقريب: صدوق يخطئ. واختلف فيه على أبي غالب، فرواه عنه عمر بن سليم الباهلي مرفوعاً. ورواه آدم أبو عباد كما في التاريخ الكبير (3/ 2/161)، عن أبي غالب أنه رأى أبا أمامة يخلل لحيته، وكانت رقيقة. وهذا موقوف. وآدم أبو عباد له ترجمة في الجرح والتعديل (2/ 367): قال يحيى بن معين: صالح. وقال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأساً. والله أعلم. (¬1) المسند (5/ 417). (¬2) في إسناده واصل بن السائب الرقاشي، جاء في ترجمته: قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (8/ 173). قال ابن أبي حاتم: قال أبي: سألت أبا بكر بن أبى شيبة عن واصل بن السائب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الرقاشي، فقال: ضعيف. الجرح والتعديل (9/ 30). وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث مثل أشعث بن سوار وليث بن أبي سليم وأشباههم. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. المرجع السابق. وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (600). وقال ابن عدي بعد أن ساق جملة من الأحاديث المنكرة له: ولواصل غير ما ذكرت وأحاديثه لا تشبه أحاديث الثقات. الكامل (7/ 85). وفي التقري: ضعيف. كما أن في إسناده أيضاً: أبو سورة، جاء في ترجمته: قال البخاري: منكر الحديث. وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه شيئاً. (9/ 388). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 570). وقال الدارقطني: مجهول. الضعفاء والمتروكين (612). وقال الترمذي: يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن معين جداً. تهذيب التهذيب (12/ 136). وقال الترمذي في العلل عن البخاري: لا يعرف لأبي سورة سماع من أبي أيوب. المرجع السابق. وقال الحافظ: أغرب أبو محمد بن حزم فزعم أن بن معين قال: أبو أيوب الذي روى عنه أبو سورة ليس هو الأنصاري. المرجع السابق. وقد ذكر أبو زرعة في الجرح والتعديل (9/ 388) والمزي في تهذيب الكمال: أن أبا أيوب الأنصاري عم صاحبنا هذا، والله أعلم. [تخريج الحديث]: الحديث أخرجه عبد بن حميد (218)، والترمذي في العلل الكبير (1/ 115)، والشاشي في مسنده (1137) من طريق محمد بن عبيد، عن واصل به. وأخرجه ابن ماجه (433) وابن عدي في الكامل (7/ 85) والعقيلي في الضعفاء (4/ 323) من طريق محمد بن ربيعة، عن واصل بن السائب به. =

الدليل السادس

الدليل السادس: (850 - 79) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الحميد بن حبيب، حدثنا الأوزاعي، حدثنا عبد الواحد بن قيس، حدثني نافع، عن ابن عمر قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها (¬1). [إسناده ضعيف وصوب الدارقطني وقفه] (¬2). ¬

= وقال العقيلي: والرواية في التخليل فيها لين، وفيها ما هو أصلح من هذا الإسناد. اهـ وأخرجه الطبراني في الكبير (4068) من طريق يحيى بن سعيد الأموي، عن واصل به. وأخرجه أحمد (5/ 416) حدثنا وكيع، عن واصل الرقاشي به، بلفظ: حبذا المتخللون، قيل: وما المتخللون؟ قال: في الوضوء والطعام. وذكر المزي في تحفة الأشراف في زيادته (3/ 106): وقال عبد الرحيم بن سليمان، عن واصل بن السائب، عن أبي سورة، عن عمه أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حبذا المتخللون ". وتابعه رباح بن عمرو القيسي، ويحيى بن سعيد الأموي ويحيى بن العلاء الرازي، عن واصل بن السائب. اهـ وانظر طرق الحديث في أطراف مسند أحمد (6/ 62)، وتحفة الأشراف (3497)، إتحاف المهرة (4424، 4426). (¬1) سنن ابن ماجه (432). (¬2) في إسناده عبد الواحد بن قيس، جاء في ترجمته: قال على بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد وذكر عنده عبد الواحد بن قيس الذي روى عنه الأوزاعي فقال: كان شبه لا شيء. قلت ليحيى: كيف كان؟ قال: كان الحسن بن ذكوان يحدث عنه بعجائب. الجرح والتعديل (6/ 23). وقال أبو حاتم الرازي: لا يعجبني حديثه. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (372). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الحاكم أبو أحمد: منكر الحديث. ووثقه يحيى بن معين. وقال في موضع آخر: لم يكن بذاك، ولا قريب. تهذيب التهذيب (6/ 389). وذكره أبو زرعة في نفر ثقات. المرجع السابق. وقال ابن عدي: قد حدث الأوزاعي عن عبد الواحد هذا بغير حديث، وأرجو أنه لا بأس به؛ لأن في رواية الأزاعي عنه استقامة. الكامل (5/ 297). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي عن أبي هريرة، ولم يره، ولا يعتبر بمقاطيعه ولا بمراسيله، ولا برواية الضعفاء عنه. الثقات (7/ 123). وقال العجلي: عبد الواحد بن قيس شامي تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/ 107) رقم 1145. وفي التقريب: صدوق له أوهام ومراسيل. ومع أن إسناده ليس بالقائم، فقد اختلف على الأوزاعي، فرواه عبد الحميد بن حبيب كما سقته مرفوعاً. وخالفه أبو المغيرة، فرواه عن الأوزاعي، عن عبد الواحد بن قيس به موقوفاً. أخرجه الدارقطني (1/ 107) حدثني إسماعيل بن محمد الصفار، نا إبراهيم بن هانئ، نا أبو المغيرة به. وصوب الدارقطني وقفه. وأبو المغيرة أوثق من عبد الحميد بن حبيب، واسم أبي المغيرة: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني: وثقه الدارقطني ويعقوب بن سفيان والعجلي وأبو زرعة الدمشقي، وقال أبو حاتم: كان صدوقاً. الجرح والتعديل (6/ 56)، معرفة الثقات (2/ 100)، ثقات ابن حبان (8/ 419)، تهذيب التهذيب (6/ 329). روواه الدراقطني (1/ 152) من طريق إسماعيل بن عبد الله بن سماعة، عن الأوزاعي، عن عبد الواحد، عن يزيد الرقاشي مرسلاً. وهذا الأثر المرسل قد ساقه ابن جرير في تفسيره بسنده (6/ 121). روواه الدراقطني (1/ 152) من طريق عبد الله بن كثير بن ميمون، عن الأوزاعي، عن عبد الواحد بن قيس، عن قتادة ويزيد الرقاشي، عن أنس، فجعله من مسند أنس. وأخرجه البيهقي (1/ 55) من طريق الوليد بن مزيد، حدثنا الأوزاعي، حدثني عبد الله ابن عامر، حدثني نافع، أن ابن عمر كان يعرك عارضيه، ويشبك لحيته بأصابعه أحياناً، ويترك أحياناً. وعبد الله بن عامر متفق على ضعفه. =

الدليل السابع

الدليل السابع: (851 - 80) ما رواه أبو عبيد، في الطهور، ثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن أبي ورقاء العبدي، عن عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، قال: قال له رجل: يا أبا معاوية كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ قال: فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، وخلل لحيته في غسل وجهه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

= وقد تابعه العمري عند الطبراني في الأوسط، كما في مجمع البحرين (423) حدثنا أحمد، ثنا أحمد بن محمد بن أبي بزة، ثنا مؤمل بن إسماعيل، ثنا عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا توضأ خلل لحيته، وأصابع رجليه. وابن أبي بزة عن مؤمل، عن العمري ضعيف، عن ضعيف، عن ضعيف. ورجح أبو حاتم كونه مرسلاً، ففي العلل لابن أبي حاتم (1/ 31): سألت أبي عن حديث رواه ابن أبي العشرين، يعني: عبد الحميد بن حبيب، عن الأوزاعي، عن عبد الواحد بن قيس، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ عرك عارضيه، وشبك بين لحييه. قال أبي: روى هذا الحديث الوليد عن الأوزاعي، عن عبد الواحد بن يزيد الرقاشي وقتادة، قالا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ..... وهو أشبه. اهـ وقال الحافظ في النكت الظراف (6/ 120): " ظاهره الصحة، لكنه معلول، ثم نقل بعض كلام أبي حاتم في العلل المتقدم ". وأخرج ابن جرير في جامع البيان من طرق كثيرة عن ابن عمر موقوفاً بعضها بسند صحيح، انظره (6/ 119،120). انظر لمراجعة طرق الحديث إتحاف المهرة (10775)، وتحفة الأشراف (7789)، وانظر من إتحاف المهرة كذلك (1622). (¬1) كتاب الطهور (82). (¬2) في إسناده أبو الورقاء: اسمه فائد بن عبد الرحمن. =

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (852 - 81) ما رواه البزار كما في مختصر مسند البزار، قال: حدثنا محمد بن صالح ابن العوام، ثنا عبد الرحمن بن بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، حدثني أبي بكار، قال: سمعت أبي عبد العزيز بن أبي بكرة يحدث عن أبيه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فغسل يديه ثلاثاً، ومضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل ذراعيه إلى المرفقين، ومسح برأسه، يقبل بيديه من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه، ثم غسله رجليه ثلاثاً، وخلل أصابع رجليه، وخلل لحيته. ¬

_ = قال أحمد بن حنبل: متروك الحديث. الجرح والتعديل (7/ 83). وقال يحيى بن معين: ضعيف، ليس بثقة، وليس بشيء. المرجع السابق. وقال ابو رزعة وأبو حاتم: لا يشتغل به. المرجع السابق. وقال أبو حاتم أيضاً: فائد ذاهب الحديث، لا يكتب حديثه، وكان عند مسلم بن إبراهيم عنه، وكان لا يحدث عنه، وكنا لا نسأله عنه، وحديثه عن ابن أبي أوفى بواطيل لا تكاد ترى لها أصلاً كأنه لا يشبه حديث ابن أبي أوفى، ولو أن رجلاً حلف أن عامة حديثه كذب لم يحنث. المرجع السابق. وقال البخاري: منكر الحديث. التأريخ الكبير (7/ 132). وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين للنسائي (487). وفي التقريب: متروك، اتهموه. اهـ فالحديث ضعيف جداً. والحديث أخرجه ابن ماجه (416) حدثنا سفيان بن وكيع، ثنا عيسى بن يونس، عن فائد أبي الورقاء به. بلفظ: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه مرة. اهـ ولم يذكر التخليل.

قال البزار: لا نعلمه عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد، وبكار ليس به بأس، وعبد الرحمن بن بكار صالح الحديث (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) مختصر مسند البزار (164). (¬2) قال الهيثمي في مجع الزوائد (1/ 233): شيخ البزار محمد بن صالح بن العوام لم أجد من ترجمه، إلا أن يكون المذكور في تأريخ بغداد (5/ 361) باسم محمد بن صالح بن أبي العوام أبو جعفر الصائغ، وسكت عليه الخطيب، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ وعبد الرحمن بن بكار ذكره مسلم في الكنى والأسماء وكناه أبا بحر (425) لم أقف له على من بين لي حاله إلا ما قال فيه البزار ونقلناه عنه بعد ذكره للحديث. وبكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، ذكره البخاري في التأريخ الكبير (2/ 122) وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. الكامل لابن عدي (2/ 43). وقال يحيى في رواية إسحاق بن منصور عنه: صالح. تهذيب الكمال (4/ 202). وقال ابن عدي: ولبكار هذا غير ما ذكرت من الحديث، وقد حدث عنه من الثقات جماعة من البصريين كأبي عاصم وغيره، وأرجو أنه لا بأس به، وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم. الكامل لابن عدي (2/ 43). واستشهد به البخاري. تهذيب الكمال (4/ 202). وقال الذهبي: فيه لين. الكاشف (620). وذكره يعقوب بن سفيان في جملة من يرغب عن الرواية عنهم. وفي التقريب: صدوق يهم. وعبد العزيز بن أبي بكرة: روى عنه جماعة، ووثقه العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان: حاله لا يعرف، واستشهد به البخاري في الصحيح. وفي التقريب: صدوق، فالإسناد ضعيف. انظر معرفة الثقات (2/ 95)، ثقات ابن حبان (5/ 122)، تهذيب الكمال (18/ 166).

الدليل التاسع

الدليل التاسع: (853 - 82) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أحمد بن مصرف بن عمرو اليامي، حدثني أبي مصرف بن عمرو بن السرى بن مصرف بن كعب بن عمرو، عن أبيه، عن جده يبلغ به كعب بن عمرو قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح باطن لحيته وقفاه (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل العاشر: (854 - 83) ما رواه ابن عدي، من طريق أصرم بن غياث الخرساني، حدثنا مقاتل بن حيان، عن الحسن، عن جابر، قال: وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع، فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنه أنياب مشط (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). ¬

(¬1) المعجم الكبير للطبراني (19/ 181). (¬2) في إسناده مصرف بن عمرو بن كعب، عن أبيه، عن جده. قال عبد الحق في الأحكام الكبرى: لا أعرفه بهذا الإسناد، وكتبته حتى أسأل عنه إن شاء الله تعالى. بيان الوهم والإيهام (3/ 316). وقال ابن القطان: ومصرف بن عمرو بن السري، وأبوه وجده السري لا يعرفون. المرجع السابق (3/ 319). (¬3) الكامل (1/ 403). (¬4) قال البخاري: أصرم عن مقاتل بن حيان منكر الحديث. التاريخ الكبير (2/ 56)، الكامل (1/ 403). =

الدليل الحادي عشر

الدليل الحادي عشر: (855 - 84) ما رواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين، من طريق نافع بن هرمز، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتطهر، وبين يديه قدر المد، وإن زاد فقلَّ أن يزيد، وإن نقص فقل ما ينقص، فغسل يديه، وتمضمض واستنشق ثلاثاً ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وخلل لحيته، وغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه مرتين مرتين، وغسل رجليه حتى أنقاهما، فقلت: يا رسول الله هكذا التطهر؟ قال: هكذا أمرني ربي عز وجل (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

= وقال النسائي: متروك الحديث، يروي عن مقاتل بن حيان. الضعفاء للنسائي (67). وقال ابن عدي: له أحاديث عن مقاتل مناكير، كما قال البخاري والنسائي، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق، وليس له كبير حديث. الكامل (1/ 403). وقال الدارقطني: منكر الحديث. الضعفاء للدارقطني (117). وقال يحيى بن معين: ليس بثقة. سؤالات ابن الجنيد (129)، وانظر اللسان (1/ 581). والحديث أخرجه أحمد بن حنبل في العلل ومعرفة الرجال (2/ 264) عن أصرم به. وقال: ما أرى هذا الشيخ - يعني: أصرم بن غياث - كان بشيء. ضعفه جداً. وأخرجه الخطيب في تاريخه (7/ 33) من طريقين عن أصرم به. وقال الحافظ في التلخيص بعد أن عزاه لابن عدي وحده، ونقل قول النسائي عن أصرم بأنه متروك، قال: وفي إسناده انقطاع. (¬1) مجمع البحرين (413). (¬2) في إسناده نافع بن هرمز: ضعفه أحمد وجماعة، وكذبه ابن معين مرة. لسان الميزان (6/ 146). =

الدليل الثاني عشر

الدليل الثاني عشر: (856 - 85) ما رواه الطبراني في الكبير (¬1)، والعقيلي (¬2)، في الضعفاء من طريق خالد ابن إلياس، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ويخلل لحيته. [ضعيف جداً] (¬3). الدليل الثالث عشر: (857 - 86) ما رواه ابن عدي، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الغزي، ثنا محمد بن أبي السري، ثنا مبشر بن إسماعيل، عن تمام بن نجيح، عن الحسن، عن أبي الدرداء قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فخلل لحيته مرتين وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل (¬4). ¬

= وقال أبو حاتم: متروك، ذاهب الحديث. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بثقة. المغني في الضعفاء (2/ 693)، لسان الميزان (6/ 146). (¬1) المعجم الكبير (23/ 298) رقم 664. (¬2) الضعفاء (2/ 3)، وقال: لا يتابع عليه، وفي تخليل اللحية أحاديث لينة الأسانيد، وفيها ما هو أحسن مخرجاً من هذا. اهـ (¬3) في إسناده خالد بن إلياس: قال البخاري: ليس بشيء. التاريخ الكبير (3/ 140). وقال أحمد: متروك الحديث. الجرح والتعديل (3/ 321). وقال العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث. قيل: يكتب حديثه؟ قال: زحفاً. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه، فقال: ليس بقوي ضعيف، سمعت أبا نعيم يقول: لا يسوى حديثه وسكت وذكر بعدنا لا يسوى حديثه فلسين. المرجع السابق. (¬4) الكامل (2/ 84).

الدليل الرابع عشر

قال ابن عدي: وهذا الحديث إنما يعرف بتمام عن الحسن، وعامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه (¬1). الدليل الرابع عشر: (858 - 87) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن سعدان، ثنا زيد بن أخزم، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا حنظلة بن عبد الحميد، عن عبد الكريم، عن مجاهد، ¬

(¬1) في إسناده محمد بن أبي السري، وهو محمد بن المتوكل: قال فيه أبو حاتم: لين الحديث. الجرح والتعديل (8/ 105). وقال يحيى بن معين: ثقة. تهذيب الكمال (26/ 355). وقال ابن عدي: كثير الغلط. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من الحفاظ. الثقات (9/ 88). وقال مسلمة بن قاسم: كان كثير الوهم، وكان لا بأس به. تهذيب التهذيب (9/ 376). وقال ابن وضاح: كان كثير الحفظ، كثير الغلط. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق عارف، له أوهام كثيرة. وقال عنه الحافظ في التقريب: صدوق عارف، له أوهام كثيرة. وفي إسناده أيضاً تمام بن نجيح، جاء في ترجمته: قال أبو حاتم: منكر الحديث، ذاهب. الجرح والتعديل (2/ 445). وقال البخاري: فيه نظر، حديثه في الشاميين. التاريخ الكبير (2/ 157). وقال أبو زرعة: ليس بقوي، ضعيف. الجرح والتعديل (2/ 445). وقال يحيى بن معين ثقة. الكامل (2/ 83). وفيه علة ثالثة، قال ابن أبي حاتم كما في المراسيل (ص: 44): الحسن لم يسمع من أبي الدرداء. وقد ضعف الحافظ إسناده كما في التلخيص (1/ 148).

الدليل الخامس عشر

عن عبد الله بن عكبرة قال: التخلل سنة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الخامس عشر: (859 - 88) ما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، من طريق سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). الدليل السادس عشر: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (860 - 89) أخرجه الحاكم، قال: حدثنا علي بن خمشاذ العدل، ثنا ¬

(¬1) الأوسط (7639). (¬2) في إسناده عبد الكريم بن أبي أمية، وهو متروك. (¬3) (6/ 121). (¬4) في إسناده سعيد بن سنان، قال البخاري: منكر الحديث. التأريخ الكبير (3/ 477). وقال النسائي: متروك الحديث. الكامل (3/ 359). وقال يحيى بن معين: أحاديثه لا يعتبر بها، هي بواطيل. أحوال الرجال (301). وقال أيضاً: ليس بشيء. الجرح والتعديل (4/ 28). وقال أيضاً: ليس بثقة. الكامل (3/ 359). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث. الجرح والتعديل (4/ 28). وقال ابن أبي حاتم: سألت عنه أبا زرعة، فأومأ بيده أنه ضعيف. المرجع السابق. وقال صدقة بن خالد: كان ثقة مرضياً. المرجع السابق. قلت: قال دحيم، وهو من أعلم الناس بأهل الشام: ليس بشيء. المرجع السابق. كما أن جبير ليست له صحبة، فيكون الحديث مرسلاً. قال الحافظ في التلخيص (1/ 151): وفي الباب حديث مرسل، أخرجه سعيد بن منصور، عن الوليد، عن سعيد بن سنان به.

عبيد بن عبد الواحد، ثنا محمد بن وهب بن أبي كريمة، ثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله و - صلى الله عليه وسلم - توضأ وخلل لحيته بأصابعها من تحتها، وقال: بهذا أمرني ربي (¬1). [رجاله ثقات، إلا ابن أبي كريمة فإنه صدوق، إلا أن الحديث معلول] (¬2). ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (1/ 149). (¬2) دراسة الإسناد: - علي بن حمشاذ ثقة إمام، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/ 398)، وتذكرة الحفاظ (3/ 855). - عبيد الله بن عبد الواحد: ثقة صدوق. انظر السير (13/ 385)، وتاريخ بغداد (11/ 99). محمد بن وهب بن عمر بن أبي كريمة. ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه شيئاً. (8/ 114). وقال النسائي: لا بأس به. تهذيب التهذيب (9/ 446). وقال أيضاً: صالح. المرجع السابق. وقال مسلمة: صدوق. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (9/ 105). وفي التقريب: صدوق. محمد بن حرب: كاتب الزبيدي، وثقة النسائي ويحيى بن معين والعجلي وابن حبان. انظر الثقات (9/ 50)، معرفة الثقات (2/ 234)، تهذيب التهذيب (9/ 95) .. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. الجرح والتعديل (7/ 237). وقال أحمد: ليس به بأس، وقدمه على بقية. تهذيب التهذيب (9/ 95). وقد روى له الجماعة، وفي التقريب: ثقة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الزبيدي: من كبار أصحاب الزهري، ثقة ثبت. فهذا بيان رجال الإسناد، وقد تابع ابن أبي كريمة محمد بن خالد الصفار، قال الحافظ في التلخيص (1/ 149): قال الذهلي في الزهريات: حدثنا محمد بن خالد الصفار من أصله، وكان صدوقاً، حدثنا محمد بن حرب، ثنا الزبيدي، عن الزهري، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأدخل إصبعه تحت لحيته، وخلل بأصابعه، وقال: هكذا أمرني ربي. اهـ واختلف فيه على محمد بن حرب. فرواه ابن أبي كريمة ومحمد بن خالد الصفار، عن محمد بن حرب كما سبق بسند متصل. وخالفهما يزيد بن عبد ربه، كما نقله الحافظ في التلخيص (1/ 150) قال الذهلي: حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، أنه بلغه عن أنس. ويزيد بن عبد ربه أوثق من ابن أبي كريمة ومن محمد بن خالد الصفار، فقد ذكروا في ترجمته: قال أحمد: لا إله إلا الله، ما كان أثبته، ما كان فيهم مثله - يعني: أهل حمص - تهذيب التهذيب (11/ 301). ووثقه يحيى بن معين، وزاد: صاحب حديث. الجرح والتعديل (9/ 279). وقال أبو حاتم: كان صدوقاً أيقظ من حيوة بن شريح الحمصي. المرجع السابق. وقال أبو بكر بن أبي داود: حمصي ثقة، أوثق من روى عن بقية. وذكره ابن حبان في الثقات (9/ 274). كما وثقه العجلي في معرفة الثقات (2/ 364). فهل الرواية المنقطعة تعل الرواية المتصلة، أو تكون الرواية المتصلة تبين الواسطة في الرواية المنقطعة؟ الظاهر أنها تعلها، وقد ذهب إلى هذا ابن حجر رحمه الله، فبعد أن ذكر الراوية المتصلة، قال: رجاله ثقات إلا أنه معلول، ثم ذكر رواية يزيد بن عبد ربه. وذهب الحاكم إلى تصحيح الحديث، وحسنه ابن القيم في التهذيب (1/ 107). وقال ابن القطان: هذا إسناد صحيح. وحديث أنس له طرق كثيرة لا تخلو من مقال، منها: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الطريق الأول: عن يزيد الرقاشي، عن أنس. رواه ابن أبي شيبة (1/ 20) حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا الحسن بن صالح، عن موسى بن أبي عائشة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ يخلل لحيته. رجاله ثقات إلا يزيد الرقاشي فإنه رجل عابد ضعيف، جاء في ترجمته: قال شعبة: لأن أزني أحب إلي من أن أروي عن يزيد الرقاشي، فذكر ذلك لأحمد بن حنبل، فقال: لقد بلغنا أنه قال هذا في أبان، فكان أبو داود حاضراً في المجلس، فقال: قاله فيهما جميعاً. وقال ابن حبان: كان من خيار عباد الله، من البكائين في الخلوات، والقائمين بالحقائق بالسبرات، ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظها، واشتتغل بالعبادة وأسبابها، حتى كان يقلب كلام الحسن فيجعله عن أنس وغيره من الثقات، بطل الاحتجاج به فلا تحل الرواية عنه إلا على سبيل التعجب. المجروحين (3/ 98). وفي التقريب: زاهد ضعيف. وقد اختلف على موسى بن أبي عائشة: فرواه ابن أبي شيبة، عن الحسن بن صالح كما سبق. ورواه ابن عدي في الكامل (2/ 137) من طريق أبي الأشهب، عن موسى بن أبي عائشة، عن زيد الجزري (ابن أبي أنيسة) عن يزيد الرقاشي، عن أنس. فجعل بين موسى بن أبي عائشة وبين يزيد الرقاشي ابن أبي أنيسة. وأبو الأشهب: اسمه جعفر بن أبي الحارث الواسطي، ذكره الحافظ في التقريب تمييزاً، وقال: صدوق كثير الخطأ، ولا شك أن الحسن بن صالح أوثق منه. ورواه مروان بن محمد، حدثنا إبراهيم الفزاري، عن موسى بن أبي عائشة، عن أنس. رواه الحاكم في المستدرك (1/ 149، 150) إلا أن موسى بن أبي عائشة لم يسمع من أنس، قال ابن أبي حاتم في العلل (16، 84) سألت أبي عن حديث رواه مروان بن محمد الطاطري، عن أبي إسحاق الفزاري، عن موسى بن أبي عائشة، عن أنس. فقال أبي: هذا غير محفوظ، ثم رجح أبو حاتم طريق الحسن بن صالح، عن موسى بن أبي عائشة، عن رجل، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. وقال: هذا الصحيح، وكنا نظن أن ذلك غريب، ثم تبين لنا علته. اهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي ح (16) قال الخطأ من مروان بن محمد. اهـ فتبين لنا أن الحديث من طريق موسى بن أبي عائشة فيه اختلاف كثير، فقيل: 1 - عن موسى بن أبي عائشة، عن أنس. وهذا وهم. 2 - وقيل: موسى، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، كما في رواية ابن أبي شيبة. 3 - وقيل: موسى، عن رجل، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. 4 - وقيل: موسى بن أبي عائشة، عن زيد الجزري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. وكل هذه الطرق لا تخلو من ضعف، وقد رواه جماعة عن يزيد الرقاشي غير موسى بن أبي عائشة. فقد رواه ابن ماجه (431) حدثنا محمد بن عبد الله بن حفص بن هشام بن زيد بن أنس بن مالك، حدثنا يحيى بن كثير أبو النظر صاحب البصري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل لحيته، وفرج أصابعه مرتين. وهذا إسناد ضعيف، فيه يحيى بن كثير وشيخه ضعيفان، وضعفه البوصيري في الزوائد، فقال: هذا إسناد ضعيف لضعف يحيى بن كثير وشيخه. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 21) من طريق الهيثم بن جماز، عن يزيد بن أبان (الرقاشي) عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أتاني جبريل فقال: إذا توضأت فخلل لحيتك. وفي إسناده الهيثم بن جماز: قال أحمد: منكر الحديث، ترك حديثه. الجرح والتعديل (9/ 81). وقال يحيى بن معين: كان قاصاً بالبصرة ضعيفاً. المرجع السابق. وقال النسائي: متروك. لسان الميزان (6/ 204). وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ضعيف، زاد أبو حاتم: منكر الحديث. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: حديثه غير محفوظ (4/ 355). ورواه الرحيل بن معاوية كما عند الطبراني في الأوسط (1/ 317) ح 524. والرحيل ثقة، لكن يزيد الرقاشي ضعيف، كما سبق بيانه. وقال المزي في زياداته في تحفة الأشراف حين ذكر طريق الوليد بن زروان (1/ 424): تابعه موسى بن سروان، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، وسفيان الثوري، عن الفضل البصري، عن أنس. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الطريق الثاني: معاوية بن قرة، عن أنس. رواه ابن عدي في الكامل (3/ 119) من طريق سلام الطويل، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن أنس، قال: وضأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخلل لحيته، وقال: بهذا أو هكذا أمرني ربي عز وجل. قال ابن عدي: وهذا الحديث ليس البلاء فيه من زيد العمي، البلاء من الراوي عنه: سلام الطويل، ولعله أضعف منه. وسلام الطويل قال عنه الحافظ في التقريب: روى له ابن ماجه، وهو متروك. وزيد العمي متفق على ضعفه. فالحديث ضعيف جداً. الطريق الثالث: الوليد بن زوران، عن أنس. أخرجه أبو داود (145)، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/ 54)، والبغوي في شرح السنة (215) بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي عزو جل. وفي إسناده الوليد بن زروان، وقيل: زوران، ترجمه البخاري في التاريخ الكبير (8/ 144)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/ 4) ولم يذكرا فيه شيئاً. ووثقه الذهبي في الكاشف!! (6064). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 550). وقال الآجري عن أبي داود: لا أدري سمع من أنس أم لا؟ تهذيب التهذيب (11/ 117). وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث. وقال في التلخيص: مجهول الحال. فالإسناد ضعيف، وسواء كان شك أبو داود ثابتاً أم لا فهو ضعيف. الطريق الرابع: ثابت البناني عن أنس. أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 157) من طريق عمر بن ذؤيب، عن ثابت، عن أنس، قال: وضأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من وضوئه أدخل يده فخلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال العقيلي: عمر بن ذؤيب مجهول بالنقل، وحديثه غير محفوظ، وقد روى التخليل من غير هذا الوجه بإسناد صالح. وفي لسان الميزان (4/ 346): عمر بن ذؤيب لا يعرف. وتابعه حسان بن سياه، عن ثابت، عند أبي يعلى في مسنده (3487) ومن طريق أبي يعلى أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 370) حدثنا عمرو بن حصين، حدثنا حسان بن سياه به. وهذا الإسناد ضعيف جداً، عمرو بن الحصين تركه الدارقطني، وقال ابن عدي: مظلم الحديث. وكذبه الخطيب. وحسان بن سياه: ضعفه ابن عدي والدارقطني. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، يأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد لما ظهر من خطأ في روايته على ظهور الصلاح منه. انظر لسان الميزان (2/ 187). قال ابن عدي: عامة أحاديثه لا يتابعه غيره عليه، والضعف يتبين على روايته وحديثه. الكامل (2/ 371). وأخرجه الطبراني كما في مجمع البحرين (421) حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الضبي البصري، ثنا سليمان بن إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، ثنا عمر أبو حفص العبدي، عن ثابت، عن أنس به بنحوه. وشيخ الطبراني له ترجمة في الأنساب للسمعاني، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً (3/ 328). وسليمان بن إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس لم أقف عليه. وعمر أبو حفص العبدي قال البخاري: ليس بقوي. التأريخ الكبير (6/ 150). وقال يحيى بن معين: أبو حفص العبدي ليس حديثه بشيء. الجرح والتعديل (6/ 103). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، ليس بالقوي، هو على يدي عدل. المرجع السابق. وقال أحمد: تركنا حديثه وحرقناه. لسان الميزان (4/ 298). وقال علي: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال النسائي: متروك. المرجع السابق. وقال الدارقطني: ضعيف. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الذهبي: أبو حفص العبدي، عن ثابت، هو عمر بن حفص واه. المغني في الضعفاء (2/ 780)، وذكر مثل هذا الكلام في الميزان، وقال: واه بمرة. وهذا الكلام في أبي حفص العبدي الذي يروي عن ثابت، وهناك رجل آخر يروي عن قتادة يقال له أبو حفص العبدي لا بأس به. قال أحمد: ثقة لا أعلم إلا خيراً. الجرح والتعديل (6/ 98). وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. الجرح والتعديل (6/ 98). وقال يحيى بن معين: صالح. المرجع السابق. وقال عثمان بن سعيد ليحيى بن معين: فعمر بن إبراهيم في قتادة؟ قال: ثقة. المرجع السابق. فتفطن حتى لا يلتبس هذا بذاك. فالإسناد ضعيف من أجل الضبي حيث لم يوثق، وسليمان بن إسحاق لم أقف عليه، وأبو حفص العبدي مجروح. الطريق الخامس: الحسن البصري عن أنس. أخرجه البزار (270) والدارقطني (1/ 106) واللفظ للأخير من طريق معلى بن أسد، نا أيوب بن عبد الله أبو خالد القرشي، قال: رأيت الحسن بن أبي الحسن دعا بوضوء بكوز من ماء، فصب في تور فغسل يديه ثلاث مرات، ومضمض ثلاث مرات، واستنشق ثلاث مرات، وغسل وجهه ثلاث مرات، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ومسح رأسه، ومسح أذنيه، وخلل لحيته، وغسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: حدثني أنس بن مالك أن هذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال صاحب التعليق المغني (1/ 106) ليس في إسناد هذا الحديث مجروح. اهـ وفي إسناده أيوب بن عبد الله لم يرو عنه إلا معلى بن أسد، ولم يوثق، وقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وسكت عنه (2/ 251). الطريق السادس: محمد بن زياد، عن أنس. رواه ابن عدي في الكامل (7/ 115) من طريق هاشم بن سعيد الكوفي، عن محمد بن زياد، عن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل لحيته بأصابع كفيه، ويقول: بهذا أمرني ربي عز وجل. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال ابن عدي: وهاشم بن سعيد له من الحديث غير ما ذكرت، ومقدار ما يرويه لا يتابع عليه. وقال ابن معين: ليس بشيء. المغني في الضعفاء (2/ 706)، لسان الميزان (7/ 416). وقال حرب عن أحمد: ما أعرفه. الجرح والتعديل (9/ 104)، وتهذيب التهذيب (11/ 17). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 585). وفي التقريب: ضعيف. الطريق السابع: حميد الطويل، عن أنس. أخرجه الطبراني في الأوسط (452) من طريق إسحاق بن عبد الله، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد الطويل عن انس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلل لحيته. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن حميد إلا إسماعيل بن جعفر، تفرد به إسحاق بن عبد الله. وإسحاق بن عبد الله لم ينسب فلم يتبين لي من هو، وبقية رجال الإسناد ثقات. الطريق الثامن: مطر الوراق عن أنس. أخرجه الطبراني كما في مجمع البحرين (420) من طريق عتاب بن محمد بن شوذب، عن عيسى الأزرق، عن مطر الوراق، عن أنس بن مالك. وعتاب بن محمد بن شوذب ترجمه البخاري في التاريخ الكبير (7/ 56) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/ 13)، ولم يذكرا فيه شيئاً. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 295)، وقال: مستقيم الحديث. وعيسى الأرزق، روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 490)، وفي التقريب: مقبول: يعني: حيث توبع. ومطر الوراق، في التقريب: صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف. فالإسناد ضعيف. الطريق التاسع: عن رقبة بن مصقلة، عن أنس. رواه الطبراني كما في مجمع البحرين (419) حدثنا أحمد، ثنا محمد بن عمار الموصلي، =

دليل من قال: يكره تخليل اللحية

دليل من قال: يكره تخليل اللحية. قالوا: لم يثبت في تخليل اللحية حديث صحيح، والأحاديث الصحيحة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تذكر تخليل اللحية، كحديث عثمان في الصحيحين، وحديث عبد الله بن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، ¬

_ = ثنا عفيف بن سالم، عن محمد بن أبي حفص الأنصاري، عن رقبة بن مصقلة، عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حبذا المتخللون من أمتي. ورواه الشهاب في مسنده (1333) من طريق علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عمار به. وأخرجه أبو يعلى في معجم شيوخه (59) حدثنا محمد بن عمار به. وهذا إسناد منقطع، رقبة بن مصقلة لم يسمع من أنس، قال المزي والحافظ: روى عن أنس فيما قيل. فهما ساقا سماعه من أنس بصيغة التمريض. وجعله الحافظ في المرتبة السادسة كأنه لم يثبت له سماعاً من أنس. فالإسناد ضعيف. وفي إسناده محمد بن أبي حفص الأنصاري لم أقف عليه، وكذا لم يقف عليه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 235). الطريق العاشر: أبو خالد، عن أنس. رواه البيهقي (1/ 55) من طريق أبي حمزة السكري، عن إبراهيم الصائغ، عن أبي خالد، عن أنس، قال: وضأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخلل لحيته وعنفقته بالأصابع. وأبو خالد هذا لم ينسب حتى يتبين لي من هو، فإن كان الوالبي فقد قال فيه أبو حاتم: صالح الحديث. الجرح والتعديل (9/ 120). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 514). وفي التقريب مقبول، إلا أن المزي لم يذكر من شيوخه أنس بن مالك، ولا من الرواة عنه إبراهيم الصائغ، مع أنه روى عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وجابر بن سمرة وميمونة. والله أعلم. هذا ما وقفت عليه من طرق حديث أنس، وانظر لمراجعة بعض هذه الطرق إتحاف المهرة (803)، و (1752)، تحفة الأشراف (1649)، (1680).

دليل من قال: يجب التخليل

وحديث علي رضي الله عنه وغيرها من الأحاديث الصحيحة، وكون التخليل لا يأتي إلا في حديث ضعيف دليل على عدم ثبوت الحكم إذ لو كان التخليل مشروعاً لجاءت الأحاديث الصحيحة به، كما جاءت في تخليل الأصابع. قال مالك رحمه الله: «تخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله» (¬1). وقال أبو داود كما في مسائل الإمام أحمد: قلت لأحمد بن حنبل: تخليل اللحية؟ قال: يخللها، قد روي فيه أحاديث، ليس يثبت فيه حديث - يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي ليس يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخليل شيء (¬3). وقال مثله ابن أبي حاتم، عن أبيه (¬4). دليل من قال: يجب التخليل. لعلهم قاسوا ذلك على غسل الجنابة، بجامع أن كلاً منهما طهارة من حدث. والدليل على وجوب التخليل في غسل الجنابة (861 - 90) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، ¬

(¬1) التمهيد (20/ 121). (¬2) مسائل أبي داود (40). (¬3) حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (1/ 170). (¬4) المرجع السابق.

عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده. ولعلهم رأوا أن الواجب هو غسل البدن، وإذا طرأ على البدن شعر لم يمنع ذلك من وجوب غسل البدن، حتى يتعذر غسله، والشعر لا يمنع من وصول الماء إلى البدن. ويجاب على ذلك: بأن الطهارة الصغرى مبنية على التخفيف، ولذلك جاز فيها المسح على الرأس وعلى الخفين، وكانت على أعضاء مخصوصة بخلاف الطهارة الكبرى فإن طهارتها ليس فيها مسح، وتعم جميع البدن، والله أعلم. والراجح والله أعلم أن من خلل لحيته لا يقال عنه مبتدع، وليس التخليل بمثابة الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، ولا بمثابة تخليل الأصابع الذي صح فيه سنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحب إلي أن يترك التخليل، فإن كان لا بد فاعلاً فليكن نادراً ولا يداوم عليه لعدم ثبوت ما يدل على سنيته، والله أعلم.

المبحث الثاني: في صفة تخليل اللحية

المبحث الثاني: في صفة تخليل اللحية لم يرد في صفة تخليل اللحية حديث صحيح، والأحاديث الواردة في صفة التخليل ضعيفة، وقد تبين معنى التخليل لغة، وأن أصله: إدخال الشيء في خلال الشيء، وخلل لحيته: أدخل الماء بين شعرها، وأوصل الماء إلى بشرته بأصابعه (¬1). وأما الأحاديث التي جاء فيها صفة التخليل فقد سبق تخريجها وبيان ضعفها، منها: حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فادخله تحت حنكه، فخلل بها لحيته. وحديث ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ عرك بعض العراك، ثم شبك بأصابعه من تحتها. وحديث جابر يخلل لحيته بأصابعه كأنها أنياب مشط، وهو ضعيف جداً. وحديث أبي أيوب: مسح لحيته من تحتها بالماء. ومثله حديث كعب بن عمرو: مسح باطن لحيته. وكلها سبق تخريجها. هذا في ما يتعلق بصفة التخليل من خلال الآثار. وأما صفة التخليل عند الفقهاء فهي كالتالي: فقيل: كيفية التخلل تفريق شعرها من أسفل إلى فوق (¬2). ¬

(¬1) اللسان (1/ 213). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 117) البحر الرائق (1/ 22). وفي الفتاوى الهندية (1/ 7): وكيفيته: أن يدخل أصابعه فيها، ويخلل من الجانب الأسفل إلى فوق، وهو المنقول عن شمس الأئمة الكردي رحمه الله تعالى. كذا في المضمرات. اهـ =

وفي المنح: أن يدخل أصابع اليد في فروجها التي بين شعراتها من أسفل إلى فوق بحيث يكون كف اليد الخارج، وظهرها إلى المتوضئ (¬1). وقيل: صفة التخليل أن يأخذ كفا من ماء فيضعه من تحتها , أو من جانبيها بأصابعه مشبكة فيها، زاد بعضهم: ويعركها. وعليه أكثر الحنابلة (¬2). ¬

= وقال النووي في المجموع (1/ 410): قد ذكرنا أن التخليل سنة، ولم يذكر الجمهور كيفيته، وقال السرخسي: يخللها بأصابعه من أسفلها، قال: ولو أخذ للتخليل ماء آخر كان أحسن، ويستدل لما ذكره من الكيفية بحديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل بها لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي. قال النووي: رواه أبو داود، ولم يضعفه، وإسناده حسن أو صحيح. والله أعلم. اهـ ويظهر أن النووي اعتمد على سكوت أبي داود، وقد تكلمت على إسناده، وقد يسكت أبو داود على حديث، ولا يكون صالحاً، إما لظهور ضعف الحديث عند أهله، وإما لاختلاف النسخ، وإما لأنه تكلم على الراوي في موضع آخر، ولا يحب أن يكرر الكلام أو لغيره من الاعتبارات، المهم أن هناك أحاديث قد سكت عليها أبو داود وهي ظاهرة الضعف، والله أعلم. (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 117) واستشكله ابن عابدين بما رواه أبو داود، عن أنس كان - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أخذ كفا من ماء تحت حنكه، فخلل به لحيته, وقال: بهذا أمرني ربي. ذكره في البحر وغيره, والمتبادر منه إدخال اليد من أسفل، بحيث يكون كف اليد لداخل من جهة العنق، وظهرها إلى الخارج, ليمكن إدخال الماء المأخوذ في خلال الشعر, ولا يمكن ذلك على الكيفية المارة، فلا يبقى لأخذه فائدة, فليتأمل. وما في المنح عزاه إلى الكفاية. والذي رأيته في الكفاية هكذا, وكيفيته: أن يخلل بعد التثليث من حيث الأسفل إلى فوق. اهـ (¬2) الإنصاف (1/ 134)، وذكر ابن قدامة في المغني (1/ 149): سألت أحمد عن التخليل؟ فأراني من تحت لحيته، فخلل بالأصابع. وقال حنبل: من تحت ذقنه من أسفل الذقن يخلل جانبي لحيته جميعاً بالماء، ويمسح جانبيها وباطنها. وقال أبو الحارث: إن شاء خللها مع وجهه، وإن شاء إذا مسح رأسه. اهـ

وقيل: يخللها من ماء الوجه , ولا يفرد لذلك ماء، ويكون ذلك عند غسلهما. وإن شاء إذا مسح رأسه، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). وهل يخللها باليد اليمنى أو بكلا يديه؟ قولان للفقهاء (¬2). ¬

(¬1) المرجعان السابقان. (¬2) قال ابن عابدين في حاشيته (1/ 117): ثم اعلم أن هذا التخليل باليد اليمنى كما صرح به في الحلية, وهو ظاهر. وقال في الدرر: إنه يدخل أصابع يديه من خلال لحيته, وهو خلاف ما مر فتدبر.

المبحث الثالث: في تخليل الأصابع

المبحث الثالث: في تخليل الأصابع سبق لنا معنى التخليل في الفصل الذي قبل هذا، ومحل استحباب تخليل الأصابع إذا وصل الماء إلى ما بين الأصابع بدون تخليل، وإلا فيجب إيصال الماء إلى ما بين الأصابع وإن لم يتعين التخليل. قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: قال أصحابنا: من سنن الوضوء تخليل أصابع الرجلين في غسلهما. قال: وهذا إذا كان الماء يصل إليهما من غير تخليل، فلو كانت الأصابع ملتفة لا يصل إليها الماء إلا بتخليل فحينئذ يجب التخليل لا لذاته، لكن لأداء فرض الغسل (¬1). وقد اختلف العلماء في حكم تخليل الأصابع: فقيل: إن تخليل الأصابع مشروع، وهو في الرجلين آكد من اليدين، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختاره ابن رشد من المالكية (¬5). ¬

(¬1) انظر الفتاوى الهندية (1/ 7). (¬2) تبيين الحقائق (1/ 5)، مراقي الفلاح (ص: 29)، شرح فتح القدير (1/ 30)، الفتاوى الهندية (1/ 7). (¬3) المجموع (1/ 455)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 62)، مغني المحتاج (1/ 60)، تحفة المحتاج (1/ 235)، نهاية المحتاج (1/ 192). (¬4) شرح منتهى الإرادات (1/ 48)، كشاف القناع (1/ 102). (¬5) مقدمات ابن رشد (1/ 83).

دليل الجمهور

وقيل: تخليل الأصابع واجب في اليدين، سنة في الرجلين، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: التخليل واجب مطلقاً في اليدين والرجلين. وهو قول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: التخليل سنة أحياناً، ولا يداوم عليه، وهو اختيار ابن القيم (¬3). دليل الجمهور. (862 - 91) ما رواه أبو داود (¬4)، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، قالوا: ثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط ابن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً. [والحديث صحيح] (¬5). ¬

(¬1) المنتقى للباجي (1/ 37)، وقال ابن العربي في أحكام القرآن (2/ 75): قال ابن وهب: وهو واجب في اليدين مستحب في الرجلين, وبه قال أكثر العلماء. الخ كلامه رحمه الله. وانظر الخرشي (1/ 126). (¬2) أحكام القرآن لابن العربي (2/ 75)، الشرح الصغير (1/ 108). (¬3) قال ابن القيم في الزاد (1/ 189): وكذلك تخليل الأصابع لم يكن يحافظ عليه، ثم ساق حديث المستورد بن شداد وسيأتي الكلام عليه، وقال: وهذا إن ثبت فإنما كان يفعله أحياناً، ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه كعثمان وعلي وعبد الله بن زيد، والربيع وغيرهما. اهـ (¬4) سنن أبي داود (142). (¬5) سبق تخريجه انظر رقم (829) من الكتاب نفسه.

فقوله: «وخلل بين الأصابع» الأمر مطلق، فيشمل أصابع اليدين والرجلين. الدليل الثاني: حديث ابن عباس (863 - 92) رواه أحمد، قال: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالح مولى التوأمة، قال: سمعت ابن عباس يقول: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء من أمر الصلاة؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلل أصابع يديك ورجليك يعني: إسباغ الوضوء (¬1). [أرجو أن يكون حسناً] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 287). (¬2) عبد الرحمن بن أبي الزناد. قال ابن المديني: ما حدث بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون. وقال عنه الحافظ: صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً، اهـ والراوي عنه سليمان بن داود الهاشمي بغدادي، لكن قال علي ابن المديني: وقد نظرت فيما روى عنه سليمان بن داود الهاشمي فرأيتها مقاربة. وقد سبق لي ترجمته ترجمة وافية في كتاب أحكام المسح على الحائل (ح: 73) فانظره غير مأمور. وفي إسناده صالح مولى التوأمة، قال يحيى بن سعيد: لم يكن بثقة. تهذيب الكمال (13/ 101). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل لأبيه: قال بشر بن عمر: سألت مالكاً عن صالح مولى التوأمة، فقال: ليس بثقة. فقال أحمد: كان مالك قد أدركه وقد اختلط، وهو كبير، من سمع منه قديماً فذاك، وقد روى عنه أكابر أهل المدينة، وهو صالح الحديث ما أعلم به بأساً. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال يحيى بن معين: ثقة، خرف قبل أن يموت، فمن سمع منه قبل الاختلاط فهو ثبت. المرجع السابق. وحين قيل ليحيى بن معين: إن مالكاً ترك السماع منه، فقال: إن مالكاً أدركه بعد أن كبر وخرف. المرجع السابق. وقال الحافظ في التقريب: صدوق اختلظ بآخرة، لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج، وقد أخطأ من زعم أن البخاري أخرج له. اهـ قلت: سماع موسى بن عقبة قبل تغيره، انظر الكواكب النيرات (33)، فالإسناد يرجى أن يكون حسناً. والحديث أخرجه الترمذي (39) وابن ماجه (447) والحاكم (1/ 382) من طريق سعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد به. وفي علل الترمذي الكبير (ص: 24): سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن، وموسى بن عقبة سمع من صالح مولى التوأمة قديماً، وكان أحمد يقول من سمع من صالح قديماً فسماعه حسن، ومن سمع منه أخيراً فكأنه يضعف سماعه. اهـ وانظر مصباح الزجاجة (1/ 65). ورواه ابن أبي شيبة (1/ 19) حدثنا هشيم، عن عمران بن أبي عطاء، قال: رأيت ابن عباس توضأ، فغسل قدميه حتى تتبع بين أصابعه فغسلهن. وهذا موقوف على ابن عباس، وفي إسناده عمران بن أبي عطاء أبو حمزة القصاب، جاء في ترجمته: قال أحمد: ليس به بأس صالح الحديث. الجرح والتعديل (6/ 302). وقال يحيى بن معين: يقول أبو حمزة: عمران بن أبى عطاء ثقة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: بصري لين. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/ 120). وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به. الضعفاء الكبير (3/ 299). وفي التقريب: صدوق له أوهام.

الدليل الثالث: حديث المستورد بن شداد. (864 - 93) رواه أحمد، قال: ثنا موسى بن داود قال: أنا بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره (¬1). [إسناده ضعيف تفرد به ابن لهيعة] (¬2). ¬

(¬1) المسند (4/ 229). (¬2) وابن لهيعة ضعيف مطلقاً، قبل احتراق كتبه وبعدها، قد رأى بعضهم تحسين حديثه إذا كان من طريق من روى عنه قبل أن تحترق كتبه. والراجح أنه ضعيف مطلقاً، لكن رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها كما قال الحافظ، وهذه العبارة لا تقتضي تحسين حديثه، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه؟ فقال: آخره وأوله سواء إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه. الجرح والتعديل (5/ 145). فهذا نص على أنه ضعيف مطلقاً، وإن كان قد يتفاوت الضعف فرواية ابن المبارك أخف ضعفاً. وقال عمرو بن علي: عبد الله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل ابن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرى أصح من الذين كتبوا بعد ما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث. المرجع السابق. وهذا النص ليس فيه أن ما يرويه العبادلة صحيح مطلقاً، إنما كلمة أصح لا تعني الصحة كما هو معلوم، ولذلك قال: وهو ضعيف الحديث، هذا حاله قبل احتراق كتبه وبعدها. قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي إذا كان من يروى عن ابن لهيعة مثل بن المبارك وابن وهب يحتج به؟ قال: لا. الجرح والتعديل (5/ 145). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن حبان: قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجوداً، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيراً، فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، عن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فالتزقت تلك الموضوعات به. قال عبد الرحمن بن مهدي: لا أحمل عن ابن لهيعة قليلاً ولا كثيراً كتب إلي ابن لهيعة كتاباً فيه: حدثنا عمرو بن شعيب، قال عبد الرحمن: فقرأته على ابن المبارك، فأخرجه إلي ابن المبارك من كتابه، عن ابن لهيعة قال حدثني: إسحاق بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب. ثم قال ابن حبان: وأما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكير كثيرة، وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قراءة، سواء كان ذلك من حديثه أو غير حديثه، فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه لما فيه مما ليس من حديثه. المجروحين (2/ 11). وهذا عين التحرير أن رواية المتقدمين عنه فيها ما يدلسه عن الضعفاء، ورواية المتأخرين عنه فيها ما ليس من حديثه. وجاء في ضعفاء العقيلي (2/ 294): " حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا محمد بن علي، قال سمعت: أبا عبد الله، وذكر ابن لهيعة، وقال: كان كتب عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وكان بعد يحدث بها عن عمرو بن شعيب نفسه. وهذا صريح بأن ابن لهيعة يدلس عن الضعفاء. والحديث أخرجه أحمد (4/ 229) عن حسن بن موسى وموسى بن داود ويحيى بن إسحاق. وأخرجه أبو داود (148)، والترمذي (40) والبغوي (214) من طريق قتيبة ابن سعيد. وأخرجه ابن ماجه (446) من طريق محمد بن حمير. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 36) والبيهقي (1/ 76) من طريق عبد الله ابن وهب. وابن قانع (3/ 109)، والطبراني في الكبير (20/ 306) ح 728 من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ. والطبراني في الكبير (20/ 728) من طريق أسد بن موسى، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والبزار في مسنده (3464) من طريق بشر بن عمر. كلهم عن عبد الله بن لهيعة به. وقد تابع عبد الله بن لهيعة الليث بن سعد وعمرو بن الحارث أخرجه ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل (1/ 31) ومن طريقه أخرجه البيهقي (1/ 76، 77) نا أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب قال: سمعت عمي يقول: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبى عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع. اهـ تفرد بهذا الإسناد أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال فيه ابن عدي: رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مجمعين على ضعفه، ومن كتب عنه من الغرباء غير أهل بلده لا يمتنعون من الرواية عنه، وحدثوا عنه منهم أبو زرعة الرازي وأبو حاتم فمن دونهما، ثم قال: وكل ما أنكروه عليه فمحتمل وإن لم يكن يرويه عن عمه غيره ولعله خصه به. الكامل (1/ 184). وقول ابن عدي: إن أبا زرعة روى عنه لعله وهم، فإن أبا زرعة رحمه الله قال: أدركته ولم أكتب عنه كما في الجرح والتعديل (2/ 59). وقال الحافظ ابن حجر: صدوق تغير حفظه بآخرة. وقد شكك الحافظ ابن حجر في إتحاف المهرة بصحة رواية ابن وهب هذه، ولو صحت لثبت حديث المستورد بن شداد، قال الحافظ في الإتحاف (13/ 177): أظنه غلطاً من أحمد بن عبد الرحمن، فقد حدث به عن محمد بن الربيع الجيزي في كتاب الصحابة الذين نزلوا مصر، فلم يذكر غير ابن لهيعة، وأخرجه من طرق عن ابن لهيعة، وعن يونس بن عبد الأعلى ومحمد ابن عبد الله بن عبد الحكم، كلاهما عن ابن وهب، عن ابن لهيعة وحده، نعم رواية ابن وهب له مما يقويه؛ لأنه سمع من ابن لهيعة قديماً. اهـ وقد بينت لك أن ابن لهيعة ضعيف في كل أمره هذا من جهة، ومن جهة أخرى لو تقوى حال أحمد بن عبد الرحمن بن وهب لكان تفرده عن سائر من روى الحديث يعتبر شذوذاً، كيف وقد تكلم فيه في حفظه. والله أعلم. انظر أطراف المسند (5/ 274)، إتحاف المهرة (16550)، تحفة الأشراف (11256).

الدليل الرابع: (865 - 94) ما رواه الدارقطني من طريق مصعب بن المقدام وعبد الله ابن نمير، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: رأيت عثمان بن عفان يتوضأ فغسل يديه ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ومضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، ثم غسل قدميه ثلاثاً، ثم خلل أصابعه وخلل لحيته ثلاثاً حين غسل وجهه، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كالذي رأيتموني فعلت (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 86). (¬2) مداره على إسرئيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان مرفوعاً، وقد تكلمت على عامر، وذكرت طرق هذا الحديث في تخليل اللحية، وقد روي مطولاً ومختصراً، وممن رواه عن إسرائيل بذكر تخليل الأصابع جماعة منهم: - عبد الرزاق في مصنفه (125). إلا أنه قد اختلف عليه في ذكر الأصابع، فرواية الترمذي (31)، وابن ماجه (430)، والحاكم (1/ 148، 149) من طريق عبد الرزاق لم يذكر فيها تخليل الأصابع. - وابن مهدي كما في المنتقى لابن الجارود (72)، وابن خزيمة في صحيحه (152). - وخلف بن الوليد كما في صحيح ابن خزيمة (151). - وأبو عامر كما في صحيح ابن خزيمة أيضاً (167). - وعبد الله بن نمير ومصعب بن المقدام كما في سنن الدارقطني، وسقته في المتن. وقد اختلف على عبد الله بن نمير في ذكر تخليل الأصابع، فقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف وابن حبان (1078) من طريق عبد الله بن نمير ولم يذكر تخليل الأصابع. - وأسد بن موسى كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 32). ورواه غيرهم بدون ذكر تخليل الأصابع، وقد سبق تخريج الحديث في مسألة تخليل اللحية، فانظره غير مأمور، والله أعلم.

أدلة القائلين بوجوب التخليل

أدلة القائلين بوجوب التخليل: الدليل الأول: (866 - 95) قال الحافظ في التلخيص (¬1): روى زيد بن أبي الزرقاء، عن الثوري، عن أبي مسكين، واسمه: حر بن مسكين، عن هزيل بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: لينهكن أحدكم أصابعه قبل أن تنهكه النار. [المحفوظ وقفه] (¬2). ويجاب عنه: بأن الأثر محمول على وجوب غسل ما بين الأصابع حتى لا يكون هناك موضع لم يصبه الماء جمعاً بين الأدلة، والله أعلم. ¬

(¬1) تلخيص الحبير (1/ 94). (¬2) اختلف على الثوري فيه: فرواه زيد بن أبي الزرقاء، عن الثوري، عن أبي مسكين، عن هزيل بن شرحبيل، عن ابن مسعود مرفوعاً. وخالفه عبد الرزاق كما في مصنفه (68) فرواه عن الثوري به موقوفاً، وهو الصواب؛ لأن الحديث في مصنف الثوري موقوف أيضاً كما ذكره الحافظ في التلخيص، ورواه أبو الأحوص أيضاً عن أبي مسكين به موقوفاً، أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 19). ورواه ابن أبي شيبة (19) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن طلحة، عن عبد الله، قال: خللوا بين أصابعكم بالماء قبل أن تحشوها النار. ورجاله ثقات.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (867 - 96) ما رواه الدارقطني من طريق عمر بن قيس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ويخلل بين أصابعه، ويدلك عقبيه، ويقول: خللوا بين أصابعكم لا يخلل الله تعالى بينها بالنار (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: (868 - 97) استدلوا بما تقدم من حديث لقيط بن صبرة قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً. [والحديث صحيح] (¬3). فقوله: «خلل» أمر، والأصل في الأمر الوجوب. قال الشوكاني في النيل: والأحاديث قد صرحت بوجوب التخليل، وثبتت من قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، ولا فرق بين إمكان وصول الماء بدون تخليل، وعدمه، ولا بين أصابع اليدين والرجلين، فالتقيد بأصابع الرجلين، أو بعدم إمكان وصول الماء لا دليل عليه. اهـ والقول بالوجوب فيه نظر؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما ذكر في القرآن الغسل، وحقيقته: جريان الماء على العضو، والتخليل زيادة عليه، فهو داخل في ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 95). (¬2) فيه عمر بن قيس، قال الحافظ في التلخيص (1/ 94): منكر الحديث. وفي التقريب: متروك. اهـ وانظر إتحاف المهرة (22079). (¬3) سبق تخريجه انظر رقم (829) من الكتاب نفسه.

دليل التفريق بين أصابع اليدين والرجلين

الكمال، والأحاديث التي وصفت وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرهما كما في حديث عثمان وعبد الله بن زيد وابن عباس وغيرها لم يرد فيها ذكر التخليل، مع أن الصحابة في مقام البيان والتعليم، فلو كان واجباً لما أهملوا ذكره، والله أعلم. دليل التفريق بين أصابع اليدين والرجلين. قال الخرشي: وإنما وجب تخليل أصابع اليدين دون أصابع الرجلين لعدم شدة اتصال ما بينهما، بخلاف أصابع الرجلين، فأشبه ما بينهما الباطن لشدة اتصال ما بينهما. اهـ وذكر ابن العربي تعليلاً آخر، فقال: والحق أنه واجب في اليدين على القول بالدلك , غير واجب في الرجلين , لأن تخليلها بالماء يقرح باطنها , وقد شاهدنا ذلك , وما علينا في الدين من حرج في أقل من ذلك , فكيف في تخليل تتقرح به الأقدام؟ (¬1). قلت: لا فرق بينهما في وجوب جريان الماء بين الأصابع، فالتخليل زائد على الغسل، فيكون التخليل سنة فيهما، وأما كون بعض الأدلة قد تذكر أصابع الرجلين فقط كما في حديث المستورد بن شداد، فهو إن صح ذكر لفرد من أفراد العام أو المطلق، لا يقتضي تخصيص العام أو تقييد المطلق، وقد جاء في حديث ابن عباس النص على تخليل أصابع اليدين والرجلين، وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى، وحديث لقيط بن صبرة: خلل بين الأصابع، وهو مطلق يشمل أصابع اليدين والرجلين، والله أعلم. ¬

(¬1) أحكام القرآن لابن العربي (2/ 75).

المبحث الرابع: في صفة تخليل الأصابع

المبحث الرابع: في صفة تخليل الأصابع اختلفوا في صفة التخليل للأصابع، فقيل: في اليدين بالتشبيك، وفي الرجلين يخلل بخنصر يده اليسرى بادئاً بخنصر رجله اليمنى من أسفل حتى يصل إلى إبهامها، ثم يبدأ بإبهام الرجل اليسرى خاتماً بخنصرها. هذه صفة التخليل عند الجمهور (¬1). وقيل: بل يخلل بخنصر يده اليمنى، اختاره القاضي أبو الطيب من الشافعية (¬2). وقيل: يخلل بكل أصابعه إلا الإبهامين؛ لما فيهما من العسر (¬3). وقيل: لا دليل على تعيين اليد اليمنى أو اليسرى للتخليل، فلا حجر على المتوضئ في استعمال اليمنى أو اليسرى. وهو اختيار إمام الحرمين (¬4). وهذه الأقوال قد يوجد لبعضها أدلة من عمومات ونحوها، فالبداءة باليمنى قد يستدل له بحديث عائشة رضي الله عنها، قال: ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (1/ 30)، البحر الرائق (1/ 22)، الفتاوى الهندية (1/ 7)، وفي مذهب المالكية انظر حاشية العدوي (1/ 197)، وفي مذهب الحنابلة انظر: المغني (1/ 76)، الإنصاف (1/ 134)، شرح منتهى الإرادات (1/ 48)، كشاف القناع (1/ 102). (¬2) المجموع (1/ 455). (¬3) المرجع السابق. (¬4) المرجع السابق.

كان يعجبه التيامن ما استطاع في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. وكون التخليل بالخنصر قد يستدل له بحديث المستورد بن شداد: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره. وهو حديث ضعيف، وسبق تخريجه (¬1). وأما كونه بخنصر اليد اليسرى فلم يثبت فيه عندي سنة، وكلام إمام الحرمين قوي، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر تخريجه برقم (864).

الفصل السادس: في استحباب تحريك الخاتم الواسع

الفصل السادس: في استحباب تحريك الخاتم الواسع إذا كان على المتوضئ خاتم، فهل يجب تحريكه أو يعفى عنه؟. فقيل: إن تحقق وصول الماء إلى ما تحته استحب تحريكه، وصار ذلك بمنزلة التخليل، وإن لم يصل الماء إلى ما تحته إلا بخلعه أو تحريكه وجب ذلك. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يجب عليه تحريك خاتمه. وهو منسوب إلى مالك رحمه الله (¬4). ¬

(¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 22): ولو كان في أصبعه خاتم فإن كان واسعاً فلا حاجة إلى التحريك , وإن كان ضيقاً فلا بد من التحريك ليصل الماء إلى ما تحته. اهـ وانظر تبيين الحقائق (1/ 13)، شرح فتح القدير (1/ 57)، البحر الرائق (1/ 49)، حاشية ابن عابدين (1/ 154). (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 427): قال أصحابنا: إذا كان في أصبعه خاتم، فلم يصل الماء إلى ما تحته وجب إيصال الماء إلى ما تحته بتحريكه أو خلعه، وإن تحقق وصوله استحب تحريكه. اهـ (¬3) قال ابن قدامة في المغني (1/ 153) قيل لأحمد: من توضأ يحرك خاتمه؟ قال: إن كان ضيقاً لا بد أن يحركه, وإن كان واسعاً يدخل فيه الماء أجزأه. قال ابن قدامة: وإذا شك في وصول الماء إلى ما تحته وجب تحريكه; ليتيقن وصول الماء إليه; لأن الأصل عدم وصوله. اهـ (¬4) انظر الفواكه الدواني (1/ 49). وقال الباجي في المنتقى (1/ 36): فإن كان في يده خاتم فهل عليه تحريكه أم لا؟ قال مالك في العتبية: ليس عليه تحريك الخاتم في الوضوء. وقال ابن المواز: ولا في الغسل. وقال ابن حبيب: إن كان ضيقا فعليه تحريكه وليس عليه ذلك إن كان واسعاً. =

دليل الجمهور على وجوب نزع الخاتم الضيق

وقيل: يجب عليه تحريك الخاتم مطلقاً، ضيقاً كان واسعاً، اختاره بعض المالكية (¬1). دليل الجمهور على وجوب نزع الخاتم الضيق. الدليل الأول: فرض اليد غسلها من رؤوس الأصابع حتى نهاية المرفقين، وإذا بقي جزء من الأصبع لم يغسل، لم يقم بفرض الوضوء في اليد، وإذا كان الشارع توعد على ترك شيء من العقب لم يمسه الماء، فقال في الحديث المتفق على صحته: ويل للأعقاب من النار، فهذا مثله. الدليل الثاني: (869 - 98) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثنا معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، حدثني أبي، عن عبيد الله بن أبي رافع، ¬

= وقال الشيخ أبو إسحاق: عليه تحريك الخاتم ضيقا كان أو غير ضيق. ويحتمل ما قاله مالك تعليلاً من أحدهما: أن الخاتم لما كان ملبوسا معتاداً يستدام لبسه من غير نزع في الغالب، لم يجب إيصال الماء إلى ما تحته بالوضوء كالخفين. والثاني: أن الماء برقته مع دقة الخاتم يصل إلى ما تحته من البشرة، فلا يحتاج إلى تحريكه، فعلى هذا لا يخالف ما قاله ابن حبيب. وقد قال محمد بن دينار فيمن يلصق بذراعيه قدر الخيط من العجين أو غيره فلا يصل الماء إلى ما تحته، فيصلي بذلك: فلا شيء عليه. قال ابن القاسم: عليه الإعادة. اهـ نقلاً من المنتقى. (¬1) المنتقى للباجي (1/ 36).

عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ حرك خاتمه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (449)، ورواه الدارقطني (1/ 83، 94) من طريق أبي قلابة وعلي ابن سهل بن المغيرة فرقهما، عن معمر بن محمد به. (¬2) في إسناده عبد الملك بن محمد الرقاشي، جاء في ترجمته: قال أبو داود: صدوق أمين مأمون. طبقات الحفاظ (583). وقال الدارقطني: صدوق كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، كان يحدث من حفظه فكثرت الأوهام منه. انظر تاريخ بغداد (10/ 425). وسكت عليه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 369). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يحفظ أكثر حديثه. الثقات (8/ 391). وقال الذهبي: صدوق يخطئ. الكاشف (3478). ولعل كلام الدارقطني بعد تغيره، قال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ، تغير حفظه لما سكن بغداد. قلت: رواية ابن ماجه عنه قبل تغيره، انظر الكواكب النيرات (ص:309)، ثم إنه لم ينفرد به، وإنما علته: معمر بن محمد بن عبيد الله، جاء في ترجمته: قال البخاري: منكر الحديث. الكامل (6/ 450). وقال ابن عدي: مقدار ما يرويه لا يتابع عليه. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين: ما كان ثقة، ولا مأمون. تهذيب التهذيب (10/ 224). وقال مرة: ليس هذا بشيء، ولا أبوه بشيء. الجرح والتعديل (8/ 373). وذكره العقيلي في الضعفاء (4/ 261) وقال: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به. وذكره ابن حبان في المجروحين. وفي التقريب: منكر الحديث. وفي إسناده أيضاً: محمد بن عبيد الله بن أبي رافع. قال البخاري: منكر الحديث. التأريخ الكبير (1/ 171). وقال ابن معين: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً، ذاهب. تهذيب التهذيب =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: قالوا: غسل الأصابع في الوضوء ثابت بالإجماع فلا يسقط غسلها إلا بمثله من نص أو إجماع، ولا يوجد نص ولا إجماع على سقوط غسل ما تحت الخاتم. دليل من قال: لا يجب عليه تحريكه ضيقاً كان أو واسعاً: قالوا: الخاتم يستدام لبسه، ويشق نزعه، ومقدر ما تحته يسير، فيعفى عنه كما عفي عن خلع العمامة، وشرع المسح عليها، وكما عفي عن نزع الخفين، وشرع المسح عليهما بشروطه، وكما عفي عن غسل ما تحت الشعر الكثيف. وأجيب: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نزع يده من كمه حين ضاق كمه، فغسل يده ولم يمسح عليها، فلا يمسح إلا ما دل الدليل على مسحه، فهو غير مقيس، ثم إن القدم سقط غسله إلى بدل، وهو مسح الخف، والخاتم أسقطتم غسله إلى غير بدل، فأين الدليل على إسقاط غسله، ولم يقل أحد بمسح ظاهر الخاتم. ¬

_ = (9/ 286). وقال البرقاني عن الدارقطني: متروك، له معضلات. المرجع السابق. وقال ابن عدي: هو في عداد شيعة الكوفة، ويروي من الفضائل أشياء لا يتابع عليها. الكامل (6/ 113). وفي التقريب: ضعيف. فالحديث ضعيف. انظر لمراجعة طرق الحديث: تحفة الأشراف (12023)، إتحاف المهرة (17697).

الراجح من هذه الأقوال

الراجح من هذه الأقوال: القول بسقوط غسل ما تحت الخاتم فيه قوة، إلا أن القول بوجوب غسل ما تحته أقوى وأظهر من حيث الأدلة، وإذا كان الخاتم ضيقاً فيمكن للإنسان أن يقوم بتوسيع الخاتم حتى يسري الماء من تحته بلا كلفة، ولا يخاطر الإنسان في شرط الصلاة التي هي من أعظم أركان الإسلام العملية على الإطلاق.

مبحث: في ماء الأذنين

مبحث: في ماء الأذنين اختلف العلماء في ماء الأذنين، فقيل: السنة أن تمسح الأذنان بماء الرأس. وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: بل يستحب أخذ ماء جديد لهما، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ولو مسحهما بماء الرأس أجزأ عندهم، لكن الخلاف في تحصيل السنة. وقيل: الأذنان من الوجه، فيغسلان معه (¬5). وقيل: ما أقبل منهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس (¬6). دليل من قال: إن الأذنين من الرأس فيمسحان بماء الرأس. الدليل الأول: (870 - 99) ما رواه النسائي من طريق ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 5)، المبسوط (1/ 10)، حاشية ابن عابدين (1/ 21)، البحر الرائق (1/ 9)، اللباب شرح الكتاب (1/ 1). (¬2) المدونة (1/ 19)، التمهيد (3/ 209)، مواهب الجليل (1/ 112)، (¬3) روضة الطالبين (1/ 4)، (¬4) المغني (1/ 4)، المبدع شرح المقنع (1/ 4). (¬5) هذا قول الزهري، انظر التمهيد لابن عبد البر (3/ 209)، والمجموع (1/ 443)، والبحر المحيط تفسير سورة المائدة (ص: 4). (¬6) انظر المراجع السابقة.

عن ابن عباس قال توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغرف غرفة فمضمض واستنشق ثم غرف غرفة فغسل وجهه ثم غرف غرفة فغسل يده اليمنى ثم غرف غرفة فغسل يده اليسرى ثم مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالسباحتين وظاهرهما بإبهاميه ثم غرف غرفة فغسل رجله اليمنى ثم غرف غرفة فغسل رجله اليسرى (¬1). [رجاله ثقات إلا ابن عجلان فإنه صدوق، وأكثر الرواة على عدم ذكر مسح الأذنين] (¬2). ¬

(¬1) سنن النسائي (102). (¬2) الحديث مداره على زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس. ويرويه عن زيد بن أسلم عشرة من الرواة بل يزيدون، وبعضهم يرويه مختصراً، وبعضهم يرويه مطولاً، فقد وقفت على ثلاثة رواة يروون الحديث بذكر مسح الأذنين، ورواه جماعة مطولاً ومختصراً، ولم يذكروا مسح الأذنين، أشهرهم سفيان الثوري، وسليمان بن بلال، ومعمر بن راشد، وإليك بيان طرق كل رواية، ومن خرجها. ذكر الرواة الذين ذكروا مسح الأذنين: الأول: ابن عجلان كما في إسناد الباب: عند ابن أبي شيبة (1/ 17) رقم 64، وأبي يعلى (2486)، والنسائي (102)، وابن ماجه (439)، وابن خزيمة (148)، وابن حبان (1078، 1086)، والبيهقي (1/ 55، 73) وغيرهم. الثاني: هشام بن سعد. رواه أبو داود (137) والحاكم (1/ 147)، والبيهقي في السنن (1/ 73) وفي المعرفة (1/ 222). الثالث: عبد العزيز بن محمد الدراوردي. كما في سنن النسائي (101)، وابن ماجه (403)، والدارمي (697)، ومسند أبي يعلى (2670، 2672)، والطحاوي (1/ 32) والبيهقي (1/ 50)، وابن حبان (1076). =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (871 - 100) ما رواه أحمد من طريق عباد بن منصور، عن عكرمة بن خالد المخزومي عن سعيد بن جبير، ¬

_ = إلا أن ابن ماجه والدارمي وابن حبان والبيهقي اختصروا لفظه، ولم يذكروا مسح الأذنين. وأما من رواه عن زيد بن أسلم ولم يذكر الأذنين، منهم: الأول: سفيان الثوري، كما عند البخاري (157) وأبو عبيد في كتابه الطهور (103)، وأبو داود (138) والنسائي (80)، والترمذي (42) وابن ماجه (411)، والطحاوي (1/ 29)، وابن حبان (1195) والدارمي (696، 711) والبغوي في شرح السنة (226). الثاني: سليمان بن بلال. كما في مسند أحمد (1/ 286)، والبخاري (140)، والبيهقي (1/ 72). الثالث: معمر كما في مصنف عبد الرزاق (126)، وأحمد (1/ 336)، والبيهقي (1/ 80). الرابع: داود بن قيس، كما عند عبد الرزاق (127)، وأحمد (1/ 336)، والبيهقي (1/ 80). الخامس: ورقاء بن عمر كما عند البيهقي (1/ 67،73). بسند حسن، رجاله كلهم ثقات إلا ورقاء بن عمر، فإنه صدوق. وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح. السادس: محمد بن جعفر بن أبي كثير كما عند البيهقي (1/ 73). السابع: أبو بكر بن محمد كما عند عبد الرزاق (129). فلا تطمئن النفس إلا أن ذكر مسح الأذنيين محفوظاً في الحديث، والله أعلم. وحديثنا هذا فيه زيادات كثيرة لم أتعرض لها لأن الكلام على ذكر مسح الأذنين، وتعرضت لبعضها في كتابي أحكام المسح على الحائل، في معرض الكلام على المسح على النعل؛ لأن في بعض ألفاظها ذكر المسح على النعل، وفي بعضها الرش، فإن رأيت أنك بحاجة إلى الاطلاع على المزيد عن متن هذا الحديث فارجع إليه غير مأمور. والله الموفق. وانظر لمراجعة طرق الحديث: أطرف المسند (3/ 177، 178)، إتحاف المهرة (8224، 8226، 8227) تحفة الأشراف (5976، 5978).

عن ابن عباس مرفوعاً في حديث طويل في مبيته عند خالته ميمونة وصلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: «ومسح برأسه وأذنيه مرة واحدة» (¬1). [إسناده ضعيف، والحديث في الصحيحين، وفيه ذكر الوضوء، إلا أنه لم يُفَصَّل وضوؤه] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 369، 370). (¬2) في إسناده عباد بن منصور، جاء في ترجمته: جاء في الجرح والتعديل: روى عن القاسم بن محمد وعطاء بن أبى رباح والحسن وعكرمة وأيوب السختياني وفى روايته عن عكرمة وأيوب ضعف. (6/ 86). وقال الدوري وأبو بكر بن أبي خيثمة: عن يحيى بن معين: عباد بن منصور ليس بشيء ضعيف. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: كان ضعيف الحديث يكتب حديثه ونرى أنه أخذ هذه الأحاديث عن ابن أبى يحيى عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس. المرجع السابق. وسئل أبو زرعة عن عباد بن منصور فقال: بصرى لين. المرجع السابق. [تخريج الحديث]. والحديث أخرجه أبو داود (133) من طريق يزيد بن هارون. وأخرجه ابن خزيمة (1094) من طريق النضر بن شميل. ورواه الطبراني (12504) من طريق أبي بكر الحنفي، ثلاثتهم عن عباد به. وقد رواه عبد الرزاق (3868)، ومن طريقه أحمد (1/ 366)، وعبد بن حميد (692)، وأبو داود (1365)، والنسائي في الكبرى (1425)، والطبراني (11272)، والبيهقي (3/ 8) من طريق ابن طاووس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس، ولم يذكر ما ذكره عباد. كما أنه لم يذكر سعيد بن جبير بين عكرمة وابن عباس. كما أن الحديث من طريق سعيد جبير في البخاري، (117، 697، 699) وليس فيه ما ذكره عباد بن منصور. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (872 - 101) ما رواه عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة، قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، ومضمض واستنشق واستنثر، وغسل وجهه ثلاثاً، قال: وحسبته قال: وذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً، وخلل أصابعه، وخلل لحيته حين غسل وجهه قبل أن يغسل قدميه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= ورواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة عن ابن عباس، ولم يذكروا مسح الأذنين، والله أعلم. انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (3/ 94)، تحفة الأشراف (5579)، إتحاف المهرة (7440). (¬1) المصنف (125). (¬2) سبق تخريجه، انظر حديث (845) وفي إسناده عامر بن شقيق فيه مقال وسبق بيانه في مسألة تخليل اللحية، ومدار الحديث على إسرائيل، عن عامر، عن شقيق بن سلمة، عن عثمان. وممن رواه عن إسرائيل بذكر مسح الرأس والأذنين عبد الرازاق كما سقته. وابن مهدي كما في رواية ابن الجارود في المنتقى (72)، وابن خزيمة. وخلف بن الوليد كما في رواية ابن خزيمة (151). وعبد الله بن نمير ومصعب بن المقدام كما في سنن الدارقطني (1/ 86). وأبو عامر كما في صحيح ابن خزيمة (167). وأسد بن موسى كما عند الطحاوي (1/ 32). ورواه جماعة بذكر تخليل اللحية فقط انظر تخريج الحديث في مسألتي تخليل اللحية وتخليل الأصابع، والله أعلم.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (873 - 102) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء، قالت: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له الميضأة، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره وأدخل أصبعيه في أذنيه (¬1). [انفرد ابن عقيل بهذا الحديث عن الربيع، وعبد الله بن عقيل مختلف فيه، والأكثر على ضعفه، وأميل إلى تحسين حديثه بثلاثة شروط: ألا يخالف أو يأتي بما ينكر عليه، أو يكون حديثه أصلاً في الباب ولم يتابع] (¬2). ¬

(¬1) المسند (6/ 359). (¬2) جاء في ترجمة عبد الله بن محمد بن عقيل: قال ابن حبان: كان عبد الله من سادات المسلمين من فقهاء أهل البيت وقرائهم إلا أنه كان رديء الحفظ، كان يحدث على التوهم فيجيء بالخبر على غير سننه فلما كثر ذلك في أخباره وجب مجانبتها والاحتجاج بضدها. المجروحين (2/ 3). قال أبو معمر القطيعي: كان ابن عيينة لا يحمد حفظ ابن عقيل. قال سفيان: كان ابن عقيل في حفظه شيء فكرهت أن ألقيه. كما في رواية الحميدي عنه الجرح والتعديل (5/ 154) وقال يعقوب: ابن عقيل صدوق، وفي حديثه ضعف شديد جداً وكان ابن عيينة يقول: أربعة من قريش يترك حديثهم، فذكره فيهم. وقال ابن المديني عن ابن عيينة: رأيته يحدث نفسه، فحملته على أنه قد تغير. تهذيب التهذيب (6/ 13). تهذيب الكمال (16/ 78). سئل يحيى بن معين عن عبد الله بن محمد بن عقيل، فقال: ليس بذاك. كما في رواية أبي بكر ابن أبى خيثمة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال مسلم بن الحجاج: قلت ليحيى بن معين: عبد الله بن محمد بن عقيل أحب إليك أو عاصم ابن عبيد الله؟ فقال: ما أحب واحداً منهما في الحديث. وقال أيضاً: عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف في كل أمره، كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (5/ 153). تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن عبد الله بن محمد بن عقيل؟ فقال: لين الحديث ليس بالقوي، ولا ممن يحتج بحديثه يكتب حديثه وهو أحب الى من تمام بن نجيح. الجرح والتعديل (5/ 153). وقال ابن المديني: كان ضعيفاً. كما في رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة. تهذيب الكمال (16/ 78)، تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال: أحمد منكر الحديث. كما في رواية حنبل عنه. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. المرجع السابق. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه. المرجع السابق. وقال الخطيب: كان سيء الحفظ. المرجع السابق وقال عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سليمان: خير فاضل، ووصفه بالعبادة، وقال: إن كانوا يقولون فيه شيء ففي حفظه. الضعفاء الكبير ـ العقيلي (2/ 298). وقال أبو أحمد الحاكم: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يحتجان بحديثه، وليس بذاك المتين المعتمد. تهذيب الكمال (16/ 78)، تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال الترمذي: صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد ابن إسماعيل يقول: كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل، قال: محمد ابن إسماعيل: وهو مقارب الحديث. سنن الترمذي (1/ 9). وقال ابن عدي: روى عنه جماعة من المعروفين الثقات، وهو خير من ابن سمعان ويكتب حديثه. الكامل (4/ 127)، تهذيب التهذيب (6/ 13). وقال ابن عبد البر: هو أوثق من كل من تكلم فيه. قال الحافظ: وهذا إفراط. تهذيب التهذيب (6/ 13). ولا أعلم أين ذكر ذلك ابن عبد البر، والموجود في التمهيد (20/ 125): " ليس بالحافظ". فعلى هذا الأكثر على تضعيفه، فابن عيينة، ويحيى بن معين، وابن خزيمة، وابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حبان، ويعقوب بن شيبة، وأبو حاتم الرازي، وابن المديني، والنسائي، والخطيب، كل هؤلاء تكلموا في حفظ ابن عقيل، ومن رفعه لم يرفعه إلى درجة الضبط، بل قال: مقارب الحديث، والله أعلم. قلت: ومن أخطائه ما رواه الإمام أحمد (1/ 102) من طريق حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في سبعة أثواب. فإن هذا مخالف لما في الصحيحين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب. [تخريج الحديث] الحديث مداره على محمد بن عقيل، عن الربيع، رواه جماعة عن ابن عقيل وهم كما يلي: الأول: ابن عجلان، عن محمد بن عقيل. أخرجه أحمد (6/ 359) والطحاوي (1/ 33) من طريق ابن لهيعة. وأبو داود (129) والترمذي (34) والطحاوي (1/ 33) من طريق بكر بن مضر وأخرجه الطحاوي أيضاً (1/ 33) من طريق همام، وأخرجه الطحاوي (1/ 33) من طريق سعيد بن أبي أيوب، أربعتهم عن ابن عجلان به. الثاني: شريك عن ابن عقيل به. أخرجه ابن ماجه (440) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شريك به، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح ظاهر أذنيه وباطنهما. ولم يذكر مسح الرأس. ورواه ابن ماجه أيضاً (390) من طريق الهيثم بن جميل، عن شريك به، وفيه: " فمسح به رأسه مقدمه ومؤخره " الحديث، ولم يذكر مسح الأذنين. ورواه الطحاوي (1/ 33) من طريق محمد بن سعيد، أنا شريك به، بلفظ: أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ، فمسح ظاهر أذنيه وباطنهما ". وشريك سيء الحفظ، ولكنه صالح في المتابعات إن شاء الله تعالى. =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: حديث عبد الله بن زيد. (874 - 103) رواه أحمد، قال: قال حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا عبد العزيز يعني ابن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجت إليه ماء فتوضأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين مرتين ومسح ¬

_ = الطريق الثالث. سفيان بن عيينة، عن ابن عقيل به. أخرجه أحمد (6/ 358) عنه، وبه ذكر صفة الوضوء، وفيه: " ويمسح برأسه، قال: مرة أو مرتين مقبلاً ومدبراً ". وليس فيه مسح الأذنين. وأخرجه أبو داود (127) من طريق سفيان به. الطريق الرابع: بشر بن المفضل، كما في سنن أبي داود (126) ومستدرك الحاكم (1/ 253)، والبيهقي (1/ 64). الطريق الخامس: الحسن بن صالح، عن ابن عقيل به. كما في مسند أحمد (6/ 359) وسنن أبي داود (131) وابن ماجه (441). الطريق السادس: سفيان الثوري، عن ابن عقيل. كما في مسند أحمد (6/ 358)، وابن ماجه (418). الطريق السابع: أخرجه الطحاوي (1/ 36) من طريق عبيد الله بن عمرو، عن ابن عقيل به. الطريق الثامن: أخرجه الدارقطني (1/ 106) من طريق مسلم بن خالد، عن ابن عقيل به. الطريق التاسع: أخرجه الطحاوي (1/ 33) من طريق روح بن القاسم، عن ابن عقيل به. وانظر لمراجعة بعض طرق هذا الحديث: أطراف المسند (8/ 417)، تحفة الأشراف (15837 إلى (15843)، وإتحاف المهرة (21425، 21426).

برأسه أقبل به وأدبر ومسح بأذنيه وغسل قدميه (¬1). [رجاله ثقات، إلا أن ذكر مسح الأذنين في حديث عبد الله بن زيد شاذ] (¬2). ¬

(¬1) المسند (4/ 40). (¬2) الحديث مداره على عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد. رواه عن عمرو جماعة: منهم عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، واختلف عليه فيه. فرواه هاشم بن القاسم، عن عبد العزيز بن أبي سلمة به. بذكر مسح الأذنين. وخالفه جماعة، فرووه عن عبد العزيز بن أبي سلمة، ولم يذكروا مسح الأذنين، منهم: - أحمد بن يونس، كما في رواية البخاري (197). - وأبو الوليد وسهل بن حماد كما في رواية أبي داود (100). - وأحمد بن عبد الله كما في رواية ابن ماجه (1093). - وصالح بن مالك الخوارزمي كما عند ابن حبان (1093). كما رواه جماعة عن عمرو بن يحيى، ولم يذكروا مسح الأذنين، منهم: - مالك كما في الموطأ (1/ 18)، ومن طريقه أخرجه عبد الرزاق (5)، وأحمد (4/ 38، 39)، والبخاري (185)، ومسلم (235)، والترمذي (32)، والنسائي (98، 97)، وابن ماجه (434)، وابن حبان (1084)، والبيهقي (1/ 59). - ووهيب بن خالد، كما في صحيح البخاري (186)، ومسلم (235)، وابن حبان (1077)، والبيهقي (1/ 80). - وابن عيينة، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 16)، وأحمد (4/ 40)، والترمذي (47)، والنسائي (99)، والدارقطني (1/ 81)، والبيهقي (1/ 63). - وخالد بن عبد الله الطحان، كما في صحيح البخاري (191)، وسنن أبي داود (119)، ومسلم (235)، والترمذي (28)، وابن ماجه (405). - وسليمان بن بلال كما في صحيح البخاري (199)، ومسلم (235). - محمد بن فليح بن سليمان، كما في سنن الدارقطني (1/ 82). =

الدليل السادس

الدليل السادس: حديث عبد الله بن عمرو. (875 - 104) أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء (¬1). [إسناده حسن، وزيادة (أو نقص) وهم من الراوي] (¬2). ¬

= كلهم رووه عن عمرو بن يحيى، فلم يذكروا مسح الأذنين. فهؤلاء جمع كثير من الرواة رووه بدون ذكر مسح الأذنين، أكثرهم في الصحيحين، وانفرد عنهم هاشم بن القاسم بذكر مسح الأذنين، فلا أشك بوهمه بهذه الزيادة، خاصة أنه قد روي الحديث أيضاً من طريق آخر إلى عبد الله بن زيد غير طريق عمرو بن يحيى، رواه حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد. كما في مسند أحمد (4/ 41)، وصحيح مسلم (236)، وأبو داود (120)، والترمذي (35)، وسنن الدارمي (709)، كما رواه عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد الأنصاري، كما في مسند أحمد، ولم يذكروا فيه مسح الأذنين، والله أعلم. انظر أطراف المسند (3/ 21) تحفة الأشراف (5308)، إتحاف المهرة (7135، 7141، 7143) (¬1) سنن أبي داود (135). (¬2) سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.

الدليل السابع

الدليل السابع: ما جاء صريحاً في أن الأذنين من الرأس، وهي أحاديث كثيرة: ولا يخلو كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون المراد به تعريفنا بمواضع الأذنين، فهذا لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلمنا المشاهدات، وإنما يعلمنا الأحكام. أو يريد: أنهما يمسحان كالمسح بالرأس، وهذا أيضاً لا يجوز كما لا يجوز أن يقال: الخفان من الرأس على معنى أنهما يمسحان كما يمسح الرأس، والرجلان من الوجه على معنى يغسلان كالوجه. فثبت أن المراد من الأحاديث أنهما تابعان للرأس في باب المسح، وأنهما يمسحان بالماء الذي يمسح به الرأس (¬1)، ومن هذه الأحاديث: (876 - 105) ما رواه البزار في مسنده، قال: ثنا أبو كامل الجحدري، ثنا غندر، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأذنان من الرأس (¬2). [الحديث معلول، ولا يصح حديث مرفوع في الباب، وإنما هو موقوف على بعض صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3). ¬

(¬1) رؤوس المسائل الخلافية (1/ 31). (¬2) ومن طريق البزار أخرجه الدارقطني (1/ 98، 99). (¬3) الإسناد رجاله كلهم ثقات، لكن الحديث معلول: الأول: قد اختلف فيه على ابن جريج: فرواه أبو كامل عن غندر، عن ابن جريج، عن موسى موصولاً. وتابعه الربيع بن بدر كما في سنن الدارقطني (1/ 99) إلا أن الربيع متروك. ورواه جماعة عن ابن جريج مرسلاً، فقد رواه الدارقطني (1/ 99) من طريق وكيع وعبد الرزاق وسفيان وصلة بن سليمان وعبد الوهاب، كلهم عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الأذنان من الرأس. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كما تابعهم حجاج عند أبي عبيد في كتاب الطهور (360). وقد صرح ابن جريج بالتحديث في الرواية المرسلة. وقد صوب الدارقطني إرساله. وكذلك رجح الحافظ إرساله، فقال في النكت (1/ 412): " ومن هذا الوجه رواه الدارقطني، وهذا رجاله رجاله مسلم، إلا أن له علة؛ فإن أبا كامل الجحدري تفرد به عن غندر، وتفرد به غندر عن ابن جريج، وخالفه من هو أحفظ منه وأكثر عدداً، فرواه عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معضلاً. ثانياً: ما ذكره الحافظ في النكت (1/ 413): أن سماع غندر عن ابن جرير كان بالبصرة، وابن جريج لما حدث بالبصرة حدث بأحاديث وهم فيها، وسماع من سمع منه بمكة أصح. ثالثاً: ما قاله ابن عدي في الكامل (4/ 196)، ونقله الحافظ عنه في النكت معتداً به، عن أبي كامل، قال: لم أكتب عن غندر إلا هذا الحديث، أفادنيه عنه عبد الله بن سليمان الأفطس. اهـ والأفطس قد قال فيه يحيى بن سعيد القطان: ليس بثقة. وقال النسائي وغيره: متروك. انظر الميزان (2/ 431). رابعاً: أن الرواية الموصولة فيها عنعنة ابن جريج، وهو مدلس، بخلاف الرواية المرسلة، والله أعلم. وقد قبل ابن الجوزي في التحقيق (1/ 385) الرواية الموصولة، فقال: أبو كامل لا نعلم أحداً طعن فيه، والرفع زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، كيف وقد وافقه غيره، فإن لم يعتد برواية الموافق اعتبر بها، ومن عادة المحدثين أنهم إذا رأوا من وقف الحديث ومن رفعه وقفوا مع الواقف احتياطاً، وليس هذا مذهب الفقهاء، ومن الممكن أن يكون ابن جريج سمعه من عطاء مرفوعاً، ورواه له سليمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مسند". اهـ ونقل ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 385) عن ابن القطان فقال: وقد زعم ابن القطان أن إسناد هذا الحديث صحيح، لثقة رواته وإيصاله، وإنما أعله الدارقطني بالاضطراب في إسناده، فتبعه عبد الحق على ذلك، وهو ليس بعيب فيه، والذي قال فيه الدارقطني هو أن أبا كامل تفرد به عن غندر، ووهم فيه عليه، هذا ما قال، ولم يؤيده بشيء، ولا عضده بحجة غير أنه ذكر أن ابن جريج الذي دار الحديث عليه يروى عنه، عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، قال: وما أدري ما الذي يمنع أن يكون عنده في ذلك حديثان: مسند ومرسل. اهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فتعقبه ابن عبد الهادي، وقال: فيه نظر كثير، ثم ساق كلام ابن عدي، وأن أبا كامل سمعه من الأفطس، ثم تعقب ابن الجوزي قائلاً: وهذه الطريقة التي سلكها المؤلف ومن تابعه - يعني: ابن الجوزي وابن القطان الفاسي وغيرهما - في أن الأخذ بالمرفوع والمتصل في كل موضع طريقة ضعيفة، لم يسلكها أحد من المحققين وأئمة العلل في الحديث". اهـ فالراجح من حديث ابن عباس كونه مرسلاً، والله أعلم. (1/ 385). كما تعقب ابن حجر ابن القطان في إتحاف المهرة (7/ 403) فقال: " صحح ابن القطان حديث غندر، عن ابن جريج، فقال: هذا الإسناد صحيح بثقة رواته واتصاله، وإنما أعله الدارقطني بالاضطراب، وما أدري ما المانع أن يكون عند ابن جريج في ذلك حديثان: مسند ومرسل. قال الحافظ: لكن في سماع أهل البصرة من ابن جريج نظر، ومنهم غندر، فرواية من رواه عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى سالمة من هذه العلة، فلهذا رجحها الدارقطني، والله أعلم ". وقد جاء عن ابن عباس مرفوعاً من غير هذا الطريق، فقد رواه الطبراني في الكبير (10/ 391) ح 1084 ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن قارض بن شيبة، عن أبي غطفان، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: استنشقوا مرتين والأذنان من الرأس. زيادة والأذنان من الرأس وهم في الحديث، ولست أدري من أين الوهم، فقد اختلف على وكيع في ذكرها. فانفرد الطبراني بهذه الزيادة، وأخشى أن يكون الوهم منه، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن وكيع. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 33). وأبو داود (141) عن إبراهيم بن موسى. وابن ماجه (408) عن علي بن محمد ثلاثتهم عن وكيع، بلفظ: " استنثروا اثنتين بالغتين أو ثلاثاً ". وليس فيه ذكر والأذنان من الرأس. كما رواه جماعة عن ابن أبي ذئب، ولم يذكروا الأذنين، منهم أبو داود الطيالسي (2725) ومن طريقه البيهقي (1/ 49). وإسحاق الرازي كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 33). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وخالد بن مخلد كما في مستدرك الحاكم (1/ 148). وعبد الله بن المبارك كما في سنن النسائي نقلاً من تحفة الأشراف (5/ 278). وأسد بن موسى كما في رواية ابن الجارود في المنتقى (77). وهاشم بن القاسم كما في مسند أحمد (1/ 352)، فاتفاقهم على عدم ذكر زيادة والأذنان من الرأس وانفراد الطبراني بذكرها دليل على وهم الطبراني وحفظهم، والله أعلم. فتبين من هذا شذوذ طريق الطبراني، والذي يظهر لي والله أعلم أن الحمل عليه، وما ينفرد به الطبراني دون غيره يحتاج إلى تمحيص من الباحث، والله أعلم. ورواه الدارقطني (1/ 101)، والخطيب في تاريخه (3/ 234) من طريق سويد بن سعيد، نا القاسم بن غصن، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المضمضة والاسنتشاق سنة، والأذنان من الرأس. وفي إسناده القاسم بن غصن. وقال أحمد: يحدث بأحاديث منكرة. الجرح والتعديل (7/ 116) وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. المرجع السابق. قال الدارقطني: ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 339). وفي إسناده أيضاً: إسماعيل بن مسلم. قال ابن معين: ليس بشيء. الكامل (1/ 283). وقال النسائي: متروك الحديث، وقال مرة: ليس بثقة. تهذيب التذهيب (1/ 289). وقال يحيى القطان: لم يزل مختلطاً، كان يحدث بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب. الكامل (1/ 283). وقال أحمد: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (1/ 289). وقال ابن المديني: لا أكتب حديثه. المرجع السابق. وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة عن أهل الحجاز والبصرة والكوفة إلا أنه ممن يكتب حديثه. الكامل (1/ 284). وعلى ضعفه، فقد اختلف فيه على إسماعيل بن مسلم: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فرواه القاسم بن غصن، عن إسماعيل، عن عطاء، عن ابن عباس. ورواه علي بن هاشم، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة. رواه الدارقطني (1/ 101)، وقال: ولا يصح أيضاً. ورواه الداقطني (1/ 100) عن جابر الجعفي، عن عطاء، واختلف على جابر الجعفي: فروي عنه، عن عطاء، عن ابن عباس. وأرسله الحكم بن عبد الله أبو مطيع، عن إبراهيم بن طهمان، عن جابر، عن عطاء، وهذا أشبه بالصواب. وجابر الجعفي ضعيف. وروي عن ابن عباس موقوفاً عليه، رواه ابن أبي شيبة (1/ 24) حدثنا وكيع، عن حماد ابن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: الأذنان من الرأس. ووراه الدارقطني (1/ 102) من طريق حماد بن سلمة به. وهذا السند ضعيف، فيه رجلان: الأول: علي بن زيد، وهو مشهور الضعف. الثاني: يوسف بن مهران، جاء في التهذيب: لم يرو عنه إلا ابن جدعان. وقال أحمد: لا يعرف، ولا أعرف أحداً روى عنه إلا علي بن زيد. وفي التقريب: لين، ليس هو يوسف بن ماهك. انظر في طرق الحديث: إتحاف المهرة (8067، 8066). وللحديث شواهد، أذكر ما تيسر منها: الأول: حديث عبد الله بن زيد. رواه ابن ماجه (443): حدثنا سويد بن سعيد، ثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة، عن شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأذنان من الرأس. وفي إسناده سويد بن سعيد. جاء في التهذيب (4/ 241) قال إبراهيم بن أبي طالب: قلت لمسلم: كيف استجزت الرواية عن سويد بن سعيد؟ قال: ومن أين كنت أتي بنسخة حفص بن ميسرة؟ فدل على أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مسلماً روى عنه في كتابه. وقد قال أبو زرعة: أما كتبه فصحاح كما في الميزان (2/ 248). وقال الذهبي: صحيح الكتاب. المرجع السابق. وقال الحافظ في النكت (1/ 411): وهو وإن أخرج له مسلم في صحيحه، فقد ضعفه الأئمة، واعتذر مسلم عن تخريج حديثه بأنه ما أخرج له إلا ما لا أصل له من رواية غيره، وقد كان مسلم لقيه، وسمع منه قبل أن يعمى ويتلقن ما ليس من حديثه، وإنما كثرت المناكير في روايته بعد عماه. اهـ قلت: ورواية عبد الله بن أحمد بن حنبل عنه حسنة أيضاً، فقد جاء في التهذيب (4/ 240): قال البغوي: كان من الحفاظ، وكان أحمد ينتقي لولديه، فيسمعان منه. اهـ فتبين من هذا أن سويد بن سعيد قد تغير، ولم يتميز، عليه فيكون حديثه ضعيفاً، ولا ينبغي أن يحتج أحد برواية مسلم عنه لما قدمنا. فالإسناد ضعيف، قد صححه بعضهم اغترراً برواية مسلم عن سويد، وليس بصواب. فقد قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 19): وهذا أمثل إسناد في الباب لاتصاله وثقة رجاله، فابن أبي زائدة وشعبة وعباد احتج بهم الشيخان، وحبيب ذكره ابن حبان في الثقات في أتباع التابعين، وسويد بن سعيد احتج به مسلم. وقال المنذري نقلاً من النكت (1/ 411): هذا الإسناد متصل، ورواته محتج بهم، وهو أمثل إسناد في هذا الباب. فتعقبه الحافظ ابن حجر: رجاله رجال مسلم، إلا أن له علة، فإنه من رواية سويد بن سعيد كما ترى، وقد وهم فيه، وذكر الترمذي في العلل الكبير أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فضعف سويداً. قال الحافظ: وهو وإن أخرج له مسلم في صحيحه فقد ضعفه الأئمة، واعتذر مسلم عن تخريج حديثه بأنه ما أخرج له إلا ما له أصل من رواية غيره، وقد كان مسلم لقيه وسمع منه قبل أن يعمى ويتلقن ما ليس من حديثه، وإنما كثرت المناكير في روايته بعد عماه، وحدث بهذا الحديث حال الصحة فأتى به على الصواب، فرواه البيهقي من رواية عمران بن موسى، عن سويد بن سعيد بسنده إلى عبد الله بن زيد رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ بثلثي مد، وجعل يدلك. قال: والأذنان من الرأس. فقوله: قال: والأذنان من الرأس هو من قول عبد الله بن زيد رضي الله عنه، والمرفوع منه ذكر الوضوء بثلثي مد والدلك. وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حديث أبي كريب، عن ابن أبي زائدة، دون الموقوف. اهـ كلام الحافظ. قلت: لم أقف في سنن البيهقي ولا في كتابه المعرفة إلى الطريق التي أشار إليها الحافظ، فلعلها في كتاب آخر، والحديث في سنن البيهقي (1/ 196) من طريق إبراهيم بن موسى الرازي، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة به. ومن طريق أبي خالد الأحمر، عن شعبة به. ولم يذكر فيه الأذنان من الرأس. فأخشى أن تكون تصحفت إبراهيم بن موسى إلى عمران بن موسى، والله أعلم. انظر تحفة الأشراف (4/ 340). الشاهد الثاني: حديث أبي أمامة. وهو ما رواه أحمد (5/ 258)، قال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا سنان أبو ربيعة صاحب السابري، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ثلاثاً ثلاثاً، ولا أدري كيف ذكر المضمضة والاستنشاق، وقال: والأذنان من الرأس، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح المآقين وقال بأصبعيه وأرانا حماد، ومسح مآقيه. إسناده ضعيف. في إسناده: سنان بن ربيعة، جاء في ترجمته: قال أبو حاتم: شيخ مضطرب الحديث. الجرح والتعديل (4/ 251). وقال يحيى بن معين: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (263). وذكره العقيلي في الضعفاء (2/ 170). وقال ابن عدي: ولسنان أحاديث قليلة، أرجو أنه لا بأس به. الكامل (3/ 440). وقال الذهبي: صويلح. الميزان (2/ 235). وقال أيضاً: صدوق. المغني في الضعفاء (2656). وذكره ابن حبان في الثقات (4/ 337). وفي التقريب: صدوق فيه لين، أخرج له البخاري مقروناً. كما أن في إسناده شهر بن حوشب، مختلف فيه، وثقه قوم، وحسنه آخرون، وضعفهم جماعة: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال فيه يحيى بن معين: شهر ثبت. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أحمد: ليس به بأس. وقال يعقوب بن شيبة: شهر ثقة على أن بضعهم قد طعن فيه. وقال يعقوب بن سفيان: شهر. وإن تكلم فيه ابن عون فهو ثقة. وقال الترمذي: (5/ 56): وقال محمد بن إسماعيل: شهر حسن الحديث، وقوَّى أمره، وقال: إنما تكلم فيه ابن عون. وقال يعقوب بن أبي شيبة: سمعت علي بن المديني، وقيل له: ترضى حديث شهر بن حوشب، فقال: أنا أحدث عنه. قال: وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه. قال: وأنا لا أدع حديث الرجل إلا أن يجتمعا عليه يحيى، وعبد الرحمن - يعني: على تركه- قال: وسمعت علي بن المديني يقول: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن شهر. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: شهر بن حوشب أحب إلي من أبي هارون العبدي، ومن بشر بن حرب، وليس بدون أبي. لا يحتج بحديثه ". وذكره الذهبي في كتابه: من تكلم فيه وهو موثق. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال موسى بن هارون: ضعيف. وقال ابراهيم بن يعقوب الجوزجاني: أحاديثه لا تشبه حديث الناس: عمرو بن خارجة كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أسماء بنت يزيد: كنت آخذة بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كأنه مولع بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحديثه دال عليه، فلا ينبغي أن يغتر به وبروايته. وقال ابن عون: إن شهراً تركوه، وكان يحيى بن سعيد لا يحدث عن شهر، وساق ابن عدي أحاديث مستنكرة عنه ثم قال: " وعامة ما يرويه هو وغيره من الحديث فيه من الإنكار ما فيه، وشهر هذا ليس بالقوي في الحديث، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولا يتدين به" اهـ. وقال الذهبي في السير بعد أن ذكر الأحاديث المستنكرة عليه: " هذا ما استنكر من حديث شهر في سعة روايته، وما ذاك بالمنكر جداً ". ثم قال: الرجل غير مدفوع عن صدق وعلم، والاحتجاج به مترجح. وقال الحافظ في التقريب (2830): صدوق كثير الإرسال والأوهام - (انظر ترجمته في الكامل لابن عدي (4/ 36 - 40)، وتهذيب الكمال (12/ 578)، والجرح والتعديل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (4/ 382)، وذكر من تكلم فيه، وهو موثوق للذهبي [ت: 161] وأحوال الرجال لإبراهيم الجوزجاني [ت: 141]) -. فالحديث إسناده ضعيف. وقد اختلف فيه على حماد بن زيد: فرواه جماعة عن حماد جازمين برفعه، منهم: الأول: عفان كما في مسند أحمد (5/ 258) وأبو عبيد في كتاب الطهور (88). الثاني: مسدد كما في سنن أبي داود (134)، والبيهقي (1/ 66). الثالث: محمد بن زياد كما في سنن ابن ماجه (444)، وسنن الدارقطني (1/ 103). الرابع: الهيثم بن جميل، كما في سنن الدارقطني (1/ 103). الخامس والسادس: أبو عمر الحوضي ومحمد بن أبي بكر كما في سنن الدارقطني (1/ 103). السابع: أبو الربيع، واسمه سليمان بن داود الزهراني، كما في سنن البيهقي (1/ 66). الثامن: يحيى بن إسحاق، كما في مسند أحمد (5/ 268). التاسع: يحيى بن حسان، كما في شرح معاني الآثار (1/ 33) كلهم رووه، عن حماد بن زيد، عن ثنا سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة مرفوعاً بلا شك. وخالفهم قتيبة بن سعيد، ويونس بن محمد ومعلى بن منصور، فرووه عن حماد على الشك في رفعه. فقد رواه أبو داود (134)، والترمذي (37) عن قتيبة، عن حماد به. قال حماد: لا أدري هو من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي أمامة. وأما رواية معلى بن منصور فرواها الدارقطني (1/ 103) من طريق محمد بن شاذان، ثنا معلى بن منصور، عن حماد به بالشك. ومحمد بن شاذان الواسطي في التقريب: مقبول. أي إن توبع وإلا فلين الحديث. وأما رواية يونس بن محمد، فرواها أحمد (5/ 264) عنه، عن حماد به. ولا شك أن من رواه بالجزم بالرفع بدون شك أكثر عدداً، ولعل الشك طرأ على حماد فيما بعد. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأما رواية من رواه جازماً بوقفه، فهو سليمان بن حرب، أخرجها أبو داود (134)، والبيهقي (1/ 66): قال سليمان بن حرب: الأذنان من الرأس إنما هو من قول أبي أمامة، فمن قال غير هذا فقد بدل، أو كلمة قالها سليمان: أي أخطأ. اهـ فلا شك أن من يجزم برفعه أكثر عدداً ممن جزم بوقفه ولا مقارنة، فالجازم بوقفه هو سليمان بن حرب وحده، بينما تسعة رواة يجزمون برفعه، فالحكم لهم؛ لأنهم أكثر عدداً. وأما من رواه بالشك فهم ثلاثة فقط، والشاك لا يقدح برواية الجازم، فالجزم مقدم على الشك، وإذا رجحنا كونه مرفوعاً، فإن الإسناد يبقى ضعيفاً، والله أعلم. وقد ساق الدارقطني في سننه (1/ 104) قال: حدثنا دعلج بن أحمد، قال: سألت موسى ابن هارون عن هذا الحديث؟ قال: ليس بشيء، فيه شهر بن حوشب، وشهر ضعيف، والحديث في رفعه شك، وقال ابن أبي حاتم: قال أبي: سنان بن ربيعة مضطرب الحديث. اهـ هذا فيما يتعلق بطريق شهر بن حوشب رحمه الله، وقد جاء الحديث من غير طريقه عن أبي أمامة، فقد أخرج الحديث الدارقطني (1/ 104) من طريق جعفر ابن الزبير، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة. قال الدارقطني: جعفر بن الزبير متروك. وقد تابعه عثمان بن فائد القرشي كما في فوائد تمام (179) فرواه عن أبي معاذ الألهاني، عن القاسم بن عبد الرحمن به. وعثمان بن فائد ضعيف، وأبو معاذ الألهاني لم أقف عليه. وأخرجه الدارقطني (1/ 104) من طريق أبي بكر ابن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة. قال الدارقطني: أبو بكر ابن أبي مريم ضعيف. انظر أطراف المسند (6/ 21)، تحفة الأشراف (4887) إتحاف المهرة (6403، 6404، 6424، 6362). الشاهد الثالث: حديث ابن عمر. أخرجه الدارقطني (1/ 102) من طريق يحيى بن العريان الهروي، نا حاتم بن إسماعيل، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الأذنان من الرأس. وفي إسناده: يحيى بن العريان، ذكره الخطيب في تاريخه (14/ 161)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. وفيه أسامة بن زيد الليثي، جاء في ترجمته: قال أحمد بن حنبل: ترك يحيى بن سعيد حديث أسامة بن زيد بأخرة. الجرح والتعديل (2/ 284). وقال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: قال أبي: روى أسامة بن زيد، عن نافع أحاديث مناكير. قلت له: إن أسامة حسن الحديث، فقال: إن تدبرت حديثه، فستعرف النكرة فيها. المرجع السابق. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد - يسأل عن أسامة بن زيد، فقال: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين كما في رواية الدوري عنه: أسامة بن زيد الليثي، هو الذي روى عنه جعفر بن عون، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، ومعن بن عيسى، وهو ثقة. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: أسامة بن زيد الليثي يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق. وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (1/ 17). وقال ابن عدي: أسامة بن زيد كما قال يحيى بن معين، ليس بحديثه ولا برواياته بأس، وهو خير من أسامة بن زيد بن أسلم بكثير. الكامل (1/ 394). وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/ 217). وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (1/ 183). وقال الآجري، عن أبي داود: صالح إلا أن يحيى يعني ابن سعيد أمسك عنه بآخرة. المرجع السابق. وقال الدارقطني: لما سمع يحيى القطان أنه حدث عن عطاء، عن جابر رفعه " أيام منى كلها منحر"، قال: إشهدوا أني قد تركت حديثه. قال الدارقطني: فمن أجل هذا تركه البخاري. المرجع السابق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الحاكم في المدخل: روى له مسلم واستدللت بكثرة روايته له على أنه عنده صحيح الكتاب، على أن أكثر تلك الأحاديث مستشهد بها، أو هو مقرون في الإسناد. المرجع السابق. وقال ابن القطان الفاسي: لم يحتج به مسلم، إنما أخرج له استشهاداً. المرجع السابق. وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ، كان يحيى القطان يسكت عنه. الثقات (6/ 74). وفي التقريب: صدوق يهم. [تخريج الحديث]: الحديث رواه أيضاً مع الدارقطني الخطيب في تاريخه وجادة (14/ 161)، وفي موضح أوهام الجمع والتفريق (1/ 196): وقد اختلف فيه على أسامة بن زيد: فرواه حاتم بن إسماعيل، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً. وخالف حاتم من هو أرجح منه، فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 24) ومن طريقه الدارقطني (1/ 98) حدثنا أبو أسامة، عن أسامة بن زيد، عن هلال بن أسامة، عن ابن عمر موقوفاً. ورواه الدارقطني (1/ 98) من طريق وكيع، عن أسامة بن زيد به. وصوب الدارقطني وقفه، فقال عن رواية أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: هذا وهم، والصواب: عن أسامة بن زيد، عن هلال بن أسامة الفهري، عن ابن عمر موقوفاً. وعلق الخطيب على راواية الرفع، فقال: والخطأ فيه من وجهين: أحدهما: عن نافع. والثاني: روايته مرفوعاً. انظر موضح أوهام الجمع والتفريق (1/ 196). وقد جاء من طرق عن ابن عمر مرفوعاً، وكلها معلولة: الأول: عن القاسم بن يحيى البزاز، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً. قال الدارقطني: رفعه وهم، والصواب عن ابن عمر من قوله، والقاسم بن يحيى ضعيف. وقال الحافظ في النكت (1/ 413): ورجاله ثقات إلا أن رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين فيها مقال، وهذا منها، والمحفوظ من حديث نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الطريق الثاني: عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً روه الدارقطني (1/ 97) من طريق عبد الرزاق، عن عبيد الله به. وهذا وهم من وجهين: أحدهما: قوله: " عبيد الله " بالتصغير. والثاني: رفعه. وإنما رواه عبد الرزاق (24)، ومن طريقه الدارقطني (1/ 98) عن عبد الله المكبر، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً. وعبد الله فيه ضعف. وتابعه عبد الله بن نافع عند الدارقطني (1/ 98) عن أبيه نافع به بالوقف. كما تابعهما محمد بن إسحاق كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 24)، والدارقطني (1/ 98). كما أخرجه عبد الرزاق (25): والدارقطني (1/ 98) من طريق وكيع، كلاهما عن الثوري، عن سالم أبي النضر، عن سعيد بن مرجانة، عن ابن عمر موقوفاً. قال الدارقطني: رواه إسحاق بن إبراهيم قاضي غزة، عن ابن أبي السري، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن عبيد الله، ورفعه وهم، ووهم هذا في ذكر الثوري، وإنما رواه عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر: أخي عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً. اهـ الطريق الثالث: محمد بن الفضل، عن زيد العمي، واختلف على محمد بن الفضل: فرواه الدارقطني (1/ 98) من طريق محمد بن الفضل، عن زيد، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً. ورواه ابن عدي في الكامل (3/ 200) من طريق عيسى الغنجار، عن محمد بن الفضل، عن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: والأذنان من الرأس. ومحمد بن الفضل: متروك الحديث. وزيد العمي ضعيف. انظر إتحاف المهرة (10261، 11454، 10891، 11252). الشاهد الرابع: حديث عائشة. أخرجه الدارقطني (1/ 100) من طريق محمد بن الأزهر الجوزجاني، نا الفضل بن موسى السيناني، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ فليتمضمض وليستنشق والأذنان من الرأس. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الدارقطني: كذا قال: والمرسل أصح. اهـ وقد تفرد بهذا الإسناد محمد بن الأزهر، وقد كذبه أحمد كما قال الحافظ في التلخيص). وقد أخرجه الدراقطني (1/ 99) من طريق وكيع وعبد الرزاق وسفيان وصلة بن سليمان وعبد الوهاب وغيرهم عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وقد تكلمت على هذا الطريق في الكلام على حديث ابن عباس، والله أعلم. الشاهد الخامس: حديث أبي هريرة. وله أربعة طرق. الطريق الأول: رواه الدارقطني (1/ 100) من طريق علي بن عاصم، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الأذنان من الرأس. وقد اختلف فيه على ابن جريج: فرواه علي بن عاصم كما في هذا الإسناد عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن أبي هريرة. ورواه الدارقطني (1/ 99) من طريق محمد بن جعفر، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وقد تكلمت على هذا الطريق. ورواه وكيع وعبد الرزاق وسفيان وصلة وعبد الوهاب وغيرهم عن ابن جريج، عن سليمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وهو الصواب. وسبق الكلام على هذا الطرق بشيء من التفصيل. الطريق الثاني: رواه الدارقطني (1/ 101) من طريق محمد بن غالب بن حرب، نا إسحاق بن كعب، نا علي بن هاشم، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا توضأ أحدكم فليتمضمض وليستنشق، والأذنان من الرأس. وقد سبق أن بينت الاختلاف فيه على إسماعيل بن مسلم في حديث ابن عباس فارجع إليه غير مأمور. الطريق الثالث: أخرجه ابن ماجه (445)، والدارقطني (1/ 102) من طريق عمرو بن الحصين، حدثنا محمد بن عبد الله بن علاثة، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تمضمضوا واستنشقوا، والأذنان من الرأس. واقتصر ابن ماجه على قوله: والأذنان من الرأس. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعمرو بن الحصين متروك، وابن علاثة ضعيف. وقد ضعفه البوصيري في الزوائد. وانظر إتحاف المهرة (18610)، تحفة الأشراف (13095) الطريق الرابع: عن البختري بن عبيد، عن أبيه، عن أبي هريرة. رواه الدارقطني (1/ 102) من طريق سليمان بن عبد الرحمن وسعيد بن شرحبيل، كلاهما عن البختري بن عبيد به. مرفوعاً. قال الدارقطني: البختري بن عبيد ضعيف، وأبوه مجهول. الشاهد السادس: حديث أبي موسى. رواه الدارقطني (1/ 102)، والطبراني كما في مجمع البحرين (417)، وابن عدي في الكامل (1/ 372، 373) والعقيلي في الضعفاء (1/ 21) من طريق علي بن جعفر بن زياد الأحمر، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث بن سوار النجار، عن الحسن، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والأذنان من الرأس. وقد تفرد برفعه علي جعفر بن زياد، وخالفه ابن أبي شيبة، فرواه في المصنف (1/ 24)، ومن طريقه الدارقطني (1/ 103) حدثنا عبد الرحيم بن سليمان به موقوفاً. قال الدارقطني: تابعه إبراهيم بن موسى الفراء وغيره، عن عبد الرحيم. قال الدارقطني: والصواب موقوف، والحسن لم يسمع من أبي موسى. وقال ابن عدي في الكامل (1/ 373): لا أعلم رفع هذا الحديث عن عبد الرحيم غير جعفر بن زياد، ورواه غيره موقوفاً عن عبد الرحيم. وانظر إتحاف المهرة (12190). الشاهد السابع: حديث أنس رضي الله عنه. رواه الدارقطني (1/ 104) وابن عدي في الكامل (2/ 18) من طريق عبد الحكم، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الأذنان من الرأس. قال الدارقطني: عبد الحكم لا يحتج به. وانظر إتحاف المهرة (1301). ورواه الطبراني كما في مجمع البحرين (416) من طريق عمر بن أبان بن مفضل المدني، قال: أراني أنس بن مالك الوضوء، أخذ ركوة فوضعها عن يساره، وصب الماء على يده =

الدليل الثامن

الدليل الثامن على أن الأذنين يمسحان مع الرأس: (877 - 106) ما رواه مالك في الموطأ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المؤمن، فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، قال: ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة (¬1). [رجاله ثقات إلا أنه مرسل، الصنابحي لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2). ¬

= اليمنى، فغسلها ثلاثاً، ثم أدار الركوة على يده اليمنى، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وأخذ ماء جديداً لسماخه، فمسح سماخه، فقلت: قد مسحت أذنيك؟ فقال: يا غلام إنهما من الرأس، ليس هما من الوجه، ثم قال: يا غلام هل رأيت؟ وهل فهمت أو أعيد عليك؟ فقلت: قد كفاني، وقد فهمت. قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ. وعمر بن أبان، قال فيه الذهبي في الميزان (3/ 181): عن أنس في الوضوء، لا يعرف. ورواه ابن عدي في الكامل (2/ 55) من طريق خارجه بن مصعب، عن الهيثم بن جماز، عن يزيد الرقاشي، عن أنس به. وخارجه متروك، والرقاشي ضعيف. فتبين لي من هذا البحث أن الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو موقوف على بعض الصحابة رضي الله عنهم. (¬1) الموطأ (1/ 31). (¬2) هكذا قال الإمام مالك: عبد الله الصنابحي، وقد خطأه الأئمة، فقالوا: إنما هو أبو عبد الله الصنابحي. قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن الصنابحي، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقال: وهم فيه مالك: وهو أبو عبد الله الصنابحي، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال علي بن المديني وغيره: عبد الرحمن بن عسيلة كنيته: أبو عبد الله لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل أرسل عنه، فمن قال: عبد الرحمن فقد أصاب اسمه، ومن قال: عن أبي عبد الله، فقد أصاب كنيته، وهو رجل واحد، ومن قال: عن أبي عبد الرحمن: فقد أخطأ، قلب اسمه فجعله كنيته. ومن قال: عن عبد الله الصنابحي فقد أخطأ، قلب كنيته فجعلها اسمه. قال الحافظ ابن حجر: وهو الصواب عندي. وإذا كان الصنابحي لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو منقطع، والمنقطع من أنواع الحديث الضعيف. [تخريج الحديث]: الحديث رواه مالك كما في إسناد الباب، ومن طريق مالك أخرجه أحمد (4/ 349)، والبخاري في التأريخ الكبير (5/ 322)، والنسائي (103)، وفي الكبرى (106)، والحاكم (1/ 129 - 130)، واليهقي في السنن (1/ 81). وأخرجه أحمد (3/ 348 - 349) من طريق محمد بن مطرف (أبي غسان) وأخرجه ابن ماجه (282) من طريق حفص بن ميسرة كلاهما عن زيد بن أسلم به. وقد استدل النسائي بهذا الحديث على أن الأذنين من الرأس، ولم يرو حديث (الأذنان من الرأس) لضعفه عنده. قال السندي: " والمصنف - يعني النسائي - استدل بقوله: (حتى تخرج من أذنيه) على أن الأذنين من الرأس؛ لأن خروج الخطايا منهما بمسح الرأس إنما يحسن إذا كانا منه، وعدل عن الحديث المشهور في هذه المسألة، وهو حديث " الأذنان من الرأس " لما قيل: إن حماداً تردد فيه: أهو مرفوع أم موقوف؟ وإسناده ليس بالقائم، نعم قد جاء بطرق عديدة مرفوعاً، فتقوى رفعه، وخرج من الضعف، لكن الاستدلال بما استدل به المصنف أجود وأولى، وهذا من تدقيق نظره رحمه الله ". اهـ كلام السندي. انظر إتحاف المهرة (13455)، أطراف المسند (4/ 250)، تحفة الأشراف (9677). والحديث له شاهدان: =

دليل من قال: يسن أخذ ماء جديد للأذنين

وجه الاستدلال: أن خروج الخطايا من الأذنين إنما كان ذلك بمسح الرأس، وهذا دليل على أنهما يمسحان معه بمائه، ولو كانا عضوين مستقلين يمسحان بماء جديد لما رتب على مسح الرأس خروج خطايا الأذنين. دليل من قال: يسن أخذ ماء جديد للأذنين. الدليل الأول: (878 - 107) ما رواه الحاكم من طريق الحسن بن سفيان، حدثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن حبان بن واسع، أن أباه حدثه أنه سمع عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أذنيه بغير الماء ¬

_ = الأول: حديث أبي هريرة رواه مالك في الموطأ (1/ 32) عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب. ولم يذكر مسح الرأس ولا الأذنين. ومن طريق مالك أخرجه أحمد (2/ 303)، ومسلم (244)، والترمذي (2)، والدارمي (718)، وابن خزيمة (4)، وابن حبان (1040) وغيرهم. الشاهد الثاني: حديث عمرو بن عبسة إلا أنه جعل خروج الخطايا من الرأس مع أطراف الشعر، ولم يذكر الأذنين. وقد أخرجه مسلم من حديث طويل (832) وفيه: " ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ". الحديث.

الذي مسح به رأسه (¬1). [المحفوظ في لفظ هذا الحديث: أنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه] (¬2). ¬

(¬1) المستدرك (1/ 151، 152). (¬2) الحديث أخرجه الحاكم (1/ 151) من طريق محمد بن أحمد بن أبي عبيد الله بمصر، ثنا عبد العزيز بن عمران بن مقلاص وحرملة بن يحيى قالا: أنبا ابن وهب به. بلفظ: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فأخذ لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إذا سلم من ابن أبي عبيد الله هذا، فقد احتجا جميعاً بجميع رواته. اهـ وابن أبي عبيد الله قال ابن عدي في الكامل (6/ 300): ولابن عثمان هذا غير حديث منكر مما لم أكتبه إلا عنه، وكنا نتهمه فيها. اهـ وذكره ابن يونس في الغرباء، وقال: كان يحفظ ويفهم روى مناكير، أراه كان اختلط، لا يجوز الرواية عنه. اللسان (5/ 36). وقال الدارقطني: لم يكن بالقوي. المرجع السابق. واختلف فيه على حرملة بن يحيى: فرواه عنه الحسن بن سفيان ومحمد بن أحمد بن أبي عبيد الله كما تقدم. ورواه ابن قتيبة وابن أسلم كما في تلخيص الحبير (1/ 158) عن حرملة بن يحيى به، بلفظ: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه. ولم يذكر الأذنين. وكما اختلف فيه على حرملة بن يحيى، اختلف فيه على شيخه ابن وهب: فرواه البيهقي (1/ 65) من طريق الهيثم بن خارجة، ثنا عبد الله بن وهب به. بلفظ: فأخذ لأذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذه لرأسه. قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح. ووراه جماعة عن ابن وهب، ولم يذكروا الأذنين منهم: سريج بن النعمان كما في مسند أحمد (4/ 41). ومنهم هارون بن معروف وهاورن بن سعيد الأيلي، كما في صحيح مسلم (236). وأبو الطاهر كما في صحيح مسلم (236) وأبي داود (120)، وسنن البيهقي (1/ 65): قال: وهذا أصح من الذي قبله: يعني بالذي قبله: حديث أخذ ماء جديد للأذنين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعلي بن خشرم كما في سنن الترمذي (35). فهولاء خمسة رواة رووه عن ابن وهب بأنه أخذ لرأسه ماء جديداً، فانقلب على بعض رواته، فجعلوه بأنه أخذ لأذنيه ماء جديداً، ولا شك أن الحديث واحد، ومخرجه واحد، ولا يحتمل أن يكونا حديثين مستقلين، وطريق حرملة بن يحيى قد اختلف عليه فيه. فتبين أن الأكثر على عدم ذكر الأذنين، وأن ذكرهما في الحديث شاذ، وقد حكم بشذوذ رواية الحاكم والبيهقي الحافظ ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام. وتابع ابن لهيعة ابن وهب، فرواه عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد إلا أنه اختلف فيه على ابن لهيعة: فرواه أحمد (4/ 39) حدثنا موسى بن داود، ورواه أيضاً (4/ 41) حدثنا الحسن بن موسى، كلاهما عن ابن لهيعة به، بلفظ: فمسح رأسه بماء غير فضل يديه كرواية عمرو بن الحارث. ورواه أحمد (4/ 42) من طريق ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن لهيعة به: بلفظ: ومسح رأسه بماء غبر فضل يديه. فبدل الياء باء، وصارت الكلمة فعلاً وليست اسماً. وهذا ليس خطأً من الرواة؛ لأن الإمام أحمد أشار في الحديث إلى الاختلاف في لفظه فإنه عندما ذكر رواية ابن المبارك، قال: فذكر معنى حديث حسن إلا أنه قال: ومسح رأسه بماء غبر من فضل يديه، ولو كانت اللفظة " غير " لم يكن هناك فرق بين لفظ ابن المبارك ولفظ حسن، ولما كان استثناء هذا اللفظ من الإمام أحمد له معنى لاتفاقهم على هذه اللفظة، والله أعلم. ورواه الدارمي (1/ 180) عن يحيى بن حسان، عن ابن لهيعة، عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، عن عمه عاصم المازني، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث. فزاد في إسناده: عاصم المازني. وهي زيادة منكرة جاءت من قبل حفظ ابن لهيعة يرحمه الله. قال الحافظ في إتحاف المهرة (6/ 387): كذا رأيت في نسختين من مسند الدارمي، وقوله: " عن عمه " زيادة لا حاجة إليها؛ فقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن موسى بن داود الضبي وغيره، عن ابن لهيعة، فلم يذكرها، ورواه مسلم وغيره من رواية عمرو بن الحارث، عن حبان بن واسع ولم يذكرها، والحديث مشهور من رواية عبد الله بن زيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (879 - 108) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع، أن ابن عمر كان يغسل ظهور أذنيه وبطونهما إلا الصماخ مع الوجه مرة أو مرتين، ويدخل أصبعيه بعد ما يمسح برأسه في الماء، ثم يدخلهما في الصماخ مرة، وقال: فرأيته وهو يموت توضأ، ثم أدخل إصبعيه في الماء، فجعل يريد أن يدخلهما في صماخه فلا يهتديان ولا ينتهي حتى أدخلت أنا أصبعي في الماء، فأدخلتهما في صماخه (¬1). [وسنده صحيح] ويجاب عنه: بما قاله ابن المنذر: وقد كان ابن عمر يشدد على نفسه في أشياء من أمر وضوئه، من ذلك أخذه لأذنيه ماء جديداً، ونضحه الماء في عينيه، وغسل قدميه سبعاً سبعاً، وليس على الناس ذلك. ثم قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عمر بن محمد، عن نافع، قال: كان ابن عمر ¬

= يعرف في الصحابة أحد يسمى عاصماً المازني، وعبد الله بن زيد: هو عبد الله ابن زيد بن عاصم.، فعاصم جده، لا عمه، وليست له صحبة. والله أعلم. فنخلص من هذا البحث: أن رواية ابن لهيعة فيها اختلاف، أرجحها رواية الحسن بن موسى وموسى بن داود عن ابن لهيعة لموافقتها رواية عمرو بن الحارث. وأما رواية ابن المبارك ويحيى بن حسان فهي مخالفة لرواية الجماعة. وأن المحفوظ من الحديث أنه أخذ ماء جديداً لرأسه، وليس لأذنيه، والله أعلم. انظر أطراف المسند (3/ 20)، تحفة الأشراف (5307)، إتحاف المهرة (7138، 6682). (¬1) المصنف (26).

الدليل الثالث

يغسل قدميه سبعاً سبعاً (¬1). قال الحافظ: رواه ابن المنذر بإسناد صحيح (¬2). الدليل الثالث: قال الأصمعي والمفضل بن سلمة: الأذنان ليستا من الرأس، وهما إمامان من أئمة اللغة، والمرجع في اللغة إلى نقل أهلها (¬3). الدليل الرابع: قال النووي: الإجماع منعقد على أنه لا يجزئ مسحهما عن الرأس، يعني: فهذا دليل على أنهما ليسا من الرأس (¬4). الدليل الخامس: قال النووي: لو قصر المحرم من شعرهما لم يجزئه عن تقصير الرأس بالإجماع، يعني: ولو كانا من الرأس لأجزأ (¬5). الدليل السادس: قال النووي: ولأن الإجماع منعقد على أن البياض الدائر حول الأذن ليس من الرأس مع قربه فالأذن أولى , ولأنه لا يتعلق بالأذن شيء من أحكام الرأس سوى المسح , فمن ادعى أن حكمها في المسح حكم الرأس فعليه البيان (¬6). ¬

(¬1) الأوسط (1/ 405). (¬2) الفتح (1/ 240). (¬3) المجموع (1/ 445). (¬4) المرجع السابق. (¬5) المرجع السابق. (¬6) المرجع السابق.

دليل من قال: الأذنان من الوجه

ويجاب عن ذلك كله: القول بأنهما عضوان مستقلان نظر عقلي في مقابل النص، فيكون نظراً فاسداً، وكون الأذنين لا يوخذ لهما ماء جديد، هذا حكم تلقيناه من الشارع في الوضوء، ولا يطرد هذا الحكم في كل العبادات كالإحرام وغيره إلا بنص، وكونهما عضوان مستقلان لا يمنع هذا من مسحهما من ماء واحد، يقابل ذلك أن الأنف والفم عضوان مستقلان ومع ذلك يتمضمض ويستنشق من كف واحدة، والله أعلم. دليل من قال: الأذنان من الوجه. لعله نظر إلى أن الأذنين تحصل بهما المواجهة، فأدخلهما في مسمى الوجه، وفي هذا نظر كبير. وكذلك من قال: إن باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس أيضاً ليس له دليل أعلمه، والله أعلم.

الفصل السابع: من سنن الوضوء التيامن

الفصل السابع: من سنن الوضوء التيامن ذهب الفقهاء إلى أن التيامن في الوضوء سنة من سننه. وقيل: يكره البداءة باليسار، وهو مذهب الشافعي (¬1). وقيل: إن الترتيب بين اليمنى واليسرى واجب، نُسِب هذا القول للإمام الشافعي وأحمد، ولا يثبت عنهما (¬2). أدلة الاستحباب: الدليل الأول: الإجماع. قال ابن المنذر: «أجمعوا على أن لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه» (¬3). وقال ابن قدامة مثله (¬4). وقال النووي: «وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، لو خالفهما فاته الفضل، وصح وضوؤه» (¬5). اهـ ¬

(¬1) شرح مسلم للنووي (1/ 160). (¬2) فتح الباري (1/ 270)، المبدع (1/ 110)، شرح الزركشي (1/ 178)، نيل الأوطار (1/ 201)، فتح الباري (1/ 270)، عمدة القارئ (3/ 32). (¬3) الأوسط (1/ 387). (¬4) المغني (1/ 153). (¬5) شرح مسلم (3/ 160).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (880 - 109) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. ورواه مسلم بنحوه (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (168)، ومسلم (268). والحديث مداره على الأشعث بن سليم، سمعت أبي يحدث عن مسروق، عن عائشة مرفوعاً. وقد رواه جماعة عن الأشعث بن سليم على اختلاف في ألفاظهم، من تقديم وتأخير، وزيادة ونقص. فأحدها لفظ البخاري الذي قدمناه في الباب: " كان النبي يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله ". اللفظ الثاني: ما رواه أحمد (6/ 94) من طريق بهز. والبخاري (426) من طريق سليمان بن حرب، كلاهما عن شعبة به، بلفظ: " كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره، وترجله، وتنعله ". وهو عند مسلم (67 - 268) دون قوله: " ما استطاع " مع تقديم وتأخير. اللفظ الثالث: بزيادة: الواو في قوله: " وفي شأنه كله " بلفظ: " كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ". قال الحافظ في الفتح (168): " للأثر من الرواة بغير واو، وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو، وهي التي اعتمدها صاحب العمدة " اهـ. وهل بين هذه الألفاظ من اختلاف؟ =

الدليل الثالث

فقولها: «يعجبه» ظاهر في الاستحباب في ما ذكر من التنعل والترجل والطهور. الدليل الثالث: (881 - 110) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن وأحمد بن عبد الملك، قالا: حدثنا زهير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا ¬

_ = فالجواب: أما على إثبات الواو، فإن الحديث ظاهره، أن التيامن سنة في جميع الأشياء، لا يختص بشيء دون شيء، ولفظ: " كل " صريح في العموم، خاصة وأنه جاء توكيداً بكلمة: " شأنه " المفردة المضافة الدالة على العموم بذاته، فكيف بعد توكيده بكلمة: "كل " إلا أن هذا العموم قد خص منه ما جاء في حديث عائشة أيضاً: " كان يد رسول - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولحاجته، وكانت اليسرى لخلائه، وما كان من أذى " ـ قلت: سنده صحيح ـ فهذا نص أن الأذى والخلاء له اليسرى. وأما على الرواية بدون واو فليس فيها هذا العموم، قال صاحب الفتح (168): وأما على إسقاطها فقوله: " في شأنه كله " متعلق بـ يعجبه، لا بالتيمن. أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله .. الخ أي لا يترك ذلك سفراً ولا حضراً ولا في فراغه، ولا شغله، ونحو ذلك". وجاء في بعض ألفاظ الحديث من دون قوله: " في شأنه كله " فقد رواه أحمد (6/ 147) عن محمد بن جعفر، ورواه أيضاً (6/ 202) عن يحيى بن سعيد القطان. وأخرجه البخاري (5926) عن أبي الوليد، ومن طريق عبد الله بن المبارك (5380) كلهم عن شعبة به بدون قوله " في شأنه كله ". ورواه مسلم (268) والترمذي (608) من طريق أبي الأحوص عن أشعث به. بدون ذكرها، والراجح والله أعلم أنها محفوظة، لأن محمد بن جعفر، وعبدان قد صرحا في آخر الحديث عن شعبة بأن أشعث كان قد قال بواسط: " في شأنه كله " فبين شعبة أن كلمة " في شأنه كله " ثبتت في السماع القديم، والسماع القديم مقدم على غيره.

الدليل الرابع

بأيامنكم. وقال: أحمد بميامنكم (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الرابع: أحاديث الصحابة رضي الله عنهم التي وصفت وضوءه في الصحيحين وفي غيرهما كلها اتفقت على تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى، والرجل ¬

(¬1) المسند (2/ 354). (¬2) الحديث أخرجه أبو داود (4141)، وابن ماجه (412) من طريق أبي جعفر النفيلي. وأخرجه ابن خزيمة (178)، والبيهقي (1/ 86) من طريق عمرو بن خالد. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (1090) من طريق عبد الرحمن بن عمرو البجلي. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6281) من طريق عبد الغفار بن داود. كلهم رووه عن زهير بن معاوية به. وأخرجه الترمذي (1766) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا شعبة، عن الأعمش به، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه. وهذه متابعة من شعبة لزهير بن معاوية، إلا أن شعبة قد اختلف عليه في رفعه ووقفه، ولذلك قال الترمذي عقب رواية الحديث من طريق عبد الصمد، قال: وروى غير واحد هذا الحديث عن شعبة بهذا الإسناد عن أبي هريرة موقوفاً، ولا نعلم أحداً رفعه غير عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة. اهـ قلت: قد رواه البغوي في شرح السنة (3156) من طريق يحيى بن حماد، عن شعبه به مرفوعاً. وهذه متابعة لعبد الصمد في رفعه عن شعبة، كما أن زهيراً رواه عن الأعمش مرفوعاً كما سبق. انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (7/ 223)، تحفة الأشراف (12380)، إتحاف المهرة (18055).

الدليل الخامس

اليمنى على الرجل اليسرى كحديث عثمان وعبد الله بن زيد، رضي الله عنهما، وهما في الصحيحين، وحديث ابن عباس وهو في البخاري وحديث علي رضي الله عنه وسبق تخريجه. الدليل الخامس: (882 - 111) من الآثار: ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن عوف، عن عبد الله بن عمرو بن هند، قال: قال علي: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت (¬1). [إسناده منقطع] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 43). (¬2) في إسناده عبد الله بن عمرو بن هند، ذكره البخاري في التأريخ الكبير، ولم يذكر فيه شيئاً (5/ 154). وكذا فعل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 118). قال الدارقطني: ليس بقوي. المغني في الضعفاء (1/ 349). وذكره ابن حبان في الثقات. (5/ 21). وفي التقريب: صدوق لم يثبت سماعه من علي. وانظر جامع التحصيل (387). ورواه ابن أبي شيبة (1/ 44) وذكره البيهقي (1/ 150) من طريق حفص، ورواه أبو عبيد في كتاب الطهور (ص: 352) ثنا هشيم. وأخرجه الدارقطني (1/ 87) من طريق علي بن مسهر، كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زياد، قال: قال علي: ... . فذكر نحوه. وزياد: هو مولى بني مخزوم، جاء في الجرح والتعديل (3/ 549) روى عن عثمان وأبي هريرة، وذكر عن ابن معين أنه قال: لا شيء. وظنه الحافظ في التعجيل (345) زياد بن أبي زياد: واسم أبيه ميسرة. اهـ وهذا ثقة، ومتأخر عن الأول؛ لأن الأول يروي عن عثمان والثاني يروي عن أنس، وكلاهما يروي عنه إسماعيل بن أبي خالد. قال في التعجيل: وسلف الحسيني في إفراده صاحب الميزان، فإنه أفرده بترجمة. يعني: فرقاً بينه =

الدليل السادس

(883 - 112) ومنها ما رواه أبو عبيد، ثنا هشيم: قال: أخبرنا المسعودي، عن سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين، أن ناساً سألوا ابن مسعود عن الرجل يبدأ بمياسره قبل ميامنه في الوضوء، فقال: لا بأس به (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). الدليل السادس: قال تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} وقال: {وأرجلكم إلى الكعبين} فجمع هذه الأعضاء، فتقديم الأيسر على الأيمن أو العكس لا يؤثر. قال أبو عبيد: حديث علي وعبد الله إنما هو في الأعضاء خاصة، وهذا جائز حسن؛ لأن التنزيل لم يأمر بيمين قبل يسار، ونما نزل بالجملة في ذكر الأيدي وذكر الأرجل، فهذا الذي أباح العلماء تقديم المياسر على الميامن (¬3). ¬

= وبين زياد مولى بني مخزوم زياد بن أبي زياد، والله أعلم، فإن كان زياد هذا هو ابن ميسرة كما ظنه الحافظ فالإسناد صحيح، وإلا كان ضعيفاً وهو صالح في المتابعات. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 388) من طريق الحارث عن علي، قال: لا يضرك بأي يديك بدأت، ولا بأي رجليك بدأت، ولا على أي جنبيك انصرفت. والحارث: هو الأعور ضعيف. (¬1) الطهور (ص: 354)، وقد أخرجه الدارقطني (1/ 89) من طريق الحسن بن عرفة، حدثنا هشيم به. وصحح إسناده. (¬2) رجاله ثقات إلا المسعودي فإنه صدوق اختلط قبل موته، وضابطه أن من سمع منه ببغداد فسماعه بعد الاختلاط، وقد ذكر العلماء الرواة الذين سمعوا منه بعد وقبل تغيره، ولم يذكروا هشيماً، وقد ذكر الحافظ أن هشيماً من الطبقة السابعة والمسعودي من السابعة فعلى هذا يكون هشيم من كبار تلاميذه وممن كان سماعه منه قبل تغيره خاصة وأن الدارقطني صحيح إسناده. (¬3) الطهور (ص:. . .).

دليل من قال: بالوجوب

دليل من قال: بالوجوب. (884 - 113) استدل بما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن وأحمد بن عبد الملك، قالا: حدثنا زهير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بأيامنكم. وقال أحمد: بميامنكم (¬1). [إسناده صحيح وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: إن الرسول أمر بالبداءة باليمين، والأصل في الأمر الوجوب حتى يأتي صارف يصرفه عن أصله، ولا صارف هنا. وسبق لنا أن القول بالوجوب لم يثبت عن أحمد والشافعي، وأن الصارف ما نقل من الإجماع على استحباب تقديم اليمين على اليسار، وأن من قدم يساره على يمينه في الوضوء فليس عليه إعادة. دليل من قال: بالكراهة. لم أعرف وجه الكراهة، ولا يلزم من ترك السنة الوقوع بالمكروه، ولعل وجه الكراهة عند الشافعي أنه خلاف الصفة التي داوم عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه، والله أعلم. ¬

(¬1) المسند (2/ 354). (¬2) انظر حديث (881).

الفصل الثامن: من سنن الوضوء الغسلة الثانية والثالثة

الفصل الثامن: من سنن الوضوء الغسلة الثانية والثالثة استحب الجمهور الغسلة الثانية والثالثة لجميع أعضاء الوضوء ما عدا الرأس والأذنين فلا يكرر مسحهما، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). واستحب الشافعية الثلاث حتى في الرأس (¬4). وقيل: الوضوء ما أسبغ، وليس فيه توقيت مرة أو ثلاث، وهو نص المدونة عن مالك (¬5). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 29)، بدائع الصنائع (1/ 22)، العناية شرح الهداية (1/ 31)، (¬2) حكم الغسلة الثانية والثالثة في مذهب المالكية أقوال، منها: أن الغسلة الثانية والثالثة فضيلتان، قال الحطاب في مواهب الجليل (1/ 59): وهذا هو المشهور. وقيل: إنهما سنتان. وقيل: الثانية سنة، والثالثة فضيلة. وهناك قول رابع سوف يأتي أنه لا توقيت في الوضوء، انظر مواهب الجليل (1/ 259، 260)، المنتقى للباجي (1/ 35)، الفواكه الدواني (1/ 145)، حاشية الدسوقي (1/ 101)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 122). (¬3) المغني (1/ 94)، الإنصاف (1/ 137). (¬4) المجموع (1/ 461) البيان في مذهب الشافعي (1/ 142)، روضة الطالبين (1/ 59)، واعتبر الماوردي في الحاوي الكبير (1/ 133) أن التكرار ثلاثاً من فضائل الوضوء، ولم يعده من سنن الوضوء. (¬5) جاء في المدونة (1/ 113): قال سحنون: قلت لعبد الرحمن بن القاسم: أرأيت =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الوضوء أكان مالك يوقت فيه واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً؟ قال: لا إلا ما أسبغ, ولم يكن مالك يوقت, وقد اختلفت الآثار في التوقيت. قال ابن القاسم: لم يكن مالك يوقت في الوضوء مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً. وقال: إنما قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فلم يوقت تبارك وتعالى واحدة من ثلاث. قال ابن القاسم: ما رأيت عند مالك في الغسل والوضوء توقيتاً لا واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثاً, ولكنه كان يقول: يتوضأ أو يغتسل ويسبغهما جميعا. اهـ واختلف المالكية في تفسير هذا الكلام من الإمام مالك، فقال الباجي في المنتقى (1/ 35) ما حكاه ابن القاسم عن مالك أنه لم يحد في الوضوء شيئاً، معنى ذلك أنه لم يحد فيه حداً لا يجوز التقصير عنه، ولا تجوز الزيادة عليه، وأما تحديد فرضه ونفله فمعلوم من قول مالك وغيره ولا خلاف فيه نعلمه، وذلك أن الفرض في الوضوء مرة والأصل في ذلك آية المائدة قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} المائد: 6. والأمر بالغسل أقل ما يقتضي فعله مرة واحدة؛ لأنه أقل ما يسمى به غاسلا لأعضاء الوضوء. وقد روي عن ابن عباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة " وأما النفل فمرتين وثلاثاً. وقد روى عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " توضأ مرتين مرتين " وروي عن عثمان أنه أراهم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً " وهو أكمل الوضوء وأتمه وهو حد للفضيلة. وأخذ ابن العربي كلام مالك على ظاهره، ولم يؤوله كما فعل الباجي، فقال في أحكام القرآن (2/ 77): المسألة الثامنة والأربعون: في تحقيق معنى لم يتفطن له أحد حاشا مالك بن أنس, لعظيم إمامته, وسعة درايته, وثاقب فطنته; وذلك أن الله تعالى قال: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} الآية، المائد: 6. وتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً, ومرتين في بعض أعضائه وثلاثاً في بعضها في وضوء واحد, فظن بعض الناس بل كلهم أن الواحدة فرض, والثانية فضل, والثالثة مثلها, والرابعة تعد, وأعلنوا بذلك في المجالس, ودونوه في القراطيس; وليس كما زعموا وإن كثروا, فالحق لا يكال بالقفزان, وليس سواء في دركه الرجال والولدان. اعلموا وفقكم الله أن قول الراوي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين وثلاثاً أنه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أوعب بواحدة, وجاء بالثانية والثالثة زائدة، فإن هذا غيب لا يدركه بشر; وإنما رأى الراوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غرف لكل عضو مرة, فقال: توضأ مرة, وهذا صحيح صورة ومعنى ; ضرورة أنا نعلم قطعا أنه لو لم يوعب العضو بمرة لأعاد; وأما إذا زاد على غرفة واحدة في العضو أو غرفتين فإننا لا نتحقق أنه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة وجاء ما بعدها فضلاً, أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنتين حتى زاد عليها بحسب الماء وحال الأعضاء في النظافة وتأتي حصول التلطف في إدارة الماء القليل والكثير عليها, فيشبه, والله أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يوسع على أمته بأن يكرر لهم الفعل, فإن أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة, فجرى مع اللطف بهم والأخذ لهم بأدنى أحوالهم إلى التخلص; ولأجل هذا لم يوقت مالك في الوضوء مرة ولا مرتين ولا ثلاثا إلا ما أسبغ. قال: وقد اختلفت الآثار في التوقيت, يريد اختلافا يبين أن المراد معنى الإسباغ لا صورة الأعداد, وقد توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم, فغسل وجهه بثلاث غرفات, ويده بغرفتين؛ لأن الوجه ذو غضون ودحرجة واحديداب, فلا يسترسل الماء عليه في الأغلب من مرة بخلاف الذراع فإنه مسطح فيسهل تعميمه بالماء وإسالته عليها أكثر مما يكون ذلك في الوجه. فإن قيل: فقد " توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة " وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. وتوضأ مرتين مرتين, وقال: من توضأ مرتين مرتين آتاه الله أجره مرتين. ثم توضأ ثلاثا ثلاثاً, وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي , ووضوء أبي إبراهيم. وهذا يدل على أنها أعداد متفاوتة زائدة على الإسباغ, يتعلق الأجر بها مضاعفاً على حسب مراتبها. قلنا: هذه الأحاديث لم تصح, وقد ألقيت إليكم وصيتي في كل وقت ومجلس ألا تشتغلوا من الأحاديث بما لا يصح سنده, فكيف ينبني مثل هذا الأصل على أخبار ليس لها أصل; على أن له تأويلاً صحيحاً, وهو أنه توضأ مرة مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، فإنه أقل ما يلزم, وهو الإيعاب على ظاهر هذه الأحاديث بحالها. ثم توضأ بغرفتين وقال: له أجره مرتين في كل تكلف غرفة ثواب. وتوضأ ثلاثاً وقال: هذا وضوئي ; معناه الذي فعلته رفقا بأمتي وسنة لهم ; ولذلك يكره أن يزاد على ثلاث; لأن الغرفة الأولى تسن العضو للماء وتذهب عنه شعث التصرف. والثانية ترحض وضر العضو، وتدحض وهجه. والثالثة تنظفه, فإن قصرت دربة أحد عن هذا كان بدويا جافيا فيعلم الرفق حتى يتعلم, ويشرع له سبيل الطهارة حتى ينهض إليها, ويتقدم; ولهذا قال من قال: " فمن زاد على الثلاث فقد أساء وظلم". اهـ

دليل من استحب الغسلة الثانية والثالثة فيما عدا الرأس

وهل الغسلة الثالثة أفضل من الثانية، والثانية أفضل من الواحدة مطلقاً؟ قيل: نعم (¬1). وقيل: من اعتاد الاقتصار على غسلة واحدة فإنه يأثم بذلك، اختاره بعض الحنفية (¬2). والصحيح أن الاقتصار على غسلة واحدة لا يكره، فضلاً عن كونه يأثم. والأفضل أن يتوضأ أحياناً مرة مرة، وأحياناً مرتين مرتين وأحياناً ثلاثاً ثلاثاً، وأحياناً يخالف بين الأعضاء فيغسل بعضها ثلاثاً وبعضها مرتين وبعضها مرة ليفعل السنة على جميع وجوهها (¬3). دليل من استحب الغسلة الثانية والثالثة فيما عدا الرأس. الدليل الأول: (885 - 114) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره، أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ثم قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. ورواه مسلم (¬4). ¬

(¬1) انظر المراجع السابقة في أقوال المذاهب. (¬2) البناية في شرح الهداية (1/ 124، 125). (¬3) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 337، 67). (¬4) صحيح البخاري (159)، ومسلم (236).

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: الحديث دليل على استحباب الثلاث غسلات، وأن السنة في الرأس مسحة مرة واحدة. الدليل الثاني: (886 - 115) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زائدة ابن قدامة، عن خالد بن علقمة، حدثنا عبد خير قال: جلس علي بعد ما صلى الفجر في الرحبة، ثم قال لغلامه: ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست. قال عبد خير: ونحن جلوس ننظر إليه، فأخذ بيمينه الإناء فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى، ثم غسل كفيه فعله ثلاث مرار قال عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فمضمض، واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاث مرات. الحديث وفي آخره قال: هذا طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أحب أن ينظر إلى طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا طهوره (¬1). [رجاله ثقات وسبق تخريجه والكلام على متنه] (¬2). وجه الدلالة من هذا الحديث كالحديث السابق على استحباب الثلاث فيما عدا الرأس. ¬

(¬1) المسند (1/ 135). (¬2) في فصل كون المضمضة باليمين والاستنثار بالشمال.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (887 - 116) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء قالت أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له الميضأة فتوضأ ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره وأدخل أصبعيه في أذنيه (¬1). [سبق تخريجه] (¬2). الدليل الرابع: (888 - 117) أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء. [إسناده حسن، وسبق الكلام عليه، والإشارة إلى أن لفظ: (أو نقص) وهم من الراوي] (¬3). ¬

(¬1) المسند (6/ 359). (¬2) انظر حديث (874). (¬3) سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: من النظر قالوا: الدليل على أن الرأس لا يشرع له التثليث أن الأصل في المسح التخفيف، ولذلك لا يمسح الوجه في التيمم ولا يمسح الخف في الوضوء، ولأن تكراره يؤدي إلى أن يصير المسح غسلاً فينافي مقصود الشارع من التخفيف في طهارته. دليل من قال: يستحب التثليث في الرأس. (889 - 118) ما رواه مسلم، من طريق أبي أنس (مالك بن عامر الأصبحي) أن عثمان توضأ بالمقاعد، فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً .... فقوله: «توضأ ثلاثاً ثلاثاً» يشمل ما يغسل وما يمسح. وأجيب: بأن الأحاديث التي ذكروا فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً أرادوا فيها ما سوى المسح، فإن رواتها حين فصلوا قالو: ومسح برأسه مرة واحدة، والتفصيل يحكم به على الإجمال، ويكون تفسيراً له، ولا يعارض به، كالخاص مع العام (¬1). وقال البيهقي تعليقاً على رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً، قال: وعلى هذا اعتمد الشافعي في تكرار المسح، وهذه روايات مطلقة، والروايات الثابتة المفسرة تدل على أن التكرار وقع فيما عدا الرأس من الأعضاء، وأنه مسح برأسه مرة واحدة (¬2). ¬

(¬1) المغني (1/ 180). (¬2) سنن البيهقي (1/ 62).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (890 - 119) ما رواه أبو داود، من طريق يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل، عن عامر بن شقيق بن حمزة، عن شقيق بن سلمة، قال: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا. [إسناد ضعيف وذكر التثليث في مسح الرأس منكر] (¬1). ¬

(¬1) هذا الحديث سبق الكلام عليه في أكثر من موضع، وانظر الكلام عليه وافياً في حديث رقم (845) وفيه عامر بن شقيق، قال في التقريب لين الحديث، ومداره على إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة، عن عثمان. واختلف على إسرائيل في ذكر مسح الرأس ثلاثاً، فقد تفرد يحيى بن آدم عن إسرائيل بذكر التثليث في مسح الرأس. ورواه وكيع كما في مسند أحمد (1/ 57) بذكر توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ولم يذكر مسح الرأس. ورواه عبد الرزاق كما في المصنف (125). وابن مهدي كما في رواية ابن الجارود (72)، وابن خزيمة (125). وأبو عامر العقدي كما في رواية ابن خزيمة (167). وعبيد الله بن موسى مقروناً برواية عبد الرزاق كما في مستدراك الحاكم (1/ 148، 149). وخلف بن الوليد كما في رواية ابن خزيمة (151). كلهم رووه عن إسرائيل، وذكروا مسح الرأس إلا أنهم لم يقولوا: ثلاثاً. وهذا دليل على ضعف عامر كما أسلفت، وليس البلاء من يحيى بن آدم، ولا من إسرائيل، وإنما علته عامر بن شقيق، فأحياناً يذكر فيه تخليل اللحية، وأحياناً يزيد فيه تخليل الأصابع، وأحياناً يذكر أن مسح الرأس ثلاثاً، وأحياناً يذكر بدون تثليث، وهذا دليل قوي لمن ضعف أمره بأنه غير حافظ، والله أعلم.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (891 - 120) ما رواه الدارقطني من طريق صالح بن عبد الجبار، ثنا البيلماني، عن أبيه، عن عثمان بن عفان أنه توضأ بالمقاعد، والمقاعد بالمدينة حيث يصلى على الجنائز عند المسجد، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، واستنثر ثلاثاً ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه ثلاثاً، وسلم عليه رجل، وهو يتوضأ، فلم يرد عليه حتى فرغ، فلما فرغ كلمه معتذراً إليه، وقال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من توضأ هكذا، ولم يتكلم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله غفر له ما بين الوضوئين (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 92). (¬2) في إسناده صالح بن عبد الجبار. قال ابن القطان: لا أعرفه إلا في هذا الحديث، وهو مجهول الحال. كما في نصب الراية (1/ 32). وفي إسناده ابن البيلماني محمد بن عبد الرحمن. قال فيه أبو حاتم الرازي: منكر الحديث، ضعيف الحديث، مضطرب الحديث. الجرح والتعديل (7/ 311). وقال البخاري: منكر الحديث، كان الحميدي يتكلم فيه. التأريخ الكبير (1/ 163). وقال النسائي: منكر الحديث. الكامل (6/ 178). وقال ابن عدي: وكل ما روي عن ابن البيلماني فالبلاء فيه من ابن البيلماني، وإذا روى عنه محمد بن الحارث فجميعاً ضعفاء، والضعف على حديثهما بين. تلخيص الكامل لابن الملقن (1661). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الحافظ ابن حجر: ضعيف جداً. تلخيص الحبير (1/ 84). وفي التقريب: قال: ضعيف فقط. وأما أبوه فضعفه الحافظ في التقريب والتلخيص (1/ 84). فالإسناد مظلم، يرويه ضعيف عن مثله، عن مثله. انظر إتحاف المهرة (13696). ومع ضعف إسناده فقد اختلف في إسناده، فرواه الدارقطني (1/ 92، 93) بالإسناد نفسه إلا أنه جعله من مسند ابن عمر، وهذا من تخليط ابن البيلماني، ودليل على ضعفه. وانظر إتحاف المهرة (9954). وأخرجه أحمد (1/ 61) حدثنا صفوان بن عيسى، عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم، قال: دخلت على ابن داره مولى عثمان، قال: فسمعني أمضمض، قال: فقال يا محمد. قال: قلت: لبيك. قال: ألا أخبرك بوضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: رأيت عثمان، وهو بالمقاعد دعاء بوضوء، فمضمض واستنشق ثلاثاً وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه، ثم قال: من أحب أن ينظر إلى وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن طريق صفوان بن عيسى أخرجه البيهقي في السنن (1/ 62، 63)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 36). وفي إسناده: زيد بن دارة، قال عنه الحافظ: مجهول الحال. تلخيص الحبير (1/ 84). وذكره في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولم يذكر راوياً عنه إلا محمد بن أبي عبيد الله بن أبي مريم. كما أن في إسناده محمد بن عبيد الله بن أبي مريم. ذكره الحافظ في التقريب، وعلم له علامة أبي داود، وإنما روى له أبو داود تعليقاً عقب حديث (54)، وقال عنه الحافظ في التقريب: مقبول، أي: إن توبع، وإلا فلين. والحق أنه أعلى درجة من تقدير الحافظ، فقد قال عنه يحيى القطان: لم يكن به بأس. الجرح والتعديل (7/ 306). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: شيخ مدني صالح الحديث. المرجع السابق. ومع ضعف إسناده فإنه منكر مخالف لرواية الصحيحين، فقد رواه الشيخان من طريق حمران، عن عثمان، ولم يذكر عن مسح الرأس إلا مرة واحدة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرج أبو داود (107) من طريق الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن وردان، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني حمران، قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ، فذكر نحوه - يعني: نحو حديث عطاء بن يزيد، عن حمران- ولم يذكر المضمضة والاستنشاق، وقال فيه: ومسح رأسه ثلاثاً، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ هكذا، وقال: من توضأ دون هذا كفاه. وأخرجه البيهقي (1/ 62) من طريق أبي داود به. وأخرجه أيضاً (1/ 62) من طريق أبي بكر ابن أبي داود، عن إسحاق بن منصور، عن الضحاك بن مخلد به. وأخرجه الدارقطني (1/ 91) من طريق يوسف بن موسى، أنا أبو عاصم (الضحاك بن مخالد) به. وهذا الحديث في إسناده عبد الرحمن بن ورادن، قال فيه أبو حاتم: ما بحديثه بأس. الجرح والتعديل (5/ 295). وقال ابن معين: صالح. المرجع السابق. ولم يقيد ابن معين الصلاح بحديثه، فيعني أنه صالح في دينه إذ لو كان يعني: الحديث، لقال: صالح الحديث، أو حديثه صالح أو نحوهما. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. المغني في الضعفاء (3650). وفي التقريب: مقبول. أي حيث يتابع وإلا فلين. فالإسناد فيه لين. وقال الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 45) تابعه عند البزار هشام بن عروة، عن أبيه، عن حمران. اهـ ولم أطلع على إسناده لأرى من رواه عن هشام. وقد رواه الزهري، كما في البخاري (160)، ومسلم (227). ومالك، كما في الموطأ (1/ 30) وابن حبان (1041). وسفيان بن عيينة، كما في سنن البيهقي (1/ 62) وصحيح ابن خزيمة (2). ويحيى بن سعيد القطان، كما في مسند أحمد (1/ 57)، وصحيح ابن خزيمة (2). وجرير عند مسلم (227). =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (892 - 121) ما رواه الدارقطني من طريق أبي كريب، نا مسهر بن عبد الملك بن سلع، عن أبيه، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ثلاثاً، وقال: هكذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببت أن أريكموه (¬1). [إسناده ضعيف، والمعروف من هذا الحديث أن المسح مرة] (¬2). ¬

= وابن جريج عند عبد الرزاق (141). وحماد بن سلمة كما في مسند الطيالسي (76). ووكيع كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 161). وأبو أسامة كما عند مسلم (227)، وابن خزيمة (2) تسعتهم رووه عن هشام، عن عروة، عن حمران، ولم يذكروا أن مسح الرأس ثلاث، كما في رواية البزار التي أشار إليها الحافظ، فإن كان الراوي ثقة فهي رواية شاذة لمخالفته الأئمة، وإن كان ضعيفاً فهي زيادة منكرة، والله أعلم. وذكر الحافظ متابعاً آخر عند البزار أيضاً من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق، عن حمران، وعبد الكريم قال النسائي: متروك. وقال أيوب: ليس بثقة. وانظر أطراف مسند أحمد (4/ 304)، تحفة (9796) إتحاف المهرة (13645) و (13647). (¬1) سنن الدارقطني (1/ 92). وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 123) حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا مسهر بن عبد الملك به. وذكر من صفة الوضوء إلى قوله: وغسل ذراعه الأيسر ثلاثاً، فقال: هذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه النسائي في الكبرى (161) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبا مسهر بن عبد الملك به. وذكر مسح الرأس ولم يقل: ثلاثاً. (¬2) وفي إسناده مسهر بن عبد الملك بن سلع. ذكره ابن أبي حاتم، فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. الجرح والتعديل (8/ 401). وقال البخاري: فيه بعض النظر. التأريخ الأوسط (2/ 274)، الكامل (6/ 457). =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (893 - 122) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عباس بن الفضل، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا ابن وهب، عن ابن جريج، عن محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده، ¬

_ = قال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (10/ 135). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويهم (9/ 197). وسئل عنه أبو داود، فقال: أما الحسن بن علي الخلال فرأيته يحسن الثناء عليه، وأما أصحابنا فرأيتهم لا يحمدونه. تهذيب التهذيب (10/ 135). وقال الحسن بن حماد الوراق: مسهر ثقة. مختصر كامل ابن عدي (1937). وعبد الملك بن سلع، ذكره ابن أبي حاتم وسكت عليه. الجرح والتعديل (5/ 353). وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وقال: كان ممن يخطئ. الثقات (7/ 104). وفي التقريب: صدوق. فالإسناد ضعيف من أجل مسهر بن عبد الملك بن سلع، وقد خالفه من هو أقوى منه، فرواه أحمد (1/ 110) حدثنا مروان، حدثنا عبد الملك بن سلع به. في صفة الوضوء، وفيه: ثم مسح بكفيه رأسه مرة. ومروان: هو ابن معاوية الفزاري، وثقه أحمد، وقال: كان من الحفاظ. ووثقه ابن معين والنسائي ويعقوب بن شيبة، وفي التقريب: ثقة حافظ، وكان يدلس أسماء الشيوخ. فهذا هو المعروف من حديث عبد الملك بن سلع، وقد رواه خالد بن علقمة، عن عبد خير به، واختلف على خالد: فرواه الدارقطني (1/ 89) من طريق أبي يحيى الحماني، ومن طريق أبي يوسف القاضي، كلاهما عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير به. وفيه: ومسح برأسه ثلاثاً. وخالف أبا حنيفة جماعة من الحفاظ الثقات منهم زائدة بن قدامة وسفيان الثوري وشعبة، وأبو عوانة وشريك وأبو الأِشهب جعفر بن الحارث وحازم بن إبراهيم وحسن بن صالح وجعفر الأحمر فرووه كلهم عن خالد بن علقمة به، وقالوا: ومسح برأسه مرة. وسبق الكلام على طرق الحديث وتخريجها فارجع إليه إن شئت.

عن علي أنه توضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل رجليه ثلاثاً، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (¬1). [رجاله ثقات إلا أن رواية ابن وهب عن ابن جريج متكلم فيها وقد خولف ابن وهب في هذا الحديث] (¬2). ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 63). (¬2) قال أحمد بن حنبل: في حديث ابن وهب عن ابن جريج شيء. قال أبو عوانة: صدق؛ لأنه يأتي عنه بأشياء لا يأتي بها غيره. وقد قال البيهقي (1/ 63): وقال فيه حجاج، عن ابن جريج: ومسح برأسه مرة. وحجاج هو ابن محمد المصيصي من رجال الجماعة وهي أرجح من رواية ابن وهب؛ لسببين: الأول: التكلم في رواية ابن جريج عن ابن وهب. السبب الثاني: أن هذه الرواية موافقة للأحاديث الصحيحة عن علي وغيره في كون المسح مرة واحدة. وروى الطبراني في مسند الشاميين (1336) من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبيد الله، عن عمير بن سعيد النخعي، عن علي أنه قال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: بلى. فأتي بطست من ماء فغسل كفيه، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً بماء واحد، ومضمض واستنشق ثلاثاً بماء واحد، وغسل رجليه ثلاثاً. وفي إسناده عبد العزيز بن عبيد الله. قال يحيى بن معين: ضعيف، لم يحدث عنه إلا إسماعيل بن عياش. الكامل (5/ 284)، الضعفاء للعقيلي (3/ 21). وقال أبو زرعة: مضطرب الحديث، واهي الحديث. تهذيب الكمال (18/ 171). وقال أبو حاتم: يروي عن أهل الكوفة وأهل المدينة، لم يرو عنه أحد غير إسماعيل بن عياش، وهو عندي عجيب ضعيف منكر الحديث، يكتب حديثه، يروي أحاديث مناكير ويروي أحاديث حساناً. تهذيب التهذيب (6/ 311). =

الدليل السادس

الدليل السادس: (894 - 123) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمود بن علي، ثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي، ثنا إسحاق بن محمد الفروي، عن يزيد بن عبد الملك، عن أبي موسى الحناط، عن محمد بن المنكدر، عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليمضمض ثلاثاً، فإن الخطايا تخرج من وجهه، ويغسل وجهه ويديه ثلاثاً، ويمسح برأسه ثلاثاً، ثم يدخل يديه في أذنيه، ثم يفرغ على رجليه ثلاثاً. قال الطبراني: لم يروه عن ابن المنكدر إلا أبو موسى، واسمه عيسى بن أبي عيسى، تفرد به يزيد (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

= وقال أبو داود: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. المرجع السابق. وضعف إسناده الحافظ بالتلخيص بعبد العزيز بن عبيد الله هذا. (¬1) مجمع البحرين (407). (¬2) في إسناده يزيد بن عبد الملك. قال أحمد: عند يزيد بن عبد الملك مناكير. الجرح والتعديل (9/ 278). وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً. المرجع السابق. وسئل عنه أبو زرعة، فقال: منكر الحديث. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين في رواية ابن أبي خيثمة عنه: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال عثمان الدارمي عن يحيى بن معين: ما كان به بأس. الكامل (7/ 260). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (645)، والكامل (7/ 260). وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. المرجع السابق. وقال أحمد بن صالح المصري: ليس حديثه بشيء. تهذيب التهذيب (11/ 304). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال البخاري: أحاديثه شبه لا شيء، وضعفه جداً. المرجع السابق. وفي إسناده أبو موسى: عيسى بن أبي عيسى الحناط، ويقال: الخياط: قال عمرو بن علي وأبو داود والنسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، مضطرب الحديث. وفي التقريب: متروك. انظر التأريخ الكبير (6/ 405)، معرفة الثقات (2/ 199)، الكامل (5/ 245)، الضعفاء الكبير (3/ 392)، تهذيب التهذيب (8/ 201)، تهذيب الكمال (23/ 15)، بحر الدم (806). فالحديث ضعيف جداً. والمعروف من حديث أنس رضي الله عنه ذكر المسح مرة واحدة. فقد أخرج الطبراني كما في مجمع البحرين (409) حدثنا إبراهيم، ثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، ثنا بكار بن سقير، حدثني راشد أبو محمد الحماني، قال: رأيت أنس بن مالك بالزاوية، فقلت له: أخبرني عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف كان؟ فإنه بلغني أنك كنت توضئه. قال: نعم، فدعاء بوضوء، فأتي بطست وبقدح نحت كما نحت في أرضه، فوضع بين يديه فأكفأ على يديه من الماء، فأنعم غسل كفيه، ثم تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ثم أخرج يده اليمنى، فغسلها ثلاثاً، ثم غسل اليسرى ثلاثاً، ثم مسح برأسه مرة واحدة غير أنه أمرها على أذنيه، فمسح عليهما، ثم أدخل كفيه جميعاً في الماء، فذكر الحديث. وهذا إسناد أرجو أن يكون حسناً، فشيخ الطبراني: إبراهيم بن هاشم البغوي وثقه الدارقطني كما في تاريخ بغداد (6/ 203). وإبراهيم بن الحجاج ذكره ابن أبي حاتم وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/ 93). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 78)، وأخرج له في صحيحه، والحاكم في المستدرك، ووثقه الدارقطني كما في تهذيب التهذيب (1/ 98). وفي التقريب: ثقة يهم قليلاً. وبكار بن سقير البصري المازني، قال البخاري: أثنى عليه عبد الرحمن بن المباك خيراً، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من العباد. التاريخ الكبير (2/ 122)، الثقات (6/ 107). =

دليل من قال: يمسح رأسه مرتين

قال الشوكاني رحمه الله: والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله بن زيد وغيرهما هو المتعين لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقةبالمرة الواحدة (¬1). اهـ دليل من قال: يمسح رأسه مرتين. (895 - 124) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ، قال: قالت: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضعنا له الميضأة، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخره، وأدخل أصبعيه في أذنيه. [سبق تخريجه في أدلة القول الأول] (¬2). الدليل الثاني: (896 - 125) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو ابن يحيى، عن أبيه، ¬

= وراشد الحماني. قال أبو حاتم: صالح الحديث. الجرح والتعديل (3/ 484). وذكره ابن حبان في الثقات (4/ 234)، وقال: ربما أخطأ. وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ. فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى، وهو صحيح لغيره لكثرة شواهده التي ذكرناها في أدلة القول الأول، والله أعلم. (¬1) نيل الأوطار (1/ 340). (¬2) سبق تخريجه، انظر حديث (873).

عن عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرتين، ومسح برأسه ورجليه مرتين (¬1). [الحديث رجاله ثقات إلا أن ابن عيينة أخطأ في هذا الحديث من وجهين] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 16). (¬2) الوجه الأول: قول سفيان كما في رواية النسائي (99) عن عبد الله بن زيد: وهو الذي أري النداء. والذي أري النداء هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وهذا عبد الله بن زيد بن عاصم. وقد خطَّأ جماعةٌ ابن عيينة منهم البخاري في صحيحه كما في باب تحويل الرداء في الاستسقاء، والنسائي في السنن (3/ 155)، والدارقطني في السنن (1/ 81). قال الحافظ: وقد اتفقا في الاسم واسم الأب والنسبة إلى الأنصار ثم الخزرج والصحبة والرواية، وافترقا في الجد والبطن الذي من الخزرج، لأن حفيد عاصم من مازن، وحفيد عبد ربه من بلحارث من الخزرج (2/ 581). الخطأ الثاني: قوله: إنه مسح برأسه مرتين، وقد رواه جماعة من عمرو بن يحيى ولم يقولوا ما قاله سفيان، منهم: الأول: مالك، كما في رواية البخاري (185)، ومسلم (235)، والموطأ (1/ 18)، ومصنف عبد الرزاق (5)، وأحمد (4/ 38)، والترمذي (32)، والنسائي (98)، وابن ماجه (434)، وابن حبان (1084). الثاني: وهيب بن خالد، كما في صحيح البخاري (186)، ومسلم (235)، والبيهقي (1/ 150)، وابن حبان (1077). الثالث: خالد بن عبد الله الطحان، كما في رواية البخاري (191)، ومسلم (235)، وأبو داود (119)، والترمذي (28). الرابع: عبد العزيز بن أبي سلمة بن أبي الماجشون، كما في صحيح البخاري (197)، وأبو داود (100)، وابن ماجه (471)، وابن حبان (1093). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الخامس: سليمان بن بلال كما في صحيح البخاري (199)، ومسلم (235). السادس: محمد بن فليح كما في سنن الدارقطني (1/ 82)، فهؤلاء ستة رواة جلهم في الصحيحين خالفوا سفيان في قوله: ومسح برأسه مرتين، ولم استقص البحث ولعلهم أكثر من ذلك بكثير، وكلهم اتفقوا على لفظ: ثم مسح برأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه. قال ابن عبد البر في التمهيد (3/ 216): أما الموضع الثاني الذي وهم فيه ابن عيينة فإنه ذكر فيه مسح الرأس مرتين، ولم يذكر فيه أحد مرتين غير ابن عيينة، وأظنه والله أعلم تأول الحديث قوله: " فمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر " وما ذكرنا عن ابن عيينة من رواية مسدد ومحمد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة كلهم ذكروا عن ابن عيينة ما حكينا عنه، وأما الحميدي فإنه ميز ذلك فلم يذكره، أو حفظ عن ابن عيينة أنه رجع عنه، فذكر فيه عن ابن عيينة ومسح رأسه، وغسل رجليه، فلم يصف المسح، ولا قال: مرتين، وقال في الإسناد: عن عبد الله بن زيد لم يزد، ولم يقل: ابن عاصم ولا ابن عبد ربه، فتخلص. اهـ وقد أشار أحمد في مسنده أنه سمع الحديث من ابن عيينة ثلاث مرات، قال مرة: ومسح برأسه مرة. وقال مرتين: ومسح برأسه مرتين، وهذا الاختلاف من سفيان يدل إما على رجوعه أو على عدم ظبطه لهذا الحديث، أو على روايته للحديث بالمعنى ولم يوفق، والله أعلم. كما رواه ابن خزيمة في صحيحه (156) من طريق سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان بن عيينة به، بلفظ " ثم مسح برأسه، بدأ بالمقدم، ثم غسل رجليه" ولم يقل: مرتين. كما رواه الدارقطني (1/ 82) من طريق سعيد بن منصور، عن سفيان به، ولم يذكر مسح الرأس. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه ابن أبي شيبة كما نقلته عنه في المتن، وأخرجه أحمد (4/ 40). وأخرجه النسائي (99) والدارقطني (1/ 852) عن محمد بن منصور. وأخرجه الترمذي 47) حدثنا ابن أبي عمر. وأخرجه الدارقطني (1/ 82) من طريق العباس بن يزيد وسعيد بن منصور. =

الراجح: أن الرأس لا يمسح إلا مرة واحدة، وأما ما يتعلق بسائر الأعضاء فالراجح فيه أنه يتوضأ أحياناً مرة مرة، وأحياناً مرتين مرتين، وأحياناً ثلاثاً ثلاثاً، وأحياناً يخالف بين أعضائه، فيغسل بعضها مرتين وبعضها مرة في فعل واحد، هكذا جاءت السنة: أما الوضوء ثلاثاً ثلاثاً فقد ذكرنا أدلته من حديث عثمان في الصحيحين وغيرهما. (897 - 126) وأما الوضوء مرة مرة، فقد أخرجه البخاري وغيره من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة (¬1). ¬

= وأخرجه البيهقي (1/ 63) من طريق محمد بن حماد. كلهم رووه عن سفيان بن عيينة به. وانظر إتحاف المهرة (7135)، أطراف المسند (3/ 21)، تحفة الأشراف (5308). (¬1) البخاري (157). وأما ما رواه ابن ماجه (419) من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة واحدة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله منه صلاة إلا به، ثم توضأ ثنتين ثنتين فقال: هذا وضوء القدر من الوضوء، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا أسبغ الوضوء، وهو وضوئي ووضوء خليل الله إبراهيم، ومن توضأ هكذا ثم قال عند فراغه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فتح له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء. فالحديث ضعيف جداً، فيه عبد الرحيم بن زيد العمي، وأبو زيد العمي ضعيفان، وسبق أن تكلمت على هذا الحديث وبينت الاختلاف في إسناده، وتكلمت على رجاله في حديث رقم (790) فأغنى عن إعادته هنا، فلله الحمد. وأما ما رواه الترمذي (46) من طريق وكيع، عن ثابت بن أبي صفية، قال: قلت لأبي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = جعفر: حدثك جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة؟ قال: نعم. ورواه الترمذي (45)، وابن ماجه (410) والدارقطني (1/ 81) من طريق شريك عن ثابت به، وزاد: ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً، قال: نعم. قال أبو عيسى: وهذا أصح من حديث شريك (يعني: لفظ وكيع) قال: لأنه قد روي من غير وجه هذا عن ثابت نحو رواية وكيع وشريك كثير الغلط. اهـ وكلمة أصح لا تعني الصحة المطلقة، وإنما مقارنة بلفظ شريك، والحديث بطريقيه ضعيف؛ لأن مدار الإسنادين على ثابت بن أبي صفية، وهو رافضي ضعيف على أن ابن أبي شيبة رواه عن شريك في المصنف بلفظ وكيع (66). وروى أبو نعيم في الحلية (7/ 232) من طريق مسعر، عن أبي حمزة (ثابت بن أبي صفية) به بلفظ وكيع. وروى الطبراني في الأوسط (6542) من طريق الحارث بن عمران الجعفري، عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة. قال الطبراني لم يرو هذا عن جعفر إلا الحارث بن عمران. اهـ والحارث ضعيف، ورماه ابن حبان بالوضع. ورى الطبراني في الأوسط (911) والدارقطني (1/ 81) من طريق الدراوردي، حدثنا عمر بن أبي عمر، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه، وغسل رجليه ثلاثاً، ورأيته مرة أخرى توضأ مرة مرة. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي رافع إلا بهذا الإسناد، تفرد به الداروردي. اهـ وعلته عمر بن أبي عمر الكلاعي، وهو ضعيف. وروى النسائي في سننه (113) من طريق أبي جعفر المدني قال: سمعت ابن عثمان بن حنيف يعني عمارة قال: حدثني القيسي أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأتي بماء فقال على يديه من الإناء =

وهو ظاهر القرآن فإن آية المائدة أمرت بغسل الأعضاء الأربعة، ولم تذكر عدداً، فمن غسل أعضاء الوضوء مرة واحدة فقد أدى ما افترض الله عليه، قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ¬

_ = فغسلهما مرة وغسل وجهه وذراعيه مرة مرة وغسل رجليه بيمينه كلتاهما. وسنده ضعيف، فيه عمارة بن عثمان بن حنيف، قال الذهبي: لا يعرف. وفي التقريب: مقبول. وروى أحمد (2/ 28)، وأبو يعلى الموصلي (5777) من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب، كان ابن عمر يتوضأ ثلاثاً يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عباس يتوضأ مرة مرة يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمطلب بن عبد الله بن حنطب لم يثبت سماعه من ابن عمر ولا من ابن عباس، قال البخاري فيما نقله العلائي في جامع التحصيل (774): لا أعرف للمطلب بن حنطب عن أحد من الصحابة سماعاً، وقال أبو حاتم: عامة أحاديثه مراسيل، لم يدرك أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا سهل بن سعد وأنساً وسلمة بن الأكوع أو من كان قريباً منهم". وقال في المراسيل (ص: 164): لا ندري أنه سمع منهما أم لا (يعني: ابن عمر وابن عباس). وأخرجه الإمام أحمد (2/ 8) وابن ماجه (414) عن الوليد بن مسلم، وأخرجه النسائي (81) وفي الكبرى (88)، وابن حبان (1092) من طريق عبد الله بن المبارك، كلاهما عن الأوزاعي به، من مسند ابن عمر وحده. وأخرجه الطيالسي في مسنده (2760) عن عبد الله بن المبارك. وأخرجه أحمد (1/ 219) حدثنا الوليد بن مسلم، كلاهما عن الأوزاعي به، مسند ابن عباس وحده. وقد ثبت الحديث من مسند ابن عباس عند البخاري (17) وسبق ذكره، انظر حديث (898).

الدليل على استحباب مرتين مرتين

فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬1). وأما الدليل على استحباب مرتين مرتين. (898 - 127) ما رواه البخاري، من طريق فليح بن سليمان، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين (¬2). وهذا الحديث غير حديث عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد فإن مخرج الحديث مختلف. وله شاهد من حديث أبي هريرة، (899 - 128) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن عبد الرحمن بن ثوبان، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) البخاري (158). (¬3) المصنف (1/ 18). (¬4) ومن طريق زيد بن الحباب أخرجه أحمد (2/ 288) أبو داود (136)، والترمذي (43)، وابن حبان (1049)، والحاكم (1/ 150) والبيهقي (1/ 79) ورواه ابن الجاورد في المنتقى (71) حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح ابن مسلم العجلي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به، بلفظ: ربما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ مثنى مثنى. =

وأما الدليل على استحباب غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثاً، (900 - 129) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثاً ثم ¬

_ = وعبد الرحمن بن ثوبان فيه ضعف من قبل حفظه، جاء في ترجمته: عن أحمد أحاديثه مناكير. الجرح والتعديل (5/ 219). وقال مرة: لم يكن بالقوي في الحديث. تهذيب التهذيب (6/ 152) ضعفاء العقيلي (2/ 326)، المغني في الضعفاء (2/ 377) وقال ابن معين: صالح الحديث. الجرح والتعديل (5/ 219). وقال مرة: ضعيف وأبوه ثقة. الكامل (4/ 281). وقال أيضاً: ضعيف يكتب حديثه على ضعفه، وكان رجلاً صالحاً. المرجع السابق. وقال ابن معين في رواية عباس: ليس به بأس. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال العجلي: شامي لا بأس به. معرفة الثقات (2/ 73). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 92). وقال يعقوب بن شيبة: اختلف أصحابنا فيه، فأما يحيى بن معين فكان يضعفه، وأما علي ابن المديني فكان حسن الرأي فيه. تهذيب الكمال (17/ 15). وفي التقريب: صدوق يخطئ ورمي بالقدر، وتغير بآخره. اهـ ولم أقف على من ميز حديثه قبل وبعد تغيره. انظر طرق الحديث: إتحاف المهرة (19103)، أطراف المسند (7/ 367)، تحفة الأشراف (13940).

غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه. ورواه مسلم (¬1). فهل كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً هل يفهم من ذلك أنه فعله لبيان الجواز، وأن الثلاث أفضل مطلقاً لكونها أكثر من غيرها؟ أو يكون ذلك من باب تنوع العبادة، ويكون الاستحباب أن يفعل هذا مرة وهذا مرة وهذا مرة؟ قولان لأهل العلم. فقيل: إن الثلاث أكمل من الثنتين، والثنتان أكمل من الواحدة والاقتصار على الواحدة دليل على الإجزاء. قال النووي: قد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة، وأن الثلاث سنة، وقد جاءت الأحاديث بالغسل مرة مرة، ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً، وبعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين والاختلاف دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ. والصحيح: أن ذلك من باب تنوع العبادة، وأن السنة أن يفعل كل هذه الأفعال؛ لإصابة السنة من جميع وجوهها الواردة، فإن الكمال أن يفعل المسلم ما يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬2)، وتمام المتابعة أن يفعل هذا مرة، وهذا مرة، وهذا مرة كما فعل المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحتى لا تكون العبادة من قبيل العادة، شأنها شأن العبادات التي وردت من وجوه مختلفة كدعاء الاستفتاح وأنواع التشهد ونحوهما. ¬

(¬1) البخاري (185)، ومسلم (235). (¬2) الأحزاب: 21.

وهل تكرار هذه الأعضاء في بعضها مرة، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها ثلاث، هل هو على سبيل التشهي؟ أو السنة أن يكون التكرار موافقاً للتكرار الوارد في السنة؟ فما ورد أنه غسل مرة يغسل مرة، وما ورد أنه غسل مرتين يغسله مرتين وهكذا، لا شك أن الأولى الثاني، وإن فعل الأول فلا بأس حيث قد ورد غسل هذه الأعضاء من حيث الجملة مرة ومرتين وثلاثاً، والله أعلم.

الفصل التاسع: استحباب الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه

الفصل التاسع: استحباب الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه اعتبر الحنفية الاقتصاد في ماء الوضوء من آداب الوضوء (¬1). وقيل: إن كان الماء موقوفاً على من يتطهر أو يتوضأ فإن الإسرف حرام، وكذلك الزيادة على الثلاث، قال ابن نجيم من الحنفية: بلا خلاف (¬2). وقيل: الاسراف في ماء الوضوء مكروه، وعليه أكثر أهل العلم (¬3). ¬

(¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 23): أن لا يسرف في الوضوء ولا يقتر , والأدب فيما بين الإسراف , والتقتير , إذ الحق بين الغلو والتقصير, قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خير الأمور أوسطها ". وانظر البحر الرائق (1/ 29). (¬2) انظر تحفة المحتاج (1/ 231)، الفتاوى الهندية (1/ 8) وقال في البحر الرائق (1/ 30): الإسراف: هو الاستعمال فوق الحاجة الشرعية, وإن كان على شط نهر، وقد ذكر قاضي خان تركه من السنن، ولعله الأوجه، فعلى كونه مندوباً لا يكون الإسراف مكروهاً، وعلى كونه سنة يكون مكروهاً تنزيها، وصرح الزيلعي بكراهته، وفي المبتغى أنه من المنهيات فتكون تحريمية وقد ذكر المحقق آخراً: أن الزيادة على ثلاث مكروهة, وهي من الإسراف , وهذا إذا كان ماء نهر أو مملوكاً له, فإن كان ماء موقوفاً على من يتطهر أو يتوضأ حرمت الزيادة والسرف بلا خلاف وماء المدارس من هذا القبيل; لأنه إنما يوقف ويساق لمن يتوضأ الوضوء الشرعي. (¬3) وقال في مواهب الجليل (1/ 256): من فضائل الوضوء أي مستحباته تقليل الماء من غير تحديد في ذلك , وكذلك الغسل يستحب فيه تقليل الماء من غير تحديد، قال في شرحه: (تنبيهات الأول) ما ذكره المصنف من أن تقليل الماء في الوضوء والغسل مستحب صرح به القاضي عياض في قواعده، والقرافي في الذخيرة، والشبيبي وغيرهم، وقاله في النوادر، وسيأتي لفظها، وأصل المسألة في المدونة، وفي رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الطهارة، قال في المدونة: وأنكر مالك قول من قال في الوضوء حتى يقطر الماء أو يسيل , وقد كان =

دليل من قال بالتحريم

وقيل: يحرم، اختاره البغوي والمتولي من الشافعية (¬1) وأومأ إليه ابن تيمية (¬2). دليل من قال بالتحريم: الدليل الأول: (901 - 130) ما أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا ¬

= بعض من مضى يتوضأ بثلث المد. ولفظ الأم وسمعت مالكا يذكر قول الناس في الوضوء حتى يقطر أو يسيل , قال: فسمعته يقول: قطر قطر إنكاراً لذلك. الخ كلامه رحمه الله. وقال النووي في المجموع (1/ 220): والمشهور أنه مكروه كراهة تنزيه. يعني: الإسراف في الوضوء. وانظر شرح منتهى الإرادت (1/ 87)، كشاف القناع (1/ 103). قال ابن حزم في المحلى (مسألة: 208): ويكره الإكثار من الماء في الغسل والوضوء , والزيادة على الثلاث في غسل أعضاء الوضوء ومسح الرأس ; لأنه لم يأت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ذلك. (¬1) المجموع (1/ 220). (¬2) قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/ 224): الذي يكثر صب الماء حتى يغتسل بقنطار ماء , أو أقل , أو أكثر: مبتدع مخالف للسنة , ومن تدين عوقب عقوبة تزجره وأمثاله عن ذلك , كسائر المتدينين بالبدع المخالفة للسنة.

الدليل الثاني

الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء. [إسناده حسن، وزيادة (أو نقص) وهم من الراوي، وسبق تخريجه] (¬1). الدليل الثاني: (902 - 131) ما رواه أحمد، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نعامة، أن عبد الله بن مغفل سمع ابناً له يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض من الجنة إذا دخلتها عن يميني، قال فقال له: يا بني سل الله الجنة، وتعوذه من النار؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سيكون من بعدي قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور (¬2). [رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعاً] (¬3). ¬

(¬1) سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة. (¬2) مسند أحمد (4/ 87). (¬3) حماد بن سلمة سمع من الجريري قبل الاختلاط، انظر الكواكب النيرات (ص:183) وتدريب الراوي (2/ 373). إلا أن أبا نعامة لم يسمع من عبد الله بن مغفل، وإنما يروي عن ابن عبد الله بن مغفل، عن عبد الله بن مغفل، قال الذهبي في تلخيص المستدرك (1/ 162):"فيه إرسال ". واختلف على حماد بن سلمة، فرواه عفان، وسليمان بن حرب، وعبد الصمد، وموسى بن إسماعيل، وكامل بن طلحة، كلهم رووه عن حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نعامة، عن عبد الله بن مغفل، منقطع بين أبي نعامة، وبين عبد الله بن مغفل. ورواه أحمد (4/ 86) عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن أبي نعامة به. ورواية الجماعة أولى بالصواب. ورواه ابن حبان (6763) أخبرنا الفضل بن حباب، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن عبد الله بن المغفل، فجعل بدلاً من أبي نعامة أبا العلاء، ورواية الجماعة أولى بالصواب، خاصة أن فيهم عفان، وقد قال يحيى بن معين: من أراد أن يكتب حديث حماد بن سلمة فعليه بعفان بن مسلم، ولم يتابع أبو الوليد الطيالسي في روايته عن حماد، وقد قال أبو حاتم في تهذيب الكمال في ترجمة أبي الوليد الطيالسي، بأن سماعه من حماد فيه شيء، وكأنه سمع منه بآخرة، وكان حماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 53) ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (3864) عن عفان. وأخرجه أحمد (5/ 55) حدثنا عبد الصمد وعفان. وأخرجه أبو داود (96) وابن ماجه (3864) والحاكم (1/ 162) عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه ابن حبان (6763)، والحاكم (1/ 540) من طريق أبي الوليد الطيالسي. وأخرجه البيهقي (1/ 196، 197) نا محمد بن أيوب، ثنا محمد بن إسماعيل به. ورواه ابن حبان (6764) من طريق كامل بن طلحة كلهم عن حماد بن سلمة به. كما أن له شاهداً من حديث سعد بن أبي وقاص، أخرجه أحمد (1/ 172) قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن زياد بن مخراق، قال سمعت أبا عباية، عن مولى لسعد أن سعداً رضي الله تعالى عنه سمع ابناً له يدعو، وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها، ونحو من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} الأعراف: 55. وإن حسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة، وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. =

ولذلك قال ابن المبارك: لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم. ¬

_ = وأبو عباية: هو قيس بن عباية، وهو أبو نعامة، فحديث عبد الله بن مغفل، وحديث سعد مخرجه قيس بن عباية، وقد صرح الحسيني في الإكمال أن أبا عباية، هو قيس بن عباية، انظر الإكمال (732)، وفي إسناد أبي يعلى، قال: " ابن عباية " بدلاً من أبي عباية. وقال الحافظ في تعجيل المنفعة (1319): " أبو عباية، عن مولى لسعد بن أبي وقاص، هو قيس بن عباية، وهو من رجال التهذيب ". وقال الأثرم: سألت أحمد عنه - يعني زياد بن مخراق - فقال: ما أدري. قال: وقلت له روى حديث سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يكون بعدي قوم يعتدون في الدعاء، فقال: نعم، لم يقم إسناده اهـ. والحديث ضعيف، له أكثر من علة. العلة الأولى: الاختلاف في إسناده، فتارة يحدث به ابن عباية، من مسند عبد الله بن المغفل، وتارة يحدث به من مسند سعد. العلة الثانية: جهالة مولى سعد بن أبي وقاص. [تخريج الحديث] الحديث رواه أبو داود الطيالسي (200) قال: حدثنا شعبة، قال أخبرني زياد بن مخراق، قال: سمعت أبا عباية، شك أبو داود أن سعداً سمع ابنا له يقول: اللهم إني أسألك الجنة، وذكر الحديث. وسقط من إسناده مولى سعد. ومن طريق أبي داود أخرجه الدورقي (91). وأخرجه ابن أبي شيبة (6/ 53) حدثنا عبيد بن سعد، عن شعبة به. وتصحفت عباية إلى صبابة. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (715) من طريق شبابة بن سوار، حدثنا شعبة به. وأخرجه الطبراني في الدعاء (55) من طريق عاصم، عن شعبه به. وأخرجه أبو داود (1480) والطبراني في الدعاء (56) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة به غير أنه لم يذكر فيه مولى سعد بن أبي وقاص. انظر طرق الحديث في أطراف المسند (4/ 242)، تحفة الأشراف (9664)، إتحاف المهرة (13432).

دليل من قال: بالكراهة

وقال أحمد وإسحاق: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى. اهـ يعني: مبتلى بمرض الوسوسة، أعاذنا الله وإياكم منها. دليل من قال: بالكراهة. قال الشوكاني: لا خلاف في كراهة الزيادة على الثلاث. والحق أن في ذلك خلافاً على ما تبين، فمنهم من اعتبر الاقتصاد من الآداب التي يؤجر على فعلها، ولا يلزم من الإخلال بها الوقوع في المكروه كما يراه بعض الحنفية. ولقد قال الشافعي في الأم: لا أحب للمتوضئ أن يزيد على الثلاث، وإن زاد لم أكرهه إن شاء الله تعالى. ومنهم من رأى تحريم الزيادة كما حررت ذلك عند ذكر الأقوال. دليل من اعتبر الاقتصاد من الآداب. لعله رأى أن ترك السنة لا يلزم منه الوقوع في المكروه، وهذا حق لولا أنه جاء من الأحاديث ما يدل على ذم الزيادة على الثلاث، والله أعلم. الراجح: أما بالنسبة للعدد، فالزيادة على الثلاث إن لم تكن محرمة فهي مكروهة كراهة شديدة؛ لأنه قد ورد النهي عن الزيادة على الثلاث، وهو أكثر ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما بالنسبة لمقدار الماء المستعمل في الوضوء فلم يأت له حد من الشرع، بحيث لا يتجاوزه الإنسان، والناس يختلفون في هذا بدانة ونحافة، والمياه في عصرنا تأتي عن طريق الصنابير التي تدفع الماء دفعاً، لا يمكن معه

التقيد بالمقدار الوارد إلا أن يأخذ الإنسان الماء في إناء، ويغلق الصنبور، وقد لا يتوفر الإناء في كل مكان، والأحاديث الواردة في مقدار وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها تدل على أن كمية الماء ليس فيها حد بمقدار معين، وإنما الأمر تقريبي. أما قول الشيخ عز الدين بن عبد السلام: للمتوضئ والمغتسل ثلاث أحوال: الأول: أن يكون معتدل الخلق كاعتدال خلقه - صلى الله عليه وسلم -، فيقتدي به في اجتناب النقص عن المد والصاع. الثاني: أن يكون ضئيلاً نحيف الخلق، بحيث لا يعادل جسده جسد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيستحب له أن يستعمل ما تكون نسبته إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسده - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: أن يكون متفاحش الخلق طولاً وعرضاً، وعظم البطن وثخانة الأعضاء، فيستحب أن لا ينقص عن مقدار تكون النسبة إلى بدنه كنسبة المد والصاع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فاحتساب هذه النسبة التي ذكرها عز الدين بن عبد السلام من المشقة التي لم نؤمر بها، ومن يعرف دقة هذه النسبة، بل إن الآثار تدل على أن لا تقدير في الباب. (903 - 132) فمنها حديث أنس رضي الله عنه، عند البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد». (904 - 133) ومنها حديث عائشة في مسلم، عن حفصة بنت عبد ¬

(¬1) رقم الحديث (201). (¬2) رقم الحديث (326).

الرحمن بن أبي بكر «أن عائشة أخبرتها أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد، أو قريباً من ذلك» (¬1). (905 - 134) ومنها حديث عبد الله بن زيد: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بثلثي مد، فتوضأ، فجعل يدلك ذراعيه (¬2). ¬

(¬1) رقم الحديث (321). (¬2) أخرجه ابن حبان كما في الموارد (155) من طريق ابن أبي زائدة، عن شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد. ورجاله ثقات. ورواه البيهقي (1/ 196) من طريق أبي زائدة به. وأخرجه البيهقي أيضاً (1/ 196) من طريق سليمان بن داود، ثنا أبو خالد الأحمر، ثنا شعبة به، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بنحو من ثلثي المد. وأخرجه أبو داود الطيالسي (1099) ومن طريقه أحمد (4/ 39) حدثنا شعبة به، بلفظ: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فدلك ذراعيه .. ورواه ابن حبان كما في الموارد (156) من طريق يحيى بن سعيد، عن شعبة به، فذكر نحوه. واختلف على شعبة فيه: فرواه ابن أبي زائدة وأبو داود الطيالسي ويحيى بن سعيد وأبو خالد الأحمر عن شعبة كما سبق. وخالفهم غندر (محمد بن جعفر) فرواه أبو داود (94) والنسائي (74)، والبيهقي (1/ 196) أخبرنا محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن حبيب، قال: سمعت عباد بن تميم يحدث جدته، وهي أم عمارة بنت كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأتي بماء في إناء قدر ثلثي المد. زاد النسائي: قال شعبة: فأحفظ أنه غسل ذراعيه، وجعل يدلكهما، ويمسح أذنيه باطنهما، ولا أحفظ أنه مسح ظاهرهما. فجعل محمد بن جعفر الحديث من مسند أم عمارة. =

فتبين من هذه الأحاديث أن لا تقدير للوضوء بحد لا يجوز النقص عنه أو الزيادة عليه. قال الحافظ في شرحه لحديث أنس المتقدم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، قال: فيه رد على من قدر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث الباب - يعني الصاع والمد - كابن شعبان من المالكية وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم لهم في مقدار المد والصاع، وحمله الجمهور على الاستحباب؛ لأن أكثر من قدر وضوءه وغسله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة قدرهما بذلك، الخ كلامه رحمه الله (¬1). ¬

= قال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 25) سألت أبا زرعة عن حديث رواه يحيى بن أبي زائدة وأبو داود عن شعبة، فذكر الحديث، ثم قال: ورواه غندر، عن شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن جدته أم عمارة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو زرعة: الصحيح عندي حديث غندر. اهـ قلت: لعله رجح حديث غندر؛ لأنه من أثبت الناس عن شعبة. ولأن حديث عبد الله بن زيد المشهور في الصحيحين وفي غيرهما لم يذكروا فيه الدلك ولا مقدار الماء، لكن هذا الاحتمال يبعد مع رواية يحيى بن سعيد، وهو من هو، وأيضاً ابن أبي زائدة والطيالسي وأبو خالد الأحمر، فلعل الحديث ثابت من الطريقين، ولعل عباداً سمعه من عمه، ومن جدته، والله أعلم. (¬1) فتح الباري (201).

الفصل العاشر: في مسح العنق

الفصل العاشر: في مسح العنق قيل: يستحب في الوضوء مسح العنق، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: لا يستحب، وهذا مذهب الجمهور، وهو الصحيح (¬4). دليل الحنفية على استحباب مسح العنق: (906 - 135) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال حدثني أبي قال: حدثنا ليث، عن طلحة، عن أبيه، عن جده، أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح رأسه حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق بمرة (¬5). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 29)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 49)، المبسوط (1/ 10)، شرح فتح القدير (1/ 36)، بدائع الصنائع (1/ 23)، وهناك قول في مذهب الحنفية، أن مسح الرقبة بدعة، انظر شرح فتح القدير (1/ 36). (¬2) الوسيط للغزالي (1/ 288)، روضة الطالبين (1/ 61). (¬3) شرح العمدة (1/ 193). (¬4) يرى المالكية كراهية مسح الرقبة، انظر حاشية الدسوقي (1/ 103)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 128)، المنهج القويم (ص: 47)، إعانة الطالبين (1/ 49)، روضة الطالبين (1/ 61)، مغني المحتاج (1/ 60)، المبدع (1/ 112)، الإنصاف (1/ 137)، الروض المربع (1/ 48). (¬5) المسند (3/ 418).

قال: القذال السالفة العنق. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬

(¬1) في إسناده ليث بن أبي سليم، قال فيه الحافظ: صدوق، اختلط جداً فلم يتميز، فترك. وفي إسناده أيضاً والد طلحة، مصرف بن كعب، وقيل: ابن عمرو بن كعب، لم يرو عنه إلا ولده طلحة، ولم يوثقه أحد، ولذلك قال بن حجر في التقريب: مجهول. وذكر أبو داود عن أحمد قوله: كان ابن عيينة ينكره، ويقول: إيش هذا طلحة عن أبيه عن جده، وكذلك حكى عثمان الدارمي عن علي بن المديني". اهـ انظر سنن البيهقي (1/ 51)، وتلخيص الحبير (1/ 78). وقال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام كما في البدر المنير (3/ 284): وعلة الخبر عندي الجهل بحال مصرف بن عمرو، والد طلحة بن مصرف ". اهـ وفي إسناده جد طلحة، وقد اختلف هل له صحبة أم لا على قولين، سبق أن ذكرتهما في الكلام على حديث الفصل بين المضمضة والاستنشاق. والحديث أخرجه أبو داود (132)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 30)، والطبراني في الكبير (19/رقم 407، 408) من طريق عبد الوارث به. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 27) عن حفص بن غياث، عن ليث به، بلفظ: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح رأسه هكذا، وأمر حفص بيديه على رأسه حتى مسح قفاه. وهذا اللفظ لا اعتراض عليه موافق لحديث عبد لله بن زيد في الصحيح: " بدأ بمقدم رأسه حتى ذهبا بهما إلى قفاه. وأخرجه البيهقي (1/ 60) من طريق طلق بن غنام وعمر بن حفص بن غياث، كلاهما عن حفص بن غياث بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مسح رأسه استقبل رأسه بيديه حتى يأتي على أذنيه وسالفته. وأخرجه البيهقي (1/ 60) من طريق يحيى الحماني، ثنا حفص بن غياث، عن ليث به، بلفظ: ولفظه: أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث توضأ مسح رأسه وأذنيه، وأمر يديه على قفاه. وقد ضعف إسناده كل من البيهقي والنووي والحافظ ابن حجر. قال النووي في المجموع (1/ 488) ضعيف بالاتفاق، وانظر تلخيص الحبير (1/ 92).

الدليل الثاني: (907 - 136) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيى، أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟. فقال عبد الله بن زيد: نعم، وفيه: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح قفاه عند مسح رأسه، والعنق يدخل في القفا. ولا يصح هذا الاستدلال: لأن قوله: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، فالضمير في قفاه يعود إلى أقرب مذكور، وهو الرأس، والعنق ليس من الرأس. الدليل الثالث: (908 - 137) قال أبو نعيم في تاريخ أصبهان: ثنا محمد بن أحمد، ثنا عبد الرحمن بن داود، ثنا عثمان بن خرزاد، ثنا عمر بن محمد بن الحسن، ثنا محمد بن عمرو الأنصاري، عن أنس بن سيرين، عن ابن عمر أنه كان إذا توضأ مسح عنقه، ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:من توضأ، ومسح عنقه لم يغل بالأغلال يوم القيامة (¬2). [لا يثبت في مسح العنق حديث مرفوع] (¬3). ¬

(¬1) البخاري (185)، ومسلم (235). (¬2) تلخيص الحبير (1/ 93). (¬3) وقال ابن الملقن في البدر المنير (1/ 38): غريب لا أعرفه إلا من كلام موسى بن =

دليل الجمهور على عدم استحباب مسح العنق

دليل الجمهور على عدم استحباب مسح العنق. قالوا: لم يثبت في مسح العنق شيء، والأصل عدم المشروعية، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد فيه مسح العنق، وإذا لم يثبت فيه شيء كان التقرب به بدعة للحديث من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، وهذا القول هو الصحيح. ¬

_ = طلحة، كذلك رواه أبو عبيد في غريبه. اهـ وقد نقل إسناده الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 92)، فقال: ما رواه أبو عبيد في كتاب الطهور عن عبد الرحمن بن مهدي، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن موسى بن طلحة قال: من مسح قفاه مع رأسه وقي الغل يوم القيامة. قال الحافظ: فيحتمل أن يقال: هذا وإن كان موقوفاً فله حكم الرفع؛ لأن هذا لا يقال من قبل الرأي، فهو على هذا مرسل. اهـ قلت: والمرسل من قبيل الضعيف. وروي بلفظ: مسح العنق أمان من الغل. قال ابن الملقن في البدر المنير (1/ 38): لا يعرف مرفوعاً وإنما هو قول بعض السلف، وقال النووي في شرح أعطى وغيره موضوع. اهـ وقال النووي في كلامه على الوسيط نقلاً من البدر المنير (1/ 38): لا يصح في مسح الرقبة شيء. وقال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 195) ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة. اهـ

مبحث: في كيفية مسح العنق عند القائلين به

مبحث: في كيفية مسح العنق عند القائلين به اختلف القائلون باستحباب مسح الرقبة، هل تمسح ببقية ماء الرأس أو بماء جديد؟ على قولين. فمنهم من رأى أنها تمسح بماء الرأس، باعتبار أن الرقبة تابعة للرأس حكماً فهي عضو طهارته مسحه، ومتصلة بالرأس كاتصال الأذنين به. ومنهم من رأى أنها تمسح بماء جديد، فالخلاف فيها كالخلاف في الأذنين (¬1). وقد ترجح أن الرقبة لا يشرع في حقها المسح، ولو كان مشروعاً لمسحت بماء الرأس كما هو الراجح في الأذنين والله أعلم. ¬

(¬1) انظر نيل الأوطار (1/ 204)، وقال ابن الهمام (1/ 36) ومسح الرقبة مستحب بظهر اليدين لعدم استعمال بلتهما.

الفصل الحادي عشر: من سنن الوضوء دلك أعضاء الوضوء

الفصل الحادي عشر: من سنن الوضوء دلك أعضاء الوضوء اختلف العلماء في حكم دلك أعضاء الوضوء: فذهب الجمهور إلى أن الدلك مستحب في طهارة الحدث، وليس بواجب (¬1). وقيل: الدلك شرط، وإلى هذا ذهب مالك (¬2)، والمزني (¬3)، ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 552)، وفي الفتاوى الهندية (1/ 9) اعتبروا الدلك من آداب الوضوء. وفي حاشية ابن عابدين (1/ 123) من السنن. وقال النووي في المجموع (1/ 417): لا يجب إمرار اليد على الوجه ولا غيره من الأعضاء لا في الوضوء ولا في الغسل لكن يستحب , هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. اهـ وانظر المغني (1/ 290)، والإنصاف (1/ 135)، المحلى (مسألة: 115). (¬2) المدونة (1/ 132، 133)، وقال في مواهب الجليل (1/ 218): وقد اختلف في الدلك هل هو واجب أو لا على ثلاثة أقوال؟ المشهور الوجوب وهو قول مالك في المدونة بناء على أنه شرط في حصول مسمى الغسل، قال ابن يونس: لقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها " وادلكي جسدك بيدك " والأمر على الوجوب, ولأن علته إيصال الماء إلى جسده على وجه يسمى غسلا , وقد فرق أهل اللغة بين الغسل والانغماس. والثاني: نفي وجوبه لابن عبد الحكم، بناء على صدق اسم الغسل بدونه. والثالث: أنه واجب لا لنفسه، بل لتحقق إيصال الماء، فمن تحقق إيصال الماء لطول مكث أجزأه، وعزاه اللخمي لأبي الفرج، وذكر ابن ناجي أن ابن رشد عزاه له، وعزا ابن عرفة القول الثاني لأبي الفرج وابن عبد الحكم، قال في التوضيح: ورأى بعضهم أن هذا راجع إلى القول بسقوط الدلك, والخلاف في الغسل كالخلاف في الوضوء، قال ابن عرفة: وظاهر كلام أبي عمر بن عبد البر أن الخلاف في الغسل فقط دون الوضوء أي: فيجب فيه بلا خلاف. قال ابن ناجي: وحكى المسناوي قولا بأنه سنة، ولا أعرفه، فيتحصل في ذلك أربعة أقوال. (قلت): بل خمسة والخامس: التفرقة بين الوضوء والغسل. وانظر الخرشي (1/ 126)، حاشية العدوي (1/ 186)، حاشية الدسوقي (1/ 90)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 110، 111). (¬3) المجموع (1/ 214).

دليل الجمهور

وهو مذهب عطاء رحمه الله (¬1). دليل الجمهور: الدليل الأول: (909 - 138) ما رواه البخاري بإسناده عن عمران بن حصين من حديث طويل، وفيه: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك، ثم قال له بعد أن حضر الماء: اذهب فأفرغه عليك. الحديث (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب منه إلا إفراغ الماء على جسده، ولو كان الدلك شرطاً في الطهارة لأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم -، خاصة أنه كان يجهل أن التيمم رافع للحدث، وتأخير البيان عن وقته لا يجوز. الدليل الثاني: (910 - 139) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، ¬

(¬1) المغني (1/ 290). (¬2) صحيح البخاري (344).

الدليل الثالث

عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). فقوله: «إنما كان يكفيك» ساقه مساق الحصر، وقوله: «ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» دليل أن الدلك ليس شرطاً في الطهارة وإلا لما طهرت بمجرد إفاضة الماء، وإذا لم يكن الدلك شرطاً في الطهارة الكبرى لم يكن شرطاً في الطهارة الصغرى من باب أولى. الدليل الثالث: من النظر، قال ابن قدامة: «ولأنه غسل واجب، فلم يجب فيه إمرار اليد كغسل النجاسة» اهـ. ولأنه لا يقصد من غسل الجنابة النظافة، بدليل أنه لو اغتسل وتنظف بالمنظفات، ثم جامع وجب عليه الغسل، فالمراد به التعبد، فلا يكون الدلك شرطاً فيه. دليل المالكية على وجوب الدلك. قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل أعضاء الوضوء، والدلك شرط في حصول مسمى الغسل، فلا يكون هناك غسل إلا إذا كان معه دلك، فليس المطلوب هو وصول الماء إلى هذه الأعضاء، بل المطلوب إيصال الماء إلى الجسد على وجه يسمى غسلاً، ولا يتحقق هذا إلا بالدلك (¬2). ¬

(¬1) مسلم (330). (¬2) مواهب الجليل بتصرف يسير (1/ 218).

قال عطاء في الجنب يفيض عليه الماء؟ قال: لا، بل يغتسل غسلاً؛ لأن الله تعالى قال: {حتى تغتسلوا} ولا يقال: اغتسل إلا لمن دلك نفسه (¬1). وهذا القول ليس عليه دليل، والصحيح أن الغسل هو جريان الماء على العضو وقد شهد لذلك حديث عمران بن الحصين وحديث أم سلمة المتقدمان. قال ابن حزم: من غمس أعضاء الوضوء في الماء ونوى به الوضوء للصلاة , أو وقف تحت ميزاب حتى عمها الماء ونوى بذلك الوضوء للصلاة, أو صب الماء على أعضاء الوضوء للصلاة, أو صب الماء على أعضاء الوضوء غيره ونوى هو بذلك الوضوء للصلاة أجزأه. برهان ذلك أن اسم «غسل» يقع على ذلك كله في اللغة التي بها نزل القرآن, ومن ادعى أن اسم الغسل لا يقع إلا على التدلك باليد فقد ادعى ما لا برهان له به (¬2). الدليل الثاني: القياس على طهارة التيمم، قال المزني: ولأن التيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذلك هنا. وأجيب: قال ابن قدامة: وأما قياسه على التيمم فبعيد؛ لأن التيمم أمرنا فيه بالمسح، والمسح لا يكون إلا باليد، ويتعذر في الغالب إمرار التراب إلا باليد. ¬

(¬1) المغني (1/ 290). (¬2) المحلى (مسألة: 115).

الفصل الثاني عشر: في إطالة الغرة والتحجيل

الفصل الثاني عشر: في إطالة الغرة والتحجيل المبحث الأول: في تعريف الغرة والتحجيل الغُرة: بالضم بياض في الجبهة. وفي الصحاح في جبهة الفرس. وقال ابن سيده: وعندي: أن الغرة نفس القدر الذي يشغله البياض من الوجه، لا أنه البياض. وقيل: الأغر: الأبيض من كل شيء. ثم استعيرت , فقيل في أكْرَم كلّ شيء: غُرّته وفلان غرة قومه: أي سيدهم. ورجل أغر: أي شريف. وغُرَّةُ كل شيء أوله وأكرمه. والغُرَّةُ: العبد والأمة وفي الحديث قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغُرّة. وكأنه عبَّر عن الجسم كله بالغُرَّة. ورجل غِرٌّ بالكسر وغَرِيرٌ أي غير مُجرب وجارية غِرَّةٌ وغَرِيرَةٌ وغِرٌّ أيضا بيِّنة الغَرَارَةُ بالفتح وقد غَرَّ يغِر بالكسر غَرَارَةً بالفتح. والاسم: الغِرَّةُ بالكسر والغِرّة أيضا الغفلة (¬1). والتحجيل: المحجل: هو: هو الذي يَرْتَفع البياض في قَوائمه إلى مَوْضِع القَيْد, ويُجَاوِز الأرْسَاغ ولا يُجِاوِز الركْبَتَيْن , لأنَّهُما مواضِع الأحْجَال وهي الخَلاخِيل والقُيُود, ولا يكون التَّحْجيل باليد واليدين ما لم يكُنْ معَها رِجْل أو رِجْلاَن. ¬

(¬1) لسان العرب (5/ 14)، مختار الصحاح (ص: 197)، الفائق (3/ 62).

ومنه الحديث أمَّتي الغُرُّ المُحَجَّلُون أي بيضُ مَواضع الوُضوء من الأيْدي والوجْه والأقْدام, اسْتَعار أثرَ الوضوء في الوجْه واليَدَين والرّجْلين للإنسان من البَياضِ الذي يكون في وجْه الفَرس ويَدَيْه ورجْلَيْه. وفي حديث علي رضي الله عنه أنه قال له رجُل: إنّ اللُّصُوص أخَذُوا حِجْلَي امْرَأتي أي خَلْخَالَيه (¬1). قال العلماء: سمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلاً تشبيهاً بغرة الفرس. وتطويل الغرة: قيل: هو غسل شيء من مقدم الرأس وما يجاوز الوجه زائد على الجزء الذي يجب غسله؛ لاستيقان كمال الوجه، وأما تطويل التحجيل: فهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين. ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث (1/ 346)، لسان العرب (11/ 144).

المبحث الثاني: خلاف العلماء في استحباب إطالة الغرة والتحجيل

المبحث الثاني: خلاف العلماء في استحباب إطالة الغرة والتحجيل. اختلف أهل العلم في إطالة الغرة والتحجيل، فقيل: تشرع إطالة الغرة والتحجيل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يشرع إطالتهما، وهو مذهب المالكية (¬4)، واختاره ابن القيم (¬5). وقيل: تشرع إطالة التحجيل دون الغرة (¬6). دليل من قال: تشرع إطالة الغرة والتحجيل. (911 - 140) ما رواه مسلم من طريق نعيم بن عبد الله المجمر، قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم ¬

(¬1) اعتبر الحنفية إطالة الغرة والتحجيل من آداب الوضوء، انظر شرح فتح القدير (1/ 36)، حاشية ابن عابدين (1/ 130)، (¬2) المجموع (1/ 458، 460)، أسنى المطالب (1/ 40)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 63). (¬3) كشاف القناع (1/ 101)، الإنصاف (1/ 168)، المغني (1/ 74). (¬4) كره المالكية الزيادة على المحل المفروض، واعتبروه من الغلو ومجاوزة الحد، وفسروا إطالة الغرة: أي بمداومة الوضوء. انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 128)، التاج والإكليل (1/ 384)، حاشية الدسوقي (1/ 103)، منح الجليل (1/ 95، 96). (¬5) زاد المعاد (1/ 196). (¬6) المجموع (1/ 459).

دليل من قال: لا تشرع إطالتهما

مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله (¬1). دليل من قال: لا تشرع إطالتهما. من ذهب إلى أن الغرة والتحجيل لا يشرعان في الوضوء رأى أن لفظ: فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله مدرجة في الحديث، وأن هذا اللفظ من قول أبي هريرة. قال الحافظ رحمه الله: «لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه - يعني: نعيم بن عبد الله المجمر، عن أبي هريرة» (¬2). اهـ وقال ابن القيم: «لم يثبت عنه - أي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تجاوز المرفقين والكعبين، ولكن أبو هريرة كان يفعل ذلك، ويتأول حديث إطالة الغرة، وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين، ورجليه حتى أشرع في الساقين فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل على مسألة الإطالة» اهـ (¬3). ¬

(¬1) مسلم (246)، ورواه البخاري (136) ومسلم (246) من طريق نعيم به، بلفظ: إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. (¬2) فتح الباري (1/ 236). (¬3) زاد المعاد (1/ 196).

دليل من قال: تشرع إطالة التحجيل دون الغرة

والذي يدل على أنه فهمٌ من أبي هريرة، (912 - 141) ما رواه مسلم، من طريق أبي حازم، قال: كنت خلف أبي هريرة، وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ!! أنتم ها هنا؟ لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (¬1). وفي البخاري عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، «ثم دعا بتور من ماء، فغسل يديه حتى بلغ إبطه، فقلت: أشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: منتهى الحلية» (¬2). ففهم أبو هريرة أن الحلية ممكن زيادتها إذا زيد في غسل اليدين والرجلين، مع أن لفظ الحديث تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء: المقصود به الوضوء الشرعي المحدود في كتاب الله سبحانه، بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجاوز الحد الذي حده الله له في قوله: {وأيديكم إلى المرافق} {وأرجلكم إلى الكعبين}، والله أعلم. دليل من قال: تشرع إطالة التحجيل دون الغرة. قالوا: أولاً: أن إطالة الغرة جاء بلفظ قال فيه المحققون: بأنه مدرج من كلام أبي هريرة، لكن إطالة التحجيل جاء بلفظ مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، (913 - 142) ففي مسلم من طريق نعيم بن عبد الله المجمر، قال: ¬

(¬1) مسلم (250). (¬2) البخاري (5953).

الراجح

رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ..... الحديث (¬1). فقوله: «هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ» دليل على أن هذا الوضوء بهذه الصفة مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس مدرجاً من كلام أبي هريرة. ولكن سبق جواب ابن القيم عليه، فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل على مسألة الإطالة، والله أعلم. ثانياً: لا يمكن الإطالة إلا في اليد والساق، بخلاف الوجه؛ فإن الوجه يجب استيعابه (¬2). الراجح: بعد استعراض الأقوال نجد أن القول بعدم المشروعية أقوى وأرجح من حيث الدليل، والله أعلم. ¬

(¬1) مسلم (246). (¬2) وتعقبه الرافعي كما في المجموع (1/ 459): بأن الإطالة في الوجه أن يغسل إلى اللبة وصفحة العنق. اهـ وهذه الزيادة بهذا المقدار تحتاج إلى توقيف، ولا دليل عليه، والله أعلم.

الفصل الثالث عشر: في تنشيف أعضاء الوضوء بمنديل ونحوه

الفصل الثالث عشر: في تنشيف أعضاء الوضوء بمنديل ونحوه ذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، إلى أنه لا بأس بالتمسح بالمنديل بعد الوضوء والغسل، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: يكره في الوضوء والغسل، وهو رواية في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: يكره في الوضوء دون الغسل، وهو قول ابن عباس (¬6). وفي مذهب الشافعية خمسة أوجه، ذكرها النووي، وهي: أشهرها: أن المستحب تركه، ولا يقال فعله مكروه. والثاني: أنه مكروه. والثالث: أنه مباح يستوي فعله وتركه. والرابع: أنه مستحب لما فيه من الاحتراز من الأوساخ. والخامس: يكره في الصيف دون الشتاء (¬7). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 73)، تبيين الحقائق (1/ 7)، حاشية ابن عابدين (1/ 363). (¬2) المدونة (1/ 125)، الخرشي (1/ 140)، حاشية الدسوقي (1/ 104)، منح الجليل (1/ 97). (¬3) المغني (1/ 95) الفروع (1/ 156)، الإنصاف (1/ 166)، كشاف القناع (1/ 106). (¬4) المجموع (1/ 486). (¬5) الإنصاف (1/ 166). (¬6) رواه ابن أبي شيبة (1/ 138) رقم 1594، قال: حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: يتمسح من طهور الجنابة، ولا يتمسح من طهور الصلاة. اهـ (¬7) المجموع (1/ 486)، أسنى المطالب (1/ 42)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 63)، نهاية المحتاج (1/ 195).

دليل من قال: بكراهة التنشيف

وقبل ذكر الآثار في المسألة ينبغي أن يعلم ما يأتي: أولاً: أن الإجماع منقول على أن التنشيف لا يحرم، نقل الإجماع المحاملي. ثانياً: إذا كان هناك حاجة إلى التنشيف فلا كراهة قطعاً، كما لو كان هناك برد شديد. دليل من قال: بكراهة التنشيف. (914 - 143) ما رواه البخاري، حدثنا يوسف بن عيسى، قال: أخبرنا الفضل بن موسى، قال: أخبرنا الأعمش، عن سالم، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: وَضَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءاً لجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء، ثم غسل جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض بيده (¬1). وفي رواية ثم أتي بمنديل فلم ينفض بها (¬2). ولفظ مسلم: ثم أتيته بالمنديل فرده (¬3). ¬

(¬1) البخاري (274). (¬2) البخاري (259). (¬3) مسلم (317).

وأجيب بما يلي: قال ابن رجب: استدل بعضهم برد النبي - صلى الله عليه وسلم - الثوب على كراهة التنشيف، ولا دلالة فيه على الكراهة، بل على أن التنشيف ليس مستحباً، ولا أن فعله هو أولى، ولا دلالة للحديث على أكثر من ذلك، كذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء. اهـ وقال ابن حجر: استدل بعضهم بقوله: «فناولته ثوباً فلم يأخذه» على كراهة التنشيف بعد الغسل، ولا حجة فيه؛ لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عد الأخذ لأمر أخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلاً، أو غير ذلك. قال المهلب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ، وقال أيضاً عن ابن دقيق العيد بأن نفضه الماء بيديه يدل على أن لا كراهة للتنشيف؛ لأن كلاً منهما إزالة. وقال إبراهيم النخعي: إنما رده لئلا تصير عادة)). اهـ قلت: كل هذه الاحتمالات واردة وإن كان الأصل عدمها، وأجود ما يقال: بأن رده للتنشيف يدل على عدم استحبابه، لكن لا يصيره مكروهاً، فلو تنشف الإنسان لم نجزم بالكراهة، ولم نقف على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تركه تعبداً، والله أعلم. وقد ذكر لي بعض الإخوة أنه وقف على كلام لبعض الأطباء بأن خلايا الجلد تنتفع ببقاء الماء عليها بعد الوضوء والغسل، وأن إزالة الماء بخرقة ونحوها يفقد خلايا الجلد انتفاعه بالماء، فإن صح هذا الكلام فلا يبعد أن يستحب بقاء الماء بعد الوضوء، وإذا رغب الإنسان بإزالته ألا يزيله بخرقة وإنما يسلته سلتاً وهذا لا يفقد الجلد انتفاعه بالرطوبة الحاصلة بالماء، والله أعلم.

دليل من قال: يشرع التنشيف

دليل من قال: يشرع التنشيف. (915 - 144) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا رشدين بن سعد، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عتبة بن حميد، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وإسناده ضعيف، ورشدين بن سعد وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي يضعفان في الحديث (¬1). ¬

(¬1) سنن الترمذي (54). والحديث رواه البزار (2652) والطبراني في المعجم الأوسط (4182) البيهقي (1/ 236) من طريق رشدين بن سعد به. ورشدين بن سعد جاء في ترجمته: ضعفه أحمد بن حنبل، وقدم ابن لهيعة عليه. الجرح والتعديل (3/ 513). وقال يحيى بن معين، كما في رواية ابن أبي خيثمة عنه: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال على بن الحسين بن الجنيد: سمعت ابن نمير يقول: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: رشدين بن سعد منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث، ما أقربه من داود بن المحبر، وابن لهيعة أستر، ورشدين أضعف. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال قتيبة: كان لا يبالي ما دفع إليه فيقرأ هـ. التاريخ الكبير (3/ 337). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (203). وقال ابن رشدين: كان ضعيفاً. الطبقات الكبرى (7/ 517). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن عدي: ورشدين بن سعد له أحاديث كثيرة غير ما ذكرت، وعامة أحاديثه عن من يرويه عنه ما أقل فيها ممن يتابعه أحد عليه، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (3/ 149). وذكره العقيلي في الضعفاء. (2/ 66). وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، جاء في ترجمته: قال أحمد بن حنبل: ليس بشيء. الجرح والتعديل (5/ 234). وقال أبو زرعة: ليس بقوي. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (361). وقال يحيى بن معين: ضعيف يكتب حديثه، وإنما أنكر عليه الأحاديث الغرائب التي يحدثها، وقال مرة: ليس به بأس، وهو ضعيف. وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وفي حديثه ضعف. وقال ابن عدي: عامة حديثه لا يتابع عليه. الكامل (4/ 280). وقال الحربي: غيره أوثق منه. تهذيب التهذيب (6/ 159). ومن العلماء من حاول تقويته. قال الترمذي: ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن معين وغيره، ورأيت محمد بن إسماعيل يقوي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث. تهذيب الكمال (17/ 108). وقال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: يحتج بحديث الإفريقي؟ قال: نعم. قلت: صحيح الكتاب؟ قال: نعم. تهذيب الكمال (17/ 107). وقال أبو الحسن القطان: كان من أهل العلم والزهد، بلا خلاف بين الناس، ومن الناس من يوثقه، ويربأ به عن حضيض رد الرواية، والحق فيه أنه ضعيف، لكثرة رواية المنكرات، وهو أمر يعتري الصالحين. اهـ تهذيب التهذيب (6/ 159). وكلام ابن القطان قد لخص ما قيل فيه. ونحوه قول ابن حجر في التقريب: ضعيف في حفظه، وكان رجلاً صالحاً. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 68) قال: حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني الأحوص بن حكيم، عن محمد بن سعيد، عن عبادة ابن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، =

الدليل الثاني: (916 - 145) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا سفيان بن وكيع بن الجراح حدثنا عبد الله بن وهب عن زيد بن حباب عن أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرقة ينشف بها بعد الوضوء. قال أبو عيسى: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء، وأبو معاذ يقولون: هو سليمان بن أرقم، وهو ضعيف عند أهل الحديث (¬1). ¬

= عن معاذ بن جبل، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على وجهه بطرف ثوبه في الوضوء. وهذا إسناد موضوع، فيه محمد بن سعيد المصلوب، وقد اتهم بالوضع. انظر تحفة الأشراف (11335). (¬1) سنن الترمذي (53). ورواه الدارقطني (1/ 110) من طريق يونس بن عبد الأعلى. وابن عدي في الكامل (3/ 251) من طريق أبي الطاهر. والحاكم (1/ 154) ومن طريقه البيهقي (1/ 185) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب به. وقد جزم الدارقطني بأن أبا معاذ: هو سليمان بن أرقم، قال: وهو متروك، وقال مثله البيهقي. وقال ابن عدي أيضاً: أبو معاذ: هو سليمان بن أرقم. وخالفهم الحاكم، فقال: أبو معاذ: هو الفضل بن ميسرة بصري روى عنه يحيى بن سعيد، وأثنى عليه. اهـ والصواب أنه سليمان بن أرقم. أولاً: لأن الدارقطني - وحسبك به - وابن عدي والبيهقي ومال الترمذي إلى ذلك، كلهم يرى أنه سليمان بن أرقم. =

الدليل الثالث: (917 - 146) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا العباس بن الوليد وأحمد بن الأزهر قالا: حدثنا مروان بن محمد، حدثنا يزيد بن السمط، حدثنا الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن سلمان الفارسي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فقلب جبة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= ثانياً: لو كان الزهري من شيوخ الفضل بن ميسرة لذكر مع شيوخه، فلا يهمل شيخ مثل الزهري، كما لم يذكر أن زيد بن الحباب من تلاميذه، وقد ذكروا في ترجمة سليمان بن أرقم أنه روى عن الزهري، وعنه زيد بن الحباب، فهذه قرينة ترجح أن أبا معاذ: هو سليمان ابن أرقم. فالإسناد ضعيف جداً، والله أعلم. انظر إتحاف المهرة (22080)، تحفة الأشراف (16457). (¬1) سنن ابن ماجه (468). (¬2) وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (657) وفي الصغير (1/ 12) من طريق محمد ابن مروان به. والحديث له علتان: الأولى: الانقطاع، فإن محفوظ بن علقمة لم يُثْبِت أحد سماعه من سلمان رضي الله عنه، وقال المزي وابن حجر في ترجمة محفوظ: روى عن سلمان، ويقال: مرسل. قال البوصيري: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وفي سماع محفوظ عن سلمان نظر. العلة الثانية: سوء حفظ الوضين بن عطاء، فقد جاء في ترجمته: وقال الوليد بن مسلم: كان صاحب خطب، ولم يكن في الحديث بذاك. ضعفاء العقيلي (4/ 329). وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. تهذيب الكمال (30/ 451). =

الدليل الرابع: (918 - 147) ما رواه البيهقي من طريق أبي زيد النحوي، ثنا أبو عمرو بن العلاء، عن أنس بن مالك، عن أبي بكر الصديق، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له خرقة يتنشف بها بعد الوضوء. [إسناده شاذ] (¬1). وكل هذه الأحاديث لا يثبت منها شيء، والحال كما قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء (¬2). ¬

= وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: واهي الحديث. أحوال الرجال (299). وقال أبو حاتم: تعرف وتنكر. الجرح والتعديل (9/ 50). وقال إبراهيم الحربي: غيره أوثق منه. تاريخ بغداد (13/ 512). وقال أحمد: ثقة، ليس به بأس. الجرح والتعديل (9/ 50). وقال يحيى بن معين: لا بأس به. المرجع السابق. وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأساً. الكامل (7/ 88). وقال عبد الرحمن بن إبراهيم: ثقة. المرجع السابق. وقال أبو داود: صالح الحديث. تاريخ بغداد (13/ 512). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 564). وفي التقريب: صدوق سيء الحفظ، ورمي بالقدر. (¬1) قال البيهقي: وإنما رواه أبو عمرو بن العلاء، عن إياس بن جعفر، أن رجلا حدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له خرقة أو منديل فكان إذا توضأ مسح بها وجهه ويديه. أخبرنا أبو الحسن بن أبي المعروف الفقيه، أنا أبو سهل بشر بن أحمد الإسفرائيني، ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، ثنا القواريري، ثنا عبد الوارث، عن أبي عمرو بن العلاء، عن إياس بن جعفر فذكره، وهذا هو المحفوظ من حديث عبد الوارث. (¬2) سنن الترمذي (53).

الفصل الرابع عشر: يستحب تجديد الوضوء

الفصل الرابع عشر: يستحب تجديد الوضوء يستحب تجديد الوضوء، وهو أن يكون على وضوء ثم يتوضأ من غير أن يحدث ومتى يستحب؟. فيه أقوال: الأول: يستحب له التجديد مطلقاً، حتى ولو لم يمضي زمن يحصل به التفريق بين الوضوء الأول والوضوء الثاني، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1). ¬

(¬1) قال ابن عابدين في حاشيته (1/ 119): مطلب في الوضوء على الوضوء (قوله: أو لقصد الوضوء على الوضوء) أي بعد الفراغ من الأول بحر. وفي التتارخانية عن الناطفي: لو زاد على الثلاث فهو بدعة, وهذا إذا لم يفرغ من الوضوء ; أما إذا فرغ ثم استأنف الوضوء فلا يكره بالاتفاق اهـ ومثله في الخلاصة. وعارض في البحر دعوى الاتفاق بما في السراج من أنه مكروه في مجلس واحد، وأجاب في النهر بأن ما مر فيما إذا أعاده مرة واحدة , وما في السراج فيما إذا كرره مرارا , ولفظه في السراج: لو تكرر الوضوء في مجلس واحد مرارا لم يستحب , بل يكره لما فيه من الإسراف فتدبر اهـ. قلت، والقائل ابن عابدين: لكن يرد ما في شرح المنية الكبير حيث قال: وفيه إشكال لإطباقهم على أن الوضوء عبادة غير مقصودة لذاتها فإذا لم يؤد به عمل مما هو المقصود من شرعيته كالصلاة وسجدة التلاوة ومس المصحف ينبغي أن لا يشرع تكراره قربة; لكونه غير مقصود لذاته فيكون إسرافا محضاً , وقد قالوا في السجدة لما لم تكن مقصودة: لم يشرع التقرب بها مستقلة وكانت مكروهة, وهذا أولى. اهـ. أقول (القائل ابن عابدين): ويؤيده ما قاله ابن العماد في هديته، قال في شرح المصابيح: وإنما يستحب الوضوء إذا صلى بالوضوء الأول صلاة , كذا في الشرعة والقنية. اهـ. وكذا ما قاله المناوي في شرح الجامع الصغير للسيوطي عند حديث " من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات " من أن المراد بالطهر =

وقال النووي: فيه خمسة أوجه: أصحها إن صلى بالوضوء الأول فرضا أو نفلا وبه قطع البغوي. والثاني: إن صلى فرضاً استحب وإلا فلا، وبه قطع الفوراني. - قلت: وهذان القولان قولان أيضاً في مذهب المالكية - (¬1). ¬

= الوضوء الذي صلى به فرضا أو نفلا كما بينه فعل راوي الخبر وهو ابن عمر , فمن لم يصل به شيئا لا يسن له تجديده. اهـ. ومقتضى هذا كراهته , وإن تبدل المجلس ما لم يؤد به صلاة أو نحوها لكن ذكر سيدي عبد الغني النابلسي أن المفهوم من إطلاق الحديث مشروعيته ولو بلا فصل بصلاة أو مجلس آخر , ولا إسراف فيما هو مشروع, أما لو كرره ثالثاً أو رابعاً فيشترط لمشروعيته الفصل بما ذكر , وإلا كان إسرافا محضا اهـ فتأمل. قلت: قوله إن الوضوء ليس مقصوداً لذاته غير صحيح، بل الصحيح أن الوضوء عبادة مقصودة لذاته، وقد يكون شرطاً لغيره. وهي مسألة مستقلة لعلي أتطرق إليها في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى. (¬1) في مذهب المالكية قولان: أحدهما: إن صلى به فرضاً، وهو اختيار القاضي عياض. والثاني: إن صلى به صلاة فرضاً كانت أو نافلة. انظر التاج والإكليل (1/ 440)، الخرشي (1/ 138). وقال في مواهب الجليل (1/ 303): " وتجديد وضوء إن صلى به ": ظاهره صلى به فريضة أو نافلة ولو ركعتين فقط، أو طاف به سبعاً، وهو كذلك قال في الطراز في باب أحكام النية: (فرع) روى معن عن مالك فيمن توضأ لنافلة. قال: أحب إلي أن يتوضأ لكل صلاة، وهذا يوهم بظاهره أن الوضوء للنافلة لا يستباح به غيرها وليس كذلك، وقد فسره سحنون في كتاب ابنه فقال: معناه أنه يستحب له طهر على طهر لا على الإيجاب، يريد كما يستحب أن يجدد للفرض طهراً استحب أيضا في النافلة مثله, انتهى. وقال اللخمي في أوائل تبصرته: ولا فضيلة في تكرار الغسل عقيب الغسل، ولا عند كل صلاة، فهو في ذلك بخلاف الوضوء، إلا ما وردت فيه السنة من الاغتسال للجمعة والعيدين والإحرام ودخول مكة ووقوف عرفة, انتهى. =

والثالث: يستحب إن كان فعل بالوضوء الأول ما يقصد له الوضوء وإلا فلا , ذكره الشاشي في كتابيه المعتمد والمستظهري في باب الماء المستعمل واختاره. والرابع: إن صلى بالأول أو سجد لتلاوة أو شكر أو قرأ القرآن في المصحف استحب وإلا فلا , وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني في أول كتابه الفروق. والخامس: يستحب التجديد ولو لم يفعل بالوضوء الأول شيئاً أصلاً حكاه إمام الحرمين، قال: وهذا إنما يصح إذا تخلل بين الوضوء والتجديد زمن يقع بمثله تفريق , فأما إذا وصله بالوضوء فهو في حكم غسلة رابعة, وهذا الوجه غريب جداً , وقد قطع القاضي أبو الطيب في كتابه شرح الفروع ¬

_ = وقال القاضي عياض: الوضوء الممنوع تجديده قبل أداء فريضة به وفي شرح الرسالة للشبيبي في الوضوء المستحب وتجديده لكل صلاة بعد صلاة فرض ثم قال: الممنوع لثلاثة أشياء تجديده قبل صلاة فرض به والزيادة على الثلاثة وفعله لغير ما شرع له أو أبيح , انتهى. قال ابن العربي في العارضة: اختلف العلماء في تجديد الوضوء لكل صلاة فمنهم من قال: يجدد إذا صلى وفعل فعلا يفتقر إلى الطهارة وهم الأكثرون , ومنهم من قال: يجدد وإن لم يفعل فعلا يفتقر إلى الطهارة, انتهى. وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة في قوله: فعليه أن يتأهب لذلك بالوضوء وبالطهر إن وجب عليه الطهر، وإنما شرط في الاستعداد بالغسل وجوبه دون الوضوء ; لأن الاستعداد به يكون دون وجوب إذ يستحب تجديده لكل صلاة فرض بعد صلاته به، وقيل: يشترط كونها فرضا بخلاف الغسل فإنه لا يستحب لكل صلاة بل ربما كان بدعة وإن قال به بعض العباد , والله أعلم انتهى. (تنبيه) إن لم يصل بالوضوء فلا يعيده إلا أن يكون توضأ أولا واحدة واحدة أو اثنتين اثنتين قاله الجزولي في قول الرسالة، ولكنه أكثر ما يفعل, والله تعالى أعلم. اهـ نقلته بطوله من كتاب مواهب الجليل.

الدليل الأول

والبغوي والمتولي والروياني وآخرون بأنه يكره التجديد إذا لم يؤد بالأول شيئاً قال المتولي والروياني: وكذا لو توضأ وقرأ القرآن في المصحف يكره التجديد. قالا: ولو سجد لتلاوة أو شكر لم يستحب التجديد ولا يكره والله أعلم. وأما الغسل فلا يستحب تجديده على المذهب الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور, وفيه وجه أنه يستحب حكاه إمام الحرمين وغيره. وأما التيمم فالمشهور أنه لا يستحب تجديده وفي وجه ضعيف يستحب (¬1). اهـ الدليل على استحباب تجديد الوضوء الدليل الأول: (919 - 148) ما رواه البخاري من طريق سفيان، قال: حدثني عمرو ابن عامر، عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث (¬2). الدليل الثاني: (920 - 149) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد ح وحدثني محمد بن حاتم واللفظ له حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان قال حدثني علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة، ¬

(¬1) المجموع (1/ 494). (¬2) صحيح البخاري (214).

الدليل الثالث

عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه؟ قال: عمداً صنعته يا عمر (¬1). فكان الغالب على فعله - صلى الله عليه وسلم - الوضوء لكل صلاة، سواء كان طاهراً أو غير طاهر، ولذلك استغرب عمر صنيعه - صلى الله عليه وسلم - حين صلى الصلوات بوضوء واحد. الدليل الثالث: (921 - 150) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن الإفريقي، عن أبي غطيف، عن ابن عمر يقول: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات (¬2). [إسناده ضعيف، وإن كان من حيث المعنى صحيحاً؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها] (¬3). ¬

(¬1) مسلم (217). (¬2) المصنف (1/ 16) رقم 53. ومن طريق ابن أبي شيبة رواه عبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (859). (¬3) في إسناده أبو غطيف، قال الذهبي: روى عنه الإفريقي فقط، قال البخاري: لم يتابع عليه. قال الذهبي: والإفريقي عبد الرحمن ضعيف. اهـ ميزان الاعتدال (4/ 561). وقال أبو زرعة: لا أعرف اسمه. الجرح والتعديل (9/ 422). وضعف حديثه الترمذي كما سيأتي. والحديث رواه الترمذي (59) من طريق محمد بن يزيد الواسطي. ورواه أبو داود (62) ومن طريقه البيهقي (1/ 162) من طريق عيسى بن يونس. ورواه أبو داود أيضاً (62) وابن ماجه (512) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، =

وهذه الأحاديث تدل على استحباب الوضوء على الوضوء، وقد علمت الأقوال في وقت استحبابه، ولو قيل: إن الوضوء يستحب كلما تجددت أسبابه المختلفة لكان له وجه، فإذا توضأ للصلاة، ثم أراد أن يقرأ القرآن استحب له التجديد، لتجدد سبب آخر يقتضي الطهارة، ومثله لو توضأ للصلاة، ثم أرد أن يطوف بالكعبة استحب له التجديد، إلا الصلاتين المجموعتين فلا يستحب تجديده لهما، وكذلك إذا كانت الصلاة صلاة تراويح أو وتر، فلا يستحب أن يتخللها تجديد؛ لعدم النقل. (922 - 151) وقد روى البخاري ومسلم من حديث إسامة بن زيد أنه قال: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل، فبال، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة يا رسول الله. فقال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل، فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت لصلاة، فصلى المغرب. الحديث. فظاهر فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يتخلل الوضوءين حدث أو صلاة، أما الحدث فيبعد وقوعه بعد ما قضى حاجته في الشعب، فكان الوضوء الأول بعد قضاء الحاجة، والوضوء الثاني لم يبعد وقوعه، فالظاهر أن الوضوء الثاني كان بمثابة التجديد، والله أعلم. ¬

_ = كلهم عن الإفريقي به. قال الترمذي: وهو إسناد ضعيف. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 74): هذا إسناد فيه عبد الرحمن بن زياد، وهو ضعيف.

الفصل الخامس عشر: في استقبال القبلة حال الوضوء

الفصل الخامس عشر: في استقبال القبلة حال الوضوء استحب الجمهور استقبال القبلة حال الوضوء (¬1). والصحيح عدم الاستحباب إلا أن تكون المسألة إجماعاً، ولم أجد أحداً حكى الإجماع على استحباب استقبال القبلة إلا أن ابن مفلح قال: ولا ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 6)، حاشية ابن عابدين (1/ 125). وقال في مراقي الفلاح (ص: 31): " ومن آداب الوضوء أربعة عشر شيئاً، وذكر منها استقبال القبلة. وفرق الحنفية بين الآداب والسنن بأن آداب الشيء: ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة أو مرتين، ولم يواظب عليه، وحكمه الثواب للفاعل، وعدم اللوم على الترك. وأما السنة فهي التي واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعلها مع الترك بلا عذر مرة أو مرتين، وحكمها الثواب، وفي تركها العتاب لا العقاب، انظر مراقي الفلاح (ص: 31)، بدائع الصنائع (1/ 24). والراجح أن ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وجه التعبد فهو سنة ما لم يكن بياناً لمجمل فله حكم ذلك المجمل، سواء واظب على فعله أو فعله أحياناً. وإن كان هذا التفصيل من الحنفية مجرد اصطلاح فلا مشاحاة في الاصطلاح، وإن كان هذا التفصيل ينسب للشرع فلا دليل عليه، نعم ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنن أوكد من السنن التي فعلها أحياناً، والله أعلم. وانظر في مذهب المالكية الخرشي (1/ 137)، الفواكه الدواني (1/ 145)، حاشية الدسوقي (1/ 103)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 122). وقال النووي الشافعي في المجموع (1/ 489): سنن الوضوء ومستحباته، منها استقبال القبلة. وقال ابن مفلح الحنبلي في الفروع (1/ 152): وظاهر ما ذكر بعضهم: يستقبل القبلة، ولا تصريح بخلافه، وهو متجه في كل طاعة إلا لدليل". اهـ ونقله في شرح منتهى الإرادات (1/ 46).

تصريح بخلافه، وهو متجه في كل طاعة إلا لدليل. اهـ وهذه العبارة ليست حكاية للإجماع والله أعلم، خاصة إذا علمنا أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتحرى القبلة عند فعل الوضوء، ولا أمر به من قوله - صلى الله عليه وسلم -، والاستحباب لا يثبت إلا بدليل فعلي أو قولي، ولا دليل. والقياس في العبادات من أضعف القياسات.

الفصل السادس عشر: من سنن الوضوء أن يقول الذكر الوارد بعده

الفصل السادس عشر: من سنن الوضوء أن يقول الذكر الوارد بعده يستحب أن يقول بعد فراغه من الوضوء أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (¬1). (923 - 152) لما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة، - قال: يعني ابن يزيد - عن أبي إدريس الخولاني عن عقبة بن عامر ح وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة. قال: فقلت ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر قال: إني قد رأيتك جئت آنفاً قال: ما منكم من أحد يتوضأ، فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 24)، الفتاوى الهندية (1/ 8)،حاشية ابن عابدين (1/ 127). وفي مذهب المالكية: الخرشي (1/ 139)، الفواكه الدواني (1/ 144). وفي مذهب الشافعية: المجموع (1/ 481)، تحفة المحتاج (1/ 238). وفي مذهب الحنابلة: المغني (1/ 94)، الإنصاف (1/ 165)، مطالب أولي النهى (1/ 120).

الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء (¬1). ولا أعلم أحداً خالف في استحباب هذا الذكر بعد الوضوء، لهذه السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما يفعله العامة عندنا من رفع السبابة حال الذكر لا أعلم له أصلاً في الشرع، والأصل عدم المشروعية. كما أن استقبال القبلة حال الذكر لم يقم عليه دليل، وما قيل في استقبال القبلة حال الوضوء يقال هنا، من أن الاستقبال لو كان مشروعاً لأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفعله عليه الصلاة والسلام، فلما لم ينقل أمره ولا فعله كان الأصل عدم التقرب إلى الله به. ¬

(¬1) مسلم (234).

المبحث الأول

المبحث الأول: استحب بعض الفقهاء أن يقول بعد الوضوء: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين (¬1). (924 - 153) لما رواه الترمذي رحمه الله، قال: حدثنا جعفر بن محمد ابن عمران الثعلبي الكوفي، حدثنا زيد بن حباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء (¬2). [زيادة اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين زيادة شاذة في هذا الحديث] (¬3). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 7)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 12)، الفتاوى الهندية (1/ 8)، المجموع (1/ 482)، والمغني (1/ 95)، أعلام الموقعين (1/ 267)، (¬2) سنن الترمذي (55). (¬3) انفرد زيد بن الحباب بهذه الزيادة، عن معاوية بن صالح، وقد خالف زيد بن الحباب من هو أوثق منه في هذا الحديث سنداً ومتناً، وإليك تخريج الحديث ليتبين لك وجه المخالفة في السند والمتن. هذا الحديث مدراه على معاوية بن صالح، ويرويه معاوية عن ثلاثة شيوخ له: أبي عثمان، وربيعة بن يزيد، وعبد الوهاب بن بخت. أما رواية معاوية بن صالح، عن أبي عثمان فلم يختلف عليه فيه، فقد رواه معاوية، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رواها أحمد (4/ 153)، ومسلم (67 - 234) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير به. وأخرجه أبو داود (169) من طريق ابن وهب، قال: سمعت معاوية بن صالح يحدث عن أبي عثمان به. ومن طريق ابن وهب أخرجه ابن حبان (1050). وأخرجه أحمد (4/ 145، 164) ومن طريقه البيهقي (1/ 78) من طريق ليث، عن معاوية، عن أبي عثمان به. وأبو عثمان هذا اختلف في اسمه، فجاء في الميزان (4/ 250) أبو عثمان، عن جبير بن نفير، لا يدرى من هو؟ وفي العلل للدارقطني (2/ 114) هو الأصبحي. وفي التقريب: شيخ لربيعة بن يزيد الدمشقي، قيل: هو سعيد بن هانئ الخولاني (وهو ثقة). وقيل: حرز بن عثمان (وهو ثقة ثبت) وإلا فمقبول. اهـ وقد أخرج له مسلم متابعة. وأما رواية معاوية بن صالح، عن عبد الوهاب بن بخت فكذلك لم يختلف عليه فيه، رواه أحمد (4/ 145، 146) من طريق ليث، عن معاوية بن صالح، عن عبد الوهاب بن بخت، عن الليث بن سليم الجهني، عن عقبة بن عامر. وأخرجه البيهقي (1/ 78) من طريق أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن عبد الوهاب بن بخت به. وعبد الوهاب بن بخت ثقة، لكن الليث بن سليم الجهني جاء في تعجيل المنفعة (ص: 234) الليث بن سليم الجهني عن عقبة بن عامر، وعنه عبد الوهاب بن بخت مجهول. اهـ وأما رواية معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد ففيها اختلاف: فرواه ابن وهب، كما في رواية أبي داود (169) وابن حبان (1050). وعبد الرحمن بن مهدي، كما في رواية أحمد (4/ 153)، ومسلم (234). والليث بن سعد، كما في مسند أحمد (4/ 145، 146). وعبد الله بن صالح الجهني، كما في رواية البيهقي (1/ 78) أربعتهم رووه عن معاوية ابن صالح، عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، واختلف عليه في إسناده ومتنه: أما المخالفة في الإسناد، فقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة، كما في المصنف (1/ 3)، ومن طريقه مسلم (234)، والبيهقي (1/ 78). ومحمد بن علي بن حرب المروزي وموسى بن عبد الرحمن المسروقي، كما في رواية النسائي (147، 151).ثلاثتهم عن زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة، عن أبي إدريس الخولاني، عن جبير بن نفير، عن عقبة به، فجعل بين أبي إدريس وبين عقبة بن عامر جعل جبير بن نفير. فخالف زيد بن الحباب ثلاثة أئمة كل واحد منهم لا يوزن به، ولا يقاربه: منهم الإمام عبد الرحمن بن مهدي، الذي قال فيه الحافظ في التقريب: ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه. ومنهم الليث بن سعد، قال عنه الحافظ في التقريب: ثقة ثبت فقيه إمام مشهور. ومنهم عبد الله بن وهب، قال فيه الحافظ: ثقة حافظ عابد. بينما الذي خالفهم زيد بن الحباب، قال فيه في التقريب: صدوق يخطئ في حديث الثوري. كما أن في رواية زيد بن الحباب اختلافاً آخر، فقد رواه جعفر بن محمد بن عمران الثعلبي، حدثنا زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان عن عمر، وهذا قد خالف في إسناده ومتنه، أما إسناده فجعل الحديث يرويه أبو إدريس وأبو عثمان عن عمر، والمحفوظ أنه من رواية أبي إدريس عن عقبة، ومن رواية أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة. وأما المخالفة في المتن فزاد فيه: " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " تفرد بها عن زيد بن الحباب جعفر بن محمد بن عمران الثعلبي، وهو صدوق وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة، كما في المصنف وصحيح مسلم. ومحمد بن علي بن حرب المروزي وموسى بن عبد الرحمن المسروقي، كما في سنن النسائي وهؤلاء ثقات، رووه عن زيد بن الحباب دون هذه الزيادة. كما أن جعفر بن محمد خالف جميع من رواه عن معاوية بن صالح كالليث بن سعد وابن مهدي وابن وهب، مما يجعل الباحث يجزم بشذوذ هذه اللفظة في هذا الحديث والله أعلم. قال أبو عيسى الترمذي: حديث عمر قد خولف زيد بن حباب في هذا الحديث قال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وروى عبد الله بن صالح وغيره، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، عن عمر. وعن ربيعة، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عمر وهذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء قال محمد: وأبو إدريس لم يسمع من عمر شيئاً. اهـ ولحديث عمر طرق أخرى غير طريق معاوية بن صالح، فقد أخرجه عبد الرزاق (142) عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني به، إلا أنه قال: من توضأ، فأسبغ الوضوء، ثم قام فصلى صلاة يعلم ما يقول فيها حتى فرغ من صلاته، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء. فجعل الذكر يقال بعد فراغه من الصلاة، والمعروف أنه يقال بعد فراغه من الوضوء. كما أن عبد الله بن عطاء لم ير عقبة بن عامر، انظر الثقات (5/ 33). ورواه ابن ماجه (470) من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق به. بلفظ: ما من مسلم يتوضأ، فيحسن الوضوء ثم يقول: .. وذكر الحديث. والحديث له علة ذكرها أهل الجرح والتعديل، وقد ساقها الإمام البخاري في كتابه التاريخ الصغير (ص: 162)، ونصه: حدثني أحمد بن سليمان، قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، قال: سألت أبا إسحاق عن عبد الله بن عطاء الذي روى عن عقبة: كنا نتناوب رعية الإبل، قال: شيخ من أهل الطائف حدثنيه. قال شعبة: فلقيت عبد الله، فقلت: سمعته من عقبة؟ فقال: لا، حدثنيه سعد بن إبراهيم، فسألته - يعني سعد بن إبراهيم - فقال: حدثني زياد بن مخراق، فلقيت زياداً فقال: حدثني رجل عن شهر بن حوشب. اهـ فرجع الحديث إلى شهر ابن حوشب، وشهر فيه مقال مشهور، كما أن بين شهر وزياد رجلاً مبهماً. وانظرالكامل لابن عدي (4/ 168). وأخرجه أبو داود الطيالسي (1008) واقتصر منه على ما سمع عقبة دون ما سمع عمر، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن زياد بن مخراق، عن شهر بن حوشب، عن عقبة بن عامر به. وله شاهد من حديث ثوبان عند الطبراني في الأوسط (4895)، قال: حدثنا عيسى بن محمد السمسار قال: حدثنا أحمد بن سهل الوراق قال: حدثنا مسور بن مورع العنبري قال: حدثنا الاعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من دعا بوضوئه، فساعة يخلو من وضوئه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، اللهم اجعلني =

وقد استحب بعض الحنابلة رفع البصر إلى السماء عند ذكر هذا الدعاء (¬1). (925 - 154) لما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، أخبرنا أبو عقيل، عن ابن عم له، عن عقبة بن عامر، وفيه: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع نظره إلى السماء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء (¬2). [زيادة رفع البصر إلى السماء زيادة منكرة] (¬3). ¬

= من التوابين واجعلني من المتطهرين. الحديث. وهذا الإسناد ضعيف، فيه عيسى بن محمد السمسار ومسور بن مورع العنبري لم أجد لهما ترجمة، وفيه أحمد بن سهيل الوراق له ترجمة في اللسان (1/ 291)، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال فيه أبو أحمد الحاكم: في حديثه بعض المناكير. فالسند ضعيف. وله متابع عند الطبراني في الكبير (1441) وتاريخ بغداد (5/ 269) من طريق أبي سعد البقال عن أبي سلمة، عن ثوبان. وفيه أبو سعد البقال، وهو ضعيف. انظر لمراجعة طرقه: أطراف المسند (4/ 350)، تحفة الأشراف (9914)، إتحاف المهرة (13862، 15705). (¬1) المغني (1/ 94)، الإنصاف (1/ 165). (¬2) المسند (1/ 19). (¬3) تفرد بها ابن عم أبي عقيل، عن عقبة، وهو مجهول. والحديث أخرجه أبو داود (170)، والدارمي (716)، وأبو يعلى (180)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (84)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (31) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ به. انظر أطراف المسند (4/ 378)، تحفة الأشراف (9974)، إتحاف المهرة (13968).

الدليل الثاني: قالوا: إن رفع الطرف إلى السماء من آداب الدعاء، والذكر مشتمل على الدعاء السابق: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين». والدليل على أن رفع البصر إلى السماء من آداب الدعاء أدلة منها: (926 - 155) ما رواه مسلم من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المقداد من حديث طويل، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني. (927 - 156) ومنها ما رواه البخاري من طريق كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت في بيت ميمونة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه، قعد فنظر إلى السماء، فقرأ {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} (¬1) (928 - 157) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي المديني وغير واحد قالوا: حدثنا ابن أبي فديك، عن إبراهيم بن الفضل، عن المقبري، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال سبحان الله العظيم وإذا اجتهد في الدعاء قال يا حي يا قيوم. قال أبو عيسى هذا حديث غريب (¬2). [إسناده ضعيف، وليس صريحاً في الباب] (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (6215). (¬2) سنن الترمذي (3436). (¬3) في إسناده إبراهيم بن الفضل، وهو ضعيف، جاء في ترجمته: قال أحمد بن حنبل: ليس بقوي في الحديث، ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (2/ 122). =

(929 - 158) ومن الأذكار التي تقال بعد الوضوء ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك كتب في رق، ثم طبع في طابع فلم يكسر إلى يوم القيامة. [الصحيح أنه موقوف ولم يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1). ¬

= وقال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث منكر الحديث. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: مدينى ضعيف. المرجع السابق. (¬1) هذا الحديث أخرجه النسائي في السنن الكبرى (9909) والحاكم في المستدرك (1/ 564)، والنسائي في عمل اليوم والليلة كما في التحفة (3/ 447)، والطبراني في الأوسط (1478) وفي مجمع البحرين (428)، والبيهقي في شعب الإيمان (2754) من طريق يحبى بن كثير، عن شعبة، عن أبي هاشم الرماني، عن أي مجلز، عن قيس بن عباد، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. وتابع عبد الصمد يحيى في رفعه، فقد أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2754) من طريق عبد الصمد، ثنا شعبة به مرفوعاً. قال النسائي: هذا خطأ، والصواب موقوف، خالفه محمد بن جعفر فوقفه. قلت: محمد بن جعفر (غندر) من أثبت أصحاب شعبة. فقد أخرجه النسائي في السنن الكبرى (10789) من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة به موقوفاً. وقال الطبراني: لم يروه عن شعبة، إلا يحيى. يقصد مرفوعاً. وتابع معاذ بن معاذ محمد بن جعفر في وقفه، فقد أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2754) من طريق معاذ بن معاذ، عن شعبة به موقوفاً. ورواه الثوري، عن أبي هاشم، واختلف على الثوري، فرواه ابن مهدي، كما في سنن النسائي الكبرى (10790)، ومستدرك الحاكم (1/ 565). وعبد الرزاق، كما في المصنف (730). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وابن المبارك، كما في رواية النسائي في اليوم والليلة، انظر تحفة الأشراف (3/ 447). وقبيصة بن عقبة، كما في شعب الإيمان (3038) كلهم رووه عن سفيان، عن أبي هاشم به موقوفاً. وخالفهم يوسف بن أسباط، فرواه عن سفيان به مرفوعاً كما في رواية ابن السني في عمل اليوم والليلة (28)، وكما في النكت الظراف (3/ 447)، ويوسف بن أسباط له ترجمة في الجرح والتعديل (9/ 218) قال أبو حاتم: كان رجلاً عابداً دفن كتبه، وهو يغلط كثيراً، وهو رجل صالح لا يحتج بحديثه. ورواه هشيم، واختلف عليه فيه: فرواه نعيم بن حماد، عن هشيم، عن أبي هاشم به مرفوعاً أخرجه الحاكم (2/ 399) والبيهقي (4/ 530). وتابعه مخالد بن يزيد عند البيهقي في شعب الإيمان (3039)، فرواه عن هشيم مرفوعاً. ورواه البيهقي في شعب الإيمان (2444) من طريق سعيد بن منصور، عن هشيم به مرفوعاً. قال البيهقي: هذا هو المحفوظ موقوف، ووراه نعيم بن حماد عن هشيم فرفعه. اهـ وكذلك رواه الدارمي (3407) عن أبي النعمان (عارم) عن هشيم به، فوقفه. وذكر الحافظ في النكت الظراف (3/ 447): بأن قيس بن الربيع رواه عن أبي هاشم به مرفوعاً. وقيس بن الربيع صدوق تغير حفظه لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به. قاله الحافظ في التقريب. فالموقوف أرجح من المرفوع كما قال النسائي عليه رحمة الله، ولكن هذا الموقوف له حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي. قال الحافظ في النكت: ومثله لا يقال بالرأي فله حكم الرفع. اهـ

المبحث الثاني: في الأذكار التي تقال عند غسل الأعضاء

المبحث الثاني: في الأذكار التي تقال عند غسل الأعضاء استحب الحنفية أن يدعو بالدعوات المأثورة عند كل فعل من أفعال الوضوء (¬1). ومن هذه الأدعية ما ذكره الرافعي نقلاً من تلخيص الحبير (¬2)، قال: «ومن السنن المحافظة على الدعوات الواردة في الوضوء، فيقول في غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وعند غسل اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً، وعند غسل اليد اليسرى اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من رواء ظهري، وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار، وروي: اللهم احفظ رأسي وما حوى، وبطني وما وعى ((وروي ((اللهم أغنني برحمتك، وأنزل علي من بركتك، وأظلني تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وعند مسح الأذنين: اللهم اجعلني ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام» [هذا الدعاء لا أصل له] (¬3). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 7)، وبدائع الصنائع (1/ 23)، (¬2) (1/ 137). (¬3) قال الحافظ في التلخيص (1/ 137): قال الرافعي: ورد بها الأثر عن الصالحين. قال النووي في الروضة: هذا الدعاء لا أصل له, ولم يذكره الشافعي والجمهور. وقال في شرح المهذب: لم يذكره المتقدمون. وقال ابن الصلاح: لم يصح فيه حديث. قلت يعني الحافظ: روي فيه عن علي, من طرق ضعيفة جداً , أوردها المستغفري في الدعوات, وابن عساكر في أماليه =

قال ابن القيم: كل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق، لم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً منه، ولا علمه لأمته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله، وقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين في آخره. وفي سنن النسائي مما يقال بعد الوضوء أيضاً: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. اهـ وكل هذه الأذكار سبق الكلام عليها وتخريجها. وقال الخرشي المالكي: وما يقال عند فعل كل عضو فحديث ضعيف جداً، ولا يعمل به، وقول الأقفهسي: إنه يستحب فيه نظر (¬1). ¬

= وهو من رواية أحمد بن مصعب المروزي, عن حبيب بن أبي حبيب الشيباني, عن أبي إسحاق السبيعي, عن علي, وفي إسناده من لا يعرف, ورواه صاحب مسند الفردوس من طريق أبي زرعة الرازي, عن أحمد بن عبد الله بن داود, حدثنا محمود بن العباس, حدثنا المغيث بن بديل, عن خارجة بن مصعب, عن يونس بن عبيد, عن الحسن, عن علي نحوه. ورواه ابن حبان في الضعفاء, من حديث أنس نحو هذا , وفيه (عباد) بن صهيب , وهو متروك, وروى المستغفري من حديث البراء بن عازب, وليس بطوله, وإسناده واه. (¬1) الخرشي (1/ 139).

المبحث الثالث: في حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند غسل الأعضاء

المبحث الثالث: في حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند غسل الأعضاء استحب بعض الحنفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل عضو من أعضاء الوضوء (¬1). واستحبه بعضهم وبعض الشافعية بعد الفراغ من الوضوء (¬2). ولا أعلم لهم سنة صحيحة في هذا. كما استحب بعض الحنفية التسمية على كل عضو (¬3). وهذا لا أعلم له أصلاً من أثر أو نظر، وقد علمت الخلاف في التسمية في أول الوضوء، ولو قيل بمشروعيتها لكانت التسمية في أوله كافية، لأنه فعل واحد كما يسمي الإنسان حين يأكل في أول الأكل، ولا يشرع له أن يسمي على كل لقمة يرفعها إلى فيه. ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 31)، تبيين الحقائق (1/ 7)، حاشية ابن عابدين (1/ 127). (¬2) انظر حاشية ابن عابدين (1/ 128)، والمجموع (1/ 483). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 127).

المبحث الرابع: في حكم قراءة سورة القدر بعد الوضوء

المبحث الرابع: في حكم قراءة سورة القدر بعد الوضوء سئل ابن حجر الهيتمي عن حديث «من قرأ في أثر وضوئه إنا أنزلناه في ليلة القدر مرة واحدة كان من الصديقين ومن قرأها مرتين كتب في ديوان الشهداء ومن قرأها ثلاثا حشره الله محشر الأنبياء» من رواه؟ (فأجاب) بقوله: رواه الديلمي , وفي سنده مجهول والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) الفتاوى الفقهية الكبرى (1/ 59، 60).

الفصل السابع عشر: في الاستعانة في الوضوء

الفصل السابع عشر: في الاستعانة في الوضوء الاستعانة على الوضوء لها حالات عدة: الحالة الأولى: إذا لم يمكنه التطهر إلا بالاستعانة، فإنه يجب عليه قبولها إذا لم يكن في ذلك منة وإذلال له، حتى لو اقتضى الأمر ببذل أجرة لمن يعينه وجب عليه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فواجب (¬1). وقال ابن عقيل الحنبلي: يحتمل أن لا يلزمه , كما لو عجز عن القيام في الصلاة لم يلزمه استئجار من يقيمه ويعتمد عليه (¬2). الحالة الثانية: أن تكون الاستعانة بتقريب الماء، وهذا لا بأس به. قال النووي: ولا يقال خلاف الأولى؛ لأنه ثبت ذلك في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحالة الثالثة: أن تكون الاستعانة بمن يصب عليه الماء، فالمشهور من مذهب الحنفية أن ذلك مكروه (¬3)، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬4). واعتبر بعض الحنفية أن من آداب الوضوء ألا يستعين المتوضئ على وضوئه بأحد (¬5). ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (1/ 425): إذا لم يقدر على الوضوء لزمه تحصيل من يوضئه إما متبرعاً وإما بأجرة المثل إذا وجدها , وهذا لا خلاف فيه. اهـ وانظر المغني (1/ 85). (¬2) المغني (1/ 85). (¬3) مراقي الفلاح (ص: 33). (¬4) المجموع (1/ 383). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 23)، تبيين الحقائق (1/ 6، 7)، فتح القدير (1/ 36)، الفتاوى الهندية (1/ 8).

الأحاديث الواردة في المنع من الاستعانة

وقيل: تباح معونته بصب الماء عليه، وهو مذهب المالكية (¬1) والحنابلة (¬2). وقيل: لا يكره لكنه خلاف الأولى وهذا أصح الوجهين عند الشافعية, وبه قطع البغوي وغيره، قال النووي في المجموع: وهو مقتضى كلام المصنف والأكثرين (¬3) الحالة الرابعة: أن تكون الاستعانة بمن يغسل له أعضاءه من غير حاجة. فهذا مكروه في مذهب الحنفية من باب أولى، وهو مكروه في مذهب الشافعية قولاً واحداً. وقيل: لا يجوز، وهو مذهب المالكية (¬4). وقيل: يجوز من غير كراهة، اختاره ابن بطال. الأحاديث الواردة في المنع من الاستعانة. أما الأحاديث الصريحة في الباب فليس فيها شيء يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 219). (¬2) المغني (1/ 95)، كشاف القناع (1/ 106)، مطالب أولي النهى (1/ 122). (¬3) المجموع (1/ 383)، روضة الطالبين (1/ 62)، مغني المحتاج (1/ 61). (¬4) قال في مواهب الجليل (1/ 219): أما الاستنابة في الدلك فإن كانت من ضرورة جازت من غير خلاف وينوي المغسول لا الغاسل, وإن كانت لغير ضرورة فلا يجوز من غير خلاف, واختلف إذا وقع ونزل هل يجزيه أو لا؟ قولان قال الجزولي في شرح الرسالة عند قوله غاسلا له: لا خلاف في النيابة على صب الماء أنها جائزة ويؤخذ جوازها من حديث المغيرة إذ كان يصب الماء على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما على الفعل فإن كان لضرورة فيجوز من غير خلاف وينوي المفعول لا الفاعل , وإن كان لغير ضرورة فلا يجوز من غير خلاف واختلف إذا وقع ونزل هل يجزيه أم لا؟ قولان. اهـ وانظر الفواكه الدواني (1/ 137)، حاشية العدوي (1/ 186).

ومن ذلك: (930 - 159) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا أبو بدر عباد بن الوليد، حدثنا مطهر بن الهيثم، حدثنا علقمة بن أبي جمرة الضبعي، عن أبيه أبي جمرة الضبعي، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكل طهوره إلى أحد، ولا صدقته التي يتصدق بها يكون هو الذي يتولاها بنفسه (¬1). [حديث ضعيف] (¬2). (931 - 160) ومنها ما رواه أبو يعلى في مسنده، قال: حدثنا أبو هشام، حدثنا النظر -يعني: ابن منصور- حدثنا أبو الجنوب، قال: رأيت علياً يستقي ماء لوضوئه، فبادرته استقي له، فقال: مه يا أبا الجنوب، فإني رأيت عمراً يستقي لوضوئه، فبادرته استقي له، فقال: مه يا أبا الحسن، فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقي ماء لوضوئه، فبادرته استقي له، فقال: مه يا عمر، فإني أكره أن يشركني في طهوري أحد. [حديث ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (362). (¬2) قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف، علقمة بن أبي جمرة مجهول، ومطهر بن الهيثم ضعيف. اهـ وقال الحافظ في التلخيص (1/ 168): فيه مطهر بن الهيثم، وهو ضعيف. اهـ (¬3) الحديث ضعيف، لضعف النظر بن منصور، وأبي الجنوب، وقد ضعفهما الحافظ في التقريب، وقال في التلخيص (1/ 168): قال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: النظر بن منصور، عن أبي الجنوب، وعنه ابن أبي معشر تعرفه؟ قال: هؤلاء حمالة الحطب. =

(932 - 161) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن العباس بن عبد الرحمن المدني قال: خصلتان لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلهما إلى أحد من أهله كان يناول المسكين بيده ويضع الطهور من الليل ويخمره (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= وأخرجه البزار كما في مختصر زوائد البزار (162) من طريق النظر بن منصور به. وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 227). (¬1) المصنف (1/ 178) رقم: 2045. (¬2) العباس بن عبد الرحمن المدني لم أجد من ترجم له إلا أن الحسيني في الإكمال ذكر العباس بن عبد الرحمن المدني، وقال: مجهول. وخطأه الحافظ في تعجيل المنفعة بأنه وهم في اسمه، وإليك نص كلام الحافظ في التعجيل (1516) قال: العباس بن عبد الرحمن المدني عن حكيم بن حزام وعنه محمد بن عبد الله الشعيثي مجهول. قلت (أي الحافظ) كذا قرأت بخط الحسيني وهو غلط قبيح، والذي في مسند حكيم بن حزام من مسند أحمد، رواه أحمد عن وكيع، عن محمد بن عبد الله الشعيثي، عن القاسم بن عبد الرحمن المزني، عن حكيم في خلوق المساجد مرفوعاً. وعن حجاج عن الشعيثي عن زفر بن وثيمة، عن حكيم. وهكذا هو في ترجمة زفر بن وثيمة عن حكيم من الأطراف للمزي وذكر رواية أبي داود وقال: رواه وكيع عن الشعيثي فلم يرفعه. قلت (والكلام للحافظ) وفي الجملة فليس للعباس بن عبد الرحمن في حديث حكيم مدخل في مسند أحمد، والله أعلم، وأما قوله: المدني فهو تحريف، وإنما هو المزني بضم الميم بعدها زاي منقوطة، وترجم المزي للعباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم، عن العباس بن عبد المطلب. اهـ كلام الحافظ. وفي إسناده موسى بن عبيدة، جاء في ترجمته: قال البخاري: منكر الحديث، قاله أحمد بن حنبل، وقال علي بن المديني عن القطان قال: كنا نتقيه تلك الأيام. التاريخ الكبير (7/ 291). =

(933 - 162) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا أبو أسامة عن علي بن مسعدة قال أنا عبد الله الرومي، قال: كان عثمان يقوم من الليل فيلي طهوره بنفسه فيقال له: لو أمرت بعض الخدم فقال: إني أحب أن أليه بنفسي. [إسناده ضعيف] (¬1). وقد ورد أحاديث ليست صريحة في الباب تدل على أن الكمال ترك سؤال الناس شيئاً. (934 - 163) منها ما رواه مسلم، من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي مسلم الخولاني: قال حدثني الحبيب الأمين، أما هو فحبيب إلي، وأما هو عندي فأمين عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: ألا ¬

= وقال أحمد بن حنبل: لا يشتغل به، وذلك أنه يروى عن عبد الله بن دينار شيئاً لا يرويه الناس. الجرح والتعديل (8/ 151). وقال أحمد بن حنبل أيضاً: لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة. قلنا يا أبا عبد الله: لا يحل؟ قال: عندي. قلت: فإن سفيان وشعبة قد رويا عنه، قال: لوبان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: ليس بقوي الحديث. المرجع السابق. (¬1) عبد الله الرومي، ذكره الحافظان المزي وابن حجر في تهذيب الكمال وتهذيبه، ولم يذكرا راوياً عنه إلا علي بن مسعدة، ولم يوثقه أحد، فهو مجهول. وفي التقريب: مقبول. يعني حيث يتابع وإلا ففيه لين.

الأحاديث الواردة في الاستعانة

تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا - وأسر كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه. وجه الاستدلال: قوله: «لا تسألوا الناس شيئاً» نكرة في سياق النفي، فيشمل كل شيء، وهذا هو الذي فهمه الصحابة، حتى كان لا يسأل أن يناول سوطه الذي سقط. وهذا الحديث دليل على النهي عن سؤال الناس، ومنه الاستعانة، ولا يدل على كراهة الاستعانة بدون طلب من الشخص، فهناك فرق أن تأتي الإعانة على الوضوء بالتبرع المحض، أو تأتي عن مسألة، مع أنه قد يقال أيضاً: إذا كان يعلم الإنسان أن المطلوب منه ذلك يفرح به ويتشوف إليه ويعتز به، كما لو كان هذا طالباً مع معلمه، وبين غيره، ولذلك فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستنكف أن يطلب بعض الأمور من بعض أصحابه، لمعرفته أن ذلك محبوب لهم، ليس فيه إذلال للسائل ولا إحراج للمسؤل، والله أعلم. الأحاديث الواردة في الاستعانة. الحديث الأول: (935 - 164) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن مغيرة بن شعبة قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال: يا مغيرة خذ الإداوة، فأخذتها، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني فقضى حاجته،

الحديث الثاني

وعليه جبة شأمية، فذهب ليخرج يده من كمها فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة، ومسح على خفيه ثم صلى. ورواه مسلم (¬1). الحديث الثاني: (936 - 165) ما رواه البخاري، قال: حدثني محمد بن سلام، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، عن يحيى، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب فقضى حاجته قال أسامة بن زيد فجعلت أصب عليه ويتوضأ، فقلت: يا رسول الله أتصلي؟ فقال: المصلى أمامك. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬2). الحديث الثالث: قال الحافظ في الفتح: روى الحاكم في المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضوء فقال: اسكبي، فسكبت عليه. قال الحافظ: وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه في الحضر، ولكونه بصيغة الطلب. قلت: وقفت عليه في مستدرك الحاكم بغير هذا اللفظ الذي أشار إليه الحافظ (¬3)، فلعل نسخة الحافظ تختلف عن المطبوع، وهو في سنن أبي داود ¬

(¬1) البخاري (182)، ومسلم (274). (¬2) البخاري (181)، ومسلم (1280). (¬3) ولفظه عند الحاكم (1/ 152) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أذنيه، باطنهما وظاهرهما.

بلفظ: اسكبي لي وضوءاً، فذكرت وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت فيه: فغسل كفيه ثلاثاً وذكر الحديث، وسبق لي تخريج الحديث، والكلام عن طرقه. وهذه الأحاديث تدل على إباحة الاستعانة بصب الماء على المتوضئ، وكذا إحضار الماء من باب أولى. وأما المباشرة بغسل أعضاء الغير فلا دلالة فيهما عليها، وحجة من استدل بإباحة غسل أعضاء الغير ما ذكره الحافظ في الفتح، قال: ((لما لزم المتوضئ الاغتراف من الماء لأعضائه، وجاز له أن يكفيه ذلك غيره بالصب، والاغتراف بعض عمل الوضوء، كذلك يجوز في بقية أعماله. وتعقبه ابن المنير بأن الاغتراف من الوسائل لا من المقاصد؛ لأنه لو اغترف ثم نوى أن يتوضأ جاز، ولو كان الاغتراف عملاً مستقلاً لكان قدمه على النية)). (¬1) اهـ ¬

(¬1) فتح الباري (182).

(فرع) قد ذكرنا أنه إذا وضأه غيره صح , وسواء كان الموضئ ممن يصح وضوءه أم لا , كمجنون وحائض وكافر وغيرهم؛ لأن الاعتماد على نية المتوضئ لا على فعل الموضئ، كمسألة الميزاب , ولا نعلم في هذه المسألة خلافا لأحد من العلماء إلا ما حكاه صاحب الشامل عن داود الظاهري أنه قال: لا يصح وضوءه إذا وضأه غيره, ورد عليه بأن الإجماع منعقد على أن من وقع في ماء أو وقف تحت ميزاب، ونوى، صح وضوءه وغسله.

الفصل الثامن عشر: في الكلام أثناء الوضوء

الفصل الثامن عشر: في الكلام أثناء الوضوء قيل: ترك التكلم بكلام الناس أثناء الوضوء من آداب الوضوء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، المالكية (¬2). وقيل: يكره الكلام أثناء الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وعد النووي من سنن الوضوء ترك الكلام من غير حاجة (¬5). دليل من كره الكلام أثناء الوضوء. الدليل الأول: (937 - 166) ما رواه الدارقطني من طريق صالح بن عبد الجبار، ثنا البيلماني، عن أبيه، ¬

(¬1) قال الزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 6، 7): ومن آداب الوضوء استقبال القبلة وذكر أشياء، ثم قال: وأن لا يتكلم فيه بكلام الناس. الخ وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 126). (¬2) انظر التاج والإكليل (1/ 369، 370)، والخرشي (1/ 137) حيث اعتبروا ترك الكلام من فضائل الوضوء. (¬3) قال القاضي عياض في شرح صحيح مسلم: إن العلماء كرهوا الكلام في الوضوء والغسل. (¬4) الآداب الشرعية (1/ 335)، الإنصاف (1/ 137)، وفسر ابن مفلح في الفروع (1/ 152) الكراهة بترك الأولى. (¬5) قال النووي في المجموع (1/ 489): سنن الوضوء ومستحباته، منها، ثم ذكر: وأن لا يتكلم فيه لغير حاجة. اهـ وانظر حاشية الجمل (1/ 133).

الدليل الثاني

عن عثمان بن عفان أنه توضأ بالمقاعد، والمقاعد بالمدينة حيث يصلى على الجنائز عند المسجد، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، واستنثر ثلاثاً ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه ثلاثاً، وسلم عليه رجل، وهو يتوضأ، فلم يرد عليه حتى فرغ، فلما فرغ كلمه معتذراً إليه، وقال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من توضأ هكذا، ولم يتكلم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله غفر له ما بين الوضوئين (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثاني: (938 - 167) ما رواه أحمد، قال: حدثنا روح حدثنا سعيد عن قتادة، عن الحسن عن حضين أبي ساسان الرقاشي، عن المهاجر بن قنفذ بن عمير بن جدعان، قال: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ، فلم يرد علي، فلما فرغ من وضوئه قال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء. [إسناده صحيح إلا أن المحفوظ من الحديث أن المهاجر سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، كما أن التعليل في الحديث يؤكد أن المانع من رد السلام ليس كراهة الرد أثناء الوضوء، وإنما كونه على غير طهارة، فلا يكون فيه دليل على مسألتنا والله أعلم] (¬3). ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 92). (¬2) سبق تخريجه انظر حديث رقم (845). (¬3) اختلف في لفظه: هل قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول، أو قال: وهو يتوضأ، وعلى اللفظ الأول ليس فيه موضع شاهد لمسألتنا. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والحديث رواه شعبة، كما عند الحاكم (592). وهشام الدستوائي كما في سنن الدارمي (2641)، والأوسط لابن المنذر (1/ 133)، والطبراني في الكبير (20/ 329) رقم 780. ومعاذ بن معاذ، كما في سنن النسائي الكبرى (37)، والصغرى (38). ثلاثتهم عن قتادة به، بلفظ: أنه سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، وأنه تيمم لرد السلام. ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، واختلف على سعيد: فرواه روح بن عبادة كما في مسند أحمد (5/ 80)، وسنن ابن ماجه (350). وعبد الوهاب بن عطاء، كما في مسند أحمد (5/ 80)، وشرح معاني الآثار (1/ 85). ويزيد بن زريع، كما في معجم الطبراني في الكبير (20/ 329) رقم 781، ومحمد بن جعفر كما في مسند أحمد (5/ 80) أربعتهم رووه عن سعيد، بلفظ: أنه سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ. ورواه محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، واختلف على محمد بن المثنى فيه: فرواه أبو داود (17)، وابن خزيمة كما في صحيح ابن حبان (806) عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى، عن سعيد به بلفظ: " وهو يبول " كما هو رواية شعبة وهشام الدستوائي ومعاذ بن معاذ. ووراه ابن خزيمة كما في صحيحه (206) وصحيح ابن حبان (803). وخالد بن عمرو بن النضر كما في صحيح ابن حبان (803) كلاهما عن محمد بن المثنى به، بلفظ: " وهو يتوضأ ". وأرى أن لفظ شعبة ومن معه أولى بالحفظ من لفظ سعيد؛ لأن سعيداً واحد، وقد اختلف عليه، وهؤلاء جماعة، وقد جاء الحديث من غير طريق قتادة، وفيه ذكر البول، فقد رواه ابن أبي شيبة (5/ 247) رقم 25735 حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جرير بن حازم، قال: حدثنا الحسن، عن المهاجر، أنه سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فلم يرد عليه حتى فرغ. وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات، إلا زيد بن الحباب فإنه صدوق، إلا أن الحسن قد دلسه عن المهاجر، ولم يسمعه منه، إنما سمعه من حضين كما في طريق قتادة. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: قال في مراقي الفلاح: ولا يتكلم بكلام الناس؛ لأنه يشغله عن الدعاء المأثور. قلت: الدعاء المأثور في أثناء الوضوء لا أصل له، وقد بينت ذلك في مسألة مستقلة. الدليل الرابع: حكاية الإجماع على كراهة الكلام أثناء الوضوء. قال النووي: قد نقل القاضي عياض في شرح صحيح مسلم أن العلماء كرهوا الكلام في الوضوء والغسل. وهذا المنقول يجاب عنه بما عقب عليه النووي، فقال: وهذا الذي نقله من الكراهة محمول على ترك الأولى , وإلا فلم يثبت فيه نهي فلا يسمى مكروها إلا بمعنى ترك الأولى (¬1). ¬

= ورواه أحمد (5/ 81)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 85) من طريق حميد بن أبي حميد الطويل، عن الحسن، عن المهاجر، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول، أو قد بال، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى توضأ، ثم رد علي. اهـ والشك هنا لا يقضي على يقين طريق قتادة، فالذي يظهر لي: أن الراجح في لفظ الحديث: ذكر السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ييول، وقد ذكره ثلاثة حفاظ من أصحاب قتادة: هم شعبة وهشام، ومعاذ بن معاذ، والله أعلم. وقد يمكن الجمع بأن يقال: بال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم توضأ عقب بوله، فكان تارة يذكر الراوي البول، وتارة يذكر الوضوء، وكلاهما قد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (5/ 393)، تحفة الأشراف (11580)، إتحاف المهرة (17035). (¬1) المجموع (1/ 489).

دليل من قال: لا يكره الكلام أثناء الوضوء

وقال ابن مفلح: قال جماعة: يكره الكلام أثناء الوضوء، والمراد بغير ذكر الله تعالى، كما صرح به جماعة، والمراد بالكراهة ترك الأولى وفاقاً للحنفية والشافعية. وقال أيضاً: وظاهر الأكثر لا يكره السلام ولا الرد، وإن كان الرد على طهر أكمل لفعله عليه السلام (¬1). دليل من قال: لا يكره الكلام أثناء الوضوء. الدليل الأول: لا يوجد نهي من الشارع عن الكلام أثناء الوضوء، والأصل في الأفعال الإباحة، فمن ادعى النقل عن الإباحة بحكم آخر سواء الكراهة أو الحكم بأن ذلك من آداب الوضوء وسننه فعليه الدليل من كتاب الله ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: (939 - 168) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالك بن أنس، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره، أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره قالت: فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد. الحديث. ورواه مسلم (¬2). فهذا في الكلام أثناء الغسل، والوضوء مثله. ¬

(¬1) الفروع (1/ 152). (¬2) البخاري (357)، مسلم (336).

الراجح من الخلاف. إن صح نقل الإجماع على كراهة الكلام أثناء الوضوء فالدليل الإجماع، وإلا فالأصل الإباحة وقد يقال: إن كان سكوت الإنسان أثناء الوضوء من أجل تصور أمتثال أوامر الشرع، فإذا غسل وجهه تذكر أنه عبد لله يمتثل أمر الله سبحانه وتعالى بقوله {فاغسلوا وجوهكم} كما يحاول أن يكون هذا الفعل مطابقاً لما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يفعل ما فعله، وفي غسل اليدين يتصور امتثاله لأمر الله سبحانه وتعالى بقوله: {وأيديكم إلى المرافق} وهكذا في كل أفعال الوضوء، إذا كان هذا لذلك فقد يكون السكوت مطلوباً، وإن كان السكوت من أجل استصحاب النية في الوضوء فهذا له بحث آخر سوف يذكر إن شاء الله تعالى في فروض الوضوء، وما عداه فيكون الكلام وعدمه على الإباحة، والاستحباب والكراهة لا بد فيهما من دليل شرعي، وقد سبق كلام النووي بأنه لم يرد نهي من الشارع عن الكلام، والله أعلم.

المبحث الأول: في الوضوء قبل الوقت قال النووي: أجمع العلماء على جواز الوضوء قبل دخول وقت الصلاة، نقل فيه الإجماع ابن المنذر في كتابه الإجماع وآخرون، هذا في غير المستحاضة ومن في معناها فإنه لا يصح وضوءها إلا بعد دخول الوقت (¬1). قلت: أما المستحاضة فقد اختلف العلماء في وضوءها هل يصح منها الوضوء قبل دخول الوقت أم لا وذلك نظراً إلى أن بعضهم يرى طهارتها طهارة ضرورة. فقيل: لا تتوضأ قبل دخول الوقت، كما أن خروج الوقت مبطل لطهارتها السابقة، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) إلا أن الشافعية يرون الوضوء يجب عليها لكل فريضة مؤداة أو مقضية بخلاف النافلة، ومذهب الحنفية والحنابلة يجب عليها الوضوء لوقت كل صلاة، فتصلي بطهارتها الفرائض والنوافل ما دام الوقت، فإذا خرج بطلت طهارتها. ¬

(¬1) المجموع (1/ 491). (¬2) الاختيار لتعليل المختار (3/ 508) حاشية ابن عابدين (1/ 504) البحر الرائق (1/ 226) مراقي الفلاح (ص60) شرح فتح القدير (1/ 181) تبيين الحقائق (1/ 64) بدائع الصنائع (1/ 28). (¬3) المجموع (1/ 543، 363)، مغني المحتاج (1/ 111)، روضة الطالبين (1/ 147، 125). (¬4) المغني (1/ 421) شرح منتهى الإرادات (1/ 120) كشاف القناع (1/ 215) الإنصاف (1/ 377) الفروع (1/ 279) شرح الزركشي (1/ 437).

وقيل: يجب عليها الوضوء لكل صلاة مطلقاً فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج، وهو اختيار ابن حزم (¬1). وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب، وبالتالي هي كغيرها تتوضأ متى شاءت. وهو مذهب المالكية، وهو الراجح (¬2). وقد ذكرت أدلة كل فريق، وبيان الراجح منه في كتابي الحيض والنفاس، وكتاب الاستنجاء، باب الاستنجاء من الحدث الدائم، فارجع إليه غير مأمور. ¬

(¬1) المحلى (مسألة: 168). (¬2) قال صاحب مواهب الجليل (1/ 291): " طريقة العراقيين من أصحابنا، أن ما خرج على وجه السلس لا ينقض الوضوء مطلقاً، وإنما يستحب منه الوضوء ". ثم قال: " والمشهور من المذهب طريقة المغاربة أن السلس على أربعة أقسام: الأول: أن يلازم، ولا يفارق، فلايجب الوضوء، ولا يستحب؛ إذ لا فائدة فيه، فلا ينتقض وضوء صاحبه بالبول المعتاد. الثاني: أن تكون ملازمته أكثر من مفارقته، فيستحب الوضوء، إلا أن يشق ذلك عليه لبرد أو ضرورة فلا يستحب. الثالث: أن يتساوى إتيانه ومفارقته، ففي وجوب الوضوء واستحبابه قولان " ثم قال: والرابع: أن تكون مفارقته أكثر، فالمشهور وجوب الوضوء، خلافاً للعراقيين فإنه عندهم مستحب. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/ 116) وانظر بهامش الصفحة التاج والإكليل. وانظر الخرشي (1/ 152)، فتح البر في ترتيب التمهيد (3/ 508)، الاستذكار (3/ 225 - 226) القوانين الفقهية لابن جزي (ص29).

واستحباب الوضوء قبل دخول وقت الصلاة يرجع إلى أن الوضوء على الصحيح عبادة مستقلة مطلوبة بذاتها، وإن كان شرطاً في صحة الصلاة فلا يمنع ذلك أن يكون عبادة مستقلة رتب الله على فعلها أجراً عظيماً من كفارة الذنوب، (940 - 169) لما روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها (¬1). الحديث الثاني: (941 - 170) ما رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا - قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا ¬

(¬1) صحيح مسلم (223).

غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه، فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول، في مقام واحد يعطي هذا الرجل، فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك (¬1). الحديث الثالث: (942 - 171) ما رواه أحمد، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن ثوبان، حدثني حسان بن عطية، أن أبا كبشة السلولي حدثه، أنه سمع ثوبان يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سددوا وقاربوا واعملوا وخيروا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن (¬2). [إسناد حسن إن شاء الله، والحديث صحيح] (¬3). ¬

(¬1) صحيح مسلم (832). (¬2) المسند (5/ 282). (¬3) وقد سبق تخريجه في فضل الوضوء، انظر حديث (477).

الحديث الرابع: (943 - 172) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا خلف -يعني ابن خليفة- عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ أنتم هاهنا لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (¬1). الحديث الخامس: (944 - 173) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (¬2). الحديث السادس: (945 - 174) ما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة يعني ابن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر ح وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر عن عمر، ¬

(¬1) مسلم (250). (¬2) صحيح البخاري (136)، مسلم (246).

مرفوعاً، وفيه: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء (¬1). (946 - 175) ومنها ما رواه أحمد، قال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين بن واقد، أخبرني عبد الله بن بريدة، قال: سمعت أبي بريدة يقول: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بلالاً، فقال: يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، إني دخلت البارحة الجنة، فسمعت خشخشتك، فأتيت على قصر من ذهب مرتفع مشرف، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من العرب؟ قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من المسلمين من أمة محمد، قلت: فأنا محمد، لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا غيرتك يا عمر لدخلت القصر، فقال: يا رسول الله ما كنت لأغار عليك، قال: وقال لبلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ قال: ما أحدثت إلا توضأت، وصليت ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بهذا. إلى غير ذلك من الأحاديث التي تدل على فضل الوضوء، ومع كون الوضوء عبادة مطلوبة لذاتها وأن يكون الإنسان دائماً على طهارة شرع الوضوء أيضاً لأسباب مختلفة، منها ذكر الله تعالى، وأشرفه قراءة القرآن، ومنها المبيت على طهارة، ومنها الوضوء للجنب عند النوم والأكل والشرب، وغيرها من الأسباب المتفق عليها أو المختلف فيها بين الفقهاء، والله أعلم. ¬

(¬1) مسلم (234).

فرع: في تساوي الذكر والأنثى في أحكام الوضوء

فرع: في تساوي الذكر والأنثى في أحكام الوضوء المرأة كالرجل في الوضوء بل في كل العبادات إلا ما دل الدليل على التفريق بينهما. قال النووي: والمرأة كالرجل في الوضوء إلا في اللحية الكثة (¬1). قلت: حتى في اللحية، فلو نبتت للمرأة لحية كان حكمها في الوضوء حكم لحية الرجل من التفصيل بين اللحية الكثيفة والخفيفة. قال الصاوي: والحاصل أن اللحية حيث كانت خفيفة وكل شعر في الوجه خفيف يجب إيصال الماء للبشرة، لا فرق بين ذكر وأنثى، وإن كان الشعر كثيفاً يكره تخليله في الوضوء، سواء كان لحية أو غيرها، لذكر أو أنثى، ولا يطالب بكل حال بغسل أسفل اللحية الذي يلي العنق، كانت كثيفة أو خفيفة (¬2). اهـ وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف: شعر غير اللحية كالحاجبين والشارب والعنفقة ولحية المرأة وغير ذلك مثل اللحية في الحكم على الصحيح من المذهب، وعليه الجمهور. وجزم به في الرعاية في لحية المرأة (¬3). ¬

(¬1) المجموع (1/ 491). (¬2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 106). (¬3) الإنصاف (1/ 134).

فرع: في تخفيف الوضوء المستحب

فرع: في تخفيف الوضوء المستحب الوضوء إذا كان مستحباً له أن يمسح ما يجب غسله، وله أن يقتصر على بعض أعضاء الوضوء. قال ابن مفلح: توضأ عليه فمسح وجهه ويديه ورأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع مثله. قال شيخنا -يعني ابن تيمية- إذا كان مستحباً له أن يقتصر على بعض الأعضاء كوضوء ابن عمر لنومه جنباً إلا رجليه، وفي الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من الليل فأتى حاجته - يعني الحدث - ثم غسل وجهه ويديه ثم نام. وذكر بعض العلماء أن هذا الغسل للتنظيف والتنشيط للذكر وغيره. اهـ (¬1). (947 - 176) وحديث علي الذي أشار إليه ابن مفلح فقد أخرجه، أحمد، قال: ثنا بهز، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال ابن سبرة، قال: رأيت علياً رضي الله تعالى عنه صلى الظهر، ثم قعد لحوائج الناس، فلما حضرت العصر أتى بتور من ماء، فأخذ منه كفا، فمسح وجهه وذراعيه، ورأسه ورجليه، ثم أخذ فضله، فشرب قائماً، وقال: إن ناساً يكرهون هذا، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وهذا وضوء من لم يحدث (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

(¬1) الفروع (1/ 151). (¬2) أحمد (1/ 153). (¬3) رجاله ثقات. والحديث أخرجه النسائي في الكبرى (133)، وفي الصغرى (130) قال: أخبرنا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عمرو بن يزيد، قال: حدثنا بهز بن أسد به. وأخرجه ابن الجعد في مسنده (459) وأبو داود الطيالسي في المسند (148) عن شعبة به. ومن طريق الطيالسي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5982). وأخرجه أحمد (1/ 123) عن وكيع. وابن جرير الطبري في تفسيره (6/ 113)، والبزار في مسنده (782) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 34) من طريق وهب بن جرير. وأخرجه أحمد (1/ 139) وابن خزيمة (16) من طريق محمد بن جعفر. وأخرجه أحمد (1/ 139) حدثنا عفان. وأخرجه الطحاوي (4/ 273) من طريق بشر بن عمر. وأخرجه البخاري (5616) البيهقي في السنن (1/ 75) من طريق آدم، كلهم عن شعبة، عن عبد الملك به. واختلف على شعبة فيه: فرواه البخاري (5616) حدثنا آدم، عن شعبة بلفظ: عن علي رضي الله عنه، أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت الصلاة، ثم أتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه وذكر رأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلة، وهو قائم، ثم قال: إن ناساً يكرهون الشرب قائماً، وإن النبي صنع مثل ما صنعت. ورواه الطيالسي (148) عن شعبة به، وفيه: فغسل وجهه ويديه، ولم يذكر المسح. ورواه جعفر بن محمد القلانسي عن آدم، وخالف البخاري في لفظه، أخرجه البيهقي (1/ 75) من طريق أبي بكر محمد بن محمويه العسكري، أنا جعفر بن محمد القلانسي، نا آدم، نا شعبة به، وذكر الوضوء بالمسح. وابن محمويه ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. وجعفر بن محمد القلانسي، ذكره ابن حبان في الثقات (8/ 163). وقال الحافظ في اللسان: ذكره أبو جعفر بن بابويه في رجال الشيعة، فالصحيح عن آدم ما ذكره البخاري عنه من ذكر الغسل وليس المسح. وخالف آدم والطيالسي جماعة رووه عن شعبة، فذكروا أن علياً مسح وجهه ويديه ورأسه ورجليه، منهم محمد بن جعفر وهو من أثبت أصحاب شعبة، ومنهم عفان ووكيع وبهز =

(948 - 177) وأما فعل ابن عمر، فأخرجه مالك في الموطأ، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان إذا أراد أن ينام أو يطعم وهو جنب، غسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسح برأسه، ثم طعم أو نام (¬1). [إسناده في غاية الصحة] (¬2). ¬

= ابن أسد، ووهب بن جرير، ولم ينفرد شعبة بذكر المسح، بل تابعه غيره، فقد تابعه الأعمش ومسعر ومنصور، وإليك تخريج رواياتهم: فقد أخرجه أحمد (1/ 78)، والترمذي في الشمائل (210)، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 159) إلا أن الأخير اقتصر على ذكر الشرب فقط، أخرجوه عن محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عبد الملك به. وأخرجه أحمد (1/ 144) وأبو يعلى في مسنده (309)، والبيهقي في السنن (7/ 282) من طريق مسعر، عن عبد الملك به. وأخرجه البخاري (5615)، قال: حدثنا أبو نعيم، وأخرجه أبو داود (3718) من طريق يحيى، وأخرجه البزار (780) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 273) من طريق أبي أحمد، ثلاثتهم عن مسعر به، بقصة الشرب قائماً فقط. وأخرجه ابن خزيمة (1/ 12) من طريقين عن مسعر به إلا أنه لم يذكر لفظه. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 159) وأبو يعلى (368) وابن خزيمة (1/ 11، 101) وابن حبان (1057،1340) من طريق منصور، عن عبد الملك به. انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (4/ 479)، تحفة الأشراف (10293)، إتحاف المهرة (14782). (¬1) الموطأ (1/ 48). (¬2) ومن طريق مالك أخرجه البيهقي (1/ 201). وأخرجه عبد الرزاق (1077) عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن عمر استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أينام أحدنا، وهو جنب؟ قال: نعم ليتوضأ ثم لينم، حتى يغتسل =

واختلف العلماء في تفسير فعل ابن عمر، وكونه توضأ إلا رجليه، فقال ابن تيمية كما سبق: إن الوضوء إذا كان مستحباً وليس بواجب فله أن يقتصر على بعض أعضائه، وهذا قد يصح إذا سلم بأن الوضوء للجنب عند إرادة النوم مستحب، وليس بواجب، وفيه خلاف قوي جداً سوف أتعرض له في حينه إن شاء الله تعالى. وقال ابن حجر: يحمل ترك ابن عمر لغسل رجليه، على أن ذلك كان لعذر. قلت: الأصل عدم العذر، ثم قوله: «وكان ابن عمر إذا أراد أن ينام، وهو جنب» ثم ذكر فعله، يدل على أن ذلك كان منه على الاستمرار، وليس لعارض أو عذر. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: لم يعجب مالكاً فعل ابن عمر، وأظنه أدخله - يعني في الموطأ - إعلاماً أن ذلك الوضوء ليس بلازم. قلت: إذا كان ليس بلازم فلماذا يغسل معظم أعضاء الوضوء، ولو كان ابن عمر تركه بالكلية لكان ذلك مشعراً بذلك، على أنه لا يتعدى أن يكون ¬

_ = إذا شاء، قال: وكان عبد الله بن عمر إذا أراد أن ينام وهو جنب صب على يده، ثم مضمض واستنثر، ونضح في عينيه، وغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسح برأسه، ثم نام، وإذا أراد أن يطعم، وهو جنب فعل مثل ذلك. وأخرجه البيهقي (1/ 201) من طريق عبد الرزاق به. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 60) والطحاوي (1/ 128) من طريق أيوب، عن نافع به. وأخرجه عبد الرزاق (1074) ومن طريقه أحمد (2/ 36) عن عبيد الله بن عمر، عن نافع به. وأخرجه عبد الرزاق (1088) عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، وجعل القصة لابن عمر، وليست لعمر، وهذا خلاف المحفوظ.

الراجح

رأياً لابن عمر، وفعل الصحابي ليس بحجة إلا إذا لم يخالف، والحجة فيما روى لا فيما رأى. وقال الطحاوي: هذا وضوء غير تام، وقد علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضوء تام، فلا يفعل هذا إلا وقد ثبت النسخ لذلك عنه. اهـ والطحاوي رحمه الله يتساهل في دعوى النسخ، حتى يرى فهم الصحابي للحديث نسخاً، والنسخ لا ينبغي أن يصار إليه إلا عند التعارض التام لدليلين شرعيين لم يمكن الجمع بينهما، وعلم المتأخر، وأما فهم الصحابي ورأيه لا ينسخ ما ثبت شرعاً. والراجح والله أعلم فيما ظهر لي أن ابن عمر فهم أن هذا الوضوء هو الذي يتقدم غسل الجنابة، وقد ورد في صفة الوضوء عند الغسل للجنابة صفتان: الأولى: أن يتوضأ وضوءاً كاملاً، ثم يغتسل. الصفة الثانية: أن يتوضأ إلا موضع قدميه، ثم يغتسل، وكلا الصفتين ثبتت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غسله للجنابة: فأخذ ابن عمر بإحدى الصفتين، وهذا فيه مجال للاجتهاد، وهل إذا توضأ للنوم، وأراد الاغتسال للجنابة يعيد الوضوء أم لا؟ هذه مسألة تحتاج إلى تأمل، والله أعلم.

الباب الثالث: في فروض الوضوء

الباب الثالث: في فروض الوضوء توطئة: تعريف الفرض لغة واصطلاحاً. الفَرْضُ الحز والقطع، ومنه أخذ فرض النفقات: وهو بيان مقدارها، وكذلك فرض المهر قال الله تعالى: {أو تفرضوا لهن فريضة} (¬1)، ومثله فرض الجند: فهو ما يقطع لهم من العطاء. وقوله تعالى: {لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضاً} (¬2)، أي: مقتطعا محدوداً. والفرض أيضاً: ما أوجبه الله تعالى، سمي بذلك؛ لأن له معالم وحدوداً. وفَرَض الله علينا كذا وافْتَرَضَ، أي: أوجب. والاسم الفَريضةُ. (949 - 178) وقد روى البخاري في صحيحه، عن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله. الحديث (¬3). ¬

(¬1) البقرة: 236. (¬2) النساء: 118. (¬3) صحيح البخاري (1454).

فرائض الوضوء اصطلاحا

فرائض الوضوء اصطلاحاً: هناك علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي. فإذا كان الفرض يأتي بمعنى الواجب، فمعنى فروض الوضوء: أي واجباته وأركانه. قال في حاشية الصاوي: المراد بالفرض هنا: ما تتوقف صحة العبادة عليه.

الفصل الأول: من فروض الوضوء غسل الوجه

الفصل الأول: من فروض الوضوء غسل الوجه من فروض الوضوء غسل الوجه، وهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (¬1). ومن السنة أحاديث كثيرة، منها: حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، في الصحيحين، ومنها: حديث عبد الله بن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب وغيرها من الأحاديث الصحيحة والحسنة. وأما الإجماع: فقد نقل الإجماع جماعة من أهل العلم. قال الطحاوي الحنفي: نظرنا في ذلك فرأينا الأعضاء التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء: الوجه واليدان والرجلان والرأس (¬2). ومراده بالاتفاق هنا: الإجماع. وقال العيني: الوجه الثالث في غسل الوجه، وهو فرض بالنص بلا خلاف (¬3). وقال ابن عبد البر: ((العلماء أجمعوا على أن غسل الوجه واليدين إلى ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) شرح معاني الآثار (1/ 33). (¬3) عمدة القارئ (3/ 9).

المرفقين والرجلين إلى الكعبين ومسح الرأس فرضٌ ذلك كله، لأمر الله في كتابه المسلم عند قيامه إلى الصلاة إذا لم يكن متوضئاً، لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلا في مسح الرجلين وغسلهما على ما نبينه في بلاغات مالك إن شاء الله)) (¬1). وقال ابن رشد المالكي: اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء (¬2). وقال الخرشي المالكي: ومحصل ذلك، أن منها فرضاً بإجماع، وهي الأعضاء الأربعة (¬3). وقال الماوردي الشافعي: أجمع المسلمون على وجوب غسله- يقصد الوجه (¬4). وقال النووي: وأجمع العلماء على وجوب غسل الوجه (¬5). ونقله في كتابه المجموع (¬6). ونقله من الحنابلة ابن قدامة في المغني (¬7)، والكافي (¬8)، وعبد الرحمن بن ¬

(¬1) التمهيد (4/ 31). (¬2) بداية المجتهد (1/ 119). (¬3) حاشية الخرشي (1/ 120). (¬4) الحاوي (1/ 107). (¬5) شرح مسلم (3/ 107) (¬6) المجموع (1/ 405). (¬7) المغني 0 (1/ 161). (¬8) الكافي (1/ 27، 34).

قدامة (¬1)، والزركشي (¬2)، وابن عبد الهادي (¬3)، وغيرهم. وانظر كتاب إجماعات ابن عبد البر في العبادات فقد نقل الإجماع عن خلق كثير، وقد استفدت منه في نقل ما سبق (¬4). فإذا ثبت عندنا غسل الوجه، من كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ومن إجماع الأمة، فإن حقيقة الغسل: هو مرور الماء على العضو. قال ابن عابدين: غسل الوجه: هو إسالة الماء مع التقاطر ولو قطرة. وقال أبو يوسف: هو مجرد بل المحل بالماء، سال أو لم يسل (¬5). قلت: يلزم من كلام أبي يوسف ألا يكون هناك فرق بين الغسل والمسح، ولكن عبارة صاحب فتح القدير أدق من هذا، فقد قال: يجزئ إذا سال بعض الماء على العضو وإن لم يتقاطر (¬6). فخرج عن صورة المسح، فتقاطر الماء ليس شرطاً، وسيلانه على العضو شرط، وإلا كان مسحاً. هل يجب عليه إمرار اليد على الوجه؟. ¬

(¬1) الشرح الكبير (49، 56، 67). (¬2) شرح الزركشي (1/ 182). (¬3) مغني ذوي الأفهام (44). (¬4) (1/ 206). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 208). (¬6) فتح القدير (1/ 11).

قال في فتح القدير: والغسل: الإسالة، يفيد أن الدلك ليس من صفته (¬1). اهـ. قلت: إمرار اليد على الوجه غاية ما فيها أنها مستحبة عند الجمهور، وعند المالكية لا يسمى غاسلاً إلا بإمرار اليد على الوجه مع الماء، وسبق أدلة القوم في مناقشة استحباب الدلك، في باب سنن الوضوء، والله أعلم. ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 11).

الفرع الأول: حد الوجه طولا وعرضا

المبحث الأول: حد الوجه الفرع الأول: حد الوجه طولاً وعرضاً اتفق الفقهاء بأن غسل الوجه من فروض الوضوء، ولكن ما حد هذا الوجه الواجب غسله طولاً وعرضاً؟ أما حد الوجه طولاً فإن الفقهاء متفقون بأن حده من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن طولاً في الأمرد، وسيأتي الكلام على حده في الملتحي (¬1). وأما حد الوجه عرضاً: فقال الجمهور: عرضه من الأذن إلى الأذن مطلقاً (¬2)، واختارها متأخروا المالكية (¬3). وقيل: حد الوجه في الملتحي: من الصدغ إلى الصدغ، وهي رواية عن مالك. وسوف يأتي الكلام في الصدغ في مسألة مستقلة. وقولنا: منابت الشعر المعتاد: خرج به غير المعتاد، وهو أقسام: ¬

(¬1) المبسوط (1/ 6)، وانظر البحر الرائق (1/ 12)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه (1/ 105)، المجموع شرح المهذب (1/ 405، 406). (¬2) انظر المراجع السابقة. (¬3) المنتقى شرح الموطأ (1/ 36).

الأول: الأجلح: وهو من كان ينحسر شعره عن مقدم رأسه (¬1) , فإذا تصلع الشعر عن ناصيته لا يجب عليه غسل ذلك الموضع. قال النووي: بلا خلاف؛ لأنه من الرأس (¬2). الثاني: الأفرع: هو الذي ينزل شعره إلى الوجه, ويقال له الأغم (¬3). فقيل: يجب عليه غسله، ولو كان عليه شعر؛ لأنه من الوجه حقيقة، وعليه الجمهور (¬4). وقيل: لا يجب غسله إلا أن يعم الجبهة كلها، وهو وجه ضعيف عند الشافعية؛ ووجهه: قالوا: لأنه في صورة الرأس. ولا تغني الصورة عن الحقيقة شيئاً. قال النووي: ولو نزل الشعر عن المنابت المعتادة إلى الجبهة نظر إن عمها وجب غسلها كلها بلا خلاف , وإن ستر بعضها فطريقان الصحيح منهما ¬

(¬1) ومنه حديث أبي هريرة في مسلم (2582) " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ". (¬2) المجموع (1/ 406)، وانظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 105)،: (¬3) قال في مواهب الجليل (1/ 184، 185): قوله: " منابت شعر الرأس المعتاد يعني التي من شأنها في العادة أن ينبت فيها شعر الرأس، واحترز بذلك من الغمم: بفتح الغين المعجمة وميمين: وهو نبات الشعر على الجبهة، فإنه يجب غسل موضع ذلك, يقال: رجل غم وامرأة غماء والعرب تذم به وتمدح بالنزع; لأن الغمم يدل على البلادة والجبن والبخل، والنزع بضد ذلك قال: فلا تنكحي إن فرق الله بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا. (¬4) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 105)، مواهب الجليل (1/ 185)، المجموع (1/)، الإنصاف (1/ 156)،

وبه قطع العراقيون وجوب غسل ذلك المستور , ونقل القاضي حسين أن الشافعي نص عليه في الجامع الكبير. (والثاني) وبه قال الخراسانيون: فيه وجهان أصحهما هذا, والثاني: لا يجب لأنه في صورة الرأس. الثالث: الأنزع. النزعتان: هما البياض الذي انحسر عنه شعر الرأس من جانبي مقدم الرأس، يقال نزع الرجل فهو أنزع (¬1). فلا يجب غسلهما؛ لأنهما من الرأس، وهو قول الجمهور (¬2). وقيل: النزعتان من الوجه، وهو وجه في مذهب الحنابلة: قال المرداوي: اختاره القاضي , وابن عقيل , والشيرازي, وقطع به القاضي في الجامع (¬3). والأول أصح؛ فكما أن ناصية الأصلع لا تدخل في الوجه، قال النووي بلا خلاف، فكذلك لا يدخل البياضان للأنزع. والله أعلم. ¬

(¬1) انظر البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 115)، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير المطبوع في مجلد واحد (ص: 910). (¬2) قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق (1/ 12): وفي المجتبى ولا يدخل في حد الوجه النزعتان , وهو ما انحسر من الشعر من جانبي الجبهة إلى الرأس ; لأنه من الرأس. اهـ وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 97). وقال الصاوي المالكي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 105): كما لا تدخل ناصية الأصلع في الوجه، لا يدخل البياضان للأنزع. اهـ وانظر البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 115)، وانظر البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 115)، والإنصاف (1/ 154). (¬3) الإنصاف (1/ 154).

الفرع الثاني: حكم البياض الواقع بين العذار وبين الأذن

الفرع الثاني: حكم البياض الواقع بين العذار وبين الأذن تعريف العذار: قال في المغرب: عذارا اللحية: جانباها، استعير من عذاري الدابة، وهما ما على خديه من اللجام، وعلى ذلك قولهم: أما البياض الذي بين العذار وشحمة الأذن صحيح. وأما من فسره بالبياض نفسه فقد أخطأ (¬1). وقال ابن الأثير في غريب الحديث: العِذَاران من الفرس كالعارضين من وجه الإنسان (¬2). وجاء في المصباح المنير: عذار اللحية: الشعر النازل على اللحيين (¬3). وقال ابن قدامة: العذار: هو الشعر الذي على العظم الناتئ، الذي هو سمت صماخ الأذن , وما انحط عنه إلى وتد الأذن (¬4). فتبين من هذا أن العذار عند أهل اللغة والفقه: هو الشعر النابت المحاذي للأذنين بين الصدغ والعارض وهو أول ما ينبت للأمرد غالباً. فإذا عرفنا العذار فما حكم البياض الواقع بين العذار والأذن، هل هو من الوجه فيجب غسله أم لا؟. اختلف الفقهاء في ذلك: ¬

(¬1) المغرب (ص: 308). (¬2) غريب الحديث والأثر (ص: 600). (¬3) المصباح المنير (ص: 207). (¬4) المغني (1/ 81).

فقيل: البياض من الوجه، وهو مذهب الجمهور، وعليه يجب غسله (¬1). وقيل: الوجه من العذار إلى العذار، وبناء عليه لا يجب غسل البياض الذي بين الأذن والعذار، وهذا القول رواه ابن وهب عن مالك (¬2). قال ابن رشد: وهو المشهور من مذهب مالك (¬3). وقيل: الفرق بين الأمرد والملتحي، فيجب غسلهما من الأمرد دون الملتحي، روي هذا القول عن أبي يوسف من الحنفية (¬4)، وحكاه بعضهم قولاً في مذهب مالك (¬5). وقيل: يسن غسله، وهو قول في مذهب المالكية (¬6). وقيل: الأذنان من الوجه، وهو قول الزهري، وسبق ذكره ودليله والجواب عليه (¬7). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 6)، فتح القدير (1/ 12)، تبيين الحقائق (1/ 3)، المفهم في شرح مسلم (1/ 486)، بداية المجتهد (1/ 119)، الخرشي (1/ 121)، مواهب الجليل (1/ 184)، فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 218)، مقدمات ابن رشد (1/ 76)، القوانين الفقهية (ص: 26)، المجموع (1/ 407)، مغني المحتاج (1/ 51)، حاشية الروض (1/ 201)، المغني (1/ 81). (¬2) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 218)، بداية المجتهد (1/ 119). (¬3) بداية المجتهد (1/ 119). (¬4) المبسوط (1/ 6)، فتح القدير (1/ 12)، تبيين الحقائق (1/ 3). (¬5) انظر ما سبق من العزو إلى كتب المالكية، وانظر الفواكه الدواني (1/ 138). (¬6) قال في الفواكه الدواني عن غسل البياض الذي بين العذار وبين الأذن (1/ 138): وفيه أربعة أقوال: وجوب غسله مطلقاً, عدم وجوبه مطلقاً, الوجوب على الأمرد وعدمه لصاحب اللحية, والرابع سنية غسله, والمشهور الأول وهو وجوب غسله مطلقاً. وانظر مواهب الجليل (1/ 184). (¬7) انظر الكلام عليه في فصل: هل الأذنان من الرأس

دليل الجمهور

وقيل: ما أقبل من الأذنين من الوجه، وظاهرهما من الرأس، وهو قول الشعبي، وسبق ذكر دليله والجواب عليه (¬1). دليل الجمهور: أن هذا البياض من الوجه؛ لأنه تحصل به المواجهة كالخد. ولأنه من الوجه في حق المرأة وفي حق الرجل الأمرد، فكذلك من له لحية. دليل من قال: ليس من الوجه. لا أعلم له دليلاً حتى قال ابن عبد البر في التمهيد: لا أعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك (¬2). دليل من قال: سنة. ذكر هذا القول جماعة من المالكية كما سبق عزوه عند ذكر الأقوال، ولم يذكروا دليل السنية، ولعل من قال به نظر إلى ختلاف أصحاب مالك في وجوب غسله، فتوسط بين قولين: بين القول بوجوب غسله، وبين القول القائل: لا يغسل. والله أعلم. ¬

(¬1) انظر الكلام عليه في فصل: هل الأذنان من الرأس. (¬2) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 218).

الفرع الثالث: في غسل شعر الوجه

الفرع الثالث: في غسل شعر الوجه وفيه مسائل: المسألة الأولى: في شعر اللحية اتفق الجمهور على تقسيم شعر اللحية إلى قسمين: خفيف، وكثيف: فالكثيف: لا يجب إيصال الماء إلى البشرة. والشعر الخفيف: يجب إيصال الماء إلى ما تحته من البشرة (¬1)، واختلف في حد الشعر الكثيف، فقيل: ما ستر البشرة عن الناظر في مجلس التخاطب، وعليه الأكثر. وقيل: ما عده الناس خفيفاً فهو خفيف، وما عدوه كثيفاً فهو كثيف. وقيل: ما وصل الماء إلى تحته بلا مشقة فهو خفيف، وإلا فهو كثيف. والثاني والثالث غير منضبط، والأول حد فاصل فهو معتبر (¬2). وقيل: يسقط غسل البشرة مطلقاً إذا نبت عليه شعر، سواء كان الشعر خفيفاً أو كثيفاً، وهو ظاهر كلام الكاساني في بدائع الصنائع، ولم يرتضيه ابن نجيم وابن عابدين (¬3). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 12)، البحر الرائق (1/ 16)، الخرشي (1/ 122)، حاشية الدسوقي (1/ 86)، مواهب الجليل (1/ 185)، المجموع (1/ 409)، الإنصاف (1/ 157). (¬2) المجموع (1/ 409، 410). (¬3) وهو ظاهر عبارة الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 3) حيث يقول: الوجه يجب غسله قبل نبات الشعر , فإذا نبت الشعر سقط غسل ما تحته عند عامة العلماء, وقال أبو عبد الله =

دليل من فرق بين الشعر الخفيف والكثيف

وقيل: يجب غسل البشرة مطلقاً حتى في اللحية الكثيفة، حكي عن بعض المالكية (¬1)، واختاره المزني وأبو ثور (¬2)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل من فرق بين الشعر الخفيف والكثيف. الأصل: وجوب غسل البشرة لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى؛ إذا كان كثيفاً؛ لأنها طهارة مبنية على التخفيف، ولأن إيصال الماء إلى الحوائل في الوضوء كاف وإن لم تكن متصلة بالبدن اتصال خلقة كالخف والعمامة والجبيرة فالمتصل خلقة أولى. ¬

= البلخي: إنه لا يسقط غسله، وقال الشافعي: إن كان الشعر كثيفا يسقط , وإن كان خفيفاً لا يسقط. اهـ فهو جعل الأقوال ثلاثة: الأول: يسقط غسل الوجه مطلقاً عند عامة العلماء إذا نبت الشعر، والقول الثاني: لا يسقط مطلقاً عند أبي عبد الله البلخي، كثيفاً كان الشعر أو خفيفاً، والثالث: مذهب الشافعي: وهو التفصيل بين الشعر الكثيف والخفيف، فيسقط غسل البشرة في الكثيف، ولا يسقط غسله في الخفيف. وقال ابن عابدين في حاشيته (1/ 101): أما ما في البدائع من أنه إذا نبت الشعر يسقط غسل ما تحته عند عامة العلماء كثيفاً كان أو خفيفاً ; لأن ما تحته خرج من أن يكون وجها ; لأنه لا يواجه به اهـ فمحمول على ما إذا لم تر بشرتها، كما يشير إليه التعليل. اهـ وحمل ابن نجيم كلام الكاساني بمثل ما حمله ابن عابدين، انظر البحر الرائق (1/ 16). وهذا الحمل غير ظاهر، لأنه لو حمل على ذلك لم يكن بينه وبين مذهب الشافعي فرق، والله أعلم. (¬1) مواهب الجليل (1/ 185). (¬2) المجموع (1/ 409). (¬3) الإنصاف (1/ 157).

الدليل على أن ما تحت الشعر الكثيف لا يجب غسله

والدليل على أن ما تحت الشعر الكثيف لا يجب غسله. (950 - 179) حديث ابن عباس في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فغرف غرفة فغسل بها وجهه. الحديث. وبغرفة واحدة لا يصل الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف مع كثافة اللحية، خاصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثير شعر اللحية كما في مسلم، وفي رواية: كان كث اللحية: أي الشعر الكثير ليس بالطويل ولا بالقصير. ولو كان غسل ما تحت الشعر واجباً لنقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته، ولم يذكر التخليل في أحاديث الصحيحين كحديث عبد الله ابن زيد، وعثمان بن عفان، وغيرهما، والله أعلم. دليل من أوجب غسل البشرة مطلقاً لعلهم قاسوا ذلك على غسل الجنابة، بجامع أن كلاً منهما طهارة من حدث. والدليل على وجوب إيصال الماء إلى البشرة في غسل الجنابة. (951 - 180) ما رواه البخاري في صحيحه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. ولعلهم رأوا أن الواجب هو غسل البدن، وإذا طرأ على البدن شعر لم يمنع ذلك من وجوب غسل البدن، حتى يتعذر غسله، والشعر لا

يمنع من وصول الماء إلى البدن. ويجاب على ذلك: بأن الطهارة الصغرى مبنية على التخفيف، ولذلك جاز فيها المسح على الرأس وعلى الخفين، وكانت على أعضاء مخصوصة، بخلاف الطهارة الكبرى فإن طهارتها ليس فيها مسح، وتعم جميع البدن، والله أعلم. كما يمكن أن يستدل ببعض الأدلة التي سقناها في تخليل اللحية، وفيها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي. ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي. والأصل في الأمر الوجوب. انظر هذه الأدلة في مسألة تخليل اللحية. وهي أحاديث كلها ضعيفة، لا تقوم بها حجة. وقالوا: إن ما تحت الشعر الكثيف بقي داخلاً في حد الوجه بعد نبات الشعر، فيجب غسله. وجاء عن سعيد بن جبير: ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها، وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية. ولعل كلام سعيد بن جبير يكون متوجهاً لمن قال: يسقط الغسل إلى غير بدل، أما من غسل لحيته فلا يقال له: فإذا أنبت لما لم يغسلها، والله أعلم. والراجح من خلاف أهل العلم التفريق بين الشعر الخفيف والشعر الكثيف، فيجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الخفيف، نظراً لأن البشرة ما زالت ظاهرة غير مستترة، والأصل وجوب غسل البشرة، فإن حجبت بالشعر كان الغسل للشعر فقط، وناب مناب البشرة.

المسألة الثانية: شعر اللحية هل يغسل أم يمسح

المسألة الثانية: شعر اللحية هل يغسل أم يمسح اختلف العلماء في شعر اللحية هل يغسل أم يمسح كما في شعر الرأس ونحوه، فقيل: يمسح منها مقدار الربع، وهو قول أبي حنفية (¬1)، واختار أبو يوسف صحة الوضوء ولو لم يمس لحيته بالماء (¬2). قال الكاساني: وهذه الرويات - يعني رواية أبي حنيفة وأبي يوسف مرجوع عنها (¬3). وقيل: ليس غسل اللحية من السنة، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬4). وقيل: يجب غسله، وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬5)، والشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). دليل من قال: يمسح اللحية بدون غسل. رأى أن الشعر على الوجه حكمه حكم الحائل من خف ونحوه، فينتقل الفرض من الغسل إلى المسح، ولذلك قالوا: لا يشرع أن يأخذ للحية ماء ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 480) تبيين الحقائق (1/ 3)، الفتاوى الهندية (1/ 4). (¬2) أحكام القرآن للجصاص (2/ 480)، تبيين الحقائق (1/ 3). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 4)، ورجح الزيلعي في نصب الراية وجوب غسل ظاهر اللحية، ولم يقل: إن القول بالمسح قد رجع عنه أبو حنيفة وأبو يوسف، انظر تبيين الحقائق (1/ 3). (¬4) قال في الإنصاف (1/ 156): نقل بكر عن أبيه أنه سأل أحمد: أيما أعجب إليك، غسل اللحية أو التخليل؟ فقال: غسلها ليس من السنة , وإن لم يخلل أجزأه. فأخذ من ذلك الخلال: أنها لا تغسل مطلقاً، فقال: الذي ثبت عن أبي عبد الله: أنه لا يغسلها، وليست من الوجه، ورد ذلك القاضي وغيره من الأصحاب، وقالوا: معنى قوله " ليس من السنة " أي غسل باطنها. (¬5) بدائع الصنائع (1/ 4)، تبيين الحقائق (1/ 3). (¬6) المجموع (1/ 414)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 116). (¬7) الفروع (1/ 146)، الإنصاف (1/ 156)، المغني (1/ 81).

دليل من قال: يجب غسل اللحية

جديداً، بل بفضل ماء الوجه. ومن قال: يمسح مقدار الربع من اللحية، رأى أن كل ممسوح طهارته مبنية على التخفيف، فالخف لا يجب استيعابه، وكذلك مسح الرأس عنده، فإذا مسح من اللحية ومن الرأس مقدار الربع فقد قام بما هو واجب عليه. دليل من قال: يجب غسل اللحية. قال: إن الواجب غسل البشرة، وحين استترت بالشعر انتقل الواجب إلى الشعر حيث كان كثيفاً، أما لو كان خفيفاً لوجب غسل البشرة، فالغسل لا يسقط. وقد جاء في حديث ظاهره غسل اللحية (952 - 181) فقد روى مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا - عن أبي أمامة، قال: قال عمرو بن عبسة السلمي ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. الحديث. فإذا كان الماء يقطر من أطراف اللحية كان هذا دليلاً على غسلها، وليس على مسحها فقط، والله أعلم.

المسألة الثالثة: شعر الوجه فيما عدا اللحية

المسألة الثالثة: شعر الوجه فيما عدا اللحية شعر الوجه سوى اللحية كالعذار وشعر الحاجبين والشارب وأهداب العينين والعنفقة ونحوها. فالجمهور لا يفرقون بين شعر اللحية وبين غيرها مما ينبت في الوجه كالشارب والعنفقة وشعر الحاجبين، فما كان كثيفاً غسل ظاهره، وما كان خفيفاً وجب غسل البشرة تحته (¬1). وذهب الشافعية إلى التفريق بين شعر اللحية وبين غيرها، فقالوا في اللحية كقول الجمهور، فرقاً بين الكثيفة والخفيفة، وأما شعر غير اللحية فأوجبوا وصول الماء إلى تحت البشرة مطلقاً، كثيفاً كان أو خفيفاً. قال النووي: «قال أصحابنا ثمانية من شعر الوجه يجب غسلها وغسل البشرة تحتها، سواء خفت أو كثفت، وهي: الحاجبان، والشارب، والعنفقة، والعذار، واللحية من المرأة والخنثى، وأهداب العينين، وشعر الخد» (¬2). وعللوا ذلك: بأن الشعر كونه كثيفاً في هذه المواضع نادر، والنادر لا حكم له. وقول الجمهور أرجح؛ لأن شعر اللحية كغيره، فالأصل غسل البشرة، فلما حجبها الشعر انتقل الحكم إلى الشعر، لأن الحكم في اللحية إن كان ¬

(¬1) انظر بدائع الصنائع (1/ 3)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 106)، وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف (1/ 134): شعر غير اللحية كالحاجبين والشارب والعنفقة ولحية المرأة وغير ذلك مثل اللحية في الحكم على الصحيح من المذهب، وعليه الجمهور. وجزم به في الرعاية في لحية المرأة. وقيل: يجب غسل باطن ذلك كله مطلقاً. (¬2) المجموع (1/ 411).

معللاً بكونه تحصل به المواجهة، فقد انتقلت هذه العلة إلى الشعر، ولم تبق البشرة تحصل بها المواجهة بعد سترها، وإن كان الحكم في اللحية معللاً بالمشقة في إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف، فالمشقة موجودة في شعر الشارب الكثيف والحاجب الكثيف ونحوهما، والله أعلم.

المسألة الرابعة: في غسل المسترسل من اللحية

المسألة الرابعة: في غسل المسترسل من اللحية اختلف العلماء في حكم ما استرسل من اللحية، فقيل: يجب غسل ظاهره، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وعليه أكثر الشافعية (¬3). وقيل: لا يجب بل يسن، وهو مذهب الحنفية (¬4) وأحد قولي الشافعية (¬5). ¬

(¬1) الخرشي (1/ 121)، الشرح الصغير (1/ 105)، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب (1/ 190)، حاشية الدسوقي (1/ 85)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 53). (¬2) الفروع (1/ 146)، الإنصاف (1/ 156)، المغني (1/ 81). (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 25): وأحب أن يمر الماء على جميع ما سقط من اللحية عن الوجه وإن لم يفعل فأمرَّه على ما على الوجه ففيها قولان: أحدهما لا يجزيه; لأن اللحية تنزل وجهاً. والآخر يجزيه إذا أمره على ما على الوجه منه. اهـ نقلاً من الأم. وقال النووي في المجموع (1/ 414): قال أصحابنا: إذا خرجت اللحية عن حد الوجه طولا أو عرضا أو خرج شعر العذار أو العارض أو السبال فهل يجب إفاضة الماء على الخارج؟ فيه قولان مشهوران, وهذه المسألة أول مسألة نقل المزني في المختصر فيها قولين: الصحيح منهما عند الأصحاب الوجوب, وقطع به جماعات من أصحاب المختصرات. والثاني: لا يجب لكن يستحب. الخ كلامه رحمه الله. (¬4) قال في بدائع الصنائع (1/ 4): ولا يجب غسل ما استرسل من اللحية عندنا , وعند الشافعي يجب ". اهـ وانظر الفتاوى الهندية (1/ 4)، تبيين الحقائق (1/ 3)، وكتب الحنفية تعبر بقولها: " ولا يجب غسل المسترسل من اللحية " والتعبير بنفي الوجوب لا يستلزم نفي الاستحباب، إلا أن ابن عابدين في حاشيته (1/ 97) قال: " لا يجب غسل المسترسل ولا مسحه بل يسن ". (¬5) انظر ما نقلته قبل قليل من كلام النووي في المجموع.

دليل من قال: يجب غسل المسترسل من اللحية

وقيل: لا يشرع غسله، وهو اختيار ابن حزم رحمه الله (¬1). دليل من قال: يجب غسل المسترسل من اللحية. استدل بقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} (¬2)، فالله أمر بغسل الوجه أمراً مطلقاً، ولم يخص صاحب لحية من أمرد، فكل ما أطلق عليه اسم وجه فواجب غسله؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، فوجب غسلها بدلاً من البشرة. ولأن اللحية النازلة من الذقن تشبه اللحية النابتة على الخد، فإذا وجب غسل النابت على الخد وجب غسل النابت على الذقن مطلقاً سواء نزل على الصدر أم لم ينزل. دليل من قال: لا يشرع غسل المسترسل. أولاً: الأصل المأمور بغسله: هو بشرة الوجه، وإنما وجب غسل اللحية بدلاً من البشرة حين نبتت فوق الوجه، وما انسدل من اللحية على الصدر ليس تحته ما يلزم غسله فيكون غسل اللحية بدلاً منه. ثانياً: القياس على الرأس، فكما أن جلد الرأس مأمور بمسحه، فلما نبت عليه الشعر ناب مسح الشعر عن مسح الرأس، وما انسدل من الرأس سقط، فليس تحته بشرة يلزم مسحها، ومعلوم أن الرأس سمي رأساً لعلوه ونبات الشعر فيه، وما سقط من الشعر وانسدل فليس برأس، فكذلك ما انسدل من اللحية فليس بوجه (¬3). ¬

(¬1) المحلى (مسألة 198). (¬2) المائدة: 6. (¬3) انظر فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 224)، والمحلى (مسألة 198).

دليل من قال: يسن ولا يجب

دليل من قال: يسن ولا يجب. لعله قال ذلك احتياطاً، وخروجاً من الخلاف، فلم يبلغ الدليل عنده من القوة ما يجعله يجزم بالوجوب، ورأى أن الاحتياط في الترغيب في مسحه فاستحبه، خاصة أن فيه من الأدلة ما يدل على غسل ظاهر اللحية، (953 - 182) كما في الحديث الذي رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا - عن أبي أمامة، قال: قال عمرو بن عبسة السلمي ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. الحديث. فقوله: من أطراف لحيته مطلق، يشمل اللحية المسترسلة وغيرها. والله أعلم. الراجح: أن اللحية المسترسلة لا يجب غسلها، لقوة أدلة القائلين بعدم الوجوب، وأما قولهم: إنها تحصل بها المواجهة لا يكفي في الوجوب، فالرقبة متصلة بالوجه، وتحصل بها المواجهة ولا يجب غسلها، فكيف بالشعر النازل عن حد الرقبة، وأما حديث «مع أطراف لحيته» فلا يشعر بالوجوب، قد يشعر بالاستحباب، مع أن الحديث ليس نصاً في اللحية المسترسلة، والله أعلم.

الفرع الرابع: إذا غسل وجهه غسل جزء من الجوانب المحيطة به

الفرع الرابع: إذا غسل وجهه غسل جزء من الجوانب المحيطة به ذكر كثير من الفقهاء أن على المتوضئ إذا غسل وجهه أن يغسل جزءاً من رأسه، وسائر الجوانب المجاورة للوجه، احتياطاً، وليس هذا الغسل وجباً لنفسه وجوب المقاصد، وإنما وجب لغيره من باب الوسائل، لأن استيعاب الوجه واجب، ولا يمكنه الاستيعاب إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما يجب إمساك جزء من الليل في الصيام ليستوعب النهار (¬1). ¬

(¬1) أحكام القرآن لابن العربي (2/ 54)، مواهب الجليل (1/ 187)، والمستصفى (ص: 66)، المغني (1/ 33)، المجموع (1/ 416)، المنثور في القواعد (1/ 230)،

الفرع الخامس: في الكلام على الأنف والفم

الفرع الخامس: في الكلام على الأنف والفم أما ظاهر الأنف وحمرة الشفتين الظاهرة فهما من الوجه، فيجب غسلهما لدخولهما في حد الوجه طولاً وعرضاً، وأما باطن الأنف وداخل الفم فهل يدخلان في الوجه، فتكون المضمضة والاستنشاق واجبين في الوضوء؟ أو لا يدخلان في حد الوجه، كما لا يدخل باطن العينين فيه؟ فتكون المضمضة والاستنشاق سنة، وقبل نقل خلاف العلماء في المضمضة والاستنشاق يبنغي أن أبين أن المضمضة والاستنشاق مجمع على مشروعيتهما في الوضوء، وإنما الخلاف في وجوبهما. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: والذي عليه المسلمون أن الاستنشاق والمضمضة من سنة الوضوء التي لا يجوز تركها (¬1). وقال ابن عبد البر: أجمع المسلمون طراً: أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء، وكذلك المضمضة ومسح الأذنين (¬2). وقال ابن حزم: واتفقوا على أن من غسل يديه ثلاثاً ثم مضمض ثلاثاً ثم استنشق ثلاثاً .... أنه قد أدى ما عليه في الأعضاء المذكورة (¬3). وأما الخلاف في وجوبهما فقد اختلف أهل العلم فيهما على أقوال: فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء وفي الغسل، وهو مذهب المالكية والشافعية. ¬

(¬1) الطهور (ص: 213). (¬2) التمهيد (18/ 225). (¬3) مراتب الإجماع (ص: 18).

وقيل: واجبان في الوضوء والغسل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. هذان قولان متقابلان. وفيه قولان آخران متقابلان أيضاً: فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، واجبان في الغسل، وهذا مذهب الحنفية. وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل. وقيل: المضمضة سنة، والاستنشاق واجب فيهما. والراجح: أن المضمضة سنة في الوضوء وفي الغسل، وأما الاستنشاق فواجب في الوضوء سنة في الغسل، والله أعلم. وانظر أدلة الأقوال في سنن الوضوء، فقد ذكرتها هناك.

الفرع السادس: في غسل ما تحت الذقن

الفرع السادس: في غسل ما تحت الذقن قال في مواهب الجليل: وليس عليه أن يغسل ما تحت الذقن، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً (¬1). قلت: يقصد والله أعلم استيعاب ما تحت الذقن بالغسل، وإلا فقد تقدم أنه يجب عليه إذا غسل رأسه أن يغسل ما يجاوره من جوانب الوجه، فلا بد أن يغسل جزءاً ولو يسيراً من تحت ذقنه، ليمكنه استيعاب وجهه. ولذلك قال النووي: يجب على المتوضئ غسل جزء من رأسه ورقبته وما تحت ذقنه مع الوجه؛ لأنه لا يمكنه استيعاب الوجه إلا بذلك، كما يجب إمساك جزء من الليل من الصيام ليستوعب النهار (¬2). اهـ ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 185). (¬2) المجموع (1/ 416).

الفصل الثاني: من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين

الفصل الثاني: من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين، وهو فرض بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعال: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (¬1). وأما السنة فالأحاديث الكثيرة الواردة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد وغيرهما وسبق تخريجهما. وأما الإجماع فقد نقله جماعة كثيرة من أهل العلم، أقتصر على بعضهم: قال الطحاوي الحنفي: نظرنا في ذلك، فرأينا الأعضاء التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء: الوجه، واليدان، والرجلان، والرأس (¬2). وقال ابن عبد البر: «العلماء أجمعوا على أن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين ومسح الرأس فرضٌ ذلك كله، لأمر الله في كتابه المسلم عند قيامه إلى الصلاة إذا لم يكن متوضئاً، لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلا في مسح الرجلين وغسلهما على ما نبينه في بلاغات مالك إن شاء الله» (¬3). وقال الخرشي المالكي: «ومحصل ذلك، أن منها فرضاً بإجماع، وهي الأعضاء الأربعة» (¬4). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) شرح معاني الآثار (1/ 33). (¬3) التمهيد (4/ 31). (¬4) حاشية الخرشي (1/ 120).

وقال القاضي أبو الوليد بن رشد: «فرائض الوضوء ثمانية: منها أربعة متفق عليها عند أهل العلم، وهي التي نص الله تبارك وتعالى عليها، غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين» (¬1). وقال الماوردي الشافعي: «غسل الذراعين واجب بالكتاب والسنة والإجماع» (¬2). وقد نقل الإجماع من الشافعية الخطيب الشربيني (¬3)، والبجيرمي (¬4)، والنووي (¬5)، وغيرهم. كما نقله من الحنابلة: ابن مفلح (¬6)، والزركشي (¬7)،وغيرهم. ¬

(¬1) مقدمات ابن رشد (1/ 53). (¬2) الحاوي الكبير (1/ 112). (¬3) مغني المحتاج (1/ 52). (¬4) حاشية البجيرمي (1/ 71). (¬5) الفروع (1/ 147). (¬6) شرح الزركشي (1/ 188). (¬7) مغني ذوي الأفهام (44).

المبحث الأول: في غسل المرفقين مع اليدين

المبحث الأول: في غسل المرفقين مع اليدين ذهب الجمهور إلى وجوب إدخال المرفقين في غسل اليدين (¬1). وقال زفر وأبو بكر بن داود: لا يجب إدخال المرفقين (¬2)، وهو رواية عن مالك (¬3)، وأحمد (¬4)، وهو رأي ابن حزم (¬5). دليل الجمهور: الدليل الأول: (954 - 883) حديث أبي هريرة في مسلم، من طريق نعيم بن عبد الله المجمر قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 4)، البناية (1/ 106)، شرح فتح القدير (1/ 15)، المبسوط (1/ 6)، الشرح الصغير (1/ 107)، الشرح الكبير المطبوع مع حاشية الدسوقي (1/ 87)، المنتقى للباجي (1/ 36)، الحاوي الكبير (1/ 112)، البيان في مذهب الشافعي (1/ 120)، المجموع (1/ 419)، الإنصاف (1/ 157)، الكافي (1/ 28)، المحرر (1/ 11)، المقنع في شرح مختصر الخرقي (1/ 201)، المغني (1/ 84، 85). (¬2) المبسوط (1/ 6)، بدائع الصنائع (1/ 4)، البناية (1/ 106)، البيان في مذهب الشافعي (1/ 120)، الحاوي الكبير (1/ 112)، المجموع (1/ 419). (¬3) المنتقى للباجي (1/ 36). (¬4) الإنصاف (1/ 157). (¬5) المحلى (1/ 294) مسألة: 198.

الدليل الثاني

في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله (¬1). وجه الاستدلال: كون أبي هريرة غسل يده حتى أشرع في العضد، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ صريحاً في الرفع. قال القرطبي في المفهم: (أشرع) رباعي أي: مد يده بالغسل إلى العضد، من قولهم: أشرعت الرمح قبله: أي مددته إليه، وسددته نحوه، وأشرع باباً إلى الطريق، أي: فتحه مسدداً إليه، وليس هذا من شرعت في هذا الأمر، ولا من شرعت الدواب في الماء بشيء؛ لأن هذا ثلاثي، وذاك رباعي، ثم قال: والإشراع المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة محمول على استيعاب المرفقين والكعبين بالغسل، وعبر عن ذلك بالإشراع في العضد والساق؛ لأنهما مباديهما (¬2). الدليل الثاني: (955 - 184) ما رواه الدارقطني من طريق عباد بن يعقوب، حدثنا القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء ¬

(¬1) صحيح مسلم (246). (¬2) المفهم (1/ 498).

الدليل الثالث

على مرفقيه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (956 - 185) ما رواه الدارقطني من طريق عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، نا عمي (يعقوب بن إبراهيم بن سعد) أخبرنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله بن معمر التيمي، عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه حدثه، أنه سمع عثمان بن عفان، قال: هلموا أتوضأ لكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين (¬3). [قوله: «حتى مس أطراف العضدين» زيادة شاذة في الحديث] (¬4). ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 56). (¬2) قال الدارقطني عقب الحديث: ابن عقيل ليس بالقوي. ورواه البيهقي (1/ 56) من طريق سويد بن سعيد، حدثنا القاسم بن محمد به بنحوه. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (1/ 57): القاسم متروك عند أبي حاتم، وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وكذا ضعفه أحمد وابن معين، وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات، ولم يلتفت إليه في ذلك، وقد صرح بضعف هذا الحديث ابن الجوزي، والمنذري، وابن الصلاح، والنووي، وغيرهم، ويغني عنه ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ حتى أشرع في العضد. اهـ وانظر إتحاف المهرة (2854). (¬3) سنن الدارقطني (1/ 83)، وانظر إتحاف المهرة (13645). (¬4) وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، كما عند أحمد، لكن اختلف على يعقوب بن إبراهيم: فرواه عبيد الله بن سعد، عن عمه يعقوب بن إبراهيم، وزاد: حتى مس أطراف العضدين". =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (957 - 186) ما رواه البزار، كما في مختصر زوائد البزار (¬1)، والطبراني في الكبير (¬2)، من طريق محمد بن حجر، ثنا سعيد بن عبد الجبار بن وائل بن حجر، عن أبيه، عن أمه، عن وائل بن حجر، قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتي بإناء فيه ماء، فذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ، وفيه: ثم أدخل يمينه في الإناء، فغسل بها ذراعه اليمنى، حتى جاوز المرافق ثلاثاً، ثم غسل يساره بيمينه حتى جاوز المرفق، ثم مسح رأسه ثلاثاً، وظاهر أذنيه ثلاثاً، وظاهر رقبته، وأظنه قال: وظاهر لحيته ثلاثاً، ثم غسل بيمينه قدميه ثلاثاً، وفصل بين أصابعه، أو قال: ¬

= ورواه أحمد (1/ 68) حدثنا يعقوب به، ولم يزد على قوله: " ثم غسل يديه إلى المرفقين". كما رواه يحيى بن كثير، عن محمد بن إبراهيم به، ولم يذكر هذه اللفظة، فقد أخرجه البخاري (6433)، والنسائي في السنن الكبرى (175) من طريق شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، واختصره. كما رواه البخاري (159) ومسلم (226) من طريق عطاء بن يزيد، عن حمران به، ولم يذكر هذه الزيادة، فانفراد ابن إسحاق فيها، مع أنه مختلف عليه في ذكرها مما يجعل في النفس شيئاً في ثبوتها من طريق حمران، وقد قال الذهبي عن ابن إسحاق: إن ما تفرد به ففيه نكارة. اهـ وقد لا يكون الحمل على ابن إسحاق في هذه الزيادة، لأن الحديث قد خرجه أحمد من طريق ابن إسحاق، وليس فيه هذه الزيادة، فقد يكون الحمل على عبيد الله بن سعد لانفراده عن عمه يعقوب بن إبراهيم بن سعد بهذه اللفظة، والله أعلم. (¬1) زوائد البزار (165). (¬2) الطبراني في الكبير (12/ 118).

الدليل الخامس

وخلل بين أصابعه، ورفع الماء حتى جاوز الكعب، ثم رفعه في الساق، ثم فعل باليسرى مثل ذلك. وهذا لفظ البزار. [إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الخامس: (958 - 187) ما رواه الطحاوي من طريق الحماني وأبي الوليد الطيالسي، كلاهما عن قيس بن الربيع، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد العبدي، عن أبيه: قال: ما أدراكم حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزواجاً أو أفراداً: ما من عبد يتوضأ، فيحسن الوضوء، فيغسل وجهه حتى يسيل الماء على ذقنه، ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه، ثم يغسل رجليه ¬

(¬1) في إسناده: محمد بن حجر. قال أبو حاتم: كوفي شيخ. الجرح والتعديل (7/ 239). وقال البخاري: فيه نظر. الكامل (6/ 156)، وعبارة البخاري في الضعفاء للعقيلي (4/ 59)، وفي لسان الميزان (5/ 119): فيه بعض النظر. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي. لسان الميزان (5/ 119) .. وفي إسناده أيضاً: سعيد بن عبد الجبار، قال البخاري: فيه نظر. التأريخ الكبير (3/ 495). قال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين للنسائي (265)، الكامل (3/ 387). وقال ابن عدي: ليس له كثير حديث، إنما له عن أبيه، عن جده أحايث يسيرة نحو الخمسة أو الستة. الكامل (3/ 387). وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 350). وفي التقريب: ضعيف. وعبد الجبار بن وائل وإن كان ثقة إلا أنه قيل: إنه لم يسمع من أمه، فالإسناد ضعيف.

حتى يسيل الماء من قبل كعبيه، ثم يقوم فيصلي ركعتين إلا غفر له ما سلف من ذنبه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). فاعتبر الحافظ هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً. قال في الفتح: ((ويمكن أن يستدل لدخولهما يعني - المرفقين - بفعله - صلى الله عليه وسلم -، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين. وفيه عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء (فغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق). وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد، عن أبيه مرفوعاً " ثم ¬

(¬1) الطحاوي (1/ 37). (¬2) في إسناده الحماني حافظ مجروح، متهم بسرقة الحديث إلا أنه قد توبع، وفي إسناده قيس بن الربيع قال الحافظ في التقريب: صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه. وفي إسناده ثعلبة بن عباد العبدي، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحاً. الجرح والتعديل (2/ 436). وقال العجلي: مجهول. معرفة الثقات (195). وذكره ابن حبان في الثقات (4/ 98). قال ابن المديني وابن حزم وابن القطان الفاسي: مجهول، وصحح حديثه الترمذي. تهذيب التهذيب (2/ 22). وفي التقريب: مقبول. انظر إتحاف المهرة (6753).

الدليل السادس

غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه " فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً)) (¬1). اهـ قلت: إن كان الاستدلال بالفعل المجرد على وجوب إدخال المرفقين فالاستدلال بحديث أبي هريرة في مسلم أولى، وقد تقدم ذكره في أدلتهم. الدليل السادس: لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أخل ولو مرة واحدة، فترك غسل المرفقين، فكل من نقل لنا صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - نقل لنا أنه كان يغسل مرفقيه، فهذا بيان للمجمل في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (¬2). وإنما تلقينا صفة الوضوء من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المبين لما أنزل عليه. الدليل السابع: قال الماوردي: لا يعرف فيه خلاف - يعني: وجوب غسل المرفقين - قبل زفر، فكان زفر محجوجاً بإجماع من تقدمه. اهـ وقال الحافظ: «قال الشافعي في الأم: لا أعلم مخالفاً في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فعلى هذا يكون زفر محجوجاً بالإجماع قبله، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحاً، وإنما حكى عن أشهب كلاماً محتملاً» (¬3). اهـ كلام الحافظ. ولا أدري هل يستقيم القول: بأنه محجوج بالإجماع قبله، مع مخالفة زفر ¬

(¬1) فتح الباري (ح 185). (¬2) المائدة: 6. (¬3) فتح الباري (185).

والطبري وبعض أصحاب داود، ومالك وأحمد في رواية عنهما، وهل ثبت الإجماع فعلاً؟ أو تكون عبارة: لا أعلم مخالفاً ليست نقلاً للإجماع، بقدر ما هي نقل لعدم العلم بالخلاف، وبينهما فرق. دليل من قال: لا يجب غسل المرفقين. استدلوا بقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} فكلمة (إلى) لانتهاء الغاية فما بعدها غير داخل فيما قبلها، كما لا يجب دخول الليل في الصيام لقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} (¬1). وأجيب عن الآية بجوابين: الأول: أن «إلى» في هذا الموضع بمعنى (مع) وليست غاية للمحدود، فيكون معنى الآية {وأيديكم إلى المرافق} أي مع المرافق، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، كما في قوله تعالى: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} (¬2)، أي مع شياطينهم. وكما في قوله تعالى: {من أنصاري إلى الله} (¬3)، أي: مع الله. وكما في قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (¬4)، أي: مع أموالكم. وقال ابن عبد البر: وقد تكون إلى بمعنى الواو، فيكون المعنى: وأيديكم والمرافق)). ¬

(¬1) البقرة: 187. (¬2) البقرة: 14. (¬3) آل عمران: 52. (¬4) النساء: 2.

الجواب الثاني: أن إلى وإن كانت حداً وغاية فقد قال المبرد: إن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل في جملته، وإن كان من غير جنسه لم يدخل، ألا تراهم يقولون: بعتك الثوب من الطرف إلى الطرف، فيدخل الطرفان في البيع؛ لأنهما من جنسه، وكذلك لم يدخل إمساك الليل في جملة الصيام؛ لأنه ليس من جنس النهار (¬1). وقال ابن عبد البر في التمهيد: وأنكر بعض أهل العلم أن تكون (إلى) بمعنى (مع) أو تكون بمعنى (الواو) قال: ولو كان كذلك لوجب غسل اليد كلها، واليد عند العرب: من أطراف الأصابع إلى الكتف، وقال: لا يجوز أن نخرج (إلى) عن بابها، ويذكر أنها بمعنى الغاية أبداً، وقال: وجائز أن تكون (إلى) بمعنى الغاية، وتدخل المرافق مع ذلك في الغسل؛ لأن الثاني إذا كان من الأول كان ما بعد (إلى) داخلاً فيما قبله، نحو قول الله عز وجل: {إلى المرافق} ثم ذكر نحو الكلام السابق المنقول عن المبرد. وقولهم: إن اليد عند الإطلاق من أطراف الأصابع إلى الكتف غير مسلم، وإن قال به أحد أئمة اللغة، فاليد عند الإطلاق لا تشمل إلا الكف، كما قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬2)، والقطع إنما هو للكف، وقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬3)، والتيمم إنما يمسح الكفان فقط على الصحيح. ¬

(¬1) الحاوي الكبير (1/ 112). (¬2) المائدة: 38. (¬3) المائدة: 6.

وقال الزمخشري نقلاً من فتح الباري: ولفظ (إلى) يفيد معنى الغاية مطلقاً، فأما دخلوها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل، فقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} دليل عدم الدخول: النهي عن الوصال، وقول القائل: حفظت القرآن من أوله إلى آخره دليل الدخول كون الكلام مسوقاً لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى: {إلى المرافق} لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زفر مع المتيقن (¬1). الراجح: دخول المرفقين في الغسل، نظراً لقوة أدلتهم، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه أخل ولو مرة واحدة في ترك غسل المرفق في الوضوء، ولم يأت من يقول: لا يدخل المرفقان في غسل اليد إلا من حيث الاستدلال بـ (إلى) وهي محتملة، وطريقة الراسخين حمل المحتمل على الواضح، والمجمل على المبين، والله أعلم. ¬

(¬1) فتح الباري (185).

تنبيه

تنبيه: إذا غسل يديه بعد غسل وجهه، كان عليه أن يغسلها من أطراف أصابعه إلى المرفقين، فيغسل الكفين مرة ثانية في غسل اليدين، ولا يكتفي في غسلهما في بداية الوضوء. وقيل: إن غسل كفيه في بداية الوضوء اكتفى بغسل الذراعين، وهذا قول في مذهب الحنفية، وقد ذكرناه في مباحث غسل الكفين، والأول أرجح وأحوط، أما كونه أرجح: فإن غسل الكفين في أول الوضوء سنة، ومحلهما قبل غسل الوجه، فإذا كان غسل الكفين اختلف حكم غسلهما واختلف محله كذلك فكيف يتداخلان؟ فلو كان الحكم والمحل واحداً لكان القول بالتداخل له وجه. وأما كونه أحوط فظاهر؛ لأن من ترك غسلهما فقد اختلف العلماء في صحة وضوئه، وأما من غسلهما فقد خرج من العهدة بيقين، والله أعلم.

المبحث الثاني: في غسل اليد الزائدة ونحوها من أعضاء الوضوء

المبحث الثاني: في غسل اليد الزائدة ونحوها من أعضاء الوضوء الأعضاء الزائدة يجب غسلها في طهارة الحدث الأكبر وكذا في الغسل المسنون, وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء. وأما في طهارة الحدث الأصغر: فقد ذهب الفقهاء إلى أن من خلق له عضوان متماثلان كاليدين على منكب واحد ولم يمكن تمييز الزائدة من الأصلية , وجب غسلهما جميعا للأمر به في قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} (¬1). فإن أمكن تمييز الزائدة من الأصلية , وجب غسل الأصلية باتفاق، وكذا الزائدة إذا نبتت على محل الفرض (¬2). أما إذا نبتت في غير محل الفرض ولم تحاذ محل الفرض فالاتفاق واقع على عدم وجوب غسلها في الوضوء ولا مسحها في التيمم (¬3). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) انظر البحر الرائق (1/ 14)، الفتاوى الهندية (1/ 4)، ومواهب الجليل (1/ 193). (¬3) ساق الاتفاق النووي في المجموع، قال (1/ 421): إن كان له يدان متساويتان في البطش والخلقة وجب غسلهما أيضا بلا خلاف، لوقوع اسم اليد, وإن كانت إحداهما تامة والأخرى ناقصة، فالتامة هي الأصلية، فيجب غسلها, وأما الناقصة فإن خلقت في محل الفرض وجب غسلها أيضا بلا خلاف، كالأصبع الزائدة. قال الرافعي وغيره: وسواء جاوز طولها الأصلية أم لا. قال: ومن الأمارات المميزة للزائدة أن تكون فاحشة القصر, والأخرى معتدلة, ومنها فقد البطش وضعفه، ونقص الأصابع. وإن خلقت الناقصة على العضد ولم يحاذ شيء منها محل الفرض لم يجب غسلها بلا خلاف, وإن حاذته وجب غسل المحاذي على المذهب الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به الأكثرون, منهم الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وإمام الحرمين، والغزالي، والبغوي، وصاحب العدة، وآخرون. ونقل إمام الحرمين عن العراقيين وغيرهم: أنهم نقلوا ذلك عن نص الشافعي، ثم قال: المسألة محتملة جداً، ولكني لم أر فيها إلا نقلهم النص, =

أما إذا كانت الزائدة نابتة في غير محل الفرض وحاذت كلها أو بعضها محل الفرض فجمهور الفقهاء من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬4)، يوجبون غسل ما حاذى محل الفرض منها , أو كلها عند المالكية إذا كان لها مرفق (¬5). أما الحنابلة فلهم فيها قولان: أحدهما، مع الجمهور، وهو قول أبي يعلى, والثاني: قول ابن حامد وابن عقيل: أن النابتة في غير محل الفرض لا يجب غسلها, قصيرة أو طويلة, لأنها أشبهت شعر الرأس إذا نزل عن حد الوجه, وهذا القول: هو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬6)، ورجحه ابن قدامة (¬7). ¬

= هذا كلام الإمام. ونقل جماعات في وجوب غسل المحاذي وجهين، منهم الماوردي، وابن الصباغ، والمتولي، والشاشي، والروياني، وصاحب البيان، وغيرهم, قال الرافعي: قال كثيرون من المعتبرين: لا يجب; لأنها ليست أصلاً ولا نابتة في محل الفرض فتجعل تبعاً, وحملوا النص على ما إذا لصق شيء منها بمحل الفرض. قال إمام الحرمين: ولو نبتت سلعة في العضد وتدلت إلى الساعد لم يجب غسل شيء منها بلا خلاف إذا تدلت ولم تلتصق والله أعلم. (¬1) انظر البحر الرائق (1/ 14)، الفتاوى الهندية (1/ 4). (¬2) ومواهب الجليل (1/ 193)، الفواكه الدواني (1/ 140) حاشية الدسوقي (1/ 87)، الخرشي (1/ 123). (¬3) المجموع (1/ 421)، أسنى المطالب (1/ 33)، حاشية البجيرمي (1/ 149)، (¬4) المغني (1/ 85)، مطالب أولي النهى (1/ 116). (¬5) الفواكه الدواني (1/ 140)، حاشية الدسوقي (1/ 87)، الخرشي (1/ 123). (¬6) قال في الإنصاف (1/ 157): وإن كانت نابتة في غير محل الفرض, كالعضد والمنكب, وتميزت: لم يجب غسلها, سواء كانت قصيرة أو طويلة , على الصحيح من المذهب, اختاره ابن حامد, وابن عقيل، قال المصنف والشارح, وصاحب مجمع البحرين, وابن عبيدان وغيرهم: هذا أصح, وقدمه ابن رزين في شرحه, واختاره المجد في شرحه. الخ كلامه رحمه الله. (¬7) المغني (1/ 85).

المبحث الثالث: في الجلد المنكشط

المبحث الثالث: في الجلد المنكشط اختار بعض الفقهاء: أن الاعتبار في الجلد المتقلع بالمحل الذي انتهى التقلع إليه وتدلى منه، فيعتبر المنتهى، ولا ينظر إلى الموضع الذي تقلع منه , فإذا تدلى الجلد المتقلع من محل الفرض في اليد وجب غسله مع اليد، سواء انكشط من محل الفرض وتدلى منه، أو انكشط من العضد وبلغت إلى المرفق أو الساعد فتدلى منه؛ لأنها صارت تابعة لما نزلت منه. وإن تدلى من العضد لم يجب غسله سواء انكشط من العضد وتدلى منه، أو انكشط من محل الفرض وبلغ إلى العضد؛ لأنه صار تابعاً للعضد. هذا ما اختاره العراقيون والبغوي من الشافعية، ورجحه النووي. واختار إمام الحرمين من الشافعية: أن الصواب أن يعتبر بأصله فيجب غسل جلدة الساعد المتدلية من العضد ولا يجب غسل جلدة العضد المتدلية من الساعد إذا لم تلتصق به , وبهذا قطع الماوردي، وصححه المتولي (¬1). والأول أقوى، والله أعلم. ¬

(¬1) الخرشي (1/ 123)، الفواكه الدواني (1/ 139)، المجموع (1/ 423)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 122)، المغني (1/ 85)، الإنصاف (1/ 158)، كشاف القناع (1/ 98).

المبحث الرابع: في أقطع اليد أو بعضها

المبحث الرابع: في أقطع اليد أو بعضها إذا كان الرجل أقطع اليد، فإن كان مقطوعاً من دون المرفق وجب عليه غسل ما بقي من الساعد مع المرفق (¬1). لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬2). (959 - 188) ولما رواه البخاري، من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (¬3). فقوله: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» فإذا استطاع أن يغسل بعض محل الفرض وجب عليه؛ لدخوله تحت قدرته، وسقط عنه ما عجز عنه. وحكي إجماعاً وجوب غسل ما بقي من محل الفرض، نقل الإجماع فيه النووي في المجموع (¬4)، والحطاب في مواهب الجليل (¬5). وإن كان مقطوعاً من المفصل ففيه قولان: ¬

(¬1) انظر المدونة (1/ 130)، الخرشي (1/ 123)، مواهب الجليل (1/ 189، 190)، المجموع (1/ 424). (¬2) التغابن: 16. (¬3) صحيح البخاري (7388)، ورواه مسلم (1337). (¬4) المجموع (1/ 424). (¬5) مواهب الجليل (1/ 191).

فقيل: يجب عليه غسل رأس العضد، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يجب عليه غسل رأس العضد. وهو قول في مذهب الشافعية. وأصل القولين اختلافهما في المرفق ما هو؟ فقيل: إن المرفق عظم الساعد، فعلى هذا لا يجب غسل عظم العضد. وقيل: المرفق: هو مجتمع العظمين، عظم الساعد وعظم العضد، فعلى هذا يجب عليه غسل رأس العضد. ومنهم من قال: هو مجتمع العظمين، وإنما هل يغسل عظم العضد تبعاً، أو قصداً، فإن قلنا: يجب غسله قصداً وجب غسله هاهنا، وإن قلنا: يجب غسله تبعاً لم يجب غسله هاهنا. وإن قطع من فوق المرفق فلا فرض عليه، لفوات المحل. واستحب له الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) أن يمس ما بقي من العضد بالماء، واختلفوا في علة الاستحباب: فقيل: حتى لا يخلو العضو من طهارة. وقيل: يستحب ذلك إطالة للتحجيل. والراجح أنه لا يشرع له أن يمسه بماء؛ لأن محل الفرض سقط بزوال العضو الواجب غسله، ولم يشرع بدل عنه، فالعضد ليس محلاً للفرض حتى يستحب له أن يمسه بماء، والله أعلم. ¬

(¬1) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 122، 123). (¬2) كشاف القناع (1/ 101). (¬3) المجموع (1/ 424)، البيان في مذهب الشافعي (1/ 122). (¬4) كشاف القناع (1/ 101).

المبحث الخامس: في الوسخ يكون تحت الظفر

المبحث الخامس: في الوسخ يكون تحت الظفر إذا كان تحت الظفر وسخ يمنع وصول الماء، فهل يصح وضوءه؟. فقيل: تجب إزلته مطلقاً، ولا يصح الوضوء مع وجوده، اختاره المتولي من الشافعية (¬1)، وابن عقيل من الحنابلة (¬2). وقيل: لا تجب إزلته مطلقاً، ويعفى عنه، اختاره الغزالي من الشافعية (¬3)، ومال إليه ابن قدامة من الحنابلة (¬4). وقيل: إن كان يسيراً عفي عنه، وإن فحش وجبت إزالته، وهو مذهب المالكية (¬5)، وأومأ إليه ابن دقيق العيد (¬6)، ورجحه ¬

(¬1) المجموع (1/ 340). (¬2) قال ابن قدامة في المغني (1/ 86): " وإذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته، فقال ابن عقيل: لا تصح طهارته حتى يزيله " اهـ. (¬3) تحفة المحتاج (1/ 187)، وقال النووي في المجموع (1/ 340): " ولو كان تحت الأظفار وسخ، فإن لم يمنع وصول الماء إلى ما تحته لقلته صح الوضوء. وإن منع، فقطع المتولي بأنه لا يجزيه، ولا يرتفع حدثه، كما لو كان الوسخ في موضع آخر من البدن. وقطع الغزالي في الإحياء بالإجزاء وصحة الوضوء والغسل، وأنه يعفى عنه للحاجة. اهـ (¬4) المغني (1/ 86). (¬5) قال في الفواكه الدواني (1/ 140): " ولا يلزمه إزالة ما تحت أظافره من الأوساخ إلا أن يخرج عن المعتاد، فيجب عليه إزالته، كما يجب عليه قلم ظفره الساتر لمحل الفرض. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 88). (¬6) قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (1/ 125): " إذا لم يخرج طول الأظفار عن العادة يعفى عن يسير الوسخ، وأما إذا زاد على المعتاد، فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من =

ابن تيمية (¬1). وسبب الخلاف في هذه المسألة اختلافهم في العفو عن يسير ما يجب غسله من أعضاء الوضوء، فمن رأى أنه يجب غسل الأعضاء الأربعة في الوضوء، ولا يعفى عن شيء منها أوجب إزالة ما تحت الأظفار، ومن رأى أن هذا الشيء اليسير يعفى عنه كما يعفى عن يسير النجاسة ونحوها عفى عنه، ومن رأى أن الأعراب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يتعاهدون نظافة مثل ذلك، ولم يأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، رأى العفو عنه مطلقاً، ولم يقيده باليسير، وقد عرضنا أدلة الأقوال في كتابي سنن الفطرة من هذه السلسلة فارجع إليه غير مأمور. ¬

= حصول الطهارة، وقد ورد في بعض الأحاديث الإشارة إلى هذا المعنى. اهـ. وقد يعتبر هذا من ابن دقيق العيد قولاً رابعاً، وهو أن الأظفار إذا خرج طولها عن المعتاد أصبح ما يتعلق بها من الوسخ ما نعاً من حصول الطهارة، وإذا كان طولها معتاداً لم يمنع الوسخ. والله أعلم. (¬1) يرى ابن تيمية العفو عن كل يسير يمنع وصول الماء، ولم يخصصه في الأظفار، قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/ 303): " وإن منع يسير وسخ ظفر ونحوه وصول الماء صحت الطهارة، وهو وجه لأصحابنا، ومثله كل يسير منع وصول الماء حيث كان كدم وعجين الخ كلامه. اهـ

الفصل الثالث: من فروض الوضوء مسح الرأس

الفصل الثالث: من فروض الوضوء مسح الرأس الفرض الثالث من فروض الوضوء مسح الرأس. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (¬1). وأما السنة فالأحاديث الكثيرة المستفيضة والتي سقناها فيما سبق من فروض الوضوء. وأما الإجماع فنقله خلق كثير، نقله من الحنفية: الطحاوي (¬2). ومن المالكية: ابن عبد البر (¬3)، والحطاب (¬4)، وابن رشد (¬5)، والقرطبي (¬6)، والخرشي (¬7). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) شرح معاني الآثار (1/ 33). (¬3) التمهيد (4/ 31). (¬4) مواهب الجليل (1/ 202). (¬5) بداية المجتهد (1/ 129). (¬6) الجامع لأحكام القرآن (6/ 83). (¬7) الخرشي على مختصر خليل (1/ 120، 121).

ومن الشافعية: النووي (¬1)، والماوردي (¬2). ومن الحنابلة: ابن قدامة (¬3)، وابن مفلح (¬4)، والزركشي (¬5) وغيرهم. ¬

(¬1) المجموع (1/ 428). (¬2) الحاوي (1/ 114). (¬3) الكافي (1/ 29)، المغني (1/ 175). (¬4) الفروع (1/ 148). (¬5) شرح الزركشي (1/ 190).

المبحث الأول: خلاف العلماء في القدر الواجب مسحه من الرأس

المبحث الأول: خلاف العلماء في القدر الواجب مسحه من الرأس اختلف العلماء في المقدار الواجب مسحه من الرأس، فقيل: يكفي في مسح الرأس مقدار الناصية، وهو ربع الرأس، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب مسح جميع الرأس، وهو مذهب المالكية (¬2)، والمشهور من ¬

(¬1) المبسوط (1/ 63)، بدائع الصنائع (1/ 4)، حاشية ابن عابدين (1/ 99)، شرح فتح القدير (1/ 17)، شرح معاني الآثار (1/ 31). (¬2) الاستذكار (2/ 30)، المنتقى للباجي (1/ 38)، مواهب الجليل (1/ 202). وقد أورد ابن العربي في أحكام القرآن مذاهب أهل العلم في مسح الرأس، وتكلم عليه في فوائد يحسن بي أن أنقله بتمامه وإن كان طويلاً نظراً لفائدته، يقول ابن العربي (2/ 64): قوله تعالى: {برءوسكم}: الرأس عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة, ومنها الوجه, فلما ذكره الله سبحانه في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح. ولو لم يذكر الغسل أولاً فيه للزم مسح جميعه: ما عليه شعر من الرأس, وما فيه العينان والأنف والفم; وهذا انتزاع بديع من الآية، وقد أشار مالك إلى نحوه, فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء؟ فقال: أرأيت لو ترك بعض وجهه أكان يجزئه؟ ومسألة مسح الرأس في الوضوء معضلة , ويا طالما تتبعتها لأحيط بها حتى علمني الله تعالى بفضله إياها; فخذوها مجملة في علمها, مسجلة بالصواب في حكمها، واستيفاؤها في كتب المسائل: اختلف العلماء في مسح الرأس على أحد عشر قولاً: الأول: أنه إن مسح منه شعرة واحدة أجزأه. الثاني: ثلاث شعرات. الثالث: ما يقع عليه الاسم، ذكر لنا هذه الأقوال الثلاثة فخر الإسلام بمدينة السلام في الدرس عن الشافعي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الرابع: قال أبو حنيفة: يمسح الناصية. الخامس: قال أبو حنيفة: إن الفرض أن يمسح الربع. السادس: قال أيضا في روايته الثالثة: لا يجزيه إلا أن يمسح الناصية بثلاث أصابع أو أربع. السابع: يمسح الجميع ; قاله مالك. الثامن: إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه; أملاه علي الفهري. التاسع: قال محمد بن مسلمة: إن ترك الثلث أجزأه. العاشر: قال أبو الفرج: إن مسح ثلثه أجزأه. الحادي عشر: قال أشهب: إن مسح مقدمه أجزأه، فهذه أحد عشر قولاً. ومنزلة الرأس في الأحكام منزلته في الأبدان, وهو عظيم الخطر فيهما جميعاً; ولكل قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسنة: فمطلع الأول: أن الرأس وإن كان عبارة عن العضو فإنه ينطلق على الشعر بلفظه , قال الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} البقرة: 196. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "احلق رأسك" , والحلق إنما هو في الشعر, إذا ثبت هذا تركب عليه: المطلع الثاني: المطلع الثاني: وهو أن إضافة الفعل إلى الرأس ينقسم في العرف والإطلاق إلى قسمين: أحدهما: أنه يقتضي استيفاء الاسم. والثاني: يقتضي بعضه; فإذا قلت: " حلقت رأسي " اقتضى في الإطلاق العرفي الجميع. وإذا قلت: مسحت الجدار أو رأس اليتيم أو رأسي اقتضى البعض, فيتركب عليه: المطلع الثالث: وهو أن البعض لا حد له مجزئ منه ما كان، قال لنا الشاشي: لما قال الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم} وكان معناه شعر رءوسكم, وكان أقل الجمع ثلاثاً قلنا: إن حلق ثلاث شعرات أجزأه, وإن مسحها أجزأه, والمسح أظهر, وما يقع عليه الاسم أقله شعرة واحدة. المطلع الرابع: نظر أبو حنيفة إلى أن الوضوء إنما شرعه الله سبحانه فيما يبدو من الأعضاء في الغالب, والذي يبدو من الرأس تحت العمامة الناصية, ولا سيما وهذا يعتضد بالحديث الصحيح " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح ناصيته وعمامته ". المطلع الخامس: أنه إذا ثبت مسح الناصية فلا يتيقن موضعها; وإنما المقصود تعلق العبادة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بالرأس; فقد ثبت مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - الناصية, وهي نحو الربع، فيتقدر الربع منه أين كان, ومطلع الربع بتقدير الأصابع يأتي إن شاء الله , ومطلع الجميع - يعني مسح جميع الرأس - أن الله سبحانه وتعالى علق عبادة المسح بالرأس, كما علق عبادة الغسل بالوجه; فوجب الإيعاب فيهما بمطلق اللفظ. وقول الشافعي: إن مطلق القول في المسح لا يقتضي الإيعاب عرفاً , فما علق به ليس بصحيح ; إنما هو مبني على الأغراض، وبحسب الأحوال, تقول: مسحت الجدار, فيقتضي بعضه من أجل أن الجدار لا يمكن تعميمه بالمسح حساً, ولا غرض في استيعابه قصداً, وتقول: مسحت رأس اليتيم لأجل الرأفة, فيجزئ منه أقله بحصول الغرض به، وتقول: مسحت الدابة فلا يجزئ إلا جميعها; لأجل مقصد النظافة فيها, فتعلق الوظيفة بالرأس يقتضي عمومه بقصد التطهير فيه; ولأن مطلق اللفظ يقتضيه; ألا ترى أنك تقول: مسحت رأسي كله فتؤكده, ولو كان يقتضي البعض لما تأكد بالكل ; فإن التأكيد لرفع الاحتمال المتطرق إلى الظاهر في إطلاق اللفظ. ومطلع من قال: إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه: أن تحقق عموم الوجه بالغسل ممكن بالحس , وتحقق عموم المسح غير ممكن; فسومح بترك اليسير منه دفعاً للحرج، وهذا لا يصح ; فإن مرور اليد على الجميع ممكن تحصيله حسا وعادة. ومطلع من قال: إن ترك الثلث من غير قصد أجزأه: قريب مما قبله , إلا أنه رأى الثلث يسيراً , فجعله في حد المتروك، لما رأى الشريعة سامحت به في الثلث وغيره. ومطلع من قال: إن مسح ثلثه أجزأه: إلى أن الشرع قد أطلق اسم الكثير على الثلث في قوله من حديث سعد: " الثلث والثلث كثير ". ولحظ مطلع أبي حنيفة في الناصية حسبما جاء في الحديث, ودل عليه ظاهر القرآن في تعلق العبادات بالظاهر، ومطلع قول أشهب في أن من مسح مقدمه أجزأه إلى نحو من ذلك تناصف ليس يخفى على اللبيب عند اطلاعه على هذه الأقوال، والأنحاء المطلعات أن القوم لم يخرج اجتهادهم عن سبيل الدلالات في مقصود الشريعة, ولا جاوزوا طرفيها إلى الإفراط ; فإن للشريعة طرفين: أحدهما: طرف التخفيف في التكليف. والآخر: طرف الاحتياط في العبادات. فمن احتاط استوفى الكل, ومن خفف أخذ بالبعض، قلنا: في إيجاب الكل ترجيح من ثلاثة أوجه: أحدهما: الاحتياط. الثاني: التنظير بالوجه, لا من طريق القياس; بل من مطلق اللفظ =

دليل الحنفية على جواز الاقتصار على الناصية في المسح

مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره المزني من الشافعية (¬2). وقيل: المفروض أقل ما يتناوله اسم المسح، ولو شعرة، وهو مذهب الشافعية (¬3). دليل الحنفية على جواز الاقتصار على الناصية في المسح. الدليل الأول: (960 - 189) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا التيمي، عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، ¬

= في ذكر الفعل وهو الغسل أو المسح, وذكر المحل; وهو الوجه أو الرأس. الثالث: أن كل من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه مسح رأسه كله. فإن قيل: فقد ثبت أنه مسح ناصيته وعمامته , وهذا نص على البعض؟ قلنا: بل هو نص على الجميع ; لأنه لو لم يلزم الجميع لم يجمع بين العمامة والرأس، فلما مسح بيده على ما أدرك من رأسه وأمر يده على الحائل بينه وبين باقيه أجراه مجرى الحائل من جبيرة أو خف , ونقل الفرض إليه كما نقله في هذين. جواب آخر: وهو أن هذا الخبر حكاية حال وقضية في عين ; فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - مزكوماً، فلم يمكنه كشف رأسه ; فمسح البعض ومر بيده على جميع البعض, فانتهى آخر الكف إلى آخر الناصية , فأمر اليد على العمامة , فظن الراوي أنه قصد مسح العمامة , وإنما قصد مسح الناصية بإمرار اليد; وهذا مما يعرف مشاهدة , ولهذا لم يرو عنه قط شيء من ذلك في أطواره بأسفاره على كثرتها. اهـ (¬1) الروايتين والوجهين (1/ 72)، الإنصاف (1/ 161)، المغني (1/ 86)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 276)، الفروع (1/ 147). وهناك رواية عن أحمد أنه يجزئ مسح بعضه، أنظر ما سبق من المراجع. (¬2) مختصر المزني (ص: 2)، المجموع (1/ 431)، الحاوي الكبير (1/ 114). (¬3) المجموع (1/ 430)، الحاوي الكبير (1/ 114)، أسنى المطالب (1/ 33)، تحفة المحتاج (1/ 209).

عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح بناصيته ومسح على الخفين والعمامة. قال بكر: وقد سمعته من ابن المغيرة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المسند (4/ 255). (¬2) الحديث يرويه عن المغيرة: حمزة، وعمرو بن وهب، وعروة بن المغيرة، ومسروق، وخلق كثير بلغ مبلغ التواتر، ونكتفي من هذه الطرق بأشهرها، وما يهمنا في بحثنا هذا من ذكر الناصية. الأول: طريق حمزة بن المغيرة عن المغيرة. أخرجه أحمد كما في حديث الباب، ومسلم (274)، وأبو داود (150)، والترمذي (100)، والنسائي (107)، وأبو عوانة (1/ 259)، وأخرجه أيضاً (1/ 260) وابن الجارود (83)، وابن حبان (1346) من طريق يحيى بن سعيد القطان، ثنا التيمي، عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة، عن أبيه. وأخرجه مسلم (274)، وأبو داود (150) من طريق المعتمر، عن أبيه (التيمي) به. وهذا متابعة من المعتمر ليحيى بن سعيد القطان. وأخرجه أحمد (4/ 248) من طريق حميد، عن بكر، عن حمزة بن المغيرة، عن أبيه، وذكر حديثاً طويلاً، وفيه: ثم مسح على عمامته وخفيه. الحديث، ولم يذكر الناصية. وهذه متابعة تامة من حميد بن أبي حميد للتيمي في شيخه بكر بن عبد الله. ورواه يزيد بن زريع، عن حميد، واختلف على يزيد: فأخرجه النسائي (108) أخبرنا عمرو بن علي وحميد بن مسعدة. وأخرجه البيهقي (1/ 60) من طريق حميد بن مسعدة. وأخرجه أبو عوانة (1/ 259)، والبيهقي في السنن (1/ 58) من طريق مسدد. كلهم (مسدد وحميد بن مسعدة وعمرو بن علي) رووه عن يزيد بن زريع، عن حميد، عن بكر بن عبد الله، عن حمزة بن المغيرة، عن المغيرة بن شعبة. وخالفهم محمد بن عبد الله بن بزيع، فرواه مسلم (274) عنه، عن يزيد بن زريع به إلا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أنه جعل بدلاً من حمزة بن المغيرة جعل بدله عروة بن المغيرة. قال النووي في شرح مسلم (3/ 170): قال الحافظ أبو علي الغساني: قال أبو مسعود الدمشقي: هكذا يقول مسلم في حديث ابن بزيع، عن يزيد بن زريع، عن حميد، عن بكر، عن عروة بن المغيرة، عن المغيرة، وخالفه الناس، فقالوا فيه: حمزة بن المغيرة بدل عروة، وأما أبو الحسن الدارقطني فنسب الوهم فيه إلى محمد بن عبد الله بن بزيع لا إلى مسلم. هذا آخر كلام الغساني. قلت: كلام الداقطني هو الذي تقتضيه قواعد علم الحديث؛ لأن الاختلاف فيه على يزيد بن زريع، رواه عنه جماعة بإسناد، وخالفهم محمد بن عبد الله بن بزيع، فالإمام مسلم برئ من عهدته. قال النووي: قال القاضي عياض: حمزة بن المغيرة هو الصحيح عندهم في هذا الحديث، وإنما عروة بن المغيرة في الأحاديث الأخرى، وحمزة وعروة ابنان للمغيرة، والحديث مروي عنهما جميعاً، لكن رواية بكر بن عبد الله إنما هي عن حمزة بن المغيرة، وعن ابن المغيرة، ولا يقول بكر: عروة، ومن يقول عنه عروة فقد وهم، وكذلك اختلف على بكر، فرواه معتمر في أحد الوجهين عنه، عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة، وكذا رواه يحيى بن سعيد عن التيمي، وقد ذكر هذا مسلم، وقال غيرهم: عن بكر عن ابن المغيرة. قال الدارقطني: وهو وهم. هذا آخر كلام القاضي عياض. قلت: الوهم بعيد وقد رواه يحيى بن سعيد عن التيمي، عن بكر عن الحسن، عن ابن المغيرة، وفيه قال بكر: وقد سمعته من ابن المغيرة، فهذا بكر يصرح أنه سمعه من الحسن عن ابن المغيرة، وسمعه من ابن المغيرة نفسه بإسناد واحد مما يجعل الطريقين محفوظين، والله أعلم. ورواية بكر عن ابن المغيرة أخرجها مسلم (274)، من طريق المعتمر. وأخرجه أبو عوانة (1/ 259) والبيهقي (1/ 58) من طريق يزيد بن هارون، كلاهما عن سليمان التيمي، عن بكر بن عبد الله، عن ابن المغيرة به. ولفظ مسلم قال بدلاً من ناصيته (مقدم رأسه). ولفظ أبي عوانة: ومسح مقدم رأسه، ووضع يده على العمامة، أو مسح على العمامة. أهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه عبد الرزق (749)، والحميدي (757)، وابن أبي شيبة (1/ 178) والنسائي في السنن الكبرى (110) عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن حمزة بن المغيرة به، إلا أن إسماعيل بن محمد لم يذكر إلا المسح على على الخفين، ولم يذكر المسح على العمامة ولا على الناصية. الطريق الثاني: عمرو بن وهب، عن المغيرة بن شعبة. رواه ابن سيرين، عن عمرو، وله طرق إلى ابن سيرين. فرواه أحمد (4/ 247) من طريق هشام بن حسان، عن محمد (ابن سيرين) قال: دخلت مسجد الجامع فإذا عمرو بن وهب الثقفي قد دخل من الناحية الأخرى، فالتقينا قريباً من وسط المسجد، فابتدأني بالحديث، وكان يحب ما ساق إلي من خير، فابتدأني بالحديث، فقال: كنا عند المغيرة بن شعبة، وذكر حديثاً طويلاً وفيه: ومسح بناصيته وعلى العمامة والخفين. الحديث. وأخرجه ابن حبان (1342) من طريق عوف وهشام عن محمد بن سيرين به. وأخرجه النسائي (109) من طريق يونس بن عبيد، عن ابن سيرين به. وأخرجه الطيالسي (699) عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين به، بلفظ: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على العمامة والخفين. فأخرجه أحمد (4/ 244)، وابن أبي شيبة (1/ 163) والنسائي في السنن الكبرى، كما في تحفة الأشراف، ولم أقف عليه في المطبوع في مظانه، والدارقطني (1/ 192)، والبغوي في شرح السنة (1/ 192) من طريق إسماعيل بن علية، أخبرنا أيوب، عن ابن سيرين به. ورواه حماد بن زيد، عن أيوب، واختلف على حماد فيه: فرواه الدراقطني (1/ 192) والبغوي في شرح السنة (232) من طريق يحيى بن حسان، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين به، كما هي رواية ابن علية، بل كما هي رواية هشام بن حسان، وسعيد بن عبد الرحمن. ورواه البيهقي (1/ 58) من طريق أبي الربيع، ثنا حماد بن زيد، ثنا أيوب، عن محمد، عن رجل، عن عمرو بن وهب، عن المغيرة. وتابعه جرير بن حازم عند أحمد (4/ 248) حدثنا أسود بن عامر، ثنا جرير بن حازم، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن محمد بن سيرين، قال: حدثني رجل عن عمرو بن وهب به. والراجح أن ابن سيرين قد سمع الحديث من عمرو بن وهب دون واسطة، للأسباب التالية: أولاً: أن رواية هشام بن حسان ويونس بن عبيد، صرح كل منهما بأن محمد بن سيرين قد سمعه من عمرو بن وهب، وهما من أثبت أصحاب ابن سيرين على الإطلاق، بل إن في رواية هشام بن حسان قصة تؤكد أن ابن سيرين سمعه من عمرو بن وهب، قال محمد بن سيرين: دخلت المسجد، فإذا عمرو بن وهب الثقفي قد دخل من الناحية الأخرى، فالتقينا قريباً من وسط المسجد، ثم ذكر الحديث. ثانياً: قد تابع هشام بن حسان ويونس بن عبيد كل من عوف وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وهؤلاء الأربعة لم يختلف عليهم في الحديث من كون ابن سيرين يرويه عن عمرو بن وهب. ثالثاً: أن ابن علية قد رواه عن أيوب، كما هي رواية الجماعة. رابعاً: أن الاختلاف على حماد بن زيد، فتارة يرويه كما هي رواية الجماعة، وتارة يجعل واسطة بين محمد بن سيرين وعمرو بن وهب رجلاً مبهماً، مما يدل على أنه لم يحفظ الحديث، إلا أن يكون الخطأ من تلميذ حماد، والله أعلم. الطريق الثالث: عروة بن المغيرة، عن المغيرة. وحديثه في الصحيحين وليس فيهما المسح على الناصية، وإنما ذكر الوضوء والمسح على الخفين. انظر البخاري (182) ومسلم (274). الطريق الرابع: مسروق، عن المغيرة. حديثه في صحيح البخاري (363) ومسلم (274 - 78) وليس فيها المسح على الناصية. وقد رواه غير هؤلاء عن المغيرة بن شعبة حتى قال ابن عبد البر في التمهيد (11/ 127): روي هذا الحديث عن المغيرة من نحو ستين طريقاً. اهـ وتتبع ذلك يطول، وإنما فصلنا الطريق الذي ورد فيه ذكر المسح على الناصية، والله أعلم.

وجه الاستدلال: لما مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناصية، كان مسحه عليه الصلاة والسلام على العمامة من باب الفضل، لا من باب الوجوب؛ إذ لا يمكن أن يجب مسح البدل ومسح الأصل في وقت واحد. قال الطحاوي: في هذا الأثر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على بعض الرأس، وهو الناصية، وظهور الناصية دليل أن بقية الرأس حكمه حكم ما ظهر منه؛ لأنه لو كان الحكم قد ثبت بالمسح على العمامة، لكان كالمسح على الخفين، فلم يكن إلا وقد غيبت الرجلان فيهما، ولو كان بعض الرجلين بادياً، لما أجزأه أن يغسل ما ظهر منهما، ويمسح على ما غاب منهما، فجعل حكم ما غاب منهما، مضمناً بحكم ما بدا منهما، فلما وجب غسل الظاهر وجب غسل الباطن، فكذلك الرأس لما وجب مسح ما ظهر منه ثبت أنه لا يجوز مسح ما بطن منه ليكون حكم كله حكماً واحداً، كما كان حكم الرجلين إذا غيبت بعضها في الخفين حكماً واحداً، فلما اكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأثر بمسح الناصية على مسح ما بقي من الرأس دل ذلك أن الفرض في مسح الرأس هو مقدار الناصية، وأن ما فعله فيما جاوز به الناصية فيما سوى ذلك من الآثار كان دليلاً على الفضل لا على الوجوب حتى تستوي هذه الآثار ولا تتضاد، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار. وأجيب: بأنه لو جاز الاقتصار على مسح الناصية لما مسح على العمامة، وإذا مسح على ناصيته وكمل الباقي بعمامته أجزأه بلا ريب. قلت: وهناك تأمل آخر في الحديث، وهو: هل قوله: توضأ فمسح على

ناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين نقل لفعل واحد، أو أنه نقل لأفعال مختلفة رصدها المغيرة، ونقلها مجتمعة في نص واحد؟ فإن كان الفعل واحداً فظاهر أن المسح لم يقتصر على الناصية، فلا يكون فيه دليل على جواز الاقتصار على الناصية، وإن كان النقل لأفعال مختلفة، وأن هذه مجموعة أحاديث، وليست حديثاً واحداً للمغيرة، جمعها في حديث واحد، فهو دليل قوي على جواز الاقتصار على المسح على الناصية، وهذا الاحتمال غير بعيد، فإن هناك أحاديث للمغيرة ينقل لنا فيها المسح على الخفين فقط، وهناك حديث ينقل لنا المسح على الجوربين والنعلين، وقد تُكِلم فيه، وخرجته في المسح على الحائل، فيحتاج الباحث إلى تأمل، هل هذه الأفعال كانت متفرقة جمعها المغيرة في حديث واحد، أو كانت فعلاً واحداً في وضوء واحد، نقله لنا المغيرة بن شعبة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحنفية والشافعية لا يمكن أن يقولوا لنا: إنها أفعال مختلفة؛ لأنه يلزمهم على هذا أن يقولوا بجواز المسح على العمامة، وهم لا يقولون به، ومحال أن يحتجوا علينا ببعض الحديث، ويتركوا بعضه، والله أعلم. قال ابن القيم في الزاد: ولم يصح عنه في حديث واحد، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة، ثم قال: وأما اقتصاره على الناصية مجردة لم يحفظ عنه (¬1). اهـ وأما الجواب على ما ذكره الطحاوي، فيقال: لا نسلم أن ما ظهر من القدم فرضه الغسل، وأنه يجب أن يغيب القدم في الخف، فالمسح على الخف ورد مطلقاً، واشتراط كون الخف ساتراً للمفروض لم يأت في كتاب ولا سنة، ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 193).

الدليل الثاني

وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، والحنفية لا يمنعون المسح على الخف ولو ظهر أصبع أو أصبعين من القدم، ويجمعون في هذه الحالة بين المسح والغسل، مع أن نسبة الأصبعين إلى خمسة الأصابع كنسبة الناصية إلى العمامة، فانتقض كلام الطحاوي رحمه الله في عدم الجمع بين المسح والغسل، والله أعلم. الدليل الثاني على جواز الاقتصار على الناصية: (961 - 190) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد العزيز بن مسلم، عن أبي معقل، عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (147). (¬2) في إسناده أبو معقل، لم يرو عنه إلا عبد العزيز بن مسلم، ولم يوثقه أحد، فهو مجهول العين. وقال ابن القطان: مجهول. وكذا نقل ابن بطال عن غيره. تهذيب التهذيب (12/ 264). وقال الذهبي: لا يعرف. ميزان الاعتدال (4/ 576). وفي التقريب: مجهول. وقد ذكره ابن أبي حاتم، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/ 448). كما أن في إسناده عبد العزيز بن مسلم الأنصاري، وليس القسملي، فيه لين إذا تفرد بالحديث، روى عنه اثنان، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 123)، ولم يوثقه غيره، وفي التقريب: مقبول، أي: حيث يتابع، وإلا فلين الحديث، ولم يتابع. =

قال ابن القيم: مقصود أنس به: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله، ولم ينف التكميل على العمامة، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه (¬1). اهـ ولا نحتاج إلى هذا الجواب، والحديث ضعيف، ولو قبلوا منا هذا لقبلنا منهم دعوى أن الأحاديث الورادة في المسح على العمامة دون ذكر الناصية أن المقصود مع مسح الناصية، لأن هذه الأحاديث لم تنفيها، وقد أثبتها حديث المغيرة في المسح على العمامة والناصية، بل نقول: الحديث لا يثبت، ولا يستدل على دعوى الاقتصار على مقدم الرأس إلا بحديث صحيح، ولا يوجد. ¬

= ومعاوية بن صالح صدوق له أوهام. فالإسناد ضعيف. قال ابن السكن، كما في التنقيح لابن عبد الهادي (1/ 374): لا يثبت إسناده. وقال ابن القطان: لا يصح. وضعفه ابن عبد الهادي. وقال ابن حجر في التلخيص (1/ 95): وفي إسناده نظر. [تخريج الحديث]. الحديث رواه أبو داود كما في إسناد الباب. والحاكم في المستدرك (1/ 169) من طريق عثمان بن سعيد الدارمي كلاهما، عن أحمد ابن صالح. ورواه ابن ماجه (564) عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، كلاهما، (أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح) عن ابن وهب به. قال الحاكم: هذا الحديث وإن لم يكن إسناده من شرط الكتاب، فإن فيه لفظة غريبة: وهي أنه مسح على بعض الرأس، ولم يمسح على عمامته. وأخرجه البيهقي (1/ 60 - 61) من طريقين عن ابن وهب به. انظر إتحاف المهرة (1996)، تحفة الأشراف (1725). (¬1) زاد المعاد (1/ 194).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (962 - 191) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ، وعليه العمامة يؤخرها عن رأسه، ولا يحلها، ثم مسح برأسه، فأشار الماء بكف واحد على اليافوخ قط، ثم يعيد العمامة (¬1). [هذا الأثر من عطاء مرسل، ومرسل عطاء من أضعف المراسيل] (¬2). الدليل الرابع: فعل ابن عمر مع ما عرف عنه من حرصه على متابعة السنة. (963 - 192) فقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر كان يدخل يديه في الوضوء، فيمسح بها مسحة واحدة ¬

(¬1) المصنف (739). (¬2) رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، والمرسل لا حجة فيه، خاصة إذا كان المرسل من مثل عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه، قال يحيى بن سعيد القطان: مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب. تهذيب التهذيب (7/ 182) في ترجمة عطاء بن أبي رباح. وقال أحمد: ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. المرجع السابق. والأثر رواه ابن أبي شيبة (1/ 30) حدثنا عبد الله بن إدريس عن ابن جريج، عن عطاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فرفع العمامة، فمسح مقدم رأسه. ورواه البيهقي (1/ 61) من طريق مسلم - يعني ابن خالد - عن ابن جريج به. ومسلم وإن كان متكلماً فيه فقد توبع.

اليافوخ قط (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). فاجتمع لنا أثر صحيح موقوف، ومرسل عطاء، وحديث أنس الضعيف فهل يحصل بمجموعها ما يثبت به الاحتجاج، أو لا تقوى على معارضة الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا محل تأمل عندي. قال ابن حجر عن مرسل عطاء: وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجئيه من وجه آخر موصولاً، أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة، وهذا مثال لما ذكره الشافعي من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر، أو مسند، ثم قال: وفي الباب أيضاً عن عثمان في صفة الوضوء، قال: ومسح مقدم رأسه، أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك، مختلف فيه، وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قال ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم، وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره، والله أعلم (¬3). ¬

(¬1) المصنف (7). (¬2) ورواه ابن أبي شيبة (1/ 22) حدثنا عبد الله بن نمير، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يمسح مقدم رأسه مرة واحدة، وهذا أيضاً إسناد صحيح عن ابن عمر. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 23) حدثنا وكيع، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يمسح مقدم رأسه مرة واحدة. (¬3) فتح الباري (185).

دليل من قال يجزئ أقل ما يتناوله المسح

دليل من قال يجزئ أقل ما يتناوله المسح. الدليل الأول: قال تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (¬1)، فيتحقق مسح الرأس بمسح جزء من أجزائه، كما تقول: ضربت رأسه، وضربت برأسه، فمن قال: إنه لا يكون ضارباً لرأسه حقيقة إلا إذا وقع الضرب على جميع رأسه على جزء من أجزائه فقد جاء بما لا يفهمه أهل اللغة ولا يعرفونه، ومثل هذا إذا قال القائل: مسحت الحائط ومسحت بالحائط، فإن المعنى للمسح يوجد بمسح جزء من أجزاء الحائط، ولا ينكر هذا إلا مكابر (¬2). الدليل الثاني: ثبت في الدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح بناصيته، فهذا يمنع وجوب الاسيتعاب، ويمنع التقدير بالثلث أو الربع أو النصف فإن الناصية دون الربع، فيتعين أن الواجب ما يقع عليه اسم مسح. الدليل الثالث: الباء في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (¬3)، دالة على التبعيض، وجهه: إذا دخلت الباء على فعل يتعدى بنفسه كانت للتبعيض، كقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وإن لم يتعد فاللإصاق كقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (¬4). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) انتهى بتصرف يسير من السيل الجرار (1/ 84). (¬3) المائدة: 6. (¬4) الحج: 29.

دليل من قال: يجب استيعاب الرأس بالمسح

ورد عليهم: بأنه لم يثبت كونها للتبعيض، وقد رده سيبويه في خمسة عشر موضعاً في كتابه. فإن قيل: فما فائدة دخول الباء مع أن الفعل يتعدى بنفسه. قال ابن تيمية: إذا دخلت الباء على فعل يتعدى بنفسه أفادت قدراً زائداً، فلو قال: {وامسحوا رؤوسكم} أو وجوهكم لم تدل على ما يلتصق بالمسح، فإنك تقول: مسحت رأس فلان وإن لم يكن بيدك بلل، فإذا قيل: وامسحوا برؤوسكم وبوجوهكم ضمن المسح معنى الإلصاق، فأفاد أنكم تلصقون برؤوسكم وبوجوهكم شيئاً بهذا. دليل من قال: يجب استيعاب الرأس بالمسح. الدليل الأول: (964 - 193) ما رواه البخاري من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم بنحوه (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (185)، ورواه مسلم (235).

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: هذا بيان لما أجمل في آية المائدة من قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وإذا كان فعله - صلى الله عليه وسلم - بياناً لمجمل واجب، كان مسحه كله واجباً، فالله سبحانه وتعالى أمر بمسح الرأس، وفعله - صلى الله عليه وسلم - خرج امتثالاً للأمر، وتفسيراً للمجمل. الدليل الثاني: احتج بعضهم لوجوب العموم في مسح الرأس بقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (¬1)، وقد أجمعوا أنه لا يجوز الطواف ببعضه، فكذلك مسح الرأس لقوله تعالى: {امسحوا برؤوسكم} لا يجوز مسح بعضه (¬2). الدليل الثالث: الباء في قوله سبحانه وتعالى: {فامسحوا برؤوسكم} كالباء في قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم} في التيمم، فكما أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز مسح بعض الوجه في التيمم، فكذلك لا يجوز مسح بعض الرأس في الوضوء، فالعامل واحد في الموضعين، وهو قوله تعالى: {وامسحوا} (¬3). الدليل الرابع: قال ابن عبد البر: الفرائض لا تؤدى إلا بيقين، واليقين ما أجمعوا عليه من مسح جميع الرأس، فقد أجمعوا أن من مسح برأسه كله فقد أحسن، وفعل أكمل ما يلزمه (¬4). ¬

(¬1) الحج: 29. (¬2) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 228). (¬3) بتصرف يسير انظر المرجع السابق (3/ 227). (¬4) المرجع السابق (3/ 228).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: أن الله سبحانه وتعالى ذكر مسح الرأس، ومسمى الرأس حقيقة هو جميع الرأس، فيقتضي وجوب مسح جميع الرأس، وحرف الباء لا يقتضي التبعيض لغة، بل هو حرف إلصاق، فيقتضي إلصاق الفعل بالمفعول، وهو المسح بالرأس، والرأس اسم لكله، فيجب مسح كله. الراجح من هذه الأقوال: لا شك أن القول بوجوب مسح جميع الرأس له أدلة قوية من حيث الأثر ومن حيث النظر، وهو أحوط بكل حال، وقول من قال بجواز الاقتصار على الناصية له قوة أيضاً، خاصة أنه صح فعله عن ابن عمر، وقد عرف ابن عمر في حرصه على متابعة السنة، والله أعلم.

المبحث الثاني: تكرار مسح الرأس

المبحث الثاني: تكرار مسح الرأس ذهب الجمهور إلى أن الرأس والأذنين لا يشرع تكرار مسحهما، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). واستحب الشافعية تكرار المسح للرأس ثلاثاً (¬4). والراجح قول الجمهور، وقد استعرضنا أدلة الفريقين والجواب عن أدلة الشافعية في سنن الوضوء. ¬

(¬1) انظر حاشية ابن عابدين (1/ 120، 121)، البحر الرائق (1/ 26)، فتح القدير (1/ 33). (¬2) الإشراف (1/ 8)، حاشية الدسوقي (1/ 98)، الذخيرة (1/ 262). (¬3) الروايتين والوجهين (1/ 73)، الإنصاف (1/ 163)، رؤوس المسائل الخلافية (1/ 29). (¬4) عده ابن كثير من مفردات الشافعي انظر المسائل الفقهية التي انفرد بها الشافعي (ص: 68)، المجموع (1/ 432)، مختصر المزني (ص: 2).

المبحث الثالث: حكم مسح الأذنين

المبحث الثالث: حكم مسح الأذنين تكلمنا في سنن الوضوء في حكم أخذ ماء جديد للأذنين، ونتكلم في هذا الفصل في حكم مسحهما في الوضوء، هل هو واجب أم سنة، وقد اختلف العلماء في حكم مسح الأذنين: فقيل: مسح الأذنين سنة، فمن تركه فلا إعادة عليه، وهو مذهب الجمهور (¬1)، وراية عن أحمد (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). وقيل: يجب مسح الأذنين، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4)، وقول إسحاق (¬5)، واختاره بعض المالكية (¬6). دليل الجمهور على أن مسحهما سنة: الدليل الأول: الإجماع، قال النووي: قال ابن جرير الطبري في كتاب اختلاف الفقهاء: ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 553)، بدائع الصنائع (1/ 23)، فتح القدير (1/ 27)، المدونة (1/ 123)، المنتقى شرح الموطأ للباجي (1/ 75)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 118)، حاشية الدسوقي (1/ 98)، وقال الشافعي في الأم (1/ 42): ولو ترك مسح الأذنين لم يعد. اهـ المجموع (1/ 443)، (¬2) الفروع (1/ 149، 150). (¬3) المحلى (مسألة: 199). (¬4) الإنصاف (1/ 162، 163)، كشاف القناع (1/ 100)، (¬5) الأوسط (1/ 405). (¬6) المنتقى شرح الموطأ (1/ 75).

الدليل الثاني

أجمعوا أن من ترك مسحهما فطهارته صحيحة، وكذا نقل الإجماع غيره (¬1). وقال ابن عبد البر: «وحجة الشافعي في قوله: إن مسح الأذنين سنة على حيالهما، وليستا من الوجه، ولا من الرأس: إجماع القائلين بإيجاب الاستيعاب في مسح الرأس أنه من ترك مسح أذنيه وصلى لم يعد» (¬2). والحق أن الخلاف محفوظ، ولذلك قال ابن هبيرة: «وأجمعوا على أن مسح باطن الأذنين وظاهرهما سنة من سنن الوضوء، إلا أحمد فإنه رأى مسحهما واجباً، وعنه أنه سنة» (¬3). وقال القرطبي: وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه، ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق (¬4). وقال ابن بشير: وأما داخل الأذنين فلا خلاف أنهما سنة، فمن ترك مسحهما لم تبطل صلاته، وأما خارج الأذنين ففيه قولان، أحدهما: أنه فرض. والثاني: أنه سنة (¬5). فكل هذه النقول تثبت أن هناك قولاً في وجوب مسح الأذنين. الدليل الثاني: (965 - 194) ما رواه البخاري من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيى: ¬

(¬1) المجموع (1/ 446). (¬2) التمهيد (4/ 41). (¬3) الإفصاح (1/ 74). (¬4) الجامع لأحكام القرآن (6/ 90). (¬5) مواهب الجليل (1/ 254).

الدليل الثالث

أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر بدأ، بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: أن هذا الوضوء وقع جواباً كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فذكر صفة الوضوء من المضمضة والاستنشاق والتثليث فيهما، وذكر مسح الرأس مبيناً من أين يبدأ، وأنه من مقدم الرأس، وذكر إقبال اليدين وإدبارهما، ثم انتقل إلى غسل الرجلين، ولم يذكر الأذنين، ولو أن الراوي قال: ومسح برأسه لقيل: ربما أنه أجمل، فلما ذكر صفة مسح الرأس بداية ونهاية، ولم يتعرض للأذنين علم أنه لم يمسحهما، وتركه لهما وهو في معرض بيانه لصفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على أن مسحهما ليس بواجب. الدليل الثالث: (966 - 195) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره، أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث ¬

(¬1) صحيح البخاري (185)، ورواه مسلم (235).

الدليل الرابع

مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالحديث السابق، ذكر مسح الرأس، ولم يذكر مسح الأذنين، والسياق في بيان صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين حصل له من الأجر كذا وكذا، وهذا الوضوء ليس فيه مسح الأذنين، فمن امتثل الحديث فقد صح وضوءه، وفعل ما أمر به. الدليل الرابع: لم يرد في السنة أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمسح الأذنين، وما نقل عنه أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يمسح أذنيه هي مجرد أفعال، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. دليل الحنابلة على وجوب مسح الأذنين. الدليل الأول: قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وجاء في الأحاديث أن الأذنين من الرأس، وسبق تخريجها في سنن الوضوء، وإذا كانت الأذنان من الرأس فيكون الأمر بمسح الرأس أمراً بمسحهما، فيثبت وجوبه بالنص القرآني، وحديث الأذنان إما أن نقول: إنها حجة بمجموعها، أو نقول: إنها موقوفة، فإن رجحنا كونها مرفوعة فلا إشكال، وإن رجحنا كونها موقوفة على ¬

(¬1) صحيح البخاري (159)، ومسلم (236).

الدليل الثاني

الصحابة، فإن قول الصحابي حجة إذا لم نعلم له مخالفاً، وقد حكى النووي الإجماع على أن الأذنين تطهران، كما في المجموع وحكاه غيره. ويمكن أن يجاب عنه: لا إشكال في استحباب مسح الأذنين، وإنما الخلاف في وجوب مسحهما، وكون الأذنين من الرأس: أي يمسحان بماء الرأس، وليس فيه دليل على وجوب المسح من هذا الحديث على أن الحديث لا يثبت مرفوعاً. الدليل الثاني: (967 - 196) ما رواه مالك في الموطأ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المؤمن، فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، قال: ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة (¬1). وجه الاستدلال: قوله «فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه»، دليل على أن الأذنين من الرأس، فيكون حكم مسحهما حكم مسح الرأس، فإذا كان مسح الرأس فرضاً كان مسحهما فرضاً. ¬

(¬1) الموطأ (1/ 31) وسبق تخريجه انظر حديث رقم (877).

الدليل الثالث

وأجيب: أولاً: أن الحديث وإن كان رجاله ثقات إلا أنه مرسل، الصنابحي لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرسل من قسم الضعيف (¬1). ثانياً: قد روى مسلم نحو هذا الحديث من مسند عمرو بن عبسة، إلا أنه جعل خروج الخطايا من الرأس مع أطراف الشعر، ولم يذكر الأذنين. فقد أخرجه مسلم من حديث طويل وفيه: «ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء» (¬2). الحديث. ثالثاً: هذا الحديث مجرد فعل، ونحن لا ننازع بمشروعية مسح الأذنين، ولكن النزاع في وجوب مسحهما، والله أعلم. الدليل الثالث: (968 - 197) ما رواه النسائي من طريق ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغرف غرفة فمضمض واستنشق، ثم غرف غرفة فغسل وجهه، ثم غرف غرفة فغسل يده اليمنى، ثم غرف غرفة فغسل يده اليسرى، ثم مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالسباحتين وظاهرهما بإبهاميه، ثم غرف غرفة فغسل رجله اليمنى، ثم غرف غرفة فغسل رجله اليسرى. [رجاله ثقات إلا ابن عجلان فإنه صدوق، وأكثر الرواة على عدم ذكر مسح الأذنين في الحديث] (¬3). ¬

(¬1) انظر حديث (878) من هذا الكتاب. (¬2) صحيح مسلم (832). (¬3) سبق تخريجه في مسألة (ماء الأذنين) انظر حديث رقم (870)

وفي الباب حديث عثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو، والربيع بنت معوذ وقد سبق تخريجها. وجه الاستدلال: هذه الأحاديث وإن كانت أفعالاً إلا أنها بيان لما أجمل في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم}. وأجيب: بأننا لا نسلم بأنها بيان للمجمل، وغاية ما فيها أنها تدل على استحباب مسح الأذنين، وهذا لا نزاع فيها بيننا، وإنما الخلاف هل مسحهما فرض أم لا؟.

الفرع الأول: في صفة مسح الأذنين

الفرع الأول: في صفة مسح الأذنين صفة المسح من الآثار: أما صفة المسح من الآثار، ففي الباب أحاديث كثيرة، منها: الحديث الأول: حديث ابن عباس المتقدم في المسألة السابقة: وفيه: «ثم مسح برأسه وأذنيه، باطنهما بالسباحتين، وظاهرهما بإبهاميه». الحديث. الحديث الثاني: (969 - 198) حديث عثمان رضي الله عنه، وسبق تخريجه من طريق إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان، وفيه: «أنه توضأ، فمسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ». وهو حديث ضعيف (¬1). الحديث الثالث: (970 - 199) حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه: ثم مسح برأسه، وأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، بالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء. وسبق تخريجه (¬2). ¬

(¬1) انظر حديث (872). (¬2) سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.

الحديث الرابع

الحديث الرابع: حديث الربيع بنت معوذ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأدخل إصبعيه في حجري أذنيه. وسبق تخريجه (¬1). الحديث الخامس: (971 - 200) ما رواه أحمد، حدثنا أبو المغيرة قال: حدثنا حريز قال: حدثنا عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي قال: سمعت المقدام بن معدي كرب الكندي قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء، فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) انظر حديث (873). (¬2) المسند (4/ 132). (¬3) الحديث في إسناده: عبد الرحمن بن ميسرة. ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (5/ 285). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 109)، ونسي الحافظ في الفتح التنبيه أن ابن حبان ذكره في ثقاته، فيستدرك عليه. قال عنه ابن المديني: مجهول، لم يرو عنه غير حريز. تهذيب التهذيب (6/ 254). وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/ 88). قلت: ذكر الحافظ في التهذيب بأنه روى عنه صفوان بن عمرو، وثور بن يزيد، وطريق صفوان بن رستم في سنن الدارمي (251) من طريق بقية، حدثني صفوان بن رستم، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن تميم الدارمي، عن عمر من قوله. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كما روى الطبراني في مسند الشاميين (960) حديثاً مرفوعاً من طريق بقية، عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن عمرو بن عبسة، عن رسول الله، قال: ما تستقل الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله. الحديث. وفي كلا الإسنادين بقية، كما روى الطبراني في مسند الشاميين (959) حديثاً مرفوعاً من طريق بقية وإسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن العرباض بن سارية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المتحابون بجلالي. الحديث. ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان (ص: 39) من طريق إسماعيل بن عياش وحده دون طريق بقية. وأما رواية ثور بن يزيد، فجاءت عند الطبراني أيضاً في مسند الشاميين (469) بهذا الإسناد: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ثور بن يزيد، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن بسر بن جحاش عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي المعجم الكبير (2/ 32) الحديث نفسه بالإسناد نفسه، إلا أنه زاد بين عبد الرحمن ابن ميسرة وبين بسر بن حجاش زاد: جبير بن نفير. وهذا إسناد ضعيف: فيه أحمد بن محمد شيخ الطبراني، قال أبو أحمد الحاكم: فيه نظر، وحدث عنه أبو الجهم الشعراني ببوطيل. لسان الميزان (1/ 295). وقال الذهبي: عن أبيه له مناكير. ميزان الاعتدال (1/ 151). وقال أبو عوانة الإسفرائيني في صحيحه بعد أن روى عنه: سألني أبو حاتم ما كتبت بالشام؟ قدمتي الثالثة، فأخبرته بكتبي مائة حديث لأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، كلها عن أبيه، فساءه ذلك، وقال: سمعت أن أحمد يقول: لم أسمع من أبي شيئاً. فقلت: لا يقول: حدثني أبي، إنما يقول عن أبيه إجازة. وقال الحاكم أبو أحمد: الغالب علي أنني سمعت أبا الجهم، وسألته عن حال أحمد بن محمد، فقال: قد كان كبر فكان يلقن ما ليس من حديثه فيتلقن. لسان الميزان (1/ 295). وقال ابن حبان في ترجمة والده: ثقة في نفسه، يتقى من حديثه ما روى عنه أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة وأخوه عبيد؛ فإنهما كانا يدخلان عليه كل شيء. الثقات (9/ 74). =

فدلت هذه الأحاديث على أن صفة مسح الأذنين: مسح الباطنين بالسبابتين، وظاهر الأذنين بالإبهامين، وإدخال الأصبعين في صماخ الأذنين. هذا ما تدل عليه مجموع الأحاديث السابقة. وأما كلام الفقهاء في صفة مسح الأذنين كالتالي: قال البهوتي: وكيف مسح الأذنين أجزأ. قال ابن عابدين الحنفي: يمسح باطنهما بباطن السبابتين، وظاهرهما بباطن الإبهامين (¬1). وفي حاشية العدوي على الخرشي: ((وصفة مسح الأذنين، أن يجعل باطن الإبهامين على ظاهر الشحمتين، وآخر السبابتين في الصماخين، وهما ثقبا ¬

= وعبد الرحمن بن ميسرة من شيوخ حريز، وقد قال أبو داود: شيوخ حريز كلهم ثقات. وذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي، وفي التقريب: مقبول. كما أن في متنه نكارة: وهو ذكر المضمضة والاستنشاق بعد غسل الذراعين، والمعروف أن المضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه وبعد غسل الكفين، كما صح ذلك من حديث عبد الله بن زيد، وعثمان بن عفان، وغيرهما. [تخريج الحديث]. الحديث رواه أبو داود (121) من طريق الإمام أحمد بهذا الإسناد. وأخرجه ابن الجاورد (74) والطبراني في الكبير (20/ 276) 654، وفي مسند الشاميين (1076) من طريق أبي المغيرة به. ورواه أبو داود (122، 123) والطحاوي (1/ 32) وابن ماجه (442) من طريق الوليد بن مسلم، عن حريز به. انظر أطراف المسند (5/ 392)، تحفة الأشراف (11573، 11574)، إتحاف المهرة (17016). (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 243).

الأذن، ووسطهما ملاقياً للباطن، دائرين مع الإبهامين للآخر، وكره تتبع غضونهما)) (¬1). وفي الكافي لابن عبد البر: يأخذ المتوضئ ماءً جديداً، فيمسح باطنهما وظاهرهما، وإن ترك مسح داخل أذنيه فلا شيء عليه (¬2). وفي مذهب الشافعية استحبوا أن يأخذ لصماخيه ماءً غير الماء الذي مسح به أذنيه. قال في المهذب: ويأخذ لصماخيه ماء جديداً غير الماء الذي مسح به ظاهر الأذن وباطنه؛ لأن الصماخ من الأذن كالفم والأنف من الوجه، فكما أفرد الفم والأنف عن الوجه بالماء، فكذلك الصماخ في الأذن (¬3). وهذا القياس بعيد، فإذا كنا لا نستحب أن نأخذ ماء جديداً للأذن، فما بالكم لجزء منها. وفي كشاف القناع قال: أن يدخل سبابتيه في صماخيهما - يعني الأذنين - ويمسح بإبهاميه ظاهرهما (¬4). وهل يتتبع غضاريف الأذنين؟ قال العدوي في حاشيته على الخرشي: وكره تتبع غضونهما. وقال في كشاف القناع: ولا يجب مسح ما استتر من الأذنين بالغضاريف؛ لأن الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر، فالأذن أولى، فالغضروف داخل فوق الأذن: أي أعلاها ومستدار سمعها. ¬

(¬1) الخرشي (1/ 134). (¬2) الكافي لابن عبد البر (ص: 23). (¬3) المهذب مطبوع مع المجموع (1/ 441). (¬4) كشاف القناع (1/ 100).

وأما الشافعية فرأوا أن يمر برأس الأصبع على معاطف الأذن، والأمر عندي ليس بلازم، لأن باب المسح أخف من باب الغسل، واستيعاب الممسوح أمر شاق حتى من يقول: بمسح الرأس كله، لا يمسح كل شعرة فيه، فإذا مسح أكثره أجزأ، والأذن أخف من الرأس، لكون مسح الرأس فرضاً، ومسح الأذن سنة على الصحيح، ولأن الأذنين تبعاً للرأس، لا يجزئ مسحهما عن الرأس، ويجزئ مسح الرأس عنهما، فإذا مسح باطن الأذنين بالسبابة أجزأه ذلك إذا مر بإبهاميه على ظاهرهما، والله أعلم.

الفرع الثاني: تمسح الأذنان معا

الفرع الثاني: تمسح الأذنان معاً يمسح الأذنين معاً، ولا يقدم اليمنى على اليسرى، قاله النووي (¬1). وقال أيضاً: مسح الأذنين بعد مسح الرأس، فلو قدمه عليه فظاهر كلام الأصحاب لا يحصل له مسح الأذنين؛ لأنه فعله قبل وقته، وذكر الروياني في حصوله وجهين، والصحيح المنع (¬2). أهـ والصحيح جوازه لكنه خلاف السنة، فكما لو قدم اليد اليسرى على اليمنى أو الرجل اليسرى على اليمنى صح، وكان خلاف السنة، لأن الرأس والأذنين في حكم العضو الواحد، وماؤهما واحد، وطهارتهما المسح. ¬

(¬1) المجموع (1/ 443). (¬2) انظر المرجع السابق والصفحة نفسها.

المبحث الرابع: خلاف العلماء في المسح على العمامة

المبحث الرابع: خلاف العلماء في المسح على العمامة اختلف العلماء في المسح على العمامة، فقيل: لا يجوز، هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: يجوز، اختاره الثوري (¬4)، والأوزاعي (¬5)، وهو المشهور من ¬

(¬1) المبسوط (1/ 101)، تبيين الحقائق (1/ 52)، شرح فتح القدير (1/ 157)، البحر الرائق (1/ 193)، الفتاوى الهندية (1/ 6)، حاشية ابن عابدين (1/ 272). (¬2) جاء في المدونة (1/ 124): " وقال مالك في المرأة تمسح على خمارها أنها تعيد الصلاة والوضوء " اهـ. وفي المنتقى للباجي (1/ 75) " سئل مالك عن المسح على العمامة والخمار، فقال: لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة على عمامة ولا خمار، وليمسحا على رؤسهما ". وجوز المالكية المسح على العمامة إذا كان يتضرر بنزعها، والحقيقة أن هذا لا يعتبر قولاً في المسح على العمامة، لأنه إذا كان يتضرر بنزعها أصبحت في حكم الجبيرة، ولذلك لم أعتبره قولاً؛ لأننا نقصد بالمسح على العمامة المسح عليها إذا لبسها مختاراً من غير ضرورة كالمسح على الخف. انظر: مختصر خليل (ص: 19)، والتاج والإكليل (1/ 532)، مواهب الجليل (1/ 207)، حاشية الدسوقي (1/ 163،164). (¬3) الأم (7/ 29)، ويرى النووي أنه لا يجوز المسح على العمامة وحدها، وإذا كان على رأسه عمامة، ولم يرد نزعها، مسح بناصيته، والمستحب أن يتمم المسح على العمامة، انظر حاشية الجمل (1/ 128)، أسنى المطالب (1/ 41)، المجموع (1/ 439). والحقيقة ليس في هذا قول بالمسح على العمامة؛ لأن الفرض عندهم المسح على الناصية، وهو وحده كاف في إسقاط الفرض، ولو اقتصر على العمامة لم يصح وضوؤه. فمحصلة هذا القول أنه لا يجوز المسح على العمامة وحدها، ولذلك لم أجعل هذا قولاً برأسه، لأن النتيجة أنهم لا يرون المسح على العمامة، ولو كانوا يرون المسح على العمامة لجاز الاقتصار عليها وحدها، ولم يشترطوا في الجواز مسح الناصية معها. والله أعلم. (¬4) أحكام القرآن ـ الجصاص (2/ 495). (¬5) المرجع السابق.

مذهب الحنابلة (¬1)، ومذهب الظاهرية (¬2)، وهو الصحيح. وقد تكلمت على أدلة الأقوال وتتبعت الآثار الموقوفة والمرفوعة في بحث مطول في كتابي أحكام المسح على الحائل، فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق. ¬

(¬1) قال عبد الله في مسائل الإمام أحمد (1/ 124): " سألت أبي عن الرجل يمسح على العمامة؟ قال: لا بأس به. اهـ وانظر مسائل أحمد رواية ابن هاني (1/ 18)، ورواية صالح (579،1051)، ورواية أبي داود (49،50) والفروع (1/ 162)، الإنصاف (1/ 185)، المغني (184)، كشاف القناع (1/ 112). (¬2) نسبه لدواد الظاهري الحطاب في مواهب الجليل (1/ 207). وقال ابن حزم في المحلى (1/ 303): " وكل ما لبس على الرأس من عمامة، أو خمار، أو قلنسوة، أو بيضة، أو مغفر، أو غير ذلك: أجزأ المسح عليه، المرأة والرجل سواء في ذلك، لعلة أو غير علة " اهـ.

المبحث الخامس: خلاف العلماء في المسح على الخمار

المبحث الخامس: خلاف العلماء في المسح على الخمار اختلف العلماء في مسح المرأة على الخمار، فقيل: تمسح كما يمسح الرجل على العمامة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، ورجحه ابن حزم (¬2). وقيل: لا تمسح، وهو مذهب الجمهور (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: إن خافت من البرد ونحوه مسحت، مال إليه ابن تيمية (¬5). ¬

(¬1) انظر مسائل ابن هانئ (1/ 19)، ورجح أصحاب أحمد أن تكون خمر النساء مدارة تحت حلوقهن، انظر الفروع (1/ 164)، كشاف القناع (1/ 112، 113)، شرح غاية المنتهى (1/ 124)، الروض المربع (1/ 283). (¬2) المحلى (1/ 303). (¬3) في مذهب الحنفية انظر أحكام القرآن- الجصاص (1/ 495)، المبسوط (1/ 101)، بدائع الصنائع (1/ 5). وفي مذهب المالكية، قال في المدونة (1/ 124): " قال مالك في المرأة تمسح على خمارها: إنها تعيد الصلاة والوضوء "، وفي المنتقى للباجي (1/ 75): " وسئل مالك عن المسح على العمامة والخمار، فقال: لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة عمامة ولا خماراً، وليمسحا على رؤسهما " اهـ. وانظر مواهب الجليل (1/ 207). وفي مذهب الشافعية انظر حاشية الجمل (1/ 128)، أسنى المطالب (1/ 41)، المجموع (1/ 439). (¬4) الفروع (1/ 164). (¬5) قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (21/ 218): " وإن خافت المرأة من البرد ونحوه مسحت على خمارها، فإن أم سلمة كانت تمسح على خمارها، وينبغي أن تمسح معه بعض شعرها، وأما إذا لم يكن بها حاجة إلى ذلك ففيه نزاع بين أهل العلم ". =

وقد ذكرنا أدلة الأقوال، ورجحنا جواز المسح على خمار المرأة في بحث موسع في كتابي المسح على الحائل، فأغنى عن إعادته هنا. ¬

_ = ولا أدري لماذا رأى ابن تيمية رحمه الله أن تمسح مع الخمار بعض شعرها، مع العلم أنه يرى وجوب استيعاب الرأس بالمسح إذا لم يكن هناك خمار، فإن كان مسح الخمار كافياً لم يكن ثمة حاجة إلى مسح بعض الشعر، وإن لم يكن كافياً كمذهب الشافعية، يستحبون مسح الناصية مع العمامة فينبغي أن يرى أن مسح بعض الرأس كافياً إذا لم يكن هناك عمامة، ثم تقييد ذلك بالبرد ليس بصواب، لأن أثر أم سلمة مطلق، وليس مقيداً، كما أن المسح على العمامة مطلق، وليس مقيداً بالبرد، وإن كان هذا دفعاً للخلاف فإن المسح على العمامة أيضاً مختلف فيه، فالجمهور لا يرون المسح على العمامة، ولم يحمل هذا ابن تيمية أن يقيد مسح الرجل على عمامته في حالة البرد، فتأمل.

المبحث السادس: خلاف العلماء في المسح على القلانس

المبحث السادس: خلاف العلماء في المسح على القلانس (¬1). اختلف العلماء في المسح على القلانس، فقيل: لا يمسح عليها، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3) والشافعية (¬4)،والحنابلة (¬5). وقيل: يمسح عليها، وهو رواية عن أحمد (¬6)، ومذهب ابن حزم (¬7). ¬

(¬1) قال في الجوهرة النيرة (1/ 28): القلنسوة شيء تجعله الأعاجم على رؤوسهم أكبر من الكوفيه. وقال الحافظ ابن حجر: القلنسوة غشاء مبطن، تستر به الرأس، قاله القزاز في شرح المفصل. وقال أبو هلال العسكري: هي التي تغطى بها العمائم، وتستر من الشمس والمطر، كأنها عنده رأس البرنس. اهـ نقلاً من الإنصاف (1/ 171). وقال ابن عابدين في حاشيته (1/ 272): ما يلبس على الرأس، ويتعمم فوقه. (¬2) المبسوط (1/ 101)، تبيين الحقائق (1/ 52)، شرح فتح القدير (1/ 157)، البحر الرائق (1/ 193)، الفتاوى الهندية (1/ 6)، حاشية ابن عابدين (1/ 272). (¬3) قال الباجي في المنتقى (1/ 76): " ولا يجزئ المسح على حائل دون الرأس ". (¬4) إذا كانوا يمنعون المسح على العمامة، فمنع المسح على القلانس من باب أولى، انظر العزو في منعهم من المسح على العمامة في الفصل الأول من هذا الباب. (¬5) الإنصاف (1/ 170)، شرح منتهى الإرادات (1/ 62)، مطالب أولي النهى (1/ 128)، الفروع (1/ 163). (¬6) الإنصاف (1/ 170)، الفتاوى الكبرى (1/ 320)، الفروع (1/ 163). (¬7) المحلى (1/ 303).

وقيل: يمسح إن كانت مشدودة تحت حلقه، وهو رواية عن أحمد (¬1). وقد سبق الكلام عن هذه المسألة في كتابي المسح على الحائل، وذكرت أدلة الأقوال، فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق. ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 170)، الفتاوى الكبرى (1/ 320)، الفروع (1/ 163).

الفصل الرابع: من فروض الوضوء: غسل الرجلين

الفصل الرابع: من فروض الوضوء: غسل الرجلين اختلف العلماء في فرض القدمين: فقيل: فرضهما الغسل، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: فرضهما المسح، حكاه بعض أهل العلم مذهباً لعلي بن أبي طالب وابن عباس وأنس (¬2)، وهو مذهب الحسن البصري وعكرمة والشعبي (¬3). وقيل: طهارتهما على التخيير بالغسل أو بالمسح (¬4). أدلة الجمهور: الدليل الأول: قراءة نصب أرجلكم في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين} (¬5). ¬

(¬1) انظر أحكام القرآن للجصاص (2/ 487)، المبسوط (1/ 8)، البناية (1/ 102)، حاشية ابن عابدين (1/ 98)، بدائع الصنائع (1/ 5)، مواهب الجليل (1/ 211)، المنتقى للباجي (1/ 39)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 71، 72)، الأم (1/ 27)، الوسيط (1/ 373)، المجموع (1/ 447)، تحفة المحتاج (1/ 210)، المغني (1/ 90)، المبدع (1/ 129)، شرح منتهى الإرادات (1/ 50)، الهداية (1/ 14). (¬2) المحلى (1/ 301). (¬3) سيأتي تخريج أقوالهم من مصنف ابن أبي شيبة في معرض ذكر الأدلة. (¬4) نسبه أبو المواهب العكبري في رؤوس المسائل الخلافية لابن جرير (1/ 34). (¬5) المائدة: 6.

الدليل الثاني

فـ (أرجلكم) معطفوفة على (وجوهكم) والعامل فيها الفعل في قوله تعالى: {فاغسلوا}، والعطف على نية تكرار العامل، فكأنه قال: واغسلوا أرجلكم. الدليل الثاني: الأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه غسل رجليه، منها: حديث عثمان بن عفان، وعبد الله بن زيد في الصحيحين، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب، والربيع بنت معوذ، وغيرها مما سبق تخريجه. الدليل الثالث: (972 - 201) ما رواه البخاري، حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر سافرناه، فأدركنا وقد أرهقنا الصلاة، صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن العربي تعليقاً على قوله: (ونمسح على أرجلنا) ((قد يتمسك به من قال بجواز المسح على الرجلين، ولا حجة فيه لأربعة أوجه: الأول: أن المسح هنا يراد به الغسل، فمن الفاشي المستعمل في أرض الحجاز أن يقولوا: تمسحنا للصلاة: أي توضأنا. ¬

(¬1) صحيح البخاري (96)، ومسلم (241).

الدليل الرابع

والثاني: أن قوله: (وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء) يدل على أنهم كانوا يغسلون أرجلهم، إذ لو كانوا يمسحونها لكانت القدم كلها لا ئحة، فإن المسح لا يحصل منه بلل الممسوح. والثالث: أن هذا الحديث قد رواه أبو هريرة، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يغسل عقبه، فقال: ويل للأعقاب من النار. والرابع: أننا لو سلمنا أنهم مسحوا لم يضرنا ذلك، ولم تكن فيه حجة لهم؛ لأن ذلك المسح هو الذي توعد عليه بالعقاب، فلا يكون مشروعاً، والله أعلم (¬1). الدليل الرابع: (973 - 202) ما رواه البخاري، من طريق شعبة قال: حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة وكان يمر بنا والناس يتوضئون من المطهرة قال: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال: ويل للأعقاب من النار (¬2). وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال بالحديث الذي قبله. الدليل الخامس: (974 - 203) ما رواه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر، أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلاً توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى (¬3). ¬

(¬1) المفهم (1/ 497). (¬2) البخاري (165)، ومسلم (242). (¬3) صحيح مسلم (243).

الدليل السادس

قال القرطبي: «قوله: (فأحسن وضوءك) دليل على استيعاب الأعضاء، ووجوب غسل الرجلين». الدليل السادس: حديث عمرو بن عبسة، رواه مسلم، وسبق ذكر إسناده من قبل، وهو حديث طويل: وفيه: (ثم يغسل قدميه إلى الكعبين) إلا خرت خطايا رجليه من أنامله: مع الماء. الحديث وله شاهد من حديث أبي هريرة في مسلم. الدليل السابع: (975 - 204) أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء (¬1). [إسناده حسن، وسبق التنبيه على أن زيادة (أو نقص) وهم من الراوي] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (135). (¬2) سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.

الدليل الثامن

وجه الاستدلال: أنه غسل رجليه، ثم اعتبر النقص من هذا ظلماً وإساءة. الدليل الثامن: ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بتخليل الأصابع، ولو كان فرض الرجلين المسح لم يأمر به، فقد سبق أن ذكرت حديث لقيط بن صبرة، وهو حديث صحيح، قال - صلى الله عليه وسلم -: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً. الدليل التاسع: حكى بعض أهل العلم الإجماع على وجوب غسل القدمين، من ذلك: نقل ابن حجر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله قوله: «أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين» (¬1). وقال الطحاوي الحنفي: «رأينا الأعضاء التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء: الوجه واليدان والرجلان والرأس، فكان الوجه يغسل كله، وكذلك اليدان، وكذلك الرجلان» (¬2). وقال في مواهب الجليل: «قال ابن رشد: إن فرائض الوضوء على ثلاثة أقسام: قسم مجمع عليه: وهي الأعضاء الأربعة» (¬3). وقال ابن قدامة: ((والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة: النية، وغسل ¬

(¬1) فتح الباري (1/ 266)، وانظر المبدع (1/ 144)، شرح العمدة (1/ 196). (¬2) شرح معاني الآثار (1/ 33). (¬3) مواهب الجليل (1/ 183).

الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين)) (¬1). قلت: النية ليست محل اتفاق، فالحنفية لا يرونها واجبة، والخلاف محفوظ أيضاً في غسل الرجلين، ولعل ابن قدامة يقصد في المذهب، ولم يقصد في المذاهب. وقال ابن عبد الهادي: ومفروض إجماعاً غسل رجليه إلى الكعبين (¬2). وأجيب: مناقشة دعوى الإجماع، عندنا الإجماع المحكي عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإجماع المحكي عن غيرهم. أما الإجماع المحكي عن الصحابة، فقد ذكر ابن حزم رحمه الله تعالى أن المسح مذهب لعلي وابن عباس وأنس (¬3). وقد ذكر ابن حجر في الفتح: أنهم رجعوا عن ذلك، قال: «ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين» (¬4). اهـ فحكاية رجوع الصحابة علي وابن عباس وأنس أخذه ابن حجر من حكاية ابن أبي ليلى: أن الصحابة مجمعون على غسل القدمين، وليست صريحة إذ يحتمل أنه إجماع على مشروعية الغسل، وهذا لا نزاع فيه، ولا يوجد إجماع على أنه لا يجزئ إلا هو، وبينهما فرق. ¬

(¬1) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: سقط هذا الهامش من المطبوع (¬2) مغني ذوي الأفهام (44). (¬3) المحلى (1/ 301). (¬4) فتح الباري في شرحه لحديث (163).

ولو نقل ابن حجر عن علي وأنس وابن عباس القول بعدم جواز المسح لصح مأخذه. وأما الإجماع المنقول من غير الصحابة فأعتقد أنه غير دقيق، فقد نقل استثناء القدمين جماعة ممن رووا الإجماع، منهم: السمرقندي الحنفي قال: «والرابع: غسل الرجلين مرة واحدة ..... ثم قال: وهذا فرض عند عامة العلماء، وقال بعض الناس: الفرض هو المسح لا غير، وعن الحسن البصري أنه قال: يخير بين الغسل والمسح، وقال بعضهم: إنه يجمع بينهما» (¬1). الخ كلامه رحمه الله. قال ابن عبد البر: «وذلك أنهم أجمعوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب الذي عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وإذا جاز عند من قال بالمسح على القدمين أن يكون من غسل قدميه قد أدى الفرض عنده، فالقول في هذه الحال بالاتفاق هو اليقين» (¬2). وقال أبو بكر بن العربي: «قال أبو عيسى: لا يجوز المسح على الأقدام المجردة، خلافاً لمحمد بن جرير الطبري، حيث قال: هو مخير بين المسح والغسل، ثم قال: وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه يجب الجمع بينهما» (¬3). وقال القرطبي: «اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه، دون ما اختلفوا فيه» (¬4). ¬

(¬1) تحفة الفقهاء (1/ 10). (¬2) التمهيد (24/ 256). (¬3) عارضة الأحوذي (1/ 58). (¬4) الجمع لأحكام القرآن (6/ 95).

وقد ثبت القول بالمسح عن جماعة من التابعين ممن يعتد بقولهم، ويعتبر خلافهم بالإجماع، كالحسن البصري، وعكرمة، والشعبي، وغيرهم. فقد روى ابن أبي شيبة، حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه، وكان يقول به. وهذا إسناد صحيح إلى عكرمة، وعكرمة من تلاميذ ابن عباس، وربما أخذ عنه فقه هذه المسألة، وابن عباس قد جاء عنه القول بالمسح، وهذا يدل على أن القول بأن ابن عباس قد رجع عنه يحتاج إلى تأمل. (976 - 205) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن، أنه كان يقول: إنما هو المسح على القدمين، وكان يقول: يمسح ظاهرهما وباطنهما. [وهذا إسناد صحيح عن الحسن] (977 - 206) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، قال: إنما هو المسح على القدمين، ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم، وما كان عليه المسح أهمل، فلم يجعل عليه التيمم. [وهذا إسناد صحيح إلى الشعبي]. (978 - 207) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن حميد، قال: كان أنس إذا مسح على قدميه بلهما. وسنده صحيح. وقد سبق أن هذا القول قاله ابن جرير الطبري، وبعض أهل الظاهر. فالقول بالمسح ثابت عن بعض السلف، لا إشكال في ثبوته من لدن

دليل من قال: إن فرض الرجلين المسح

الصحابة فمن بعدهم، وثبوت القول شيء والراجح شيء آخر، فلا يلزم من ثبوت القول ثبوت الصحة، فقد يكون القول ثابتاً، وهو قول ضعيف من حيث الدلالة. والله أعلم. وقد ذهب بعض أهل العلم أن القول بالمسح كان في أول الأمر ثم نسخ، وقد ذهب إلى هذا ابن حزم والطحاوي رحمهما الله تعالى، وهذا أيضاً ليس بصواب. قال ابن حزم: «القرآن نزل بالمسح ... ثم قال: وإنما قلنا بالغسل فيهما لما حدثناه، ثم ساق بإسناده حديث (ويل للأعقاب من النار) فكان هذا الخبر زائداً على ما في الآية، أو على الأخبار التي ذكرنا، وناسخاً لما فيها ولما في الآية، والأخذ بالزائد واجب ..» الخ كلامه رحمه الله تعالى (¬1). وقال الطحاوي بعد أن ساق حديث عبد الله بن عمر (تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا صلاة العصر، ونحن نتوضأ، ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار) قال الطحاوي رحمه الله: «فدل على أن حكم المسح الذي كانوا يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه مما ذكرناه» (¬2). دليل من قال: إن فرض الرجلين المسح. الدليل الأول: الاستدلال بقراءة جر (وأرجلكم) من قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم}. ¬

(¬1) المحلى (1/ 301). (¬2) الطحاوي (1/ 39).

قال ابن حزم: «القرآن نزل بالمسح، وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها، هي على كل حال عطف على الرؤوس، إما على اللفظ، أو على الموضع، لا يجوز غير ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة» (¬1). وأجيب عنه: فقيل: ((إن الجر على المجاورة، وهذا معروف في لغة العرب من ذلك كقوله: هذا جحر ضبٍ خربٍ، بجر (خرب) على جوار (ضب) وهو مرفوع صفة لجحر، ومنه في القرآن الكريم: {إني إخاف عليكم عذاب يوم أليم} (¬2)، فجر (الميم) على جواز كلمة (يوم) وهو منصوب صفة لعذاب، فإن قيل: إنما يصح الإتباع إذا لم يكن هناك واو، فإن كانت لم يصح، والآية فيها (واو). قلنا: هذا غلط، فإن الإتباع مع الواو مشهور، في أشعارهم، من ذلك ما أنشدوه: لم يبق إلا أسير غير منفلت ... وموثق في عقال الأسر مكبول)) اهـ كلام النووي (¬3). الوجه الثاني في الجواب عن قراءة الجر. ما قال ابن العربي: ((والذي ينبغي أن يقال: إن قراءة الخفض عطف على الرأس، فهما يمسحان بكف إذا كان عليهما خفاف، وتلقينا هذا القيد ¬

(¬1) المحلى (1/ 301). (¬2) هود: 26. (¬3) المجموع (1/ 449).

الدليل الثاني

من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليه خفاف، والمتواتر عنه غسلهما، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله الحال الذي تغسل فيه الرجل، والحال الذي تمسح فيه)) (¬1). الجواب الثالث: قال النووي: إن قراءتي الجر والنصب يتعادلان، والسنة بينت ورجحت الغسل، فتعين (¬2). الوجه الرابع: قال النووي: «لو ثبت أن المراد بالآية المسح لحمل المسح على الغسل، جمعاً بين الأدلة والقراءتين؛ لأن المسح يطلق على الغسل، كذا نقله جماعة من أئمة اللغة، منهم أبو زيد الأنصاري وابن قتيبة وآخرون، وروى البيهقي بإسناده عن الأعمش، قال: كانوا يقرؤنها، وكانوا يغسلون». اهـ كلام النووي (¬3). وقد سبق لنا قول ابن العربي: من المستعمل في أرض الحجاز: تمسحنا للصلاة: أي توضأنا. اهـ الدليل الثاني على جواز مسح القدمين. (979 - 208) ما رواه أبو داود من طريق همام، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع، وفيه: ¬

(¬1) المفهم (1/ 496). (¬2) المجموع (1/ 450). (¬3) المجموع (1/ 450).

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين. الحديث، والحديث قطعة من حديث طويل (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى، إلا أن ذكر الوضوء على وجه التفصيل انفرد به همام عن إسحاق فيما وقفت عليه، وحديث المسيء في صلاته في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وفيه ذكر الوضوء بلفظ: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ولم يفصل تفصيل همام، والله أعلم] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (858). (¬2) هذا الحديث مداره على عليِّ بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن رفاعة. واختلف على عليِّ هذا في إسناده وإليك بيانه. الأول: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع. أخرجه أبو داود (858) كما في إسناد الباب، والنسائي في المجتبى (1136)، وفي الكبرى (722)، وابن ماجه (460)، والدارمي (1329)، والبزار في مسنده كما في البحر الزخار (3727)، وابن الجارود في المنتقى (194)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 35) والطبراني في الكبير (5/ 37) رقم: 4525 والدارقطني في سننه (1/ 95)، والحاكم (1/ 241) والبيهقي في السنن (1/ 44) و (2/ 345) كلهم أخرجوه من طريق همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة به، بذكر الوضوء، كما في لفظ إسناد الباب، وفي النص على أن رواية علي ابن يحيى بن خلاد إنما هي عن أبيه، عن رافع. ورواه حماد بن سلمة عن إسحاق واضطرب فيه، فقال مرة: عن علي بن يحيى بن خلاد، عن عمه، ولم يقل فيه: عن أبيه. أخرجه أبو داود (857) عن موسى بن إسماعيل. والطبراني في الكبير (4526) من طريق حجاج بن منهال، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن عمه أن رجلاً دخل المسجد. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال مرة أخرى: عن علي بن يحيى بن خلاد، أراه عن أبيه، عن عمه أن رجلاً. أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1977) عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به. وقال مرة ثالثة: عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه أن رجلاً ... فجعله من مسند يحيى بن خلاد. أخرجه الحاكم (1/ 242) من طريق عفان، عن حماد ابن سلمة به. فدل على أن حماد بن سلمة لم يضبطه، وقد حفظه همام بن يحيى، عن إسحاق بما يوافق الروايات الأخرى كما سيأتي. قال البخاري في التاريخ الكبير (3/ 320): لم يقمه. يعني: إسناد حماد. وقال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين بعد أن أقام همام ابن يحيى إسناده، فإنه حافظ ثقة، وكل من أفسد قوله فالقول قول همام، ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما اتفقا فيه على عبيد الله بن عمر بن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وقد روى محمد بن إسماعيل هذا الحديث في التأريخ الكبير، عن حجاج بن منهال، وحكم له بحفظه، ثم قال: لم يقمه حماد بن سلمة. اهـ وقال أبو رزعة كما في العلل لابن أبي حاتم (1/ 82): وهم حماد. أهـ الطريق الثاني: محمد بن إسحاق، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه به. أخرجه أبو داود (860)، وابن خزيمة (597، 638)، والطبراني في الكبير (5/ 39) رقم: 4528، والبيهقي في السنن (1/ 133، 134) إلا أن لفظ محمد بن إسحاق لم يذكر الوضوء، وقد اختصره أبو داود وابن خزيمة، وأما الطبراني فقد ذكره بتمامه. كما أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 243) من طريق محمد بن إسحاق، إلا أنه قال: عن علي بن يحيى بن خلاد، حدثني زريق، عن أبيه، عن عمه رفاعة، واختصر الحديث. الطريق الثالث: داود بن قيس الفراء، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه به. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3739)، والنسائي في المجتبى (1314)، وفي الكبرى (1237)، والطبراني في الكبير (4520) والحاكم في المستدرك (1/ 242، 243) ولم يختلف على داود في ذكر والد علي بن يحيى بن خلاد في إسناده، وذكر الوضوء بلفظ: " إذا أردت أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = تصلي فتوضأ، فأحسن وضوءك ". الطريق الرابع: محمد بن عجلان، عن علي بن يحيى بن خلاد. واختلف على محمد بن عجلان، فأخرجه أحمد في المسند (4/ 340) والطبراني في الكبير (4523)، وابن حبان (1787) عن يحيى بن سعيد. وأخرجه النسائي في المجتبى (1313) والطبراني في الكبير (4522) من طريق الليث بن سعد. وأخرجه الطبراني في الكبير (4521) من طريق سليمان بن بلال. وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1976) والطبراني في الكبير (4524) من طريق أبي خالد الأحمر. وأخرجه النسائي (1053) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 372) من طريق بكر بن مضر. كلهم رووه عن ابن عجلان، عن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن رافع. وذكروا الوضوء بلفظ داود بن قيس " فأحسن وضوءك " ولم يفصل الوضوء إلا ابن أبي عاصم فلم يذكر الوضوء. وخالفهم النضر بن عبد الجبار، فرواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (1594) من طريقه، قال: أخبرنا ابن لهيعة والليث، عن محمد بن عجلان، عن من أخبره عن علي بن يحيى ابن خلاد، عن أبيه، عن عمه، وساقه مختصراً. فزاد في الإسناد رجلاً مبهماً بين ابن عجلان وبين علي بن يحيى بن خلاد. وأخرجه البخاري في القراءة خلف الإمام (112) من طريق بكير بن الأشج، عن ابن عجلان، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن رفاعة، ولم يقل: عن أبيه. والمحفوظ أن علي بن يحيى بن خلاد يرويه عن أبيه، عن رفاعة. الطريق الخامس: عن محمد بن عمرو، عن علي بن يحيى بن خلاد. رواه أحمد في مسنده (4/ 340) عن يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن رفاعة. ولم يقل: عن أبيه. ورواه ابن حبان (1787) من طريق يزيد بن هارون به إلا أنه قال: عن علي بن يحيى ابن خلاد أحسبه عن أبيه. فشك في زيادة أبيه. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (980 - 209) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، ¬

_ = الطريق السادس: شريك بن أبي نمر، عن علي بن يحيى بن خلاد. أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (2243) وفي شرح معاني الآثار (1/ 232) عنه، عن علي بن يحيى به، بإسقاط كلمة (أبيه)، واختصر الحديث فلم يذكر فيه الوضوء. الطريق السابع: عن عبد الله بن عون، عن علي بن يحيى بن خلاد. أخرجه الطبراني في الكبير (4530) من طريق شريك، عن عبد الله بن عون به، بإسقاط كلمة عن أبيه، ولم يذكر الوضوء. الطريق الثامن: يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن جده، عن رفاعة. أخرجه الطيالسي (1382)، وأبو داود (861)، والنسائي في المجتبى (667)، وفي الكبرى (1631)، وابن خزيمة (545)، والطحاوي في مشكل الآثار (2244)، والبيهقي (2/ 380) من طريق إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد به. ورواه الترمذي (302) من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد، عن جده رفاعة، ولم يذكر عن أبيه، وهو وهم. ويحيى بن علي بن يحيى بن خلاد مجهول، لم يرو عنه إلا إسماعيل بن جعفر، ولم يوثقه إلا ابن حبان. والله أعلم. فتبين لنا في خلاصة هذا البحث، أن الإسناد المحفوظ في هذا الحديث هو بذكر يحيى بن خلاد، والد عليَّ، ومن أسقطه من الإسناد فقد غلط، وقد انفرد همام بن يحيى عن إسحاق بذكر الوضوء على وجه التفصيل، بذكر غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين، وقد ذكر ابن عجلان الوضوء بلفظ " فأحسن وضوءك " ولم يذكر الوضوء مفصلاً، وهذا يوافق رواية أبي هريرة في الصحيحين لقصة المسيء في صلاته، فقد أخرجه البخاري (6251) ومسلم (397) بلفظ: " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ". ولم يفصله، فإن كانت القصة واحدة وهو الظاهر فإن رواية ابن عجلان موافقة في المعنى لما في الصحيحين فهي أولى أن تكون محفوظة، والله أعلم. انظر لمراجعة بعض طرق هذا الحديث: أطراف المسند (2/ 344)، تحفة الأشراف (3604)، إتحاف المهرة (4582).

عن علي رضي الله عنه، قال: كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرهما (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 95). (¬2) مدار هذا الحديث على عبد خير، عن علي مرفوعاً، ورواه عن عبد خير ثلاثة: أبو إسحاق السبيعي، وأبو السوداء عمرو بن عمران النهدي، والسدي. أما رواية أبي إسحاق السبيعي، فرواه عنه الأعمش، واختلف عليه: فرواه وكيع، وعيسى بن يونس، عن الأعمش به، لا يختلفون في لفظه، ولا يذكرون المسح على الخفين، ولفظه: " كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهرهما ". ورواه حفص بن غياث، عن الأعمش به، تارة بالمسح على القدمين، وتارة بالمسح على الخفين. ورواه يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، بذكر المسح على الخفين، ولم يختلف عليه فيه، ولذا اخترتها أن تكون في المتن. وكان من الممكن أن يكون هذا الاختلاف من قبل الأعمش؛ فإن روايته عن أبي إسحاق فيها كلام، لكن جاء المسح على القدمين من غير طريق الأعمش، فرواه الثوري، عن أبي إسحاق به بلفظ: " لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر القدمين لرأيت أن أسفلهما أو باطنهما أحق ". كما رواه إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق بذكر المسح على القدمين، لا على الخفين. فالثوري وإبراهيم بن طهمان، يرويانه عن أبي إسحاق بذكر المسح على ظاهر القدمين، لا يختلف عليهما فيه، ولم يتعرضا لذكر الخفين. ورواه أبو نعيم عن يونس، عن أبي إسحاق، واختلف على أبي نعيم فيه: فرواه شعيب بن أيوب، عن أبي نعيم، به بذكر المسح على القدمين، لا على الخفين. ورواه أحمد، عن أبي نعيم به، فخالف من سبق، وانفرد عنهم بذكر النعلين، ولفظه: =

وجه الاستدلال: قوله في الحديث (يمسح على ظاهرهما) ظاهره أن يمسح على رجليه بدون خفين، وهذا دليل على أن فرض الرجل المسح. ويجاب عن هذا الدليل بما يلي: لقد تبين لك الاختلاف في متن هذا الحديث من خلال الكلام على تخريج الحديث، فإما أن يقال: إنه هذا الاختلاف يوجب الاضطراب في الحديث، والمضطرب ضعيف. أو يحمل قول من قال بالمسح على ظاهر القدمين بالمسح عليه، وفيه الخف، وهذا أرجح، ولذلك جاء في بعضها الجمع بين المسح على ظاهر القدم، مع ذكر الخف مما يوحي بأن المراد بظاهر القدم هو ظاهر الخف، ¬

_ = رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على النعلين، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت، لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما ". هذا فيما يتعلق برواية أبي إسحاق، ولا يمكن أن يقال: إن هذا جاء من تغير أبي إسحاق، لأن من الرواة عنه سفيان الثوري، وهو من أصحابه القدماء. أما رواية أبي السوادء، عن عبد خير، عن علي، فذكرت مسح القدم، لا مسح الخف، فخرج أبو إسحاق من عهدته بهذه المتابعة، إلا أنه ذكر غسل الظاهر، ولم يذكر مسح الظاهر، ومعلوم أنه لوكان الأمر يتعلق بالخف لذكر المسح؛ لأنه لم يقل أحد: إنه يغسل ظاهر الخف، إلا أن يحكم بشذوذ هذه اللفظة، وهو أقرب، قال: توضأ علي، فغسل ظاهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل ظهور قدميه، لظننت أن بطونهما أحق. وسنده صحيح. وإذا أردت أن تطلع على مصادر تخريج هذا الحديث فانظره في كتابي أحكام المسح على الحائل (ح 72)، وقد طبع ولله الحمد، وهو جزء من هذه السلسلة.

الدليل الرابع

(981 - 210) فقد جاء في رواية إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق: «كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على ظهر قدميه على خفيه» (¬1). فتبين أن مراده من قوله: (ظاهر القدمين) أنه يريد ظاهر الخفين كما صرح به في آخر الحديث. قال الدارقطني في العلل: «والصحيح في ذلك قول من قال: كنت أرى باطن الخفين أحق بالمسح من أعلاهما» (¬2)، وكذا رجح البيهقي في السنن (¬3). الدليل الرابع: من الآثار. (982 - 211) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن حميد، قال: كان أنس إذا مسح على قدميه بلهما. [وسنده صحيح]. وقد خرجت ذلك عن بعض التابعين فيما سبق من قول عكرمة والشعبي والحسن وغيرهم. دليل من قال: يجوز الغسل والمسح. لعل هذا القول أخذ من أدلة القولين بجواز الغسل والمسح أن الأمر على التخيير. ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 292). (¬2) العلل (4/ 46). (¬3) السنن (1/ 292).

الراجح

وقد يكون هذا القول يرجع إلى القول الثاني، وذلك لأن من قال: إن الفرض المسح لا يمنع من غسل القدم، ولكنه لا يوجبه، وإنما يرى أن المسح كاف في الواجب، فإن غسل قدمه فلا بأس، ولذلك قال ابن عبد البر في التمهيد: «وإذا جاز عند من قال بالمسح على القدمين أن يكون من غسل قدميه قد أدى الفرض عنده، فالقول في هذه الحال بالاتفاق هو اليقين» (¬1). فهذا نص من ابن عبد البر أن من قال بالمسح لا يمنع من غسل القدم، والله أعلم. الراجح: بعد ذكر الأقوال والأدلة فإن الراجح والله أعلم وجوب غسل القدمين، ولا يكفي في ذلك مسحهما، وحديث ويل للأعقاب من النار نص في محل النزاع، والله أعلم. ¬

(¬1) التمهيد (24/ 256).

الفصل الخامس: من فروض الوضوء الترتيب

الفصل الخامس: من فروض الوضوء الترتيب اختلف العلماء في حكم الترتيب بين أعضاء الوضوء، فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول داود (¬3). وقيل: الترتيب فرض، وهو مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، وهو قول إسحاق (¬6)، واختيار ابن حزم (¬7). ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 507)، تبيين الحقائق (1/ 6)، المبسوط (1/ 55)، حاشية ابن عابدين (1/ 122)، بدائع الصنائع (1/ 18)، شرح فتح القدير (1/ 34، 35). (¬2) جاء في المدونة (1/ 14)، سألت مالكاً عمن نكس وضوءه فغسل رجليه قبل يديه، ثم وجهه، ثم صلى؟ قال: صلاته مجزئة عنه. قال: قلت له: أترى أن يعيد الوضوء؟ قال: ذلك أحب إلي. قال: ولا ندري ما وجوبه. اهـ وانظر شرح الخرشي (1/ 135)، الإشراف (1/ 11)، المنتقى (1/ 47)، مواهب الجليل (1/ 249،250). (¬3) المجموع (1/ 472). (¬4) الوسيط (1/ 375)، مغني المحتاج (1/ 54)، المجموع (1/ 470 - 472)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 57). (¬5) الإنصاف (1/ 138)، كشاف القناع (1/ 104)، المغني (1/ 92)، الفروع (1/ 154). (¬6) المحلى (1/ 310). (¬7) قال في المحلى (1/ 310) مسألة: 206 "من نكس وضوءه، أو قدم عضواً على المذكور قبله في القرآن عمداً أو نسيانا لم تجزه الصلاة أصلاً, وفرض عليه أن يبدأ بوجهه ثم ذراعيه ثم رأسه ثم رجليه. الخ كلامه رحمه الله.

دليل من قال: الترتيب سنة

دليل من قال: الترتيب سنة. الدليل الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬1). قال ابن عبد البر: والحجة لمالك ومن ذكرنا من العلماء من العلماء، أن سيبويه وسائر البصريين من النحويين، قالوا في قول الرجل: أعط زيداً وعمراً ديناراً، أن ذلك يوجب الجمع بينهما في العطاء، ولا يوجب تقدمة زيد على عمرو، فكذلك قول الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬2) إنما يوجب ذلك الجمع بين الأعضاء المذكورة، ولا يوجب النسق، وقد قال الله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله} (¬3)، فبدأ بالحج، وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل أن يحج. وكذلك قوله {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (¬4)، جائز لمن وجب عليه إخراج زكاة ماله في حين وقت الصلاة أن يبدأ بإخراج الزكاة، ثم يصلي الصلاة في وقتها عند الجميع، وكذلك قوله تعالى {فتحرير رقبة مؤمنة ودية ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) المائدة: 6. (¬3) البقرة: 196. (¬4) النور: 56.

الدليل الثاني

مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} (¬1)، لا يختلف العلماء أنه جائز لمن وجب عليه في قتل الخطأ إخراج الدية وتحرير الرقبة أن يسلم الدية قبل أن يحرر الرقبة، وهذا كله منسوق بالواو، ومثله كثير في القرآن، فدل على أن الواو لا توجب رتبة ... ثم قال: وقد قال الله تعالى {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} (¬2)، ومعلوم أن السجود بعد الركوع (¬3). الدليل الثاني: (983 - 212) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن عوف، عن عبد الله بن عمر بن هند، قال: قال علي: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ولو صح فهو محمول على تقديم الشمال على اليمين في اليدين والرجلين كما جاء ذلك عنه من طريق الحارث عن علي رضي الله عنه (¬6). وقد جاء في مسائل عبد الله بن أحمد لأبيه: قال أحمد: والذي روي عن علي وابن مسعود ما أبالي بأي أعضائي بدأت، قال: إنما يعني اليسرى قبل ¬

(¬1) النساء: 92. (¬2) آل عمران: 43. (¬3) التمهيد (2/ 81). (¬4) المصنف (1/ 43). (¬5) إسناده منقطع، وسبق تخريجه في سنن الوضوء في مشروعية التيامن. (¬6) والحارث ضعيف.

اليمنى، ولا بأس أن يبدأ بيسار قبل يمين؛ لأن مخرجها من الكتاب واحد، قال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (¬1)، فلا بأس أن يبدأ باليسار قبل اليمين (¬2). اهـ وذكر ابن عبد الهادي في التنقيح قوله: (984 - 213) روى الإمام أحمد، عن جرير، عن قابوس، عن أبيه، أن علياً سئل فقيل له: أحدنا يستعجل فيغسل شيئاً قبل شيء؟ قال: لا، حتى يكون كما أمره الله تعالى (¬3). [لم أقف عليه في كتب الحديث، والإسناد المذكور ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) مسائل عبد الله بن أحمد (1/ 99،100). (¬3) التنقيح (1/ 404)، ونقلها ابن قدامة في المغني بالإسناد نفسه (1/ 93)، كما نقل ذلك ابن تيمية في شرح العمدة (1/ 212)، وفي مجموع الفتاوى (21/ 412). (¬4) في إسناده قابوس بن ظبيان، جاء في ترجمته: قال جرير: أتينا قابوس بعد فساده. التاريخ الكبير (7/ 193) وهذا الأثر من رواية جرير عن قابوس. وقال أحمد: سئل جرير عن شيء من حديث قابوس، فقال: نفق قابوس، نفق قابوس. الكامل (6/ 48). ‍‍‍وقال العجلي: قابوس بن أبي ظبيان كوفي لا بأس به. معرفة الثقات (2/ 209). وقال ابن عدي: أحاديثه مقاربة، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (6/ 49). وقال ابن معين: ثقة جائز الحديث إلا أن ابن أبي ليلى جلده الحد. المرجع السابق. وقال مرة أخرى: ضعيف الحديث. المرجع السابق. ووثقه يعقوب بن سفيان كما في المعرفة والتاريخ وقال فيه أحمد: لم يكن من النقد الجيد. تهذيب الكمال (23/ 328). =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (985 - 214) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن ابن جريج، عن سليمان ابن موسى، عن مجاهد، قال: قال عبد الله - يعني: ابن مسعود - لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء. [إسناده منقطع والمحفوظ عن ابن مسعود أن ذلك في تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى] (¬1). ¬

= وقال أحمد: لم يكن بذاك. بحر الدم (830). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، لين، يكتب حديثه ولا يحتج به. الجرح والتعديل (7/ 145). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (497). قال الدارقطني: ضعيف، لكن لا يترك. تهذيب التذهيب (8/ 274). وقال ابن سعد: فيه ضعيف، ولا يحتج به. المرجع السابق. (¬1) قال الدارقطني في السنن (1/ 89) بعد أن رواه من طريق حفص به، وهذا مرسل، ولا يثبت. وقال ابن عبد البر في التمهيد (2/ 83): حديث عبد الله بن مسعود أشد انقطاعا؛ لأنه لا يوجد إلا من رواية مجاهد، عن ابن مسعود، ومجاهد لم يسمع من ابن مسعود، ولا رآه، ولا أدركه، وهو أيضاً حديث مختلف فيه؛ لأن عبد الرزاق ومحمد بن بكر البرساني روياه عن ابن جريج، عن سليمان الأحول، عن مجاهد، عن ابن مسعود، قال: ما أبالي بأيهما بدأت باليمنى أو باليسرى. ورواه حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن مجاهد، قال: قال عبد الله بن مسعود: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك. وعبد الرزاق أثبت في ابن جريج من حفص بن غياث، وقد تابعه البرساني، وليس في روايتهما ما يوجب تقديماً ولا تأخيراً؛ لأن اليمنى واليسرى لا تنازع بين المسلمين في تقديم أحدهما =

الدليل الرابع

قلت: الصحيح عن ابن مسعود أن ذلك في تقديم اليسرى على اليمنى، (986 - 215) فقد رواه الدارقطني من طريق هشيم، عن عبد الرحمن المسعودي، حدثني سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين، عن عبد الله بن مسعود، عن رجل توضأ فبدأ بمياسره، فقال: لا بأس (¬1). [وصحح الدارقطني إسناده] (¬2). الدليل الرابع: احتجوا بما رووا عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل وجهه، ثم يديه، ثم رجليه، ثم مسح رأسه (¬3). [لم أقف على إسناده] (¬4). ¬

= على الأخرى؛ لأنه ليس فيها نسق بواو، وقد جمعهما الله بقوله تعالى: وأيديكم، وهذا لم يختلف فيه فيحتاج إليه. اهـ (¬1) سنن الدارقطني (1/ 89). (¬2) إن سلم من عنعنة هشيم بن بشير، وسلم من اختلاط المسعودي، وقد ذكر ابن الكيال في الكواكب النيرات (ص: 282) جملة من الرواة ممن سمع منه قبل اختلاطه، وجملة من الرواة سمعوا منه بعده، ولم يذكر هشيم في أحدهما، إلا أنه نص على أن اختلاطه كان ببغداد، فمن سمع من بالبصرة أو بالكوفة فسماعه صحيح، والله أعلم. (¬3) تنقيح التحقيق (1/ 403). (¬4) قال ابن عبد الهادي: وهذا لا يصح، ومن الجائز أن يكون شك هل مسح رأسه أم لا؟ فمسح احتياطاً. اهـ قلت: قول ابن عبد الهادي من الجائز أن يكون شاكاً .. الخ هذا لا يعبأ به لو ثبت الحديث، لأن الأصل عدم الشك، ولكن لم يذكر ابن عبد الهادي إسناده لينظر في ثبوته، ولم =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: القياس على الطهارة الكبرى، فقد أجمعوا على أنه على أنه لا ترتيب في طهارة الجنابة، وهي طهارة من الحدث الأكبر، فكذلك الطهارة من الحدث الأصغر بج امع أن كلاً منهما طهارة من حدث (¬1). ورده النووي، فقال: وعن قياسهم على غسل الجنابة: أن جميع بدن الجنب شيء واحد، فلم يجب ترتيبه كالوجه، بخلاف أعضاء الوضوء فإنها متغايرة متفاصلة (¬2). أي فيجب الترتيب بينها. الدليل السادس: قالوا: المحدث لو انغمس في الماء ارتفع حدثه، وإذا كان الأمر كذلك فهذا دليل على أن الترتيب لا يجب؛ لأن طهارته كانت دفعة واحدة بلا ترتيب. وأجيب: بأنه لو انغمس دفعة واحدة لم يتفقوا على أنه يرتفع حدثه حتى يعارض به القول بوجوب الترتيب. قال في المغني: ولو غسل أعضاءه دفعة واحدة لم يصح له إلا غسل وجهه؛ لأنه لم يرتب، وإن انغمس في ماء جارٍ فلم يمر على أعضائه إلا جرية ¬

= ينسبه إلى مصنف من المصنفات حتى يرجع إليه، ولم أقف على من ذكره مسنداً، وقد ذكره النووي في المجموع (1/ 471) بدون إسناد، وقال في (1/ 473) من الكتاب نفسه عن هذا الحديث: إنه ضعيف لا يعرف. والله أعلم. (¬1) نقل الإجماع ابن عبد البر والنووي انظر فتح البر في ترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 251)، والمجموع (1/ 471). (¬2) المجموع (1/ 471).

دليل من قال بوجوب الترتيب

واحدة فكذلك، وإن مر عليه أربع جريات، وقلنا الغسل يجزئ عن المسح أجزأه، كما لو توضأ أربع مرات، وإن كان الماء راكداً، فقال بعض أصحابنا: إذا أخرج وجهه، ثم يديه، ثم مسح برأسه، ثم خرج من الماء أجزأه؛ لأن الحدث إنما يرتفع بانفصال الماء عن العضو (¬1). دليل من قال بوجوب الترتيب. الدليل الأول: (987 - 216) ما رواه مسلم من حديث عمرو بن عبسة السلمي الطويل، وفيه مرفوعاً: «ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض ويستنشق، فيستنثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ....» الحديث (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبر في الانتقال من غسل عضو إلى عضو آخر بكلمة (ثم) وهي نص في الترتيب. ¬

(¬1) المغني (1/ 93). (¬2) رواه مسلم (832).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: قال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬1). قال في المهذب: فأدخل المسح بين الغسلين، وقطع حكم النظير عن النظير، فدل على أنه قصد إيجاب الترتيب (¬2). وقال النووي: ((ذكر الله تعالى ممسوحاً بين مغسولات، وعادة العرب إذا ذكرت أشياء متجانسة وغير متجانسة جمعت المتجانس على نسق، ثم عطفت غيرها، لا يخالفون ذلك إلا لفائدة، فلو لم يكن الترتيب واجباً لما قطع النظير عن نظيره. فإن قيل: فائدته استحباب الترتيب. فالجواب من ثلاثة وجوه: أحدهما: أن الأمر للوجوب، وهو المختار، وهو مذهب جمهور الفقهاء. يعني: الأمر في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (¬3). الوجه الثاني: أن الآية ما سيقت إلا لبيان الواجب، ولهذا لم يذكر فيها شيء من السنن. الدلالة الثالثة: أن مذهب العرب إذا ذكرت أشياء وعطفت بعضها على بعض، تبتدئ الأقرب فالأقرب لا يخالف ذلك إلا لمقصود، فلما بدأ سبحانه وتعالى بالوجه، ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) المهذب مطبوع مع المجموع (1/ 469). (¬3) المائدة: 6.

الدليل الثالث

ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرجلين دل على أن الأمر بالترتيب وإلا لقال: فاغسلوا وجوهكم وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أيديكم وأرجلكم)) (¬1). الدليل الثالث: الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعات من الصحابة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلهم وصفوه مرتباً مع كثرتهم، وكثرة المواطن التي رأوه فيها، وكثرة اختلافهم في صفاته في مرة ومرتين وثلاثاً وغير ذلك، ولم يثبت فيه مع اختلاف أنواعه صفة غير مرتبة، وفعله - صلى الله عليه وسلم - بيان للوضوء المأمور به، ولو جاز ترك الترتيب لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز كما ترك التكرار في أوقات (¬2). اهـ وقال ابن القيم: وكذلك كان وضوءه مرتباً متوالياً، لم يخل به مرة واحدة (¬3). الدليل الرابع: ما ذكره ابن قدامة، قال: توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتباً، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (¬4). وقول ابن قدامة: توضأ مرتباً ليست من نص الحديث، وإنما وصْفٌ من ابن قدامة لما وقع منه - صلى الله عليه وسلم -، ولفظ الحديث: ¬

(¬1) المجموع (1/ 417). (¬2) المرجع السابق (1/ 473). (¬3) زاد المعاد (1/ 194). (¬4) المغني (1/ 93).

الدليل الخامس

توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله منه الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: وهذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين مرتين، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي. وقد تفرد به المسيب بن واضح، وهو ضعيف (¬1). فأراد ابن قدامة رحمه الله أن يستنبط من قوله: «لا يقبل الله الصلاة إلا به» أي بهذا الوضوء على هذه الصفة، ولم يصح الحديث حتى يمكن أن يكون حجة، ولم يذكر لنا في هذا الحديث صفة الوضوء من كونه غسل وجهه، ثم يديه، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ولو صح لكان هناك جواب، وهو أن يقال: إن المراد به قوله: لا يقبل الله الصلاة إلا به أي في عدد الغسلات، فمن نقص عن الغسلة الواحدة فقد نقص عن المقدار الواجب، فالحكم إنما هو موجه إلى العدد، لأنه قال: وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، فلم يقصد من النفي نفي صحة الوضوء مع فقد الترتيب، والله أعلم. الدليل الخامس: (988 - 217) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا علي بن حجر، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف سبعاً، ورمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم قرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فصلى سجدتين، وجعل المقام ¬

(¬1) سبق تخريجه في سنن الوضوء: في ذكر الغسلة الثانية والثالثة ذكرناه في حاشية هذه المسألة، والله أعلم.

بينه وبين الكعبة، ثم استلم الركن، ثم خرج، فقال: إن المروة من شعائر الله، فابدأوا بما بدأ الله به (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نبدأ بما بدأ الله به، والأصل في الأمر الوجوب، وقد بدأ الله بذكر الوجه فاليدين فالرأس، فالرجلين، فيكون الترتيب امتثالاً للأمر النبوي بتقديم ما قدمه الله، وتأخير ما أخره الله. وأجيب: [بأن المحفوظ من لفظ الحديث أنه بلفظ الخبر: نبدأ بما بدأ الله به، فلا حجة فيه] (¬2). ¬

(¬1) سنن النسائي (2962). (¬2) الحديث مداره على جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، واختلف على جعفر بن محمد. فرواه جماعة عن جعفر بلفظ الخبر " نبدأ بما بدأ الله به " وبعضهم يأتي به بصيغة المفرد " أبدأ بما بدأ الله به " ورواه بعضهم بصورة الأمر " ابدأ " وبعضهم يقول " ابدأوا " وإليك تحرير هذا الاختلاف، والله أعلم. فنبدأ برواية الباب، فقد رواه النسائي عن علي بن حجر، عن إسماعيل، وهو في الصغرى بلفظ الأمر " فابدأوا بما بدأ الله به " وفي الكبرى بالإسناد نفسه (3955) بلفظ الخبر " نبدأ بما بدأ الله به" ورواه جماعة من الأئمة بلفظ الخبر " نبدأ بما بدأ الله به، منهم: الأول: يحيى بن سعيد القطان، كما في مسند أحمد (3/ 320)، وابن الجارود (465)، ومسند أبي يعلى (2126)، وسنن النسائي الكبرى (3962)، وصحيح ابن خزيمة (2757). الثاني: مالك كما في الموطأ (1/ 372)، ومسند أحمد (3/ 388)، وسنن النسائي المجتبى (2969)، وفي الكبرى له (3963)، وسنن البيهقي (1/ 85). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثالث: ابن الهادي، كما في سنن النسائي المجتبى (2961، 2974)، وفي الكبرى (3967)، الرابع: وهيب بن خالد، كما عند في مسند الطيالسي (1668)، وأبي يعلى (2027)، وابن حبان (3943،3947)، وسنن البيهقي (3/ 315) و (5/ 93). الخامس: ابن أبي حازم، كما في صحيح ابن خزيمة (2620). السادس: سفيان بن عيينة، كما في مسند الحميدي (1266)، وسنن الترمذي (862)، السابع: القاسم بن معن، كما في معجم الصغير للطبراني (187)، كل هؤلاء رووه بلفظ: " نبدأ بما بدأ الله به " بلفظ الخبر، ولم يختلف عليه في لفظه، والواقعة واحدة حيث لم يحج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام إلا حجة الوداع. ورواه أحمد (3/ 394) من طريق سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد به، بلفظ الخبر "أبدأ بما بدأ الله به "، لكن بلفظ المفرد. ورواه حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد به، واختلف عليه فيه: فرواه تارة بلفظ الخبر بصورة الجمع كما هي رواية الجماعة، ورواه تارة بلفظ الخبر لكن بصورة المفرد " أبدأ بما بد الله به " ورواه ثالثة بلفظ الأمر " ابدأ بما بدأ الله به، وقال أخرى " ابدأوا بما بدأ الله به ". ولا شك أن الرواية بلفظ الخبر " نبدأ بما بدأ الله به " أرجح لموافقتها الجمع الكثير ممن روى الحديث، وعلى رأسهم أئمة في الحفظ كالإمام مالك ويحيى بن سعيد القطان وسفيان بن عيينة وغيرهم، خاصة أن هؤلاء لم يختلف عليهم في لفظه بخلاف رواية حاتم بن إسماعيل، وهاك تخريج ألفاظ رواية حاتم بن إسماعيل رحمه الله. فرواه ابن أبي شيبة كما في المصنف (3/ 334) رقم 14705. ومن طريقه مسلم في صحيحه (1218)، وعبد بن حميد كما في المنتخب (1135)، وابن حبان في صحيحه (3944). وهشام بن عمار كما في صحيح ابن حبان (3944). وإسحاق بن إبراهيم كما في صحيح مسلم (1218) كلهم رووه عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر مرفوعاً: بلفظ الخبر لكن الفاعل مفرداً " أبدأ بما بدأ الله به ". ورواه البيهقي في السنن (5/ 6، 7) من طريق إسحاق بن إبراهيم به بلفظ: نبدأ، لكنه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مقروناً بغيره. ورواه إسماعيل بن أبان كما في سنن الدارمي (1850) عن حاتم بن إسماعيل به، بلفظ: ابدأ بما بدأ الله به. بلفظ " الأمر " ورواه البيهقي (5/ 93) من طريق هشام بن عمار وأبي بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل به، بلفظ الأمر، (ابدأ) وأخشى أن يكون خطأ لأن رواية ابن أبي شيبة في المصنف وفي صحيح ابن حبان بلفظ الخبر " أبدأ بما بدأ الله به " وكذلك رواية هاشم بن عمار في صحيح ابن حبان، وقد تقدم ذكرها، فلا يبعد أن تكون الكلمة " أبدأ " ثم سقطت الهمزة من الألف فانقلب الخبر إنشاءً، وصار اللفظ بصورة الأمر. ورواه أبو داود (1905) عن هشام بن عمار مقروناً بغيره، ومن طريقه البيهقي (5/ 6) بلفظ الخبر أيضاً لكن بصورة الجمع: " نبدأ بما بدأ الله به ". كما رواه ابن ماجه أيضاً (3074) عن هاشم بن عمار به وحده، وبلفظ الخبر (نبدأ بما بدأ الله به). ورواه عبد الله بن محمد النفيلي، عن حاتم بن إسماعيل، واختلف عليه فيه: فرواه ابن الجاورد في المنتقى (469) من طريقه بلفظ " ابدأوا بما بدأ الله به ". ورواه أبو داود (1905) عنه مقروناً بغيره بلفظ الخبر " نبدأ بما بدأ الله به " ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (5/ 6). هذا فيما يتعلق برواية حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد. وقد أخرج الحديث جماعة كثيرون عن جعفر بن محمد ولم أخرجها لأنهم اختصروا الحديث، ولم يذكروا ما نحن بصدد تحريره، والله أعلم. فتبين لي من خلال هذا البحث أن أكثر الأئمة على أن اللفظ بصورة الخبر، " نبدأ " ومن رواه بصورة الأمر مع أنهم أقل عدداً وحفظاً ممن رواه بلفظ الخبر، ومع ذلك فقد اختلف عليهم فتارة يروونه بلفظ الخبر بما يوافق رواية الأكثر، وتارة يروونه بلفظ الأمر، والواقعة واحدة، ولا تحتمل فرض التعدد، فيكون الراجح أن الحديث النبوي بلفظ الخبر، والله أعلم. انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (2/ 86)، تحفة الأشراف (2621)، إتحاف المهرة (3138).

الدليل السادس

الدليل السادس: قال في الحاوي الكبير: قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (¬1)، فأمر بغسل الوجه بحرف الفاء الموجبة للتعقيب والترتيب إجماعاً، فإذا ثبت تقديم الوجه ثبت استحقاق الترتيب ... الخ (¬2). ورده النووي، فقال: وهذا استدلال باطل، وكأن قائله حصل له ذهول واشتباه فاخترعه، وتوبع عليه تقليداً، ووجه بطلانه أن الفاء وإن اقتضت الترتيب لكن المعطوف على ما دخلت عليه بالواو مع ما دخلت عليه كشيء واحد كما هو مقتضى الواو, فمعنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا الأعضاء، فأفادت الفاء ترتيب غسل الأعضاء على القيام إلى الصلاة، لا ترتيب بعضها على بعض، وهذا مما يعلم بالبديهة، ولا شك أن السيد لو قال لعبده: إذا دخلت السوق، فاشتر خبزاً وتمراً لم يلزمه تقديم الخبز، بل كيف اشتراهما كان ممتثلاً بشرط كون الشراء بعد دخول السوق كما أنه هنا يغسل الأعضاء بعد القيام إلى الصلاة (¬3). الراجح بين القولين: بعد استعراض أدلة كل قول نجد أن كل قول من القولين فيه قوة، وله حظ من النظر، فالقول بعدم وجوب الترتيب يسنده أنه هو الأصل؛ لأن الأصل عدم الوجوب إلا بدليل صحيح صريح خال من النزاع، كما تسنده اللغة حيث إن آية المائدة عبرت بالواو، والواو لمطلق الجمع، ولا تقتضي ترتيباً. ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) الحاوي الكبير (1/ 139). (¬3) المجموع (1/ 472).

وأما حديث عمرو بن عبسة السلمي، فإنه وإن عبر بثم الدالة على الترتيب إلا أن الحديث لم يعلق صحة الوضوء على كلمة (ثم) ولم يُسَق الحديث أصلاً لبيان صفة الوضوء، وإنما سيق الحديث في بيان فضل الوضوء. وأما إدخال الممسوح بين مغسولات، وأنه لا فائدة منه إلا ذكر الترتيب، فلا يستطيع الباحث أن يجزم بوجوب الترتيب بناء على هذه النكتة، وقد يقال: ذكر الممسوح بين المغسولات لبيان أن الترتيب مشروع. وأقوى دليل للقائلين بوجوب الترتيب أن الترتيب هذا هو الوضوء المتلقى من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخل به مرة واحدة، فمن توضأ وضوءاً منكساً فقد أتى بوضوء لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو على خلاف سنته، ومن عمل عملاً ليس عليه أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو رد على صاحبة، وإن كان هذا الدليل قد يحاولون الخروج منه بأن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تدل على الوجوب، وإنما تدل على الاستحباب. وعلى كل فالأخذ بالترتيب فيه احتياط للدين وخروج من الخلاف، خاصة أن الأمر يتعلق بأعظم العبادات بعد الشهادتين: وهي الصلاة. ولو أن الإنسان ترك موضعاً يسيراً في ذراعه، ثم رآه بعد أن فرغ من وضوئه فلا بأس أن يغسل ذلك الموضع اليسير، ولا يعيد مسح رأسه وغسل رجليه؛ لأن المقدار يسير جداً، فهذا الإمام أحمد رحمه الله مع أنه يرى وجوب الترتيب ووجوب المضمضة والاستنشاق يسهل في ترك الترتبيب بين أعضاء الوضوء وبين المضمضة والاستنشاق، فقد جاء في مسائل عبد الله بن أحمد لأبيه، قال: سمعت أبي سئل عن رجل نسي المضمضة والاستنشاق، وصلى؟ قال: يعيد الصلاة.

قيل: ويعيد الوضوء؟ قال: لا، ولكنه يتمضمض ويستنشق، والله أعلم (¬1). بينما قال في الكتاب نفسه فيمن توضأ ونسي مسح رأسه، قال أحمد: إن كان جف وضوءه يعيد الوضوء كله، وإن كان لم يجف، فيمسح على رأسه، ويغسل رجليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (¬2) (¬3). ¬

(¬1) مسائل عبد الله بن أحمد لأبيه (1/ 88). (¬2) المائدة: 6. (¬3) مسائل عبد الله بن أحمد (1/ 94).

الفصل السادس: من فروض الوضوء المولاة

الفصل السادس: من فروض الوضوء المولاة اختلف العلماء في حكم الموالاة بين أفعال الوضوء بعد اتفاقهم على أن التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر (¬1). فقيل: الموالاة سنة، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والجديد من قولي الشافعي (¬3)، والظاهرية (¬4). وقيل: تجب الموالاة مع الذكر، وتسقط مع النسيان والعذر، وهو مذهب المالكية (¬5). ¬

(¬1) نقل الإجماع النووي في المجموع (1/ 478). (¬2) أحكام القرآن للجصاص (2/ 501) البحر الرائق (1/ 27)، بدائع الصنائع (1/ 22) حاشية ابن عابدين (1/ 122)، الوسيط (1/ 385). (¬3) قال في المهذب المطبوع مع المجموع (1/ 478) ويوالي بين أعضائه، فإن فرق تفريقاً يسيراً لم يضر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه, وإن كان تفريقاً كثيراً: وهو بقدر ما يجف الماء على العضو في زمان معتدل ففيه قولان, قال في القديم: لا يجزيه؛ لأنها عبادة يبطلها الحدث فأبطلها التفريق كالصلاة. وقال في الجديد: يجزيه؛ لأنها عبادة لا يبطلها التفريق القليل فلا يبطلها التفريق الكثير كتفرقة الزكاة. اهـ وانظر وقال النووي شارحاً هذه العبارة في المجموع (1/ 478): التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بإجماع المسلمين, نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما. وأما التفريق الكثير ففيه قولان مشهوران: الصحيح منهما باتفاق الأصحاب أنه لا يضر وهو نصه في الجديد. اهـ (¬4) المحلى (1/ 312) مسألة: 207. (¬5) جاء في المدونة (1/ 15): قال مالك فيمن توضأ، فغسل وجهه ويديه، ثم ترك أن يمسح برأسه، وترك غسل رجليه حتى جف وضوءه وطال ذلك، قال: إن كان ترك ذلك ناسياً بنى على وضوئه، وإن تطاول ذلك, قال: وإن كان ترك ذلك عامدا استأنف الوضوء. اهـ

دليل الحنفية على استحباب الموالاة

وقيل: تجب الموالاة مطلقاً، وهو مذهب الحنابلة (¬1). دليل الحنفية على استحباب الموالاة: أما دليلهم على استحباب الموالاة فظاهر من مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الموالاة حيث لم يخل بذلك. وأما دليلهم على كونه ليس واجباً، فاستدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل هذه الأعضاء في الوضوء، ولم يوجب الموالاة، فيكف غسل هذه الأعضاء فقد امتثل الأمر. الدليل الثاني: القياس على غسل الجنابة، وذلك لأن الوضوء إحدى الطهارتين، فإذا كانت الموالاة لا تجب في غسل الجنابة لم تجب في الوضوء. الدليل الثالث: (989 - 218) ما رواه مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر بال في السوق، ثم توضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح رأسه، ثم دعي لجنازة ليصلي عليها حين دخل المسجد، فمسح على خفيه، ثم صلى عليها. [إسناده في غاية الصحة] (¬2). ¬

(¬1) المغني (1/ 93)، المبدع (1/ 115)، شرح العمدة (1/ 207)، الفروع (1/ 154)، الإنصاف (1/ 139). (¬2) الموطأ (1/ 36)، ورواه الشافعي في الأم (1/ 31)، وفي مسنده (1/ 16)، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (1/ 421) عن مالك به.

دليل من قال بوجوب الموالاة مطلقا

وقد فعله ابن عمر في حضور من حضر من الصحابة للصلاة على الجنازة، ولم ينكروا عليه. دليل من قال بوجوب الموالاة مطلقاً. الدليل الأول: (990 - 219) ما رواه مسلم، قال: حدثني سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن محمد بن أعين، حدثنا معقل، عن أبي الزبير، عن جابر، أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى (¬1). وجه الاستدلال: قال القاضي عياض: في هذا الحديث دليل على وجوب الموالاة في الوضوء، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أحسن وضوءك» ولم يقل: اغسل ذلك الموضع الذي تركته (¬2). وقال نحوه القرطبي في المفهم (¬3). ورده النووي، فقال: وهذا الاستدلال ضعيف أو باطل؛ فإن قوله: «أحسن وضوءك» محتمل للتيمم أو للاستئناف، وليس حمله على أحدهما أولى من الآخر (¬4). ¬

(¬1) مسلم (243). (¬2) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 40)، شرح النووي لصحيح مسلم (3/ 131). (¬3) المفهم (1/ 498). (¬4) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 131).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (991 - 220) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بقية، حدثنا بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (3/ 424). (¬2) في إسناده بقية، وهو وإن صرح بالتحديث من شيخه، فقد عنعن في شيخ شيخه، وهو متهم بتدليس التسوية، فلا يقبل منه ذلك. وأخرجه أبو داود (175) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 83) حدثنا حيوة بن شريح، قالك: حدثنا بقية به. وقال البيهقي: إنه مرسل. وقال ابن حزم في المحلى (2/ 98): هذا خبر لا يصح؛ لأن راويه بقية، وليس بالقوي، وفي السند من لا يدري من هو. اهـ وضعفه المنذري ببقية كما في تهذيب السنن (1/ 128). وقال في التنقيح لابن عبد الهادي: قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا إسناد جيد؟ قال: نعم. وحاول ابن القيم الدفاع عن الحديث في تهذيب السنن (1/ 128): فقال: والجواب عن هاتين العلتين: أما الأولى فإن بقية ثقة في نفسه، صدوق حافظ، وإنما نقم عليه التدليس مع كثرة روايته عن الضعفاء والمجهولين، وأما إذا صرح بالسماع فهو حجة، وقد صرح في هذا الحديث بسماعه، ثم ساق سند أحمد. قلت: غفل رحمه الله تعالى أن بقية متهم بتدليس التسوية، ولا بد من التصريح بالسماع من شيخه وشيخ شيخه، وهو ما لم يتوفر هنا. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (992 - 221) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب ح وحدثنا ابن حميد، حدثنا زيد بن الحباب، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، ¬

_ = ثم قال ابن القيم: وأما العلة الثانية فباطلة على أصل ابن حزم، وأصل سائر أهل الحديث، فإن عندهم جهالة الصحابي لا تقدح في الحديث لثبوت عدالتهم جميعهم. اهـ وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 83) متعقباً كلام البيهقي بقوله: إنه مرسل: تسميته هذا مرسل ليس بجيد؛ لأن خالداً هذا أدرك جماعة من الصحابة، وهم عدول، فلا يضرهم الجهالة. قال الأثرم: قلت: يعني لأحمد بن حنبل: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمه فالحديث صحيح؟ قال: نعم. اهـ قلت: العلة الثانية ليست علة، لكن العلة الأولى، وهي تدليس بقية باقية. وقد روى الحديث الدارقطني (1/ 109)، والطبراني في المعجم الأوسط (2219) وفي الصغير (27) وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (128) من طريق الوازع بن نافع العقيلي، عن سالم، عن ابن عمر، عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه، وفيه: اذهب فأتم وضوءك " وفيه الوازع بن نافع. قال أحمد ويحيى: ليس بثقة. لسان الميزان (6/ 213). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث. وقال مرة أخرى: ذاهب الحديث. الجرح والتعديل (9/ 39). وقال ابن أبي حاتم في الكتاب نفسه (2/ 492) لا يعتمد على روايته؛ لأنه متروك الحديث. وقال النسائي: متروك. لسان الميزان (6/ 213). وقال البخاري: منكر الحديث. المرجع السابق. انظر أطراف المسند (8/ 266)، تحفة الأشراف (15559)، إتحاف المهرة (20931).

الدليل الرابع

عن عمر بن الخطاب قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً توضأ، فترك موضع الظفر على قدمه، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة قال: فرجع (¬1). [إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة، وقد اختلف عليه في لفظه، والمحفوظ لفظ: أرجع فأحسن وضوءك] (¬2). الدليل الرابع: استدل ابن مفلح في المبدع بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية. قال: لأن الأول شرط، والثاني جواب، وإذا وجد الشرط: وهو القيام إلى الصلاة وجب ألا يتأخر عن جوابه: وهو غسل الأعضاء. اهـ ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (666). (¬2) اختلف على أبي الزبير، فرواه مسلم (243) والبزار (231،232) من طريق معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير به، بلفظ: " ارجع فأحسن وضوءك" وقد ذكرنا هذه الرواية في الدليل الأول من هذا القول. ورواه ابن لهيعة، عن أبي الزبير، واختلف عليه: فرواه موسى بن داود كما في المسند (1/ 21). الحسن بن موسى عنده أيضاً (1/ 22) كلاهما عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير به، بلفظ: "أرجع فأحسن وضوءك " كما هي رواية معقل، عن أبي الزبير عند مسلم. ورواه ابن وهب وزيد بن الحباب عن ابن لهيعة قرنهما ابن ماجه، بلفظ: فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. ورواية ابن لهيعة الموافقة لما في صحيح مسلم أولى من غيرها، لأن ابن لهيعة ليس بالحافظ حتى ولو كان الراوي عنه ابن وهب كما سبق وحررت أقوال أئمة الجرح فيه، وأنه ضعيف مطلقاً قبل احتراق كتبه وبعدها، والله أعلم. انظر أطراف المسند (5/ 21)، تحفة الأشراف (10421)، إتحاف المهرة (15228).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: أن صفة الوضوء تلقيناها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يفصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أعضاء وضوئه، ولو كان جائزاً لفعله ولو مرة واحدة لبيان الجواز، فمن فرق وضوءه فقد عمل عملاً مخالفاً لصفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد. الدليل السادس: أن الوضوء عبادة واحدة، فإذا فرق بين أجزائها لم تكن عبادة واحدة. الدليل السابع: قالوا: إن الوضوء عبادة يفسدها الحدث، فاشترط لها الموالاة كالصلاة. وهذا الدليل والذي قبله فيه ما فيه. دليل المالكية على أن الموالاة واجبة وتسقط مع العذر. أما أدلتهم على وجوب الموالاة فهي أدلة الحنابلة المتقدمة فإنها تدل على وجوب الموالاة. وأما دليلهم على سقوط الموالاة للعذر ومنه النسيان، فأدلة كثيرة منها: الدليل الأول: أن أصول الشريعة في جميع مواردها تفرق بين القادر والعاجز، والمفرط والمعتدي ومن ليس كذلك، فمن ترك الموالاة لعذر كما لو كان المكان الذي يأخذ منه الماء لا يحصل له إلا متفرقاً، أو انقطع الماء فطلب ماء آخر أو لغير ذلك من الأعذار فإن هذا لم يمكنه أن يفعل ما أمر به إلا هكذا، فإذا حصل له ماء آخر فأكمل وضوءه فقد اتقى الله ما استطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: القياس على قراءة الفاتحة، فكما أنها تجب الموالاة في قراءة الفاتحة، ولو سكت في أثناء الفاتحة سكوتاً طويلاً لغير عذر وجب عليه إعادة قراءتها، ولو كان السكوت من أجل قراءة الإمام أو فَصَلَ بذكر مشروع كالتأمين ونحوه لم تبطل الموالاة، فإذا كان ذلك كذلك مع أن الموالاة في الكلام أوكد من الموالاة في الأفعال، فإذا فرق بين أفعال الوضوء لعذر لم يكن ذلك قاطعاً للموالاة. الدليل الثالث: القياس على الطواف والسعي، ومعلوم أن الموالاة في الطواف والسعي أوكد منه في الوضوء، ومع هذا فتفريق الطواف لمكتوبة تقام، أو صلاة جنازة تحضر ثم يبني الطواف ولا يستأنف، فإذا كان مثل هذا التفريق جائزاً فالوضوء أولى بذلك. الدليل الرابع: (993 - 222) ما رواه البخاري، من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي - قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا - قال: فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين قال: يا رسول الله أنسيت أم

قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم فتقدم فصلى ما ترك. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). فإذا كانت الصلاة يجب فيها الترتيب والموالاة فلا يجوز تقديم السجود على الركوع، ولا يجوز أن يفرق بين أفعالهها بما ينافيها، ثم مع ذلك إذا فرق بينها لعذر، كما في هذا الحديث، فقد سلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ساهياً، وفصل بين أبعاض الصلاة بالقيام إلى الخشبة والاتكاء عليها، وتشبيك أصابعه، ووضع خده عليها، والكلام منه، ومن ذي اليدين، ومع ذلك أتم الصلاة، ولم يكن هذا التفريق والفصل مانعاً من الإتمام، ومعلوم أنه لو فعل ذلك عمداً لأبطل الصلاة بلا نزاع، فإذا كانت الصلاة التي لم تشرع إلا متصلة لا يستوي تفريقها في حال العذر وعدمه، فكيف يستوي تفريق الوضوء في حال العذر وعدمه؟ مع أن الوضوء أفعال منفصلة لا يجب اتصالها بالاتفاق (¬2). وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وعدم المعارض لها، والله أعلم. ¬

(¬1) البخاري (482) ومسلم (573). (¬2) نقلت جل أدلة المالكية بشيء من التصرف من مجموع الفتاوى (21/ 135).

مبحث: في حد الموالاة

مبحث: في حد الموالاة تعريف الموالاة لغة واصطلاحاً. الموالاة لغة: وأما الموالاة اصطلاحاً فقيل في تعريفها: هي ألا يشتغل المتوضئ بين أفعال الوضوء بعمل ليس منه (¬1). وقيل: أن يفعل الوضوء كله في فور واحد من غير تفريق (¬2). فالموالاة في اللغة هي التتابع، والمقصود هنا تتابع أفعال الوضوء من غير تفريق، إلا أن التفريق تارة يكون يسيراً، وتارة يكون كثيراً، وكل واحد له حكم. فالتفريق اليسير لا يضر على الصحيح، وحكي فيه الإجماع. قال النووي: في المجموع: التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بإجماع الأمة، نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما (¬3). وقال الحطاب من المالكية: التفريق اليسير لا يضر، ولو كان عمداً. قال القاضي عبد الوهاب: لا يختلف المذهب فيه، وحكى الاتفاق في ذلك ابن الفاكهاني عن عبد الحق. واختار بعض المالكية ومنهم ابن الجلاب المنع حتى في التفريق اليسير إذا لم يكن هناك عذر. ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 22). (¬2) التاج والإكليل (1/ 322). (¬3) المجموع (1/ 478).

وقال ابن ناجي في شرح المدونة: ولا خلاف في أن التفريق اليسير مكروه - يعني: من غير عذر -. قال الحطاب: وجه الكراهة ظاهر إذا كان التفريق لغير عذر وبذلك صرح الشبيبي في شرح الرسالة فقال: وأما التفرقة اليسيرة فغير مفسدة بغير خلاف إلا أنها تكره من غير ضرورة (¬1). والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وإذا ضبطنا الحد الذي تفوت فيه الموالاة لم يدخل في ذلك التفريق اليسير، وبالتالي لم تفقد الموالاة أصلاً حتى يكون هناك منع أو حتى كراهة. وأما كلام أهل العلم في ضابط التفريق الكثير فهناك أقوال: فقيل: الموالاة: هي التتابع في الأفعال من غير أن يتخللها جفاف عضو مع اعتدال الهواء, قال ابن عابدين: وظاهره أنه لو جف العضو الأول بعد غسل الثاني لم يكن ولاء. وهذا قول في مذهب الحنفية (¬2). وهو يشترط أن يفرغ من وضوئه قبل أن يجف أي عضو من أعضائه، فإن جف عضو منها فهو تفريق كثير، وهذا أشد ما قيل في الولاء. وقيل: إذا مضى بين العضوين زمن يجف فيه العضو المغسول مع اعتدال الزمن وحال الشخص، فهو تفريق كثير، وإلا فقليل، ولا اعتبار بتأخر الجفاف بسبب شدة البرد، ولا بتسارعه بشدة الحر، ولا بحال المبرود والمحموم، ويعتبر بالعضو الذي قبله، فلو أنه مسح رأسه قبل أن تنشف يداه، وبعد أن نشف الوجه فلا يضر. ¬

(¬1) انظر مواهب الجليل (1/ 224). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 122).

وهذا قول في مذهب الحنفية (¬1)، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). قال النووي: هذا القول هو الصحيح الذي قطع به الجمهور (¬4). وقيل: هو الطويل المتفاحش. وهو مذهب المالكية (¬5)،وقول في مذهب الشافعية (¬6)، واختاره ابن عقيل من الحنابلة. قال في مواهب الجليل: الموالاة: هي الإتيان بجميع الطهارة في زمن متصل من غير تفريق فاحش (¬7). وقال في المغني عن ابن عقيل الحنبلي: حد التفريق المبطل: ما يفحش في العادة؛ لأنه لم يحد في الشرع، فيرجع فيه إلى العادة كالإحراز والتفرق في البيع (¬8). ¬

(¬1) قال في الفتاوى الهندية (1/ 8): الموالاة: وهي التتابع، وَحَدُّهُ: أن لا يجف الماء على العضو قبل أن يغسل ما بعده في زمان معتدل ولا اعتبار بشدة الحر والرياح ولا شدة البرد ويعتبر أيضا استواء حالة المتوضئ كذا في الجوهرة النيرة. اهـ وانظر أيضاً حاشية ابن عابدين (1/ 122). (¬2) المجموع (1/ 478)، (¬3) الفروع (1/ 154)، الإنصاف (1/ 140)، المغني (1/ 94). (¬4) المجموع (1/ 478). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 90،91)، الخرشي (1/ 127) مواهب الجليل (1/ 224). (¬6) المجموع (1/ 478). (¬7) مواهب الجليل (1/ 224). (¬8) المغني (1/ 94).

وقيل: الكثير قدر يمكن فيه إتمام الطهارة، ذكره النووي في المجموع (¬1). وأجد أقوى الأقوال هو قول ابن عقيل الحنبلي، وذلك لأن كل شيء ليس له حد في الشرع ولا في اللغة مرده إلى العرف والعادة، فما عده الناس كثيراً فهو كثير، وما عدوه قليلاً فهو قليل، ولا عبرة بتقدير المصاب بالوساوس، لأن زمن الطهارة يأخذ منه وقتاً كثيراً، والله أعلم. وبهذا البحث نكون قد فرغنا من الكلام على شروط الوضوء وسننه وآدابه وفرائضه، وسوف نتكلم إن شاء الله تعالى بحوله وقوته على نواقض الوضوء لنكون بهذا قد أتممنا الكلام على مباحث الوضوء، والله الموفق. ¬

(¬1) المجموع (1/ 478).

نواقض الوضوء

نواقض الوضوء الباب الأول: في مسببات الحدث الفصل الأول: في الخارج من السبيلين المبحث الأول: في البول والغائط تعريف الغائط: قال أبو عبيد: أصل الغائط المكان المطمئن من الأرض إلا أن العرب إذا طالت صحبة الشيء للشيء سمته باسمه، من ذلك تسميتهم مسح الوجه واليدين تيمماً، وإنما التيمم في لغة العرب التعمد للشيء. قال الله جل ذكره: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬1)، يعني: تعمدوا الصعيد، ألا تراه قال بعد ذلك: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} فكثر هذا الكلام حتى صار عند الناس التيمم هو التمسح نفسه. وكذلك الغائط لما ¬

(¬1) المائدة: 6.

الدليل على أن خروج البول والغائط حدث ينقض الوضوء

كثر قولهم: ذهبت إلى الغائط، وجاء من الغائط، سموا رجيع الإنسان الغائط (¬1). اهـ والغائط غير البول، وإن كان ذهاب الناس إلى تلك المذاهب كان واحداً، لكن اشتهر الغائط فيما يخرج من الدبر، والبول فيما يخرج من الذكر أو القبل، كما جاءت السنة في التفريق بينهما في حديث صفوان بن عسال: «ولكن من غائط وبول ونوم» والعطف يقتضي المغايرة (¬2). الدليل على أن خروج البول والغائط حدث ينقض الوضوء. الدليل الأول: من الكتاب، قال تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬3). الدليل الثاني: (994 - 223) من السنة، فقد روى أحمد من طريق سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عسال، فسألته عن المسح على الخفين؟ فقال: كنا نكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم)) (¬4). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬5). ¬

(¬1) الأوسط لابن المنذر (1/ 113). (¬2) سبق تخريجه في أحكام المسح على الحائل رقم (62) (¬3) المائدة: 6. (¬4) المسند (4/ 239). (¬5) انظر كتابي أحكام المسح على الحائل (62)، وهو جزء من هذه السلسلة.

الدليل الثالث

(995 - 224) ومن السنة أيضاً ما رواه أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان، عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر أو قال: على طهارة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث من الإجماع، فقد نقل الإجماع طائفة من أهل العلم. قال أبو بكر العبادي الحنفي: الخارج من السبيلين متفق فيه على أنه ينقض الوضوء (¬3). وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن خروج الخارج حدث ينقض الوضوء (¬4). وقال النووي: وأما البول فبالسنة المستفيضة والإجماع والقياس على الغائط (¬5). ¬

(¬1) سنن أبي داود (17). (¬2) سبق تخريجه في كتاب أحكام الطهارة: آداب الخلاء رقم: 183. (¬3) الجوهرة النيرة (1/ 7). (¬4) الأوسط (1/ 113). (¬5) المجموع (2/ 5).

وقال ابن قدامة في معرض ذكره لنواقض الوضوء: الخارج من السبيلين، وهو نوعان: معتاد، فينقض بلا خلاف، لقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬1). وقال ابن حزم: وأما البول والغائط فإجماع ميتقن (¬2). أي أنه موجب للوضوء. وقال الشوكاني تعليقاً على حديث صفوان بن عسال «ولكن من غائط وبول ونوم» فذكر الأحداث التي ينزع منها الخف, والأحداث التي لا ينزع منها, وعد من جملتها النوم, فأشعر ذلك بأنه من نواقض الوضوء لا سيما بعد جعله مقترنا بالبول والغائط اللذين هما ناقضان بالإجماع (¬3). اهـ ¬

(¬1) الكافي (1/ 41). (¬2) المحلى (1/ 218) مسألة: 159. (¬3) نيل الأوطار (1/ 240).

المبحث الثاني: خروج الريح

المبحث الثاني: خروج الريح خروج الريح من الدبر حدث ناقض للوضوء. والدليل على ذلك، من السنة والإجماع. (996 - 225) أما السنة فقد روى البخاري، من طريق معمر، عن همام ابن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ. قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط. ورواه مسلم دون زيادة: قال رجل من حضرموت ..... الخ (¬1). الدليل الثاني من السنة: (997 - 226) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سعيد وعباد ابن تميم، عن عبد الله بن زيد، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. ورواه مسلم (¬2). الدليل الثالث من السنة: (998 - 227) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، ¬

(¬1) صحيح البخاري (135)، ومسلم (225). (¬2) صحيح البخاري (137)، ومسلم (361).

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء إلا من صوت أو ريح (¬1). [المحفوظ في لفظ الحديث فلا يخرج حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 471). (¬2) الحديث مداره على سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، وقد رواه عن سهيل جماعة، منهم شعبة كما في رواية أبي داود الطيالسي (2422) وابن الجعد في مسنده (1583)، وابن أبي شيبة في المصنف (7997)، وأحمد (2/ 410، 471، 435)، والترمذي (74)، وابن ماجه (515)، وأبو عبيد في كتاب الطهور (405)، وابن الجارود في المنتقى (2)، وابن خزيمة (27)، والبيهقي (1/ 117،220). وروي عن شعبة، عن إدريس الكوفي، عن سهيل به، أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 283)، والطبراني في الأوسط (6929)، انفرد به يحيى بن السكن، عن شعبة، ويحيى ضعيف. وتابع شعبة على روايته بهذا الحصر سعيد بن أبي عروبة كما في رواية أبي عبيد (404) في كتاب الطهور عن يزيد بن هارون عن سعيد، عن سهيل به، فخرج شعبة من عهدته. واختلف على سيهل بن أبي صالح: فرواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة بلفظ الحصر: لا وضوء إلا من صوت أو ريح. ورواه جرير بن عبد الحميد كما في صحيح مسلم (362). وخالد بن عبد الله الواسطي، كما في صحيح ابن خزيمة (28). وحماد بن سلمة كما في مسند الإمام أحمد (2/ 414، 534)، والدارمي (721)، وأبي داود (177). وعبد العزيز الدراوردي كما في سنن الترمذي (75) وصحيح ابن خزيمة (24) أربعتهم =

قلت: مفهوم الحديث أن لا وضوء إلا من الصوت (الضرطة) والريح؛ لأن الحديث فيه سياق الحصر المعتمد على النفي والإثبات، لأن ظاهر الحديث لا وضوء من البول والمذي والنوم واختلف العلماء في الجواب عن ذلك: فقال أبو حاتم في العلل: هذا وهم، اختصر شعبة متن هذا الحديث، فقال: لا وضوء إلا من صوت أو ريح، ورواه أصحاب سهيل، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا كان أحدكم في صلاة، فوجد ريحاً من نفسه، فلا يخرجن حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. (¬1) اهـ وكذا قال ابن خزيمة في صحيحه (¬2). ¬

= عن سهيل به، بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. وقد رأى أبو حاتم في العلل (1/ 47) أن الخطأ من شعبة، وقد تابع شعبة سعيد بن أبي عروبة كما في كتاب الطهور لأبي عبيد (404) فأرى والله أعلم أن الخطأ من سهيل، وقد ذكرت وجه ذلك في المتن. وقد روى أحمد في المسند الحديث من غير طريق سهيل (2/ 330) من طريق الضحاك ابن عثمان، عن سعيد المقبري، قال: قال أبو هريرة قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أحدكم إذا كان في الصلاة جاء الشيطان فأبس به كما يبس الرجل بدابته، فإذا سكن له أضرط بين أليتيه، ليفتنه عن صلاته، فإذا وجد أحدكم شيئاً من ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً لا يشك فيه. اهـ رجاله ثقات إلا الضحاك بن عثمان، وهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى. انظر أطراف المسند (7/ 199، 200)، تحفة الأشراف (12683، 12603، 12629، 12718)، إتحاف المهرة (18054). (¬1) العلل لابن أبي حاتم (1/ 47). (¬2) (1/ 18، 19).

وقال البيهقي نحوه في السنن (¬1). وقال الشوكاني: شعبة إمام حافظ واسع الرواية، وقد روى هذا اللفظ بهذه الصيغة المشتملة على الحصر، ودينه وإمامته ومعرفته باللسان يرد ما ذكره أبو حاتم (¬2). اهـ قلت: الحديث بالحصر لا بد أن يقال: إنه غلط؛ لأن الحصر ينفي أن يكون هناك ناقض غيرهما، مع أن البول فيه الوضوء بالإجماع، وليس داخلا في الحديث، لكن لا يتعين أن يكون الخطأ من شعبة، فالراجح عندي أن الخطأ من سهيل بن أبي صالح، فتارة يرويه مستقيماً كما في رواية خالد بن عبد الله الواسطي وجرير، وحماد بن سلمة، والدراوردي. وتارة يرويه بالحصر كما في رواية شعبة، والذي يجعلني أبرئ شعبة من الخطأ، أولاً: أن شعبة قد توبع فيه بلغة الحصر، فقد رواه أبو عبيد في كتاب الطهور، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سعيد، عن سهيل به بلفظ شعبة. ورواية يزيد بن هارون عن سعيد قبل اختلاطه، فخرج شعبة من عهدته. ثانياً: أن سهيل بن أبي صالح قد تكلم فيه بعضهم، وقد وثقه بعضهم، وبعضهم جعل حديثه من قبيل الحسن، وقد قال الذهبي: صدوق مشهور ساء حفظه. فالصحيح من حديث سهيل ما يوافق حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين، وإذا كنا قد ضعفنا هذا الحصر مرفوعاً فهناك قول - وإن كان ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 117). (¬2) النيل (1/ 224).

قد يختلف قليلاً عنه - يرى أن الحدث ما يخرج من القبل والدبر خاصة، وترجم له البخاري: باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، وقول الله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬1). وتقدم لنا قول أبي هريرة في البخاري: قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط. قال الحافظ: والمراد به الخارج من السبيلين، وإنما فسره أبو هريرة بالأخف على الأغلظ؛ ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، أما باقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء، كمس الذكر، ولمس المرأة، والقيء ملء الفم، والحجامة، فلعل أبا هريرة كان لا يرى النقض بشيء منها، وعليه مشى البخاري كما في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين. وقيل: إن أبا هريرة اقتصر في الجواب على ما ذكر لعلمه أن السائل كان يعلم ذلك، وفيه بعد. اهـ كلام الحافظ (¬2). قلت: أبو هريرة يرى الوضوء مما مست النار، وقد صح ذلك عنه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة، فلعله فسر الحدث بالمثال، ولم يقصد الحصر، والله أعلم. وقال العراقي: لما ذكر الحدث في المسجد ترك أبو هريرة منه ما لا يشكل أمره من البول والغائط في المسجد، فإنه لا يتعاطاه في المسجد ذو عقل ونبه أبو هريرة بالأدنى على الأعلى (¬3). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) فتح الباري تحت ح (135). (¬3) طرح التثريب (2/ 369).

الدليل الرابع من السنة: (999 - 228) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا الدستوائي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثنا عياض، قال: قلت لأبي سعيد الخدري: أحدنا يصلي، فلا يدري كم صلى؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلى أحدكم، فلم يدر كم صلى، فليسجد سجدتين، وهو جالس، وإذا جاء أحدكم الشيطان، فقال: إنك قد أحدثت، فليقل: كذبت إلا ما وجد ريحه بأنفه أو سمع صوته بأذنه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (3/ 12). (¬2) انفرد بذكر الشك في الحدث في هذا الحديث عياض بن هلال، عن أبي سعيد، وهو مجهول، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (6/ 408). وكذلك البخاري في التاريخ الكبير (7/ 21). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 265). وقال الذهبي: لا يعرف، ما علمت روى عنه سوى يحيى بن أبي كثير. ميزان الاعتدال (3/ 307). وقد اختلف في اسمه على أكثر من وجه، انظر سنن أبي داود (1029)، وتهذيب التهذيب (8/ 181). وقد رواه عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، كما في صحيح مسلم وغيره، وأبو نضرة عن أبي سعيد كما في المسند، كلاهما رواه بالاقتصار على الشك في عدد ركعات الصلاة، ولم يذكرا الشك في الحدث، وسنذكر نصهما إن شاء الله تعالى حين التخريج. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه أبو داود (1029)، وأبو يعلى (1241) من طريق إسماعيل بن علية. وأخرجه ابن حبان (2665)، والحاكم (1/ 134) من طريق يزيد بن زريع، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه ابن خزيمة (29) من طريق معاذ بن هشام، وأخرجه أحمد (3/ 53) حدثنا يحيى - يعني القطان - وأخرجه أحمد (3/ 51) حدثنا يزيد بن هارون، كلهم عن هشام الدستوائي به. وتابع هشاماً غيره، فقد أخرجه أحمد (3/ 50) والنسائي في الكبرى (587) من طريق شيبان. وأخرجه عبد الرزاق (533)، ومن طريقه أخرجه أحمد (3/ 37)، والحاكم (1/ 135)، وابن حبان مختصراً (2666) عن معمر. وأخرجه ابن خزيمة (29) من طريق علي بن المبارك، وأخرجه أحمد (3/ 53) وأبو داود (1029) عن أبان، كلهم عن يحيى بن أبي كثير به. وأخرجه الحاكم (1/ 134) من طريق حرب بن شداد، عن يحيى به، إلا أنه قال: عياض ابن عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وقد صححه الحاكم. وقد أخرجه بعض الأئمة بالاقتصار على الشك في الصلاة، ولم يذكروا الشك في الحدث، فقد رواه الترمذي (396)، وابن ماجه (1204)، والنسائي في الكبرى (586) من طريق هشام. وأخرجه النسائي في الكبرى (589) من طريق الأوزاعي. والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 432) من طريق عكرمة بن عمار، كلهم عن يحيى به. وكما أشرت سابقاً بأن حديث أبي سعيد قد جاء بسند صحيح بالاقتصار على الشك في الصلاة دون ذكر الشك في الحدث، فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 383) رقم: 4403، ومسلم (571)، وأبو داود (1024)، والنسائي في المجتبى (1238، 1239)، وفي الكبرى (584،585) وابن ماجه (1210)، وابن خزيمة (1023،1024) وأبو عوانة (2/ 193)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 433)، وابن حبان (2664)، والبيهقي في السنن (2/ 331) من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً، ولفظ مسلم: " إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان. اهـ =

الدليل الخامس: من الإجماع، قال ابن المنذر في الأوسط: أجمع أهل العلم على أن خروج الريح من الدبر حدث ينقض الوضوء (¬1). وقال ابن حزم: والريح الخارجة من الدبر - خاصة لا من غيره - بصوت خرجت أم بغير صوت. وهذا أيضا إجماع متيقن , ولا خلاف في أن الوضوء من الفسو والضراط (¬2). وقال ابن قدامة: الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح , فهذا ينقض الوضوء إجماعاً (¬3). ¬

= كما أخرجه أحمد (3/ 42)، وعبد بن حميد كما في المنتخب (872)، والطبراني في الكبير (6/ 36) رقم 5440 من طريق سعيد بن زيد، عن علي بن الحكم، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، بلفظ: " إذا وهم أحدكم في صلاته، فلم يدر أزاد أم نقص فليسجد سجدتين، وهو جالس. اهـ ولم يذكر الشك في الحدث. وفي إسناده سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد، مختلف فيه، وباقي رجاله ثقات إن شاء الله تعالى. انظر أطراف المسند (6/ 307)، تحفة الأشراف (4396)، إتحاف المهرة (5634). (¬1) الأوسط (1/ 137). (¬2) المحلى (1/ 218) مسألة: 160 (¬3) المغني (1/ 111).

المبحث الثالث: خروج المذي

المبحث الثالث: خروج المذي لقد وقع خلاف بين أهل العلم في طهارة المذي، وسيأتي تحرير الخلاف فيه إن شاء الله تعالى في أحكام النجاسات، والكلام في هذا الباب يتناول اعتبار خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء، وهي مسألة أخرى. وقد دل على اعتباره حدثاً ناقضاً للوضوء السنة والإجماع، (1000 - 229) أما السنة، ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى -ويكنى أبا يعلى- عن ابن الحنفية، عن علي قال كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: يغسل ذكره ويتوضأ، ورواه البخاري بنحوه (¬1). الدليل الثاني: (1001 - 230) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبيه، عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة، فكنت أكثر الاغتسال منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: إنما يجزئك منه الوضوء. فقلت: كيف بما يصيب ثوبي؟ فقال يكفيك أن تأخذ كفاً من ¬

(¬1) صحيح مسلم (303)، وصحيح البخاري (269).

ماء، فتمسح بها من ثوبك حيث ترى أنه أصاب (¬1). [إسناده حسن] (¬2). الدليل الثالث: (1002 - 231) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حزام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: ذلك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). الدليل الرابع: (1003 - 232) ما رواه ابن ماجه، من طريق مصعب بن شيبة، عن أبي حبيب بن يعلى ابن منية، عن ابن عباس أنه أتى أبي بن كعب ومعه عمر، فخرج عليهما، فقال: إني وجدت مذياً، فغسلت ذكري، وتوضأت، فقال عمر: أو يجزئ ذلك؟ ¬

(¬1) المسند (3/ 485). (¬2) انظر تخريجه في أحكام النجاسات، الباب الثاني: الفصل الثاني، المبحث الثالث في المذي. (¬3) سنن أبي داود (211). (¬4) انظر تخريجه في أحكام النجاسات، الباب الثاني: الفصل الثاني، المبحث الثالث في المذي.

قال: نعم قال: أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (1004 - 233) روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال في المذي والودي والمني: من المني الغسل، ومن المذي والودي الوضوء، يغسل حشفته ويتوضأ (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). الدليل السادس: حكى الإجماع على نجاسته، وعلى وجوب الوضوء. قال ابن عبد البر: وأما المذي المعهود المتعارف عليه، وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما يجده من اللذة، أو لطول عزبة، فعلى هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي هذا، وعليه وقع الجواب، وهو موضع إجماع لا خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه، وإيجاب غسله لنجاسته (¬5). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (507). (¬2) انظر تخريجه في أحكام النجاسات، الباب الثاني: الفصل الثاني، المبحث الثالث في المذي. (¬3) المصنف (608). (¬4) ورواه ابن أبي شيبة (1/ 89) رقم 984، حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان به. وانظر زيادة تخريج لهذا الأثر في رقم (392) من كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء). (¬5) الاستذكار (1/ 199).

وقال ابن المنذر: لست أعلم في وجوب الوضوء منه اختلافاً بين أهل العلم (¬1). ونقل النووي الإجماع عن ابن المنذر في المجموع (¬2). وقال ابن قدامة: الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح , فهذا ينقض الوضوء إجماعاً (¬3). ¬

(¬1) الأوسط (1/ 1346). (¬2) المجموع (2/ 6). (¬3) المغني (1/ 111).

المبحث الرابع: خروج الودي

المبحث الرابع: خروج الودي لقد وقع خلاف بين أهل العلم في طهارة الودي، وسيأتي تحرير الخلاف فيه إن شاء الله تعالى في أحكام النجاسات، والكلام في هذا الباب يتناول اعتبار خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء، وهي مسألة أخرى. فذهب الأئمة الأربعة إلى أن خروج الودي حدث ناقض للوضوء (¬1)، وقال ابن المنذر: الودي شيء يخرج من الذكر على إثر البول، والوضوء يجب بخروج البول، وليس يوجب بخروجه شيء إلا الوضوء الذي وجب بخروج البول (¬2). دليل من قال: إن الودي ينقض الوضوء. الدليل الأول: (1005 - 234) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركين، عن حصين بن قبيصة الفزاري، ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 24)، العناية بشرح الهداية (1/ 68)، شرح فتح القدير (1/ 68)، الفتاوى الهندية (1/ 9)، البحر الرائق (1/ 65)، المبسوط (1/ 67). وانظر في مذهب المالكية: التاج والإكليل (1/ 421،422)، الخرشي (1/ 152)، الفواكه الدواني (1/ 113)، حاشية الدسوقي (1/ 115). وجاء في مختصر المزني (ص: 96):وكل ما خرج من دبر، أو قبل، من دود، أو دم، أو مذي، أو ودي، أو بلل أو غيره فذلك كله يوجب الوضوء كما وصفت. اهـ وانظر المجموع (2/ 5)، روضة الطالبين (1/ 72). وفي مذهب الحنابلة: انظر الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 56)، المغني (1/ 413). (¬2) الأوسط (1/ 135).

الدليل الثاني

عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكانت تحتي بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أستحي أن أسأله، فأمرت رجلاً فسأله، فقال: إذا رأيت المذي فتوضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت الودي فضخ الماء فاغتسل (¬1). [رجاله ثقات إلا أن ذكر الودي فيه غير محفوظ] (¬2). الدليل الثاني: (1006 - 235) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: المني والودي والمذي، فأما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما الوضوء، ويغسل ذكره (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). الدليل الثالث: القياس على البول والمذي بجامع أن كلاً منهم خارج نجس من سبيل واحد. وقد حكي الإجماع على نجاسة الودي، قال النووي: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي (¬5). اهـ ¬

(¬1) المصنف (1/ 89). (¬2) سبق تخريجه في آداب الخلاء، رقم (399). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 89) رقم 984. (¬4) سبق تخريجه في آداب الخلاء، رقم (400). (¬5) المجموع (2/ 571).

وحكى الحطاب من المالكية في مواهب الجليل (¬1) أن شاس نقل الإجماع على نجاسة الودي. وأما قول من قال: إن الوضوء وجب بخروج البول لا بخروج الودي، فإنه يقال له: ما المانع أن يكون هناك أكثر من موجب، على أن بعضهم ذكر أن خروج الودي على إثر البول في الغالب، وليس دائماً، فقد يخرج بعد حمل شيء ثقيل، وقد يخرج وحده بلا سبب (¬2). وقال في البحر الرائق: إن قيل: ما فائدة إيجاب الوضوء بالودي، وقد وجب بالبول السابق عليه؟. قلنا: عن ذلك أجوبة، أحدها: فائدته فيمن به سلس البول, فإن الودي ينقض وضوءه دون البول. ثانيها: فيمن توضأ عقب البول، قبل خروج الودي، ثم خرج الودي، فيجب به الوضوء. . ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 104). (¬2) قال في حاشية ابن عابدين (1/ 165): الودي ماء ثخين أبيض كدر، يخرج عقب البول. وقال في الفتاوى الهندية (1/ 10): الودي بول غليظ. وقيل: ماء يخرج بعد الاغتسال من الجماع وبعد البول. كذا في التبيين. اهـ وقال في شرح خليل (1/ 152): واعلم أن ودي المرأة يخرج أيضا بأثر البول إلا أنه حينئذ لا حكم له نعم يكون ناقضا فيما إذا خرج بأثر سلس بول، أو خرج عند حمل شيء ثقيل. اهـ وقال في المهذب (1/ 29): الودي يخرج مع البول، فتعقبه النووي في المجموع (2/ 571)، وقال: الأجود أن يقال: عقبه. أي عقب البول. وقال نحوه في مطالب أولي النهى (1/ 234).

ثالثها: الودي ماء يخرج بعد الاغتسال من الجماع وبعد البول, وهو شيء لزج كذا فسره في الخزانة والتبيين، فالإشكال إنما يرد على من اقتصر في تفسيره على ما يخرج بعد البول. رابعها: أن وجوب الوضوء بالبول لا ينافي الوجوب بالودي بعده، ويقع الوضوء عنهما، حتى لو حلف لا يتوضأ من رعاف، فرعف، ثم بال أو عكسه، فتوضأ؛ فالوضوء منهما؛ فيحنث، وكذا لو حلفت لا تغتسل من جنابة أو حيض فجامعها زوجها، وحاضت فاغتسلت فهو منهما وتحنث (¬1). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 65).

المبحث الخامس: في خروج دم الاستحاضة

المبحث الخامس: في خروج دم الاستحاضة يدخل دم الاستحاضة، ومن به حدث دائم في عموم الخارج من أحد السبيلين، فهل يعتبر خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء؟ اختلف أهل العلم في ذلك: فقيل: يجب أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يجب أن تتوضأ لكل فريضة، مؤداة أو مقضية، وأما النوافل فتصلي بطهارتها ما شاءت. وهو مذهب الشافعية (¬3). وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب. وهو مذهب المالكية (¬4). ¬

(¬1) الاختيار لتعليل المختار (3/ 508) حاشية ابن عابدين (1/ 504) البحر الرائق (1/ 226) مراقي الفلاح (ص60) شرح فتح القدير (1/ 181) تبيين الحقائق (1/ 64) بدائع الصنائع (1/ 28). (¬2) المغني (1/ 421) شرح منتهى الإرادات (1/ 120) كشاف القناع (1/ 215) الإنصاف (1/ 377) الفروع (1/ 279) شرح الزركشي (1/ 437). (¬3) المجموع (1/ 543، 363)، مغني المحتاج (1/ 111)، روضة الطالبين (1/ 147، 125). (¬4) قال صاحب مواهب الجليل (1/ 291): " طريقة العراقيين من أصحابنا، أن ما خرج على وجه السلس لا ينقض الوضوء مطلقاً، وإنما يستحب منه الوضوء ". ثم قال: " والمشهور من المذهب طريقة المغاربة أن السلس على أربعة أقسام: =

وقيل: الوضوء واجب لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج. وهذا اختيار ابن حزم (¬1). وقد رويت أحاديث في وضوء المستحاضة لكل صلاة، منها: (1007 - 236) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال هشام: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬2). ¬

= الأول: أن يلازم، ولا يفارق، فلا يجب الوضوء، ولا يستحب؛ إذ لا فائدة فيه فلا ينتقض وضوء صاحبه بالبول المعتاد. الثاني: أن تكون ملازمته أكثر من مفارقته، فيستحب الوضوء إلا أن يشق ذلك عليه لبرد أو ضرورة فلا يستحب. الثالث: أن يتساوى إتيانه ومفارقته، ففي وجوب الوضوء واستحبابه قولان"، ثم قال: والرابع: " أن تكون مفارقته أكثر، فالمشهور وجوب الوضوء خلافاً للعراقيين فإنه عندهم مستحب " اهـ. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 116) وانظر بهامش الصفحة التاج والإكليل. وانظر الخرشي (1/ 152)، فتح البر في ترتيب التمهيد (3/ 508)، الاستذكار (3/ 225 - 226) القوانين الفقهية لابن جزي (ص29). (¬1) المحلى (مسألة: 168). (¬2) صحيح البخاري (228).

[زيادة قال هشام: قال أبي: الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (¬1). ¬

(¬1) سبب اختلاف العلماء في دم الاستحاضة، هل هو حدث أم لا؟ اختلافهم في قول هشام: " وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت " هل هذه الزيادة موقوفة أو مرفوعة؟ وهل هي متصلة أو معلقة؟ وعلى تقدير كونها مرفوعة، هل هي محفوظة أو شاذة؟ فالحديث مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ورواه عن هشام جمع كثير على اختلاف يسير في متنه، وبعضهم يذكر هذه الزيادة وبعضهم لا يذكرها. وقد جاءت الزيادة بالوضوء من طريق أبي معاوية عن هشام به. واختلف على أبي معاوية فيه، فروى بعضهم الحديث عن أبي معاوية دون ذكر الزيادة، وبعضم رواه عن أبي معاوية مصرحاً برفعها، وبعضهم روى الزيادة عن أبي معاوية موقوفة على عروة. وممن روى الزيادة أبو حمزة السكري، واختلف عليه أيضاً: فروي عنه مرفوعاً، وروى عنه مرسلاً. وروى الزيادة أيضاً حماد بن زيد، وحماد بن سلمة عن هشام، إلا أنهما ذكرا الوضوء ولم ينصا على التكرار لكل صلاة بل قال: " فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي " فكما أن الاغتسال يكفي فيه الامتثال مرة واحدة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ الحمادين، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه الوضوء. وممن روى الزيادة أيضاً أبو عوانة (الوضاح بن عبد الله اليشكري) وأبو حنيفة واختلف عليهما فيه كما سيأتي. هؤلاء هم الذين انفردوا بذكر الزيادة على الخلاف السابق، وخالفهم جمع كثير، وفيهم من هو أحفظ منهم، فقد روى الحديث عن هشام ستة عشر حافظاً ولم يذكروها، منهم مالك، ووكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وزهير، وسفيان بن عيينة، وأبو أسامة، والليث بن سعد، وعمرو بن الحارث، وعبدة، ومحمد بن كناسة، ومعمر، وجعفر بن =

(1008 - 237) ومنها: ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير)) (¬1). [الحديث ضعيف، وفيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وعروة مختلف فيه، قيل: عروة المزني، وهو مجهول، وقيل: عروة بن الزبير] (¬2). ¬

= عون، والدراوردي، وعبد الله بن نمير، وسعيد بن عبد الرحمن. هذا بعض من وقفت عليه ممن رواه عن هشام ولم يذكر الزيادة، فلو كان من ذكر هذه الزيادة لم يضطرب فيها لكانت شاذة؛ لأن الحكم عند أهل الحديث للأحفظ، وللأكثر عدداً على من دونهم، كما فصلت ذلك في بحث زيادة الثقة، في مقدمة كتاب المياه والآنية. وقد حكم بضعف هذه الزيادة الإمام مسلم والنسائي والبيهقي، وأبو داود، وضعفه ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري قال (2/ 72): والصواب أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة: فقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة " اهـ كلام ابن رجب. فهنا فصل مالك الحديث المرفوع من الموقوف في روايته عن هشام، فحين روى المرفوع لم يورد قال هشام: قال أبي ثم توضئي لكل صلاة، وحين روى الموقوف لم يذكر المرفوع، والله أعلم. وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 201): " وهذه اللفظة - أعني: توضئي لكل صلاة- هي معلقة عند البخاري، عن عروة في صحيحه "، ثم قال: " وقد جعل ابن القطان في كتابه مثل هذا تعليقاً ". اهـ هذا الكلام المجمل حول الحديث، وأما تفصيله فانظره في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية فقد بسطت الكلام على هذا الحديث فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق. (¬1) المسند (6/ 204). (¬2) سبق تخريجه في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية (474).

(1009 - 238) ومنها: ما رواه الدرامي، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها في كل شهر، فإذا كان عند انقضائها اغتسلت وصلت، وصامت، وتوضأت عند كل صلاة (¬1). [ضعيف جداً]. (1010 - 239) ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد بن القاسم الطائي، ثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا أبو يوسف القاضي، عن عبد الله بن علي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر: «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة». قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي أيوب الأفريقي، وهو عبد الله ابن علي، إلا أبو يوسف (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). (1011 - 240) ومنها: ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا مورع بن عبد الله، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم بن عتيبة عن جعفر، عن سودة بنت زمعة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) سنن الدارمي (793)، وقد سبق تخريجه. انظر: حديث رقم (60) من كتاب الحيض والنفاس (¬2) المعجم الأوسط (1620). (¬3) سبق تخريجه في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (476).

المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلاً واحداً ثم تتوضأ لكل صلاة)) (¬1). [إسناده ضعيف]. وقد اختلف العلماء في حكمهم على هذه الآثار الواردة في وضوء المستحاضة لكل صلاة، فمنهم من ضعف الأحاديث الواردة في الباب. قال ابن رجب: أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة وهي مضطربة ومعللة (¬2). ولهذا ذهب المالكية إلى عدم وجوب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة. قال ابن عبد البر: والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب دون الوجوب، قال: وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي» ولم يذكر وضوءاً، قال: وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب ربيعة وعكرمة ومالك وأيوب وطائفة (¬3). وإذا لم تصح الآثار عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وضوء المستحاضة، فإن النظر أيضاً يؤيد القول بعدم اعتبار خروج دم الاستحاضة وسلس البول ونحوهما حدثاً يوجب الوضوء، وذلك من وجوه: ¬

(¬1) الأوسط (1984) سبق تخريجه انظر رقم (463) من كتاب الحيض والنفاس. (¬2) شرح البخاري لابن رجب (2/ 73). (¬3) المرجع السابق، نفس الصفحة.

الوجه الأول: أن من كان به حدث دائم لو تطهر فلن يرتفع حدثه، وإذا كان كذلك، كانت طهارته استحباباً لا وجوباً. الوجه الثاني: إذا كان دم الاستحاضة لايبطل الطهارة بعد الوضوء، وقبل الصلاة، لم يكن حدثاً يوجب الوضوء عند تجدد الصلاة أو خروج الوقت، ولذا حملنا الأمر على الاستحباب. الوجه الثالث: إذا كان دم العرق لاينقض الوضوء، فلو خرج دم من عرق اليد أو الرجل لم ينتقض وضوءه على الصحيح، فكذلك دم الاستحاضة، فإنه دم عرق كما في أحاديث الصحيحين، ولا يقال: إن خروجه من الفرج جعل حكمه مختلفاً؛ لأن المني يخرج من الفرج، ومع ذلك هو طاهر. الوجه الرابع: الشارع حكيم، فلا يؤاخذ الإنسان إلا بما فعل، فإذا كان خروج الدم ليس من فعل الإنسان ولا من قصده، لم تفسد عبادته، ولهذا لايؤاخذ الإنسان باللغو في اليمين لعدم توفر القصد. قال ابن المنذر في الأوسط: ((والنظر دال على ما قال ربيعة - يعني: في عدم وجوب الوضوء - إلا أنه قول لا أعلم أحداً سبقه إليه. وإنما قلت: النظر يدل عليه؛ لأنه لافرق بين الدم الذي يخرج من المستحاضة قبل الوضوء، والذي يخرج في أضعاف الوضوء، والدم الخارج بعد الوضوء؛ لأن دم

الاستحاضة إن كان يوجب الوضوء فقليل ذلك وكثيره في أي وقت كان يوجب الوضوء، فإذا كان هكذا، وابتدأت المستحاضة في الوضوء، فخرج منها دم بعد غسلها بعض أعضاء الوضوء، وجب أن ينتقض ما غسلت من أعضاء الوضوء، لأن الدم الذي يوجب الطهارة في قول من أوجب على المستحاضة الطهارة قائم. وإن كان ما يخرج منها بين أضعاف الوضوء، وما خرج منها قبل أن تدخل الصلاة، وما حدث في الصلاة منه لا ينقض طهارة، وجب كذلك أن ما خرج منها بعد فراغها من الصلاة لا تنقض طهارة إلا بحدث غير دم الاستحاضة هذا الذي يدل عليه النظر)). اهـ (¬1) هذه أدلة المالكية على عدم اعتبار خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، وهذا القول هو الراجح عندي، لأن الآثار في الباب لم تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة، ولأن هذا القول موافق لقواعد الشريعة من جهة أخرى كما سبق بيانه، وفيه تيسير على المبتلى من النساء ومن به سلس بول، وقد أفتى به جماعة من أهل العلم على رأسهم الإمام مالك وربيعة وعكرمة وأيوب وطائفة، كما سبق ذكره عنهم، وذكر ابن المنذر أن القياس يقتضيه، وهل الشرع كله إلا على وفق القياس، وصرح الحافظ ابن رجب بأنه لم يصح في أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة حديث، وقد بسطت الخلاف في هذه المسألة بأكثر من هذا الكلام في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فارجع إليه إن أردت الاستزادة من هذه المسألة المهمة (¬2). ¬

(¬1) الأوسط (1/ 164). (¬2) في مبحث خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة.

المبحث السادس: في الخارج النادر من السبيلين

المبحث السادس: في الخارج النادر من السبيلين سبق لنا أن تكلمنا على الخارج من السبيلين إذا كان معتاداً، كالبول والغائط، والمذي، والودي ونحوها، وسوف نتكلم في هذا المبحث إذا كان الخارج غير معتاد، كالحصى، والدود، والريح من القبل، ونحوها، فهل يعتبر خروجها حدثاً ناقضاً للوضوء، أو لا يعتبر؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقيل: خروج الشيء النادر من السبيلين يعتبر ناقضاً للوضوء، وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، إلا ريح القبل فلا تنقض الوضوء عند الحنفية؛ لأنها اختلاج لا ريح عندهم. وقيل: لا ينقض إذا لم يكن معتاداً، وهو مذهب المالكية (¬4). وسبب اختلافهم ما ذكره ابن رشد، وأسوقه مع تصرف يسير، حيث يقول: من الفقهاء من اعتبر في ذلك الخارج وحده من أي موضع خرج، وعلي أي جهة خرج، فقالوا: كل نجاسة تسيل من الجسد وتخرج منه يجب منها الوضوء كالدم والرعاف والقيء. ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 24)، البحر الرائق (1/ 31)، مراقي الفلاح (ص:36)، فتح القدير (1/ 38)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 9). (¬2) مغني المحتاج (1/ 32)، المجموع (2/ 4)، روضة الطالبين (1/ 72). (¬3) شرح منتهى الإرادات (1/ 69)، كشاف القناع (1/ 122)، الفروع (1/ 174)، الإنصاف (1/ 195)، المبدع (1/ 155). (¬4) الشرح الصغير (1/ 137)، الخرشي (1/ 152)، مواهب الجليل (1/ 291)، حاشية الدسوقي (1/ 115)، أسهل المدارك (1/ 59)، التلقين (ص: 14).

واعتبر قوم المخرجين: الذكر والدبر، فقالوا: كل ما خرج من هذين السبيلين فهو ناقض للوضوء، من أي شيء خرج من دم، أو حصى أو بلغم، وعلي أي وجه خرج، سواء كان خروجه على وجه الصحة أو المرض. واعتبر آخرون الخارج والمخرج وصفة الخروج، فقالوا: كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه، وهو البول والغائط والمذي والودي والريح إذا كان خروجه على وجه الصحة فهو ينقض الوضوء، فلم يروا في الدم والحصاة والدود وضوء، ولا في السلس كذلك، والسبب في اختلافهم أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائط وبول وريح ومذي، لظاهر الكتاب ولتظاهر الآثار بذلك، تطرق إلى ذلك ثلاث احتمالات: أحدها: أن يكون الحكم إنما علق بأعيان هذه الأشياء فقط المتفق عليها على ما رآه مالك رحمه الله. الاحتمال الثاني: أن يكون الحكم إنما علق بهذه من جهة أنها أنجاس خارجة من البدن، فيكون الوضوء طهارة، والطهارة إنما يؤثر فيها النجس. الاحتمال الثالث: أن يكون الحكم أيضاً إنما علق بها من جهة أنها خارجة من هذين السبيلين.

قلت: الذي يظهر أن الاعتبار بالمخرج لا بالنجاسة؛ لأن الريح طاهرة، وإذا خرجت من الدبر كانت حدثاً، وإذا خرجت من الفم لم تكن ناقضة، وليس الاعتبار بكونه معتاداً، فهذا الودي نادر غير معتاد، وقد يكون دالاً على اعتلال، ومع ذلك ينقض الوضوء حتى على مذهب مالك رحمه الله، والله أعلم.

الفصل الثاني: خروج النجس من البدن من غير السبيلين

الفصل الثاني: خروج النجس من البدن من غير السبيلين المبحث الأول: خروج البول والغائط من غير السبيلين اختلف العلماء في خروج البول والغائط من غير السبيلين، هل يعتبر حدثاً ناقضاً للوضوء؟ فقيل: يعتبر خروجهما حدثاً مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل بالتفصيل: وهو إما أن ينسد المخرج المعتاد أو لا ينسد، فإن كان المخرج المعتاد لم ينسد، فلا ينقض الخارج مطلقاً. وإن كان المخرج المعتاد قد انسد، نظر: فإن كان مخرج البول والغائط فوق المعدة، لم ينقض، وإن كان المخرج تحت المعدة نقض. وهذا التفصيل إذا كان انسداد المخرج عارضاً، أما لو كان أصلياً من أصل الخلقة فإن الخارج منه ناقض للوضوء مطلقاً، سواء كان خروجه فوق أو ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 24)، تبيين الحقائق (1/ 8)، البحر الرائق (1/ 31)، فتح القدير (1/ 38)، مراقي الفلاح (ص: 36)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 9). (¬2) كشاف القناع (1/ 124)، الفروع (1/ 176)، الإنصاف (1/ 197)، شرح منتهى الإرادات (1/ 70).

دليل الحنفية والحنابلة على النقض مطلقا

تحت المعدة، وهذا مذهب المالكية (¬1)، والصحيح من قولي الشافعية (¬2). دليل الحنفية والحنابلة على النقض مطلقاً. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬3). فجعل الاعتبار بالغائط: أي بالخارج لا بالمخرج، والبول مقيس عليه. الدليل الثاني: (1012 - 241) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقلت له: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم .... الحديث (¬4). [وإسناده حسن وسبق تخريجه] (¬5). ¬

(¬1) تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة (1/ 385)، حاشية الدسوقي (1/ 118)، مواهب الجليل (1/ 293)، الخرشي (1/ 154). (¬2) المجموع (2/ 8)، مغني المحتاج (1/ 33)، نهاية المحتاج (1/ 112). (¬3) المائدة: 6. (¬4) المصنف (795). (¬5) انظر كتابي أحكام المسح على الحائل رقم (62) وهو جزء من هذه السلسلة.

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: قوله: «ولكن من غائط وبول ونوم» فاعتبر الخارج دون المخرج. الدليل الثالث: من النظر، قال: ابن تيمية رحمه الله: والسبيل إنما يغلظ حكمه؛ لكونه مخرجاً معتاداً للبول والغائط، فإذا تغلظ حكمه بسببهما فلأن يتغلظ حكم أنفسهما أولى وأحرى (¬1). الدليل الرابع: قال الزيلعي: خروج النجس مؤثر في زوال الطهارة: أما موضع الخروج فظاهر، وأما غيره فلأن بدن الإنسان باعتبار ما يخرج منه لا يتجزأ في الوصف، فإذا وصف موضع منه بالنجاسة وجب وصف كله بذلك، كالإيمان والكفر والكذب والصدق ونحو ذلك، فإنه يوصف به كله، وإن كان كل واحد من هذه الأشياء في محل مخصوص، فإذا صار كله نجساً وجب تطهيره كله، لكن ورد الشرع بالاقتصار على الأعضاء الأربعة في السبيلين، للحرج لتكرار ما يخرج منهما، فألحقنا به ما هو في معناه من كل وجه (¬2). وهذا الكلام فيه نظر كبير؛ لأن نجاسة عضو من الأعضاء لا يعني نجاسة كل الأعضاء، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لعائشة: إن حيضتك ليست في يدك. وبدن الحائض طاهر، وإن كان موضع الأذى قد تنجس بخروج دم الحيض، ولو تنجس عضو من الأعضاء لم يجب غسل باقي الأعضاء بل يغسل ما تنجس منه ¬

(¬1) شرح العمدة (1/ 295). (¬2) تبيين الحقائق (1/ 8).

دليل من اشترط انسداد المخرج وكونه تحت المعدة

فقط، والطهارة من الحدث ليس موجبها خروج النجاسة فقط، فهذا مس الذكر يوجب الوضوء على الصحيح، وكذلك أكل لحم الإبل كذلك، وليس ذلك عن نجاسة، والله أعلم. دليل من اشترط انسداد المخرج وكونه تحت المعدة. قالوا: إذا انسد المخرج، وكانت الفتحة تحت المعدة، فإن الطعام لما انحدر إلى الأمعاء أصبح فضلة قطعاً، وصارت الفتحة التي تحت المعدة قائمة مقام السبيلين عند انسدادهما. ولأن الإنسان لا بد له من مخرج، فأقيم هذا مقامه. ولأن المخرج إذا كان فوق المعدة أشبه القيء وأشبه التجشي: وهو خروج الريح من الفم فلم ينقض الخارج. والقول الأول أحوط، والثاني أقيس. واستثنى الحنابلة في أحد القولين خروج الريح فلا تعتبر حدثاً إذا خرجت من غير السبيل. ولا أعلم وجهاً في التفريق بين البول والريح في النقض إلا أن تكون الريح طاهرة، والبول نجس، لكن ينبغي إذا انسد المخرج المعتاد وكانت من تحت المعدة أن يكون خروجها ناقضاً؛ لأن مخرجها حينئذ قائم مقام المخرج الأصلي، والله أعلم.

فرع

فرع: إذا انسد المخرج المعتاد، وخرج البول والغائط من مخرج غير معتاد، فهل له حكم القبل والدبر في كل شيء، من جواز الاكتفاء بالاستجمار بالحجارة، ووجوب الوضوء بمسه، ووجوب الحد بالإيلاج فيه، ومن تحريم النظر إليه؟ في ذلك خلاف. والراجح أنه ليس له حكم الذكر من كل وجه (¬1). وإن كان لا مانع من إزالة النجاسة بالحجارة، وليس ذلك من باب القياس على المخرج المعتاد، وإنما لأن النجاسة تزال بأي مزيل، ولا يتعين الماء، فإذا زالت زال حكمها، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه المسألة في كتاب أحكام النجاسة. ¬

(¬1) المجموع (2/ 10)، كشاف القناع (1/ 124).

المبحث الثاني: في خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين

المبحث الثاني: في خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين إذا خرج من البدن شيء نجس، ولم يكن بولاً ولا غائطاً، وكان خروجه من غير السبيلين، كما لو رعف، أو تقيأ، أو جرح بدنه، فهل يعتبر خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء؟ اختلف العلماء في هذا، فقيل: يعتبر خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء بشرطه، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 24)، البحر الرائق (1/ 33)، تبيين الحقائق (1/ 8)، مراقي الفلاح (ص: 36)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 9)، شرح فتح القدير (1/ 39). ويشترط الحنفية أن يكون الدم والقيح سائلاً، وفي القيء ونحوه أن يملأ الفم، وفي الدم إذا كان من الفم إذا غلب على البزاق أو ساواه. (¬2) كشاف القناع (1/ 124)، الفروع (1/ 176)، شرح العمدة (1/ 295)، الإنصاف (1/ 179)، التحقيق في أحاديث الخلاف (1/ 185)، تنقيح التحقيق (1/ 469)، شرح الزركشي (1/ 256). واشترط الحنابلة حتى يكون الخارج ناقضاً للوضوء بأن يكون الخارج فاحشاً، واختلفوا في تفسير الفاحش: فقيل: كل أحد بحسبه، وهو المشهور من المذهب. قال الخلال في الإنصاف (1/ 198): الذي استقرت عليه الرويات عن أحمد: أن الفاحش ما استفحشه كل إنسان في نفسه، وقال جماعة منهم ابن تيمية: هي ظاهر المذهب. ويشكل عليه أن الناس متفاوتون، منهم الموسوس الذي يستكثر القليل، والمتهاون الذي يعد الكثير يسيراً، فلا ينضبط. =

دليل من قال: خروج النجس ينقض الوضوء

وقيل: لا يعتبر خروجه حدثاً، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). دليل من قال: خروج النجس ينقض الوضوء. الدليل الأول: (1013 - 242) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. ورواه مسلم دون زيادة الوضوء لكل صلاة (¬3). ¬

= وقيل: ما فحش في نفس أوساط الناس: أي المرجع العرف في ذلك. ورجحه جماعة من الحنابلة. قال صاحب الإنصاف (1/ 198): والنفس تميل إلى ذلك. وعن الإمام أحمد رواية أن الكثير قدر عشر أصابع. وقيل: ما لو انبسط جامده أو انضم متفرقه كان أكثر من شبر في شبر. وقيل: ما لا يعفى عنه في الصلاة. القولان الأولان هما أرجح من غيرهما. (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 117،118)، الخرشي (1/ 153،154)، القوانين الفقهية (ص: 29)، بداية المجتهد (1/ 319)، مواهب الجليل (1/ 291)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:131)، تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة (1/ 385). (¬2) الأم (1/ 18)، الحاوي (1/ 199)، المجموع (2/ 8)، مغني المحتاج (1/ 33)، روضة الطالبين (1/ 72)، نهاية المحتاج (1/ 113). (¬3) البخاري (228)، ومسلم (234).

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: أمرها بالوضوء من دم الاستحاضة، وعلل ذلك بأنه دم عرق، فيؤخذ منه أن دماء العروق الخارجة من البدن توجب الوضوء من أي موضع خرجت؛ لأنه لم يعلل الوضوء بأنه دم خارج من سبيل، بل قال: إنما ذلك عرق. ويجاب عن ذلك: أولاً: أن الدم ليس بنجس على الصحيح، وأنتم تخصون النقض بما كان نجساً، وسيأتي تحرير ذلك بحول الله وقوته في كتاب أحكام النجاسة، وإذا كان الدم طاهراً لم يكن ناقضاً كالعَرَق والبصاق واللبن والدمع ونحوها. ثانياً: أن قوله: «إنما ذلك عرق» ليس تعليلاً لإيجاب الوضوء، وإنما هو تعليل لوجوب الصلاة؛ لأن السؤال كان عن الصلاة، حيث قالت: أفادع الصلاة؟ قال: لا؛ إنما ذلك عرق، ولذلك لما خالف دم الاستحاضة دم الحيض لم يمنع من الصلاة وإن كان دماً وخارجاً من سبيل. ثالثاً: قد بينا أن قوله: «توضئي لكل صلاة» إنما هو من كلام عروة، وليس مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما سبق أن نقلنا كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله بأن أحاديث الوضوء لكل صلاة في حق المستحاضة مضطربة ومعللة. الدليل الثاني: (1014 - 243) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر وهو أحمد بن عبد الله الهمداني الكوفي وإسحاق بن منصور، عن عبد الصمد ابن عبد الوارث، حدثني أبي، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد المخزومي، عن أبيه، عن معدان بن أبي طلحة،

عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء، فأفطر، فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق أنا صببت له وضوءه (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). ¬

(¬1) سنن الترمذي (87). (¬2) الحديث ورد فيه اختلاف في سنده ومتنه، أما المتن: فقد رواه الترمذي كما في إسناد الباب عن شيخه: إسحاق بن منصور وأبي عبيدة كلاهما: عن عبد الصمد بن عبد الوارث به، بذكر قاء، فأفطر، فتوضأ. ورواه جماعة منهم: محمد بن المثنى، ومحمد بن يحيى القطيعي، والحسين بن عيسى البسطامي، والحسين بن محمد بن زياد، وأبو قلابة الرقاشي، وإبراهيم بن مرزوق، وأحمد والدارمي، والعباس بن يزيد البحراني، ومحمد بن عبد الملك الواسطي، كلهم رووه بلفظ: " قاء فأفطر" ولم يذكروا الوضوء من مسند أبي الدرداء، واتفقوا على ذكر الوضوء من مسند ثوبان، بقوله: " أنا صببت له وضوءه ". فقول ثوبان: صدق: أنا صببت له وضوءه " قد يشهد أن الوضوء له أصل من حديث أبي الدرداء، فيكون عدم ذكر الوضوء في حديث أبي الدرداء من بعض الرواة اختصاراً، والله أعلم. وأما الاختلاف في الإسناد: فرواه جماعة عن عبد الصمد بزيادة الوليد بن هشام، والد يعيش، ورواه جماعة عنه بدون ذكر الوليد بن هشام، وإليك من وقفت عليهم منهم: فقد رواه محمد بن المثنى (أبو موسى) كما في سنن النسائي الكبرى (3122)، وصحيح ابن خزيمة (1956)، وابن حبان، كما في الموارد (908)، والحاكم (1/ 426). وأبو قلابة الرقاشي، كما في مستدرك الحاكم (1/ 426)، والبغوي في شرح السنة (160). ومحمد بن يحيى القطيعي والحسين بن عيسى البسطامي، كما في صحيح ابن خزيمة (1956)، كلهم رووه عن عبد الصمد، عن أبيه، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فهنا روى يعيش بن الوليد الحديث مباشرة عن معدان دون واسطة: أي بدون ذكر والد يعيش (الوليد بن هشام). وروى الحديث أحمد كما في المسند (6/ 443)، والدارمي في سننه (1728). ومحمد بن يحيى كما في المنتقى لابن الجارود (8). والعباس بن يزيد البحراني كما في سنن الدارقطني (1/ 158). ومحمد بن عبد الملك الواسطي كما في سنن الدارقطني أيضاً (1/ 158)، والبيهقي (1/ 144). وإبراهيم بن مرزوق، كما في الأوسط لابن المنذر (1/ 189)، وشرح معاني الآثار (2/ 96). كلهم رووه عن عبد الصمد، فقالوا: عن يعيش، عن أبيه (الوليد بن هشام)، عن معدان ابن طلحة به. وأظن أن زيادة وأبيه محفوظة، وهي من قبيل المزيد في متصل الأسانيد، لأمرين: الأول: أن عبد الصمد قد توبع في زيادة (وأبيه) تابعه في ذلك أبو معمر عبد الله بن عمرو، عن عبد الوارث، ثنا الحسين، عن الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد، عن أبيه به. كما في سنن أبي داود (2381)، وسنن النسائي الكبرى (3120) وسنن الدارقطني (1/ 181)، وسنن البيهقي (4/ 220). ثانياً: كما توبع عبد الصمد بزيادة (والد يعيش) توبع أيضاً أبوه عبد الوارث، فقد تابعه حرب بن شداد، فرواه بالإسنادين: تارة يذكر والد يعيش، وتارة يسقطه كما صنع عبد الصمد. فقد رواه الدارقطني (1/ 159) من طريق أحمد بن منصور، نا عبد الله بن رجاء، نا حرب، عن يحيى بن أبي كثير، نا عبد الرحمن بن عمرو، أن ابن الوليد بن هشام حدثه، أن أباه حدثه، نا معدان بن طلحة، أن أبا الدرداء أخبره به. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 426) من طريق هشام بن علي السدوسي، ثنا عبد الله بن رجاء، به بدون ذكر الوليد بن هشام. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فهذا حرب بن شداد تارة يرويه بذكر والد يعيش وتارة يسقطه كما صنع عبد الصمد ابن عبد الوارث. ثالثاً: أن جرير رواه عن يحيى بذكر والد يعيش مرة، ومرة بإسقاطه. قال البيهقي في الخلافيات (2/ 349): وقال جرير: عن يحيى، عن الأوزاعي، عن يعيش، عن معدان. وقال مرة: عن يعيش، عن أبيه، عن معدان. اهـ فخرج بذلك عبد الوارث من عهدته، وصارت الزيادة من قبل يحيى بن أبي كثير. واختلف علماء الحديث هل ذكر والد يعيش محفوظ في الإسناد أو يكون ذكره خطأ في الإسناد على قولين، فذهب ابن خزيمة رحمه الله تعالى إلى أن الصواب ليس بينهما عن أبيه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لخلاف بين أصحاب عبد الصمد فيه، قال بعضهم: يعيش بن الوليد، عن أبيه، عن معدان، وهذا وهم من قائله، فقد وراه حرب بن شداد وهشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير على الاستقامة. قلت: هذا وهم من الحاكم، فإن يعيش بن الوليد ليس من رجال الشيخين، ولا من رجال أحدهما، بل روى له أصحاب السنن إلا ابن ماجه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن رواية حرب جاءت بالوجهين كما تقدم، أعني بذكر والد يعيش وبإسقاطه، وأما رواية هشام ففيها اضطراب سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ورجح البغوي في شرح السنة (1/ 334) زيادة (أبيه) في الإسناد، فقال: هذا حديث حسن، والصحيح عن يعيش بن الوليد، عن أبيه، عن معدان. اهـ كما قال الترمذي بعد أن روى الحديث بزيادة (أبيه) قال: وقد جود حسين المعلم هذا الحديث، وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب. وقال البخاري فيما نقله عنه الترمذي في العلل الكبير (1/ 168): جود حسين المعلم هذا الحديث. فالنفس تميل إلى أن ذكر والد يعيش في الإسناد محفوظ، كما قدمت في أول تخريج الكتاب، والله أعلم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال البيهقي (1/ 144): وإسناد هذا الحديث مضطرب، واختلفوا فيه اختلافاً شديداً. فتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 143): فقال: أخرجه الترمذي، ثم قال: جوده حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب، وقال ابن مندة: هذا إسناد متصل صحيح. قال ابن التركماني: وإذا أقام ثقة إسناداً اعتمد، ولم يبال بالاختلاف، وكثير من أحاديث الصحيحين لم تسلم من مثل هذا الاختلاف، وقد فعل البيهقي مثل هذا في أول الكتاب في حديث " هو الطهور ماؤه " حيث بين الاختلاف الواقع فيه، ثم قال: إلا أن الذي أقام إسناده ثقة، أودعه مالك في الموطأ، وأخرجه أبو داود في السنن. اهـ وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 41) وأعله الخصم باضطراب وقع فيه، فإن معمراً رواه عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش، عن خالد بن معدان، عن أبي الدرداء، ولم يذكر فيه الأوزاعي، فإن اضطراب بعض الرواة لا يؤثر في ضبط غيره.، قال ابن الجوزي: قال الأثرم: قلت لأحمد: قد اضطربوا في هذا الحديث؟ فقال: قد جوده حسين المعلم. وأخرجه هشام الدستوائي، واختلف عليه فيه: فقال مرة: عن يحيى عن يعيش بن الوليد بإسقاط الأوزاعي. وقال أخرى: عن يحيى، عن رجل من إخواننا عن يعيش. وقال أيضاً: عن يحيى عن الأوزاعي، عن يعيش كما هي رواية عبد الصمد. وقال أيضاً: عن يحيى، عن يعيش، أن خالد بن معدان أخبره، عن أبي الدرداء. فأسقط الأوزاعي، وغير اسم معدان إلى خالد بن معدان. وإليك تفصيلها: فرواه أحمد (5/ 195) حدثنا إسماعيل، أخبرنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش ابن الوليد بن هشام، عن ابن معدان أو معدان، عن أبي الدرداء به. ورواه أحمد بالإسناد نفسه في كتاب العلل ومعرفة الرجال رواية عبد الله (3/ 348) بدون شك. ثم قال أحمد: إنما رواه يحيى، عن الأوزاعي، عن يعيش، عن معدان، عن أبي الدرداء. اهـ وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 298) رقم 9201 والنسائي في الكبرى بإثر حديث (3124) عن يزيد بن هارون، عن هشام به، وقال: عن معدان بدون شك. فأسقط هشام هنا ذكر الأوزاعي في الإسناد، وجعل الحديث يرويه يحيى بن أبي كثير، عن يعيش مباشرة، فإن كان الأمر من هشام فقد قصر في إسناده، وحفظ غيره ذكر الأوزاعي في الإسناد، وإن كان من يحيى فلعل هذا من تدليسه، فقد ذكر الحافظ في التقريب أنه يدلس ويرسل. وأخرجه النسائي في الكبرى (3124) من طريق أبي النضر. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأيضاً (3127) من طريق معاذ بن هشام. وأخرجه أيضاً (3128) من طريق ابن أبي عدي. وابن خزيمة (1959) والحاكم (1/ 426) من طريق أبي بحر عبد الرحمن بن عثمان البكراوي. والطحاوي في شرح مشكل الأثار (1674) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، خمستهم عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من إخواننا، عن يعيش بن الوليد، عن معدان، عن أبي الدرداء. وهذا الرجل المبهم قال ابن خزيمة: يريد الأوزاعي. وأخرجه النسائي في الكبرى (3123) من طريق ابن سهيل، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد، عن معدان، عن أبي الدرداء به. وهذه أمثل رواية رواها هشام للحديث موافقاً فيها رواية عبد الصمد وحرب بن شداد وغيرهما حيث أثبت في الإسناد ذكر الأوزاعي. وأخرجه النسائي في الكبرى (3126) من طريق يزيد - يعني: ابن زريع- قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد، أن خالد بن معدان أخبره عن أبي الدرداء. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (525) ومن طريقه أحمد في المسند (6/ 449)، والنسائي في الكبرى (3129) عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد، عن خالد بن معدان به كرواية يزيد عن هشام، بلفظ: استقاء فأفطر. وهذا الطريق فيه ثلاث علل: الأولى: إسقاط شيخ يحيى بن أبي كثير أعني الأوزاعي. الثانية: قال: خالد بن معدان، وإنما المحفوظ أن اسمه معدان. الثالثة: أنه قال في متنه: استقاء، ولفظ الجماعة " قاء " وبينهما فرق، فإن الأول يشعر أنه تعمد القيء، بخلاف لفظ " قاء " والله أعلم. قال الترمذي في جامعه (1/ 146): روى معمر هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير فأخطأ فيه. اهـ قلت: قد تابعه كما تقدم يزيد بن زريع، فلم ينفرد معمر بذكر خالد بن معدان، فلا أدري من أين الخطأ. فالمحفوظ من رواية هشام، ما رواه عنه ابن سهيل بالتصريح في ذكر الأوزاعي. =

وجه الاستدلال: قوله في الحديث: «قاء فتوضأ» يدل على أن الوضوء كان مرتباً على القيء وبسببه، وهو المطلوب، فتكون للسببية (¬1). ¬

= وكذلك ما قال فيه: عن يحيى عن رجل من إخواننا عن يعيش، إذا حملنا أن الرجل المبهم كما قال ابن خزيمة: يريد به الأوزاعي، وما عداه فهو ضعيف للمخالفة. وقد أعله ابن حزم في المحلى (1/ 258) فقال: يعيش بن الوليد، عن أبيه، وليسا بمشهورين، والثاني مدلس، لم يسمعه يحيى من يعيش". اهـ قلت: يعيش بن الوليد وأبوه ثقتان، وإليك ترجمة كل واحد منهما: أما يعيش، فقال فيه العجلي: ثقة. معرفة الثقات (2/ 374). وذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/ 309). وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (32/ 404). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 654). وقال الذهبي في الكاشف (6422) ثقة. وفي التقريب: ثقة. وأما أبوه الوليد بن هشام بن معاوية، فجاء في ترجمته: قال فيه يحيى بن معين: ثقة. الجرح والتعديل (9/ 20). وقال فيه ابن حبان: من المتقنين. مشاهير علماء الأمصار (1461). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 555). وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس بحديثه. تهذيب الكمال (31/ 103). وقال الأوزاعي: حدثني الوليد بن هشام، وهو ثقة. المرجع السابق. وقال الذهبي في الكاشف (6096) ثقة. وفي التقريب: ثقة. وبهذا يتبين أن كلام ابن حزم لم يكن دقيقاً، والله أعلم. (¬1) انظر حاشية أحمد شاكر على سنن الترمذي (1/ 146) نقله عن أبي الطيب السندي.

وأجيب: أولاً: أن الوضوء مجرد فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، أقصى ما يدل عليه الفعل إذا كان على وجه التعبد، ولم يكن بياناً لمجمل أن يدل على الاستحباب، ولذلك لما تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرد السلام، لم يقل أحد بوجوب التيمم لرد السلام. وقال ابن المنذر: ((وليس يخلو هذا الحديث من أمرين: إما أن يكون ثابتاً، أو غير ثابت. فإن كان ثابتاً فليس فيه دليل على وجوب الوضوء منه؛ لأن في الحديث أنه توضأ، ولم يذكر أنه أمر بالوضوء منه، كما أمر بالوضوء من سائر الأحداث. وإن كان غير ثابت، فهو أبعد من أن يجب فيه فرض)). (¬1) اهـ كلام ابن المنذر. ثانياً: أن الاستدلال بهذا الحديث مبني على أن القيء نجس، والقيء ليس بنجس على الصحيح، بل هو طاهر، وقد بينت طهارته ولله الحمد في كتاب أحكام النجاسات. الثالث: أن القيء لا يفطر إلا ما كان منه على وجه التعمد، والحديث المحفوظ فيه أنه قاء، وليس استقاء. الرابع: أن الوضوء قد يكون بعد القيء من أجل النظافة وإزالة القذر الذي يبقى في الفم، وربما في الأنف، وما يصيب البدن منه، لا من أجل كون القيء حدثاً ناقضاً للوضوء، فلا نستطيع أن نحكم على من تطهر بموجب الكتاب والسنة، أن نحكم عليه بفساد عبادته إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، والله أعلم. ¬

(¬1) الأوسط (1/ 189).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1015 - 244) ما رواه ابن ماجه، من طريق إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (1221). (¬2) الحديث اختلف فيه على إسماعيل بن عياش، فقيل: عنه، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة. وقيل: عنه، عن ابن جريج، عن أبيه، عن عائشة. وقيل: عنه، عن ابن جريج، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وهو المعروف. وإليك تخريج كل طريق، فالحديث أخرجه ابن أبي عدي في الكامل (1/ 296، 297)، ومن طريقه البيهقي (1/ 142) من طريق هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة. وأخرجه البيهقي في الخلافيات (619) وفي المعرفة (215) من طريق أبي الربيع، عن إسماعيل بن عياش به. وأخرجه البيهقي (1/ 142) من طريق الوليد بن مسلم، أخبرني إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن أبيه، عن عائشة. فهنا جعل إسماعيل الحديث يرويه ابن جريج، عن أبيه، وقد قال قبل: عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة. وأخرجه الدارقطني (1/ 153، 154) ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 188) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = من طريق داود بن رشيد، عن إسماعيل بن عياش، حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن أبيه وعن عبد الله بن أبي مليكة به. وهنا داود بن رشيد جمع عبد العزيز بن جريج وابن أبي مليكة في إسناد. ورواه الدارقطني (1/ 154) من طريق الربيع بن نافع، عن إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره مرسلاً. وهذه الطرق كلها ضعيفة، لأمور: أولاً: لأنها من رواية إسماعيل بن عياش، عن أهل الحجاز، وقد ضعفه أهل الحديث إذا روى عن غير أهل الشام انظر تهذيب التهذيب (1/ 282). ثانياً: أنه على ضعف إسماعيل فقد اختلف عليه فيه، وهذا مما يزيده ضعفاً، فروي عنه كما تقدم موصولاً. ورواه محمد بن المبارك ومحمد بن الصباح، عن إسماعيل مرسلاً. ورواه الدارقطني (1/ 154) من طريق إسماعيل بن عياش، عن عباد بن كثير وعطاء بن عجلان، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به. ومع كون عباد بن كثير وعطاء بن عجلان ضعيفين فإن هذا الاختلاف ناتج عن تخليط إسماعيل بن عياش رحمه الله تعالى. ثالثاً: قد خالف إسماعيل بن عياش أصحاب ابن جريج، فقد رووه عن ابن جريج مرسلاً، منهم: عبد الرزاق كما في المصنف (3618) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الدارقطني (1/ 155)، والبيهقي (1/ 142) عن ابن جريج، عن أبيه، يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وأبو عاصم النبيل، كما في سنن الدارقطني (1/ 155)، والبيهقي (1/ 142). ومحمد بن عبد الله الأنصاري كما في سنن الدارقطني (1/ 155)، والبيهقي (1/ 142). وعبد الوهاب بن عطاء، كما في سنن الدارقطني (1/ 155). وسليمان بن أرقم كما في سنن الدراقطني (1/ 155) كلهم رووه عن ابن جريج، عن أبيه، مرسلاً. وكل هؤلاء ثقات إلا سليمان بن أرقم فإنه متروك، وعبد الوهاب فإنه صدوق. وقد رجح إرساله أبو حاتم الرازي في العلل لابنه (1/ 31). =

ومع ضعف إسناده فإن في متنه نكارة؛ لأن القئ والقلس إن كانا حدثين فإن الحدث مبطل للطهارة، وإذا بطلت الطهارة أثناء الصلاة بطلت الصلاة، كما لو خرجت منه ريح أو بول أو غائط أثناء الصلاة فإن الصلاة كلها تبطل، وإذا تطهر وجب عليه استئناف الصلاة، فما بال الرعاف والقيء يخرج منه، ثم يذهب وينصرف عن القبلة، ويشتغل بالطهارة: وهي حركة كثيرة أجنبية عن الصلاة، وهو في ذلك كله لم يخرج من الصلاة؛ لأنه يحرم عليه الكلام حينئذ، ثم يرجع ويبني على صلاته، فإن كان الرعاف والقيء حدثاً فقد خرج من الصلاة، وإن لم يكن ذلك حدثاً فلماذا يشتغل بالطهارة. ¬

_ = وجاء في سنن البيهقي (1/ 142): قال أبو طالب أحمد بن حميد: سألت أحمد بن حنبل عن حديث ابن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من قاء أو رعف. الحديث، فقال: هكذا رواه ابن عياش، وإنما رواه ابن جريج عن أبيه، ولم يسنده عن أبيه، ليس فيه ذكر عائشة. اهـ والنص نفسه نقله ابن عدي في الكامل (1/ 292). وقال الدارقطني في سننه (1/ 154): أصحاب ابن جريج الحفاظ عنه يروونه عن ابن جريج، عن أبيه مرسلاً. وقال البيهقي (2/ 255): وهذا الحديث أحد ما أنكر على إسماعيل بن عياش، والمحفوظ ما رواه الجماعة عن ابن جريج، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، كذلك رواه محمد ابن عبد الله الأنصاري وأبو عاصم النبيل، وعبد الرزاق، وعبد الوهاب بن عطاء وغيرهم، عن ابن جريج. وأما حديث ابن أبي مليكة عن عائشة، فإنما يرويه إسماعيل بن عياش، وسليمان ابن أرقم عن ابن جريج، وسليمان بن أرقم متروك، وما يرويه إسماعيل بن عياش عن غير أهل الشام ضعيف لا يوثق به وروي عن إسماعيل، عن عباد بن كثير وعطاء بن عجلان، عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، وعباد وعطاء هذان ضعيفان والله تعالى أعلم. انظر إتحاف المهرة (21834)، تحفة الأشراف (16252).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1016 - 245) ما رواه الدارقطني من طريق أبي بكر الداهري، عن حجاج، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رعف في صلاته فليرجع فليتوضأ وليبن على صلاته (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 157). (¬2) قال الدارقطني على: أبو بكر الداهري عبد الله بن حكيم متروك الحديث. سنن الدارقطني (1/ 157). وقال يحيى بن معين والنسائي ليس بثقة. الكامل (4/ 138)، الضعفاء والمتروكين للنسائي (667). وقال السعدي: كذاب مصرح. المرجع السابق. وقال أحمد: يروي أحاديث مناكير، ليس بشيء. المرجع السابق. وقال علي بن المديني: ليس بشيء لا يكتب حديثه. تاريخ بغداد (9/ 446). وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات. المجروحين (2/ 21). وقال العقيلي: وأبو بكر هذا حدث بأحاديث لا أصل لها ويحيل على الثقات من ذلك. الضعفاء الكبير (2/ 241). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، وقال مرة: ذاهب الحديث. الجرح والتعديل (5/ 41). والحديث أخرجه البيهقي في الخلافيات (643) من طريق الدارقطني به. وأخرجه ابن حبان في المجروحين (2/ 22) ومن طريقه ابن الجوزي في الواهيات (607)، من طريق عمرو بن عون به. وفي الحديث علة أخرى، فإن في إسناده الحجاج بن أرطأة لم يسمع من الزهري. انظر إتحاف المهرة (5454).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1017 - 246) ما ورواه الطبراني، قال: حدثنا يحيى بن محمد الحيالي (¬1)، ثنا أحمد بن عبدة، ثنا الحسين بن الحسن، ثنا جعفر بن زياد الأحمر، عن يزيد ابن أبي خالد (¬2)، عن أبي هاشم، عن زاذان، عن سلمان رضي الله عنه قال: رعفت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرني أن أحدث وضوءاً (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) الصواب الحنائي نسبة إلى بيع الحناء انظر الأنساب (4/ 275)، وابن حبان في المجروحين (3/ 105 - 106). (¬2) هكذا قال الطبراني في المعجم الأوسط والكبير عن يزيد بن أبي خالد، والصواب: عن يزيد أبي خالد، كما في كتاب المجروحين لابن حبان (1/ 105)، وسنن الدارقطني (1/ 156)، والخلافيات للبيهقي (2/ 336)، وهو يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني. (¬3) المعجم الكبير (6/ 239) رقم: 6098. (¬4) ومن طريق أحمد بن عبدة أخرجه ابن حبان في المجروحين (3/ 105،106) والطبراني في الأوسط (2883)، قال: حدثنا إبراهيم، حدثنا أحمد به. وأخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 142)، ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (640) ثنا القاسم بن أحمد بن عباد، ثنا أحمد بن عبدة، ثنا حسين بن حسن، عن جعفر بن زياد الأحمر، عن أبي هاشم الرماني به. فأسقط من إسناده أبا خالد. وأخرجه الدارقطني (1/ 156) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (639) من طريق إسماعيل بن أبان، نا جعفر الأحمر، عن أبي خالد به. وضعفه البيهقي في الخلافيات (2/ 337) بجعفر الأحمر، قال البيهقي: وجعفر وأبو خالد كلاهما ضعيف، ثم نقل عن الجوزجاني قوله: جعفر الأحمر مائل عن الطريق، كما نقل عن الدارمي قوله: سئل يحيى بن معين عن جعفر الأحمر، فقال بيده: لم يلينه ولم يضعفه. اهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: قد وثقه يحيى بن معين في رواية. الجرح والتعديل (2/ 480)، ضعفاء العقيلي (1/ 186). وقال أحمد: صالح الحديث. الجرح والتعديل (2/ 480). ووثقه يعقوب بن سفيان. تهذيب التهذيب (2/ 79). وقال النسائي: لا بأس به. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: صدوق. الجرح والتعديل (2/ 480). وقال أبو داود: صدوق شيعي، حدث عنه عبد الرحمن بن مهدي. تهذيب التهذيب (2/ 79). ولكنه علته أبو خالد يزيد بن عبد الرحمن الدالاني، قال ابن حبان في المجروحين (1/ 105): كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، يخالف الثقات في الروايات، إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة علم أنها معلولة مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد عنهم بالمعضلات. وقال يعقوب بن سفيان: منكر الحديث. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة وفي حديثه لين، إلا أنه مع لينه يكتب حديثه. الكامل (7/ 277). وقال البخاري: صدوق، وإنما يهم في الشيء. وقال يحيى بن معين: ليس به بأس. الكامل (7/ 277). وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. الجرح والتعديل (9/ 277). وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيراً. وكان يدلس. اهـ وقد جعله الحافظ في المرتبة الثالثة من المدلسين، كما في مراتب المدلسين (113)، وقد عنعن هذا الحديث. وأخرجه الطبراني في الكبير (6099) والدارقطني (1/ 156)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 189) من طريق عمرو القرشي، عن أبي هاشم به. قال الدراقطني: وعمرو القرشي هو أبو خالد الواسطي متروك الحديث. سنن الدارقطني (1/ 156). وقال أحمد ويحيى بن معين: أبو خالد الواسطي كذاب. المجروحين (2/ 76)، الضعفاء الكبير (3/ 268)، الجرح والتعديل (6/ 230). =

الدليل السادس

الدليل السادس: (1018 - 247) ما رواه الدارقطني من طريق عمران بن موسى، نا عمر ابن رياح، نا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله إذا رعف في صلاته توضأ، ثم بنى على ما بقي من صلاته (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

= وقال البخاري: منكر الحديث. الضعفاء الكبير (3/ 268). وقال وكيع: كان في جوارنا يضع الحديث، فلما فطن له تحول إلى واسط. الكامل (5/ 123). وقال أبو زرعة وابن راهوية: كان يضع الحديث. الجرح والتعديل (6/ 230). إتحاف المهرة (5920). (¬1) سنن الدارقطني (1/ 156). (¬2) ورواه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 190) والبيهقي في الخلافيات (652) من طريق الدارقطني به. ورواه ابن عدي في الكامل (5/ 51) من طريق عمران بن موسى الليثي البصري به. ورواه البيهقي في الخلافيات (653) من طريق سليمان بن أبي داود، ثنا عمر بن رياح به. وفي إسناده عمر بن رياح، قال الدارقطني: متروك. وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه إلا على وجه التعجب. المجروحين (2/ 86). وقال الفلاس: دجال. التاريخ الكبير للبخاري (6/ 156)، الكامل (5/ 51). وقال ابن عدي: ولعمر بن رياح غير ما ذكرت من الحديث، وهو مولى ابن طاوس ويروي عن ابن طاوس بالبواطيل ما لا يتابعه أحد عليه. المرجع السابق. وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/ 108). =

الدليل السابع

(1019 - 248) وروي عن ابن عباس من وجه آخر، أخرجه الدارقطني من طريق محمد بن سلمة عن ابن أرقم، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رعف أحدكم في صلاته، فلينصرف، فليغسل عنه الدم، ثم ليعد وضوءه، ويستقبل صلاته (¬1). قال الدراقطني: سليمان بن أرقم متروك (¬2). الدليل السابع: (1020 - 249) ما رواه الدارقطني من طريق عيسى بن المنذر،، نا بقية، عن يزيد بن خالد، عن يزيد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، قال: قال تميم الداري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوضوء من كل دم سائل (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). ¬

= وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (468). وفي التقريب: متروك، وكذبه بعضهم. إتحاف المهرة (7765). (¬1) سنن الدارقطني (1/ 152،153). (¬2) ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي في الخلافيات (651). وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 254) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (649) من طريق محمد بن سلمة به. وقال البيهقي في الخلافيات: وسليمان بن أرقم لا تقوم به حجة. (¬3) الدارقطني (1/ 157). (¬4) وأخرجه البيهقي في الخلافيات (647) من طريق أبي عتبة، ثنا بقية، ثنا يزيد بن خالد به. قال الدارقطني: عمر بن عبد العزيز لم يسمع من تميم الداري ولا رآه، ويزيد بن خالد ويزيد بن محمد مجهولان. اهـ ونقل البيهقي هذا الكلام عن الدارقطني وأقره كما في الخلافيات (2/ 340).

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (1021 - 250) ما رواه الدارقطني، من طريق حفص الفراء، ثنا سوار ابن مصعب، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القلس حدث (¬1). قال الدارقطني: سوار متروك، ولم يروه عن زيد غيره (¬2). الدليل التاسع: (1022 - 251) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن علي البزاز، نا محمد بن الفضل، عن أبيه، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس في القطرة والقطرتين وضوء إلا أن يكون دماً سائلاً (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 155). (¬2) ومن طريق حفص بن عمرو الفراء أخرجه البيهقي في الخلافيات (663). وسوار متفق على ضعفه، قال فيه ابن معين: لم يكن بثقة، ولا يكتب حديثه. وقال مرة: ليس بشيء. الكامل (3/ 454). وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (4/ 169). وقال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين (258). وقال ابن عدي: عامة ما يرويه ليس محفوظاً، وهو ضعيف. الكامل (3/ 455). (¬3) سنن الدارقطني (1/ 157). (¬4) ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي في الخلافيات (655)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 189). وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية، جاء في ترجمته: =

الدليل العاشر

الدليل العاشر: (1023 - 252) ما رواه البيهقي في الخلافيات من طريق سهل بن عفان السجزي، ثنا الجارود بن يزيد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعاد الوضوء من سبع: من إقطار البول والدم السائل، والقيء، ومن دسعة يملأ بها الفم، والنوم المضطجع، وقهقهة الرجل في الصلاة، ومن خروج الدم (¬1). قال البيهقي: سهل بن عفان مجهول، والجارود بن يزيد ضعيف في الحديث (¬2). ¬

= قال يحيى بن معين: كان كذاباً. الضعفاء الكبير (4/ 120). وقال أحمد حين سئل عنه: ذاك عجب، يجيئك بالطامات، ولم يرضه. المرجع السابق. وقال عمرو بن علي: متروك الحديث كذاب. الجرح والتعديل (8/ 56). وقال أبو حاتم الرازي: ذاهب الحديث ترك حديثه. المرجع السابق. وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (542). وفي التقريب: كذبوه. قلت: وقد اختلف على محمد بن الفضل في إسناده، فروي عنه كما سبق. ورواه الدارقطني (1/ 157) والبيهقي في الخلافيات (657) من طريق سفيان بن زياد، عن حجاج بن نصير، عن محمد بن الفضل، عن أبيه، عن ميمون، عن أبي هريرة، ذكره الدارقطني مرفوعاً، ونص البيهقي على أنه موقوف، ولم يذكر سعيداً في إسناده. وسفيان بن زياد وحجاج بن نصير ضعيفان، قاله الدارقطني ونقله عنه البيهقي في الخلافيات، والله أعلم. (¬1) الخلافيات للبيهقي (658). (¬2) المرجع السابق. وضعفه الزيعلي في نصب الراية (1/ 44) وعزاه للبيهقي في الخلافيات.

الدليل الحادي عشر

الدليل الحادي عشر: من الآثار عن مجموعة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنها: (1024 - 253) ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، كان إذا رعف انصرف، فتوضأ، ثم رجع، فبنى، ولم يتكلم (¬1). [وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو موقوف على ابن عمر] (¬2). (1025 - 254) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن صالح وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: إذا وجد أحدكم في بطنه رزأً أو قيئاً أو رعافاً فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬

(¬1) الموطأ (1/ 38). (¬2) ورواه الشافعي عن مالك كما في الخلافيات للبيهقي (664). كما رواه مالك في الموطأ (1/ 42) رواية محمد بن الحسن. كما رواه مالك في المدونة (1/ 38). ورواه عبد الرزاق في المصنف (3609) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (1/ 184)، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال: إذا رعف الرجل أو ذرعه القيء أو وجد مذياً فإنه ينصرف، فيتوضأ، ثم يرجع فيبني ما بقي على ما مضى إن لم يتكلم. وهذا سند صحيح، رجاله كلهم ثقات، وهو حديث قولي، وحديث مالك حديث فعلي. وأخرجه الشافعي في مسنده (1114) من طريق ابن جريج، عن الزهري به. (¬3) المصنف (1/ 13). (¬4) وقد رواه الدارقطني (1/ 156) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (665) من طريق وكيع به. =

(1026 - 255) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم بن سعد أبي يحيى، عن سلمان، قال: إذا أحدث أحدكم في صلاته، فلينصرف غير راع ¬

_ = وأخرجه البيهقي (2/ 256) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق به، فزال ما يخشى من عنعنة أبي إسحاق، فالإسناد حسن، وهو صحيح عن علي رضي الله عنه، وقول البيهقي: عاصم غير قوي ليس بدقيق، فقد وثقه علي بن المديني، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الترمذي في السنن (2/ 495): ثقة عند أهل الحديث. وفي التقريب: صدوق. والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف (3607) عن معمر، عن أبي إسحاق به. وأخرجه الدارقطني (1/ 156) من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، والحارث، عن علي، قال: إذا أم الرجل القوم، فوجد في بطنه رزءاً أو رعافاً أو قيئاً، فليضع ثوبه على أنفه، وليأخذ بيد رجل من القوم فليقدمه. ولم يذكر البناء على الصلاة، والحارث ضعيف. ورواه عبد الرزاق في مصنفه (3606) عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي بنحو لفظ يونس عن أبي إسحاق، إلا أنه زاد: فإن تكلم استقبل، وإلا اعتد بما مضى. ورواه البيهقي في السنن (1/ 256) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث به. قال البيهقي: والحارث الأعور ضعيف. ورواه البيهقي (2/ 256) من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن علي، ثنا عبد الله بن رجاء، ثنا إسرائيل، ثنا يزيد بن سعيد، عن أبيه، عن علي به. ورواه ابن أبي شيبة (2/ 13) حدثنا علي بن مسهر، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس، عن رجل، قال: إذا رعف الرجل في صلاته، أو قاء فليتوضأ، ولا يتكلم، وليبن على صلاته. قلت: ذكره ابن التركماني في الجوهر النقي نقلاً من ابن أبي شيبة إلا أنه قال: عن خلاس، عن علي. فتراجع نسخة أخرى للمصنف خشية من الغلط، قال ابن التركماني: هذا السند على شرط الصحيح، وخلاس أخرج له الشيخان. انظر إتحاف المهرة (14355).

الدليل الثاني عشر

لصنعه، فليتوضأ، ثم ليعد في آيته التي كان يقرأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثاني عشر: من القياس، حيث وجدنا خروج النجس من السبيلين حدثاً ناقضاً للوضوء، فكذلك خروج النجس من سائر البدن؛ لأن المعتبر هو الخارج وليس المخرج، فإذا خرج النجس من سائر البدن أوجب الطهارة؛ إذ الطهارة والنجاسة لا يجتمعان. ¬

(¬1) المصنف (2/ 13) (¬2) ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 170) من طريق وكيع به. ورواه عبد الرزاق (3608) والبيهقي في الخلافيات (668)، محمد بن الحسن الشيباني في الحجة على أهل المدينة (1/ 71)، عن الثوري به. قال البيهقي: وروى عمران بن ظبيان عن أبي يحيى حكيم بن سعد وليسا بالقويين، عن سلمان. اهـ وهذا سند ضعيف، فيه عمران بن ظبيان، جاء في ترجمته: قال البخاري: فيه نظر. التاريخ الكبير (6/ 424). وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. الجرح والتعديل (6/ 300). ووثقه يعقوب بن سفيان. تهذيب التهذيب (8/ 118). وذكره العقيلي (3/ 298) في الضعفاء وكذلك ذكره ابن عدي، الكامل (5/ 94). وفي التقريب: ضعيف، ورمي بالتشيع، تناقض فيه ابن حبان. أهـ قلت: يعني: من كونه ذكره في الثقات (7/ 239)، وذكره في المجروحين (2/ 124) وقال: كان ممن يخطئ، ولم يفحش خطؤه حتى يبطل الاحتجاج به، ولكن لا يحتج بما انفرد به من الأخبار.

وأجيب عنه بما قاله ابن المنذر: لا يجوز أن يشبه سائر ما يخرج من سائر الجسد بما يخرج من القبل أو الدبر؛ لأنهم قد أجمعوا على الفرق بين ريح تخرج من الدبر وبين الجشاء المتغير يخرج من الفم، فأجمعوا على وجوب الطهارة في أحدهما: وهو الريح الخارج من الدبر، وأجمعوا على أن الجشاء لا وضوء فيه، ففي إجماعهم على الفرق بين ما يخرج من مخرج الحدث، وبين ما يخرج من غير مخرج الحدث أبين البيان على أن ما خرج من سائر الجسد غير جائز أن يقاس على ما خرج من مخرج الحدث. وقال أيضاً: ليس وجوب الطهارات من أبواب النجاسات بسبيل، ولكنها عبادات، وقد يجب على المرء الوضوء بخروج الريح من دبره، وقد يجب بخروج المني، وهو طاهر غسل جميع البدن، ويجب بخروج البول غسل أعضاء الوضوء، والبول نجس، ويجب بالتقاء الختانين الاغتسال، ولو لم يحصل إنزال. (¬1) اهـ قلت: ويجب الوضوء أيضاً بأكل الشيء الطاهر كلحم الإبل على الصحيح، ولو غمس يده في نجاسة لم يجب عليه إلا غسل يده، ولو مس ذكره بيده وجب عليه الوضوء على الصحيح مع أنه عضو طاهر كسائر أعضائه، فهذه عبادات لا يجري في مثلها القياس، ثم إن كان الخارج النجس من غير السبلين حدثاً فلا فرق بين قليله وكثيره كسائر الأحداث من البول والغائط والريح، وإن كان ليس حدثاً فلا معنى للتفريق بين القليل والكثير. ¬

(¬1) الأوسط (1/ 175).

دليل من قال: لا يعتبر خروج النجس حدثا

دليل من قال: لا يعتبر خروج النجس حدثاً. الدليل الأول: (1027 - 256) ما رواه أحمد، من طريق شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء إلا من صوت أو ريح (¬1). [المحفوظ من الحديث أن هذا فيمن شك في الحدث، وهو في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً] (¬2). الدليل الثاني: (1028 - 257) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا سهل بن زياد، نا صالح ابن مقاتل بن صالح، نا أبي، نا سليمان بن داود أبو أيوب القرشي بالرقة، نا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المسند (2/ 471). (¬2) سبق تخريجه، انظر حديث رقم (998). (¬3) سنن الدارقطني (1/ 157). (¬4) ورواه البيهقي في السنن (1/ 141) وفي الخلافيات من طريق الدارقطني به. قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 43): قال الدارقطني: صالح بن مقاتل ليس بالقوي، وأبوه غير معروف، وسليمان بن داود مجهول " اهـ =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1029 - 258) ما رواه أحمد، من طريق محمد بن إسحاق، حدثني صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع، فأصيبت امرأة من المشركين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً، وجاء زوجها وكان غائبا، فحلف أن لا ينتهي حتى يهريق دماً في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلاً، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله. قال: فكونوا بفم الشعب، قال: وكانوا نزلوا إلى شعب من الوادي، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل أحب إليك أن أكفيكه أوله أو آخره؟ قال: اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم، فوضعه فيه فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم رماه بسهم آخر، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم عاد له بثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس فقد أوتيت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذروا به، فهرب فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله ألا أهببتني؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها ¬

_ = وفي تلخيص الحبير (1/ 113): في إسناده صالح بن مقاتل، وادعى ابن العربي أن الدارقطني صححه، وليس كذلك، بل قال عقبه في السنن: صالح بن مقاتل ليس بالقوي. اهـ ولم أقف على كلام الدارقطني في السنن المطبوعة. انظر إتحاف المهرة (877).

الدليل الرابع

حتى أنفذها، فلما تابع الرمي ركعت، فأريتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها (¬1). وجه الاستدلال: أن خروج الدم لو كان حدثاً لخرج من صلاته بمجرد خروجه، ولما أتم صلاته، وهو ينزف دماً. وأجيب: بأن الحديث ضعيف الإسناد منكر المتن (¬2). الدليل الرابع: (1030 - 259) ما رواه الدارقطني من طريق القاسم بن هاشم السمسان، نا عتبة بن السكن الحمصي، نا الأوزاعي، نا عبادة بن نسي وهبيرة ابن عبد الرحمن قالا: نا أبو أسماء الرحبي، أخبرنا ثوبان، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائماً في غير رمضان، فأصابه غم آذاه، فتقيأ، فقاء، فدعاني بوضوء، فتوضأ، ثم أفطر، فقلت: يا رسول الله أفريضة الوضوء من القيء؟ قال: لو كان فريضة لوجدته في القرآن. قال: ثم صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد، فسمعته يقول: هذا مكان إفطاري أمس (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المسند (3/ 343). (¬2) تم تخريجه ولله الحمد في كتاب أحكام النجاسات، في الكلام على نجاسة الدم. (¬3) سنن الدارقطني (1/ 159). (¬4) قال الدارقطني عقب روايته للحديث: لم يروه عن الأوزاعي غير عتبة بن السكن، وهو منكر الحديث. =

الدليل الخامس

بله ومتنه منكر؛ لأن الفرائض ليست كلها في القرآن، فإن ما في السنة من الفرائض أكثر مما في القرآن. الدليل الخامس: قالوا: إن الفرائض إنما تجب بكتاب أو سنة أو إجماع، وليس مع من أوجب الوضوء حجة، وقد أجمع العلماء على أن من توضأ فهو طاهر، واختلفوا في نقض طهارته بعد حدوث الرعاف أو القيء أو الحجامة أو غيرها من سائر النجاسات من البدن، وغير جائز أن تنقض طهارة مجمع عليها إلا بإجماع مثله، أو خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا معارض له (¬1). الدليل السادس: قال الشافعي: لم يختلف الناس في البصاق يخرج من الفم، والمخاط والنَّفس يأتي من الأنف، والجشاء المتغير وغير المتغير يأتي من الفم أن ذلك لا ¬

= ورواه الدارقطني في باب القبلة للصائم (2/ 184)، وقال: عتبة بن السكن متروك الحديث. ومن طريق الدارقطني رواه البيهقي في الخلافيات (661)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 191). قال البيهقي: هذا حديث منكر، ولا ينبغي لأحد من أصحابنا أن يعارضهم بذلك؛ لكيلا نكون وهو في الاحتجاج بالمناكير سواء، أعاذنا الله من ذلك بمنه. اهـ قلت: عتبة بن السكن، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/ 371). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 508)، وقال: يخطئ ويخالف. اهـ وقال البيهقي: عتبة بن السكن واهٍ منسوب إلى الوضع. لسان الميزان (4/ 128). وقال البزار: روى عن الأوزاعي أحاديث لم يتابع عليها. المرجع السابق. انظر إتحاف المهرة (2484). (¬1) انظر الأوسط لابن المنذر (1/ 174).

الدليل السابع

يوجب الوضوء، فدل ذلك على أن لا وضوء من قيء ولا رعاف ولا حجامة ولا شيء خرج من الجسد، ولا أخرج منه غير الفروج الثلاثة: القبل والدبر والذكر؛ لأن الوضوء ليس على نجاسة ما يخرج، ألا ترى أن الريح تخرج من الدبر ولا تنجس شيئاً، فيجب بها الوضوء، كما يجب بالغائط، وأن المني غير نجس والغسل يجب به، وإنما الوضوء والغسل تعبد (¬1). وقد نقلنا نحو هذا الكلام فيما تقدم عن ابن المنذر، والله أعلم. الدليل السابع: من الآثار. (1031 - 260) منها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن التيمي، عن بكر - يعني: ابن عبد الله المزني - قال: رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه، فخرج شيء من دم، فحكه بين إصبعيه، ثم صلى ولم يتوضأ (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

(¬1) الأم (1/ 18). (¬2) المصنف (1/ 128) رقم: 1469. (¬3) والتيمي: هو سليمان بن طرخان، ومن طريق ابن أبي شبية أخرجه البيهقي في السنن (1/ 141). ورواه عبد الرزاق في المصنف (553) عن بن التيمي - يعني: معتمر بن سليمان- عن أبيه وحميد الطويل، قالا: حدثنا بكر بن عبد الله المزني به. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 172) من طريق حماد، عن حميد به. وزاد: ورأى رجلاً قد احتجم بين يديه، وقد خرج من محاجمها شيء من دم، وهو يصلي، فأخذ ابن عمر، فسلت الدم، ثم وقتها في المسجد. اهـ وذكره البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين: القبل =

(1032 - 261) ومنها ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري وابن عيينة، عن عطاء بن السائب، قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى بصق دماً، ثم صلى، ولم يتوضأ (¬1). [إسناده حسن] (¬2). (1033 - 262) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عبيد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر أنه أدخل أصبعه في أنفه، فخرج عليها دم، فمسحه بالأرض أو التراب، ثم صلى (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬

= والدبر، قال البخاري: وعصر ابن عمر بثرة، فخرج منها الدم، ولم يتوضأ. قال الحافظ: وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. (¬1) المصنف (571). (¬2) الثوري قد روى عن عطاء بن السائب قبل تغيره. وقد رواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 172) من طريق سفيان به. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 117) من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن عطاء بن السائب به. ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، في كتاب الوضوء، باب (34) قال: بزق ابن أبي أوفى دماً، فمضى في صلاته. قال الحافظ: وصله سفيان الثوري في جامعه عن عطاء بن السائب، وسفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه، فالإسناد صحيح. اهـ قلت: عطاء صدوق، فالإسناد حسن، لكن يصح الأثر بشواهده. (¬3) المصنف (1/ 128). (¬4) وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/ 173) من طريق أبي نعيم، حدثنا عبيد الله بن حبيب به، وعبيد الله بن حبيب أخو عبد الله قد وثقه ابن معين كما في الجرح والتعديل =

(1034 - 263) ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير، قال: أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا احتجم غسل أثر محاجمه (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). (1035 - 264) ومنها ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن جعفر بن برقان، قال: أخبرني ميمون بن مهران، قال: ¬

= والتعديل (5/ 311)، وباقي رجاله ثقات إلا أبا الزبير فإنه صدوق، وأبو الزبير قد اتهم بالتدليس وقد أثبت أنه بريء من هذه التهمة في رسالتي (نقد مظاهر الإنصاف) جواب الدبيان على رد الجفن، وهي منشورة في الانترنت في موقع الوسطية والذي يشرف عليه الدكتور الداعية: محسن العواجي، ولعل الرسالة تطبع في المستقبل إن شاء الله تعالى ليستفاد منها، مع رسالة أخرى لها علاقة في نفس الموضوع سميتها تعزيز الإنصاف في بيان أن الأخذ من اللحية ليس فيه خلاف. (¬1) المصنف (1/ 47). (¬2) رجاله كلهم ثقات، ورواه البخاري تعليقاً في كتاب الوضوء، باب (34) قال البخاري: قال ابن عمر والحسن فيمن احتجم: ليس عليه إلا غسل محاجمه. ولفظ البخاري أوضح دلالة من لفظ ابن أبي شيبة، وذلك لأن لفظ الأثر عند ابن أبي شيبة لا يمنع أن ابن عمر كان يرى الوضوء منه، بخلاف لفظ البخاري فإنه ساقه مساق النفي والإثبات. ورواه البيهقي (1/ 140) من طريق الحسن بن علي بن عفان، نا عبد الله بن نمير به. قال ابن التركماني في الجوهر النقي: لا يدل ذلك على ترك الوضوء إلا من باب مفهوم اللقب، وتقدم أنه ليس بحجة، وأن أكثر العلماء لا يقولون به. اهـ وقد روى ابن المنذر في الأوسط (1/ 179) من طريق هشيم، عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا احتجم يغسل أثر محاجمه، ويتوضأ، ولا يغتسل. إلا أن هذا الإسناد ضعيف، فيه عنعنة هشيم، وهو مدلس، وفيه حجاج بن أرطأة، وهو ضعيف أيضاً على تدليس فيه، وقد عنعن.

رأيت أبا هريرة أدخل أصبعه في أنفه، فخرجت مخضبة دماً، ففته، ثم صلى، فلم يتوضأ (¬1). [المحفوظ عن ميمون بن مهران عن من رأى أبا هريرة] (¬2). وأجاب أصحاب القول الأول عن هذه الآثار. أجاب الحنابلة بأن النقض مقيد بشرطين: الأول: أن يكون الخارج نجساً. ¬

(¬1) المصنف (556). (¬2) الإسناد رجاله كلهم ثقات إلا جعفر بن برقان فإنه صدوق، وإنما ضعف في الزهري خاصة. قال أحمد: إذا حدث عن غير الزهري فلا بأس به وفي حديث الزهري يخطئ. الجرح والتعديل (2/ 474). وقال النسائي ويحيى بن معين: نحو كلام أحمد. انظر المرجع السابق، وتهذيب الكمال (5/ 15). وقال ابن نمير: ثقة، أحاديثه عن الزهري مضطربة. وفي التقريب: صدوق يهم في حديث الزهري خاصة. وقد اختلف فيه على ميمون بن مهران: فرواه جعفر بن برقان كما في مصنف عبد الزراق والأوسط لابن المنذر (1/ 173) عن ميمون بن مهران، رأيت أبا هريرة .... ورواه غيلان بن جامع، عن ميمون بن مهران، قال: أنبأنا من رأى أبا هريرة يدخل أصابعه في أنفه، فيخرج عليها الدم، فيحته، ثم يقوم يصلي. وهذا السند فيه رجل مبهم، فيكون ضعيفاً، وهو المحفوظ من فعل أبي هريرة؛ لأن غيلان ابن جامع أوثق من جعفر بن برقان، فغيلان قد وثقه ابن معين وابن المديني ويعقوب بن شيبة، وأبو داود، وفي التقريب: ثقة.

الثاني: أن يكون فاحشاً. وهذه الآثار دليل على أن الخارج النجس إذا كان يسيراً لا ينقض الوضوء، أرأيت ابن عمر، فإنه كما ثبت عنه أنه عصر بثرة، فصلى ولم يتوضأ، صح عنه أيضاً أنه كان إذا رعف انصرف فتوضأ، ثم رجع فبنى، ولم يتكلم. رواه مالك، عن نافع، عنه وسبق تخريجه. ورد عليهم: بأنه لو كان خروج النجس حدثاً لما كان هناك فرق بين القليل والكثير، قياساً على سائر الأحداث من البول والغائط والريح ونحوها. وأجاب العلماء القائلون بعدم النقض عن الآثار الواردة في الرعاف، بما قاله ابن عبد البر: قال: حمله أصحابنا على أنه غسل ولم يتكلم، وبنى على ما صلى، قالوا: وغسل الدم يسمى وضوءاً؛ لأنه مشتق من الوضاءة، وهي النظافة، قالوا: فإذا احتمل ذلك لم يكن لمن ادعى على ابن عمر أنه توضأ للصلاة في دعواه ذلك حجة لاحتماله الوجهين: قالوا: وكذلك تأولوا حديث سعيد بن المسيب؛ لأنه قد ذكر الشافعي وغيره عنه أنه رعف فمسحه بصوفة، ثم صلى ولم يتوضأ، قالوا: ويوضح ذلك فعل ابن عباس أنه غسل الدم عنه وصلى، وحمل أفعالهم على الاتفاق منهم أولى. وخالف في ذلك أهل العراق في هذا التأويل، فقالوا: إن الوضوء إذا أطلق ولم يقيد بغسل دم وغيره فهو الوضوء المعلوم للصلاة، وهو الظاهر من إطلاق اللفظ ... . الخ كلامه رحمه الله (¬1). ¬

(¬1) الاستذكار (2/ 266).

الراجح من الخلاف

قلت: الأصل حمل الكلام على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر أو ليس له حقيقة شرعية قدمت الحقيقة اللغوية، فإن تعذر حمل على الحقيقة العرفية، والله أعلم. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين الذي يظهر والله أعلم أن القول بأن خروج النجس من غير السبيلين لا ينقض الوضوء إلا أن يكون بولاً أو غائطاً أو ريحاً وقد انسد المخرج المعتاد هو القول الراجح، وأما الآثار التي وردت عن ابن عمر وعن غيره بسند صحيح عن الوضوء من الرعاف، والبناء على الصلاة بعده، فمع أن الدم من الإنسان ليس نجساً - كما حررت ذلك والحمد لله في قسم النجاسات من هذه السلسلة- فهو على خلاف القياس؛ لأن إيجاب الوضوء من الرعاف يعني: بطلان الطهارة، وبطلان الطهارة يلزم منه بطلان الصلاة كخروج البول والريح إذا خرجا من المصلي أثناء الصلاة، فإنه يجب استئناف الصلاة بعد إعادة الطهارة، فصحة الآثار من الصحابة لا نقاش فيه عند اجتماعهم، فإن ثبت الخلاف عن الصحابة كان الأمر واسعاً، وتقديم قول الصحابي الذي يوافق القياس أولى من غيره، وإن لم يثبت الخلاف بينهم، بحيث لا يعلم مخالف لقول من قال بالبناء، فإنا نقول به، ولو خالف القياس، لكن لا نتعداه إلى غيره، ولا نقول بوجوبه من كل خارج نجس، وإنما يقتصر على ما ورد عن الصحابة، والله أعلم. قال ابن عبد البر: وأما بناء الراعف على ما قد صلى، ما لم يتكلم، فقد ثبت في ذلك عن عمر، وعلي وابن عمر، وروي عن أبي بكر أيضاً، ولا مخالف لهم في ذلك من الصحابة إلا المسور بن مخرمة وحده، وروي أيضاً البناء

للراعف على ما صلى ما لم يتكلم عن جماعة من التابعين بالحجاز والعراق والشام، ولا أعلم بينهم في ذلك اختلافاً إلا الحسن البصري فإنه ذهب في ذلك مذهب المسور بن مخرمة، إلى أنه لا يبني من استدبر القبلة في الرعاف ... الخ كلامه رحمه الله تعالى. ولم ير ابن عبد البر من الآثار السابقة من خروج الدم من أنف أبي هريرة، وابن عمر وجابر وعدم الوضوء من ذلك أن ذلك مخالف للآثار الواردة عن الصحابة في الانصراف من الصلاة للرعاف، وذلك ربما لأنه يرى أن خروج الدم من الأنف يسير لا ينقض الوضوء، والله أعلم. وقال ابن التركماني: ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء البناء عن عليِّ وابن عمر وعلقمة، ثم قال: ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة إلا شيئاً يروى عن المسور بن مخرمة، فإنه قال: يبتدئ صلاته، ثم ذكر كلام ابن عبد البر المتقدم قريباً (¬1). اهـ والعجب كيف يعتبر الكلام مبطلاً للصلاة، ولا يرون إبطال الطهارة بالرعاف مبطلاً للصلاة، مع العلم أن الطهارة شرط من شروط الصلاة، يلزم من عدمها عدم الصلاة، والكلام من محظورات الصلاة، ولكن ليس بمثابة الطهارة من الصلاة، وفعل المأمورات أشد من ترك المحظورات، فإن الإنسان لو تكلم ناسياً في صلاته أو جاهلاً صحت صلاته، ولو صلى بدون طهارة ناسياً أو جاهلاً لم تصح منه الصلاة، ولكن لا بد من التسليم للصحابة إن كان لم يحفظ خلاف في المسألة بينهم، فإن قول الصحابي حجة إذا لم يعلم له مخالف، وما ينسب للمسور بن مخرمة لم أقف على إسناده. ¬

(¬1) الجوهر النقي (2/ 256 - 257).

وهذا مالك رحمه الله تعالى، وهو لا يرى خروج النجس من غير السبيلين ناقض للوضوء يقول بالرعاف خاصة. قال ابن رشد: واختار مالك رحمه الله تعالى بالبناء على الاتباع للسلف وإن خالف ذلك القياس والنظر، وهذا على أصله أن العمل أقوى من القياس؛ لأن العمل المتصل لا يكون أصله إلا عن توقيف، وقال أيضاً: ليس البناء في الرعاف بواجب، وإنما هو من قبيل إما الجائز أو المستحب (¬1). ¬

(¬1) المقدمات (1/ 107).

الفصل الثالث: من نواقض الوضوء زوال العقل

الفصل الثالث: من نواقض الوضوء زوال العقل المبحث الأول: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالجنون والإغماء ونحوهما إذا زال العقل بجنون أو إغماء أو سكر فإن الوضوء ينتقض إجماعاً، إلا وجهاً مرجوحاً لبعض الشافعية في السكران (¬1). قال النووي: ولا خلاف في شيء من هذا إلا وجهاً للخرسانيين أنه لا ينتقض وضوء السكران إذا قلنا له حكم الصاحي في أقواله وأفعاله. قال النووي: وهذا غلط صريح، فإن انتقاض الوضوء منوط بزوال العقل، فلا فرق بين العاصي والمطيع (¬2). اهـ ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: البدائع (1/ 30)، تبيين الحقائق (1/ 10)، البحر الرائق (1/ 41)، شرح فتح القدير (1/ 51)، مراقي الفلاح (ص: 37). وانظر في مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/ 294)، حاشية الدسوقي (1/ 118)، أسهل المدارك (1/ 61)، القوانين الفقهية (ص: 29)، تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة (1/ 398)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 10)، حاشية الخرشي (1/ 154)، المقدمات الممهدات (1/ 141). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/ 24)، الحاوي (1/ 182)، روضة الطالبين (1/ 74)، نهاية المحتاج (1/ 113)، وانظر في مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 325)، شرح منتهى الإردات (1/ 70)، الفروع (1/ 178)، الإنصاف (1/ 199)، شرح الزركشي (1/ 236). (¬2) المجموع (2/ 25).

وزوال العقل ليس حدثاً في نفسه، وإنما هو مظنة الحدث كالنوم. والجنون والإغماء قليله وكثيره ناقض للوضوء، وسواء كان قاعداً أو مضطجعاً أو قائماً، وأما الجنون فالذي ينقض الوضوء هو الذي لا يبقى معه شعور. قال ابن المنذر: «وأجمعوا على إيجاب الطهارة على من زال عقله بجنون أو إغماء» (¬1). وقال النووي: أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء بالجنون والإغماء (¬2). وفي المجنون خلاف هل يجب عليه الوضوء أو يجب عليه الاغتسال؟ فالمشهور أن الجنون لا يوجب إلا الوضوء. وقيل: يجب عليه الغسل (¬3). وليس مع من أوجب الغسل على المجنون دليل إلا قولهم: إن الجنون غالباً لا ينفك عن الإنزال، وما كان مظنة للحدث نزل منزلة الحدث كالنوم. ¬

(¬1) الأوسط (1/ 155). (¬2) المجموع (2/ 5). (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 38): " وقد قيل: قلما جن إنسان إلا أنزل، فإن كان هكذا اغتسل المجنون للإنزال، وإن شك فيه أحببت له الاغتسال احتياطاً، ولم أوجب عليه ذلك حتى يستيقن الإنزال. اهـ وقال النووي بعد أن نقل كلام الشافعي في الأم، قال: اختلف الأصحاب في هذه المسألة، فجزم المصنف - يعني صاحب المهذب - وجماعات من المحققين بأن غسل المجنون إذا أفاق سنة، ولا يجب إلا أن يتيقن خروج المني. وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وجماعات من الأصحاب: إن كان الغالب من حال الذين يجنون الإنزال، وجب الغسل إذا أفاق وإن لم يتحقق الإنزال، كما نوجب الوضوء بالنوم مضطجعاً للظن الغالب، فإن لم يكن الإنزال غالباً لم يجب الغسل بالشك. اهـ

وقد رد ذلك النووي، فقال: الصحيح أنه يستحب الغسل لا يجب حتى يتيقن خروج المني، فإن القواعد تقتضي أن لا تنتقض الطهارة إلا بيقين الحدث، خالفنا ذلك في النوم بالنصوص التي جاءت، وبقي ما عداه على مقتضاه. اهـ قلت: حتى استحباب الغسل يحتاج إلى بحث، وذلك أنه ثبت الغسل في حق المغمى عليه، كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته (¬1)، فهل كان غسله بسبب الإغماء، أو كان غسله بسبب حاجته إلى الخروج إلى الصلاة، فكان بحاجة إلى القوة والنشاط، ثم هل يقاس عليه الجنون بجامع أن كلاً منهما قد زال عقله، أو يقال: إن الغسل قد يحدث قوة ونشاطاً في حق المغمى عليه، ولا يوجد هذا المعنى في حق المجنون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المجنون لو تحققنا من نزول المني منه فهل يكفي مثل هذا في إيجاب الغسل عليه، أو لا بد من خروج المني دفقاً بلذة، فالشافعية يوجبون الغسل بمجرد خروج المني بأي صورة خرج. وقيل: لا يجب الغسل إلا إذا خرج المني دفقاً بلذة إلا أن يكون خروج المني من النائم فإن خروجه مطلقاً يوجب الغسل، وسيأتي تحرير هذه المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الغسل، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر الحديث في صحيح البخاري (687)، ومسلم (418).

المبحث الثاني: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالنوم

المبحث الثاني: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالنوم اختلف العلماء في نقض الوضوء بالنوم، فقيل: لا ينقض الوضوء بالنوم مطلقاً، وهو مذهب أبي موسى رضي الله عنه، وسعيد بن المسيب وأبي مجلز وحميد الأعرج (¬1). وقيل: النوم حدث ناقض للوضوء مطلقاً، وهو مذهب إسحاق، وأبي عبيد القاسم بن سلام والمزني (¬2). وقيل: إن نام مستلقياً أو مضطجعاً انتقض، وإلا فلا، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬3). وقيل: النوم الثقيل ناقض مطلقاً، قصر أم طال، والنوم الخفيف لا ينقض مطلقاً قصر أم طال، لكن إن طال استحب منه الوضوء. وضابط الثقيل: ما لا يشعر صاحبه بالأصوات، أو بسقوط شيء من يده، أو سيلان ريقه ونحو ذلك، فإن شعر بذلك فهو نوم خفيف، وهذا مذهب المالكية (¬4). ¬

(¬1) حلية العلماء (1/ 145)، المجموع (2/ 20). (¬2) المجموع (2/ 20). (¬3) شرح فتح القدير (1/ 48، 49)، الهداية شرح البداية (1/ 15)، البحر الرائق (1/ 29)، حاشية ابن عابدين (1/ 142). (¬4) التمهيد (18/ 241)، حاشية الدسوقي (1/ 119)، مواهب الجليل (1/ 294 - 295)، القوانين الفقهية (ص: 21 - 22).

دليل من قال: النوم لا ينقض مطلقا

وقيل: إن نام ممكناً مقعده من الأرض أو نحوها لم ينتقض على أي هيئة كان في الصلاة أو في غيرها، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬1). وقيل: لا ينقض النوم اليسير من قاعد أو قائم، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا ينقض النوم في الصلاة على أي هيئة كان، وهو قول للشافعي في القديم (¬3). وسبب اختلاف العلماء في النوم اختلافهم فيه هل هو حدث في نفسه فيجب الوضوء في قليله وكثيره، أو ليس بحدث فلا ينتقض منه الوضوء، أو أنه سبب في حصول الحدث ومظنة لحصوله، ففرقوا بين النوم الثقيل والخفيف، وبين هيئة القاعد والمضطجع. دليل من قال: النوم لا ينقض مطلقاً. الدليل الأول: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم ¬

(¬1) المهذب (1/ 23)، حلية العلماء (1/ 145)، الوسيط (1/ 315)، روضة الطالبين (1/ 74)، مغني المحتاج (1/ 34). (¬2) المبدع (1/ 159)، شرح العمدة (1/ 299)، الإنصاف (1/ 199)، الكافي (1/ 43)، كشاف القناع (1/ 125). (¬3) الوسيط (1/ 316).

من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} الآية (¬1). فذكر سبحانه نواقض الوضوء ولم يذكر النوم. ويجاب بما يلي: أولاً: أن الآية ما سيقت مساق الحصر للنواقض، بل ذكرت بعض النواقض، والسنة بينت الباقي، ولهذا لم تذكر الآية زوال العقل، وهو حدث بالإجماع. ثانياً: أن قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (¬2)، ظاهر الآية أن من قام إلى الصلاة فعليه أن يتوضأ، لكن قال الشافعي: سمعت من أرضى علمه بالقرآن يزعم أنها نزلت في القائمين من النوم، قال الشافعي: وما قال كما قال؛ لأن في السنة دليلاً على أن يتوضأ من قام من نومه (¬3)، ثم ذكر بعض الأحاديث التي سوف يأتي ذكرها عند من يرى النوم حدثاً ناقضاً للوضوء، والله أعلم. وقال ابن عبد البر: قال زيد بن أسلم وغيره في تأويل قول الله عز وجل {إذا قمتم إلى الصلاة} قال: إذا قمتم من المضاجع، يعني: النوم، وكذلك قال السدي (¬4). قلت: وتحتمل الآية معنيين آخرين ذكرهما العلماء: ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) المائدة: 6. (¬3) الأم (1/ 12). (¬4) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 302).

الدليل الثاني

الأول: أن تكون الآية عني بها تجديد الوضوء في وقت كل صلاة إذا قام المرء إليها. المعنى الثاني: أن تكون الآية عني بها حال القيام إلى الصلاة من غير طهر. الدليل الثاني: (1036 - 265) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء إلا من صوت أو ريح (¬1). وجه الاستدلال: أن الحديث نفى أن يكون هناك ناقض إلا من المخرجين القبل والدبر، فدل على ن النوم ليس ناقضاً. وأجيب: بأن الحديث وإن كان رجاله كلهم ثقات إلا سهيل بن أبي صالح فإنه حسن الحديث إلا أن الحديث وقع فيه اختصار أفسد معناه، وقد بينت ذلك في الاستدلال على أن الريح من نواقض الوضوء، فانظره مشكوراً (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 471). (¬2) انظر رقم الحديث (1001) من هذا الكتاب.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: إذا كان النوم ليس حدثاً في نفسه، وإنما أوجب الوضوء من أوجبه لاحتمال خروج الريح، فالأصل عدم الخروج، فلا يجب الوضوء بالشك ما دامت الطهارة متيقنة، فالشك لا يقضي على اليقين. فقد روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن زيد شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. وأجيب: بأن الشارع الذي قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً هو الذي أوجب الوضوء من النوم، ثم إن الشك قد يقوى حتى يصل إلى درجة الظن، والظن قد تعبدنا به بالجملة عند تعذر اليقين، ولذلك إذا شك المصلي في صلاته تحرى، والتحري ظن، قد يطابق الواقع وقد يخالفه، وإذا أمكن التحري عمل به، ولو لم يرد في النوم دليل خاص لكان مقيساً على من زال عقله بإغماء أو جنون، فكيف وقد وردت أحاديث صحيحة في النوم بكونه ناقضاً للوضوء، والله أعلم. الدليل الرابع: (1037 - 266) حديث أنس، رواه مسلم، من طريق خالد هو ابن الحارث، حدثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنساً يقول: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون، قال: قلت: سمعته من أنس؟ قال: إي والله (¬1). ¬

(¬1) مسلم (376).

[هذا اللفظ هو المحفوظ من حديث أنس وزاد بعضهم: «على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» كما زاد بعضهم: «حتى تخفق رؤوسهم» وزاد آخرون: «فيضعون جنوبهم» وكل ذلك ليس بمحفوظ، والله أعلم] (¬1). ¬

(¬1) هذا الإسناد يرويه عن قتادة جماعة من أصحابه، منهم شعبة، وهشام وسعيد بن أبي عروبة ومعمر وأبو هلال وبعضهم يزيد فيه ما ليس في حديث الآخر، وإليك بيان هذا الاختلاف. الأول: شعبة، عن قتادة. رواه خالد بن الحارث كما عند مسلم (376)، وأبو عامر العقدي كما عند أبي عوانة (1/ 266)، وشبابة كما في مسند أبي يعلى (3240) وهاشم بن القاسم كما في شرح مشكل الآثار (3448) أربعتهم عن شعبة، عن قتادة، ولم يختلف عليهم في لفظه: " كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يصلون لا يتوضؤون ". ورواه يحيى بن سعيد، عن شعبة، واختلف على يحيى فيه: فرواه أحمد (3/ 277) عن يحيى به بلفظ خالد بن الحارث وأبي عامر العقدي وشبابة وهاشم بن القاسم. ورواه محمد بن بشار، عن يحيى واختلف على ابن بشار فيه: فرواه البيهقي (1/ 120) من طريق تمتام، نا محمد بن بشار، نا يحيى بن سعيد به، بلفظ: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يقومون، فيصلون ولا يتوضؤون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزاد فيه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتمتام، قال فيه الدارقطني كما في تذكرة الحفاظ (2/ 615)، وتاريخ بغداد (3/ 143، 146): ثقة محمود مأمون إلا أنه يخطئ. وهذه الزيادة لم أقف عليها إلا من طريق تمتام، فلا أظنها محفوظة. ورواه الترمذي (78) حدثنا محمد بن بشار به بلفظ الجماعة، ولم يقل فيه: على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه محمد بن عبد السلام الخشني، عن محمد بن بشار كما في المحلى (1/ 213) من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = طريق قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار به، بلفظ: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون، فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقومون إلى الصلاة " ومحمد بن عبد السلام الخشني ثقة، له ترجمة في تذكرة الحفاظ (2/ 649) إلا أن رواية أحمد عن يحيى بن سعيد القطان مقدمة على رواية ابن بشار عنه، أولاً: لإمامة أحمد رضي الله عنه. وثانياً: أن ابن بشار قد اختلف عليه في لفظ الحديث، فرواية من لم يختلف عليه مقدمة على رواية من لم يضبط الحديث، فرواية الترمذي عن ابن بشار، عن يحيى موافقة لرواية أحمد عن يحيى، كما أن رواية تمتام، عن محمد بن بشار ليس فيها " يضعون جنوبهم " فلفظه موافق للفظ الجماعة إلا أنه زاد عليهم قوله: " على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ثالثاً: أن ابن بشار قد تكلم فيه بعضهم، فكان ابن معين لا يعبأ به، ويستضعفه، وكان القواريري لا يرضاه، والحق أنه ثقة لكنه قد يسهو ويغلط من غير عمد، ولذلك قال أبو داود: لولا سلامة في بندار لترك حديثه، وقد يقال: إن الخطأ من الراوي عن محمد بن بشار؛ لأن الترمذي قد رواه عنه كرواية الجماعة. ورواه البزار في مسنده كما في نصب الراية (1/ 47) وتلخيص الحبير (1/ 21) من طريق عبد الأعلى، عن شعبة به، بلفظ: " كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقوم إلى الصلاة " فخالف عبد الأعلى خالد بن الحارث عند مسلم وأبا عامر العقدي عن أبي عوانة، وشبابة عند أبي يعلى وهاشم بن القاسم عند الطحاوي في المشكل، ويحيى بن سعيد من رواية أحمد عنه، فكل هؤلاء لم يذكروا لفظ " يضعون جنوبهم " إلا ما كان من طريق محمد بن عبد السلام الخشني، عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد به، وتكلمت عليها. جاء في تلخيص الحبير (1/ 210): قال الخلال: قلت لأحمد: حديث شعبة كانوا يضعون جنوبهم؟ فتبسم، وقال: هذا بمرة يضعون جنوبهم. اهـ فتبين من هذا أن لفظ شعبة تضمن زيادتين: الأولى: قوله: " على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " انفرد بها تمتام، وهو وإن كان ثقة إلا أنه يخطئ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثانية: زيادة " يضعون جنوبهم " جاءت من طريق محمد بن بشار، انفرد عنه بذكرها محمد بن عبد السلام الخشني، وقد روى الحديث الترمذي وتمتام عن محمد بن بشار بدون ذكر هذه الزيادة. كما جاءت من طريق عبد الأعلى، عن شعبة، وأما باقي الرواة عن شعبة فلم يذكروها، هذا وإن كنت ضعفت هذه الزيادة من طريق شعبة إلا أنها جاءت من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بسند رجاله ثقات كما سيأتي. هذا ما يمكنني أن أقوله عن رواية شعبة، عن قتادة، والله أعلم. الطريق الثاني: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. ررواه أبو يعلى الموصلي في مسنده (3199) حدثنا عبيد الله - يعني القواريري - حدثنا خالد - يعني: ابن الحارث - حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس أو عن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يضعون جنوبهم، فينامون، منهم من يتوضأ، ومنهم من لا يتوضأ. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، وسعيد بن أبي عروبة روى عنه خالد بن الحارث قبل اختلاطه، وأخرج الشيخان البخاري ومسلم حديث ابن أبي عروبة من طريق خالد بن الحارث، عنه، وقد زاد فيه سعيد قوله: " كانوا يضعون جنوبهم " قال أبو حاتم عن سعيد: هو قبل أن يختلط ثقة، وكان أعلم الناس بحديث قتادة. وقال أبو داود الطيالسي: كان أحفظ أصحاب قتادة. وقال يحيى بن معين كما في تهذيب الكمال (11/ 9): أثبت الناس في قتادة سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي، وشعبة، فمن حدثك من هؤلاء الثلاثة بحديث - يعني: عن قتادة- فلا تبالي أن لا تسمعه من غيره. اهـ وإذا كان سعيد بن أبي عروبة من أثبت أصحاب قتادة، فإن خالد بن الحارث من أثبت أصحاب سعيد بن أبي عروبة، قال ابن عدي: وأثبت الناس عنه - يعني: عن ابن عروبة - يزيد بن زريع وخالد بن الحارث. اهـ وقد روى أبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم (829) من طريق بندار، ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة به، بلفظ: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يقومون، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فيصلون، ولا يتوضؤون، قال: سمعته من أنس؟ قال: إي والله. وهذا اللفظ أرجح من رواية خالد بن الحارث عن سعيد، لأنه موافق لرواية شعبة وغيره عن قتادة، والله أعلم. وأخرجه البزار (282) حدثنا ابن المثني، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد به، بلفظ خالد ابن الحارث، عن سعيد. وهذا سند صالح في المتابعات؛ لأن ابن أبي عدي وإن كان ثقة إلا أنه سمع من سعيد بعد اختلاطه، لكن متابعة خالد بن الحارث تقويه، وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 248) عن رواية أبي يعلى والبزار: ورجاله رجال الصحيح. اهـ الطريق الثالث: هشام الدستوائي، عن قتادة. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 123) حدثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن أنس، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفقون برؤوسهم، ينتظرون صلاة العشاء، ثم يقومون، فيصلون، ولا يتوضؤون ". وهذا سند رجاله كلهم ثقات، وزاد فيه هشام قوله: " يخفقون برؤوسهم " فإنها لم ترد من حديث قتادة إلا من طريق هشام. وأخرجه الداقطني (1/ 131) من طريق وكيع به. وأخرجه أبو داود (200) ومن طريقه أخرجه أخرجه البيقهي في السنن (1/ 119)، وابن عبد البر كما في فتح البر (3/ 310)، قال أبو داود: حدثنا شاذ بن فياض، قال: حدثنا هشام الدستوائي به. وصححه أبو داود. وقد جاء لفظ: " حتى تخفق رؤوسهم " من غير طريق قتادة، لكن في سندها مبهم، فقد أخرج الشافعي في الأم (1/ 12) ومن طريقه أخرجه البغوي في شرح السنة (163) قال الشافعي: أخبرنا الثقة، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء، فينامون. أحسبه قال: قعوداً حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون". الطريق الرابع: عن معمر، عن قتادة به، أخرجه عبد الرزاق (483) عن معمر، عن قتادة، عن أنس، قال: لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقظون للصلاة، وإني لأسمع لبعضهم غطيطاً - يعني: وهو جالس - فما =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يتوضؤون. قال معمر: فحدثت به الزهري، فقال رجل عنده: أو خطيطاً. قال الزهري: لا، قد أصاب غطيطاً. وأخرجه الداقطني (1/ 130) والبيقهي (1/ 120) من طريق ابن المبارك، أنا معمر، عن قتادة، عن أنس، قال: لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً. قال ابن المبارك: هذا عندنا، وهم جلوس. قال الدراقطني: صحيح. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا أن معمراً انفرد عن قتادة بقوله: " وإني لأسمع لبعضهم غطيطاً " ولم يذكر هذه الزيادة أصحاب قتادة المقدمين فيه، من أمثال شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة، ورواية معمر عن قتادة فيها كلام، قال ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري (1/ 299): قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: قال معمر: جلست إلى قتادة، وأنا صغير، لم أحفظ عنه الأسانيد. قال الدارقطني في العلل: معمر سيء الحفظ لحديث قتادة. اهـ وبالتالي تكون رواية سماع الغطيط زيادة شاذة. وأما تصحيح الدارقطني مع كون هذا التصحيح في السنن، وليس في العلل، وبينهما فرق كبير فلعله يقصد تصحيح الحديث في الجملة باعتبار أن مسلماً قد أخرج هذا الحديث، وقد رواه الطبقة الأولى من أصحاب قتادة مثل شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة، ولم يقصد تصحيح ما خالف فيه معمر أصحاب قتادة، لأني سبق أن نقلت عن الدارقطني قوله: معمر سيء الحفظ لحديث قتادة. الطريق الخامس: أبو هلال الراسبي، عن قتادة. أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3444) والدارقطني في السنن (1/ 130) من طريقين عن أبي هلال به، بلفظ: " كنا نأتي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ننتظر الصلاة، فمنا من ينعس وينام، أو ينعس، ثم يصلي ولا يتوضأ. وهذا إسناد فيه لين، أبو هلال الراسبي قال فيه الحافظ في التقريب: صدوق فيه لين، وقد تفرد بقوله: " فمنا من ينعس وينام، أو ينعس " والله أعلم. هذا ما وقفت عليه من طرق الحديث، وإذا تبين أن لفظة " على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ليست محفوظة في الحديث لم يكن حجة إلا دلالته على إجماع الصحابة، لقوله: " كان =

وأجيب عن هذا الحديث: بأن المراد منه نوم الجالس الممكن مقعدته، حمله على هذا ابن المبارك كما تقدم بيانه في الحاشية، وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي كما في تلخيص الحبير (¬1). لكن يمنع منه زيادة «فيضعون جنوبهم» على القول بصحة هذه الزيادة. وحمله بعضهم على النوم الخفيف قال القرطبي في المفهم: «وهذا النوم في هذه الأحاديث هو الخفيف المعبر عنه بالسنة التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم}» ثم قال: «قال المفضل: السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب». اهـ ولا بد من الجمع بين هذه الحديث وبين الأحاديث الموجبة للوضوء أو إثبات التعارض. فإن قلنا بالجمع بينهما ففيها ما تقدم ذكره من الجمع. وإن قلنا بالتعارض فإن الأحاديث الموجبة للوضوء ناقلة عن البراءة الأصلية فتكون مقدمة على غيرها، والأولى القول بالجمع؛ لأنه لا يصار إلى التعارض والجمع ممكن. ¬

= أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون ... الحديث. فإنه ظاهر في حكاية الاتفاق عنهم، وإن كان هذا الاطلاق ليس صريحاً في الإجماع؛ لأن لفظ " كان " قد تدل على فعل الأغلب لا على فعل الكل، والله أعلم، خاصة أنه ثبت عن بعض الصحابة كما سيأتي من يرى مطلق النوم حدثاً ناقضاً للوضوء، لكن جاءت أحاديث صريحة في الرفع بمعنى حديث أنس كما سيأتي إن شاء الله تعالى. انظر أطراف المسند (1/ 490)، تحفة الأشراف (1271)، إتحاف المهرة (1500، 1619). (¬1) تلخيص الحبير (1/ 210).

الدليل الخامس

قال ابن حبان في صحيحه: الرقاد له بداية ونهاية، فبدايته النعاس الذي هو أوائل النوم، وصفته أن المرء إذا كلم فيه سمع، وإن أحدث علم، إلا أنه يتمايل تمايلاً، ونهايته زوال العقل، وصفته أن المرء إذا أحدث في تلك الحالة لم يعلم، وإن كلم لم يفهم، فالنعاس لا يوجب الوضوء على أحد قليله وكثيره على أي حالة كان الناعس، والنوم يوجب الوضوء على من وجد على أي حالة كان النائم على أن اسم النوم قد يقع على النعاس، والنعاس على النوم، ومعناهما مختلفان، والله عز وجل فرق بينهما بقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} الخ كلامه رحمه الله تعالى (¬1). الدليل الخامس: (1038 - 267) ما رواه الشيخان من طريق عبد الوارث، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلاً في جانب المسجد فما قال إلى الصلاة حتى نام القوم (¬2). زاد البخاري ومسلم من طريق شعبة، عن عبد العزيز به، ثم قام فصلى (¬3). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (¬4): ((وقع عند إسحاق بن راهوية في مسنده، عن ابن علية، عن عبد العزيز في هذا الحديث: (حتى نعس بعض ¬

(¬1) صحيح ابن حبان (3/ 383). (¬2) البخاري (642)، ومسلم (123 - 376). (¬3) البخاري (692)، ومسلم (124 - 376). (¬4) فتح الباري في شرحه لحديث (642).

القوم) وكذا هو عند ابن حبان من وجه آخر، عن أنس، وهو يدل على أن النوم لم يكن مستغرقاً)) (¬1). ¬

(¬1) الحديث يرويه عبد العزيز بن صهيب وثابت وحميد عن أنس، فأما طريق عبد العزيز بن صهيب، فإنه يرويه عنه شعبة وعبد الوارث عنه، عن أنس بلفظ النوم. وطريق شعبة في الصحيحين (خ 6292) ومسلم (376). وطريق عبد الوارث في الصحيحين أيضاً انظر البخاري (642) ومسلم (376). ورواه ابن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، واختلف على ابن علية فيه: فرواه زهير بن حرب كما في صحيح مسلم (376). ويعقوب بن إبراهيم الدرقي كما في صحيح ابن خزيمة (1527) عن ابن علية بلفظ النوم. ورواه إسحاق بن راهوية عن ابن علية بلفظ النعاس. الطريق الثاني: ثابت البناني عن أنس. واختلف على ثابت فيه، فرواه أصحاب ثابت بلفظ النعاس، فقد رواه أحمد (3/ 160) عن أبي كامل وعفان، وأخرجه أيضاً (3/ 239) من طريق عمارة - يعني: ابن زاذان. ورواه عبد الرزاق (2046) ومن طريقه أخرجه الترمذي (518) وعبد بن حميد كما في المنتخب (1249). ورواه عبد بن حميد أيضاً (1324) ثنا محمد بن الفضل. وأبو داود (201) حدثنا موسى بن إسماعيل وداود بن شبيب. وأبو عوانة (1/ 266) من طريق عبيد الله بن عمر. وأبو يعلى في مسنده (3309) من طريق إبراهيم بن الحجاج. وابن حبان (4544) من طريق هدبة بن خالد. تسعتهم رووه عن حماد، عن ثابت البناني به، بلفظ: النعاس. وخالفهم حبان بن هلال عند مسلم (376) فرواه عن حماد به بلفظ النوم. =

الدليل السادس

الدليل السادس: (1039 - 268) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة قالت أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعشاء حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج، فقال: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض ¬

_ = الطريق الثالث: طريق حميد عن أنس، وهو الطريق الذي عناه الحافظ بقوله: بأنه موجود من وجه آخر عند ابن حبان (2035) والحق أنه موجود في مسند أحمد (3/ 114) عن يحيى بن سعيد القطان. وابن حبان (2035) من طريق هشيم. والبغوي في شرح السنة (443) من طريق يزيد بن هارون، ثلاثتهم عن حميد، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - نجي لرجل حتى نعس أو كاد ينعس بعض القوم. اهـ فلم يجزم حتى بحصول النعاس من القوم. ولفظ ابن حبان: أقيمت الصلاة ذات يوم فعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فكلمه في حاجة له هوياً من الليل حتى نعس بعض القوم ". ورواه أحمد (3/ 205) حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد به. وهذا الحديث قد دلسه حميد عن أنس، وقد رواه حميد، عن ثابت عن أنس كما في البخاري (643) لكن اختصره البخاري على مقدار الشاهد منه، قال البخاري: باب الكلام إذا أقيمت الصلاة، ثم ساق الحديث من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن حميد، قال: سألت ثابتاً البناني عن الرجل يتكلم بعد ما تقام الصلاة فحدثني عن أنس بن مالك، قال: أقيمت الصلاة فعرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فحبسه بعد ما أقيمت الصلاة " ورواه أبو داود (542) من طريق عبد الأعلى به. اهـ فرجعت رواية حميد عن أنس إلى رواية ثابت عن أنس، وقد خرجنا طريق ثابت عن أنس. ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (1188) من طريق الأعمش، عن أنس به، بلفظ النعاس، والأعمش لم يسمع من أنس.

غيركم، قال: ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول. ورواه مسلم (¬1). ورواه الشيخان من حديث ابن عمر (¬2)، ومن حديث ابن عباس (¬3). الجواب عن هذه الأحاديث: هذه الأحاديث تحتمل عدة احتمالات، منها: الاحتمال الأول: أن يكونوا قد توضؤوا؛ لأن الأحاديث لم تنص على أنهم صلوا بلا وضوء. الاحتمال الثاني: أن يكون النوم منهم بصورة النعاس، وهو مقدمة النوم، وليس نوماً مستغرقاً. الاحتمال الثالث: أن يكون النوم حصل منهم حال الجلوس، وقد كان من قاعد ممكن مقعدته. الاحتمال الرابع: أن يكون الأمر قبل إيجاب الوضوء من النوم، فإن الأحاديث الموجبة ¬

(¬1) البخاري (569) ومسلم (638). (¬2) البخاري (570)، ومسلم (639). (¬3) البخاري (571)، ومسلم (642).

الدليل السابع

للوضوء شاغلة للذمة، وهذه الأحاديث على البراءة، وإذا ورد كل هذه الاحتمالات على الحديث بطل منه الاستدلال. الدليل السابع: (1040 - 269) ما رواه مسلم من طريق كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: بت ليلة عند خالتي ميمونة بنت الحارث فقلت لها: إذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأيقظيني، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، قال: فصلى إحدى عشرة ركعة ثم احتبى حتى إني لأسمع نفسه راقداً، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين (¬1). وجه الاستدلال: قوله: «فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني». وأجيب عن هذا: بأن الحديث يصلح ردّاً لمن يرى النوم ناقضاً للوضوء مطلقاً على تقدير بأن قوله: إذا أغفيت: أي نمت، وليس معناه نعست، وأما من يرى أن النوم مظنة الحدث، وأنه لا ينقض الوضوء إذا أمن خروج الحدث سواء كان ذلك بقيام، أو بقعود على هيئة معينة، أو لكون النوم خفيفاً غير مستغرق فلا يعترض عليهم بهذا الحديث، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح مسلم (763)، والحديث في البخاري لكن انفرد مسلم بموضع الشاهد منه، وهو قوله: " فجعلت إذا غفيت أخذ بشحمة أذني ... ألخ.

دليل من قال: إن النوم ناقض للوضوء مطلقا

دليل من قال: إن النوم ناقض للوضوء مطلقاً. الدليل الأول: (1041 - 270) ما رواه أحمد من طريق عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي فسألته عن المسح على الخفين؟ فقال: كنا نكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم (¬1). [الحديث حسن وسبق تخريجه في كتاب المسح على الحائل] (¬2). وجه الاستدلال: قرن الحديث النوم بالبول والغائط في إيجاب الوضوء منه، ولم يفرق بين قليله وكثيره، ولا بين القاعد والمضطجع فدل على أن النوم حدث مطلقاً. الدليل الثاني: من القياس أن العلماء مجمعون على إيجاب الوضوء على من زال عقله بجنون أو إغماء إذا أفاق على أي حال كان ذلك منه، فكذلك النائم عليه ما على المغمى عليه على أي حال كان ذلك منه؛ لأنه زائل العقل. الدليل الثالث: (1042 - 271) ما رواه أحمد، قال: حدثنا علي بن بحر، حدثنا بقية بن الوليد الحمصي، حدثني الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، ¬

(¬1) أحمد (4/ 239). (¬2) انظر حديث رقم (62)، وقد طبع قبل هذه المجموعة، وهو جزء من هذه السلسلة.

عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن السه وكاء العين فمن نام فليتوضأ (¬1). [ضعيف الإسناد] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 111) وانقلب متنه على الراوي، والصحيح أن لفظه: " وكاء السه العينان، فمن نام فليتوضأ، وهذا لفظ أبي داود (203). (¬2) الحديث له ثلاث علل: الأولى: عنعنة بقية، ولا يشفع له كونه صرح بالتحديث من شيخه حتى يصرح بالتحديث من شيخ شيخه كذلك؛ لأنه متهم بتدليس التسوية. الثانية: الانقطاع حيث لم يسمع عبد الرحمن بن عائذ من علي. قال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 47) سألت أبي عن حديث رواه بقية عن الوضين بن عطاء، عن ابن عائذ، عن علي. وعن حديث أبي بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس، عن معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: العين وكاء السه؟ فقال: ليسا بقويين، وسئل أبو زرعة عن حديث ابن عائذ، عن علي بهذا الحديث، فقال: ابن عائذ عن علي مرسل. اهـ العلة الثالثة: الوضين بن عطاء سيء الحفظ. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب والطبراني في مسند الشاميين (656) عن علي بن بحر. وأخرجه أبو داود (203) والطبراني في مسند الشاميين (656) وابن عبد البر في التمهيد (18/ 247) عن حيوة بن شريح الحمصي. وأخرجه ابن ماجه (477) حدثنا محمد بن المصفى الحمصي. وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3432) من طريق حكيم بن سيف ويزيد بن عبد ربه. وأخرجه الدارقطني (1/ 161) من طريق سليمان بن عمر الأقطع. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه البيهقي (1/ 118) من طريق أبي عتبة. وأخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير (4/ 329) من طريق نعيم بن حماد. وابن عدي في الكامل (7/ 88) سليمان بن عمر بن خالد. وأخرجه المزي في تهذيب الكمال (27/ 289) من طريق علي بن الحسين الخواص، كلهم رووه عن بقية بن الوليد به. وله شاهد من حديث معاوية، ومدار إسناده على أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس، عن معاوية بن سفيان مرفوعاً. ويرويه عن أبي بكر بن أبي مريم ثلاثة، بكر بن يزيد وبقية والوليد بن مسلم، وهاك تخريج ذلك من كتب الحديث. فقد أخرجه عبد الله بن أحمد عن أبيه وجادة من طريق بكر بن يزيد، قال: أخبرنا أبو بكر يعني: ابن أبي مريم، عن عطية بن قيس الكلاعي، أن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن العينين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء. وأخرجه الدارمي (722) والطبراني في المعجم الكبير (19/ 372) رقم 875 عن محمد ابن المبارك. وأبو يعلى (7372) حدثنا إبراهيم بن حسين الأنطاكي. والطبراني في المعجم الكبير (19/ 372) من طريق حيوة بن شريح الحمصي والدارقطني (1/ 160) من طريق سليمان بن عمر، والطحاوي في مشكل الآثار (3434) من طريق سليمان بن عبد الله الرقي. والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 118) من طريق يزيد بن عبد ربه، خمستهم عن بقية بن الوليد، عن أبي بكر به. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1494) وفي المعجم الكبير (875)، والدارقطني (1/ 160) من طريق الوليد بن مسلم، عن أبي بكر به. وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم، جاء في ترجمته: قال عباس ومعاوية، عن يحيى يعني ابن معين: قال: أبو بكر بن أبي مريم الغساني =

دليل من قال: لا ينقض إلا نوم المضطجع

دليل من قال: لا ينقض إلا نوم المضطجع. الدليل الأول: (1043 - 272) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن محمد - وقال عبد الله بن أحمد: وسمعته أنا من عبد الله بن محمد - حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليس على من نام ساجدا وضوء حتى ¬

_ = شامي، ضعيف الحديث، ليس بشيء، وهذا مثل الأحوص بن حكيم ليس بشيء. الكامل (2/ 36) رقم 277. وقال حرب بن إسماعيل، عن أحمد: ضعيف، كان عيسى لا يرضاه. وقال الآجري، عن أبي داود: قال أحمد ليس بشيء. قال أبو داود: سرق له حلى فأنكر عقله. تهذيب التهذيب (12/ 33) وقال إسحاق بن راهويه: يذكر عن عيسى بن يونس، قال: لو أردت أبا بكر بن أبي مريم على أن يجمع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً لفعل، يعني: راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، وحبيب بن عبيد. المرجع السابق. وقال ابن عدي: الغالب على حديثه الغرائب، وقل ما يوافقه عليه الثقات، وأحاديثه صالحة، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولكن يكتب حديثه. المرجع السابق. قال الجوزجاني: ليس بالقوي في الحديث، وهو متماسك. أحوال الرجال (ص:172) وقال الذهبي: ضعفوه، له علم وديانة. الكاشف (2/ 411) وفي التقريب: ضعيف، وكان قد سرق بيته، فاختلط من السابعة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 247) رواه أحمد والطبراني في المعجم الكبير، وفيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف لاختلاطه. وقد سبق لنا أن ضعفه أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/ 47). إنظر أطراف المسند (4/ 445) و (7291)، تحفة الأشراف (10208)، إتحاف المهرة (14573، 16809).

يضطجع فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 256). (¬2) والحديث رواه ابن أبي شيبة (1/ 122) رقم 1397 وعبد بن حميد كما في المنتخب (659)، وأبو داود (202)، والترمذي (77)، وأبو يعلى في مسنده (2487)، والطبراني (12/ 157) ح 12748، والدارقطني (1/ 159 - 160)، والبيهقي (1/ 121) من طريق عبد السلام بن حرب به. والحديث قد ضعفه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود، والدارقطني والبيهقي وغيرهم كما سيأني النقل عنهم - إن شاء الله - في الكلام على علل الحديث، وله علل كثيره، منها: العلة الأول: سوء حفظ يزيد بن عبد الرحمن الدالاني. قال أبو أحمد الحاكم: لا يتابع في بعض حديثه. تهذيب الكمال (33/ 273). وقال ابن سعد: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (12/ 82). وقال ابن عبد البر: ليس بحجة. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان كثير الخطأ، فاحش الوهم يخالف الثقات في الروايات، حتى إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة علم أنه معلولة أو مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد عنهم بالمعضلات. المجروحين (3/ 105). وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وأروى الناس عنه عبد السلام بن حرب، وفي حديثه لين، إلا أنه مع لينه يكتب حديثه. مختصر الكامل (2169). وقال ابن معين والنسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (33/ 273). وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. الجرح والتعديل (9/ 277). وقال أحمد: لا بأس به. تهذيب التهذيب (12/ 83). وتوسط الحافظ في التقريب، فقال: صدوق يخطئ كثيراً. قلت: وهذا الحديث يعد من أخطائه كما سيأتي بيانه في العلة الثانية. العلة الثانية: المخالفة، فقد خالف يزيد الدالاني من هو أوثق منه، وذلك أن الحديث =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1044 - 273) ما رواه البيهقي من طريق بحر بن كنيز السقاء، عن ميمون الخياط، عن أبي عياض، عن حذيفة بن اليمان، قال: كنت في مسجد المدينة جالساً أخفق حتى احتضنني رجل من خلفي، فالتفت فإذا أنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله ¬

_ = عند أبي داود والترمذي وغيرهما بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسجد وينام وينفخ ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ قال فقلت له صليت ولم تتوضأ، وقد نمت فقال: إنما الوضوء على من نام مضطجعاً، قال أبو داود: قوله: " الوضوء على من نام مضطجعاً " هو حديث منكر، لم يروه إلا يزيد أبو خالد الدالاني عن قتادة، وروى أوله جماعة عن ابن عباس، ولم يذكروا شيئاً من هذا. قلت: الحديث في البخاري (138) وفي مسلم (763) عن ابن عباس في كون النبي نام حتى نفخ، وصلى ولم يتوضأ، وليس فيه زيادة " إنما النوم على من نام مضطجعاً " بل إنه في البخاري " اضطجع حتى نفخ ". وفيه مخالفة إسنادية أخرى، أشار إليها البخاري رحمه الله، فيما نقله عنه الترمذي في العلل الكبير (1/ 148) قال: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا لا شيء، رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن عباس قوله، ولم يذكر فيه أبا العالية، ولا أعرف لأبي خالد سماعاً من قتادة، وأبو خالد صدوق، وإنما يهم في الشيء. وقال أبو داود: ذكرت لأحمد بن حنبل حديث يزيد الدالاني فانتهرني استعظاماً له، وقال: ما ليزيد الدالاني يدخل على أصحاب قتادة، ولم يعبأ بالحديث. اهـ العلة الثالثة: لم يسمع قتادة هذا الحديث من أبي العالية. قال أبو داود: قال شعبة: إنما سمع قتادة من أبي العالية أربعة أحاديث: حديث يونس بن متى، وحديث ابن عمر في الصلاة، وحديث القضاة ثلاثة، وحديث ابن عباس: حدثني رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر. إتحاف المهرة (7336)، أطراف المسند (3/ 59)، تحفة الأشراف (5425).

الدليل الثالث

هل وجب علي وضوء؟ قال: لا حتى تضع جنبك (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: (1045 - 274) ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق عبد القاهر بن شعيب، قال: ثنا الحسن بن أبي جعفر، عن ليث بن أبي سليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من نام وهو جالس فلا وضوء عليه، فإذا وضع جنبه فعليه الوضوء. ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 120). (¬2) قال البيهقي: تفرد به بحر بن كنيز السقاء، عن ميمون الخياط، وهو ضعيف لا يحتج بروايته. اهـ وبحر بن كنيز متروك، جاء في ترجمته: قال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (82). وقال يزيد بن زريع: بحر السقاء كان لا شيء. الجرح والتعديل (2/ 418) رقم 1655. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: بحر السقاء لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف. المرجع السابق. وقد ضعفه العقيلي أيضاً بأبي عياض: زيد بن عياض، انظر الضعفاء الكبير (2/ 75). والحديث قد أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 54)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 75) من طريق بحر السقاء به. وأخرجه العقيلي أيضاً (2/ 75) من طريق بحر السقاء، عن ميمون الخياط، عن ضبة بن جوين، عن أبي عياض، عن حذيفة، فزاد في إسناده ضبة بن جوين.

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ليث إلا الحسن بن أبي جعفر، تفرد به عبد القاهر بن شعيب (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) الأوسط (6060). (¬2) في إسناده: الحسن بن أبي جعفر، قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (2/ 288). وقال النسائي: ضعيف، وقال في موضع آخر: متروك. الكامل (2/ 304)، وتهذيب التهذيب (2/ 227). وقال العجلي: ضعيف الحديث. معرفة الثقات (288). وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة، وهو يروي الغرائب خاصة عن محمد بن جحادة، وله عن غير ابن جحادة أحاديث مستقيمة صالحة، وهو عندي ممن لا يتعمد الكذب، وهو صدوق كما قاله عمرو بن علي، ولعل هذه الأحاديث التي أنكرت عليه توهمها توهماً، أو شبه عليه فغلط. الكامل (2/ 308). وقال ابن حبان: كان من المتعبدين المجابين الدعوة في الأوقات، ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظه، واشتغل بالعبادة عنها، فإذا حدث وهم فيما يروي، ويقلب الأسانيد، وهو لا يعلم حتى صار ممن لا يحتج به، وإن كان فاضلاً. المجروحين (1/ 237). وفي التقريب: ضعيف الحديث مع عبادته وفضله. وفي الإسناد أيضاً ليث بن أبي سليم، مشهور الضعف. والحديث رواه ابن عدي في الكامل (6/ 468) من طريق مهدي يعني ابن هلال، ثنا يعقوب: يعني ابن عطاء بن أبي رباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به، بلفظ: ليس على من نام قائماً أو قاعداً وضوء حتى يضع جنبه إلى الأرض. وابن هلال قد كذبه جماعة منهم يحيى بن سعيد وابن معين وأحمد وابن المديني وتركه الدارقطني. ويعقوب بن عطاء، قال في التقريب: ضعيف. =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1046 - 275) ما رواه الطبراني، من طريق جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام حتى نفخ، ثم قال: الوضوء على من اضطجع (¬1). [ضعيف جداً أو موضوع] (¬2). الدليل الخامس من الآثار: (1047 - 276) ما وراه عبد الرزاق في المصنف عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان ينام، وهو جالس، فلا يتوضأ، وإذا نام مضطجعاً أعاد الوضوء (¬3). [إسناده صحيح، وهو موقوف] (¬4). ¬

= وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 247) وفيه الحسن بن أبي جعفر الجفري، ضعفه البخاري وغيره، وقال ابن عدي: له أحايث صاحلة، ولا يتعمد الكذب. اهـ (¬1) المعجم الكبير (7948). (¬2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 248): وفيه جعفر بن الزبير، وهو كذاب. اهـ (¬3) المصنف (485). (¬4) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار (9/ 68) تابع ح 3448 من طريق حماد، عن أيوب به. وإسناده صحيح. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 132) والطحاوي في مشكل الآثار (9/ 68) من طريق يحيى بن سعيد، عن نافع به. ورواه عبد الرزاق (484) عن عبد الله بن عمر، عن نافع، وعبد الله بن عمر في حفظه شيء، لكنه قد زال بالمتابعة.

الدليل السادس

الدليل السادس من الآثار: (1048 - 277) ما رواه البيهقي من طريق أبي صخر، أنه سمع يزيد بن قسيط يقول: إنه سمع أبا هريرة يقول: ليس على المحتبي النائم، ولا على القائم النائم، ولا على الساجد النائم وضوء حتى يضطجع، فإذا اضطجع توضأ (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). الدليل السابع من الآثار: (1049 - 278) ما رواه مالك، عن زيد بن أسلم، ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 122). (¬2) في إسناده أبو صخر: حميد بن زياد الخراط. قال أحمد: ليس به بأس. الجرح والتعديل (3/ 222). واختلف قول يحيى بن معين، فقال ثقة ليس به بأس كما في رواية الدارمي عنه. المرجع السابق. وفي رواية إسحاق بن منصور قال يحيى: ضعيف. تهذيب التهذيب (3/ 36). وقال النسائي: ضعيف. تهذيب الكمال (7/ 368). وقال ابن عدي: هو عندي صالح الحديث، وإنما أنكرت عليه هذين الحديثين: " المؤمن مؤالف " وفي القدرية، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً. الكامل (2/ 269). وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/ 323). وقال الدارقطني: ثقة. تهذيب التهذيب (3/ 36). وفي التقريب: صدوق يهم. وباقي الإسناد رجاله ثقات.

الدليل الثامن

أن عمر بن الخطاب قال: إذا نام أحدكم مضطجعاً فليتوضأ (¬1). [وهذا إسناد منقطع، زيد لم يسمع من عمر] (¬2). الدليل الثامن من الآثار: (1050 - 279) ما رواه الطحاوي من طريق خالد بن إلياس، عن محمد وأبي بكر ابني المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: من نام وهو قاعد فلا وضوء عليه، ومن نام مضطجعاً فعليه الوضوء (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). دليل المالكية بأن النوم الثقيل ناقض للوضوء بخلاف الخفيف. الدليل الأول: (1051 - 280) ما رواه عبد الرزاق عن الثوري، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، ¬

(¬1) الموطأ (1/ 21). (¬2) إسناده منقطع، زيد بن أسلم لم يسمع من عمر بن الخطاب. ورواه عبد الرزاق في المصنف (482) عن مالك به. (¬3) مشكل الآثار (9/ 68). (¬4) في إسناده خالد بن إلياس العدوي، جاء في ترجمته: قال أحمد: متروك الحديث. الكامل (3/ 5). قال فيه البخاري: ليس بشيء، منكر الحديث. الضعفاء الكبير (2/ 3). وقال فيه النسائي: مدني متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (172). وقال ابن معين: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (3/ 70). وفي التقريب: متروك الحديث.

الدليل الثاني

عن ابن عباس قال: وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق خفقة برأسه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثاني: (1052 - 281) ما رواه أبو يعلى من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس أو عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يضعون جنوبهم، فينامون، فمنهم من يتوضأ، ومنهم من لا يتوضأ (¬3). [سبق تخريجه فيما سبق] (¬4). ¬

(¬1) المصنف (479). (¬2) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 124) رقم 1412 من طريق ابن إدريس، والبيهقي في السنن (1/ 119) من طريق سفيان، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد به، قال البيهقي: هكذا رواه جماعة عن يزيد بن أبي زياد موقوفاً. وروي ذلك مرفوعاً، ولا يثبت رفعه. اهـ وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، جاء في ترجمته: قال أحمد: لم يكن يزيد بن أبي زياد بالحافظ، ليس بذاك. الجرح والتعديل (9/ 265). قال أبو زرعة: لين يكتب حديثه، ولا يحتج به. الجرح والتعديل (9/ 265). وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. المرجع السابق. وقال ابن معين مرة: لا يحتج بحديثه. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (651). وقال العجلي: كوفي ثقة جائز الحديث. معرفة الثقات (2/ 364). وفي التقريب: ضعيف، كبر فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً. (¬3) مسند أبي يعلى (3199). (¬4) انظر تخريجه في حديث رقم (1037).

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: دل الحديث على أن النوم منه ما يوجب الوضوء ومنه ما لا يوجب الوضوء، فما كان ثقيلاً فإنه يوجب الوضوء، وما كان غير ذلك فإنه لا يوجب الوضوء ولو كان النائم مضطجعاً. قال ابن عبد البر: وروينا عن أبي عبيد أنه قال: كنت أفتي أن من نام جالساً لا وضوء عليه، حتى خرج إلى جنبي يوم الجمعة رجل، فنام، فخرجت منه ريح، فقلت له: قم فتوضأ، فقال: لم أنم. فقلت: بلى، وقد خرجت منك ريح تنقض الوضوء، فجعل يحلف أنه ما كان ذلك منه، وقال لي: بل منك خرجت، فتركت ما كنت أعتقد في نوم الجالس، وراعيت غلبة النوم (¬1). الدليل الثالث: (1053 - 282) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم وابن علية، عن الجريري، عن خالد بن علاق العبسي، عن أبي هريرة قال: من استحق نوماً، فقد وجب عليه الوضوء. زاد ابن علية: قال الجريري: فسألنا عن استحقاق النوم فقال: إذا وضع جنبه (¬2). [إسناده صالح إن شاء الله تعالى] (¬3). ¬

(¬1) الاستذكار (2/ 73). (¬2) المصنف (1/ 124) رقم 1416. (¬3) ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 145) من طريق حماد، عن سعيد الجريري به. ورواه البيهقي (1/ 119) من طريق شعبة وابن علية، كلاهما عن سعيد الجريري به. قال البيهقي: وقد روي ذلك مرفوعاً، ولا يصح رفعه. اهـ وسعيد الجريري روى عنه شعبة وابن علية قبل الاختلاط، وخالد بن علاق روى له مسلم، ولم يوثقه إلا ابن حبان.

دليل الشافعية على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء

وجه الاستدلال: قوله: (من استحق نوماً): أي من غلبه النوم، فخالطه حتى كان مستحقاً له، ومنه: إذا وضع جنبه، فيكون تفسير الوارد في الأثر وإن لم يكن منسوباً إلى أبي هريرة يكون تفسيراً له بالمثال، ولذلك أوردت الأثر في أدلة المالكية. وبناء على هذا القول حمل المالكية الأحاديث التي أوردناها في القول الأول على النوم الخفيف: كحديث عائشة (أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد) ومثله حديث ابن عمر وابن عباس، وكذلك حديث أنس: (كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يصلون ولا يتوضؤون) حملوا هذه الأحاديث على النوم الخفيف. دليل الشافعية على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء. الدليل الأول: (1054 - 283) ما رواه أبو داود من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس، كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون (¬1). [سبق تخريجه] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (200). (¬2) انظر أدلة القول الأول.

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: أن خفقان الرأس لا يكون إلا من القاعد، وأما المضطجع فلا يحصل ذلك منه، وعليه حملوا أحاديث القول الأول كحديث ابن عمر وابن عباس وعائشة في نوم الصحابة وهم ينتظرون صلاة العشاء بكونهم جلوساً، وإنما كان النوم من الجالس لا ينقض الوضوء؛ لأن النوم ليس حدثاً، وإنما هو مظنة الحدث، فإذا وجد النوم على صفة لا يكون سبيلاً إليه انتفى الحكم عنه. الدليل الثاني: (1055 - 284) حديث علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء. [سبق تخريجه والكلام عليه] (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العينين وكاء في حفظ السبيل، فكذلك الأرض تخلف العينين في حفظ السبيل. الدليل الثالث والرابع: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وحديث حذيفة، وسبق الكلام عليهما. ¬

(¬1) انظر حديث رقم (1042).

دليل الحنابلة على أن النوم ناقض للوضوء إلا يسيره من قاعد أو قائم

دليل الحنابلة على أن النوم ناقض للوضوء إلا يسيره من قاعد أو قائم. أما الدليل على أن يسير النوم لا ينقض من القاعد فلحديث أنس المتقدم: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يقومون، فيصلون، ولا يتوضؤون. وفي رواية: (حتى تخفق رؤوسهم) فالنائم يخفق رأسه من يسير النوم، فهو في اليسير متيقن، وفي الكثير محتمل، فلا نترك عموم الأحاديث الدالة على النقض مطلقاً إلا فيما كان متيقناً؛ ولأن نقض الوضوء بالنوم معلل بإفضائه إلى الحدث، ومع الكثير والغلبة يفضي إليه، ولا يحس بخروجه بخلاف اليسير، ولا يصح قياس الكثير على القليل لاختلافهما في الإفضاء إلى الحدث، والقائم كالقاعد في انضمام محل الحدث، فلا ينقض اليسير منه، وعليه حملوا جميع الأحاديث التي تدل على أن النوم ليس ناقضاً بأنه كان يسيراً من قاعد، والله أعلم. دليل من قال: لا ينقض النوم في الصلاة على أي هيئة كان. (1056 - 285) استدلوا بما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا نام العبد في صلاته باهى الله به ملائكته، يقول: انظروا لعبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي) (¬1). [لا يثبت من وجه صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2). ¬

(¬1) التلخيص لابن حجر (1/ 212). (¬2) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 212) أنكره جماعة منهم القاضي ابن العربي وجوده، وقد رواه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس، وفيه داود بن الزبرقان، وهو ضعيف، وروي من وجه آخر، عن أبان، عن أنس، وهو متروك، ورواه ابن شاهين في الناسخ =

ومع كون الحديث ضعيفاً فهو مخالف لحديث النهي عن الصلاة، وهو يغالبه النعاس، (1057 - 286) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه. ورواه مسلم أيضاً (¬1). هذه أهم الأقوال في المسألة، وهناك أقوال أخرى لم أتعرض لها لضعفها، والراجح في مسألة النوم أن مداره على الإحساس، فإن فقد الإحساس بحيث ¬

= والمنسوخ (199) من حديث المبارك بن فضالة، وذكره الدارقطني في العلل من حديث عباد بن راشد، كلاهما عن الحسن عن أبي هريرة، بلفظ: إذا نام العبد، وهو ساجد يقول الله: انظروا إلى عبدي " قال: وقيل: عن الحسن بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: والحسن لم يسمع من أبي هريرة. قال ابن حجر: وعلى هذه الرواية اقتصر ابن حزم وأعلها بالانقطاع، ومرسل الحسن أخرجه أحمد في الزهد، ولفظه: إذا نام العبد، وهو ساجد، يباهي الله به الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي، وهو ساجد لي، وروى ابن شاهين عن أبي سعيد معناه، وإسناده ضعيف. اهـ من تلخيص الحبير. قلت: رواية الحسن المرسلة أخرجها محمد بن نصر في كتابه تعظيم قدر الصلاة (298) من طريق المبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: أنبئت أن ربنا تبارك وتعالى يقول: إذا نام العبد، وهو ساجد ... الخ. وأخرجها ابن أبي عاصم في كتاب الزهد (280) من طريق أحمد، حدثنا عبد الصمد، حدثنا سلام، قال: سمعت الحسن يقول: إذا نام العبد وهو ساجد .... وذكره. وانظر علل الدارقطني (8/ 248). (¬1) صحيح البخاري (212)، ومسلم (78).

لو أحدث لم يشعر انتقض وضوءه، وإن كان إحساسه معه لكن معه مقدمات النوم، ويشعر بالأصوات من حوله، ولا يميزها من النعاس فإن طهارته باقية بذلك؛ لأن النوم ليس حدثاً في نفسه، قال ابن تيمية: ويدل على هذا ما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينام حتى ينفخ، ثم يقوم، فيصلي، ولا يتوضأ (¬1)؛ لأنه كانت تنام عيناه، ولا ينام قلبه، فكان يقظان، فلو خرج منه شيء لشعر به، وهذا يبين أن النوم ليس حدثاً في نفسه؛ إذ لو كان حدثاً لم يكن فيه فرق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره كما في البول والغائط وغيرهما من الأحداث (¬2). وبهذا تجتمع الأدلة، فحديث صفوان بن عسال دل على أن النوم ناقض للوضوء، وحديث أنس دل على أن النوم ليس بناقض، فيحمل حديث أنس على أن الإحساس ليس مفقوداً، فلو أحدث الواحد منهم لأحس بنفسه، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر البخاري (138)، ومسلم (763). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 229).

الفصل الرابع: في نقض الوضوء بمس الفرج

الفصل الرابع: في نقض الوضوء بمس الفرج المبحث الأول: الخلاف في نقض الوضوء من مس الذكر اختلف العلماء في مس الذكر، فقيل: لا ينقض الوضوء مس الذكر مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختيار سحنون من المالكية (¬2). وقيل: ينقض الوضوء من مسه مطلقاً، وهو اختيار أصبغ بن الفرج من المالكية (¬3)، ومذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم، فالشافعية يقيدون المس بباطن الكف، فإن مسه بغيره كما لو مسه بظاهر الكف لم ينقض، والحنابلة يعلقون النقض بمسه بالكف، ظاهره وباطنه. ¬

(¬1) انظر تبيين الحقائق (1/ 12)، البحر الرائق (1/ 45)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 10)، مراقي الفلاح (ص: 38)، شرح فتح القدير (1/ 56). (¬2) انظر مواهب الجليل (1/ 299)، حاشية الدسوقي (1/ 121). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 121). (¬4) الأم (1/ 19 - 20)، المجموع (2/ 38)، روضة الطالبين (1/ 75)، مغني المحتاج (1/ 35). (¬5) كشاف القناع (1/ 126)، شرح منتهى الإرادات (1/ 71)، المبدع (1/ 160)، الفروع (1/ 179) الإنصاف (1/ 202)، شرح الزركشي (1/ 243)، التحقيق (1/ 176)، المحرر (1/ 14).

دليل من قال بوجوب الوضوء من مس الذكر مطلقا

وقيل: يستحب الوضوء من مس الذكر، وهو اختيار المغاربة من المالكية (¬1). وقيل: إن مسه بشهوة أعاد الوضوء، وهو اختيار جماعة من البغدادين من أصحاب مالك (¬2). وقيل: إن مسه بعمد نقض، وإن مسه بغير عمد لم ينقض، اختاره بعض المالكية (¬3). فهذه خمسة أقوال في نقض الوضوء من مس الذكر، وهاك بيان أدلة كل قول من هذه الأقوال: دليل من قال بوجوب الوضوء من مس الذكر مطلقاً. الدليل الأول: (1058 - 287) ما رواه مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت على مروان بن الحكم، فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مس الذكر الوضوء؟ فقال عروة: ما علمت هذا؟ فقال مروان بن الحكم: ¬

(¬1) يرى المغاربة من أصحاب مالك: أن من مس ذكره فإنه يعيد الوضوء ما لم يُصلِّ، فإن صلى أمر بالإعادة في الوقت، فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه، وظاهر هذا القول استحباب الوضوء منه؛ لأنه لو كان واجباً أعاد مطلقاً في الوقت وبعده. انظر مواهب الجليل (1/ 299)، الخرشي (1/ 156)، الاستذكار (3/ 25)، حاشية الدسوقي (1/ 121)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 12)، المقدمات الممهدات (1/ 101). (¬2) انظر المراجع السابقة. (¬3) انظر المراجع السابقة.

أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ (¬1). [إسناده حسن، والحديث صحيح لغيره] (¬2). ¬

(¬1) الموطأ (1/ 42). (¬2) في إسناده مروان بن الحكم، اختلف العلماء فيه، قال ابن حبان: عائذ بالله أن نحتج بخبر رواه مروان بن الحكم وذووه في شيء من كتبنا؛ لأنا لا نستحل الاحتجاج بغير الصحيح من سائر الأخبار، وإن وافق ذلك مذهبنا. صحيح ابن حبان (3/ 397). وقال الذهبي: له أعمال موبقة، نسأل الله السلامة، رمى طلحة بسهم، وفعل وفعل. الميزان (4/ 89). وقال في سير أعلام النبلاء: كان كاتب ابن عمه عثمان، وإليه الخاتم، فخانه، وأجلبوا بسببه على عثمان رضي الله عنه، ثم نجا هو، وسار مع طلحة والزبير للطلب بدم عثمان، فَقَتَلَ طلحة يوم الجمل ونجى لا نجي. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: عد من موبقاته أنه رمى طلحة أحد العشرة يوم الجمل، وهما جميعاً، فقتل، ثم وثب على الخلافة بالسيف، واعتذرت عنه في مقدمة شرح البخاري. اهـ تهذيب التهذيب (10/ 92). وسوف أسوق اعتذاره قريباً إن شاء الله. هذا قول من جرح مروان بن الحكم، عفى الله عنه، وأما من وثقه: فقد أخرج البخاري حديثه في صحيحه، واحتج به مالك في الموطأ، وكفى بهما في معرفة الرجال وتنقيتهما لهم، وصحح ابن معين حديث مروان بن الحكم من هذا الطريق خاصة، وتصحيح الحديث من طريقه خاصة توثيقاً له، وقال الدارقطني: لا بأس به، وكذلك صحح حديثه الإمام أحمد وابن عبد البر. وسوف أنقل ذلك عنهم إن شاء الله تعالى. واعتذر ابن حجر في هدي الساري، فقال: " يقال له رؤية، فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه. وقال عروة بن الزبير: مروان لا يتهم بالحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الساعدي الصحابي اعتماداً على صدقه، وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم، فقتله، ثم شهر السيف في طلب الخلافة، حتى جرى ما جرى، فأما قتل طلحة فكان متأولاً فيه، كما قرره الإسماعيلي وغيره، وأما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميراً عندهم بالمدينة، قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا، والله أعلم، وقد اعتمد مالك على حديثه ورأيه، والباقون سوى مسلم. اهـ وقال البيهقي: هذا الحديث وإن لم يخرجه الشيخان فقد احتجا بجميع رواته، واحتج البخاري بمروان بن الحكم في عدة أحاديث، فهو على شرط البخاري بكل حال، وقال الإسماعيلي: يلزم البخاري إخراجه بعد إخراج نظيره. وقال الدارقطني: صحيح ثابت. قلت: من طعن في مروان إنما طعن فيه لأمرين: الأول: رميه طلحة بسهم، فقتله. وثانياً: أنه شهر السيف في طلبه للخلافة حتى جرى منه ما جرى. فأما رميه طلحة رضي الله عنه بسهم، فقد كان في ذلك متأولاً كما نقله الحافظ ابن حجر. وأما إشهاره السيف في طلب الخلافة فإنه حدث بهذا الحديث قبل أن يحصل منه ما يطعن فيه، وذلك حين كان أميراً على المدينة، فقد أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في المسند (6/ 407) قال عبد الله: وجدت في كتاب أبي بخط يده: ثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري أنه سمع عروة بن الزبير يقول: ذكر مروان في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مس الذكر ... وذكر الحديث، فهذا صريح في أن حديثه كان في زمن إمارته على المدينة. قال ابن حزم: لا نعلم لمروان شيئاً يجرح به قبل خروجه على ابن الزبير، وعروة لم يلقه إلا قبل خروجه على أخيه. وقال ابن حجر في التقريب: لا تثبت له صحبة، قال عروة بن الزبير: مروان لا يتهم في الحديث. اهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فالذي يظهر لي أن حديثه لا ينزل عن رتبة الحديث الحسن لذاته، والله أعلم، وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات، والله أعلم. والحديث يرويه عروة بن الزبير، ويرويه عن عروة جماعة منهم: الأول: عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة. أخرجها مالك في الموطأ كما في إسناد الباب، ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في الأم (1/ 19)، وأبو داود (181)، والنسائي (163)، وابن حبان في صحيحه (1112)، والبيهقي (1/ 128) وغيرهم. وقد تابع مالكاً جماعة منهم: الأول: سفيان بن عيينة، كما في مسند أحمد (6/ 406)، بلفظ: من مس فرجه فليتوضأ، قال: فأرسل إليها رسولاً وأنا حاضر، فقالت: نعم، فجاء من عندها بذاك. اهـ فذكر سفيان مس الفرج بدلاً من مس الذكر. وزاد على مالك قوله: " فأرسل إليها رسولاً .. ألخ وأخرجه الحميدي (352) عن سفيان به بمس الذكر كرواية مالك، إلا أنه ذكر في متنه قصة إرسال الرسول إلى بسرة. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (16) من طريق سفيان بنحو رواية الحميدي. واختلف على سفيان في إسناده، فرواه أحمد والحميدي وابن المقرئ عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن مروان، عن بسرة، كرواية الجماعة. ورواه النسائي (444) أخبرنا قتيبة، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، فأسقط ذكر مروان، ولا شك أن رواية الجماعة هي الصواب، خاصة أن النسائي قال: ولم أتقنه يعني: عن شيخه قتيبة. وصدق أبو عبد الرحمن رحمه اللهٍ. الثاني: ابن علية كما في المسند (6/ 406)، وابن أبي شيبة (1/ 150). الثالث: شعبة، كما في مسند أبي داود الطيالسي (1657)، بلفظ " الذكر " بدلاً من الفرج. الرابع: محمد بن إسحاق، كما في سنن الدارمي (725)، بلفظ " من مس فرجه " الخامس: الزهري، أخرجها عبد الله بن أحمد (6/ 406) قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده، ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال أخبرني عبد الله بن أبي بكر، به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد اختلف الرواة فيه على الزهري اختلافاً كثيراً جداً، وهذا الطريق هو أرجحها لموافقته رواية مالك وسفيان وإسماعيل ابن علية، وشعبة ومحمد بن إسحاق وسوف أتكلم عليها في طريق مستقل إن شاء الله تعالى. فتبين لي من خلال طريق عبد الله بن أبي بكر ما يلي: أولاً: أن الحديث يرويه مالك وشعبة وابن علية والزهري عن عبد الله بن أبي بكر بمس الذكر، ويرويه ابن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر واختلف عليه فيه: فرواه أحمد عن ابن عيينة بلفظ: " من مس فرجه ". ورواه الحميدي وابن المقرئ عن ابن عيينة كرواية الجماعة بمس الذكر. ورواه ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بلفظ: " من مس فرجه " ولا شك أن مالكاً وشعبة والزهري وابن علية مقدمون على ابن عيينة وابن إسحاق، وذلك لأن ابن عيينة قد اختلف عليه في لفظه، ولأن ابن إسحاق خفيف الضبط، حديثه من قبيل الحسن. ثانياً: إرسال مروان إلى بسرة رسولاً ليتثبت منها صحة الحديث قد اتفق على ذكره كل من ابن عيينة وشعبة وابن علية، فهو محفوظ من حديث عبد الله بن أبي بكر. واعلم أن طريق عبد الله بن أبي بكر هو أصح الطرق لحديث بسرة بنت صفوان، فقد احتج به مالك، وصححه يحيى بن معين من هذا الطريق خاصة، جاء في تلخيص الحبير (1/ 215): وفي سؤالات مضر بن محمد: قلت ليحيى بن معين: أي شيء يصح في مس الذكر؟ قال: حديث مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن عن مروان، عن بسرة، فإنه يقول فيه: سمعت، ولولا هذا لقلت: لا يصح فيه شيء. قال ابن حجر: فأثبت صحته لهذا الطريق خاصة، وصححه ابن عبد البر من حديث مالك. اهـ الطريق الثاني: الزهري، عن عروة، وقد ذكرت فيما سبق أن الزهري قد اختلف عليه اختلافاً كثيراً، سواء في لفظه أو في إسناده، وإليك بيان الاختلاف: فقيل: عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة، أخرجه عبد الله بن أحمد في المسند (6/ 407) والنسائي (164) من طريق شعيب. وأخرجه الطحاوي (1/ 72) من طريق الليث. وأخرجه البيهقي (1/ 132) من طريق عقيل. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كلهم عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة. وهذا الطريق هو أصح الطرق، لموافقته رواية مالك وشعبة وسفيان بن عيينة وابن علية وابن إسحاق، وقد تقدم الكلام عن هذه الطرق، ولأن هذا الطريق من رواية جماعة من أصحاب الزهري وخاصته، كالليث وشعيب وعقيل؛ ولأن من خالف هؤلاء إما ضعيف وإما مختلف عليه في الحديث مما يدل على عدم ضبطه. وقيل: عن الزهري، عن عروة، عن بسرة، بدون ذكر مروان. رواها معمر، عن الزهري، واختلف على معمر فيه: فرواه النسائي (445) من طريق شعبة، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة بدون ذكر مروان. ورواه عبد الرزاق في المصنف (411) ومن طريق عبد الرزاق أخرجها الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 71) عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: تذكرا هو ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال مروان: حدثتني بسرة. فذكر هنا الزهري مروان في الإسناد، وكونه أسقط عبد الله بن أبي بكر فهذا من تدليس الزهري، ولذلك لما صرح بالتحديث ذكر عبد الله بن أبي بكر كما في رواية أحمد المتقدمة (6/ 407)، ورواية النسائي (164). ورواية عبد الرزاق عن معمر أرجح من رواية شعبة عن معمر، لثلاثة أمور: الأول: لموافقتها رواية أصحاب الزهري كالليث وشعيب وعقيل وعبد الرحمن بن نمر كلهم اتفقوا على ذكر مروان في الإسناد. وهذا وحده كاف في ترجيح رواية عبد الرزاق على رواية شعبة. ثانياً: ولموافقتها من روى الحديث عن عبد الله بن أبي بكر كمالك وسفيان بن عيينة وابن علية وغيرهم. وثالثاً: أن عبد الرزاق يمني، وشعبة بصري، وحديث معمر باليمن أرجح منه بالبصرة، قال أبو حاتم كما في تهذيب الكمال: ما حدث معمر بالبصرة ففيه أغاليط. ورواه الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، واختلف على الوليد بن مسلم: فرواه هشام بن عمار كما في سنن البيهقي (1/ 132). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعبد الله بن أحمد بن ذكوان الدمشقي كما في صحيح ابن حبان (1117)، كلاهما عن الوليد بن مسلم، ثنا عبد الرحمن بن نمر اليحصبي، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة، بدون ذكر مروان. ورواه البيهقي (1/ 132) من طريق أبي موسى الأنصاري، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة. وهذا الطريق هو الصحيح، وأن الزهري يروي الحديث عن عبد الله بن أبي بكر، وعروة يرويه عن مروان لما سبق ذكره. وسوف يكون لي إن شاء الله تعالى وقفة أخرى عند هذا الطريق من جهة متنه. وقيل: عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، عن زيد بن خالد الجهني، فجعل الحديث من مسند زيد بن خالد، ترويه عنه بسرة، وبدون ذكر مروان بن الحكم. أخرجه عبد الرزاق (412) قال: أخبرنا ابن جريج، قال: حدثني ابن شهاب (الزهري)، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، أنه كان يحدث عن بسرة بنت صفوان، عن زيد بن خالد الجهني .... الحديث. وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات إلا أنه معلول. وفي كتاب العلل لابن أبي حاتم (1/ 32) ذكر طريق عبد الرزاق هذا، إلا أنه قال: عن عروة، عن بسرة وزيد بن خالد، ولعل هذا أقرب. وعلى كل حال فهو معلول، وعلته ابن جريج، فإنه وإن كان ثقة، وقد صرح بالتحديث إلا أن روايته عن الزهري فيها كلام. قال ابن معين: ابن جريج ليس بشيء في الزهري. وقال الذهبي: كان ابن جريج يرى الرواية بالإجازة والمناولة، ويتوسع في ذلك، ومن ثم دخل عليه الداخل في رواياته عن الزهري؛ لأنه حمل عنه مناولة، وهذه الأشياء يدخلها التصحيف، ولا سيما في ذلك العصر لم يكن حدث في الخط بعد شكل ولا نقط ... وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 32): سألت أبي عن حديث رواه عبد الرزاق وأبو =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قرة موسى بن طارق، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة وزيد بن خالد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مس الذكر. قال أبي: أخشى أن يكون ابن جريج أخذ هذا الحديث من إبراهيم بن أبي يحيى؛ لأن أبا جعفر حدثنا، قال: سمعت إبراهيم بن أبي يحيى، يقول: جاءني ابن جريج يكتب مثل هذا - خفض يده اليسرى ورفع يده اليمنى مقدار بضعة عشر جزءاً - فقال: أروي هذا عنك، فقال: نعم. اهـ وخالف محمد بن إسحاق ابن جريج، فرواه ابن أبي شيبة (1/ 150) حدثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن زيد بن خالد، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بلفظ: من مس فرجه فليتوضأ. وقيل: عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. رواه البزار كما في كشف الأستار (284) من طريق أبي عامر، وأخرجه الطحاوي (1/ 74) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، كلاهما عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي، عن عمرو بن شريح، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من مس فرجه فليتوضأ. وفي الإسناد: إبراهيم بن إسماعيل. قال أحمد: ثقة. تهذيب التهذيب (1/ 90). وقال ابن معين: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال وقال مرة: يكتب حديثه ولا يحتج به. المرجع السابق. وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (1/ 271). وقال أبو حاتم: شيخ ليس بالقوي يكتب حديثه، ولا يحتج به، منكر الحديث. تهذيب التهذيب (1/ 90). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (2). وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (1/ 90) وفي التقريب: ضعيف. وفي الإسناد أيضاً: عمرو بن شريح، جاء في ترجمته: قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 245): قال الأزدي: لا يصح حديثه. وروى ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/ 328) بإسناده من طريق الحسين بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحسن الخياط، أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من مس فرجه فليتوضأ. قال ابن عبد البر: وهذا إسناد منكر عن مالك، ليس يصح عنه، وأظن أن الحسين هذا وضعه، أو وهم فيه، والله أعلم. قلت: وهو مخالف لكل من رواه عن مالك: كالقعنبي ومعن وابن القاسم وأحمد بن أبي بكر، والشافعي وغيرهم فقد رووه كلهم عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة، وقد تقدم تخريج هذا الطريق. وقيل: عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عروة، عن بسرة. أخرجه الطحاوي (1/ 72) من طريق بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: أخبرني ابن شهاب، قال: حدثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حدثني عروة، عن بسرة بنت صفوان، أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يتوضأ الرجل من مس الذكر. فهذا إسناد رجاله كلهم ثقات إلا أن بشر بن بكر وإن كان ثقة إلا أنه قد قال فيه مسلمة بن صلة: روى عن الأوزاعي أشياء انفرد بها. لكنه هنا قد توبع، فقد تابعه أبو المغيرة كما في سنن الدارمي (724) وعبد الحميد بن حبيب كما في التمهيد انظر فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 330) كلاهما عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وقال الدارمي (عن ابن حزم) عن عروة به. وعبد الحميد في التقريب: صدوق ربما أخطأ، قال أبو حاتم: كان صاحب ديوان، ولم يكن صاحب حديث، وأما أبو المغيرة فهو ثقة، لكن انفراد الأوزاعي من بين أصحاب الزهري بإسقاط مروان يدل على شذوذ روايته، فقد تقدم لنا أن كلاً من شعيب وعقيل والليث، ومعمر من رواية عبد الرزاق عنه، كلهم رووه عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة بذكر مروان، كما أن رواية الأوزاعي مخالفة لكل من روى الحديث عن عبد الله بن أبي بكر: كمالك وشعبة وسفيان بن عيينة، وابن علية، فكلهم رووه بذكر مروان. وقد رجح ابن عبد البر رواية عبد الله بن أبي بكر على راوية أبيه؛ لأن الحديث عنده =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن عروة، عن مروان، عن بسرة. فقال " والمحفوظ في هذا الحديث رواية عبد الله بن أبي بكر له عن عروة، ورواية أبي بكر له عن عروة أيضاً، وإن عبد الله قد خالف أباه في إسناده والقول عندنا في ذلك قول عبد الله، هذا إن صح اختلافهما في ذلك، وما أظنه إلا ممن دون أبي بكر، وذلك أن عبد الحميد كاتب الأوزاعي رواه عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد، عن عروة، عن بسرة، وإنما الحديث لعروة عن مروان عبن بسرة، والمحفوظ أيضاً في هذا الحديث أن الزهري رواه عن عبد الله بن أبي بكر، لا عن أبي بكر، والله أعلم. اهـ كلام ابن عبد البر. قلت: ومما يرجح رواية عبد الله أنه ذكر أنه سمع الحديث هو وأبوه من عروة، كما تقدم من وراية أحمد (6/ 406) وابن الجارود (16) من طريق سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: تذاكر أبي وعروة ما يتوضأ منه، فأخبر عروة، أن مروان أخبره أنه سمع بسرة ... وكذا أخرجه أحمد (6/ 406) من طريق إسماعيل بن علية، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث أبي، قال: ذاكرني مروان مس الذكر، فهذان الطريقان يشهدان أن أبا بكر سمعه من عروة، عن مروان، عن بسرة. وقد أخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 73) من طريق الخصيب، قال: ثنا همام، عن هشام بن عروة، قال: حدثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عروة أنه كان جالساً مع مروان ... ثم ذكر الحديث، وفي آخره: " أرسل مروان إليها حرسياً يستثبت منها الحديث. فتبين بهذه الروايات شذوذ رواية أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، وأن المحفوظ رواية أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة. وبهذا أكون قد استكملت طرق الزهري، وقد تبين لنا الاختلاف عليه في هذا الحديث، لكن الراجح منها: رواية شعيب وعقيل والليث ومعمر لموافقتها رواية مالك وابن عيينة وشعبة وابن علية، وأن الحديث عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة. الطريق الثالث: هشام بن عروة، عن أبيه، واختلف على هشام: فقيل: عن عروة، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة. وهذا أصح الطرق. وقيل: عن عروة، عن أبيه، عن بسرة، بدون ذكر مروان. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقيل: عن عروة، عن أبيه، عن مروان، ثم إن عروة سأل بسرة فصدقته. وقيل: عنه، عن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة، فصار بين عروة وأبيه واسطة. وقيل: عن هشام، عن أبيه، عن عائشة. وإليك تفصيل هذه الطرق: أما طريق هشام، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة، بذكر مروان في الإسناد، فرواه جماعة عن هشام، منهم: الأول: أبو أسامة كما في سنن الترمذي (83)، وابن الجارود في المنتقى (17). الثاني: عبد الله بن إدريس كما في سنن ابن ماجه (479). الثالث: سفيان الثوري كما في صحيح ابن حبان كما في الموارد (213)، وسنن الدارقطني (1/ 146). الرابع: حماد بن سلمة كما في شرح معاني الآثار (1/ 72). الخامس: علي بن مسهر كما في شرح معاني الآثار (1/ 72). السادس: يزيد بن سنان فأخرجها الدارقطني (1/ 147). السابع: إسماعيل بن عياش، كما سنن الداقطني (1/ 147)، كلهم رووه عن هشام، عن عروة، عن مروان، عن بسرة. ورواه الحاكم كما في المستدرك (1/ 136) من طريق سليمان بن حرب ومحمد بن الفضل عارم وخلف بن هشام، قالوا: ثنا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، أن عروة كان عند مروان بن الحكم، فسئل عن مس الذكر، فلم ير به بأساً، فقال عروة: إن بسرة بنت صفوان حدثتني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وذكر الحديث. ولا أشك لحظة أن الحديث انقلب على حماد بن زيد؛ لأن جميع من رواه عن عروة يذكر عن عروة أنه أنكر على مروان حديثه في مس الذكر، فأخبره مروان أنه سمعه من بسرة، ولم يقل أحد أن عروة هو الذي حدث مروان، فانقلب الحديث على حماد بن زيد، لكن موضع الشاهد منه هو الذي يعنينا، وهو ذكر مروان في الإسناد. فهؤلاء ثمانية رواة يروونه عن هشام، عن عروة يذكرون مروان في الإسناد، وهو المحفوظ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأما رواية هشام بن عروة، عن عروة، عن بسرة بإسقاط مروان. فأخرجه أحمد (6/ 406)، والترمذي (82)، والنسائي (447) من طريق يحيى بن سعيد، عن هشام، قال: حدثني أبي أن بسرة بنت صفوان أخبرته ... وذكر الحديث. وقد صرح هشام بن عروة بالتحديث من أبيه، وصرح عروة بالسماع له من بسرة. ووراه ابن حبان (1115) من طريق علي بن المبارك، ورواه الدارقطني (1/ 148) من طريق أيوب، وابن عيينة وعبد الحميد بن جعفر فرقهم، أربعتهم عن هشام بن عروة به. وهذا الطريق بحذف مروان بن الحكم طريق شاذ؛ لأمور: أولاً: لمخالفته من رواه عن هشام، وقد وقفنا على ثمانية رواة: الثوري والحمادان وأبو أسامة وعبد الله بن إدريس وعلي بن مسهر ويزيد بن سنان وإسماعيل بن عياش كلهم رووه عن هشام بذكر مروان. وثانياً: أن من رواه عن هشام بذكر مروان روايته موافقة لرواية مالك وشعبة وابن علية وابن عيينة وابن شهاب عن عبد الله بن أبي بكر. وثالثاً: أن عبد الله بن أبي بكر لم يختلف عليه في الحديث، وهشام بن عروة مختلف عليه في إسناده، فإذا وافقت رواية هشام رواية عبد الله بن أبي بكر بذكر مروان قبلت من هذا الوجه، وصارت أرجح من غيرها، خاصة أن الذي يرويه عن هشام بذكر مروان من المتقدمين من أصحابه، وهم أكثر عدداً من غيرهم، والله أعلم. وأما رواية من أثبت سماع عروة من مروان، ثم سماع عروة من بسرة مصدقة لمروان. فقد رواه جماعة عن هشام: الأول: شعيب بن إسحاق، وهو ثقة، رواه الداقطني (1/ 146) والحاكم (1/ 136) والبيهقي (1/ 129) من طريق الحكم بن موسى، عن شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة به. والحكم بن موسى، قال أبو حاتم: صدوق. وقال يحيى بن معين: ليس به بأس. وقال صالح بن محمد جزرة: الثقة المأمون، وفي التقريب: صدوق. ورواه ابن حبان في صحيحه (1113) من طريق أحمد بن خالد بن عبد الملك، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا شعيب بن إسحاق به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأحمد بن خالد، قال عنه الدارقطني: ليس بشيء. انظر لسان الميزان (1/ 95). الثاني: المنذر بن عبد الله الحزامي، رواه الحاكم (1/ 137) من طريقه عن هشام به، والمنذر قال فيه الحافظ في التقريب مقبول: أي حيث يتابع، وإلا فلين الحديث. الثالث: ربيعة بن عثمان، كما في المنتقى لابن الجارود (18) وربيعة صدوق له أوهام. الرابع: عنبسة بن عبد الواحد، رواه الحاكم (1/ 137)، ومن طريقه البيهقي (1/ 129) من طريق عبد الله بن عمر بن أبان، ثنا عنبسة بن عبد الوحد، وعنبسة ثقة، لكن الرواي عنه عبد الله بن عمر بن أبان صدوق فيه تشيع. الخامس: حميد بن الأسود أبو الأسود، أخرجه البيهقي (1/ 130) من طريق علي بن المديني، عن حميد بن الأسود، عن هشام به. وحميد في التقريب: صدوق يهم قليلاً. واختلف العلماء في زيادة هؤلاء، فمنهم من اعتبر الحديث محفوظاً من طريق عروة، عن بسرة، وأن عروة سمعه من مروان، ثم سمعه من بسرة. قال ابن حبان في صحيحه (3/ 397): وأما خبر بسرة الذي ذكرناه، فإن عروة بن الزبير سمعه من مروان بن الحكم، عن بسرة، فلم يقنعه ذلك حتى بعث مروان له إلى بسرة، فسألها، ثم أتاهم فأخبرهم بمثل ما قالت بسرة، فسمعه عروة ثانياً عن الشرطي عن بسرة، ثم لم يقنعه ذلك حتى ذهب إلى بسرة فسمع منها، فالخبر عن عروة، عن بسرة متصل، وليس بمنقطع، وصار مروان والشرطي كأنهما عاريتان يسقطان من الإسناد. اهـ وقال الحاكم (1/ 136): نظرنا فوجدنا جماعة من الثقات الحفاظ رووا هذا عن هشام، عن أبيه، عن مروان عن بسرة، ثم ذكروا في روايتهم أن عروة قال: ثم لقيت بعد ذلك بسرة، فحدثتني بالحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حدثني مروان عنها، فدلنا ذلك على صحة الحديث وثبوته على شرط الشيخين، وزوال عنه الخلاف والشبهة، وثبت سماع عروة من بسرة. وقال ابن حجر في التلخيص: وقد جزم ابن خزيمة وغير واحد من الأئمة بأن عروة سمعه من بسرة. اهـ وصحح الدارقطني سماع عروة من بسرة. وقال بعضهم: بأن عروة لم يسمعه من بسرة، وأن الصحيح من حديث عروة ما حدث به عن مروان، عنها، وهذا ما رجحه ابن معين، ونقلنا عبارته قبل، ورجحه ابن عبد البر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وجماعة، وإليه تميل النفس للأسباب التالية: الأول: أن هشام تفرد بهذه الزيادة، وهو قوله، " فسألت بسرة فصدقته " وقد رواه غير واحد عن عروة، ولم يذكر هذه الزيادة، منهم عبد الله بن أبي بكر، وأبوه أبو بكر بن محمد وأبو الأسود وعبد الرحمن بن أبي الزناد وغيرهم. الثاني: أن هشام مع انفراده بهذه الزيادة، فقد اختلف عليه فيه، فقد روى الحديث عنه جماعة من الأئمة على رأسهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة والثوري وأبو أسامة وعبد الله بن إدريس ويزيد بن سنان وعلي بن مسهر وغيرهم، وهؤلاء لا يقارنون بمن رواه عن هشام بزيادة: فسألت بسرة فصدقته " لا من جهة الحفظ ولا من جهة العدد فإن كل من رواها عن هشام إما صدوق له أوهام أو مقبول في المتابعات فلم يصل أحد منهم إلى مرتبة الثقة إلا عنبسة ابن عبد الواحد والإسناد إليه حسن، فالراجح كما سبق أن فصلنا أن هذه الزيادة شاذة. الثالث: يحتمل والله أعلم أن يكون السؤال الذي نسب إلى عروة بقوله " فسألت بسرة " باعتبار أن عروة طلب من مروان أن يرسل إلى بسرة ليسألها فأرسل إليها الحرسي، ونسب السؤال إلى عروة باعتباره هو من طلب سؤال بسرة، فقد جاء في المنتقى لابن الجارود (16) قلنا: أرسل إليها، فأرسل حرسياً أو رجلاً فجاء الرسول بذلك، وعليه يحمل ما جاء في الحديث: " فأنكر ذلك عروة، فسأل بسرة، فصدقته ". وما رواية هشام، عن أبي بكر، عن عروة بذكر واسطة بين هشام وبين أبيه. فرواه الطحاوي (1/ 73) من طريق الخصيب بن ناصح، قال: حدثنا همام، عن هشام بن عروة، قال: حدثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عروة أنه كان جالساً مع مروان ... ثم ذكرا لحديث. وقد انفرد الخصيب بن ناصح في هذا الإسناد بكون هشام سمع الحديث من أبي بكر، ولم يسمعه من أبيه، والخصيب بن ناصح قال أبو زرعة: ما به بأس إن شاء الله تعالى. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ، وفي التقريب: صدوق يخطئ. قال النسائي في سننه (1/ 216): هشام بن عروة لم يسمع من أبيه هذا الحديث. وكذلك قال شعبة بن الحجاج كما في المعجم الكبير للطبراني (24/ 202). وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 73): هشام بن عروة لم يسمع هذا من أبيه، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وإنما أخذه من أبي بكر. فإن كان عمدة هذا القول هو طريق الخصيب بن ناصح، عن همام، عن هشام، فإننا لا نستطيع ترجيح هذا الطريق على سائر الطرق إلى هشام، أولاً: أن من رواه عن هشام، عن عروة عدد كبير من الأئمة والحفاظ: منهم الثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأبو أسامة وعبد الله بن إدريس ويزيد بن سنان وعلي بن مسهر ويحيى بن سعيد القطان وشعيب بن إسحاق وربيعة بن عثمان والمنذر بن عبد الله الحزامي، وعنبسة بن عبد الوحد وحميد بن الأسود وإسماعيل بن عياش وعلي بن المبارك وعبد الحميد بن جعفر وغيرهم فهؤلاء ستة عشر راوياً، منهم أئمة متفق على إمامتهم وحفظهم لم يذكروا ما ذكره الخصيب بن ناصح، وقد تقدم تخريج طرقهم. ثانياً: أن أحمد بن حنبل رواه في المسند (6/ 406،407) عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام، قال: حدثني أبي. وكذلك رواه الترمذي (82)، والنسائي (447) بالتصريح بسماع هشام، عن أبيه. ثالثاً: أن الطبراني في المعجم الكبير (24/ 202) رقم 519، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: قال شعبة: لم يسمع هشاماً حديث أبيه في مس الذكر، قال يحيى: فسألت هشاماً فقال: أخبرني أبي، إلا أن يحيى بن سعيد أدرك هشاماً في زمن الكبر. فإن كان هناك متابع للخصيب بن ناصح على روايته عن هشام، عن أبي بكر، فالحمد لله فقد عرفنا الواسطة بين هشام وأبيه، وهو ثقة، وإن كان قد انفرد بهذا الطريق فالنظر يقضي بترجيح طريق عروة عن أبيه على طريق عروة عن أبي بكر، والله أعلم. وقال الحافظ في التلخيص متعقباً كلام الطحاوي: رواه الجمهور من أصحاب هشام، عنه عن أبيه بلا واسطة، فإما أن يكون هشام سمعه من أبي بكر، ثم سمعه من أبيه، فكان يحدث به تارة هكذا، وتارة هكذا، أو يكون سمعه من أبيه، وثبته أبو بكر، فكان تارة يذكر أبا بكر، وتارة لا يذكره، وليست هذه علة قادحة عند المحققين. اهـ وعلى كل حال، فرواية الخصيب بن ناصح، عن همام، عن هشام، عن أبي بكر، عن عروة هذه توافق رواية عبد الله بن أبي بكر وتوافق رواية الأكثر ممن رواه عن هشام بذكر مروان في الإسناد، وهذا الذي يعنينا: وهو أن المحفوظ من إسناد الحديث ذكر مروان فيه، والله أعلم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأما رواية هشام، عن عروة، عن عائشة. فقد أخرجها الدارقطني (1/ 147) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص العمري، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون، ولا يتوضؤون. قالت عائشة: بأبي وأمي هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ قال: إذا مست أحداكن فرجها، فلتتوضأ للصلاة. وضعفه الدارقطني بعبد الرحمن العمري. وقال أحمد: كان كذاباً. وقال النسائي وأبو حاتم وأبو زرعة: متروك، زاد أبو حاتم: وكان يكذب. اهـ وجاء من طريق أخرى من مسند عائشة غير هذا الطريق، فقد جاء في كتاب العلل لابن أبي حاتم (1/ 36) سألت أبي عن حديث رواه حسن الحلواني، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن المهاجر بن عكرمة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من مس ذكره فليتوضأ. ورواه شعيب بن إسحاق، عن هشام، عن يحيى، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مس ذكره في الصلاة فليتوضأ. قال أبي: هذا حديث ضعيف، لم يسمعه يحيى من الزهري، وأدخل بينهم رجلاً ليس بالمشهور، ولا أعلم أحداً روى عنه إلا يحيى، وإنما يرويه الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو أن عروة سمع من عائشة لم يدخل بينهم أحداً، وهذا يدل على وهن الحديث. هذا وجه الاختلاف على هشام في حديثه الوضوء من مس الذكر، وهذا الطريق وطريق الزهري قد اختلف عليهما اختلافاً كثيراً، فما وافق طريق عبد الله بن أبي بكر فهو صحيح، وما خالفه فهو إما منكر أو شاذ، والله أعلم. ولذلك قال ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 333): الصحيح في حديث بسرة: عروة، عن مروان، عن بسرة، وكل من خالف هذا فقد أخطأ فيه عند أهل العلم، والاختلاف فيه كثير على هشام وعلى ابن شهاب، والصحيح فيه عنهما ما ذكرناه في هذا الباب، وقد كان يحيى بن معين يقول: أصح حديث في مس الذكر حديث مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة، وكان أحمد بن حنبل يقول نحو ذلك أيضاً. اهـ =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1059 - 288) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معلى بن منصور، قال: حدثنا الهيثم ابن حميد، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن عنبسة ابن أبي سفيان، ¬

_ = الطريق الرابع: رواية أبي الأسود يتيم عروة، عن عروة. أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 73) حدثنا محمد بن الحجاج وربيع المؤذن، قالا: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، ثنا أبو الأسود، أنه سمع عروة يذكر عن بسرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث. وإسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة، وباقي رجاله ثقات إلا أسد بن موسى فإنه صدوق يغرب. الطريق الخامس: عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عروة، عن بسرة، بدون ذكر مروان. أخرجه الترمذي (82) حدثنا علي بن حجر، قالك حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة به. وهذا إسناد ضعيف من أجل عبد الرحمن بن أبي الزناد؛ لأنه من رواية علي بن حجر، وهو بغدادي، وقد قال ابن المديني: ما حدث به بالمدينة فصحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون. وقال النسائي: لا يحتج بحديثه. وفي التقريب: صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً. وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات. هذا ما وقفت عليه من طرق حديث بسرة، والراجح فيها كما قلت: طريق عروة، عن مروان، عن بسرة. وللحديث شواهد كثيرة من حديث أم حبيبة وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهم، وسيأتي تخريجها في صلب الكتاب إن شاء الله تعالى. أنظر أطراف المسند (8/ 396)، تحفة الأشراف (15785)، إتحاف المهرة (21362).

عن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مس فرجه فليتوضأ (¬1). [إسناده منقطع] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 150) ح 1724. (¬2) دراسة الإسناد: الأول: معلى بن منصور، روى له الجماعة، وفي التقريب: ثقة سني فقيه، طلب للقضاء فامتنع، أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب. الثاني: الهيثم بن حميد: قال أحمد فيه: لا أعلم إلا خيراً. وقال يحيى بن معين: لا بأس به. وفي رواية أخرى عنه، قال: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: ثقة. وقال أبو زرعة: فأعلم أهل دمشق بحديث مكحول، وأجمعه لأصحابه الهيثم بن حميد. وقال عبد الرحمن بن إبراهيم: الهيثم بن حميد كان أعلم الآخرين والأولين بقول مكحول. ولا أعلم أحداً جرحه إلا علي بن مسهر، وهو جرح غير مفسر لا يقدم على التعديل. وفي التقريب: صدوق رمي بالقدر. الثالث: العلاء بن الحارث، قال ابن سعد فيه: كان قليل الحديث، ولكنه كان أعلم أصحاب مكحول، وأقدمهم، وكان يفتي حتى خولط. وقال أبو حاتم: لا أعلم في أصحاب مكحول أوثق منه. وقال صاحب الكواكب النيرات (339): أطلق يحيى بن معين وعلي المديني ويعقوب بن سفيان ودحيم وأبو داود القول بتوثيقه، لكنه خلط. في التقريب: صدوق فقيه رمي بالقدر، وقد اختلط. اهـ ولم أجد أحداً نص على من سمع منه قبل الاختلاط أو بعده، لكن يمكن أن يقال: ما دام أن الراوي عن العلاء بن الحارث هو الهيثم بن حميد، والهيثم من أصحاب مكحول، فاشتراكه هو وشيخه العلاء بن الحارث في السماع من مكحول دليل على أن الهيثم من كبار أصحاب العلاء، فإذا أضفت إلى ذلك أن الرواي عن العلاء قد قيل فيه: أنه من أعلم الناس بقول مكحول، زال ما يخشى من خطأ العلاء بسبب اختلاطه، ثم إن جميع من تكلم في الحديث لم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يعلوه بالعلاء، وإنما تكلموا فيه هل سمع مكحول من عنبسة أم لا؟ وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات، ومع ذلك فالإسناد منقطع، حيث قال البخاري ويحيى بن معين أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي: لم يسمع مكحول من عنبسة. انظر جامع التحصيل (796)، تهذيب التهذيب (10/ 258)، تلخيص الحبير (1/ 217). وخالفهم دحيم، قال الحافظ في التلخيص (1/ 217): وهذا أعرف بحديث الشاميين، فأثبت سماع مكحول من عنبسة. اهـ لكن يعارض أبا دحيم قولُ يحيى بن معين: قال أبو مسهر: لم يسمع مكحول من عنبسة. وأبو مسهر شامي، وهو أكبر من دحيم، وقد قال يحيى بن معين في ترجمة أبي مسهر: من ثبت أبو مسهر من الشاميين فهو مثبت، وقال أيضاً: إن الذي يحدث بالبلد، وبها من هو أولى منه بالحديث أحمق، إذا رأيتني أحدث ببلدة فيها مثل أبي مسهر فينبغي للحيتي أن تحلق، فإذا أضفت إلى قول أبي مسهر قول الأئمة كالبخاري والنسائي وأبي زرعة وأبي حاتم ويحيى بن معين لم تكن كفة أبي دحيم راجحة عليهم، وعلى كل سواء رجحنا سماعه أم لا فإن مكحول مدلس، وقد عنعن، وهو من المكثرين فعنعنته على الانقطاع، والله أعلم. قال البوصيري في مصباح الزجاجة: مكحول الدمشقي مدلس وقد رواه بالعنعنة، فوجب ترك حديثه لا سيما وقد قال البخاري في التاريخ الصغير وأبو زرعة وهشام بن عمار وأبو مسهر وغيرهم إنه لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان، فالإسناد منقطع. اهـ وأعله البخاري بعلة أخرى، قال في التاريخ الكبير (7/ 37): روى الهيثم بن حميد، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن عنبسة، عن أم حبيبة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مس الذكر، ويرونه وهماً؛ لأن النعمان بن المنذر قال: عن مكحول، أن ابن عمر مرسل كان يتوضأ منه. اهـ [تخريج الحديث]. الحديث رواه ابن ماجه (481) من طريق ابن أبي شيبة به. وأخرجه ابن ماجه أيضاً والطبراني في الكبير (23/ 235) ح 451 من طريق مروان بن محمد. وأخرجه أبو يعلى في مسند (7144) والطبراني في الكبير (23/ 235) رقم 45 =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1060 - 289) ما وراه الطبراني في المعجم الصغير، قال: قال: حدثنا أحمد بن عبد الله ابن العباس الطائي البغدادي، حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك النوفلي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب، فقد وجب عليه الوضوء. قال الطبراني: لم يروه عن نافع إلا عبد الرحمن بن القاسم الفقيه المصري، ولا عن عبد الرحمن إلا أصبغ، تفرد به أحمد بن سعيد (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬

= والطحاوي (1/ 75)، والبيهقي (1/ 130) من طريق أبي مسهر. وأخرجه الطحاوي (1/ 75) أيضاً من طريق عبد الله بن يوسف، كلهم رووه عن الهيثم ابن حميد به. انظر تحفة الأشراف (15864) (¬1) المعجم الصغير (1/ 42). (¬2) دراسة الإسناد: أحمد بن عبد الله بن العباس الطائي له ترجمة في تاريخ بغداد، وسكت عليه فلم يذكر فيه جرحاً. تاريخ بغداد (4/ 220)، لكنه قد توبع كما في صحيح ابن حبان، تابعه علي بن أحمد بن سليمان العدل وعمران بن فضالة الشعيري بالموصل، انظر الموارد (1445). أحمد بن سعيد الهمداني، قال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو عبد الرحمن النسوي: لو رجع أحمد بن سعيد الهمداني عن حديث بكير بن الأشج في الغار لحدثت عنه. ووثقه أحمد بن صالح. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال زكريا الساجي: ثبت. ووثقه العجلي. وذكره ابن حبان في الثقات، وخرج له في صحيحه،. وقال الذهبي: لا بأس به. وقال أبو علي الغساني: كان مقدماً في الحديث فاضلاً. انظر حاشية تهذيب الكمال للدكتور بشار (1/ 3147). - أصبغ بن الفرج، قال أبو حاتم: صدوق، وقال: كان أجل أصحاب ابن وهب. ووثقه العجلي، وقال مرة: لا بأس به. وقال أبو علي بن السكن: ثقة ثقة. ووثقه ابن حبان، وخرج له هو وابن خزيمة في صحيحيهما. وقال ابن معين: كان من أعلم خلق الله كلهم برأي مالك، يعرفها مسألة مسألة متى قالها مالك، ومن خالفها فيها. وفي التقريب: ثقة. - عبد الرحمن بن القاسم: قال النسائي: ثقة مأمون، أحد الفقهاء، وقال الحاكم أبو عبد الله: ثقة مأمون، ووثقه الخطيب، وروى له البخاري وفي التقريب: ثقة. - يزيد بن عبد الملك، في التقريب: ضعيف. اهـ لكن تابعه نافع بن عبد الرحمن أبو نعيم القاري، وقد وثقه يحيى بن معين وقال أحمد: كان يؤخذ عنه القرآن، وليس في الحديث بشيء، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي فيه كلاماً منه: لم أر في أحاديثه شيئاً منكراً، وأرجو أنه لا بأس به. وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث. وقال الساجي: صدوق اختلف أحمد ويحيى، فقال أحمد: منكر الحديث، وقال يحيى بن معين: ثقة. وفي التقريب: صدوق ثبت بالقراءة. فالإسناد حسن من طريق نافع وحده، وأما يزيد بن عبد الملك فإنه على ضعفه قد اختلف عليه في إسناده، فقال الحافظ في التلخيص (1/ 220) أدخل البيهقي في الخلافيات بين يزيد بن عبد الملك النوفلي وبين المقبري رجلاً؛ فإنه أخرجه من طريق الشافعي، عن عبد الله =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن نافع، عن النوفلي، عن أبي موسى الحناط، عن المقبري به، وقال: قال ابن معين: أبو موسى هذا رجل مجهول. اهـ قلت: عبد الله بن نافع ضعيف، لكن أخرجه الطبراني أيضاً كما في مجمع البحرين (450) من طريق خالد بن نزار، ثنا يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن أبي موسى الحناط به. وهذا إسناد ضعيف أيضاً، مقدام بن داود ضعفه النسائي والدارقطني. وقال مسلمة بن قاسم: روايته لا بأس بها. وخالد بن نزار، صدوق يخطئ. وقد رواه عن يزيد جماعة من الرواة لم يذكروا فيه أبا موسى، منهم: معن بن عيسى القزاز، وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن يزيد وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي، وإسحاق بن محمد الفروي وغيرهم، لكن يزيد متكلم فيه، وقد تابعه أبو نعيم القارئ، وهو صدوق، فيكون الحديث صحيحاً لغيره، والله أعلم. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه ابن حبان كما في الموارد (210) من طريقين عن أحمد بن سعيد الهمداني به بإسناد الطبراني بذكر أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك. وأخرجه الحاكم (1/ 138) من طريق أبي نعيم وحده، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري به، وقال: هذا حديث صحيح. وأخرجه من طريق يزيد بن عبد الملك وحده جماعة منهم: الشافعي في الأم (1/ 19) ومن طريق الشافعي أخرجه البغوي في شرح السنة (166) عن سليمان بن عمرو ومحمد بن عبد الله. وأخرجه أحمد (2/ 333) عن يحيى بن يزيد بن عبد الملك. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 74) والبزار كما في كشف الأستار (286) من طريق معن بن عيسى القزاز. وأخرجه الدارقطني (1/ 147) من طريق عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، كلهم عن يزيد بن عبد الملك النوفلي به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 245) رواه أحمد والطبراني في الأوسط والصغير، وفيه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يزيد بن عبد الملك النوفلي، وقد ضعفه أكثر الناس، ووثقه يحيى بن معين ولم ينتبه الهيثمي لمتابعة نافع. وحسن إسناده ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر (3/ 335، 336) من طريق أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا أصبغ بن فرج، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، حدثنا نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة. قال ابن عبد البر: قال ابن السكن: هذا الحديث من أجود ما روي في هذا الباب، لرواية ابن القاسم له عن نافع بن أبي نعيم، وأما يزيد فضعيف. اهـ قال ابن عبد البر: كان هذا الحديث لا يعرف إلا ليزيد بن عبد الملك النوفلي هذا، وهو مجمع على ضعفه، حتى رواه عبد الرحمن بن القاسم - صاحب مالك - عن نافع بن أبي نعيم القاري، وهو إسناد صالح إن شاء الله تعالى، وقد أثنى ابن معين على عبد الرحمن بن القاسم وقد أثنى ابن معين على عبد الرحمن بن القاسم في حديثه ووثقه، وكان النسائي يثني عليه أيضاً في نقله عن مالك لحديثه، ولا أعلم يختلفون في ثقته، ولم يرو هذا الحديث عنه، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك إلا أصبغ بن الفرج، وأما سحنون فإنما رواه عن ابن القاسم عن يزيد وحده، وذكر عن ابن القاسم أنه استقر قوله أنه لا إعادة على من مس ذكره وصلى لا في وقت ولا في غيره، واختار ذلك سحنون أيضاً. اهـ فتبين من كلام ابن عبد البر رحمه الله تعالى أن ابن القاسم هو الذي انفرد بذكر نافع بن أبي نعيم في الإسناد، وأنه قد اختلف عليه فرواه أصبغ بن الفرج بزيادة نافع، ورواه سحنون عن ابن القاسم عن يزيد بن عبد الملك وحده، قلت: كذلك رواه البيهقي في الخلافيات (522، 523) من طريق يحيى بن بكير: قال: ثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن يزيد بن عبد الملك النوفلي وحده، ولم يذكر في الإسناد نافع ابن أبي نعيم. وقد ذكره الدارقطني في العلل (8/ 131) وصوب وقفه على أبي هريرة. والحديث شاهد لحديث بسرة وأم حبيبة رضي الله عنهما. انظر إتحاف المهرة (18426)، أطراف المسند (7/ 245).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1061 - 290) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الجبار بن محمد (يعني: الخطابي) حدثني بقية، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس ذكره فليتوضأ، وأي امرأة مست فرجها فلتتوضأ (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 223). (¬2) دراسة الإسناد: الأول: عبد الجبار بن محمد، ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه جماعة، انظر تعجيل المنفعة (603). ولم ينفرد به بل تابعه جماعة منهم الإمام إسحاق بن راهوية كما في مسنده وفي الاعتبار للحازمي. وتابعه أيضاً أحمد بن الفرج الحمصي كما في منتقى ابن الجارود (19). وتابعه كذلك الخطاب بن عثمان الفوزي، كما في شرح معاني الآثار (1/ 75). الثاني: بقية، ثقة في حديثه عن الشاميين، صدوق في غيرهم، وشيخه هنا شامي، وأما ما يتهم به من تدليس التسوية فذاك مشهور عنه، فلا بد أن يصرح بالتحديث من شيخه وشيخ شيخه، وقد صرح في إسناد ابن الجارود في المنتقى بالتحديث من شيخه الزبيدي، وصرح الزبيدي بالتحديث من شيخه عمرو بن شعيب، وأما عنعنة عمرو عن أبيه، وعنعنة أبيه عن جده فلا يتحملها بقية؛ لأن رواية عمرو عن أبيه عن جده أكثرها صحيفة، فهي تروى هكذا بالعنعنة، فلا تكون تبعتها على بقية، وسند عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مختلف فيه، والذي أميل إليه أن هذا الإسناد من قبيل الحسن، وقد حررت النقول عن أهل العلم في كتاب الحيض والنفاس، وهو مطبوع فارجع إليه إن شئت. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد قال الترمذي في العلل الكبير (1/ 161): قال محمد - يعني البخاري - حديث عبد الله بن عمرو في مس الذكر هو عندي صحيح. اهـ وقال الحازمي: هذا إسناد صحيح؛ لإن إسحاق بن إبراهيم إمام غير مدافع، وقد أخرجه في مسنده، وبقية ثقة في نفسه، وإذا روى عن المعروفين فمحتج به، وقد أخرج مسلم بن الحجاج فمن بعده من أصحاب الصحاح حديثه محتجين به، والزبيدي هو من محمد بن الوليد قاض دمشق من ثقات الشاميين محتج به في الصحاح كلها، وعمرو بن شعيب ثقة باتفاق أئمة الحديث وإذا روى عن غير أبيه لم يختلف أحد في الاحتجاج به، وأما روايته عن أبيه، عن جده فالأكثر على أنها متصلة، ليس فيها إرسال ولا انقطاع .... الخ كلامه رحمه الله. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه الحازمي في الاعتبار (ص: 44) من طريق إسحاق بن راهوية. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (19) والدارقطني (1/ 147)، والبيهقي في السنن (1/ 132) عن أحمد بن الفرج الحمصي. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 75) من طريق الخطاب بن عثمان الفوزي، كلهم عن بقية بن الوليد به. وأخرجه البيهقي (1/ 132،133) من طريق حمزة بن ربيعة، ثنا يحيى بن راشد، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، فذكر بإسناده ومعناه. قال البهيقي: وهكذا رواه عبد الله بن المؤمل، عن عمرو. قلت: هكذا قال البيهقي: فذكر بإسناده ومعناه، وظاهر فعل البيهقي أن الإسناد هو نفس إسناد حديث الزبيدي ومعناه، وبالرجوع إلى كتب السنة لمعرفة الإسناد والمعنى وجدت فيه بعض المخالفة التي لم ينبه عليها البيهقي رحمه الله تعالى. فقد روى الطبراني كما في مجمع البحرين (452) حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن بسرة بنت صفوان سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة تدخل يدها في فرجها، فقال: عليها الوضوء. وحديث بسرة المعروف أنه في مس الذكر كما بينا في تخريج الدليل الأول، خاصة أن هذا الإسناد فيه سليمان بن داود المنقري، وهو متروك، وفيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1062 - 291) ما رواه الشافعي في الأم، قال: أخبرنا عبد الله بن نافع، عن ابن أبي ذئب، عن عقبة بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ (¬1). [رفعه منكر، والمعروف أنه مرسل] (¬2). ¬

= وهو صدوق يخطئ، وقد رمي بالقدر، وتغير بآخره. وتابعه عبد الله بن المؤمل كما في شرح معاني الآثار (1/ 75)، وعبد الله ضعيف. فالمعروف من حديث عمرو بن شعيب، أنه ليس فيه ذكر لبسرة بنت صفوان. ورواه إسحاق بن راهوية (5/ 68) والبيهقي (1/ 133) من طريق المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن بسرة بنت صفوان إحدى نساء بني كنانة، أنها قالت: يا رسول الله كيف ترى في إحدانا تمس فرجها، والرجل يمس ذكره بعد ما يتوضأ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تتوضأ يا بسرة بنت صفوان. قال عمرو: وحدثني سعيد بن المسيب أن مروان أرسل إليها ليسألها، فقالت: وعني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده فلان وفلان وفلان وعبد الله بن عمرو، فأمرني بالوضوء. وهذا إسناد منكر تفرد به المثنى بن الصباح، وهو ضعيف، وقد خالف فيه من هو أوثق منه: محمد بن الوليد الزبيدي في إسناده ومتنه. قال البيهقي: خالفهم المثنى بن الصباح عن عمرو في إسناده، وليس بالقوي. اهـ إتحاف المهرة (11703)، أطراف المسند (4/ 50) (¬1) الأم (1/ 19). (¬2) في إسناده: عبد الله بن نافع، جاء في ترجمته: قال أحمد: لم يكن صاحب حديث، كان ضيقاً فيه، وكان صاحب رأي مالك، وكان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يفتي أهل المدينة برأي مالك، ولم يكن في الحديث بذاك. الجرح والتعديل (5/ 183). وقال أبو زرعة: لا بأس به. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: ليس بالحافظ، هو لين تعرف حفظه وتنكر، وكتابه أصح. المرجع السابق. وقال البخاري: يعرف حفظه وينكر، وكتابه أصح. التأريخ الكبير (5/ 213). وقال أيضاً: في حفظه شيء. تهذيب التهذيب (6/ 47). وقال النسائي: ليس به بأس. وقال في موضع آخر: ثقة. المرجع السابق. وقال الدارقطني: فقيه يعتبر به. المرجع السابق. وفي التقريب: ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين. وقد توبع في الإسناد فزال ما يخشى من قبل حفظه كما سيأتي في تخريج الحديث، ولكن علة الحديث عقبة بن عبد الرحمن لم يرو عنه إلا ابن أبي ذئب، ولم يوثقه إلا ابن حبان. وقال ابن المديني: شيخ مجهول. وقال الذهبي في الميزان (3/ 86): لا يعرف، له عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر، وعنه ابن أبي ذئب: من مس فرجه فليتوضأ، قال البخاري: لا يصح خبره. اهـ وفي التقريب: مجهول. وفي تلخيص الحبير (1/ 216) قال ابن عبد البر: إسناده صالح. لكن قال ابن عبد البر في التهذيب (7/ 245) غير مشهور بحمل العلم. وقال الضياء: لا أعلم بإسناده بأساً. قلت: هذا الكلام لا يتفق مع ما قيل في ترجمته، فقد جهله ابن المديني والحافظان الذهبي وابن حجر، والله أعلم. كما أن للحديث علة أخرى، فقد اختلف في وصله وإرساله كما سيأتي إن شاء الله تعالى في تخريج الحديث. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه البيهقي (1/ 134) من طريق الشافعي به. وأخرجه ابن ماجه (481) من طريق معن بن عيسى وعبد الله بن نافع جميعاً عن ابن أبي ذئب به، وهذه متابعة من معن وهو ثقة لعبد الله بن نافع، ولكن علة الحديث كما أفصحت ليست من ابن نافع، ولكن من عقبة بن عبد الرحمن. =

الدليل السادس

الدليل السادس: (1063 - 292) ما رواه الدارقطني من طريق إسحاق بن محمد الفروي، نا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من مس ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= وأخرجه الطحاوي (1/ 74) من طريق دحيم، ثنا عبد الله بن نافع به. والحديث على ضعفه اختلف في وصله وإرساله، وهذا الاختلاف والله أعلم من قبل عقبة بن عبد الرحمن، وهو دليل على ضعفه. فقد أخرجه الشافعي في الأم (1/ 19) ومن طريقه البيهقي (1/ 134) عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن عقبة بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ. وأخرجه الطحاوي (1/ 75) من طريق أبي عامر، ثنا ابن أبي ذئب به مرسلاً. قال الشافعي: وسمعت غير واحد من الحفاظ يروونه لا يذكرون فيه جابراً. وقال الطحاوي: كل من رواه عن ابن أبي ذئب من الحفاظ يقطعه، ويوقفه على محمد ابن عبد الرحمن. وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 19): سألت أبي عن حديث رواه دحيم، عن عبد الله ابن نافع الصائغ، عن ابن أبي ذئب، عن عقبة بن عبد الرحمن بن أبي معمر، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من مس ذكره فليتوضأ. قال أبي هذا خطأ، الناس يروونه عن ابن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، لا يذكرون جابراً. انظر طرقه في إتحاف المهرة (3121)، تحفة الأشراف (2591). (¬1) سنن الدارقطني (1/ 147). (¬2) في إسناده إسحاق بن محمد الفروي، جاء في ترجمته: قال أبو حاتم: كان صدوقاً، ولكنه ذهب بصره، فربما لقن الحديث، وكتبه صحيحة. الجرح والتعديل (2/ 233). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال النسائي: ليس بثقة. الضعفاء والمتروكين (49). وسكت عليه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 401). وفي الضعفاء للعقيلي: جاء عن مالك بأحاديث كثيرة لا يتابع عليها، وسمعت أبا جعفر الصائغ يقول: كان إسحاق الفروي كَفَّ وكان يلقن. الضعفاء الكبير (1/ 106). وقال الآجري: سألت أبا داود فوهاه جداً. تهذيب التهذيب (1/ 217). وقال الدارقطني: لا يترك. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق كف، فساء حفظه، وقد روى له البخاري. وفي إسناده أيضاً عبد الله العمري ضعيف في حفظه. والحديث قد رواه ابن عدي في الكامل (4/ 142) من طريق عثمان بن معبد بن نوح به، وله طرق كثيرة إلى ابن عمر، هذا أحدها. الثاني: ما رواه الطحاوي (1/ 74)، والبزار (285) من طريق صدقة بن عبد الله، عن هاشم بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من مس فرجه فليتوضأ. وفي الإسناد: صدقة بن عبد الله بن هاشم، قال أحمد: ليس بشيء.، ضعيف الحديث. وضعفه يحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة والنسائي. وقال مسلم: منكر الحديث. وقال دحيم في رواية: ثقة. وقال في رواية أخرى: مضطرب الحديث، ضعيف. وفي التقريب: ضعيف. وفي إسناده أيضاً: هاشم بن زيد، هكذا في إسناد البزار، وفي الطحاوي: هشام بن زيد، ولعل ما في البزار هو الصواب، وله ترجمة في الجرح والتعديل (9/ 103) قال أبو حاتم: ضعيف. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 245): في سند البزار هاشم بن زيد، وهو ضعيف جداً. وقال الطحاوي: ليس من أهل العلم الذين تثبت بروايتهم مثل هذا. الطريق الثالث: ما رواه الطحاوي (1/ 74)، والطبراني في الكبير (12/ 217)، وابن عدي في الكامل (5/ 223) من طريق العلاء بن سليمان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس ذكره فليتوضأ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال ابن عدي: العلاء منكر الحديث، ويأتي بأسانيد ومتون لا يتابعه عليها أحد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 245): وفي سند الكبير العلاء بن سليمان، وهو ضعيف جداً. الطريق الرابع: ما رواه البيهقي في المعرفة (1/ 391،392) قال: أخبرنا أبو سعد الماليني، ثنا أبو أحمد بن علي الحافظ، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا عبد الرحمن بن سلام، ثنا سليم ابن مسلم أبو مسلم، عن ابن جريج، عن عبد الواحد بن قيس، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من مس ذكره فليتوضأ. ورواه ابن عدي في الكامل (3/ 319) في ترجمة سليم بن مسلم، وسليم هذا، قال النسائي فيه: متروك الحديث. الكامل (3/ 319). وقال ابن معين جهمي خبيث. وقال أخرى: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال أحمد: رأيته بمكة، ليس يسوى حديثه شيئاً، ليس بشيء، وكان يتهم برأي جهم. العلل (2/ 307). وقال أبو حاتم: منكر الحديث. الجرح والتعديل (3/ 314). وقال أبو زرعة: ليس بقوي. المرجع السابق. وعبد الواحد لا يروي عن ابن عمر، وإنما يروي عن نافع عنه، ففي الإسناد انقطاع، قال ابن حبان في المجروحين (2/ 153): شيخ يروي عن نافع، وروى عنه الأوزاعي، والحسن ابن ذكوان، ممن ينفرد بالمناكير عن المشاهير، فلا يجوز الاحتجاج بما خالف الثقات، فإن اعتبر معتبر بحديثه الذي لم يخالف الأثبات فيه فحسن. اهـ الطريق الخامس: ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (4/ 310) من طريق عبد العزيز ابن أبان، حدثنا سفيان الثوري، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا ضعيف جداً؛ فيه عبد العزيز بن أبان، قال في التقريب: متروك، وكذبه ابن معين وغيره، ونسبه الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 218) إلى الحكم في المستدرك، ولم أجده فيه، ولم يذكره الحافظ في إتحاف المهرة، والمعروف من حديث ابن عمر موقوفاً عليه. وانظر في مراجعة طرق الحديث: إتحاف المهرة (10618) و (11437) و (9564).

الدليل السابع

الدليل السابع: (1064 - 293) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا سفيان بن وكيع، ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق ابن أبي فروة، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، عن أبي أيوب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مس فرجه فليتوضأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثامن: (1065 - 294) ما رواه الخطيب في تاريخه من طريق ناجية بن حبان ابن بشر، حدثنا عمر بن سعيد بن سنان المنبجي بالمصيصة، قال: حدثنا الضحاك بن حجوة، قال: حدثنا هيثم بن جميل، قال: حدثنا أبو هلال الراسبي، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من مس ذكره فليتوضأ (¬3). [الحديث ضعيف جداً] (¬4). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (482). (¬2) في إسناده سفيان بن وكيع، قال عنه الحافظ في التقريب: كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراق فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه. وفيه إسحاق بن أبي فروة، قال البوصيري في الزوائد: اتفقوا على ضعفه، وقد سبقت ترجمته في حديث ابن عمر المتقدم. انظر تحفة الأشراف (3470). (¬3) تاريخ بغداد (13/ 425). (¬4) في إسناده الضحاك بن حجوة، قال الدارقطني: كان يضع الحديث. المغني (1/ 311). وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه إلا للمعرفة فحسب. المجروحين (1/ 379). =

أدلة من قال: لا يجب الوضوء من مس الذكر مطلقا

أدلة من قال: لا يجب الوضوء من مس الذكر مطلقاً. الدليل الأول: (1066 - 295) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي، قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلينا معه، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الذكر في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلا بضعة أو مضغة منك (¬1). [إسناده فيه ضعف تفرد به قيس بن طلق، ولم يتابعه عليه أحد] (¬2). ¬

= وفيه أيضاً: ناجية بن حيان البغدادي، ذكره الخطيب ولم يذكر فيه جرجاً ولا تعديلاً. تاريخ بغداد (513/ 425). وفيه أبو هلال الراسبي، وهو محمد بن سليم البصري، قال ابن سعد: فيه ضعف. تهذيب التهذيب (9/ 173). قال البخاري: كان يحيى بن سعيد لا يروي عنه، وكان ابن مهدي يروي عنه. التاريخ الكبير (1/ 105). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (516). وقال ابن معين: صويلح. الجرح والتعديل (7/ 273). وقال مرة: صدوق. تهذيب التهذيب (9/ 173). وقال أحمد: قد احتمل حديثه، إلا أن يخالف في حديث قتادة، وهو مضطرب الحديث عن قتادة. الجرح والتعديل (7/ 273). في التقريب: صدوق فيه لين. (¬1) المصنف (1/ 152). (¬2) في إسناده قيس بن طلق، ومع كونه لين الحديث، فقد انفرد بهذا الحديث، والصدوق إذا انفرد بحديث، وكان هو الأصل في الباب، ولا يعلم له أصل غيره لم يقبل تفرده، هذا هو عمل المتقدمين، فكيف إذا انفرد بالحديث رجل متكلم فيه، جاء في ترجمته: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الدراقطني: ليس بالقوي. وقال أحمد: غيره أثبت منه. تهذيب التهذيب (8/ 356). وهذه العبارة من عبارات الجرح، بخلاف ما لو قال: فلان أثبت منه، وذكر اسمه، فيحمل على أن كلاً منهما ثبت، وأحدهما أثبت من الآخر. وقال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق، فلم نجد من يعرفه، بما يكون لنا قبول خبره؟! المرجع السابق. وقال الدارقطني في سننه (1/ 139)، ونقله عنه البيهقي في السنن (1/ 135): قال: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث محمد بن جابر، فقالا: قيس بن طلق ليس ممن تقوم به حجة، ووهناه، ولم يثبتاه. اهـ وتعقب هذا الكلام أحد المعاصرين، قائلاً: كيف يفلت محمد بن جابر من تبعة الحديث، وتلصق بقيس بن طلق، وقيس وثقه ابن معين وغيره، بل الآفة ابن جابر هذا، ولكنه لم يتفرد بالحديث، فقد تابعه عبد الله بن بدر، عن قيس. اهـ قلت: لم يتكلم أبو زرعة وأبو حاتم عن محمد بن جابر؛ لأن مدار الحديث على قيس بن طلق، فكلامهما منصب على من يدور عليه الحديث، وأما معارضة جرح أبي زرعة وأبي حاتم بتوثيق ابن معين فليس كلام ابن معين حجة على أبي زرعة وعلى أبي حاتم لكونهما من أئمة الجرح والتعديل، فكيف وقد وافق كلامهما كلام الإمام أحمد والشافعي والدارقطني وابن معين في إحدى الروايتين عنه! وقد اختلف قول ابن معين فيه، فقد ضعفه في رواية كما نقل ذلك سبط ابن العجمي في حاشيته على الكاشف، وذكر ذلك الحافظ الذهبي في الميزان (3/ 397). وأما ما أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 139): ومن طريقه البيهقي (1/ 135) عن عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي، ثنا رجاء بن مرجي الحافظ، قال: اجتمعنا في مسجد الخيف، أنا وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين، فتناظروا في مس الذكر، فقال يحيى بن معين: يتوضأ منه، وقال علي بن المديني بقول الكوفيين، وتقلد قولهم، واحتج يحيى بن معين بحديث بسرة بنت صفوان، واحتج علي بن المديني بحديث قيس بن طلق، عن أبيه، وقال ليحيى بن معين: كيف تتقلد إسناد بسرة، ومروان إنما أرسل شرطياً حتى رد جوابها إليه؟ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقال يحيى: لم يقنع عروة حتى أتى بسرة فسألها، وشافهته بالحديث، ثم قال يحيى: ولقد أكثر الناس في قيس بن طلق، وأنه لا يحتج بحديثه .... الخ المناظرة. فهذا إسناد ضعيف جداً، لأن في إسناده عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي، قال عنه في الميزان (2/ 524): لقيه أحمد بن عدي، واتهمه بالكذب في روايته عن علي بن حجر ونحوه ... وضعفها ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 135)، والمعتمد في تضعيف يحيى بن معين ما نقله الذهبي وسبط بن العجمي، لا هذه الرواية. وقد وثقه ابن معين في رواية، قال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين، قلت: عبد الله بن النعمان، عن قيس بن طلق؟ قال: شيوخ يمامية ثقات. وجاء في نصب الراية للزيلعي (1/ 62): ذكر عبد الحق في أحكامه حديث طلق، وسكت عنه، فهو صحيح عنده على عادته في مثل ذلك، وتعقبه ابن القطان في كتابه، فقال: إنما يرويه قيس بن طلق، عن أبيه، وقد حكى الدارقطني في سننه، عن ابن أبي حاتم أنه سأل أباه وأبا زرعة عن هذا الحديث، فقالا: قيس بن طلق ... وذكر الكلام المتقدم عنهما. ثم قال ابن القطان: والحديث مختلف فيه، فينبغي أن يقال فيه: حسن، ولا يحكم بصحته. اهـ قلت: هل كل حديث يختلف في صحته وضعفه يكون حسناً؟! حتى الراوي إذا اختلف في توثيقه وتضعيفه لا يجعل حديثه من قبيل الحسن، بل هناك قواعد في هذا، منها إذا ثبت الجرح والتعديل من أئمة معتبرين لم يعرف عنهما التشدد ولا التساهل كان الجرح مقدماً، لأن مع الجارح زيادة علم ليست مع المعدل، فإذا تأملت قيساً هذا رأيت أن من جرح قيس بن طلق كالإمام أحمد وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني والشافعي وابن معين في إحدى الروايتن عنه، فهولاء لا شك أنهم مقدمون في جرحهم على توثيق ابن حبان والعجلي، وأما ابن حجر فقد قال في التقريب: صدوق، ومعلوم أن ابن حجر قد رزق اعتدالاً وسبراً إلا أن عمدته كلام المتقدمين، وقد علمت أقوالهم فيه، ولا أعلم أحداً تابع قيس بن طلق في حديثه عن أبيه، كما لا أعلم شاهداً معتبراً لحديث طلق هذا، فلذا أجد نفسي تميل إلى تليين قيس بن طلق، ولا أجرؤ على مخالفة الإمام أحمد وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني لكلام ابن حبان والعجلي، والله أعلم. [تخريج الحديث]. الحديث مداره على قيس بن طلق، عن أبيه، ويرويه عن قيس جماعة، منهم: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الأول: عبد الله بن بدر، عن قيس به. أخرجه ابن أبي شيبة كما في إسناد الباب، وأبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (165)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 75،76)، والدارقطني (1/ 149)، والبيهقي في السنن (1/ 134) من طريق ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر به. الثاني: محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، أخرجه عبد الرزاق (426) عن هشام بن حسان. وأخرجه أحمد (4/ 23) عن موسى بن داود. وأخرجه أبو داود (183) عن مسدد. وأخرجه ابن ماجه (483) من طريق وكيع. وأخرجه الدارقطني (1/ 149) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل. وأخرجه بن الجارود (20)، والطحاوي (1/ 75)، والحازمي في الاعتبار (ص:81) من طريق سفيان، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8/ 330) من طريق يحيى بن إسحاق السيلحيني، كلهم عن محمد بن جابر به. ومحمد بن جابر، جاء في ترجمته: قال البخاري: محمد بن جابر، عن قيس بن طلق وحماد ليس بالقوي عندهم. ضعفاء البخاري (313)، الضعفاء الكبير (4/ 41). وقال أحمد: كان محمد بن جابر ربما ألحق في كتابه أو يلحق في كتابه - يعني الحديث - الجرح والتعديل (7/ 219). وقال يحيى بن معين: كان أعمى واختلط عليه حديثه، وكان كوفياً، فانتقل إلى اليمامة، وهو ضعيف. المرجع السابق. وقال عمرو بن علي: صدوق كثير الوهم. المرجع السابق، زاد ابن عدي عنه في الكامل (6/ 148): متروك الحديث. وقال أبو حاتم: ذهبت كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقن، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه، ثم تركه بعد، وكان يروي أحاديث مناكير، وهو معروف =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بالسماع، جيد اللقاء، رأوا في كتبه لحقاً، وحديثه عن حماد فيه اضطراب، روى عنه عشرة من الثقات. المرجع السابق وسئل أبو حاتم عنه وعن ابن لهيعة، فقال: محلهما الصدق، ومحمد بن جابر أحب إلي من ابن لهيعة. المرجع السابق. وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (533). وقال أحمد بن حنبل: لا يحدث عنه إلا شر منه. تهذيب التهذيب (9/ 78). وقال أبو داود: ليس بشيء. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق ذهبت كتبه، فساء حفظه. الطريق الثالث: أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق. أخرجه أبو داود الطيالسي (1096) ومن طريق أبي داود أخرجه الحازمي في الاعتبار (ص: 82)، وأخرجه ابن الجعد في مسنده (3299). وأخرجه أحمد (4/ 22) عن حماد بن خالد. وأخرجه الطحاوي (1/ 65، 67) من طريق حجاج وأسود بن عامر وخلف بن الوليد وأحمد بن يونس وسعيد بن سليمان جميعهم عن أيوب بن عتبة به. وأيوب بن عتبة قال عنه الحافظ في التقريب: ضعيف. الطريق الرابع: أيوب بن محمد، عن قيس. أخرجه الدراقطني في السنن (1/ 149)، وقال: أيوب مجهول. الطريق الخامس: عكرمة بن عمار، عن قيس به، أخرجه ابن حبان في صحيحه (1121). انظر أطراف المسند (2/ 623)، تحفة الأشراف (5023)، إتحاف المهرة (6661). وحديث طلق هذا معارض في ظاهره لحديث بسرة بنت صفوان، وقد اختلف العلماء في الموقف منهما، فهناك من جمع بينهما، وسوف يأتي وجه الجمع إن شاء الله تعالى في أدلة القول الثالث والرابع، واختار بعضهم الترجيح، فهناك من رجح حديث بسرة، وهناك من رجح حديث طلق بن علي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ذكر من رجح حديث طلق: ذهب جماعة من أهل العلم إلى تقديم حديث بسرة على حديث طلق، منهم البخاري رحمه الله تعالى، والإمام أحمد والترمذي والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر والدارقطني وأبو حاتم وأبو زرعة والشافعي وابن حبان وابن حزم وغيرهم. قال الترمذي: قال محمد - يعني البخاري - أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة. السنن (1/ 129). وقال البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق أن حديث طلق لم يخرجه الشيخان، ولم يحتجا بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته إلا أنهما لم يخرجاه للاختلاف فيه على عروة، وعلى هشام بن عروة، وقد بينا أن الاختلاف لا يمنع من الحكم بصحته، وإن نزل على شرط الشيخين. وتقدم أيضاً عن الإسماعيلي أنه ألزم البخاري إخراجه لإخراج نظيره في الصحيح، وقد ضعف حديث طلق الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي وكل هؤلاء ذكرهم الحافظ في التلخيص. وفي التمهيد لابن عبد البر كما في فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 338).: قال أبو بكر الأثرم: سئل أبو عبد الله عن الوضوء من مس الذكر؟ فقال: نعم نرى الوضوء من مس الذكر. قيل له: من لم يره أنعنفه؟ فقال: الوضوء أقوى. قال: من قال: لا وضوء؟ قال: الوضوء أكثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وعن التابعين. اهـ. ومن وجوه ترجيح حديث بسرة ما قاله ابن عبد البر حيث قال: إيجاب الوضوء من مس الذكر إنما هو مأخوذ من جهة الشرع، لا مدخل فيها للعقل؛ لاجتماعه مع سائر الأعضاء، ونقل البيهقي عن الشافعي أن الذي قال من الصحابة لا وضوء به فإنما قاله بالرأي، ومن أوجب الوضوء به يعني من الصحابة فلا يوجبه إلا بالاتباع - يعني أن العقل والقياس لا يقضيان بهذا الحكم، فكان أولى بالقبول، والله أعلم. قلت: الشرع لا يعارض العقل، لكن العقل عرضة للصواب والخطأ بخلاف الشرع، وإذا لم يستطع العقل إدراك الحكمة من التشريع عبر عنه الفقهاء بأنه تعبدي، وليس معنى كونه تعبدياً أنه خال من الحكمة، فالله سبحانه وتعالى حكيم منزه عن العبث، ولا يشرع إلا ما فيه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حكمة، ولا يفرق الشرع بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، والمؤمن متبع للشرع أبداً، لا يعبد عقله ونظره، وإذا بدا في الظاهر بعض التعارض بين العقل والشرع، كان العقل هو المتهم {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}. وحين نبحث عن الحكمة إنما نبحث عنها من أجل القياس، لكي نلحق النظير بشبيهه، فإذا علمنا أن علة التحريم في الخمر هي الإسكار ألحقنا به كل مسكر، وإذا زالت علة الإسكار رجع الحكم إلى الحل، والله أعلم. وهناك من أخذ بحديث بسرة لكونه ناسخاً لحديث طلق، قال ابن حبان في صحيحه (3/ 504): خبر طلق الذي ذكرناه خبر منسوخ؛ لأن طلق بن علي كان قد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - أول سنة من سني الهجرة حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى إيجاب الوضوء من مس الذكر أبو هريرة، وأبو هريرة أسلم سنة سبع للهجرة، فدل ذلك على أن خبر أبي هريرة كان بعد خبر طلق بن علي بسبع سنين. اهـ قلت: الاستدلال بالنسخ بتأخر إسلام الراوي فيه نظر كبير؛ لأنه يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع هذا الحديث من صحابي قد تقدم إ سلامه، ومرسل الصحابي على الاتصال، وليست كل أحاديث أبي هريرة قد سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد استدل ابن حزم على النسخ بوجه آخر، حيث قال: وهذا خبر صحيح - يعني حديث طلق - إلا أنه لا حجة فيه لوجوه: أحدها: أن هذا الخبر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء من مس الفرج، هذا لا شك فيه، فإذا هو كذلك فحكمه منسوخ يقيناً حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء من مس الفرج، فلا يحل ترك ما يتيقن أنه ناسخ، والأخذ بما تيقن أنه منسوخ. وثانيها: أن كلامه عليه السلام " هل هو إلا بضعة منك " دليل على أنه كان قبل الأمر بالوضوء منه؛ لأنه لو كان بعده لم يقل بعده هذا الكلام، بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ، وقوله هذا يدل على أنه لم يكن سلف فيه حكم أصلاً، وأنه كسائر الأعضاء. اهـ وكلام ابن حزم مبني على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صح عنه أنه قال: "وهل هو إلا بضعة منك " وهذا الذي لم يترجح عندي حتى الآن، فلو ثبت أن ذلك من كلامه - صلى الله عليه وسلم - لامتنع أيضاً أن يقال بالنسخ، وذلك أن الحكم إذا ربط بعلة لا يمكن أن تزول، كان الحكم أولى بأنه لا =

الدليل الثاني

الدليل الثاني على ترك الوضوء من مس الذكر: من النظر. ¬

_ = يزول، فالذكر بضعة منا، هذه العلة في عدم الطهارة من مس الذكر ثابتة لا يمكن أن يتصور زوالها، فكان الحكم المترتب عليها كذلك، لكن قد علمت ضعف حديث طلق بن علي. فتلخص من هذا أن من قدم حديث بسرة قدمه لأمور: الأول: الاعتبار برجال الإسناد، فرجال إسناد حديث بسرة أرجح من رجال إسناد حديث طلق. الثاني: قدمه باعتبار أنه حديث ناسخ لحديث طلق بن علي. الثالث: قدمه باعتبار أنه ناقل عن البراءة الأصلية، وحديث طلق على البراءة، وإذا تعارض حديثان أحدهما يوافق البراءة الأصلية، والآخر ينقل عنها، ويشغل الذمة كان الناقل مقدماً. الرابع: أن رواة النقض بمس الذكر أكثر، وأحاديثه أشهر، فقد رود فيه حديث بسرة وأبي هريرة وأم حبيبة وابن عمر وعبد الله بن عمرو وابن عباس وأيوب وغيرهم، بخلاف حديث طلق، فإنه حديث غريب. الخامس: لو قدر تعارض الحديثين من كل وجه لكان الترجيح لحديث النقض لكونه قول أكثر الصحابة كما نقلته عن أحمد بن حنبل في معرض البحث. [وأما من رجح حديث طلق] فمنهم عمرو الفلاس، قال كما في التلخيص الحبير: هو عندنا أثبت من حديث بسرة، وقال علي بن المديني: هو عندنا أحسن من حديث بسرة، وقال الطحاوي: إسناده مستقيم غير مضطرب بخلاف حديث بسرة، وصححه ابن حبان والطبراني وابن حزم إلا أنهم ادعوا فيه النسخ. قلت: قول الإمام علي بن المديني: هو أحسن من حديث بسرة، فكلمة أحسن أفعل تفضيل، لا تدل على أنه حسن مطلقاً، بل هو مقيد بأنه أحسن من حديث بسرة، على أن حديث بسرة له شواهد صحيحة بخلاف حديث طلق، وهو معارض بكلام البخاري في تقديمه حديث بسرة، والله أعلم.

الدليل الثالث

قالوا: النظر دال على أنه لا يجب الوضوء من مسه، فقد قال ابن عبد البر: ذكر عبد الرزاق عن الثوري (¬1)، وأخرجه البيهقي (¬2) بسنده إلى علي ابن المديني، قال: اجتمع سفيان وابن جريج فتذاكرا مس الذكر، فقال ابن جريج: يتوضأ منه، وقال سفيان: لا يتوضأ منه، فقال سفيان: أرأيت لو أن رجلاً أمسك بيده منياً، ما كان عليه؟ فقال ابن جريج: يغسل يده. فقال أيهما أكبر المني أو مس الذكر؟ ولفظ عبد الرزاق: أيهما نجس المني أم الذكر؟ فقال ابن جريج: ما ألقاها عليك إلا الشيطان. قال البيهقي: وإنما أراد ابن جريج أن السنة لا تعارض بالقياس. اهـ قلت: إيجاب الوضوء ليس متلقى من العقل، وإذا كان الحكم الشرعي يخالف في بادي الرأي نظر الإنسان دل ذلك على أن المسألة فيها توقيف، وقد ذكرت هذا الدليل من وجوه ترجيح حديث بسرة على حديث طلق، وبسطت الكلام عليه. الدليل الثالث: قالوا: جوب الوضوء من مس الذكر مما تعم به البلوى، وما عمت به البلوى لا يقبل فيه أخبار الآحاد حتى يكون نقله متواتراً مستفيضاً (¬3). قلت: أين الدليل على هذا الشرط، وخبر الآحاد يجب العمل به كالخبر المتواتر، وحديث إنما الأعمال بالنيات من أعظم الأحاديث التي يعتمد عليها في ¬

(¬1) التمهيد (17/ 202). (¬2) سنن البيهقي (1/ 136). (¬3) انظر الحاوي (1/ 192).

الدليل الرابع

الأحكام، ومع ذلك هو فرد غريب، ولم يمنع ذلك من صحته مع عظم الحاجة إليه، وتبليغ الرسالة من أعظم الأمور، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل آحاد الصحابة لتبليغها عن طريق المكاتبة وغيرها، وكانت الحجة تقوم بذلك، وأكثر الأخبار التي تعم بها البلوى هي أخبار آحاد، والأخبار المتواترة قليلة، بل إن تقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد هو تقسيم حادث، لا يعرف عند أئمة الحديث المتقدمين، والله أعلم. الدليل الرابع: قالوا: تحمل الأحاديث الآمرة بالوضوء على غسل اليد جمعاً بينها وبين حديث طلق. وأجيب: بأن حمله على غسل اليد لا يصح إلا بقرينة، ولا قرينة هنا؛ على أن الألفاظ يجب حملها على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر حملت على الحقيقة العرفية، وحملها على الحقيقة الشرعية لا يمنع منه مانع، خاصة أن حديث قيس لا يصح، والله أعلم. دليل من قال: يستحب الوضوء من مس الذكر. وجه الاستحباب: قالوا: إن حديث طلق السؤال فيه عن وجوب الوضوء من مس الذكر، كما قال في الحديث (أعليه وضوء، فقال: لا) وحديث بسرة وغيرها مما فيه الأمر بالوضوء من مس الذكر يحمل على الاستحباب، جمعاً بين الأدلة. وأجيب: بأن الجمع إنما يكون بين دليل صحيح ودليل آخر مثله أو أعلى منه،

دليل من قال: يجب إن كان المس بشهوة ولا يجب بدونها

وأما أن يكون أحد الحديثين صحيحاً والآخر ضعيفاً فإن الواجب هو العمل بالحديث الصحيح وحده وطرح الضعيف؛ لأن الجمع وإن كان فيه إعمال لكلا الدليلين إلا أن إعمالهما معاً سيكون على حساب الحديث الصحيح إما تقييد لمطلقه أو تخصيص لعمومه، فيخرج أفراد من الحديث الصحيح كان الإطلاق والعموم شاملاً لها مراعاة لحديث غريب لا يصح، فيكون الحديث الضعيف قد جنى على الحديث الصحيح، فهنا الوضوء من مس الذكر مطلق، يشمل ما كان على وجه اللذة وما كان بدونها، ويشمل ما كان متعمداً وغير متعمد، وظاهر الأمر الوجوب، فإذا قمت بتقييد أحاديث الوضوء من مس الذكر بالشهوة، فمعنى هذا أنني أخرجت الوضوء من مسه بدونها، مع أن الأحاديث مطلقة فهذا إخراج لبعض أفراد العموم من أجل حديث ضعيف، والكلام نفسه يقال: فيمن حمل الأحاديث على الاستحباب، مع أن ظاهرها الوجوب، والله أعلم. دليل من قال: يجب إن كان المس بشهوة ولا يجب بدونها. قالوا: إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنما هو بضعة منك إيماء لاعتبار الشهوة لأمرين: الأول: إنك إذا مسست ذكرك بدون شهوة منك لم يكن هناك فرق بينه وبين أي عضو من أعضائك، أما إذا مسسته بشهوة فإنه يفارق بقية الأعضاء حيث يجد اللذة بلمسه دون غيره، وقد يخرج منه شيء، وهو لا يشعر، فما كان مظنة للحدث علق الحكم به كالنوم. ثانياً: أن حديث طلق فيه سؤال عن الرجل يمس ذكره في الصلاة؟ فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو بضعة منك، ومس الذكر بالصلاة لا يكون بشهوة، لأن في الصلاة شغلاً عن مس ذكره بشهوة، بخلاف مسه خارج الصلاة فقد

دليل من قال: ينقض مس الذكر بباطن الكف دون ظاهره

يقع منه المس بشهوة، والله أعلم. وأجيب: أولاً: أن مظنة الخروج سببها الشهوة، وليس المس، ومع ذلك لو انتصب ذكره بشهوة لم يجب عليه الوضوء مع كونه مظنة لخروج الخارج، ولا ينتقض وضوءه حتى يتيقن الخارج، وهذا دليل على أن انتقاض الوضوء من مس الذكر ليس سببه الشهوة، فإن قيل: إن مس الذكر باليد مع انتشار الذكر قد يساعد في خروج الخارج، قيل: لو انتشر الذكر لشهوة ومسه فخذه أو أي عضو من أعضائه غير يده لم يجب عليه الوضوء، مع أن ذلك عامل مساعد لخروج الخارج، بل لو مسه بيده مع حائل لم ينتقض وضوءه فهذا دليل على أن إيحاب الوضوء لم يكن سببه الشهوة، ولا مظنة خروج الخارج من الذكر. ثانياً: أن الذكر بضعة منا سواء مسسناه بشهوة أو بغير شهوة، فهل إذا مس ذكره بشهوة لا يكون بضعة منه. ثالثاً: أن قيد الشهوة لم يرد في الدليلين الموجب للوضوء وغيره، فحديث بسرة: (من مس ذكره فليتوضأ) أين قيد الشهوة من الحديث، وكذا بقية الأحاديث الآمرة بالوضوء من مس الذكر. وحديث طلق (في الرجل يمس ذكره، قال: وهل هو إلا بضعة منك) فهو بضعة من الجسد سواء مس بشهوة أو بغير شهوة، فقيد الشهوة قيد لما أطلقه الشارع بغير دليل. دليل من قال: ينقض مس الذكر بباطن الكف دون ظاهره. استدل الشافعية بحديث أبي هريرة المتقدم: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء). قال الشافعي: الإفضاء باليد إنما هو ببطنها كما تقول: أفضى بيده

مبايعاً، وأفضى بيده إلى الأرض ساجداً أو إلى ركبتيه راكعاً، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بالوضوء إذا أفضى به إلى ذكره فمعلوم أن ذكره يماس فخذيه، وما قارب ذلك من جسده فلا يوجب ذلك عليه بدلالة السنة وضوءاً (¬1). وقال النووي: قال ابن فارس في الجمل: أفضى بيده إلى الأرض إذا مسها براحته في سجوده، ونحوه في صحاح الجوهري وغيره (¬2). ولأن ظهر الكف ليس بآلة لمسه، فالتلذذ لا يكون إلا بالباطن، فالباطن هو آلة مسه. قال الحافظ في التلخيص: «احتج أصحابنا بهذا الحديث في أن النقض إنما يكون إذا مس الذكر بباطن الكف لما يعطيه لفظ الإفضاء؛ لأن مفهوم الشرط يدل على أن غير الإفضاء لا ينقض فيكون تخصيصاً لعموم المنطوق، لكن نازع في دعوى أن الإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف غير واحد، قال ابن سيدة في المحكم: أفضى فلان إلى فلان: وصل إليه، والوصول أعم من أن يكون بظاهر الكف أو باطنها. وقال ابن حزم: الإفضاء يكون بظهر اليد كما يكون ببطنها، وقال بعضهم: الإفضاء فرد من أفراد المس، فلا يقتضي التخصيص» (¬3). اهـ وهذا هو الحق؛ لأن اليد تطلق على الكف كلها، قال تعالى: {والسارق ¬

(¬1) الأم (1/ 20). (¬2) المجموع (2/ 40). (¬3) تلخيص الحبير (1/ 220).

دليل من اشترط العمد في المس

والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬1)، والقطع إنما هو للكف. وقال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬2)، وإنما يمسح الكف كما دل عليه حديث عمار في الصحيح، فإذا ذكر الإفضاء بباطن الكف، وهو فرد من أفراد المطلق لم يقتض تقييداً للمطلق. قال ابن حزم: وحتى لو كان الإفضاء بباطن اليد لما كان في ذلك ما يسقط الوضوء عن غير الإفضاء إذا جاء أثر بزيادة على لفظ الإفضاء، فكيف والإفضاء يكون بجميع الجسد، قال تعالى: {وقد أفضى بعضكم إلى بعض} (¬3) (¬4). دليل من اشترط العمد في المس. الدليل الأول: قوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} (¬5). فدلت الآية على عدم النقض بالنسيان والخطأ. وليس في الآية دليل على عدم النقض بالعمد؛ لأن الآية ليس فيها إلا نفي الجناح، والمقصود به الإثم، ونفي الإثم لا يدل على بقاء الطهارة. ¬

(¬1) المائدة: 38. (¬2) المائدة: 6. (¬3) النساء: 21. (¬4) المحلى (1/ 222). (¬5) الأحزاب: 5.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: قالوا: إن الشرط في مس الذكر أن يمس بقصد وإرادة؛ لأن العرب لا تسمي الفاعل فاعلاً إلا بقصد منه إلى الفعل، وهذه الحقيقة في ذلك، ورجح ذلك ابن عبد البر (¬1)، واختاره ابن تيمية في الفتاوى، وقال: إذا لم يتعمد ذلك لم ينتقض وضوءه (¬2). الدليل الثالث: قالوا: الوضوء المجمع عليه لا ينتقض إلا بإجماع أو سنة ثابتة غير محتملة للتأويل، وعليه فلا يجب الوضوء إلا من مس ذكره قاصداً مفضياً (¬3). ويجاب: بأن اشتراط العمد فيه إشكال؛ لأن معناه أنه حكم تكليفي، فإذا مسه عن طريق الخطأ لم ينتقض الوضوء، ويلزم من ذلك ألا ينتقض وضوء الصي بمسه ذكره؛ لأن عمد الصبي بمنزلة الخطأ، ولعدم توفر القصد الصحيح، والراجح عندي أن المس حكم وضعي، فإذا كان مس الذكر مفسداً للطهارة استوى فيه العمد والخطأ كباقي الأحداث، فكما أنه إذا خرجت منه ريح أو بول لم يفرق بين العامد وغيره، فكذلك مس الذكر، والله أعلم. هذه خلاصة الأقوال في المسألة، وأدلة كل قول، وأجد القول الراجح في المسألة هو القول بوجوب الوضوء من مس الذكر، لضعف حديث طلق بن ¬

(¬1) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 335). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 231). (¬3) بتصرف (3/ 342).

علي، وصحة الأحاديث الواردة في وجوب الوضوء من مس الذكر وكثرتها، والله أعلم. تنبيه: يشترط في النقض بمس الذكر شرطين: الأول: أن يكون مسه بالكف، وسبق ذكر دليله. الثاني: أن يكون مسه بلا حائل، ودليله حديث أبي هريرة المتقدم: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء) وسبق تخريجه. وقال ابن حزم: والماس على الثوب ليس ماساً (¬1). ¬

(¬1) المحلى (1/ 225).

المبحث الثاني: في مس المرأة فرجها

المبحث الثاني: في مس المرأة فرجها اختلف العلماء في مس المرأة فرجها، هل ينقض الوضوء أم لا؟ فقيل: لا ينقض مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: ينقض مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). واختلف النقل عن مالك، فقيل: عليها الوضوء كالرجل، قال ابن عبد البر في الكافي: وهو الأشهر (¬4). وقيل: لا يجب عنها إلا أن تلطف وتلتذ. وقيل: لا يجب مطلقاً، حكاه جماعة بأنه هو المشهور من المذهب (¬5). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 56)، تبيين الحقائق (1/ 12)، البحر الرائق (1/ 45). (¬2) الأم (1/ 19)، المجموع (2/ 38)، الحاوي (1/ 195)، مغني المحتاج (1/ 35،36) مختصر المزني (ص:40) نهاية المحتاج (1/ 118،119)، روضة الطالبين (1/ 75). (¬3) كشاف القناع (1/ 126)، الفروع (1/ 179)، الإنصاف (1/ 209)، شرح الزركشي (1/ 251). (¬4) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 12). (¬5) ساق ابن رشد في المقدمات (1/ 102) عن مالك أربع روايات، فقال: " أحدها: سقوط الوضوء. والثانية: استحبابه. والثالثة: إيجابه. والرابعة: التفرقة بين أن تلطف أو لا تلطف، وهي رواية ابن أبي أويس عنه. فأما الرواية الأولى والثانية فواحدة في إسقاط الوجوب، وذهب أبو بكر الأبهري: إلى أن ذلك كله ليس باختلاف رواية، وإنما هو اختلاف أحوال، فرواية ابن القاسم وأشهب في سقوط الوضوء، معناها: إذا لم تلطف، ولا قبضت عليه فالتذت. =

دليل من قال: يجب عليها الوضوء

دليل من قال: يجب عليها الوضوء. الدليل الأول: (1067 - 296) ما رواه أحمد من طريق بقية، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس ذكره فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ. [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬1). ¬

= ورواية علي بن زياد عن مالك في وجوب الوضوء معناها: إذا ألطفت على ما بُيِّن في رواية ابن أبي أويس، عن مالك. ومن أصحابنا من يحمل الروايات كلها على روايتين: إحداهما: وجوب الوضوء. والثانية: سقوطه، والوجوب متعلق بالإلطاف والالتذاذ. فإذا مست المرأة فرجها فلم تلطف ولم تلتذ فلا وضوء عليها عند مالك ولم يختلف عنه في ذلك، فإذا ألطفت والتذت وجب عليها الوضوء عند مالك بلا خلاف، وقيل: إن عنه في ذلك روايتين على ما بيناه. اهـ وقال في أسهل المدارك (1/ 60): وفي مس المرأة فرجها خلاف، وقد علمت أن المعتمد الذي به الفتيا عدم النقض ولو ألطفت، وعليه مشى خليل. والإلطاف: أن تدخل المرأة يدها بين شفري فرجها ". وفي الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 123): " ولا مس امرأة فرجها - يعني: ولا ينقض- ألطفت أم لا، قبضت عليه أم لا، وهذا هو المذهب، وأوِّلت أيضاً بعدم الإلطاف، فإن ألطفت انتقض، والإلطاف: أن تدخل شيئاً من يدها في فرجها. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/ 302) المطبوع بهامش مواهب الجليل، الخرشي (1/ 158)، وصرح الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 145) بأن المذهب المالكي لا ينتقض بمس المرأة فرجها ولو ألطفت. (¬1) سبق تخريجه، انظر رقم (1061).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1068 - 297) ما وراه ابن أبي شيبة من طريق مكحول، عن عنبسة ابن أبي سفيان، عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس فرجه فليتوضأ. [إسناده منقطع وسبق تخريجه] (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (من مس فرجه) فكلمة (من) من ألفاظ العموم تشمل الرجل والمرأة، وسوأة المرأة يقال لها: فرج، كما قال تعالى: {والحافظين فروجهم والحافظات} (¬2)، والحديث وإن كان قد اختلف فيه: هل سمع مكحول من عنبسة أم لا؟ إلا أنه شاهد للحديث الأول من حديث عبد الله بن عمرو. الدليل الثالث: (1069 - 298) ما رواه الطبراني في الصغير من طريق أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك النوفلي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء (¬3). [سبق تخريجه] (¬4). ¬

(¬1) انظر حديث رقم (1059). (¬2) الأحزاب: 35. (¬3) المعجم الصغير (1/ 42). (¬4) انظر حديث رقم (1060).

الدليل الرابع

وجه الاستدلال: الحديث علق الوضوء بمس الفرج، ولو علقه بالذكر لقيل: إن الحكم خاص بهذا المسمى، والمرأة ليس لها ذكر، فحين علقه بمسمى الفرج فما ثبت لفرج الرجل ثبت لفرج المرأة إلا بدليل، ثم إن كلمة (فرجه) الفرج: اسم جنس مضاف فيعم كل فرج، وذكر الذكر في حديث بسرة لا يقتضي تخصيص الفرج؛ لأن الذَّكَر بعض أفراده، وذكر فرد من أفراد المطلق أو العام بحكم يوافق المطلق والعام لا يقتضي تخصيصاً. كما أن من نص على أن الفرج لا يدخل في مسمى الذَّكَر إنما أخذ بطريق المفهوم، والمفهوم لا عموم له. الدليل الرابع: (1070 - 299) ما رواه الطحاوي من طريق عبد الله بن المؤمل المخزومي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن بسرة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: المرأة تضرب بيدها، فتصيب فرجها، قال: تتوضأ يا بسرة. [وهذا حديث منكر] (¬1). الدليل الخامس: (1071 - 300) ما رواه الداقطني من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص العمري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، ¬

(¬1) عبد الله بن المؤمل ضعيف، وقد خالف الثقة الزبيدي، فقد رواه كما تقدم عن عمرو بن شعيب، وليس فيه ذكر بسرة، كما أن حديث بسرة المحفوظ فيه أنه في مس الذكر، لا في مس الفرج، والله أعلم. وانظر تخريجه كاملاً، والكلام على طرقه في حديث رقم (2063).

الدليل السادس

عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون، ولا يتوضئون. قالت عائشة: بأبي وأمي هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ قال: إذا مست إحداكن فرجها، فلتتوضأ للصلاة. قال الدارقطني: عبد الرحمن العمري ضعيف (¬1). [قلت: بل الحديث ضعيف جداً] (¬2). الدليل السادس: (1072 - 301) ما أخرجه البيهقي من طريق أبي موسى الأنصاري، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، قال: سألت الزهري عن مس المرأة فرجها أتتوضأ؟ فقال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان بن الحكم، عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ، والمرأة كذلك (¬3). [قوله والمرأة كذلك من قول الزهري وليست من الحديث المرفوع] (¬4). ¬

(¬1) الحديث ضعيف جداً إن لم يكن موضوعاً، والعمري كذبه أحمد. وقال النسائي وأبو حاتم وأبو زرعة: متروك. (¬2) تكلمت عليه ضمن الكلام على حديث بسرة، انظر (2060) عند بيان الاختلاف في رويات هشام بن عروة لحديث بسرة. وانظر طريقه هذا في إتحاف المهرة (22256). (¬3) سنن البيهقي (1/ 132). (¬4) الحديث قد اختلف فيه على الوليد بن مسلم: فرواه أبو موسى الأنصاري، عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة كما تقدم في إسناد الباب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ووراه البيهقي (1/ 132) من طريق هشام بن عمار. وابن حبان (1117) من طريق عبد الله بن أحمد بن ذكوان الدمشقي، كلاهما عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة. فخالف في موضعين: الأول: كون الزهري يرويه مباشرة عن عروة. الثاني: إسقاط مروان من الإسناد. والأول أرجح لأن المحفوظ أن الزهري يرويه عن عبد الله بن أبي بكر، هكذا رواه جماعة عن الزهري منهم شعيب وعقيل والليث وغيرهم وقد تكلمت على هذا في الكلام على حديث بسرة في المسألة السابق، فأغنى عن إعادته هنا. هذا وجه المخالفة في الإسناد، وأما قوله " والمرأة كذلك " فهو من كلام الزهري، والدليل على ذلك: أن الحديث في هذا الإسناد وقع جواباً على سؤال ألقاه عبد الرحمن بن نمر عن مس المرأة فرجها، فكأن الزهري يقول: إذا كان هذا حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الرجل، فالمرأة كذلك، بدليل أن جميع من رواه عن الزهري من غير طريق عبد الرحمن بن نمر لم يذكر المرأة منهم الليث وشعيب وعقيل ومعمر وغيرهم، وكل من رواه عن عبد الله بن أبي بكر غير الزهري كذلك لم يذكر المرأة كمالك وشعبة وسفيان وغيرهم. وقد جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/ 38): سألت أبي عن حديث رواه الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، عن عروة عن مروان، عن بسرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يأمر بالوضوء من مس الذكر، والمرأة مثل ذلك؟ فقال: هذا حديث وهم فيه في موضعين: أحدهما أن الزهري يرويه عن عبد الله بن أبي بكر، وليس في الحديث ذكر المرأة. اهـ وقال البيهقي (1/ 132): ظاهر هذا يدل على أن قوله: " قال: والمرأة مثل ذلك " من قول الزهري، ومما يدل عليه أن سائر الرواة رووه عن الزهري، دون هذه الزيادة. اهـ قلت: الصحيح أيضاً من حديث بسرة أنه في مس الذكر، لا في مس الفرج، ومن رواه بلفظ الفرج إنما رواه بالمعنى، ومن اطلع على جميع طرق الحديث لا يشك لحظة أن الحديث في =

دليل من قال: لا ينتقض وضوء المرأة إذا مست فرجها

دليل من قال: لا ينتقض وضوء المرأة إذا مست فرجها. الدليل الأول: الأصل بقاء الطهارة حتى يوجد دليل صحيح صريح في أن الطهارة قد انتقضت، ولا يوجد دليل هنا؛ لأن جميع الأحاديث التي وردت بمس الفرج لا تخلو من مقال، جاء في المغني لابن قدامة: قال المروذي: قيل لأبي عبد الله: الجارية إذا مست فرجها أعليها وضوء؟ قال: لم أسمع في هذا بشيء. قلت لأبي عبد الله: حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ؟ فتبسم، وقال: هذا حديث الزبيدي، ليس حديثه بذاك. وأجيب: بأن حديث عبد الله بن عمرو الذي أشار الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى ضعفه قد صححه البخاري فيما نقله عنه الترمذي، والإسناد إلى عمرو بن شعيب إسناد صحيح، ويبقى الحكم في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهو سند حسن عند أكثر المحققين، والله أعلم. الدليل الثاني: الحديث الوارد في وجوب الوضوء إنما ورد في مس الذكر، ومس المرأة فرجها ليس في معناه، لكونه لا يدعو إلى خروج خارج. ¬

_ = مس الذكر، ولولا خشية الإطالة لجمعت الرواة الذين رووه بمس الذكر، وقارنتهم بمن خالفهم، فتركت ذلك اختصاراً خاصة أنني كتبت في حديث بسرة بحثاً مطولاً جداً، وأخشى أن يفهم ذلك على أنه نوع من التكرار والإطالة، فمن أراد أن يقف على ذلك فليرجع إلى المصادر التي أشرت إليها في تخريج حديث بسرة، وليقارن بين ألفاظها، وسيتبين له إن شاء الله تعالى اللفظ المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الدليل الثالث

وأجيب: بأن العلة في وجوب الوضوء من مس الذكر ليس كونه مظنة خروج خارج؛ لأن العلة هذه لم ينص عليها الشارع، ولم يتفق في كونها هي العلة، ولو كانت هي العلة لكنا إذا تيقنا بأنه لم يخرج خارج بقيت الطهارة على حالها كما قيل في النوم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم في المس، ومن مس ذكره بدون شهوة لم يكن مظنة لخروج شيء من ذكره، ومع ذلك ظاهر النصوص توجب الوضوء؛ لأن الحكم معلق على مطلق المس بدون قيد الشهوة. الدليل الثالث: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث طلق بن علي حين سئل عن مس الذكر، هل ينقض الوضوء؟ فقال: إنما هو بضعة منك، فإذا كانت العلة في عدم النقض من مس الذكر كونه بضعة من جسم الرجل، فكذلك فرج المرأة بضعة من جسدها، لا يوجب وضوءاً. وأجيب: بأن حديث طلق بن علي حديث ضعيف كما بينته في الخلاف في مس الذكر، وقد بينت وجوهاً كثيرة في تقديم حديث بسرة على حديث طلق في المسألة التي قبل هذه. الراجح من أقوال أهل العلم. الذي أميل إليه أن مس المرأة فرجها ناقض للوضوء، إما بالنص على النقض من مس الفرج إن صحت الأحاديث بذلك، وإما بالقياس على الرجل لعدم الفارق، والله أعلم.

المبحث الثالث: في مس المرأة ذكر الرجل والعكس ومس فرج الصغير

المبحث الثالث: في مس المرأة ذكر الرجل والعكس ومس فرج الصغير اختلف العلماء في ذلك، فقيل: لا ينقض مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: ينقض مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: حكم مس الفرج من الغير حكم مس الأجنبي، فإن كان مسه بشهوة انتقض وإن مسه بغير شهوة لم ينتقض، وهو مذهب المالكية، إلا أنهم اختلفوا في مس فرج الصغير إذا التذ بلمسه على قولين (¬4). دليل من قال: لا ينقض مطلقاً. الدليل الأول: قالوا: الأصل بقاء الطهارة، فلا تنتقض طهارة مجمع عليها إلا بدليل صحيح صريح، ولا دليل هنا. الدليل الثاني: كل دليل استدل به الحنفية على عدم الوضوء من مس الفرج، يستدلون ¬

(¬1) سبق أن نقلت في خلاف العلماء في مس الذكر، أن مذهب الحنفية لا يرون النقض مطلقاً من مس الذكر، سواء مس ذكره هو، أو مس ذكر غيره، وسواء كان متصلاً أو منفصلاً، وسواء كان من حي أو من ميت، فانظر العزو هناك يغني عن إعادته هنا. (¬2) انظر العزو إلى كتبهم في الكلام على خلاف العلماء في الوضوء من مس الذكر. (¬3) انظر العزو إلى كتبهم في الكلام على خلاف العلماء في الوضوء من مس الذكر. (¬4) مواهب الجليل (1/ 299)، التلقين (ص: 50)، القوانين الفقهية (ص: 22)، الشرح الصغير (1/ 142)، الشرح الكبير (1/ 120)،

الدليل الثالث

به هنا، كحديث طلق بن علي وغيره من الأدلة، وقد سقناها في مسألة مستقلة فارجع إليها. الدليل الثالث: على التنزل والأخذ بحديث بسرة ونحوه مما يدل على وجوب الوضوء من مس الذكر، فإن لفظ الأحاديث الواردة (من مس ذكره فليتوضا) (أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ) فالنصوص وردت في فرج نفسه، لا في فرج غيره، والعلة غير معقولة المعنى فلا يصح قياس غيره عليه. الدليل الرابع: (1073 - 302) ما رواه البيهقي من طريق يعقوب أبي العباس، حدثنا محمد بن إسحاق، ثنا محمد بن عمران، حدثني أبي، حدثني ابن أبي ليلى، عن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء الحسن، فأقبل يتمرغ عليه، فرفع عن قميصه، وقبل زبيبته (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 137). (¬2) قال البيهقي بعده: هذا إسناد غير قوي، وليس فيه أنه مسه بيده، ثم صلى ولم يتوضأ. قلت: في إسناده عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، لم يوثقه إلا ابن حبان، وفي التقريب: مقبول، يعني: حيث يتابع وإلا ففيه لين. وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، صدوق سيء الحفظ. وله شاهد عند الطبراني (2658) من طريق قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فرج ما بين فخذي الحسين، وقبل زبيبته. وهذا إسناد ضعيف أيضاً، فيه قابوس بن أبي ظبيان، ضعفه النسائي وغيره، وفي التقريب: فيه لين. =

دليل من قال بالنقض مطلقا

دليل من قال بالنقض مطلقاً. الدليل الأول: (1074 - 303) ما رواه عبد الرزاق ومن طريقه الطحاوي، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: تذاكر هو ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال مروان: حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج، فكأن عروة لم يقنع بالحديث، فأرسل مروان إليها شرطياً، فرجع فأخبرهم، أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج. قال معمر: وأخبرني هشام بن عروة، عن أبيه مثله. وجه الاستدلال: قوله في الحديث: (يأمر بالوضوء من مس الفرج) وهذا مطلق، سواء كان فرجه أو فرج غيره، من ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، حي أو ميت. وأجيب: بأن هذا اللفظ شاذ، والرواية المحفوظ في الحديث (إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ) (¬1). ¬

= وليس في الحديث شاهد لمسألتنا، قال الحافظ في التلخيص (1/ 222): وإذا تقرر أنه ليس في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى عقب ذلك، فلا يستدل به على عدم النقض، نعم يستدل به على جواز مس فرج الصغير ورؤيته. (¬1) انفرد بهذه اللفظة الزهري، رواه عنه معمر، وقد اختلف على معمر فيه: فرواه عبد الرزاق عنه كما سبق في إسناد الباب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه شعبة عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة، بلفظ: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ. ولم يقل: كان يتوضأ من مس الفرج. روواه شعيب كما في مسند أحمد (6/ 406). وعقيل كما في سنن البيهقي (1/ 132) كلاهما عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر أنه سمع عروة بن الزبير يقول: ذكر مروان بن الحكم في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مس الذكر إذا أفضى إليه الرجل بيده، فأنكرت ذلك عليه، فقلت: لا وضوء على من مسه. فقال مروان: أخبرتني بسرة أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر ما يتوضأ منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويتوضأ من مس الذكر. وهذا مطلق يشمل ذكره وذكر غيره، لكن قد خالف فيه الزهري جميع من رواه عن عبد الله بن أبي بكر، منهم: مالك كما في الموطأ (1/ 42). سفيان بن عيينة كما في مسند الحميدي (352). ابن علية كما في مسند أحمد (6/ 406). وشعبة كما في مسند أبي داود الطيالسي (1657)، فكل هؤلاء رووه عن عبد الله بن أبي بكر بلفظ: من مس ذكره فليتوضأ، وخالفوا فيه الزهري. كما رواه هشام بن عروة عن أبيه بلفظ: من مس ذكره فليتوضأ، رواه عنه كل من: أبو أسامة كما في المنتقى لابن الجارود (17). وعبد الله بن إدريس كما في رواية ابن ماجه (479). وسفيان الثوري كما في صحيح ابن حبان (1116). ويحيى بن سعيد القطان كما في مسند أحمد (6/ 406)، والترمذي (82)، والنسائي (447) كلهم رووه عن هشام بن عروة، عن عروة به، بلفظ: من مس ذكره فليتوضأ. ولم يقل أحد منهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: يتوضأ من مس الذكر إلا الزهري، والزهري قد اختلف عليه في الحديث اختلافاً كثيراً، فقيل: عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة. وقيل: عن الزهري، عن عروة، عن بسرة بدون ذكر مروان. وقيل: عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، عن زيد بن خالد. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: قال ابن قدامة: إن مس ذكر غيره معصية، وأدعى إلى الشهوة وخروج الخارج، وحاجة الإنسان تدعو إلى مس ذكر نفسه، فإذا انتقض بمس ذكر نفسه، فبمس ذكر غيره أولى. قلت: أما كون مس ذكر الغير معصية فليست العلة في النقض كونه معصية، ولذلك لا يجب الوضوء من الكذب والغيبة والنميمة وهي من كبائر الذنوب، ولا يلزم أن يكون مس ذكر الغير معصية كما لو مست المرأة ذكر زوجها، أو طفلها. وأما كونه مدعاة للشهوة وخروج الخارج، فليست هذه هي العلة أيضاً ولذلك لو مسه بشهوة مع الحائل لم ينتقض وضوؤه مع كونه مدعاة للشهوة وخروج الخارج، وكما لو مسه بغير يده بدون حائل لم ينتقض وضوؤه، فالعلة في النقض من مس الذكر إنما هي تعبدية ليست معقولة المعنى، والله أعلم. دليل من قال: حكم مس الفرج من الغير حكم مس بدن الأجنبية. سوف يأتي إن شاء الله تعالى ذكر أدلة هذه المسألة في بحث مستقل في حكم مس المرأة بشهوة، ونبين فيها بحوله وقوته الراجح فيها. ¬

_ = وقيل: الزهري، عن عروة، عن زيد بن خالد بدون ذكر بسرة. وقيل: الزهري، عن عروة، عن عائشة. وقيل: الزهري، عن أبي بكر بن حزم، عن عروة، عن بسرة. وقيل: الزهري، عن عبد الله بن عبد القاري عن أبي أيوب. وسبق أن تكلمت على هذه الطرق، والراجح منها حين تخريج حديث بسرة، فهذا الاختلاف على الزهري في الإسناد يدل على أنه لم يضبط الحديث، فإذا خالف في متنه لم يقدم على الحفاظ الذين لم يختلفوا في متن الحديث.

الراجح في هذه المسألة، والله أعلم القول بعدم النقض، واختاره ابن عبد البر، حيث يقول: والنظر عندي في هذا الباب أن الوضوء لا يجب إلا على من مس ذكره أو فرجه قاصداً مفضياً، وأما غير ذلك منه أو من غيره فلا يوجب الظاهر، والأصل أن الوضوء المجتمع عليه لا ينتقض إلا بإجماع أو سنة ثابتة غير محتملة للتأويل (¬1). وكلامه جيد إلا أن اشتراط القصد قول مرجوح، وقد ناقشنا وجه كونه مرجوحاً فيما تقدم، والله أعلم. ¬

(¬1) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 342).

الفرع الأول: في مس فرج الميت

الفرع الأول: في مس فرج الميت قال ابن قدامة: ((وفرج الميت كفرج الحي؛ لبقاء الاسم والحرمة؛ ولاتصاله بجملة الآدمي، وهو قول الشافعي. وقال إسحاق: لا وضوء عليه)) (¬1). اهـ قلت: قول إسحاق هو الراجح؛ لأن النصوص إنما وردت في فرج نفسه، لا في فرج غيره، وكما قلت: يخطئ من يعتقد أن العلة في النقض إذا مسه بشهوة كونه مظنة لخروج حدثٍ ناقضٍ للوضوء؛ لأن الأحاديث مطلقة، ولم تقيده بالشهوة، ولا يقيد النص الشرعي إلا نص مثله أو إجماع، ولو كانت العلة مظنة خروج الحدث لكان انتشار الذكر بشهوة موجباً للوضوء، ولكان مس الذكر بشهوة، ولو من وراء حائل موجباً له، لأنه مظنة لخروج شيء من الفرج، والوقوف عند النص ما دام أن العلة ليس معقولة هو الاحتياط، والجزم بفساد العبادة الثابتة بدليل لا يجوز إلا بدليل صريح في المسألة، وحين أقول بذلك ليس الحامل له رد القياس؛ فإن تركه جمود، لكني أقول به لعدم وضوح العلة في المسألة، ولا بد حتى يلحق الفرع بالأصل من كون العلة معقولة المعنى، وهذا الذي لم يتضح لي في مس ذكر الغير، كبيراً كان أو صغيراً حياً كان أو ميتاً، وحديث (يتوضأ من مس الذكر) لا يثبت هذا اللفظ كما بينت في المسألة التي قبل هذه، والمحفوظ من حديث بسرة لفظ: (من مس ذكره فليتوضأ) والاحتياط ليس في جانب إفساد العبادة، بل الاحتياط اعتبار صحة الوضوء حتى يتيقن الناقض أو يغلب على الظن وقوعه، والله أعلم بالصواب، وهو الهادي وحده إلى الحق. ¬

(¬1) المغني (1/ 117).

الفرع الثاني: في مس الذكر المنفصل

الفرع الثاني: في مس الذكر المنفصل اختلف القائلون بنقض الوضوء من مس الذكر المتصل إذا مَسَّ ذكراً منقطعاً، هل ينتقض وضوؤه أم لا؟ فقيل: لا ينقض، وهو مذهب المالكية (¬1)، واختاره بعض الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: ينتقض، وعليه أكثر الشافعية (¬4)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬5). دليل من قال: لا ينقض. قالوا: الدليل ورد في الذكر المتصل، فلا دليل على المنفصل؛ ولأنه لا لذة في لمسه، ولا يقصد لمسه، ولذهاب الحرمة، فلا يحرم النظر إليه. دليل من قال: بالنقض. قالوا: بأنه يقع عليه اسم الذكر، فيصدق عليه أنه مس ذكراً فعليه الوضوء. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 299)، حاشية الدسوقي (1/ 121)، أسهل المدارك (1/ 60)، الشرح الصغير (1/ 145). (¬2) المجموع (2/ 42). (¬3) كشاف القناع (1/ 127)، الإنصاف (1/ 204)، المغني (1/ 244). (¬4) المجموع (2/ 42)، روضة الطالبين (1/ 75)، مغني المحتاج (1/ 35). (¬5) الإنصاف (1/ 204).

والراجح القول الأول، لأن النص إنما ورد في ذكر الشخص المتصل، فإذا كنا قد رجحنا أنه لا ينتقض وضوؤه إذا مس ذكر غيره مع اتصاله ببدن صاحبه، فهذا من باب أولى، ومن هذه المسألة مس القلفة التي تقطع للختان، فإن مسها قبل قطعها انتقض وضوؤه عند من يقول بنقض الوضوء بمس ذكر الغير، وتعليلهم: لأنها من جلدة الذكر، وإن مسها بعد القطع لم ينتقض؛ لأنه بائن من الذكر لا يقع عليه اسم الذكر.

المبحث الرابع: في الملموس ذكره

المبحث الرابع: في الملموس ذكره اختلف العلماء القائلون بنقض الوضوء من مس الذكر، هل ينتقض وضوء الملموس ذكره، أو أن الحكم يختص باللامس فقط؟ فقيل: إن كان الملموس بالغاً، ووجد لذة من ذلك، أو وجد منه قصد بأن مالت نفسه بأن يلمسه غيره، فلمسه انتقض وضوؤه، وهو مذهب المالكية. وقيل: لا ينتقض وضوءه، وهو مذهب الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة. دليل من قال بنقض الوضوء إن وجد منه قصد أو لذة. جعل المالكية هذه المسألة من باب لمس الأجنبي، فإذا لمس الرجل أجنبياً بلذة انتقض وضوؤه، ومثله الملموس إن وجد منه لذة، وسوف يأتي بحثها في مسألة مستقلة ونذكر أدلتهم التفصيلية إن شاء الله تعالى. دليل من قال لا ينتقض وضوء الملموس. الدليل الأول: الإجماع على عدم وجوب الوضوء على الملموس، قال المجد ابن تيمية نقلاً من الإنصاف: لا أعلم فيه خلافاً - يعني في عدم وجوب الوضوء على الملموس. ونقل الإجماع غير دقيق لما علمت من مذهب المالكية واختاره كثير من الخرسانيين من الشافعية من القول بالنقض، والله أعلم.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: قالوا: إن الأحاديث الواردة جاءت في اللامس، لا في الملموس، فلا نتعدى النص، ولو كان النقض يسري إلى الملموس لأمر بالوضوء كما أمر اللامس، فلما لم يؤمر علمنا أنه لم ينتقض وضوؤه. وهذا القول مع كونه يتفق مع النص إلا أنه لا يتفق مع العلة التي ذكروها في نقض اللامس، فإنهم قد عللوا النقض بكونه مظنة لخروج الخارج خاصة إذا كان ذلك عن شهوة، فالعلة موجودة في الملموس إذا انتشر ذكره بسبب لمس غيره، ووجد لذة فإن المظنة موجودة، فكان لزاماً عليهم أن يطردوا العلة، وفي هذا بيان أن العلة التي استنبطوها لم تكن هي العلة الحقيقية في وجوب الوضوء من مس الذكر، وإذا رجحنا أن الأمر تعبدي وقفنا عند ظاهر النص، وأوجبنا الوضوء على من لمس ذكره فقط، سواء كان ذلك عن شهوة أم كان من غير شهوة، دون من لمس ذكر غيره ودون الملموس، والله أعلم.

فرع: في مس المرأة شفري فرجها

فرع: في مس المرأة شفري فرجها اختلف العلماء في مس المرأة شفري فرجها، هل ينتقض الوضوء أم لا. فقيل: لا ينتقض الوضوء بمس الشفرين، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2)، وقال الشافعية: ينتقض إن مس ملتقى الشفرين على المنفذ (¬3). ¬

(¬1) تقدم لنا تحرير الأقوال في مذهب مالك رحمه الله في مسألة مس المرأة فرجها، وقدمنا فيه أربعة أقوال، ومن هذه الأقوال القول بنقض الوضوء بشرط أن تلطف، والإلطاف: أن تدخل المرأة يدها بين شفري فرجها، وعليه فلا ينقض مجرد مس الشفرين، والله أعلم انظر المراجع في مسألة مس المرأة فرجها، فقد عزونا الأقوال في مذهب مالك إلى كتب المالكية المعتمدة، والله أعلم. (¬2) قال في كشاف القناع (1/ 128): " ولا ينقض مس امرأة شفريها، وهما اسكتاها؛ لأن الفرج هو مخرج الحدث، وهو ما بينهما دونهما " والظاهر أن الشفرين غير الإسكتين، جاء في اللسان (4/ 419): يقال لناحيتي فرج المرأة: الإسكتان، ولطرفيهما: الشفران. وجاء في نهاية المحتاج (1/ 119): الشفران هما اللحمان المحيطان بالفرج إحاطة الشفة بالفم. (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 44): قال أصحابنا: لا ينقض مس الأنثيين وشعر العانة من الرجل والمرأة, ولا موضع الشعر, ولا ما بين القبل والدبر, ولا ما بين الأليين، وإنما ينقض نفس الذكر وحلقة الدبر وملتقى شفري المرأة, فإن مست ما وراء الشفر لم ينقض بلا خلاف، صرح به إمام الحرمين والبغوي وآخرون. اهـ وقال الأنصاري في شرح البهجة (1/ 139): قوله: (ملتقى المنفذ) قال م ر (الشمس بن الرملي) في حاشية شرح الروض: المراد بقبل المرأة الشفران على المنفذ من أولهما إلى آخرهما: أي بطناً وظهراً، لا ما هو على المنفذ منهما كما وهم فيه جماعة من المتأخرين. وقال ولده في شرح العباب: المراد بملتقى الشفرين طرف الأسكتين المنضمتين على المنفذ، ولا يشترط مسهما بل مسهما أو مس أحديهما من باطنها أو ظاهرها بخلاف موضع ختانها; لأنه لا يسمى فرجاً. اهـ وقال ع ش (ابن حجر الهيتمي في شرح العباب): والإسكتان ناحيتا الفرج، =

دليل من قال: لا ينقض: قالوا: إن النقض علق بمس الفرج، والفرج هو مخرج الحدث، لا ما قاربه. قلت: إن كانت اللغة تساعدهم قبل ذلك اعتماداً على الحقيقة اللغوية، وإلا فإن حافتي الفرج المتصلة به حكمها حكم الفرج، ومثلها حافة الدبر المستديرة، وكأنهم يشترطون إدخال اليد في الفرج حتى ينقض، وهذا ما صرح به المالكية، وقد جاء في اللسان: «الفرج: اسم لجميع سوآت الرجال والنساء والفتيان وما حواليها كله فرج» (¬1) اهـ فجعل ما حوالي الفرج منه، ولو اعتبرنا مخرج الحدث للزم أن نعتبر من الذكر مخرج البول فقط؛ لأنه هو الفرج، جاء في اللسان: الفرج: الثغر المخوف، وجمعه فروج، سمي فرجاً؛ لأنه غير مسدود: أي ينفرج على الجوف (¬2). والله أعلم. ¬

= والشفران طرفاهما، قاله الأزهري ع ش أيضاً. وعبارة المجموع: ملتقى شفري المرأة وظاهرها كغيرها أن الناقض هو القدر المماس من كل من الشفرين للآخر عند الانطباق فقط، وبهامش حاشية الشرح بخط عالم ما نصه: المتعمد النظر لما يلتقي: وهو تماس أحد الحرفين مع الآخر فليتأمل، وعبارة التحفة: والناقض من قبل الآدمي ملتقى شفريه المحيطين بالمنفذ إحاطة الشفتين بالفم دون ما عدا ذلك. اهـ وهو موافق لما بالهامش المذكور. وعبارة م ر في شرح المنهاج والمراد بحلقة الدبر: ملتقى المنفذ دون ما وراءه. قال ع ش: مقتضى تقييده بالملتقى عدم النقض بما يظهر عند الاسترخاء; لأنه ليس من الملتقى بل زائد عليه; لأنه ليس محل الالتقاء اهـ فيفيد أن الملتقى هو محل الالتقاء فقط قال ع ش أيضاً: وهو مخالف لما مر عن شرح العباب والحق أن العبارة محتملة فيرجع لما في شرح العباب. أهـ (¬1) اللسان (2/ 342). (¬2) المرجع السابق نفس الصفحة.

المبحث الخامس: في مس فرج البهيمة

المبحث الخامس: في مس فرج البهيمة اختلف العلماء في مس فرج البهيمة، فقيل: لا ينقض الوضوء مس فرج البهيمة مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وإحدى القولين في مذهب المالكية (¬3). وقيل: ينقض مطلقاً، وهو قول الليث (¬4). وقيل: ينقض الوضوء إذا قصد اللذة أو وجدها، وهو إحد القولين في مذهب المالكية (¬5). وقيل: ينقض مس قبل البهيمة دون دبرها، وهو اختيار الرافعي من الشافعية (¬6). ¬

(¬1) المجموع (2/ 43)، روضة الطالبين (1/ 75)، مغني المحتاج (1/ 36). (¬2) الإنصاف (1/ 203)، شرح منتهى الإرادات (1/ 71)، المغني (1/ 264)، الفروع (1/ 181)، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 231): لمس فرج الحيوان غير الإنسان لا ينقض الوضوء حياً ولا ميتاً باتفاق الأئمة، وذكر بعض المتأخرين من أصحاب الشافعية فيه وجهين، وإنما تنازعوا في مس فرج الإنسان خاصة. اهـ (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 119) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 144)، مواهب الجليل (1/ 302). (¬4) الأوسط (1/ 211). (¬5) مواهب الجليل (1/ 302)، حاشية الدسوقي (1/ 119). (¬6) المجموع (2/ 43).

دليل من قال بالنقض من مس فرج البهيمة

وقيل: ينقض مس فرج الحيوان النجس الذي لا يؤكل لحمه، وأما الحيوان الطاهر المأكول اللحم فلا ينقض مس فرجه، وهو قول عطاء رحمه الله تعالى (¬1). وهذه المسألة وغيرها لا تتأتى على مذهب الحنفية الذين لا يقولون بالوضوء من مس الفرج مطلقاً. دليل من قال بالنقض من مس فرج البهيمة. (1075 - 304) استدل بما رواه عبد الرزاق، ومن طريقه الطحاوي عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: تذاكرا هو ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال مروان: حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج، فكأن عروة لم يقنع بحديثه، فأرسل مروان إليها شرطياً، فرجع فأخبرهم أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج. فقوله: (يأمر بالوضوء من مس الفرج) لفظ الفرج لفظ مطلق، يشمل كل فرج حتى البهيمة. وقد بينت فيما سبق شذوذ هذه اللفظة في مسألة مس المرأة ذكر الرجل. دليل من قال بعدم النقض. قالوا: إن المراد بالفرج فرج نفسه، أو فرج الآدمي لا فرج البهيمة؛ لأنه هو المتبادر عند الاطلاق، والله أعلم. ¬

(¬1) رواه عبد الرزاق في المصنف (449)، وذكره ابن المنذر في الأوسط (1/ 211).

دليل من اشترط لوجوب الوضوء وجود اللذة

دليل من اشترط لوجوب الوضوء وجود اللذة. جعلوا حكم مس فرج البهيمة حكم مس بدن الأجنبي إذا مسه بشهوة، وهي مسألة مستقلة سيأتي بحثها إن شاء الله تعالى. دليل من فرق بين الحيوان الطاهر والحيوان النجس. هذا قول عطاء رحمه الله تعالى، ولا أعلم له وجهاً، وليس مناط الحكم هو طهارة الحيوان ونجاسته؛ لأن الإنسان لو مس بولاً أو غائطاً لم يجب عليه إلا غسل تلك النجاسة، ولم ينتقض وضوؤه، ولعل عطاء يقصد بالوضوء من مس فرج البهيمة: هو غسل يده، لأن الفرج قد يكون رطباً، فإذا كان نجساً تعدت النجاسة إلى اليد، فكان عليه وضوء يده، والله أعلم. والراجح أنه لا يجب وضوء من مس فرج البهيمة، وأن الوضوء فقط متعلق بمس الإنسان فرجه، لا فرج غيره، والله أعلم.

المبحث السادس: مس الأنثيين والأليتين والرفغين

المبحث السادس: مس الأنثيين والأليتين والرفغين مس الأنثيين والأليتين والرفغين (¬1) لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الأئمة الأربعة. وقيل: ينقض، وهو قول منسوب إلى عروة بن الزبير. والراجح الأول، لأن من ثبتت طهارته بمقتضى الكتاب والسنة فالأصل أنه على طهارته، ولا يجوز الحكم بفسادها إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل على نقض الوضوء بمس الأنثيين والرفغين والأليتين، وليس الاحتياط أن نوجب الوضوء من ذلك، بل الاحتياط أن لا نشغل ذمة الناس ونفسد عباداتهم الصحيحة إلا بدليل. (1076 - 305) وأما ما رواه الدارقطني من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة بنت صفوان قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه فليتوضأ (¬2). [ذكر الأنثيين والرفغين مدرج من كلام عروة] (¬3). ¬

(¬1) الرفغ جاء في اللسان (3/ 429) الرفغ: أصول الفخذين من باطن، وهما ما اكتنفا أعالي جانبي العانة عند ملتقى أعالي بواطن الفخذين وأعلى البطن. اهـ (¬2) سنن الدارقطني (1/ 148). (¬3) قال الدارقطني بعد أن ساق هذا الحديث: كذا رواه عبد الحميد بن جعفر، عن هشام، ووهم في ذكر الأنثيين والرفغ، وإدراجه ذلك في حديث بسرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمحفوظ أن ذلك من قول عروة غير مرفوع، كذلك رواه الثقات عن هشام، منهم أيوب السختياني، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وحماد بن زيد وغيرهما. قلت: لفظ أيوب عند الدارقطني (1/ 148) عن بسرة بنت صفوان أنه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مس ذكره فليتوضأ، قال: وكان عروة يقول: إذا مس رفغيه أو أنثييه فليتوضأ. وصحح إسناده الدارقطني، فهنا فصل المرفوع عن الموقوف، ولفظ حماد بن زيد عند الدارقطني أيضاً عن هشام بن عروة، قال: كان أبي يقول: إذا مس رفغيه أو أنثييه أو فرجه فلا يصلي حتى يتوضأ. قال الدارقطني: كلهم ثقات. وقال النووي في المجموع (2/ 44) عن حديث عبد الحميد بن جعفر: هذا حديث باطل موضوع، وإنما هو من كلام عروة، كذا قاله أهل الحديث. اهـ وسبق أن ذكر جميع من روى الحديث من طريق هشام، وليس فيها هذا اللفظ المرفوع حين تخريجنا لحديث بسرة، فارجع إليه إن شئت.

المبحث السابع: في مس الخنثى المشكل

المبحث السابع: في مس الخنثى المشكل الفرع الأول: في مس الخنثى المشكل فرجه الخنثى إما أن يكون مشكلاً أو غير مشكل، فإن كان غير مشكل فإن حكمه حكم المسائل السابقة في مس الرجل والمرأة، وقد فصلناها مع بيان الراجح. وإن كان الخنثى مشكلاً (¬1)، فالخلاف فيه على النحو التالي فقيل: لا ينقض مس الفرج مطلقاً، سواء كان مشكلاً أو غير مشكل، وهو مذهب الحنفية (¬2). ¬

(¬1) الخنثى المشكل نوعان: أحدهما: أن يكون له ذكر رجل وفرج امرأة يبول منهما. النوع الثاني: أن لا يكون له واحد منهما، بل له ثقبة يخرج منها الخارج، ولا تشبه فرج واحد منهما، وللفقهاء في تمييز الخنثى المشكل وإلحاقه بالرجال أو بالنساء طرق كثيرة، منها مخرج البول والمني والحيض، فلو كان يبول من الذكر ألحق بالرجال أو يبول من فرج المرأة ألحق بالنساء، وكذا المني والحيض، ومنها الميل، فلو وجد منه ميل بعد البلوغ إلى النساء حكم بأنه رجل، أو إلى الرجال حكم بأنه امرأة،؛ لأن الرجال غالباً تميل إلى النساء، والنساء تميل إلى الرجال، وأعتقد أن الطب في العصر الحاضر يستطيع أن يحدد جنس الخنثى المشكل من جهة وجود الرحم والمبايض وهرمون الأنوثة وغيرها مما لم يكن موجوداً في عصر الفقهاء الأوائل، والله أعلم. انظر طرق تمييز الخنثى المشكل في المجموع (2/ 52). (¬2) انظر مراجع الحنفية في مسألة مس الذكر هل ينقض الوضوء أم لا؟

دليل المالكية على النقض بمس فرج الخنثى المشكل

وقيل: يتوضأ مطلقاً، وهل هو للوجوب أو للاستحباب فيه قولان، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: إن مسهما معاً انتقض وضوؤه مطلقاً، سواء كان لشهوة أو لغير شهوة، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). دليل من قال: لا ينقض مطلقاً. ذكرنا أدلة الحنفية في مسألة مس الإنسان ذكره، فهم لا يرون الوضوء من مس الذكر مطلقاً، وقد أجبنا عليها فأغنى عن إعادتها هنا. دليل المالكية على النقض بمس فرج الخنثى المشكل. خرَّج بعض المالكية كابن العربي والمازري الوضوء من مس الخنثى المشكل فرجه على الشك في الحدث، فالمالكية يرون الوضوء من الشك. قال ابن العربي: إذا مس خنثى ذكره، وقلنا بانتقاض الوضوء بالشك انتقض وضوؤه؛ لاحتمال أن يكون رجلاً، وكذلك إن مس فرجه في الفتوى والتوجيه. دليل الشافعية والحنابلة. قالوا: إذا مس الخنثى المشكل فرجيه معاً لا بد أن يكون أحدهما فرجاً ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 299)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 121)، الخرشي (1/ 156) قال في شرح عبارة مختصر خليل (ومس ذكره المتصل ولو خنثى مشكلاً) قال أو خنثى مشكلاً تخريجاً على من تيقن الطهارة وشك في الحدث على المشهور. اهـ (¬2) روضة الطالبين (1/ 76)، المجموع (2/ 49)، مغني المحتاج (1/ 36). (¬3) كشاف القناع (1/ 127)، شرح منتهى الإرادات (1/ 72)، المغني (1/ 245)، الإنصاف (1/ 206).

أصلياً، وإذا لمس الفرج الأصلي انتقض وضوؤه لما تقدم من حديث بسرة وأم حبيبة وأبي هريرة وغيرها من الأحاديث الموجبة للوضوء من مس الفرج، وأما إذا لمس أحد فرجيه لم ينتقض وضوؤه لاحتمال أن يكون الملموس فرجاً زائداً، ومع الشك لا ينتقض الوضوء على قاعدة: الشك لا يقضي على اليقين، وهذه المسألة فيما إذا مس الخنثى المشكل فرج نفسه، وأما إذا مسه غيره فسوف يأتي بحثها إن شاء الله تعالى.

الفرع الثاني: في مس الأجنبي فرج الخنثى المشكل

الفرع الثاني: في مس الأجنبي فرج الخنثى المشكل اختلف العلماء في وجوب الوضوء فيما إذا مس أجنبي فرج خنثى مشكل، فقيل: لا ينقض مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1). وأما المالكية فيجرون حكمه حكم الملامسة لبدن الأجنبي، إن وجد اللذة أو قصدها انتقض وإلا فلا (¬2). وأما الحنابلة والشافعية فيقسمون المسألة إلى حالات: الأولى: أن يمس أحد فرجي الخنثى المشكل بدون شهوة، فهذا لا ينقض عندهم؛ وعللوا ذلك بعدم علمهم هل هو فرج أصلي أو زائد، فإن كان زائداً فلا نقض؛ لأن مس بدن المرأة يشترط أن يكون بشهوة، وإن كان أصلياً نقض، ومع الشك فلا تنتقض الطهارة المتيقنة بالشك، لحديث عبد الله بن زيد في الصحيحين: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). الثانية: مسهما جميعاً؛ وهذا ناقض للوضوء؛ لأن أحدهما فرج أصلي يقيناً، ومس فرج الغير ينقض الوضوء عندهم، وقد ذكرنا أدلته في مسألة مستقلة. ¬

(¬1) سبق أن بينت عند تحرير الخلاف في مس الإنسان ذكره أن الحنفية لا يقولون بالنقض مطلقاً، سواء كان الفرج أصلياً أم مشكلاً، وسواء مس فرجه أم فرج غيره، وسواء كان ذلك بشهوة أم بغير شهوة، وذكرت مصادر هذا القول من مذهب الحنفية في تلك المسألة فارجع إليها إن أردت الرجوع إلى مذهب الحنفية من كتبهم المعتمدة. (¬2) مواهب الجليل (1/ 299)، الخرشي (1/ 156)، حاشية الدسوقي (1/ 121).

الثالثة: أن يمس الذكر ذكر الخنثى المشكل بشهوة، فهذا ناقض للوضوء؛ لأنه إن كان الذكر أصلياً فقد انتقضت الطهارة للمسه الذكر، ومس ذكر الغير عندهم ناقض للوضوء، وإن كان الذكر زائداً فقد مس بدن المرأة بشهوة، ومسها بشهوة حدث ناقض للوضوء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الخلاف في مس المرأة بشهوة. الرابعة: أن يمس الذكر قبل الخنثى المشكل بشهوة، فلا نقض عندهم؛ لأننا لا نعلم هل الخنثى المشكل رجل أو امرأة، فإن كان رجلاً فمس الرجل الرجل لا ينقض الوضوء عندهم ولو كان ذلك بشهوة، وإن كان امرأة فإن الوضوء ينتقض، ومع الشك في حقيقة الحال لم يكن ذلك ناقضاً للطهارة المتيقنة. الحالة الخامسة: أن تمس الأنثى فرج الخنثى المشكل بشهوة، فهنا ينتقض الوضوء؛ لأن الخنثى إن كان رجلاً فقد مست بدنه بشهوة، ومس المرأة بدن الرجل بشهوة حدث ناقض للوضوء، وإن كانت أنثى فقد مست فرجها، ومس فرج الغير عندهم ينقض الطهارة. الحالة السادسة: أن تمس الأنثى ذكر الخنثى المشكل بشهوة، فلا ينتقض الوضوء؛ لأننا لا نعلم هل هو أنثى أم رجل؟ فإن كان أنثى فلا نقض؛ لأن مس المرأة المرأة بشهوة لا ينقض الوضوء عندهم، وإن كان الخنثى رجلاً فإن الوضوء ينتقض، ومع الشك فلا تنتقض الطهارة المتيقنة (¬1)، فصارت الحالات باختصار كالآتي: ¬

(¬1) انظر في مذهب الشافعية: روضة الطالبين (1/ 76)، المجموع (2/ 49)، مغني المحتاج (1/ 36)، وانظر في مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 127) شرح منتهى الإرادات (1/ 72).

الأول: مس الفرجين معاً من الخنثى المشكل ناقض للوضوء عندهم مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة. الثاني: مس أحد الفرجين بدون شهوة لا ينقض مطلقاً. الحالة الثالثة: مس أحد فرجي الخنثى المشكل بشهوة له أربع حالات: حالتان ينتقض الوضوء منهما، وهما: الأولى: أن يمس الذكر ذكر الخنثى المشكل. الثانية: أن تمس الأنثى فرج الخنثى المشكل. وحالتان لا ينقض الوضوء، وهما: أن يمس الذكر قبل الخنثى المشكل. الثانية: أن تمس الأنثى ذكر الخنثى المشكل، وقد ذكرنا تعليلهم لكل حالة من هذه الحالات. والراجح في هذه المسألة: أن مس فرج الغير مطلقاً لا ينقض الوضوء، سواء كان أصلياً أم مشكلاً؛ لأن الأدلة الواردة إنما وردت في مس الإنسان ذكره، وفي مس المرأة فرجها، ولا يوجد دليل على النقض بمس فرج الغير، وما ورد في ذلك فهو ضعيف كما بينته في مسألة مستقلة، والقياس على مسه لفرجه لا يصح؛ لأن العلة غير معقولة المعنى، وقد بينت خطأ من تصور أن العلة مظنة خروج الخارج في مسألة متقدمة، وعلى التنزل أن العلة هي مظنة خروج الخارج فإنه ينبغي أن يقال بعدم النقض للامس؛ لأن ذكره في هذه الحالة لم يقع عليه مس حتى يكون المس سبباً في خروج حدث منه، وأن يقال بنقض الوضوء من الملموس لوجود المظنة المتوهمة، وهم لا يقولون بنقض الملموس، فتناقضوا في طرد العلة، وهكذا القول الضعيف يحمل تناقضه في ذاته، والله أعلم.

الفصل الخامس: في مس المرأة والأمرد

الفصل الخامس: في مس المرأة والأمرد المبحث الأول: في مس بدن المرأة من غير حائل اختلف العلماء في مس بدن المرأة، هل ينقض الوضوء أم لا؟ فقيل: لا ينقض مطلقاً، إلا أن يتجردا متعانقين متماسي الفرجين وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: ينقض مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬2). وقيل: ينقض إن كان ذلك بشهوة، ولا ينقض مع عدمها، وهو مذهب المالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: إن كان مسه عمداً انتقض، وإلا فلا، حكاه النووي عن داود (¬5). ¬

(¬1) قال في شرح فتح القدير (1/ 54): يجب الوضوء من المباشرة الفاحشة: وهي أن يتجردا معاً متعانقين متماسي الفرجين، وعن محمد: لا إلا أن يتيقن خروج شيء. اهـ وانظر البحر الرائق (1/ 47)، المبسوط (1/ 68)، بدائع الصنائع (1/ 30)، تبيين الحقائق (1/ 12). (¬2) المجموع (2/ 29)، مغني المحتاج (1/ 34)، حاشية قليوبي وعميرة (1/ 32). (¬3) مذهب المالكية يقولون بالنقض إن قصد اللذة أو وجدها، انظر المدونة (1/ 13)، حاشية الدسوقي (1/ 119)، الاستذكار (1/ 320)، الشرح الصغير (1/ 142). (¬4) المحرر (1/ 13)، الإنصاف (1/ 211)، الكافي (1/ 46). (¬5) المجموع (2/ 34).

دليل من قال: مس المرأة لا ينقض الوضوء

دليل من قال: مس المرأة لا ينقض الوضوء. الدليل الأول: قالوا: لا يوجد دليل صحيح صريح في نقض الوضوء من مس المرأة، والأدلة الواردة إما أدلة غير صحيحة، أو ليست صريحة، ولا ينقض الوضوء إلا دليل صحيح صريح. الدليل الثاني: (1077 - 306) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله قبل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ. قال عروة: قلت لها: من هي إلا أنت؟ فضحكت (¬1). [حديث معلول] (¬2). ¬

(¬1) المسند (6/ 210). (¬2) هذا الحديث فيه علل: الأولى: عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلس مكثر، ذكره في المدلسين الذهبي، والعلائي والمقدسي والحلبي وابن حجر. وفي التقريب: ثقة فقيه جليل، كان كثير الإرسال والتدليس. العلة الثانية: اختلافهم في عروة من هو؟ هل هو عروة المزني فيكون مجهولاً أو هو ابن الزبير فيكون منقطعاً؛ لأن حبيباً لم يسمع من عروة بن الزبير شيئاً. قال أبو داود في السنن (180): وروي عن الثوري قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني، يعني لم يحدثهم عن عروة بن الزبير شيئاً. اهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد وضع المزي هذا الحديث في تحفة الأشراف (12/ 233) تحت ترجمة عروة المزني، ولم يتعقبه ولي الدين العراقي في الأطراف، ولا ابن حجر في النكت الظراف. قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 200): واعلم أن أبا داود لم ينسب عروة في هذا الحديث، كما نسبه ابن ماجه، وأصحاب الأطراف لم يذكروه في ترجمة عروة بن الزبير، وإنما ذكروه في ترجمة عروة المزني. الخ كلامه رحمه الله. وأما ما رواه أبو داود في السنن (180) من طريق عبد الرحمن بن مغراء، حدثنا الأعمش، حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني، عن عائشة بهذا الحديث: يعني في ترك الوضوء من القبلة. فإن في إسناده عبد الرحمن بن مغراء متكلم فيه، جاء في ترجمته: قال أبو زرعة: صدوق. الجرح والتعديل (5/ 290). وقال عثمان بن أبي شيبة: رأيت أبا خالد الأحمر يحسن الثناء عليه. المرجع السابق. وقال علي بن المديني: ليس بشيء، كان يروي عن الأعمش ستمائة حديث، تركناه، لم يكن بذاك، قال ابن عدي تعليقاً على كلام ابن المديني: وهذا الذي قاله ابن المديني هو كما قال، إنما أنكرت عليه أحاديث يرويها عن الأعمش لا يتابعه الثقات عليها. الكامل (4/ 289). العلة الثالثة: على فرض أن يكون عروة هو ابن الزبير فإن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير كما صرح بذلك جمع من الأئمة. قال أحمد ويحيى بن معين: لم يسمع حبيب بن أبي ثابت من عروة شيئاً. المراسيل لابن أبي حاتم (ص 28). قال الترمذي في السنن (1/ 135) عن البخاري: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة شيئاً. وقال أبو حاتم: روى عن عروة حديث المستحاضة وحديث القبلة، ولم يسمع ذلك من عروة. الجرح والتعديل (3/ 107)، والمراسيل (ص 28). وقال يحيى بن معين كما في تهذيب الكمال (5/ 362) قال أحمد بن سعيد بن أبي مريم قيل ليحيى: حبيب ثبت؟ قال: نعم إنما روى حديثين. قال: أظن يحيى يريد منكرين: حديث تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير، وحديث القبلة للصائم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وساق البيهقي بسنده (1/ 126) عن يحيى بن سعيد قال: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيباً لم يسمع من عروة شيئاً. وروى الدارقطني (1/ 139): عن علي بن المديني قال: سمعت يحيى - يعني: ابن القطان - وذكر عنده حديث الأعمش عن حبيب عن عروة، عن عائشة: تصلي وإن قطر الدم على الحصير، وفي القبلة. قال يحيى: إحك عني أنهما شبه لاشيئ. ونقله أبو داود (180)، والنسائي في السنن (1/ 104،105) عن ابن القطان. كما ضعف هذا الحديث البخاري فيما نقله عنه الترمذي في سننه (1/ 135)، وقال الترمذي: وإنما ترك أصحابنا حديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا؛ لأنه لا يصح عندهم لحال الإسناد، فهذا يحيى بن معين والبخاري والثوري وابن القطان والترمذي يذهبون إلى تضعيف هذا الحديث. وهناك من أثبت سماع حبيب من عروة بن الزبير. قال أبو داود في السنن (180): قد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثاً صحيحاً. اهـ قلت: إن كان لم يصح إلا من هذا الطريق فينظر فيه فإن حديث حمزة الزيات، ليس من قبيل الصحيح، فإنه في التقريب: صدوق زاهد ربما وهم. اهـ وقد تكلم فيه بعضهم. وقال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 52): وحبيب بن أبي ثابت لاينكر لقاؤه عروة، لروايته عمن هو أكبر من عروة، وأجل وأقدم موتاً، وهو إمام من أئمة العلماء الجلة. قلت: قد جزم الأئمة بعدم سماع حبيب بن أبي ثابت من عروة: كسفيان، وأحمد، وابن القطان، والبخاري، ويحيى بن معين، وأبي حاتم الرازي وغيرهم، وليس عند ابن عبد البر إلا مجرد إمكان اللقي، وكم من راو عاصر رواة ولم يسمع منهم، فلا يكفي هذا الاحتمال لرد ما جزم به الأئمة، كما أن كلام الأئمة مقدم على كلام أبي داود في قوله: روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثاً صحيحاً، لما علمت من الكلام على حمزة الزيات، وعلى التنزل فإنه يحمل على حديث خاص، كما قد يصرح بعض الأئمة بأن فلاناً لم يسمع من فلان إلا حديثاً واحداً أو حديثين وهكذا، ولا يكون سماعه لحديث واحد مسوغاً لاتصال جميع مروياته، فنحمل كلام أبي داود على هذا جمعاً بين كلام الأئمة أحمد والبخاري وسفيان ويحيى بن سعيد القطان وابن معين والبخاري وأبي حاتم الرزاي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وبين كلام أبي داود، فإن ثبت في كلامهم التعارض فلا يقدم كلام أبي داود على هذا الجمع فالخطأ من الواحد أقرب من الخطأ من الجماعة، والله أعلم. فالخلاصة أن الحديث سواء قلنا: إن عروة هو ابن الزبير أو المزني فإن الحديث يبقى فيه علة توجب الرد، لأن الانقطاع قائم بين حبيب بن أبي ثابت وعروة بن الزبير، والله أعلم. العلة الرابعة: المخالفة في المتن، فإن حديث عروة، عن عائشة إنما هو في القبلة للصائم، وليس في ترك الوضوء من القبلة، كذا رواه هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، كما سيأتي في التخريج إن شاء الله تعالى. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب، وابن أبي شيبة (1/ 44)، وإسحاق (566)، وأبو داود (179)، والترمذي (86)، وابن ماجه (502)، والدارقطني (1/ 137)، والبيقهي في السنن (1/ 125)، وفي الخلافيات (435) من طريق وكيع به. وقد صرح أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه بأن عروة هو ابن الزبير. ورواه الدارقطني في سننه (1/ 136) من طريق حاجب بن سليمان، حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه، ثم صلى، ولم يتوضأ. قال الدارقطني: تفرد به الحاجب عن وكيع، ووهم فيه، والصواب عن وكيع بهذا الإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم، وحاجب لم يكن له كتاب، إنما كان يحدث من حفظه. قلت: خالف حاجب بن سليمان جمع من الأئمة على رأسهم مالك ويحيى بن سعيد القطان، وابن جريج ومعمر وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وغيرهم فقد رواه مالك في الموطأ (1/ 292)، ومن طريقه أخرجه البخاري (1928)، والشافعي في الأم (1/ 84)، وابن حبان (3537) والبيهقي في السنن (4/ 233). ورواه أحمد (6/ 192)، والبخاري (1928)، والنسائي في الكبرى (3054)، وابن حبان (3540) من طريق يحيى بن سعيد القطان. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (7410) عن معمر وابن جريج. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الحميدي (198) ومسلم (1206) عن سفيان. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 314) عن شريك. وأخرجه إسحاق بن راهوية (672) عن أبي معاوية. وأخرجه الدارمي (1722) من طريق حماد بن سلمة. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (4423) من طريق عمر بن علي. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 91) من طريق سعيد، وأخرجه البيهقي (1/ 233) من طريق أنس بن عياض، كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم. وأخرجه الدارقطني (1/ 136) عن الحسين بن إسماعيل، نا علي بن عبد العزيز الوراق، نا عاصم بن علي، أنا أبو أويس، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنه بلغها قول ابن عمر في القبلة الوضوء، فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل، وهو صائم، ثم لا يتوضأ. قال الدراقطني: لا أعلم حدث به عن عاصم بن علي هكذا غير علي بن عبد العزيز. قلت: وقد خالف الأئمة الحفاظ الذين تقدم ذكرهم في روايتهم عن هشام على رأسهم مالك والقطان وسفيان وابن جريج وغيرهم. وأخرجه الطبراني في الأوسط (4686)، والدارقطني في السنن (1/ 135) من طريق سعيد بن بشير، عن منصور بن زاذان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل بعض نسائه، ثم يخرج إلى الصلاة، وما يتوضأ. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا منصور، تفرد به سعيد بن بشير. قال الدراقطني: تفرد به سعيد بن بشير، عن منصور، عن الزهري، ولم يتابع عليه، وليس بقوي في الحديث، والمحفوظ عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل، وهو صائم، كذلك رواه الحفاظ الثقات عن الزهري، منهم معمر وعقيل وابن أبي ذئب. قلت: أما رواية عقيل، فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 223)، والنسائي في الكبرى (3057)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 91) من طريق ليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلها، وهو صائم. واختلف على عقيل في إسناده، فرواه ليث ابن سعد كما تقدم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وخالفه أحمد بن عمرو بن السرح كما في سنن النسائي الكبرى (3056) فرواه عن خاله وجادة، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبره عن عروة، عن عائشة، فذكر عروة بدلاً من أبي سلمة. ورواية ليث هي الصواب. وأما رواية معمر فقد رواها عبد الرزاق (7408) ومن طريقه إسحاق بن راهوية (1062)، وأحمد (6/ 232)، والطبراني في الأوسط (4686) وابن حبان (3545) عن معمر، الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل بعض نسائه، وهو صائم. وأخرجه النسائي في الكبرى (3058) من طريق يزيد بن زريع، عن معمر به. واختلف على معمر، فرواه عبد الزراق ويزيد بن زريع، كلاهما عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة. وخالفهما عيسى بن يونس، كما في سنن الدارقطني (1/ 142) فرواه عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة عن عروة، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل، وهو صائم، ثم يصلي، ولا يتوضأ. قال الدارقطني: هذا خطأ من وجوه. وقال في العلل: وهم في إسناده ومتنه، فأما وهمه في إسناده فقوله: عن أبي سلمة، عن عروة، وإنما رواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة. وأما قوله في متنه: " ولا يتوضأ " فهو وهم أيضاً، والمحفوظ كان يقبل، وهو صائم. انظر العلل للدارقطني (5/ ورقة 148). وأخرجه البزار في مسنده كما في نصب الراية (1/ 74) قال: حدثنا إسماعيل بن يعقوب ابن صبيح، حدثنا محمد بن موسى بن أعين، حدثنا أبي، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن عائشة أنه عليه السلام كان يقبل بعض نسائه، ولا يتوضأ. وهذا إسناد ضعيف؛ لأن الجزري وإن كان ثقة إلا أنه متكلم في روايته عن عطاء، فقد نقل ابن عدي عن الدوري، قوله: سمعت يحيى يقول: أحاديث عبد الكريم عن عطاء رديئة. قال ابن عدي: وهذا الحديث الذي ذكره يحيى بن معين عن عبد الكريم عن عطاء هو ما رواه عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلها ولا يحدث وضوءاً: إنما أراد ابن معين هذا الحديث؛ لأنه ليس بمحفوظ، ولعبد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الكريم أحاديث صالحة مستقيمة يرويها عن قوم ثقات، وإذا روى عنه الثقات فحديثه مستقيم. الكامل (5/ 341). وروى عبد الرزاق (511)، وأحمد (6/ 210) وابن أبي شيبة (1/ 45)، والدارقطني (1/ 139، 141) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 126)، وفي الخلافيات (439) من طريق سفيان الثوري. ورواه أبو داود (178) والنسائي (170)، وفي الكبرى (155) من طريق يحيى بن سعيد القطان. ورواه أبو داود (178) والدارقطني (1/ 139) من طريق عبد الرحمن بن مهدي. ورواه الدارقطني (1/ 139) من طريق أبي عاصم الضحاك ومحمد بن جعفر، كلهم أعني: (الثوري والقطان وابن مهدي وأبو عاصم ومحمد بن جعفر) رووه عن أبي روق الهمداني، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل، ثم صلى، ولم يتوضأ. وهذا إسناد ضعيف، إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، قاله أبو داود في السنن وغيره. قال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلاً. اهـ قلت: وهذا ذهاب من الإمام النسائي رحمه الله إلى تضعيف حديث حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، خاصة أنه قال بعد هذا الكلام متصلاً بالكلام السابق: وقد روى الحديث الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة، قال يحيى القطان: حديث حبيب لا شيء. ولم يتعقبه بشيء. وقد اختلف على أبي روق هذا، فرواه عنه من تقدم من مسند عائشة، وخالفهم أبو حنيفة رحمه الله، فرواه الدارقطني (1/ 141)، ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (444) فقال: عن أبي روق، عن إبراهيم، عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتوضأ، ثم يقبل، ولا يحدث وضوءاً. ورواه البيهقي في الخلافيات (445) من طريق معاوية بن هشام، عن الثوري، عن روق، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها، وهو صائم. وخالف معاوية بن هشام كل من رواه عن الثوري، مثل وكيع وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم، بل خالف كل من رواه عن أبي روق ممن تقدم ذكرهم في تخريج الحديث كابن =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1078 - 307) روى الطبري في تفسيره من طريق يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، ¬

_ = مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأبو عاصم الضحاك ومحمد بن جعفر وغيرهم، فهذه الرواية لا شك أنها منكرة، لمخالفتها رواية الثقات سنداً ومتناً، والله أعلم. وروى أحمد (6/ 62) وابن ماجه (503) عن محمد بن فضيل. والدارقطني (1/ 142) من طريق عباد بن العوام. والبيهقي في الخلافيات (446) من طريق عبد الواحد بن زياد، ثلاثتهم عن حجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ثم يقبل، ويصلي، ولا يتوضأ. وخالفهم حفص بن غياث، كما في تفسير الطبري (9630) فرواه عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. ورواه الأوزاعي، واختلف عليه فيه: فرواه الدارقطني (1/ 142) من طريق عبد الحميد، عن الأوزاعي، عمرو بن شعيب، عن زينب، عن عائشة. وخالفه عبد الرزاق، فرواه في المصنف (509) عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن امرأة سماها أنها سمعت عائشة به. وهذا الحديث ضعيف، وعلة الحديث زينب روى عنها اثنان، ولم يوثقها إلا ابن حبان. وفي العلل لابن أبي حاتم (1/ 48): " قال أبو حاتم وأبو زرعة: الحجاج يدلس في حديثه عن الضعفاء، ولا يحتج به. اهـ وقد ضعف الحديث جماعة منهم ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 324)، وابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 440)، والبوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 127). وقال الدارقطني: زينب هذه مجهولة، ولا تقوم بها حجة. انظر في مراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (9/ 104)، تحفة الأشراف (17371)، إتحاف المهرة (21964).

عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءاً (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) تفسير الطبري (5/ 106)، ومن طريق يزيد بن سنان رواه الطبراني في الأوسط (3805)، قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الأوزاعي إلا يزيد بن سنان، تفرد به سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه. (¬2) تفرد به يزيد بن سنان عن الأوزاعي، وهو ضعيف، وقد خالف في إسناده ومتنه، فقد رواه النسائي في الكبرى (3061)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 91) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها، وهو صائم. فرواه من مسند عائشة، وفي القبلة للصائم، ولم يذكر وضوءاً. وكذلك رواه الخطيب في تاريخ بغداد (7/ 426) من طريق يحيى بن عبد الله البابلتي. والدراقطني في العلل من طريق مبشر بن إسماعيل وعقيل، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة. وسبق أن ذكرنا أن الزهري رواه كذلك عن أبي سلمة عن عائشة في القبلة للصائم عند الكلام على حديث عائشة. ونقلنا قول الدارقطني: والمحفوظ عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل، وهو صائم، كذلك رواه الحفاظ الثقات عن الزهري، منهم معمر وعقيل وابن أبي ذئب. قلت: أما رواية عقيل، فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 223)، والنسائي في الكبرى (3057)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 91) من طريق ليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلها، وهو صائم. وأما رواية معمر فقد رواها عبد الرزاق (7408) ومن طريقه إسحاق بن راهوية (1062)، وأحمد (6/ 232)، والطبراني في الأوسط (4686) وابن حبان (3545) عن =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1079 - 308) ما رواه الطبراني، من طريق أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، ثنا زفر بن الهذيل، عن ليث بن أبي سليم، عن ثابت بن عبيد، عن أبي مسعود الأنصاري أن رجلا أقبل إلى الصلاة، فاستقبلته امرأته فأكب عليها فتناولها، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فلم ينهه. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن زفر إلا أبو علي الحنفي (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1080 - 309) ما رواه البخاري، من طريق مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. ورواه مسلم أيضاً (¬3). ¬

= معمر، الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل بعض نسائه، وهو صائم. وأخرجه النسائي في الكبرى (3058) من طريق يزيد بن زريع، عن معمر به. وبناء على هذه الطرق فإن مخالفة يزيد بن سنان لا تحتمل مع شدة ضعفه، والله أعلم. (¬1) المعجم الأوسط (7227). (¬2) في إسناده ليث بن أبي سليم، وهو مشهور الضعف، وقد تخير بآخرة، ولم يتميز حديثه. (¬3) صحيح البخاري (382)، ومسلم (512).

الدليل الخامس

وجه الاستدلال: لو كان مس المرأة ناقضاً للوضوء لما مس الرسول - صلى الله عليه وسلم - عائشة، وهو في الصلاة، فهذا دليل على أن مس المرأة ليس حدثاً. وأجاب عنه المخالفون بحسب أقوالهم، فمن يرى أن مس المرأة إنما ينقض إذا كان بشهوة، قال: إن هذا الغمز لا يمكن أن يكون بشهوة، خاصة وأن هذا كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، ومن يرى أن مس المرأة ناقض مطلقاً يقول: ربما كان غمزه للمرأة بحائل، وإنما ينقض إذا مس المرأة بلا حائل، وليس في الحديث ما يشير إلى أن الغمز كان بحائل، والأصل عدمه. الدليل الخامس: (1081 - 310) ما رواه البخاري من طريق عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. ورواه مسلم أيضاً (¬1). الدليل السادس: (1082 - 311) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، حدثني عبيد الله بن عمر، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن عائشة قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول: ¬

(¬1) صحيح البخاري (516)، وصحيح مسلم (543).

الدليل السابع

اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (¬1). الدليل السابع: مس بدن المرأة لا يمكن أن يكون حدثاً، ولو تصور أن يكون حدثاً لرفع الحكم لعموم البلوى، ولرفع الحرج عن هذه الأمة، قال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬2). الدليل الثامن: الأصل بقاء الطهارة، وعدم وجود المفسد إلا بدليل صحيح صريح، ولا يوجد دليل على إبطال طهارة من مس بدن امرأته. الدليل التاسع: لو كان مس المرأة بمجرده حدثاً ناقضاً للوضوء، لكان مس الرجل من الرجل ومس المرأة من المرأة ناقضاً للوضوء كذلك، لأن بطلان الوضوء أو صحته من الأحكام الوضعية، وليست أحكاماً تكليفية، فيستوي فيها مس الرجل للرجل، ومس المرأة للمرأة، والمس من المحارم ومن غيرهم، ومس الصغيرة كمس الكبيرة، كما أن جماع الرجل الرجل كجماعه للمرأة، فلما ذهب القائلون بنقض الوضوء من مس المرأة إلى التفريق بين هذه المسائل علم أن القول بالنقض قول ضعيف، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح مسلم (486). (¬2) الحج: 78.

دليل من قال: مس المرأة ينقض الوضوء مطلقا

وأما الدليل على التفريق بين المباشرة الفاحشة وبين غيرها، قالوا: إن المباشرة الفاحشة يندر معها عدم نزول مذي في هذه الحالة، والغالب كالمتحقق في مقام وجوب الاحتياط. دليل من قال: مس المرأة ينقض الوضوء مطلقاً. الدليل الأول: قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} (¬1). وحقيفة اللمس: ملاقاة البشرتين، واللمس يطلق على الجس باليد، قال الله تعالى: {فلمسوه بأيديهم} (¬2). (1083 - 312) وروى البخاري من طريق ابن شهاب، قال: أخبرني عامر بن سعد، أن أبا سعيد الخدري قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين وعن بيعتين نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك ... الحديث، والحديث رواه مسلم أيضاً. (1084 - 313) وقد روى أحمد، قال: حدثنا يزيد، أخبرنا جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز بن مالك حين أتاه فأقر عنده بالزنا: لعلك قبلت، أو لمست. قال: لا قال: فنكتها. قال: نعم، ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) الأنعام: 7.

فأمر به فرجم (¬1). [رجاله ثقات، وهو في الصحيح بلفظ: أو غمزت، وهي رواية الأكثر، والله أعلم] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 238). (¬2) الحديث رواه أحمد كما في إسناد الباب، وعبد بن حميد كما في المنتخب (571)، والدارقطني في سننه (3/ 121) من طريق يزيد بن هارون به، بالنص على كلمة " أو لمست ". ورواه أحمد (1/ 270) حدثنا إسحاق بن عيسى، والبيهقي في السنن (8/ 226) من طريق سليمان بن حرب، حدثنا جرير به، بلفظ: أو غمزت بدلاً من قوله: " أو لمست ". وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 338) وفي الأوسط (2554) حدثنا أبو مسلم الكشي، ثنا سليمان بن حرب به، بلفظ: أو لمست. وفي الأوسط " غمزت أو لمست. ورواه الدارقطني (3/ 121 - 122)، والحاكم في المستدرك (8076) من طريق وهب ابن جرير، حدثني أبيه به. بلفظ: " أو لمست " وهذه متابعة ليزيد بن هارون على هذه اللفظة. إلا أن البخاري قد رواه في الصحيح (6824) عن عبد الله بن محمد الجعفي، ورواه أبو داود (4427) من طريق زهير بن حرب وعقبة بن مكرم، ورواه النسائي في السنن الكبرى (7169) أخبرنا عمرو بن علي وعبد الله بن الهيثم بن عثمان البصري خمستهم عن وهب ابن جرير به، بلفظ: " لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ". وقد ترجم له البخاري رحمه الله بقوله: باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت. وهذا ذهاب من الإمام البخاري إلى صحة هذه اللفظة، وإلا لما ترجم بها. ورواه ابن أبي شيبة (5/ 520) ومن طريقه أحمد وابنه عبد الله كما في المسند (1/ 255)، وأخرجه الدارقطني (3/ 121) من طريق أحمد موسى بن إسماعيل، كلاهما عن ابن المبارك، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة به. بلفظ: " أو لمست ". وهذا طريق =

فدل على أن اللمس يكون باليد وبغير اليد، والمطلق يجب أخذه على إطلاقه، فقوله تعالى: {أو لامستم النساء} (¬1)،يشمل لمس اليد وغيره بمقتضى اللغة، والسنة الصحيحة. وأجيب: على التسليم بأن اللمس يطلق على اللمس باليد ويطلق على الجماع، فإن في الآية قرينة تدل على أن المراد من الآية الجماع لا غير، ووجهه: أن الله سبحانه وتعالى ذكر طهارتين: الماء والتيمم، وذكر في وجوب طهارة الماء سببين: الحدث الأصغر والأكبر، فالأصغر بقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...} الآية (¬2). والحدث الأكبر بقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬3). ¬

= آخر غير طريق جرير يوافقه على قوله أو لمست إلا أن أحمد رواه في المسند (1/ 289) قال: حدثنا عتاب، ورواه أيضاً (1/ 325) حدثنا يحيى بن آدم. ووراه النسائي في الكبرى (7168) أخبرنا سويد بن نصر، ثلاثتهم عن عبد الله بن المبارك به، بلفظ: أو غمزت. ورواه الحاكم في المستدرك (8077) من طريق حفص بن عمر العدني، ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، وفيه: لعلك قبلتها؟ قال: لا، قال: فمسستها؟ قال: لا. وضعفه الذهبي في التلخيص بحفص بن عمر العدني. انظر أطراف المسند (3/ 233)، تحفة الأشراف (6276)، إتحاف المهرة (8435). (¬1) المائدة: 6. (¬2) المائدة: 6. (¬3) المائدة: 6.

وفي طهارة التيمم كذلك ذكر حدثين الأصغر والأكبر، فالأصغر بقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} والأكبر بقوله: {أو لا مستم النساء} أي جامعتم النساء، ولو حمل على اللمس باليد لكان معنى هذا أن الآية كررت ذكر حدثين أصغرين، وأهملت الحدث الأكبر في طهارة التيمم، وهذا مناف للبلاغة المعهودة من كتاب الله سبحانه وتعالى، فكان مقتضى التقسيم في طهارة الماء من ذكر الحدث الأكبر والأصغر أن يعاد التقسيم نفسه في طهارة التيمم، لا أن يكرر الحدث الأصغر ويهمل الحدث الأكبر. وهذه القرينة كافية في حمل اللمس على الجماع في الآية الكريمة، وقد فسرها ابن عباس بالجماع، وهو ترجمان القرآن الكريم كما سيأتي الإسناد إليه قريباً إن شاء الله تعالى. وقد ناظر أبو موسى ابن مسعود في التيمم من الجنابة بهذه الآية مما يدل على أن المراد من المس الحدث الأكبر، (1085 - 314) فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه من طريق الأعمش، عن شقيق: قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهراً، أما كان يتيمم ويصلي؟! فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيباً، فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد قلت: وإنما كرهتم هذا لذا قال نعم .. الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). ¬

(¬1) البخاري (247)، ومسلم (368).

الدليل الثاني

وفي رواية للبخاري: (فقال أبو موسى: فكيف تصنع بهذه الآية، فما درى عبد الله ما يقول) (¬1). الدليل الثاني من الآثار: (1086 - 315) ما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله ابن عمر، أنه كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء (¬2). [إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن عمر]. (1087 - 316) وروى عبد الرزاق، عن معمر وابن عيينة فرقهما، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، أن ابن مسعود قال: يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة إذا قبل امرأته، وكان يقول في هذه الآية: {أو لا مستم النساء} (¬3)، قال: هو الغمز (¬4). ¬

(¬1) البخاري (346). (¬2) الموطأ (1/ 43)، ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في الأم (1/ 15)،وابن المنذر في الأوسط (1/ 117)، والدارقطني (1/ 144). ورواه عبد الرزاق في المصنف (496) ومن طريقه الدارقطني (1/ 144)، عن معمر، عن الزهري به. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 49) حدثنا عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن الزهري به. (¬3) المائدة: 6. (¬4) المصنف (499، 550) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن المنذر في الأوسط =

[أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وقد قال الحافظ ابن رجب: إن ما يرويه أبو عبيدة عن أبيه قد سمعه من آل بيته عنه، فيكون على الاتصال] (¬1). وأجيب: أولاً: أن هذا القول من ابن عمر وابن مسعود معارض بقول ابن عباس (1088 - 317) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هو الجماع (¬2). [صحيح عن ابن عباس] (¬3). (1089 - 318) وروى ابن أبي شيبة أيضاً من طريق عبد الملك بن ميسرة، ¬

= (1/ 118)، والطبراني في الكبير (9/ 285)، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 49) حدثنا حفص وهشيم، عن الأعمش به. قال الهيثمي في المجمع (1/ 247): أبو عبيدة لم يسمع من أبيه. (¬1) انظر تحفة التحصيل (430). (¬2) المصنف (1/ 153). (¬3) ورواه ابن أبي شيبة (1/ 154) من طريق أبي بشر، عن سعيد بن جبير به، بلفظ: اللمس والمس والمباشرة الجماع، ولكن الله يكني ما شاء لما شاء. ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 116) من طريق داؤد بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن جبير به. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 153) وابن المنذر في الأوسط (1/ 116) من طريق حفص، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير به. ورواه ابن المنذر أيضاً (1/ 116) من طريق عكرمة عن ابن عباس به، بلفظ أبي بشر المتقدم.

عن سعيد بن جبير قال: اختلفت أنا وأناس من العرب في اللمس، فقلت: أنا وأناس من الموالي: اللمس ما دون الجماع، وقالت العرب: هو الجماع، فأتينا ابن عباس، فقال: غلبت العرب، هو الجماع (¬1). [وإسناده صحيح]. وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر، وينظر في أقربهما إلى الصواب، وقد قدمنا أن في الآية قرينة على أن المراد باللمس هنا الجماع. ثانياً: أن القرآن أطلق المس وأراد به الجماع في آيات من كتاب الله، قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} (¬2)، وقال: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (¬3)، {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (¬4). قال ابن المنذر: وقد أجمع أهل العلم على أن رجلاً لو تزوج امرأة ثم مسها بيده أو قبلها بحضرة جماعة ولم يخل بها، فطلقها أن لها نصف الصداق، إن كان سمى لها صداقاً، والمتعة إن لم يكن سمى لها صداقاً، ولا عدة عليها، فدل إجماعهم على ذلك أن الله إنما أراد في هذه الآيات الجماع، فإذا كان كذلك حكمنا اللمس بحكم المس إذا كان في المعنى واحداً. ¬

(¬1) المصنف (1/ 153). (¬2) البقرة: 236. (¬3) الأحزاب: 49. (¬4) البقرة: 237.

ثالثاً: أن قول ابن عمر وابن مسعود يحمل على ما إذا كان بشهوة، فلا دليل فيه للشافعية على الوضوء من مجرد اللمس، لأن الرجل لا يقبل امرأته كما يقبل أمه أو ابنته، وإنما يقبلها بدافع الشهوة، وكذلك المراد من قوله: أو جسها بيده، ولهذا قال ابن تيمية: وأما وجوب الوضوء من مجرد مس المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال، ولا يعرف هذا القول عن أحد من الصحابة، ولا روى أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المسلمين أن يتوضؤوا من ذلك، مع أن هذا الأمر غالب لا يكاد يسلم منه أحد في عموم الأحوال، فإن الرجل لا يزال يناول امرأته شيئاً، وتأخذه بيدها، وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به، فلو كان الوضوء من ذلك واجباً، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بذلك مرة بعد مرة، ويشيع ذلك، ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد، فلما لم ينقل عنه أحد من المسلمين أنه أمر أحداً من المسلمين بشيء من ذلك مع عموم البلوى به، علم أن ذلك غير واجب (¬1). وقال ابن تيمية أيضاً: ((اللمس العاري عن الشهوة لا يعلق به حكم من الأحكام أصلاً، وهذا كقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (¬2)، فنهى العاكف عن مباشرة النساء مع أن العلماء يعلمون أن المعتكف لو مس امرأته بغير شهوة لم يحرم ذلك عليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدني رأسه إلى عائشة رضي الله عنها فترجله، وهو معتكف، ومعلوم أن ذلك مظنة مسه لها، ومسها له، وأيضاً فالإحرام أشد من الاعتكاف، ولو مسته المرأة لغير شهوة لم يأثم بذلك، ولم يجب عليه دم، وهذا ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 236) وما بعدها. (¬2) البقرة: 187.

دليل من قال: مس المرأة ينقض الوضوء إن كان بشهوة

الوجه يستدل به من وجهين: من جهة ظاهر الخطاب، ومن جهة المعنى والاعتبار؛ فإن خطاب الله تعالى في القرآن بذكر اللمس والمس والمباشرة للنساء ونحو ذلك لا يتناول ما تجرد عن شهوة أصلاً، ولم يتنازع المسلمون في شيء من ذلك إلا في آية الوضوء، والنزاع فيها متأخر، فيكون ما أجمعوا عليه قاضياً على ما تنازع فيه متأخروهم. وأما طريق الاعتبار فإن اللمس المجرد لم يعلق الله به شيئاً من الأحكام، ولا جعله موجباً لأمر، ولا منهياً عنه في عبادة ولا اعتكاف، ولا إحرام ولا صلاة ولا صيام، ولا غير ذلك، ولا جعله ينشر حرمة المصاهرة، ولا يثبت شيئاً غير ذلك، بل هذا في الشرع كما لو مس المرأة من وراء ثوبها ونحو ذلك من المس الذي لم يجعله الله سبباً لإيجاب شيء ولا تحريم شيء. وإذا كان كذلك كان إيجاب الوضوء بهذا مخالفاً للأصول الشرعية المستقرة، مخالفاً للمنقول عن الصحابة، وكان قولاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، بل المعلوم من السنة مخالفته)) (¬1). دليل من قال: مس المرأة ينقض الوضوء إن كان بشهوة. هذا القول ذهب إلى الجمع بين الآية والأخبار، فالآية الكريمة بقوله سبحانه وتعالى {أو لا مستم النساء} يقتضي أن يكون مس المرأة ناقضاً للوضوء مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة، وجاءت الأخبار دالة على أن المس بدون شهوة لا ينقض الوضوء، كحديث عائشة في مسلم: قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وتقدم تخريجه بتمامه. ¬

(¬1) المرجع السابق.

(1090 - 319) وحديث عائشة في الصحيحين: (كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما ..) الحديث، وسبق تخريجه بتمامه (¬1). وقال ابن المنذر: وما زال الناس في القديم والحديث يتعارفون أن يعانق الرجل أمه وجدته ويقبل ابنته في حال الصغر قبلة الرحمة، ولا يرون ذلك ينقض الطهارة ولا يوجب الوضوء عندهم، ولو كان ذلك حدثاً ينقض الطهارة ويوجب الوضوء لتكلم فيه أهل العلم، كما تكلموا في ملامسة الرجل امرأته وقبلته إياها (¬2). وقال أيضاً: وقد أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن لا وضوء على الرجل إذا قبل أمه أو ابنته أو أخته إكراماً لهن وبراً عند قدوم من سفر أو مس بعض بدنه بعض بدنها عند مناولة شيء إن ناولها إلا ما ذكر من أحد قولي الشافعي فإن بعض المصريين من أصحابه حكى عنه في المسألة قولين: أحدهما إيجاب الوضوء منه، والآخر كقول سائر أهل العلم، ولم أجد هذه المسألة في كتبه المصرية التي قرأناها على الربيع، ولست أدري أيثبت ذلك عن الشافعي أم لا؛ لأن الذي حكاه لم يذكر أنه سمعه منه، ولو ثبت ذلك عنه لكان قوله الذي يوافق فيه المدني والكوفي وسائر أهل العلم أولى به (¬3). الراجح: القول بأن اللمس في الآية الجماع، وأن مس بدن المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً، سواء مسه بشهوة أو بغير شهوة. ¬

(¬1) انظر حديث رقم (1080). (¬2) الأوسط (1/ 131). (¬3) المرجع السابق (1/ 130).

المبحث الثاني: في مس شعر وظفر المرأة

المبحث الثاني: في مس شعر وظفر المرأة اختلف العلماء في مس شعر المرأة وظفرها وسنها أو مس بدن المرأة بشعره أو ظفره أو سنه هل ينتقض الوضوء بذلك أم لا؟ فقيل: لا ينقض الوضوء مطلقاً، وهو نص الشافعي في الأم (¬1)، وعليه جمهور أصحابه، وهو مذهب الحنابلة رحمهم الله (¬2). وقيل: ينقض الوضوء مطلقاً، وهو وجه عند الشافعية (¬3). وقيل: ينقض الوضوء إن كان بشهوة، وهو مذهب المالكية (¬4). دليل من قال: لا ينقض الوضوء مطلقاً. التعليل الأول: أن هذه الأشياء بحكم المنفصل. التعليل الثاني: أن هذه الأجزاء ليست محلاً للشهوة الأصلية. ¬

(¬1) مغني المحتاج (1/ 35)، وانظر المجموع (2/ 30). (¬2) كشاف القناع (1/ 129)، القاعدة الثانية من قواعد ابن رجب (ص:4)، المغني (1/ 125). (¬3) المجموع (2/ 30)، (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 120)، التاج والإكليل (1/ 431)، حاشية العدوي (1/ 139)، التفريع لابن الجلاب (1/ 213).

التعليل الثالث

التعليل الثالث: أنه لا يلحقه طلاق بطلاق هذه الأشياء. وهذا التعليل في نزاع كما سيتضح إن شاء الله من أدلة المالكية. دليل من قال: مس الشعر والظفر ينقض الوضوء مطلقاً. أدلتهم هي أدلتهم في وجوب الوضوء من مس بدن المرأة، وقد ذكرناها بالتفصيل في المسألة السابقة. كما عللوا ذلك بأن الشعر جزء من البدن متصل به اتصال خلقة فأشبه اللحم؛ ولأنه جزء من البدن يلحقه طلاقه فأشبه ما ذكرناه (¬1). دليل من قيد النقض بالشهوة. من اعتبر الشهوة هنا قد اعتبرها في مس بدن المرأة، وأدلتهم هنا هي أدلتهم هناك، وقد ذكرناها في المسألة السابقة، وأجبنا عليها. الراجح: لو قلنا بنقض الوضوء من مس بدن المرأة لقلنا به هنا، وقد بينا أن القول الراجح أن مس بدن المرأة لا ينقض الوضوء لعدم الدليل الصحيح الصريح في المسألة. ¬

(¬1) الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 148).

المبحث الثالث: في مس المرأة مع حائل

المبحث الثالث: في مس المرأة مع حائل اختلفوا فيمن مس امرأته من وراء حائل، فقيل: لا وضوء عليه، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: إن كان الحائل رقيقاً، فعليه الوضوء، بشرط أن يقصد اللذة أو يجدها، وإن ضم بدن الملموس أو قبض على شيء من جسده نقض مطلقاً: أي سواء كان الحائل رقيقاً أو صفيقاً، وهو مذهب المالكية (¬3). وقيل: ينقض إذا وجد اللذة أو قصدها، ولو كان الحائل كثيفاً، وهو قول في مذهب المالكية، وهو ظاهر المدونة (¬4). دليل من قال: لا ينقض. قالوا: إن اللمس إذا أطلق إنما يراد به بدون حائل، وأما مع الحائل فكأنه لمس ثياب المرأة، ولمس ثياب المرأة لا يوجب وضوءاً. دليل من قال: ينقض إن كان الحائل رقيقاً. لعله رأى أن الحائل إذا كان رقيقاً فإنه لا يمنع من كمال اللذة، ويستشعر اللامس طراوة جسد الملموس فأوجب عليه الوضوء كما لو لم يكن هناك حائل. ¬

(¬1) المجموع (2/ 34)، (¬2) الإنصاف (1/ 213)، (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 120)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 143). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 120)، الفواكه الدواني (1/ 115)، منح الجليل (1/ 112).

تعليل من قال: ينقض مطلقا ولو مع حائل

تعليل من قال: ينقض مطلقاً ولو مع حائل. إذا لمس بدن المرأة لشهوة ولو مع حائل فإنه يصدق عليه أنه لمس المرأة، واللذة بلمس بدن المرأة مع الحائل موجودة كما لو مسها بدون حائل، ومظنة خروج الحدث قائمة. والراجح: ما رجحت قبل، وهو أن مس المرأة مطلقاً لا ينقض الوضوء، بحائل أو بدونه، والله أعلم.

المبحث الرابع: في مس المحارم

المبحث الرابع: في مس المحارم إذا لمس الرجل ذات محرم، فهل ينتقض وضوؤه؟ اختلف العلماء في ذلك. فقيل: إن وجد اللذة انتقض، لا فرق بين ذوات المحارم والأجنبية، وهو مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). وقيل: ينتقض وضوؤه مطلقاً، سواء كان بشهوة أو بغيرها، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3). وقيل: لا ينقض، وهو مذهب الشافعية (¬4)، وظاهر عبارة ابن الجلاب من المالكية (¬5). دليل المالكية بالنقض: عموم قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} (¬6). ¬

(¬1) الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 148)، التاج والإكليل (1/ 432)، مواهب الجليل (1/ 298). (¬2) قال ابن قدامة في المغني (1/ 125): ولا فرق بين الأجنبية وذات المحرم، والكبيرة والصغيرة. الخ كلامه رحمه الله. وانظر الروض المربع بحاشية الدكتور الشيخ خالد المشيقح ومن معه (1/ 307)، كشاف القناع (1/ 129). (¬3) المجموع (2/ 31). (¬4) المجموع (2/ 31)، أسنى المطالب (1/ 56)، تحفة المحتاج (1/ 138). (¬5) التفريع (1/ 213). (¬6) المائدة: 6.

تعليل الشافعية على عدم النقض

وقياساً على الإيلاج، فكما أنه لا فرق بين المحارم وغيرهم في وجوب الغسل منه، فلا فرق في وجوب الحدث الأصغر. وتعليل الشافعية على عدم النقض: أن المحارم ليسوا محلاً للشهوة، فهي كالرجل في حقه، فكما أنه لو مس رجلاً لم ينتقض وضوؤه، فكذلك إذا مس أحداً من محارمه، حتى ولو وجد شهوة من ذلك لم ينتقض. الراجح من الخلاف: لو قلنا بنقض الوضوء من مس المرأة لكان الراجح عدم الفرق بين المحارم وغيرهم، ولكن لم يقم دليل صحيح على انتقاض الوضوء من مس المرأة مطلقاً، سواء كانت من الأجنبيات أو المحارم، وسواء كانت صغيرة أو كبيرة.

المبحث الخامس: في مس الطفلة الصغيرة بشهوة

المبحث الخامس: في مس الطفلة الصغيرة بشهوة اختلف العلماء في مس الرجل الطفلة أو المرأة الطفل، هل ينقض الوضوء، فقيل: لا ينقض الوضوء، وهو مذهب المالكية (¬1)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: ينقض الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، ووجه في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: إن كانت بنت سبع سنين نقض وإن كانت أصغر لم ينقض، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). وسبب الخلاف في هذه المسألة خلافهم في مس ذوات المحارم، فمن ذهب إلى عدم النقض، قال: إن الصغيرة ليست محلاً للشهوة، فيكون النظر إليها كالنظر إلى الرجل، ومن ذهب إلى النقض رأى أن السن ليس مناطاً للحكم، فلو أولج ذكره في فرج الصغيرة وجب لذلك الغسل، فكذلك يجب ¬

(¬1) اشترط المالكية بأن يكون الملموس يشتهى عادة، فلا ينتقض مس البنت الصغيرة، انظر شرح المواق على مختصر خليل (1/ 298)، حاشية الدسوقي (1/ 123). (¬2) المجموع (2/ 32)، (¬3) انظر حاشية الدسوقي (1/ 123). (¬4) المجموع (2/ 32)، (¬5) كشاف القناع (1/ 129)، الروض المربع (1/ 307)، الإنصاف (1/ 212).

من مس بدنها الوضوء، ومن فرق بين بنت سبع سنين وبين غيرها رأى أن البنت في مثل هذا السن قد تشتهى، وينظر إلى محاسن جسمها كما ينظر إلى المرأة الكبيرة. وما رجحناه في مسألة مس ذوات المحارم نرجحه، هنا، والله أعلم.

المبحث السادس: في لمس الأمرد

المبحث السادس: في لَمس الأمرد اختلف العلماء في مس الأمرد، فقيل: ينقض الوضوء، وهو المشهور من مذهب مالك (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2)، واختاره أبو سعيد الإصطخري من الشافعية (¬3). واشترط الحنفية للقول بالنقض: أن تكون المباشرة فاحشة: بأن يتجردا متعانقين متماسي الفرجين (¬4). وقيل: لا ينتقض، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬5) والحنابلة (¬6). وسبب خلافهم اختلافهم في الأمرد هل مسه كمس المرأة، أو كمس الرجل البالغ ممن ليس محلاً للشهوة؟ فمن رأى أن مس الأمرد كمس الأنثى سواء، أوجب الوضوء من مسه، ومن رأى أن الأمرد ليس محلاً للشهوة جعل مسه كمس الرجل والمحارم لم يوجب الوضوء من مسه، ولو قلنا بنقض الوضوء من مس المرأة لقلنا بنقض الوضوء من مس الأمرد خاصة إذا كان الرجل يلتذ بالنظر إليه. ¬

(¬1) انظر التاج والإكليل (1/ 433)، مواهب الجليل (1/ 296)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 119). (¬2) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 281)، الإنصاف (1/ 214). (¬3) المجموع (2/ 34)، (¬4) شرح فتح القدير (1/ 54)، الفتاوى الهندية (1/ 13). (¬5) المجموع (2/ 33)، (¬6) الإنصاف (1/ 214)، الروض المربع بحاشية الدكتور خالد المشيقح ومجموعة من طلبة العلم (1/ 308)،

وسئل ابن تيمية: إذا مس يد الصبي الأمرد, فهل هو من جنس النساء في نقض الوضوء, وما جاء في تحريم النظر إلى وجه الأمرد الحسن؟ وهل هذا الذي يقوله بعض المخالفين للشريعة إن النظر إلى وجه الصبي الأمرد عبادة, وإذا قال لهم أحد: هذا النظر حرام يقول: أنا إذا نظرت إلى هذا أقول: سبحان الذي خلقه, لا أزيد على ذلك؟ فأجاب رحمه الله: الحمد لله، إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء, وهو المشهور من مذهب مالك , ذكره القاضي أبو يعلى في شرح المذهب. والثاني: أنه لا ينقض الوضوء وهو المشهور من مذهب الشافعي, والقول الأول أظهر؛ فإن الوطء في الدبر يفسد العبادات التي تفسد بالوطء في القبل: كالصيام والإحرام والاعتكاف, ويوجب الغسل كما يوجبه هذا, فتكون مقدمات هذا في باب العبادات كمقدمات هذا , فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم , فعليه دم كما لو مس أجنبية لشهوة, وكذلك إذا مسه لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة في نقض الوضوء. والذي لم ينقض الوضوء بمسه يقول: إنه لم يخلق محلا لذلك, فيقال له: لا ريب أنه لم يخلق لذلك, وإن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات, لكن هذا القدر لم يعتبر في باب الوطء، فإن وطئ في الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام, وإن كان الدبر لم يخلق محلا للوطء, مع أن نفرة الطباع عن الوطء في الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة, ونقض الوضوء بالمس يراعى فيه حقيقة الحكمة, وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين: كمالك , وأحمد , وغيرهما , كما يراعى مثل

ذلك في الإحرام والاعتكاف وغير ذلك. وعلى هذا القول: فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم , حتى لو مس أمه وأخته وبنته لشهوة انتقض وضوؤه, فكذلك الأمرد, وأما الشافعي وأحمد في رواية فتعتبر المظنة, وهو أن النساء مظنة الشهوة , فينقض الوضوء, سواء بشهوة أو بغير شهوة, ولهذا لا ينقض لمس المحارم, لكن لو لمس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة, وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة. والتلذذ بمس الأمرد: كمصافحته ونحو ذلك: حرام بإجماع المسلمين, كما يحرم التلذذ بمس ذوات محارمه والمرأة الأجنبية, بل الذي عليه أكثر العلماء أن ذلك أعظم إثما من التلذذ بالمرأة الأجنبية, كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطي أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية , فيجب قتل الفاعل والمفعول به. سواء كان أحدهما محصنا أو لم يكن , وسواء كان أحدهما مملوكا للآخر أو لم يكن, كما جاء ذلك في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم. ثم قال رحمه الله: والنظر إلى وجه الأمرد لشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم, والمرأة الأجنبية بالشهوة, سواء كانت الشهوة شهوة الوطء, أو شهوة التلذذ بالنظر, فلو نظر إلى أمه وأخته, وابنته يتلذذ بالنظر إليها كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية كان معلوماً لكل أحد أن هذا حرام, فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة (¬1). وقال أيضاً: النظر إلى الأمرد لشهوة حرام بإجماع المسلمين، وكذلك إلى ذوات المحارم ومصافحتهم والتلذذ بهم، ومن قال: إنه عبادة فهو كافر، وهو بمنزلة من جعل إعانة طلب الفواحش عبادة، بل النظر إلى الأشجار والخيل ¬

(¬1) انظر الفتاوى الكبرى (1/ 281).

والبهائم إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة والمال فهو مذموم، لقول الله تعالى {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} (¬1)، (¬2). ¬

(¬1) طه: 131. (¬2) انظر مختصر الفتاوى المصرية (ص: 29)،

الفصل السادس: من نواقض الوضوء أكل لحم الجزور

الفصل السادس: من نواقض الوضوء أكل لحم الجزور المبحث الأول: خلاف أهل العلم في الوضوء من لحم الإبل اختلف العلماء في الوضوء من لحم الجزور، فقيل: لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يجب منه الوضوء، وهو القول القديم في مذهب الشافعي (¬2)، والمشهور من مذهب أحمد (¬3)، وهو مذهب أهل الحديث (¬4). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 32)، وانظر في مذهب المالكية: المنتقى للباجي (1/ 65)، (¬2) قال النووي في المجموع (2/ 66): وفي لحم الجزور بفتح الجيم وهو لحم الإبل قولان, الجديد المشهور: لا ينتقض, وهو الصحيح عند الأصحاب، والقديم أنه ينتقض. وهو ضعيف عند الأصحاب، ولكنه هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل، وهو الذي أعتقد رجحانه, وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه واختياره والذب عنه. اهـ (¬3) الفتاوى الكبرى (1/ 296)، إعلام الموقعين (1/ 298)، الفروع (1/ 183)، الإنصاف (1/ 216)،. (¬4) انظر صحيح ابن خزيمة (1/ 21)، صحيح ابن حبان (3/ 432)، سنن الترمذي (1/ 120)، مسائل الكوسج لإسحاق بن راهوية (110).

دليل الجمهور على ترك الوضوء من لحوم الإبل

دليل الجمهور على ترك الوضوء من لحوم الإبل. الدليل الأول: (1091 - 320) ما رواه أبو داود، من طريق علي بن عياش، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما غيرت النار (¬1). [اختصر الحديث شعيب بن أبي حمزة، فأوقع الجمهور في وهم كبير، وهو أن الأمر بالوضوء مما مست النار منسوخ ومنه لحم الإبل وقد ذهب إلى القول بأن شعيباً اختصر الحديث: جماعة من أهل العلم منهم أبو داود وأبو حاتم الرازي وابن حبان وابن تيمية وابن القيم وغيرهم] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (192). (¬2) الحديث مداره على محمد بن المنكدر، عن جابر، وقد أعل هذا الحديث بعلتين: أحدهما في الإسناد والثانية في المتن. أما العلة في إسناده، فقد قيل: إن محمد بن المنكدر لم يسمع هذا الحديث من جابر، وإنما سمعه من ابن عقيل، وأكثر الأئمة على تضعيف ابن عقيل، (انظر كلام الأئمة في حفظ ابن عقيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فأغنى عن إعادته هنا). قال الشافعي رحمه الله كما في كتاب المعرفة للبيهقي (1/ 395): لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر، وإنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل. قال البيهقي: وهذا الذي قاله الشافعي محتمل؛ وذاك لأن صاحبي الصحيح لم يخرجا هذا الحديث من جهة محمد بن المنكدر، عن جابر في الصحيح، مع كون إسناده على شرطهما؛ ولأن عبد الله بن عقيل قد رواه أيضاً عن جابر، ورواه عنه جماعة، ثم قال: إلا أنه قد روي عن حجاج بن محمد وعبد الرزاق ومحمد ان بكر، عن ابن جريج، عن ابن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله .. فذكروا هذا الحديث، فإن لم يكن ذكر السماع فيه وهماً من ابن جريج فالحديث صحيح على شرط صاحبي الصحيح. اهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: ما ساقه البيهقي احتمالاً قد صرح به البخاري في التاريخ الصغير (2/ 250)، قال رحمه الله: وقال بعضهم: عن ابن المنكدر: سمعت جابراً، ولا يصح. اهـ وهذا ذهاب من البخاري رحمه الله أن ذكر سماع ابن المنكدر عن جابر في هذا الحديث لا يصح، وأن الحديث ليس على شرط البخاري. وقد أخرج أحمد (3/ 307) ثنا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته مرة يقول: أخبرني من سمع جابراً، ظننته سمعه من ابن عقيل. ولفظ ابن عقيل على فرض تحسين حديثه ليس فيها: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، وإنما فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً، ثم توضأ، فصلى الظهر، ثم رجع إلى فضل طعامه، فأكل منه، ثم قام إلى صلاة العصر، ولم يتوضأ، وهذا اللفظ لا إشكال فيه، ولا حجة فيه على نسخ الوضوء من لحوم الإبل، بل ولا على نسخ الأمر بالوضوء مما مست النار، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما العلة في المتن، فإن الحديث يرويه جماعة: منهم ابن جريج وابن عيينة ومعمر وأيوب وروح بن القاسم وغيرهم عن محمد بن المنكدر، عن جابر بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نزل على امرأة من الأنصار، فقربت له لحماً، فأكل، ثم حان وقت صلاة الظهر، فتوضأ، وصلى، ثم رجع فقربت له فضل طعامه، فأكل، فحانت صلاة العصر، فصلى، ولم يتوضأ. فأراد شعيب بن أبي حمزة أن يختصر الحديث والقصة، فقال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فأوقع هذا الاختصار المخل في فهم غير مراد للحديث، وفهم الجمهور أن هذا الحديث بهذا اللفظ ناسخ لأحاديث الأمر بالوضوء مما مست النار، وكان شعيب رحمه الله يقصد من قوله: في آخر الأمرين: المقصود بالأمر: الشأن والقصة، وليس الأمر الشرعي. قال أبو داود عن رواية شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر: هذا اختصار من الحديث الأول: يعني: حديث ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بلفظ: قربت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خبزاً ولحماً، فأكل، ثم دعا بوضوء، فتوضأ به، ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه، فأكل، ثم قام إلى الصلاة، ولم يتوضأ. وقال ابن حبان في صحيحه: وهذا خبر مختصر من حديث طويل. وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 64): سمعت أبي يقول: هذا حديث مضطرب المتن، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = إنما هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل كتفاً، ولم يتوضأ، كذا رواه الثقات، عن ابن المنكدر، عن جابر، ويحتمل أن يكون شعيب حدث به من حفظه، فوهم فيه. اهـ وقال ابن القيم عن حديث جابر " كان آخر الأمرين ... في زاد المعاد (4/ 377): "ليس فيه حكاية لفظ عام عن صاحب الشرع، وإنما هو إخبار عن واقعة فعل في أمرين: أحدهما متقدم على الآخر، كما ذلك جاء ذلك مبيناً في نفس الحديث: أنهم قربوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لحماً، فأكل، ثم حضرت الصلاة، فتوضأ، فصلى، ثم قربوا إليه، فأكل، ثم صلى، ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار، هكذا جاء الحديث، فاختصره الراوي لمكان الاستدلال. وقال ابن القيم أيضاً في تهذيب السنن (1/ 138): الحديث قد جاء مثبتاً من حديث جابر نفسه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعى إلى طعام، فأكل، ثم حضرت الظهر، فقام وتوضأ وصلى، ثم أكل، فحضرت صلاة العصر، فقام فصلى، ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار، فالحديث له قصة، فبعض الرواة اقتصر على موضع الحجة، فحذف القصة، وبعضهم ذكرها، وجابر روى الحديث بقصته. وقال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (21/ 263): " ليس في حديث جابر ما يدل على ذلك - يعني ما يدل على الترك العام من الوضوء مما مست النار - بل المنقول عنه الترك في قضية معينة ". وهذا الاختصار من شعيب رحمه الله لم يكن اختصاراً موفقاً حتى ولو حملناه على أن المقصود بالأمر الشأن، والقصة. لسببين: الأول: أنه يوهم أن الوضوء مما مست النار منسوخ، وليس كذلك؛ لأننا لا نستطيع أن نقطع أن الوضوء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الظهر كان بسبب أكل اللحم، فقد يكون محدثاً، ولم يكن عندنا دليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أكل من اللحم قبل صلاة الظهر كان على وضوء، ثم فعل الوضوء بسبب اللحم، بل إن ابن عقيل رحمه الله والحديث كما بينا إنما هو حديثه، سمعه منه ابن المنكدر، ولم يسمعه من جابر، قد روى الحديث عن جابر، وذكر أن الرسول صلى الله عليه كان وضوءه الأول عن حدث، وليس بسبب أكل اللحم، وسوف نسوق لفظها إن شاء الله تعالى حين تخريج الحديث. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثاني: أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخ قوله، فالأمر بالوضوء مما مست النار ثبت في أحاديث قولية في الصحيحين وفي غيرهما، وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً ثم صلى، ولم يتوضأ يجعل الأمر بالوضوء للاستحباب، وليس للوجوب، ولا يصح أن نقول: إن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليل على النسخ، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيء كان نهيه دليلاً على التحريم، فإذا ارتكب هذا النهي حملنا النهي على الكراهة ولا نقول: إن ارتكابه لهذا النهي دليل على نسخ النهي، إلا أن يقوم دليل على أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاص به فنبقي الأمر والنهي على ظاهرهما. وقد ذهب ابن تيمية رحمه الله إلى أن الوضوء مما مست النار ليس منسوخاً، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 263): لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث عام ينسخ الوضوء من كل ما مسته النار، وإنما ثبت في الصحيح أنه أكل كتف شاة، ثم صلى، ولم يتوضأ، وكذلك أتي بالسويق فأكل منه، ثم لم يتوضأ. وهذا فعل لا عموم له، فإن التوضؤ من لحوم الغنم لا يجب باتفاق الأئمة المتبوعين. [تخريج الحديث]. الحديث كما سبق مداره على محمد بن المنكدر، عن جابر، ويرويه جماعة عن محمد بن المنكدر، الأول: شعيب بن أبي حمزة، عنه. أخرجه أبو داود كما في إسناد الباب، والنسائي (185)، وفي الكبرى (188)، وابن الجارود في المنتقى (24)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 67) وابن خزيمة (1/ 28)، والطبراني في المعجم الصغير (2/ 3)، وابن حبان (1134)، والبيهقي في السنن (1/ 155) من طريق علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، بلفظ: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار. قال ابن حبان: هذا خبر مختصر من حديث طويل اختصره شعيب بن أبي حمزة متوهما لنسخ إيجاب الوضوء مما مست النار مطلقا وإنما هو نسخ لإيجاب الوضوء مما مست النار خلا لحم الجزور فقط الثاني: ابن جريج، عن محمد بن المنكدر به. أخرجه عبد الرزاق (639) في المصنف، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد في المسند (3/ 322)، وابن حبان (1130). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أحمد (3/ 322) عن محمد بن بكر، وأبو داود (191) من طريق حجاج بن محمد، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 42) والبيهقي (1/ 156) من طريق ابن وهب، كلاهما عن ابن جريج به. وذكروا من لفظه: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرب له خبز ولحم، فأكل منه، ثم توضأ لصلاة الظهر، ثم رجع فأكل من فضل طعامه، ثم صلى العصر ولم يتوضأ. وبعضهم يزيد على بعض. الطريق الثالث: سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر به. أخرجه أحمد (3/ 307) حدثنا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته يقول: أخبرني من سمع جابراً، فظننته سمعه من ابن عقيل. ابن المنكدر وعبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً، ثم صلى ولم يتوضأ، وأن أبا بكر أكل لبأ ثم صلى ولم يتوضأ، وأن عمر أكل لحماً ثم صلى، ولم يتوضأ. وأخرجه ابن ماجه (489) من طريق سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر وعمرو بن دينار وعبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بنحوه. وأخرجه الحميدي في مسنده (1266) والترمذي في السنن (80) عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، ومحمد بن المنكدر به، بذكر قصة في الحديث .. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (2017) من طريق سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل، ومحمد بن المنكدر به، مختصراً. كما أخرجه البيهقي (1/ 154) من طريق سفيان عن ابن المنكدر وحده، بلفظ مختصر أيضاً. وسيأتي إن شاء الله مزيد تخريج لطريق ابن عقيل وحده عن جابر في نهاية البحث. الطريق الرابع: معمر، عن محمد بن المنكدر به. أخرجه عبد الرزاق (639،640) وابن حبان (1132) عن معمر به. الطريق الخامس: أيوب عن محمد بن المنكدر، أخرجه ابن حبان (1137) من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال: حدثنا أيوب به. الطريق السادس: جرير بن حازم، عن محمد بن المنكدر، أخرجه ابن حبان (1138) من طريق وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الطريق السابع: أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 65) وابن حبان (1139) من طريق روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر به. الطريق الثامن: أخرجه ابن حبان (1135) من طريق محمد بن عبد الله بن أبي فروة، قال: حدثني محمد بن المنكدر به. الطريق التاسع: رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4974) من طريق يونس بن عبيد، عن محمد بن المنكدر به. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن يونس إلا زهير بن إسحاق، تفرد به بشر بن معاذ. الطريق العاشر، رواه الحارث في مسنده كما في زوائد مسند الحارث (1/ 99) من طريق عبد الوارث، عن محمد بن المنكدر. هذا ما وقفت عليه من طرق إلى محمد بن المنكدر، ولم يتفق أحد من الرواة ممن روى هذا الحديث مع ما ذكره شعيب بن أبي حمزة من اختصاره لهذا الحديث بقوله: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فكان هذا اختصاراً منه رحمه الله للقصة التي حكاها بعض الرواة من كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً، ثم حان وقت الظهر، فتوضأ فصلى، ثم عاد فأكل بقية الطعام، ثم صلى العصر، ولم يتوضأ. فهل في هذه القصة ما يدل على ترك الوضوء مما مست النار بالكلية حتى يقال: إن الحكم الشرعي بالوضوء مما مست النار قد نسخ، وأصبح غير مشروع، أو يقال: إن هذا الفعل دليل على أن الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، وإنما هو للاستحباب، الثاني هو المتعين، والله أعلم. انظر إتحاف المهرة (3688، 3702)، تحفة الأشراف (3047). وكنا قد ذكرنا في بداية البحث أن حديث محمد بن المنكدر، إنما سمعه من ابن عقيل، عن جابر، ووعدنا أن نخرج طريق عبد الله بن عقيل في نهاية البحث، فهذا أوان تخريجنا لطريق عبد الله بن عقيل رحمه الله: الحديث أخرجه أحمد في المسند (3/ 374) من طريق ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: دخلت على جابر بن عبد الله الأنصاري ومعي محمد بن عمرو بن حسن ابن علي =

ورد ابن حزم وابن التركماني القول باختصار الحديث، وقالا: إنما هما حديثان، وأيدهما أحمد شاكر رحمه الله تعالى. قال ابن حزم: القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا قول بالظن، وهو أكذب الحديث، بل هما حديثان كما ورد (¬1). وقال ابن التركماني: ودعوى الاختصار في غاية البعد (¬2). وقال أحمد شاكر: ومن الواضح أن هذا تأويل بعيد جداً، يخرج به الحديث عن ظاهره، بل يحيل معناه عما يدل عليه لفظه وسياقه، ورمي الرواة ¬

= وأبو الأسباط مولى لعبد الله بن جعفر، كان يتتبع العلم، قال: فسألناه عن الوضوء مما مست النار من الطعام، فقال: وذكر قصة في الحديث، وفيها: وجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صور من نخل قد رش له فهو فيه، قال: فأتي بغداء من خبز ولحم قد صنع له، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم معه، قال: ثم بال، ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للظهر، وتوضأ القوم معه، قال: ثم صلى بهم الظهر، قال: ثم قعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض ما بقي من قسمته لهن حتى حضرت الصلاة، وفرغ من أمره منهن، قال: فردوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضل غذائه من الخبز واللحم، فأكل وأكل القوم معه، قال: ثم نهض فصلى بنا العصر، وما مس ماء ولا أحد من القوم. فهذا الحديث هو حديث محمد بن المنكدر، وقد ذكر البخاري والشافعي وسفيان بن عيينة أن محمد بن المنكدر سمعه من ابن عقيل، فلا يقال: إن هذا قد انفرد به ابن عقيل بذكر البول قبل صلاة الظهر، لأن حديث ابن المنكدر إنما سمعه منه، وهو نص على أن الوضوء قبل صلاة الظهر لم يكن سببه أكل اللحم، وإنما سببه الحدث، حتى ولو لم ينص ابن عقيل على هذا، فليس عندنا نص على أن الوضوء الأول كان بسبب أكل اللحم، وليس عندنا ما يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان على طهارة حين أكل اللحم قبل صلاة الظهر، والأصل عدم الطهارة، وأن الوضوء قبل صلاة الظهر كان بسبب الحدث لا غير. (¬1) المحلى (1/ 243). (¬2) الجوهر النقي (1/ 156).

الثقات الحفاظ بالوهم بهذه الصفة ونسبة التصرف الباطل في ألفاظ الحديث إليهم حتى يحيلوها عن معناها قد يرفع من نفوس ضعفاء العلم الثقة بالرويات الصحيحة جملة ... الخ كلامه رحمه الله (¬1). وكلام أهل العلل كأبي داود وأبي حاتم الرازي وابن حبان ومعهم ابن تيمية وابن القيم لا يمكن أن يعارض بكلام ابن حزم وابن التركماني، وذلك أن ابن حزم رحمه الله لم يكن من أهل العلل أصلاً، وليست له عناية في هذا الفن، ومن قرأ كتابه المحلى قطع بذلك، وإن كان هذا لا يقدح في إمامته في الفقه، فالمرد عند الكلام على العلل إنما هو إلى أهله وصيارفته، وما ساقه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إنما هو من قبيل حسن الظن بالراوي، وهذا لا يمنع من الوقوع بالخطأ، والثقة بل الأئمة قد يقع لهم بعض الأوهام، فهذا مالك وسفيان والزهري وشعبة قد يحصي أئمة الحديث أوهاماً لهم وقعوا فيها، إما في المتن وإما في الإسناد، وليس ذلك بقادح في الثقة حتى يكثر ذلك منه، فإذا كثرت مخالفته قدح ذلك في ضبطه، والله أعلم. وبناء عليه فالوضوء مما مست النار محفوظ غير منسوخ، وإن كان الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء، ثم أكل لحماً وصلى ولم يتوضأ، فدل على أن الأمر بالوضوء منه ليس للوجوب. وأن لحوم الإبل ليست العلة في الأمر بالوضوء منه كونه مما مسته النار، وإلا لم يكن هناك فرق بين لحوم الغنم ولحوم الإبل، لأن الجميع قد مسته النار، ومع ذلك فرق بينهما في الحكم في الحديث، كما في حديث جابر والبراء بن عازب، وسوف نأتي على ذكرهما إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) سنن الترمذي تحقيق أحمد شاكر (1/ 122).

الدليل الثاني

وقد يقال أيضاً: إن ترك الوضوء مما مست النار عام، والأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام، خاصة إذا علمنا أن الحديث قد جمع بين نوعين من اللحوم وكلاهما قد مسته النار، فعلق الوضوء من لحوم الغنم بالمشيئة، وأمر بالوضوء من لحوم الإبل، ولم يعلقه على المشيئة، والله أعلم. الدليل الثاني على ترك الوضوء من لحوم الإبل: (1092 - 321) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل (¬1). [إسناده صحيح، وهو موقوف] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 52) رقم 535. (¬2) ورواه عبد الرزاق في المصنف (653) عن ابن جريج عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس يقول: إنما النار بركة الله، وما تحل من شيء ولا تحرمه، ولا وضوء مما مست النار، ولا وضوء مما دخل، إنما الوضوء مما خرج من الإنسان. وسنده صحيح. وأخرجه البيهقي (1/ 158) من طريق عبد الوهاب، أنا ابن جريج به. وأخرجه البيهقي أيضاً (1/ 116) من طريق أبي ظبيان، عن ابن عباس بنحوه. وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 116) من طريق الفضل بن المختار، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس. وإسناده ضعيف. فيه الفضل بن مختار، قال العقيلي: منكر الحديث. الضعفاء الكبير (3/ 449). وقال أبو حاتم الرازي: هو مجهول، وأحاديثه منكرة، يحدث بالأباطيل. الجرح والتعديل (7/ 69). وقال ابن عدي: أحاديثه منكرة، عامتها لا يتابع عليها. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفيه شعبة مولى ابن عباس، جاء في ترجمته: قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279)، تهذيب الكمال (12/ 497). وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال أحمد: ما أرى به بأساً. قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279)، تهذيب الكمال (12/ 497). وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال أحمد: ما أرى به بأساً. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس. وقال في رواية ابن أبي خيثمة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال ابن عدي: ولم أر له حديثاً منكراً جداً، فأحكم له بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/ 23). وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ. قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279)، تهذيب الكمال (12/ 497). وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال أحمد: ما أرى به بأساً. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس. وقال في رواية ابن أبي خيثمة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال ابن عدي: ولم أر له حديثاً منكراً جداً، فأحكم له بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/ 23). وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ. قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279)، تهذيب الكمال (12/ 497). وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/ 303). =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1093 - 322) ما رواه ابن الجعد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثاب، قال: سألت ابن عمر عن الوضوء مما غيرت النار، فقال: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل؛ لأنه لا يدخل إلا طيباً، ولا يخرجه إلا خبيثاً (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬

= وقال أحمد: ما أرى به بأساً. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس. وقال في رواية ابن أبي خيثمة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال ابن عدي: ولم أر له حديثاً منكراً جداً، فأحكم له بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/ 23). وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس. وقال في رواية ابن أبي خيثمة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (4/ 303). وقال ابن عدي: ولم أر له حديثاً منكراً جداً، فأحكم له بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/ 23). وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ. ولا حاجة إلى هذا الإسناد، وقد ثبت الأثر بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬1) مسند ابن الجعد (447). (¬2) واختلف على يحيى بن وثاب، فرواه عنه أبو إسحاق كما تقدم من مسند ابن عمر، ورواه عبد الرزاق في مصنفه (100) عن الثوري، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عباس، فجعله من مسند ابن عباس، ورواه ابن أبي شيبة (1/ 52) حدثنا هشيم، عن أبي حصين به. ويحيى بن وثاب قد روى عن ابن عباس وابن عمر، وقد ثبت الأثر عن ابن عباس من طرق كثيرة، كما قدمنا، فإن كان الطريقان محفوظين، وإلا فطريق أبي حصين أرجح من وجهين: =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1094 - 323) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن وائل بن داود، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود، قال: إنما الوضوء مما خرج، والفطر مما دخل، وليس مما خرج (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (1095 - 324) روى البيهقي من طريق إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن، عن علي أنه أطعم خبزاً ولحماً، فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: إن الوضوء مما خرج، وليس مما دخل (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

= الأول: أن الأثر عن ابن عباس لم يكن فرداً كما هو الحال في أثر ابن عمر. الثاني: أن الإمام أحمد سئل عن أبي حصين، فقال: كان صحيح الحديث. قيل له: أيما أصح حديثاً هو أو أبو إسحاق؟ قال: أبو حصين أصح حديثا بقلة حديثه. تهذيب التهذيب (7/ 116)، والله أعلم. (¬1) المصنف (658)، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/ 251) رقم: 9237. (¬2) إبراهيم النخعي لم يسمع من ابن مسعود، وباقي رجاله ثقات، والله أعلم. (¬3) سنن البيهقي (1/ 157). (¬4) في إسناده عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وهو ضعيف، انظر ترجمته في الجرح والتعديل (6/ 25)، التاريخ الكبير (6/ 71)، الضعفاء الكبير للعقيلي (3/ 57)، الكامل (5/ 316)، المجروحين لابن حبان (2/ 155).

الدليل السادس

وأجيب: قال البيهقي: وروينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل، وإنما قالا ذلك في ترك الوضوء مما مست النار (¬1). قلت: والوضوء من الحوم الإبل ليست علة الوضوء منه كونه مما مسته النار، وإنما كونه من لحوم الإبل، ولذا يتوضأ منه سواء مسته النار أم لا، ولو كان الوضوء منه لكونه قد مس بالنار لم يكن هناك فرق بين لحم الغنم ولحم الإبل، وقد فرق بينهما الحديث كما سيأتي من حديث جابر والبراء رضي الله عنهما. الدليل السادس: (1096 - 325) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن يحيى بن قيس، قال: رأيت ابن عمر أكل لحم جزور، وشرب لبن الإبل، وصلى ولم يتوضأ (¬2). [إسناده فيه لين] (¬3). الدليل السابع: (1097 - 326) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن أبي سبرة النخعي، ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 159). (¬2) المصنف (1/ 50) رقم: 515. (¬3) في إسناده يحيى بن قيس الطائفي، ذكره البخاري وابن أبي حاتم، وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه شيئاً. انظر التاريخ الكبير (8/ 298)، والجرح والتعديل (9/ 181)، وقد ذكر ابن أبي حاتم بأنه روى عنه عائذ بن حبيب، ولم أقف على راو آخر روى عنه، وقد ذكره ابن أبي حاتم في الثقات (5/ 529) الترجمة: 6075. ولم يوثقه غيره.

الدليل الثامن

أن عمر بن الخطاب أكل لحم جزور، ثم قام، فصلى، ولم يتوضأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثامن: (1098 - 327) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن الحسن، أن علياً أكل لحم جزور، ثم صلى، ولم يتوضأ (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). الدليل على وجوب الوضوء من لحوم الإبل. الدليل الأول: 1099 - 328) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، ¬

(¬1) المصنف (1/ 50) رقم 517. (¬2) في إسناده جابر الجعفي مشهور الضعف. كما في إسناده أبو سبرة النخعي، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/ 385). وقال يحيى بن معين: لا أعرفه. تهذيب الكمال (33/ 340). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 569). وقال الذهبي في الكاشف (6637): ثقة. وقد قال كل من المزي والحافظ ابن حجر، بأنه روى عن عمر، ويقال: مرسل. (¬3) المصنف (1/ 51). (¬4) في إسناده شريك، وهو سيء الحفظ.

عن جابر بن سمرة أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال لا (¬1). ¬

(¬1) مسلم (360). وقال البيهقي (1/ 158): ذهب علي بن المديني إلى أن جعفر بن أبي ثور هذا مجهول. وقال الحافظ في التقريب عن جعفر بن أبي ثور: مقبول، يعني: إن توبع، وإلا فلين الحديث، ونعلم أن جعفر بن أبي ثور لم يتابع في هذا الحديث في هذا الإسناد. وقد روى عن أبي ثور جماعة، ووثقه ابن حبان. وقول الحافظ في التقريب مقبول ليس بالدقيق، خاصة وأنه قد صحح حديثه جماعة من أهل الحديث، كالإمام أحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وابن مندة وابن دقيق العيد وابن تيمية وابن القيم وغيرهم وسوف نوثق النقول عن بعضهم من خلال تخريج الحديث إن شاء الله تعالى. والحافظ ابن حجر ليس له منهج مطرد في الحكم على الراوي بأنه مقبول، ومع أن له اصطلاحاً خاصاً في كلمة مقبول، وهي لا تعني التوثيق إلا بشرط المتابعة، وإلا فلين الحديث، ومع ذلك ومن خلال تتبعي لأحكام الحافظ ابن حجر في هذا المصطلح لم أخرج بمعرفة منهجه، وهو بشر، فقد يسلم له في رجال كثيرين ولا يسلم له القول في رجال آخرين، ومنهم جعفر بن أبي ثور، فخذ مثلاً الرواي: عبد الرحمن بن رزين، روى عنه اثنان كما في تهذيب الكمال للمزي، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة سوى أبي داود وابن ماجه، ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان، وقد قال الدارقطني في السنن (1/ 198): مجهول، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء، ومع ذلك قال فيه الحافظ: صدوق، بينما يحكم أحياناً على رجال خرج لهم أحد الشيخين، ولم يوثقهم أحد إلا ابن حبان، يحكم عليهم بقوله: مقبول، يعني: إن توبع كما سبق وإلا فلين الحديث، فهذا إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله المخزومي أخرج له البخاري، ولم يوثقه إلا ابن حبان، وقال فيه: مقبول. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعبد الرحمن بن مسور بن مخرمة أخرج له مسلم، ولم يوثقه أحد إلا ابن حبان وقال فيه مقبول، وهذه أمثلة تدل على غيرها، وإن كان الحافظ ممن أعطي إنصافاً واعتدالاً وسبراً إلا أن الكمال لله سبحانه وتعالى، فالحق أن جعفر بن أبي ثور ثقة، وليس حقه أن يقال فيه صدوق فضلاً أن يقال: فيه مقبول، وأما قول علي بن المديني مجهول فهو معارض بتصحيح أئمة الجرح والتعديل حديثه هذا، ومداره عليه، وهم أكثر عدداً، وعلى رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهوية، عليهم رحمة الله، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: حديث البراء وحديث جابر بن سمرة جميعاً صحيح إن شاء الله تعالى. انظر مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله (1/ 65)، ومسائل ابن هانئ (1/ 9). وقال البيهقي في السنن (1/ 159): بلغني عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية الحنظلي إنهما قالا: قد صح في هذا الباب حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث البراء وحديث جابر بن سمرة. اهـ وقال ابن خزيمة: لم نر خلافاً بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر أيضاً صحيح من جهة النقل؛ لعدالة ناقليه. اهـ وهذا نقل من ابن خزيمة ليس بتصحيح الحديث من قبله، وإنما نسبة التصحيح لأهل الحديث قاطبة. والله أعلم. تخريج الحديث: الحديث مداره على جعفر بن أبي ثور، ويرويه عنه جماعة كالتالي: الأول: أشعث بن أبي الشعثاء، عن جعفر بن أبي ثور به. أخرجه أحمد (5/ 96، 97) ومسلم (360) والطبراني (1864، 1867) من طريق شيبان. وأخرجه ابن ماجه (495)، وابن حبان (1157) من طريق زائدة بن قدامة، كلاهما عن أشعث به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثاني: سماك بن حرب، عن جعفر بن أبي ثور به. أخرجه أحمد (5/ 86) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 70) من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري عن سماك به. وأخرجه أحمد (5/ 86) حدثنا عبد الله بن الوليد. وابن الجاورد في المنتقى (25) من طريق أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي، كلاهما عن سفيان الثوري به. وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1456)، والطبراني في الكبير (1861) من طريق زكريا بن أبي زائدة. وأخرجه الطبراني (1862) من طريق الحسن بن صالح. وأخرجه أحمد (5/ 92) وابن عاصم في الآحاد والمثاني (1455)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 70) والطبراني في الكبير (1860) من طريق حماد بن سلمة. وأخرجه الطيالسي (766)، وأحمد (5/ 93)، والطبراني (1863) وابن حبان (1126) من طريق شعبة. وأخرجه أحمد (5/ 100) ومسلم (360)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 70)، والطبراني (1859) من طريق زائدة بن قدامة. كلهم (زكريا بن أبي زائدة والحسن بن صالح وحماد بن سلمة وشعبة وزائدة بن قدامة) رووه عن سماك به. الطريق الثالث: عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور به. أخرجه أحمد (5/ 89)، ومسلم (360)، وابن خزيمة (93) (7/ 270، 396)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 70)، والطبراني (1866)، وابن حبان (1124)، والبيهقي (1/ 158) من طريق أبي عوانة، عن عثمان بن موهب به. وأخرجه مسلم (360)، والطبراني (1867) من طريق شيبان، عن عثمان بن عبد الله به. الطريق الرابع: محمد بن قيس الأسدي، عن جعفر بن أبي ثور. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 385) والطبراني (1868) من طريق محمد بن قيس الأسدي، عن جعفر بن أبي ثور به. انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (1/ 677)، تحفة الأشراف (2131) إتحاف المهرة (2544).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1100 - 329) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: توضؤا منها. قال: وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا فيها؛ فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلوا فيها؛ فإنها بركة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المسند (4/ 303). (¬2) الحديث اختلف في إسناده، فقيل: عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب. وقيل: عن عبيدة الضبي، عن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ذي الغرة الجهني. وقيل: عن حجاج بن أرطأة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أسيد بن حضير. وقيل: عن جابر الجعفي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سليك الغطفاني. وقد رجح جمع من أئمة الحديث أن الحديث صحيح من مسند البراء بن عازب، منهم أحمد وإسحاق بن راهوية، وسبق أن نقلنا كلامهما سابقاً في الحديث السابق. وكذلك نقل الترمذي هذا الاختلاف وصحح الحديث من مسند البراء. قال الترمذي في السنن (1/ 87): وقد روى الحجاج بن أرطأة هذا الحديث عن عبد الله ابن عبد الله، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، وهو قول أحمد وإسحاق، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وروى عبيدة الضبي عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ذي الغرة الجهني. وروى حماد بن سلمة هذا الحديث عن الحجاج بن أرطأة، فأخطأ فيه، وقال فيه: عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه عن أسيد بن حضير، والصحيح عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، قال إسحاق: صح في هذا الباب حديثان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة. اهـ وانظر العلل الكبير للترمذي (1/ 152). وقال أبو حاتم الرازي كما في العلل لابنه (38)، وقد سأله ابنه عن الصحيح من هذا الخلاف، فقال: الصحيح ما رواه الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن البراء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأعمش أحفظ. اهـ وكذلك رجح ابن خزيمة في صحيحه (1/ 22)، والبيهقي في سننه (1/ 159). [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب، وابن أبي شيبة (1/ 50) رقم 511، وأبو داود (184،493) والترمذي (81)، وأبو يعلى (1709)، من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، عن الأعمش به. وأخرجه الطيالسي (734،735) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 159) عن شعبة. وأخرجه أحمد (4/ 303) وابن المنذر في الأوسط (1/ 138)، وابن حبان (1128) من طريق الثوري. وأخرجه ابن الجاورد في المنتقى (26) وابن خزيمة (1/ 21) رقم 32 من طريق محاضر الهمداني. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 50) رقم 511، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 384) عن عبد الله بن إدريس، كلهم عن الأعمش به. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1597) عن معمر، عن الأعمش، عن رجل، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به. وهذا الرجل المبهم في هذا الإسناد هو عبد الله بن عبد الله كما في الطرق السابقة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أحمد (4/ 352) عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطأة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أسيد بن حضير. ورواه الحارث في مسنده كما في زوائد الهيثمي (98) عن داود بن المحبر، عن حماد به. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/ 206) رقم 558 من طريق هدبة بن خالد، عن حماد به. وقد جعل الترمذي رحمه الله الحمل على حماد بن سلمة، فجعل الخطأ منه، كما في سننه (1/ 87) والذي يظهر لي والعلم عند الله أن الخطأ من حجاج بن أرطأة، وليس من حماد، أولاً أن حماد بن سلمة أوثق من حجاج، والراوي عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه، والأئمة يجعلون الحمل غالباً على الضعيف إلا إذا وجدت قرينة تدل على أن الخطأ من الثقة. ثانياً: أن حماداً قد توبع فيه، فقد أخرجه أحمد (4/ 352، 391)، وابن ماجه (496) الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 383) من طريق عباد بن العوام، أنا الحجاج، ثنا عبد الله ابن عبد الله مولى بني هاشم، وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير، إلا أنه اقتصر على النهي عن الصلاة في أعطان الإبل والإذن بالصلاة في مرابض الغنم. ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (7407) من طريق عمرو بن عاصم الكلابي، ثنا عمران القطان، عن الحجاج بن أرطأة، عن عبد الله بن عبد الله قاضي الري، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير. فتبين أن الخطأ من حجاج، والله أعلم. ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/ 112) وابن أبي عاصم كما في الآحاد والمثاني (2667) من طريق عبيدة الضبي، عن عبد الله بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ذي الغرة. وقد قدمنا أن أبا حاتم في العلل قد صرح بأن هذا الإسناد خطأ، كما نقلنا عن بعض الأئمة أن الصحيح في هذا الحديث حديث الأعمش، وأن الحديث من مسند البراء بن عازب، وكل من خالف ذلك فقد أخطأ، والله أعلم. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (6713) من طريق أبي حمزة السكري، عن جابر، عن =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1101 - 330) ما رواه ابن ماجه من طريق بقية، عن خالد بن يزيد ابن عمر بن هبيرة الفزاري، عن عطاء بن السائب، قال: سمعت محارب بن دثار يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم، وتوضئوا من ألبان الإبل، ولا توضئوا من ألبان الغنم، وصلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل (¬1). [إسناده ضعيف، والصحيح وقفه] (¬2). ¬

= حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سليك الغطفاني. وفي إسناده جابر الجعفي كذبه بعضهم. انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (1/ 582)، تحفة الأشراف (1783)، إتحاف المهرة (2098). (¬1) سنن ابن ماجه (497). (¬2) في إسناده عطاء بن السائب، وقد تغير بآخرة، والرواي عنه خالد بن يزيد، قال: ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 176): وهو غير مشهور. وقد اختلف فيه على عطاء بن السائب، فرواه بقية، عن خالد بن يزيد عن عطاء بن السائب مرفوعاً، كما في إسناد الباب. ورواه ابن إسحاق كما ذكر ذلك ابن أبي حاتم في العلل (48)، قال: حدثني عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر موقوفاً، قال ابن أبي حاتم في العلل (48): حديث ابن إسحاق أشبه موقوفا. اهـ وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 176): وقد روي هذا الحديث موقوفاً على ابن عمر، وهو أشبه.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1102 - 331) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، حدثنا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن مولى لموسى بن طلحة - أو عن ابن لموسى بن طلحة - عن أبيه، عن جده قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها ولا يصلي في أعطانها ولا يتوضأ من لحوم الغنم وألبانها ويصلي في مرابضها (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (1103 - 332) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق سليمان بن داود الشاذكواني، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن موهب، عن عثمان بن عبد الله ابن موهب، عن جابر بن سمرة، عن أبيه سمرة السوائي، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنا أهل بادية وماشية، فهل نتوضأ من لحوم الإبل وألبانها؟ قال: نعم. قال: فهل نتوضأ من لحوم الغنم وألبانها؟ قال: لا (¬3). [إسناده منكر] (¬4). ويكفي في الباب حديث جابر بن سمرة وحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما. ¬

(¬1) مسند أبي يعلى (632). (¬2) إسناده ضعيف، قال الهيثمي في المجمع (1/ 250): رواه أبو يعلى، وفيه من لم يسم. (¬3) المعجم الكبير (7/ 270) رقم 7106. (¬4) الإسناد فيه سليمان بن داود الشاذكواني، وهو متروك، والمعروف أن الحديث من مسند جابر بن سمرة، وليس من مسند أبيه، وقد سبق تخريج حديث جابر بن سمرة، والله أعلم.

وأجاب الجمهور عن هذه الأحاديث بأجوبة، منها

وأجاب الجمهور عن هذه الأحاديث بأجوبة، منها: أن المقصود بالوضوء ليس الوضوء الشرعي، وإنما المراد غسل الأيدي من لحوم الإبل. ويجاب عن هذا: أولاً: بأن الكلام إذا صدر من الشارع فالأصل حمله على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر ذلك حمل على الحقيقة اللغوية، ولا يوجد هنا سبب يحملنا على صرف الكلام عن حقيقته الشرعية إلى حقيقته اللغوية. ثانياً: أن السؤال عن الوضوء من لحومها قرن بالسؤال عن الصلاة في أعطانها مما يدل على أن المراد بالوضوء الوضوء الشرعي المتعلق بالصلاة. ثالثاً: لو كان المقصود بالوضوء هو غسل الأيدي لكان غسل الأيدي من لحوم الغنم أولى من غسلها من لحوم الإبل، وذلك أن نسبة الدهون في لحوم الغنم أكثر منها في لحوم الإبل، وهذا أمر معروف عند كل من يتعاطى أكل لحوم الإبل. رابعاً: أن غسل الأيدي ليس واجباً لا في لحوم الإبل ولا في لحوم الغنم، فلماذا يترك الشارع غسل الأيدي من لحوم الغنم إلى مشيئة الفاعل، ولا يترك هذا الأمر في لحوم الإبل، مع أن غسل الأيدي من لحوم الإبل والغنم الحكم فيها سواء، إلا إن كنتم تذهبون إلى وجوب غسل الأيدي من لحوم الإبل، ولا قائل به. الجواب الثاني للجمهور: قالوا: إن هذه الأحاديث منسوخة بحديث (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) وقد أجبنا على ذلك، بأجوبة منها:

أولاً: أن الحديث اختصره شعيب بن حمزة فأخطأ فيه. ثانياً: أنه لا يذهب إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، ولم يتعذر هنا؛ لأن الجمع فيه إعمال لكلا الدليلين، بينما النسخ فيه إبطال لأحدهما. ثالثاً: أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، وترك الوضوء مما مست النار عام، والخاص مقدم على العام. قال ابن القيم: ((ومن العجب معارضة هذه الأحاديث بحديث جابر: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) ولا تعارض بينهما أصلاً؛ فإن حديث جابر هذا إنما يدل على أن كونه ممسوساً بالنار، ليس جهة من جهات نقض الوضوء، ومن نازعكم في هذا؟ نعم هذا يصلح أن يحتجوا به على من يوجب الوضوء مما مست النار على صعوبة تقرير دلالته، وأما من يجعل كون اللحم لحم إبل هو الموجب للوضوء، سواء مسته النار أم لم تمسه، فيوجب الوضوء من نيئه ومطبوخه وقديده، فكيف يحتج عليه بهذا الحديث؟ وحتى لو كان لحم الإبل فرداً من أفراده فإنما تكون دلالته بطريق العموم، فكيف يقدم على الخاص؟ هذا مع أن العموم لم يستفد ضمناً من كلام صاحب الشرع، وإنما هو من قول الراوي. وأيضاً فأبين من هذا كله أنه لم يحك لفظاً لا خاصاً ولا عاماً، وإنما حكى أمرين: هما فعلان: أحدهما متقدم، وهو فعل الوضوء، والآخر متأخر، وهو تركه الوضوء من ممسوس النار، فهاتان واقعتان، توضأ في إحداهما، وترك الوضوء في الأخرى من شيء معين مسته النار، لم يحك لفظاً عاماً ولا خاصاً ينسخ به اللفظ الصريح الصحيح ... الخ كلامه رحمه الله تعالى (¬1). ¬

(¬1) تهذيب السنن (1/ 137).

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القائل بوجوب الوضوء من لحوم الإبل أسعد بالدليل، وليس مع القائلين بعدم الوجوب إلا حديث جابر (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) ومع أن هذا الحديث معلول، فإن حديث جابر بن سمرة وحديث البراء ابن عازب فرق بين نوعين من اللحوم، وكلاهما قد مسته النار، فإما أن يكون الوضوء من لحوم الإبل متقدماً على حديث ترك الوضوء مما مست النار أو متأخراً عنه، فإن كان متأخراً لم يصح نسخه بنص متقدم عليه، لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً. وإن فرضنا أن حديث الوضوء من لحوم الإبل كان متقدماً، قبل أن ينسخ الوضوء مما مست النار، فكيف يترك الوضوء من لحوم الغنم لمشيئة الفاعل، فكان يجب أن يكون الأمر بالوضوء منهما جميعاً، لكون اللحمين قد مستهما النار، فلا بد من القول: إن حديث ترك الوضوء من لحوم الغنم دليل على أنه متأخر عن الأحاديث التي تأمر بالوضوء مما مست النار، وإلا لأوجب الوضوء من لحوم الغنم، فلما ترك الوضوء من لحوم الغنم مع كونه قد مسته النار كان دليلاً على تأخر هذا الحديث عن أحاديث الوضوء مما مست النار، وتبين أن العلة في الأمر بالوضوء من لحوم الإبل ليست العلة كونه قد مسته النار، وإنما العلة فيه كونه من الإبل، سواء كان قد مسته النار أو لم تمسه النار، فيجب الوضوء منه مطلقاً، سواء كان مطبوخاً أو نيئاً، والله أعلم.

المبحث الثاني: العلة في الوضوء من لحوم الإبل مع كونها طيبة

المبحث الثاني: العلة في الوضوء من لحوم الإبل مع كونها طيبة اختلف العلماء في العلة من الوضوء من لحم الإبل، وعدم الأمر بالوضوء من سائر اللحوم الأخرى كالغنم والبقر والطيور ونحوها، فقيل: إن الأمر بالوضوء منها لكونه كان مشروعاً في أول الأمر الوضوء مما مست النار، ثم نسخ هذا الحكم، بحديث جابر، كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، وهذا مذهب الجمهور. ويشوش عليه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قرن معها لحم الغنم، فأمر بالوضوء من لحوم الإبل، ولم يأمر بالوضوء من لحم الغنم، ولو كانت العلة في الوضوء من لحوم الإبل كون النار قد مستها لم يختلف الحكم في لحم الغنم، لأن النار أيضاً قد مستها. وقيل: إن الحكم تعبدي، فتكون علته مخفية عنا، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. وقيل: إنه ورد في الحديث أن الإبل خلقت من الشياطين. (1104 - 333) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خلقت من الشياطين (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 337) رقم 3877. (¬2) الحديث رواه ابن أبي شيبة كما في إسناد الباب، ومن طريقه أخرجه ابن حبان في صحيحه (1702). =

وفسر الحديث ابن حبان بأن معنى خلقت من الشياطين بأن معها شياطين على سبيل المجاورة والقرب. ¬

_ = ورواه البيهقي في سننه (2/ 449) من طريق هشيم به. ورواه أحمد في مسنده (4/ 85) حدثنا إسماعيل بن علية، قال: أخبرنا يونس به. وزاد عليه قتل الكلب الأسود، وإباحة اتخاذ الكلب في الصيد والماشية. ورواه أحمد أيضاً (5/ 56، 57) حدثنا عبد الأعلى، عن يونس به. ورواه الروياني في مسنده (898) من طريق سفيان، عن يونس به. ورواه ابن ماجه (769) من طريق أبي نعيم، عن يونس به. ورواه ابن حبان في صحيحه (5657) من طريق يزيد بن زريع، قال: حدثنا يونس به. فهؤلاء ستة حفاظ رووه عن يونس بن عبيد: وهم هشيم وابن علية وعبد الأعلى وسفيان ويزيد بن زريع وأبو نعيم. كما تابع أبو سفيان بن العلاء ومبارك بن فضالة يونسَ بن عبيد. فقد أخرجه أحمد (5/ 54) ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 317) حدثنا وكيع، عن أبي سفيان بن العلاء، عن الحسن به. وأبو سفيان بن العلاء لم أقف على أحد وثقه، لكن قال فيه يحيى بن سعيد القطان: كنت أشتهي أن أسمع من أبى سفيان حديث الحسن، عن عبد الله بن مغفل، كان يقول فيه: حدثني ابن مغفل. الجرح والتعديل (9/ 381)، كما أنه قد توبع في هذا الحديث، فإذا روى حديثاً لم ينكر عليه، بل قد تابعه عليه الثقات، ولم نقف له على جرح كان هذا مما يقوي أمره، والله أعلم. وأخرجه أبو داود الطيالسي (913) وأحمد (4/ 86) وعلي بن الجعد (3180) وابن عدي في الكامل (6/ 320) من طريق مبارك بن فضالة، عن الحسن به. قال ابن عبد البر (22/ 333): حديث عبد الله بن مغفل رواه نحو خمسة عشر رجلاً عن الحسن، وسماع الحسن من عبد الله بن مغفل صحيح. اهـ وقد خرجت من هذه الطرق ما نص فيها على أن الإبل خلقت من الشياطين، وتركت غيرها مما لم يرد فيه موضع الشاهد، والله أعلم. انظر أطراف المسند (4/ 241)، التحفة (9649)، إتحاف المهرة (13415).

قال ابن حبان في صحيحه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين، وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله؛ فإنه شيطان، ثم قال في خبر صدقة بن يسار، عن ابن عمر: فليقاتله؛ فإن معه القرين (¬1). وقال في موضع آخر في صحيحه: لو كان الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل لأجل أنها خلقت من الشياطين لم يصل - صلى الله عليه وسلم - على البعير؛ إذ محال أن لا تجوز الصلاة في المواضع التي قد يكون فيها الشيطان ثم تجوز الصلاة على الشيطان نفسه، بل معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين على سبيل المجاورة والقرب (¬2). وقيل: معناه أن من طبعها الشيطنة، وليس معناه أن مادة خلقها الشيطنة، فهو كقوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} (¬3)، يعني: طبيعته هكذا، فهي لا تكاد تهدأ، ولا تقر في العطن، بل تثور، فربما قطعت على المصلي صلاته، وشوشت عليه خشوعه، وهذه هي الشيطنة المذكورة في الحديث. ولذلك لما صلى عليها أمن من شرها، بخلاف الصلاة في مباركها، فقد تأتي إليه مجتمعة في حالة من النفار فتفسد عليه صلاته. وقال ابن القيم: ((وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطاناً، وجاء: أنها خلقت من جن، ففيها قوة شيطانية، والغاذي شبيه بالمغتذي، ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير؛ لأنها دواب عادية فالاغتذاء بها تجعل ¬

(¬1) صحيح ابن حبان (4/ 601). (¬2) صحيح ابن حبان (4/ 603). (¬3) الأنبياء: 37.

في طبيعة المغتذي من العدوان ما يضره في دينه، فإذا اغتذى من لحوم الإبل، وفيها تلك القوة الشيطانية، والشيطان خلق من نار، والنار تطفأ بالماء، ونظير الحديث الآخر: إن الغضب من الشيطان، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) (¬1). وكل هذه العلل إنما هي التماس، فلم ينص الشارع على العلة من الوضوء من لحمها، وسواء كانت هذه العلة أم غيرها فإن اليقين المقطوع به أن الشارع حكيم ولا يأمر إلا بما فيه حكمة، وأنه لا بد أن يكون هناك علة اقتضت التفريق بين لحم الإبل ولحم الغنم، فإن الشارع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، فالحكمة، هو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتماس العلة إنما هو من أجل القياس، وتعدية الحكم إلى حكم آخر لعلة جامعة بينهما، وليس لأمر آخر، ولذا قالت عائشة حين سئلت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصيام، ولا نؤمر بقضاء الصلاة، وهو حديث متفق عليه (¬2). ¬

(¬1) إعلام الموقعين (2/ 15). (¬2) البخاري (321)، ومسلم (335).

المبحث الثالث: في الوضوء من شحم الإبل وكبده وطحاله ومصرانه

المبحث الثالث: في الوضوء من شحم الإبل وكبده وطحاله ومصرانه اختلف القائلون بوجوب الوضوء من لحم الإبل هل يشمل ذلك جميع أجزاء البعير من كبد وطحال وكرش ومصران ونحوها؟. فقيل: لا ينقض الوضوء إلا اللحم خاصة، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬1). وقيل: ينقض جميع أجزاء البعير، وهي رواية في مذهب أحمد (¬2). دليل من قال بعدم النقض. الدليل الأول: قالوا: إن النص إنما ورد في اللحم خاصة، سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: توضؤا منها. والكبد والطحال ونحوهما لا يسمى لحماً، فلم يتناوله النص، فلو أنك أمرت أحداً أن يشتري لك لحماً فاشترى كرشاً أو كبداً لأنكرت عليه. ويجاب عن ذلك بأن عدم دخولها هل مرده إلى اللغة أو إلى العرف، فإن كان ذلك في العرف فلا تقدم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية، وأما اللغة فإن اللحم يشمل جميع أجزاء الحيوان، بما في ذلك شحمه وكبده كما سيأتي ذكر دليل ذلك في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (1/ 296)، إعلام الموقعين (1/ 298)، الفروع (1/ 183)، الإنصاف (1/ 216)،. (¬2) انظر المراجع السابقة.

التعليل الثاني

التعليل الثاني: أن الأصل بقاء الطهارة، فالطهارة متيقنة، ودخول غير اللحم في حكم اللحم أمر غير متيقن، واليقين لا يزول بالاحتمال. التعليل الثالث: أن النقض باللحم أمر تعبدي، وإذا كان كذلك لم يمكن قياس غير اللحم على اللحم؛ لأن من شرط القياس العلم بالعلة، والأمور التعبدية غير معلومة العلة، والله أعلم. ويجاب: بأن إلحاق الكبد باللحم ليس من باب القياس، وإنما دخوله لاشتمال النص عليه، فاللحم ليس هو الهبر خاصة. دليل من قال بالنقض. أولاً: من القرآن قال تعالى: {حرمت علكيم الميتة والدم ولحم الخنزير} (¬1)، فنص على اللحم، ومع ذلك دخل جميع أجزاء الخنزير من شحم وكبد وطحال ونحوها، وهذا دليل على أن اللحم شامل لجميع أجزاء الحيوان. وأجاب بعضهم: بأن لحم الخنزير حرم لنجاسته وخبثه، وأجزاء الخنزير كلها نجسة، فلا طاهر فيها، وأما لحم الإبل فلا شيء فيها نجس، وإذا كانت العلة أنها خلقت من الشياطين فهذا لا يصير إلا فيما فيه القوة الزائدة، وهي في اللحوم، واللحم في اللغة اسم لهذا الأحمر من اللحم المسمى بالهبر. ¬

(¬1) المائدة: 3.

ثانيا

ثانياً: قد يطلق اللحم على الحيوان باعتبار أنه أكثر الحيوان وأغلبه، ولا يعني هذا اختصاصه بالحكم، إذ لا فرق بين الهبر وبين غيره، فالكل يتغذى بدم واحد وطعام وشراب واحد، وهذا على افتراض أن النص لا يتناول بقية أجزاء الحيوان بالعموم اللفظي، فيبقى تناوله بالعموم المعنوي لعدم الفارق. الراجح من هذا الخلاف: القول بأن النقض عام في كل أجزاء الإبل من هبر وشحم وكبد وطحال ونحوه أقوى من حيث النظر من القول باختصاص النقض بالهبر خاصة. نعم القول بعدم النقض من حليب الإبل ومرقه ظاهر؛ لأنه لا يدخل في مسمى اللحم لا في الشرع ولا في العرف، ولا يقال: إذا شرب حليب الإبل بأنه أكل من الحيوان، وسوف نناقش هذه المسألة ببحث مستقل إن شاء الله تعالى.

المبحث الرابع: في الوضوء من لبن الإبل

المبحث الرابع: في الوضوء من لبن الإبل اختلف أهل العلم القائلون بالوضوء من لحوم الإبل، هل يتوضأ من ألبانها؟. فقيل: لا يجب الوضوء منه، وهو مذهب الجمهور (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). وقيل: يستحب الوضوء منه، رجحه ابن تيمية (¬3). وقيل: يجب الوضوء منه، وهو قول في مذهب أحمد (¬4). دليل من قال: يتوضأ من ألبانها. الدليل الأول: (1105 - 334) ما رواه ابن ماجه من طريق بقية، عن خالد بن يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، عن عطاء بن السائب، قال: سمعت محارب بن دثار يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم، وتوضئوا من ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (2/ 69): ولأحمد رواية أنه يجب الوضوء من شرب لبن الإبل، ولا أعلم أحداً وافقه عليها، ومذهبنا ومذهب العلماء كافية أنه لا يجب الوضوء من لبنها. اهـ (¬2) انظر المغني (1/ 123)، كشاف القناع (1/ 130)، الفروع (1/ 183). (¬3) شرح العمدة (1/ 335). (¬4) المغني (1/ 122)، الإنصاف (1/ 218).

الدليل الثاني

ألبان الإبل، ولا توضئوا من ألبان الغنم، وصلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل (¬1). [إسناده ضعيف، وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الثاني: (1106 - 335) ما رواه أحمد، من طريق عباد بن العوام، حدثنا الحجاج، عن عبد الله بن عبد الله مولى بني هاشم، قال: وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن ألبان الإبل، قال: توضئوا من ألبانها، وسئل عن ألبان الغنم؟، فقال: لا توضئوا من ألبانِها (¬3). [إسناده ضعيف، وسبق تخريجه] (¬4). الدليل الثالث: (1107 - 336) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، حدثنا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن مولى لموسى بن طلحة - أو عن ابن لموسى بن طلحة - عن أبيه، عن جده، قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها ولا ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (497). (¬2) انظر حديث رقم (1101). (¬3) أحمد (4/ 352، 391). (¬4) انظر تخريج حديث (1100) فقد ذكر تخريج هذا الطريق ضمن التخريج.

الدليل الرابع

يصلي في أعطانها ولا يتوضأ من لحوم الغنم وألبانها ويصلي في مرابضها (¬1). [إسناده ضعيف، وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الرابع: (1108 - 337) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق سليمان بن داود الشاذكواني، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن موهب، عن عثمان بن عبد الله ابن موهب، عن جابر بن سمرة، عن أبيه سمرة السوائي، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنا أهل بادية وماشية، فهل نتوضأ من لحوم الإبل وألبانها؟ قال: نعم. فهل نتوضأ من من لحوم الغنم وألبانها؟ قال: لا (¬3). [إسناده منكر، وسبق تخريجه] (¬4). دليل من قال: بعدم النقض. الدليل الأول: إذا توضأ الإنسان، فهو على طهارته حتى يأتي دليل صحيح على نقض الوضوء من ألبان الإبل، والأحاديث الورادة إنما في هي في لحوم الإبل، والحكم غير معقول المعنى، فوجب الاقتصار على ما ورد فيه النص. ¬

(¬1) مسند أبي يعلى (632). (¬2) سبق تخريجه، انظر رقم: (1102). (¬3) المعجم الكبير (7/ 270) رقم 7106. (¬4) انظر رقم (1103).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أمر العرنيين بأن يلحقوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها (¬1)، لم يأمرهم بالوضوء من ألبانها، ولو كان ذلك واجباً لأمرهم. الراجح القول بعدم النقض، لعدم الدليل الصحيح في الباب، وما ورد من أحاديث فهي ضعيفة، والله أعلم، بل إن كلام أحمد وإسحاق حين قالا: صح في هذا الباب حديثان: حديث البراء وحديث جابر دليل على أنه لم يصح فيه غيرهما، وهذان الحديثان لم يذكرا ألبان الإبل، ولو كان الوضوء واجباً منه لنص عليه الحديثان، والله أعلم. ¬

(¬1) روى البخاري (6802) من طريق أبي قلابة الجرمي، عن أنس رضي الله عنه قال: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر من عكل، فأسلموا فاجتووا المدينة، فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحوا، فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل فبعث في آثارهم فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. ورواه مسلم أيضاً (1671).

المبحث الخامس: الوضوء من مرق لحم الإبل

المبحث الخامس: الوضوء من مرق لحم الإبل اختلف العلماء في الوضوء من مرق لحم الإبل، فقيل: الوضوء منه غير واجب حتى ولو ظهر طعمه في المرق، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: يجب الوضوء منه، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال: لا يجب الوضوء من مرق اللحم. دليلهم هو دليل من قال: لا يجب الوضوء من ألبان الإبل، فانظره في المسألة التي قبل هذه. دليل من قال: يتوضأ من المرق. قال: إذا ظهر طعم اللحم في المرق، فإنه قد تناوله، كما أن الماء إذا ظهر فيه أثر النجاسة، كان الماء نجساً، ومرق لحم الخنزير لا يجوز أكله تبعاً للحمه، فكذلك هنا، إذا ظهر طعم اللحم وجب الوضوء منه. الراجح من الخلاف. بعد استعراض الأقوال وأدلة كل قول نرى أن الصحيح أنه لا يجب الوضوء من مرق لحم الإبل، والقياس على مرق الخنزير قياس مع الفارق، وهناك فرق بين أثر النجاسة، وبين أثر لحم الإبل، فلو أقسم لا يأكل لحماً ثم ¬

(¬1) كشاف القناع (1/ 130)، مطالب أولي النهى (1/ 148)، المغني (1/ 122). (¬2) الإنصاف (1/ 218)، الفروع (1/ 183).

شرب مرق لحم لم يحنث، ولا يعتبر قد أكل لحماً، حتى ولو ظهر طعم اللحم في المرق، وما كان ربك نسياً، فلو كان الوضوء واجباً من مرق اللحم لجاء النص في بيانه، وما سكت عنه فهو عفو، لكن لو قيل بالاستحباب قياساً على الجلالة، فإنه حين ظهر أثر النجاسة باللبن كره شربه (¬1)، حتى ولو تحولت النجاسة إلى مادة أخرى، فكذلك إذا ظهر أثر اللحم في المرق استحب الوضوء منه احتياطاً، لو قيل بهذا لم يكن بعيداً، والله أعلم. ¬

(¬1) سيأتي بحث مستقل في باب الجلالة، في أحكام النجاسات، فانظره مشكوراً.

المبحث السادس: الوضوء من أكل اللحوم الخبيثة كالسباع

المبحث السادس: الوضوء من أكل اللحوم الخبيثة كالسباع اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فقيل: لا ينقض الوضوء أكل الأطعمة المحرمة من لحم وغيره، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: ينقض الطعام المحرم، سواء كان لحماً أو غيره، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: ينقض اللحم المحرم فقط دون سائر الأطعمة، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: ينقض لحم الخنزير فقط، وهو قول في مذهب الحنابلة، خرج عليه بعضهم أكل جميع النجاسات (¬4). ¬

(¬1) قال في الإنصاف (1/ 218): ظاهر كلام المصنف أيضاً: أن أكل الأطعمة المحرمة لا ينقض الوضوء, وهو صحيح, وهو المذهب, وعليه الأصحاب. وعنه ينقض الطعام المحرم. وعنه ينقض اللحم المحرم مطلقاً. وعنه ينقض لحم الخنزير فقط. قال أبو بكر: وبقية النجاسات تخرج عليه, حكاه عنه ابن عقيل، وانظر الفروع (1/ 183، 184). (¬2) قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 299): " وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة كلحوم السباع إذا أبيحت للضرورة روايتان, والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل, فإذا عقل المعنى لم يكن بد من تعديته, ما لم يمنع منه مانع , والله أعلم. اهـ (¬3) الفروع (1/ 183، 184)، الإنصاف (1/ 218). (¬4) انظر المراجع السابقة.

وسبب الخلاف ما أفصح عنه ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: وأما اللحم الخبيث المباح للضروة كلحم السباع، ينبني الخلاف على النقض بلحم الإبل، هل هو تعبدي فلا يتعدى إلى غيره أو معقول المعنى؟ فيعطى حكمه، بل هو أبلغ منه (¬1). انتهى وقال ابن القيم: والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل, فإذا عقل المعنى لم يكن بد من تعديته, ما لم يمنع منه مانع (¬2). اهـ قال المردواي: الصحيح من المذهب , أن الوضوء من لحم الإبل تعبدي. وعليه الأصحاب. قال الزركشي: هو المشهور. وقيل: هو معلل. فقد قيل: إنها من الشياطين , كما جاء في الحديث الصحيح. رواه أحمد وأبو داود. وفي حديث آخر: (على ذروة كل بعير شيطان) فإن أكل منها أورث ذلك قوة شيطانية , فشرع وضوؤه منها ليذهب سورة الشيطان (¬3). اهـ قلت: سبق لنا الكلام في الحكمة من مشروعية الوضوء من لحوم الإبل، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. ¬

(¬1) الاختيارات (ص: 16). (¬2) إعلام الموقعين (1/ 299). (¬3) الإنصاف (1/ 218).

الفصل السابع: في نقض الوضوء من القهقهة في الصلاة

الفصل السابع: في نقض الوضوء من القهقهة في الصلاة القهقهة خارج الصلاة لا تنقض الوضوء اتفاقاً، وأما في الصلاة، فقد اختلف العلماء، فقيل: تنقض الوضوء في الصلاة إلا صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا تنقض، وهو مذهب الجمهور (¬2)، وهو الصحيح. دليل الحنفية على القول بالنقض. الدليل الأول: (1109 - 338) ما رواه الدارقطني من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن ¬

(¬1) انظر الأصل (1/ 171)، المبسوط (1/ 77)، شرح فتح القدير (1/ 45)، تبيين الحقائق (1/ 11)، البحر الرائق (1/ 42 - 44)، بدائع الصنائع (1/ 32)، وأما استنثناء صلاة الجنازة وسجدة التلاوة قال السرخسي في المبسوط (1/ 78): وصلاة الجنازة ليست بصلاة مطلقة، وكذلك سجدة التلاوة. اهـ والحق أن ما ثبت للصلاة ثبت لصلاة الجنازة إلا بدليل، لأنها صلاة لغة وشرعاً، وأما سجدة التلاوة فقد قدمنا في كتاب الحيض والنفاس أن سجدة التلاوة ليست بصلاة أصلاً، ولا تشترط لها الطهارة. (¬2) انظر في مذهب المالكية: المدونة (1/ 190)، المنتقى للباجي (1/ 65)، وانظر في مذهب الشافعية: المهذب (1/ 24)، الخلافيات للبيهقي (2/ 361)، مغني المحتاج (1/ 32). وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/ 116)، كشاف القناع (1/ 149).

إسحاق، حدثني الحسن بن دينار، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه، قال: بينا نحن نصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل رجل ضرير البصر، فوقع في حفرة، فضحكنا منه، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الوضوء كاملاً وإعادة الصلاة من أولها (¬1). [اضطرب فيه ابن إسحاق، والمعروف كونه مرسلاً عن أبي العالية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2). ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 160، 161). (¬2) اضطرب فيه ابن إسحاق، فقيل: عن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه. وقيل: عن محمد بن مسلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه به. وقيل: عن ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح، عن أبيه. فأما رواية إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه. فقد أخرجه الدراقطني كما في إسناد الباب، ومن طريق الدارقطني: رواه البيهقي في الخلافيات (684)، وأخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 302) ومن طريقه ابن الجوزي في العلل المتناهية (613)، وفي التحقيق (235) من طريق إبراهيم بن سعد به. قال ابن الجوزي في العلل: وهذا لا يصح، وابن دينار هو الحسن، وقد كذبه العلماء، منهم شعبة. اهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال البخاري في تاريخه الكبير: تركه يحيى وابن مهدي ووكيع وابن المبارك. (2/ 292) وقال النسائي: متروك. تهذيب التهذيب (2/ 240). وقال أحمد: لا أكتب حديثه. المرجع السابق. وأما رواية محمد بن مسلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه به. فقد أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 162) والبيهقي في الخلافيات (683). قال الدارقطني: الحسن بن دينار: متروك الحديث. اهـ ووراه الدارقطني (1/ 163) من طريق داود بن المحبر، نا أيوب بن خوط، عن قتادة، عن أنس. قال الدارقطني: رواه داود بن المحبر، وهو متروك، يضع الحديث، عن أيوب بن خوط، وهو ضعيف. اهـ ورواه الدارقطني (1/ 162) من طريق عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة، نا سلام بن أبي مطيع، عن قتادة، عن أبي العالية وأنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الدارقطني: لم يروه عن سلام غير عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة، وهو متروك يضع الحديث. قلت: المعروف من رواية قتادة أنه يرويه عن أبي العالية مرسلاً. فقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (3761)، من طريقه الدارقطني (1/ 163) والبييهقي في الخلافيات (696) عن معمر، عن قتادة، عن أبي العالية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. كما أخرجه الدراقطني (1/ 163) والبيهقي في الخلافيات (695،694) من طريق أبي عوانة، وابن أبي عروبة فرقهما. وأخرجه الدراقطني (1/ 163) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي العالية مرسلاً. وأخرجه الدارقطني (1/ 163) من طريق سلم بن أبي الذيال، عن قتادة، قال: بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... مثله. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الدارقطني: وهذا هو الصحيح عن قتادة، اتفق عليه معمر وأبو عوانة وسعيد بن أبي عروبة وسعيد بن بشير، فرووه عن قتادة، عن أبي العالية، وتابعهم عليه سلم بن أبي الذيال، عن قتادة، فأرسله، فهؤلاء خمسة ثقات رووه عن قتادة، عن أبي العالية مرسلاً، وأيوب بن خوط وداود بن المحبر وعبد الرحمن بن عمرو بن جبلة والحسن بن دينار كلهم متروكون، وليس فيهم من يجوز الاحتجاج بروايته لو لم يكن له مخالف، فكيف وقد خالف كل واحد منهم خمسة ثقات من أصحاب قتادة. اهـ وأما رواية ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح، عن أبيه. فقد ذكرها الدارقطني (1/ 161). قال الدارقطني: وأما قول الحسن بن عمارة، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح، عن أبيه، فوهم قبيح، وإنما رواه خالد الحذاء، عن حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه عنه كذلك سفيان الثوري وهشيم ووهيب وحماد بن سلمة وغيرهم، وقد اضطرب فيه ابن إسحاق في روايته عن الحسن بن دينار لهذا الحديث: فمرة رواه عنه عن الحسن البصري، ومرة رواه عنه عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه، وقتادة إنما رواه عن أبي العالية مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذلك رواه عنه سعيد بن أبي عروبة ومعمر وأبو عوانة وسعيد بن بشير وغيره. الخ كلامه رحمه الله تعال. ثم ساق في سننه (1/ 168) بأسانيده رواية الثوري وحماد ووهيب بن خالد فرقهم عن خالد الحذاء، عن حفصة، عن أبي العالية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفين بذلك الحسن ابن عمارة. كما رواه حفص بن سليمان المنقري، عن حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية مرسلاً، وهذه متابعة لرواية خالد الحذاء من طريق الثوري وحماد ووهيب عنه. وقد رواه الحسن البصري، واختلف عليه فيه: فرواه الدارقطني (1/ 165) من طريق سفيان بن محمد الفزاري، عن عبد الله بن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن، عن أنس. وخالف موهب بن يزيد سفيان بن محمد، فرواه الدارقطني (1/ 166) من طريق موهب ابن يزيد، نا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، ليس فيه ذكر أنس. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1110 - 339) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن يزيد بن سنان، حدثنا أبي، نا سليمان الأعمش، عن أبي سفيان، ¬

_ = وهذا الطريق هو الصحيح من حديث ابن وهب، قال الدارقطني: سفيان بن محمد كان ضعيفاً سيئ الحال في الحديث، وأحسن حالات سفيان بن محمد أن يكون وهم في هذا الحديث على ابن وهب إن لم يكن تعمد ذلك في قوله: عن الحسن عن أنس، فقد رواه غير واحد عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن الحسن مرسلاً، منهم خالد بن خداش المهلبي، وموهب بن يزيد، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب وغيرهم، لم يذكر أحد منهم في حديثه عن ابن وهب في الإسناد: أنس بن مالك، ولا ذكر فيه بين الزهري والحسن سليمان بن أرقم، وإن كان ابن أخي الزهري وابن عتيق قد روياه عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن مرسلاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذه أقاويل أربعة عن الحسن كلها باطلة؛ لأن الحسن إنما سمع هذا الحديث من حفص بن سليمان المنقري، عن حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية الرياحي مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ كلام الدارقطني. فرجعت رواية الحسن إلى رواية أبي العالية المرسلة. وقد روى الداقطني في سننه (1/ 164) بإسناده عن علي بن المديني، قال: قال لي عبد الرحمن بن مهدي: هذا الحديث يدور على أبي العالية. فقلت: قد رواه الحسن مرسلاً؟ فقال: حدثني حماد بن زيد، عن حفص بن سليمان المنقري، قال: أنا حدثت به الحسن عن حفصة، عن أبي العالية. فقلت: قد رواه إبراهيم مرسلاً؟ فقال عبد الرحمن: حدثني شريك، عن أبي هاشم، قال: أنا حدثت به إبراهيم، عن أبي العالية. فقلت: قد رواه الزهري مرسلاً؟ فقال: قرأته في كتاب ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن. اهـ فرجعت رواية الزهري المرسلة إلى رواية الحسن، ورواية الحسن سبق لنا أن مردها إلى مرسل أبي العالية، والله أعلم.

عن جابر، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عيه وسلم من ضحك منكم في صلاته فليتوضأ، ثم ليعد الصلاة (¬1). [منكر، والمعروف عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر خلافه] (¬2). ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 172). (¬2) ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي في الخلافيات (748). وأخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 270)، ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (746) من طريق يزيد بن محمد بن يزيد بن سنان، ثنا أبي، عن عن أبيه، عن الأعمش به. قال الدارقطني: يزيد بن سنان ضعيف، ويكنى بأبي فروة الرهاوي، وابنه ضعيف أيضاً، وقد وهم فيه في موضعين: أحدهما: في رفعه إياه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والآخر: في لفظه، والصحيح عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر من قوله: من ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء، وكذلك رواه عن الأعمش جماعة من الرفعاء الثقات، منهم: سفيان الثوري وأبو معاوية الضرير ووكيع وعبد الله بن داود الخريبي وعمر بن علي المقدمي وغيرهم، وكذلك رواه شعبة وابن جريج، عن يزيد بن أبي خالد، عن أبي سفيان، عن جابر. ثم ساق الدارقطني في سننه (1/ 172) بإسناده من طريق ابن مهدي وأبي نعيم فرقهما، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر، قال: ليس في الضحك وضوء. كما أخرجه أبو يعلى في المسند (2313)، والدارقطني (1/ 172) والبيهقي في الخلافيات (675) من طريق وكيع، عن الأعمش به موقوفاً. وأخرجه الدارقطني (1/ 172) من طريق أبي معاوية وعمر بن علي المقدمي فرقهم عن الأعمش به، بنحوه موقوفاً كما أخرجه الدارقطني (1/ 172) من طريق شعبة وابن جريج فرقهما، عن يزيد بن أبي خالد، عن أبي سفيان به، موقوفاً على جابر.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1111 - 340) ما رواه الدارقطني من طريق الحسن بن قتيبة ومن طريق إسماعيل بن عياش، كلاهما عن عمر بن قيس، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ضحك في الصلاة قرقرة، فليعد الوضوء والصلاة. وقال الحسن بن قتيبة: إذا قهقه الرجل أعاد الوضوء والصلاة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الرابع: (1112 - 341) ما رواه الدارقطني من طريق عبد العزيز بن الحصين، عن عبد الكريم، عن الحسن، ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 156)، وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 110)، ومن طريقه ابن الجوزي في الواهيات (617) إسماعيل بن عياش، عن عمر بن قيس به. وأخرجه البيهقي في الخلافيات (698) من طريق عبد الرحمن بن سلام الجمحي، ثنا عمر بن قيس به. (¬2) في إسناده عمر بن قيس المكي المعروف قال الدارقطني: ضعيف ذاهب الحديث. وقال أحمد: متروك الحديث، لم يكن حديثه بصحيح. الجرح والتعديل (6/ 129). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، متروك الحديث. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: مكي لين الحديث. المرجع السابق. وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/ 187). وقال النسائي: متروك الحديث. الكامل (5/ 7).

دليل الجمهور على عدم النقض بالقهقهة

عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قهقه الرجل أعاد الوضوء والصلاة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). وفي الباب أحاديث شديدة الضعف، تركتها اقتصاراً واختصاراً. دليل الجمهور على عدم النقض بالقهقهة. الدليل الأول: (1113 - 342) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: إذا ضحك الرجل في الصلاة أعاد الصلاة، ولم يعد الوضوء (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 164)، وقد أخرجه الخطيب في تاريخه (9/ 379)، ومن طريق الخطيب أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (231)، وفي العلل (368) من طريق علي بن حجر، عن عبد العزيز بن الحصين به. وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 167)، ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (720) من طريق الهيثم بن جميل، ثنا عبد العزيز بن الحصين به. (¬2) قال الدارقطني في سننه: عبد الكريم متروك، والراوي له عنه عبد العزيز بن الحصين، وهو ضعيف ذاهب الحديث. (¬3) المصنف (1/ 340) رقم: 3908, (¬4) رجاله ثقات، وسبق لنا تخريج هذا الأثر من طرق عن الأعمش في أدلة القول الأول.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: من تطهر فالأصل بقاء الطهارة حتى يأتي دليل صحيح صريح على بطلان طهارته، ولم يوجد. الدليل الثالث: إذا كانت القهقة خارج الصلاة لا تنقض الطهارة، لم تنقض الطهارة داخل الصلاة. الدليل الرابع: الكلام ممنوع في الصلاة، ومع ذلك لا ينقض الطهارة ولو تعمده الإنسان بطلت صلاته دون طهارته، فكذلك القهقهة فهي من جنس الكلام، بل إذا كان القذف داخل الصلاة لا يبطل الطهارة، مع أنه من كبائر الذنوب فالقهقهة من باب أولى. الراجح من الخلاف: القول بالنقض من القهقة قول ضعيف جداً أثراً ونظراً، أما الأثر فإن مدارها على أحاديث إما مرسلة، وإما شديدة الضعف. وأما النظر، فإن القهقهة كما أنها لا تنقض الوضوء خارج الصلاة، فإنها لا تنقض الوضوء في الصلاة، والله أعلم.

الفصل الثامن: في نقض الوضوء بالردة

الفصل الثامن: في نقض الوضوء بالردة اختلف العلماء في الردة، هل تبطل الوضوء، فقيل: لا تبطل الوضوء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3)، واختيار ابن حزم (¬4). وقيل: تبطل الردة التيمم دون الوضوء، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 116 - 117)، فتح القدير (1/ 132)، (¬2) المنتقى للباجي (1/ 66)، التاج والإكليل (1/ 435)، وقد ذهبوا إلى استحباب الوضوء من الردة، وهو صريح بأن الردة لا تنقض الوضوء؛ لأن المستحب ليس بلازم. (¬3) المجموع (2/ 5)، وسيأتي نقل نص النووي بعد قليل من كتابه العظيم المجموع إن شاء الله تعالى. (¬4) المحلى مسألة (169). (¬5) قال النووي في المجموع (2/ 5): الردة وفيها ثلاثة أوجه , أصحها أنها تبطل التيمم دون الوضوء. والثاني تبطلهما. والثالث لا تبطل واحدا منهما. ثم قال النووي: وأما مسألة الردة فالنقض في الوضوء وجه ضعيف لم يعرجوا عليه هنا, وقد قطع المصنف ببطلان التيمم بالردة ذكره في باب التيمم،. واحتج لإبطال الوضوء والتيمم بأن الطهارة عبادة لا تصح مع الردة ابتداء , فلا تبقى معها دواما كالصلاة إذا ارتد في أثنائها. ولعدم الإبطال بأنها ردة بعد فراغ العبادة فلم تبطلها كالصوم والصلاة بعد الفراغ منهما. وللفرق بين الوضوء والتيمم بقوة الوضوء وضعف التيمم. الخ كلامه رحمه الله. وانظر نهاية المحتاج (1/ 109)،

دليل من قال: لا تبطل الردة الوضوء

وقيل: تبطل الوضوء، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3). دليل من قال: لا تبطل الردة الوضوء. التعليل الأول: قالوا: إن الردة ليست حدثاً، وإنما يبطل الوضوء بالحدث. قلت: سبق لنا أن الحنفية يصححون الوضوء من الكافر، ولا يشترطون الإسلام في صحة الوضوء، فضلاً أن يروا الردة مبطلة للوضوء. التعليل الثاني: بعد الفراغ من العبادة لا يمكن له رفضها ولا إبطالها، فكما أنه لو صام أو صلى لا يمكنه أن يرفض العبادة أو يغير نيتها حال إسلامه، فكذلك لا يمكن له إبطال العبادة بالردة بعد الفراغ منها. قال ابن حزم: وأما الردة فإن المسلم لو توضأ واغتسل للجنابة أو كانت امرأة فاغتسلت من الحيض ثم ارتدا ثم راجعا - الإسلام دون حدث يكون منهما, فإنه لم يأت قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولا قياس بأن الردة حدث ينقض الطهارة, وهم يجمعون معنا على أن الردة لا تنقض ¬

(¬1) المغني (1/ 115)، الفروع (1/ 185)، الإنصاف (1/ 220)، شرح منتهى الإرادات (1/ 74). (¬2) اختاره خليل في مختصره، انظر الخرشي على مختصر خليل (1/ 157)، والمنتقى للباجي (1/ 66)، ومواهب الجليل (1/ 300)، حاشية الدسوقي (1/ 122). (¬3) المجموع (2/ 5).

الدليل الثالث

غسل الجنابة ولا غسل الحيض ولا أحباسه السالفة ولا عتقه السالف ولا حرمة الرجل, فمن أين وقع لهم أنها تنقض الوضوء وهم أصحاب قياس, فهلا قاسوا الوضوء على الغسل في ذلك, فكان يكون أصح قياس لو كان شيء من القياس صحيحاً (¬1). اهـ قالوا: إن الردة إنما تبطل ثواب العمل، وليست تبطل العمل نفسه، وإبطال الثواب مشروط بالموت على الكفر كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه. الدليل الثالث: (1114 - 343) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا وضوء إلا من صوت أو ريح (¬2). [المحفوظ في لفظ الحديث فلا يخرج حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً] (¬3). ثم إن هذا العموم لا يدخل فيه مس الفرج كما لا يدخل فيه أكل لحم الإبل ومس بدن المرأة وغيرها من النواقض المختلف فيها، وقد يدخل في ذلك النوم باعتباره مظنة لخروج خارج، كما يدخل فيه البول والغائط، ووجهه: حيث نبه على الأخف، فيدخل الأغلظ من باب أولى. ¬

(¬1) المحلى مسألة 169 (1/ 241). (¬2) المسند (2/ 471). (¬3) انظر حديث رقم (1001).

دليل من قال: الردة تبطل الوضوء

دليل من قال: الردة تبطل الوضوء. الدليل الأول: قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (¬1)، فكلمة (عملك) نكرة مضافة فتعم كل عمل، ومنه الوضوء. وأجيب: بأن إحباط العمل مشروط بالموت على الردة، كما قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} (¬2)، الآية. قال ابن حزم: فإن ذكروا قول الله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} قلنا هذا على من مات كافراً، لا على من راجع الإسلام. يبين ذل ك قول الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} وقوله تعالى {ولتكونن من الخاسرين} شهادة صحيحة قاطعة لقولنا؛ لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من ارتد ثم رجع إلى الإسلام ومات مسلما فإنه ليس من الخاسرين , بل من الرابحين المفلحين, وإنما الخاسر من مات كافراً (¬3). الدليل الثاني: (1115 - 344) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان ابن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) الزمر: 65. (¬2) البقرة: 217. (¬3) المرجع السابق.

دليل من فرق بين الوضوء والتيمم

الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها (¬1). وجه الاستدلال: فإذا كان الطهور شطر الإيمان، والردة تبطل الإيمان، فهي تبطل أيضاً الوضوء؛ لأنه من الإيمان، بل هو شطر الإيمان. دليل من فرق بين الوضوء والتيمم. قالوا: إن التيمم مبيح لفعل الصلاة وليس رافعاً للحدث، ولا إباحة مع قيام المانع، بخلاف الوضوء فإنه رافع للحدث، فهو أقوى من التيمم، فالردة تبطل التيمم لضعفه بخلاف الوضوء. هذه أدلة كل قول من الأقوال، وقد تجنب بعض المصنفين من الحنابلة ذكر الردة من نواقض الوضوء، وعلل ذلك المرداوي من الحنابلة بقوله: لم يذكر القاضي في الجامع , والمحرر , والخصال , وأبو الخطاب في الهداية , وابن البنا في العقود , وابن عقيل في التذكرة , والسامري في المستوعب , والفخر ابن تيمية في التلخيص , والبلغة , وغيرهم: الردة من نواقض الوضوء. فقيل: لأنها لا تنقض عندهم. وقيل: إنما تركوها لعدم فائدتها; لأنه إن لم يعد إلى الإسلام فظاهر, وإن ¬

(¬1) صحيح مسلم (223).

عاد إلى الإسلام وجب عليه الغسل، ويدخل فيه الوضوء. وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير. فقال: لا معنى لجعلها من النواقض مع وجوب الطهارة الكبرى. وقال الشيخ تقي الدين: له فائدة تظهر فيما إذا عاد إلى الإسلام , فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل. فإن نواهما بالغسل أجزأه , وإن قلنا لم ينتقض وضوؤه: لم يجب عليه الغسل. انتهى. قال الزركشي: قلت: ومثل هذا لا يخفى على القاضي. وإنما أراد القاضي: أن وجوب الغسل ملازم لوجوب الطهارة الصغرى. وممن صرح بأن موجبات الغسل تنقض الوضوء: السامري. وحكى ابن حمدان وجها بأن الوضوء لا يجب بالالتقاء بحائل , ولا بالإسلام. وإذن ينتفي الخلاف بين الأصحاب في المسألة. انتهى (¬1). قلت: سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الخلاف في وجوب الغسل على من أسلم أو رجع إلى الإسلام بعد كفره في كتاب الغسل، وهو بعد كتابنا هذا، والذي أميل إليه في موضع الردة أنها ليست من نواقض الوضوء، ولم يقم دليل صحيح صريح في كون الردة حدثاً من الأحداث، والله أعلم. ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 219).

مبحث: في الوضوء مما مست النار

مبحث: في الوضوء مما مست النار اختلف الفقهاء في الوضوء مما مست النار، فقيل: يجب الوضوء مما مسته النار، اختاره بعض الصحابة رضي الله عنهم، منهم ابن عمر، وعائشة، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وأبو طلحة، وزيد بن ثابت، وغيرهم (¬1). واختاره الزهري رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: لا يجب فيه وضوء، وعليه عمل الخلفاء الراشدين (¬3)، وهو مذهب جماهير أهل العلم على خلاف بينهم: هل كان الوضوء منه واجباً فنسخ؟ اختاره بعض المالكية (¬4)، وهو ¬

(¬1) انظر الأوسط لابن المنذر (2/ 213)، التمهيد (3/ 331). (¬2) التمهيد (3/ 331). (¬3) التمهيد (3/ 332)، المفهم (1/ 603). (¬4) قال الباجي في المنتقى (1/ 65): " روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد لا بأس بها، أنه قال: توضئوا مما أنضجت النار " واختلف أصحابنا في تأويل ذلك، فمنهم من قال: إنه لم يكن قط الوضوء مما أنضجت النار واجباً، وإنما كان معناه المضمضة وغسل الفم على وجه الاستحباب، ومنهم من قال: قد واجباً، ثم نسخ، وتعلقوا في ذلك بما رواه شعيب ابن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله أنه قال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار ". وقال القرطبي في المفهم (1/ 603): " قوله: " توضئوا مما مست النار " هذا الوضوء هنا هو الوضوء الشرعي العرفي عند جمهور العلماء، وكان الحكم كذلك ثم نسخ، كما قال جابر ابن عبد الله: " كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار " وعلى هذا تدل الأحاديث الآتية بعد، وعليه استقر عمل الخلفاء ومعظم الصحابة وجمهور العلماء من بعدهم، وذهب أهل =

مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). أو كان معنى الوضوء مما مست النار، هو المضمضة وغسل الفم على وجه الاستحباب، وهو مذهب الحنفية (¬4)، واختاره بعض المالكية (¬5). وقيل: الوضوء مما مسته النار، مستحب، وليس بواجب، وأن ترك الوضوء مما مست النار لم يكن من قبيل النسخ، وإنما هو لبيان أنه ليس بواجب، وهو وجه في مذهب أحمد، رجحه ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬6)، وابن القيم، وهو الراجح. ¬

= الظاهر والحسن البصري والزهري إلى العمل بقوله: " توضئوا مما مست النار، وأن ذلك ليس بمنسوخ ...... وذهبت طائفة إلى أن ذلك الوضوء إنما هو الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد والفم من الدسم والزفر ... والصحيح الأول فليعتمد عليه". وضعف ابن عبد البر تأويل الوضوء مما مست النار بغسل الأيدي من الدسم، وذهب إلى القول بالنسخ، انظر التمهيد (3/ 330). (¬1) قال النووي في المجموع (2/ 68): " والجواب عن أحاديثهم - يعني: أحاديث الوضوء مما مست النار - أنها منسوخة، هكذا أجاب الشافعي وأصحابه وغيرهم من العلماء، ومنهم من حمل الوضوء فيها على المضمضة، وهو ضعيف ". ووقال في نهاية المحتاج (6/ 215):: نظم جلال الدين السيوطي، فقال: وأربع تكرر النسخ لها ... جاءت بها الأخبار والآثار فَقِبلة ومتعة وخمر ... كذا الوضوء مما تمس النار (¬2) المغني (1/ 121 - 122)، (¬3) المحلى (1/ 226). (¬4) المبسوط (1/ 80)، بدائع الصنائع (1/ 33)، (¬5) سبق نقل كلام الباجي في المنتقى والإشارة إلى الخلاف الواقع بين الأصحاب في مذهب المالكية، والله أعلم. (¬6) مجموع الفتاوى (20/ 524)، شرح العمدة (1/ 330).

وسبب الخلاف اختلافهم في الأحاديث الواردة: فثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: توضئوا مما مست النار، (1116 - 345) رواه مسلم من طريق عقيل بن خالد قال: قال ابن شهاب: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره، أن أباه زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الوضوء مما مست النار (¬1). ورواه مسلم من مسند عائشة رضي الله عنها (¬2). وثبت عنه أنه أكل لحماً، ثم صلى ولم يتوضأ. (1117 - 346) وروى البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. ورواه مسلم (¬3). وقد رواه الشيخان أيضاً من مسند عمرو بن أمية الضمري (¬4)، ومن مسند ميمونة (¬5)، كما رواه مسلم من مسند أبي رافع (¬6). ¬

(¬1) صحيح مسلم (351). (¬2) صحيح مسلم (353). (¬3) رواه البخاري (207)، ومسلم (354). (¬4) البخاري (208)، ومسلم (355). (¬5) البخاري (210)، ومسلم (356). (¬6) مسلم (357).

فمن أهل العلم من أخذ بالأحاديث الآمرة بالوضوء مما مست النار، وأنها ناقلة عن البراءة الأصلية فهي مقدمة على غيرها من الأحاديث الموافقة للبراءة الأصلية، وهذا حجة من ذهب إلى القول بوجوب الوضوء مما مست النار. ومن أهل العلم من رأى أن القواعد تقتضي بأن الرسول إذا أمر بشيء ثم خالفه، ولم يأت دليل صريح بأن هذه المخالفة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك يدل ذلك على أن الأمر ليس على الوجوب، وإنما هو على الاستحباب، وهذا حجة من ذهب إلى استحباب الوضوء مما مست النار، وأن الأمر بالوضوء مما مست النار ما زال محكماً، ولم ينسخ. (1118 - 347) وأخذ جماهير أهل العلم بما رواه شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما غيرت النار (¬1). فرأوا أن الحديث دليل على أن الوضوء مما مست النار كان مشروعاً فنسخ، إلا أن الحديث بهذا اللفظ، قد ذهب بعض أهل العلم منهم أبو داود وأبو حاتم الرازي وابن حبان وابن تيمية وابن القيم وغيرهم إلى أن شعيب اختصر الحديث، فأخطأ فيه (¬2)، فأوقع هذا الاختصار المخل للحديث في لبس، وأن الحديث عند من بسطه لا يدل على ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وإنما ¬

(¬1) سنن أبي داود (192). (¬2) سبق بحثه في الكلام على الوضوء من أكل لحم الإبل، انظر رقم (1091) فأغنى والله الحمد عن إعادته هنا.

فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً عند امرأة من الأنصار، ثم قام إلى صلاة الظهر، فتوضأ، وصلى، ثم عاد مرة أخرى، فقدمت له بقية اللحم، فأكل، ثم قام، وصلى العصر، ولم يتوضأ، فأراد شعيب أن يختصره، فقال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، والمقصود بالأمرين أي في شأن هذه القصة، وليس في الأمر العام الشرعي على أن الحديث له علة أخرى، فقد قيل: إن محمد بن المنكدر لم يسمعه من جابر، وإنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل، وأكثر أهل العلم على ضعفه. وقد سبق بحث الحديث، فأغنى عن إعادته هنا. ورد ابن حزم (¬1)، وابن التركماني (¬2)، القول باختصار الحديث، وقالا: إنما هما حديثان، وأيدهما أحمد شاكر رحمه الله تعالى. وقال أحمد شاكر: ومن الواضح أن هذا تأويل بعيد جداً، يخرج به الحديث عن ظاهره، بل يحيل معناه عما يدل عليه لفظه وسياقه، ورمي الرواة الثقات الحفاظ بالوهم بهذه الصفة ونسبة التصرف الباطل في ألفاظ الحديث إليهم حتى يحيلوها عن معناها قد يرفع من نفوس ضعفاء العلم الثقة بالرويات الصحيحة جملة ... الخ كلامه رحمه الله (¬3). وكلام أهل العلل كأبي داود وأبي حاتم الرازي وابن حبان ومعهم ابن تيمية وابن القيم لا يمكن أن يعارض بكلام ابن حزم وابن التركماني، وذلك أن ابن حزم رحمه الله لم يكن من أهل العلل أصلاً، وليست له عناية في هذا ¬

(¬1) المحلى (1/ 243). (¬2) الجوهر النقي (1/ 156). (¬3) سنن الترمذي تحقيق أحمد شاكر (1/ 122).

الفن، ومن قرأ كتابه المحلى قطع بذلك، وإن كان هذا لا يقدح في إمامته في الفقه، فالمرد عند الكلام على العلل إنما هو إلى أهله وصيارفته، وما ساقه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إنما هو حسن الظن بالراوي، وهذا لا يمنع من الوقوع بالخطأ، والثقة بل الأئمة يقع لهم بعض الأخطأ، فهذا مالك وسفيان والزهري وشعبة قد يحصي أئمة الحديث أوهاماً لهم وقعوا فيها، إما في المتن وإما في الإسناد، وليس ذلك بقادح في الثقة حتى يكثر ذلك منه، فإذا كثرت مخالفته قدح ذلك في ضبطه، والله أعلم. وبناء عليه فالوضوء مما مست النار محفوظ غير منسوخ، وإن كان الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء، ثم أكل لحماً وصلى ولم يتوضأ، فدل على أن الأمر بالوضوء منه ليس للوجوب، وإنما هو على قبيل الاستحباب، والله أعلم.

الفصل التاسع: في الوضوء من غسل الميت

الفصل التاسع: في الوضوء من غسل الميت اختلف أهل العلم في غسل الميت، هل ينقض الوضوء، فقيل: لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الجمهور (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). وقيل: ينقض، وهي مفردات مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى (¬3). وقيل: يسن، نص عليه الشافعي (¬4). دليل من قال بالنقض. الدليل الأول: (1119 - 348) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: سئل ابن عباس: أعلى من غسل ميتاً غسل؟ قال: لا، إذن ¬

(¬1) انظر المبسوط (1/ 82)، بدائع الصنائع (1/ 32)، المغني (1/ 123)، (¬2) الفروع (1/ 184)، الإنصاف (1/ 215). (¬3) قال صاحب الإنصاف (1/ 215): الصحيح من المذهب: أن غسل الميت ينقض الوضوء , نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب, مسلما كان أو كافرا, صغيرا كان أو كبيرا, ذكرا أو أنثى, وهو من مفردات المذهب. اهـ وانظر الفروع (1/ 184)، شرح منتهى الإرادات (1/ 73)، مطالب أولي النهى (1/ 147). (¬4) قال النووي في المجموع (2/ 234): ويسن الوضوء من مس الميت، نص عليه الشافعي في مختصر المزني رحمه الله. اهـ

نجسوا صاحبهم، ولكن وضوء (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (6101). (¬2) وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 469)، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً. ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ولم يذكر ما ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريج من زيادة الوضوء. وروى البيهقي (3/ 398) من طريق أبي شيبة، ثنا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً، وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم. اهـ قال البيهقي: هذا ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة. فعلق الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 239) بقوله: أبو شيبة هو إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة، احتج به النسائي، ووثقه الناس، ومن فوقه احتج بهم البخاري، ثم قال: فالإسناد حسن. وقال في التهذيب (1/ 138): وهم البيهقي في ذلك، وكأنه ظنه جده إبراهيم بن عثمان، فهو المعروف بأبي شيبة أكثر مما يعرف بها هذا. قلت: قال أبو حاتم الرازي: صدوق. الجرح والتعديل (2/ 110). وقال الخليلي: كان ثقة، روى عنه الحفاظ. تهذيب التهذيب (1/ 137). وقال مسلمة بن قاسم: كوفي ثقة. المرجع السابق. وقال العقيلي: ليس به بأس. المرجع السابق. وقال الذهبي في الكاشف: ثقة. =

الدليل الثاني

ويجاب: أولاً: هذا موقوف على ابن عباس رضي الله عنه، وقوله هذا خلاف القياس. ثانياً: لعله يحمل ذلك على المحدث، حتى إذا أراد الصلاة على الميت فإذا هو طاهر، أو يحمل على الوضوء اللغوي، وهو نظافة يديه؛ لأن الغاسل قد يمس فرجه بحائل، وقد تخرج من الميت نجاسة تلوث من باشر غسله، والله أعلم. الدليل الثاني: (1120 - 349) ما رواه عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إذا غسلت الميت فأصابك منه أذى فاغتسل، وإلا إنما يكفيك الوضوء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: ربما أخذوا نقض الوضوء من كون بعض أهل العلم يرى وجوب الغسل من تغسيل الميت، فإذا أوجب عنده ذلك الطهارة الكبرى، فقد أوجب الطهارة الصغرى؛ لأنها داخلة فيها وللقاعدة عندهم «كل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً» وعمدتهم في إيجاب الغسل من تغسيل الميت: ¬

= وقال الحافظ في التقريب: صدوق. (¬1) المصنف (6107). (¬2) في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف في حفظه، وسبقت ترجمته في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية.

(1121 - 350) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من غُسْلِها الغسلُ، ومن حَمْلِها الوضوء (¬1). يعني الميت. [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح جمع من الأئمة المتقدمين وقفه] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 272). (¬2) قال أبو حاتم: إنما هو موقوف عن أبي هريرة، لا يرفعه الثقات. العلل (1/ 351). وقال البخاري بعد أن ساق الاختلاف على أبي هريرة، في رفعه ووقفه، فقال: وهذا أشبه. يعني الموقوف. التاريخ الكبير (1/ 397). وقال البيهقي: بعد أن رواه مرفوعاً وموقوفاً قال: هذا هو الصحيح موقوفاً على أبي هريرة، كما أشار إليه البخاري. السنن (1/ 303). وقال البيهقي أيضاً: الروايات المرفوعة في هذا الباب عن أبي هريرة غير قوية لجهالة بعض رواتها، وضعف بعضهم، والصحيح عن أبي هريرة من قوله موقوفاً غير مرفوع. اهـ المرجع السابق. وقال أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء. مسائل وكذا قال علي بن المديني: لا يثبت فيه حديث: سنن البيهقي (1/ 305). وقال الذهلي: لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً، ولو ثبت للزمنا استعماله. تلخيص الحبير (1/ 236). وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت. المرجع السابق. فهذا أبو حاتم وأحمد والبخاري وعلي بن المديني والذهلي وابن المنذر والبيهقي كلهم يذهبون إلى عدم ثبوت المرفوع. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن. وهذه العبارة ليست تصحيحاً من الترمذي، لأن الحسن عند الترمذي هو ما اصطلح عليه المتأخرون بالحسن لغيره، وهو أن يكون روايه غير متهم، ويروى من غير وجه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وصححه ابن حبان حيث أورده في صحيحه كما سيأتي في التخريج. وقواه الذهبي حيث يقول في مختصر سنن البيهقي (1/ 301): بل هي- أي الأحاديث - غير بعيدة عن القوة إذا ضم بعضها إلى بعض، وهي أقوى من أحاديث القلتين، وأقوى من أحاديث "الأرض مسجد إلا المقبرة والحمام" إلى غير ذلك مما احتج بأشباهه فقهاء الحديث. اهـ [تخريج الحديث]. رواه أحمد كما في إسناد الباب من طريق سهيل بن أبي صالح، وقد اختلف عليه فيه: فرواه ابن جريج كما في إسناد أحمد هذا. وأخرجه ابن ماجه (1436)، والترمذي (993)، والبيهقي (1/ 300 - 301) من طريق عبد العزيز بن المختار. وأخرجه ابن حبان (1161) من طريق حماد بن سلمة. وأخرجه الطبراني في الأوسط (989) من طريق زهير بن محمد، أربعتهم، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً. ورواه ابن عيينة، واختلف عليه فيه: فرواه الشافعي عن ابن عيينة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، ذكره الدارقطني في العلل (10/ 162). وأخرجه أبو داود (3162)، ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 301) من طريق حامد ابن سفيان. والحميدي وابن أبي عمر كما في العلل للدارقطني (10/ 162) ثلاثتهم عن سفيان ابن عيينة، عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة مرفوعاً. فزاد سهيل في إسناده إسحاق مولى زائدة. ووراه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 396) من طريق ابن علية، عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً. فتابع ابن علية سفيان بن عيينة في زيادة إسحاق في إسناده، وخالفه من جهة كونه رواه موقوفاً على أبي هريرة، ولم يرفعه كما فعل ابن عيينة. وقد ذكر الدارقطني في علله طريق ابن علية هذا إلا أنه صرح أن ابن علية يرويه عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سهيل، عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة موقوفاً بدون ذكر صالح والد سهيل، فلعل هذا اختلاف آخر على ابن علية أو وهم. وأخرجه البيهقي (1/ 301) من طريق وهيب بن خالد، عن سهيل، عن أبيه، عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة مرفوعاً. وهذا اختلاف ثالث على سهيل، والحارث بن مخلد، لم يوثقه إلا ابن حبان حيث ذكره في ثقاته (2152). وقال ابن القطان: مجهول الحال. تهذي التهذيب (2/ 136). وقال البزار: ليس بمشهور. المرجع السابق. وفي التقريب: مجهول الحال. ورواه ابن أبي ذئب، واختلف عليه فيه: فقيل: عنه، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً .. فقيل: عنه، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعاً. وقيل: عنه: عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة مرفوعاً. وقيل: عنه: عن القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير، عن أبي هريرة مرفوعاً. وهذا تفصيله: فقد رواه ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة. ذكره الدارقطني في العلل (10/ 379)، قال الدارقطني: أغرب ابن أبي فديك. ووراه حبان بن علي، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة. ذكره الدارقطني في العلل، وقال الدارقطني: حديث المقبري أصح. (10/ 378). ورواه الطيالسي (2314) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 303)، وابن أبي شيبة (2/ 470) عن شبابة. وأحمد في مسنده (2/ 433) عن يحيى، وأيضاً (2/ 454) عن حجاج. كلهم عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة مرفوعاً. قال البيهقي: هذا هو المشهور من حديث ابن أبي ذئب، وصالح مولى التوأمة ليس بالقوي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أبو داود (3161) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 303) من طريق ابن أبي فديك، حدثني ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير، عن أبي هريرة مرفوعاً. وعمرو بن عمير، لم يرو عنه إلا القاسم بن عباس، ولم يوثقه أحد، وفي التقريب: مجهول. قال الدراقطني في علله (10/ 162) بعد أن ساق الاختلاف على سهيل: ويشبه أن يكون كان يضطرب فيه. هذا فيما يخص طريق سهيل، عن أبيه. وأخرجه البيهقي في سننه (1/ 301) وذكره البخاري في التاريخ الكبير (1/ 396 - 397) من طريق ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً. ورواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة موقوفاً. أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 470) حدثنا عبدة بن سليمان. وأخرجه أيضاً (3/ 47) حدثنا يزيد بن هارون. والبيهقي (1/ 302) من طريق عبد الوهاب بن عطاء. والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 397) من طريق عبد العزيز الدراوردي، كلهم عن محمد بن عمرو به، موقوفاً على أبي هريرة. وخالفهم حماد بن سلمة، فأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 397) من طريق حماد ابن سلمة، عن محمد بن عمرو به، مرفوعاً. ورجح البخاري الرواية الموقوفة على الرواية المرفوعة، كما في التاريخ الكبير (1/ 397) كما خطأ أبو حاتم حماد بن سلمة، انظر العلل (1/ 351). وتابع حنين بن أبي حكيم حماد بن سلمة في رفعه متابعة قاصرة، فأخرجه البيهقي في سننه (1/ 302) من طريق ابن لهيعة، عن حنين بن أبي حكيم، عن صفوان بن أبي سليم، عن أبي سلمة مرفوعاً. قال البيهقي: ابن لهيعة وحنين بن حكيم لا يحتج بهما، والمحفوظ من حديث أبي سلمة ما أشار إليه البخاري أنه موقوف من قول أبي هريرة. =

وفي الباب من حديث عائشة وعلي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وحذيفة والمغيرة بن شعبة، وكلها أحاديث ضعيفة، وسنأتي على ذكرها إن شاء الله تعالى في كتاب الغسل، وهو بعد هذا الكتاب. الدليل الثاني: وقالوا: ولأن العادة أن الغاسل لا تسلم يده أن تقع على فرج الميت، كما لا يسلم النائم المضطجع من خروج الحدث، وأوجبنا الوضوء من النوم. وأجيب: أولاً: لا يحل له أن يمس فرج الميت بدون حائل. وثانياً: ليس مس الفرج متيقناً ولا غالباً، بل هو نادر، وبالتالي لا يكون غسل الميت مظنة للمس الفرج. ¬

_ = وأخرجه البيهقي (1/ 303) من طريق أبي واقد الليثي، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وإسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة مرفوعاً. وأبو واقد الليثي ضعيف. قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (4/ 291). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (297). وأخرجه البيهقي (1/ 303) من طريق الوليد بن مسلم، حدثني ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة مرفوعاً. وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وأخرجه أحمد (2/ 280)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 397) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن رجل من بني ليث، عن أبي إسحاق، عن أبي هريرة مرفوعاً. وهذا إسناد ضعيف؛ لأن في إسناده مبهماً، وفيه جهالة أبي إسحاق. انظر أطراف المسند (7/ 199)، تحفة الأشراف (12726)، إتحاف المهرة (18106).

دليل من قال: لا ينقض الوضوء

ثالثاً: أن غاسل الميت يكون معه عقله، ويعلم بما يقوم به، فإذا مس فرج الميت شعر بذلك، بخلاف النائم فإنه يحدث وهو لا يشعر، ولذلك لو كان نومه نعاساً لم يغلب على عقله لم يكن النوم ناقضاً للوضوء؛ لأنه لو أحدث لشعر بذلك. رابعاً: الوضوء من مس الذكر أمر تعبدي، وقد قدمنا الخلاف في مس ذكر الغير، ورجحنا أن الوضوء إنما يجب إذا مس ذكره بيده لحديث (من مس ذكره فليتوضأ) وأما إذا مس ذكر غيره فلم يصح فيه الحديث، وبالتالي لا يجب عليه الوضوء، ولا يقاس مس ذكر الغير على مس ذكره؛ لأن الأمر تعبدي لم تظهر لنا علته، والله أعلم. دليل من قال: لا ينقض الوضوء. الدليل الأول: قالوا: لم يصح في وجوب الوضوء ولا في وجوب الغسل من تغسيل الميت حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قاله جماعة من أهل العلم: قال أبو داود في مسائل الإمام أحمد: «سمعت أحمد ذكر في (من غسل ميتاً فليغتسل) فقال: ليس يثبت فيه حديث» (¬1). وكذا قال علي بن المديني والذهلي والبيهقي وابن المنذر وغيرهم، نقلنا ذلك عنهم في أدلة القول الأول. فإذا كان ذلك كذلك فالأصل عدم الوجوب حتى يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر منه بذلك، ولم يثبت. ¬

(¬1) مسائل أبي داود (1964).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: قالوا: بدن الميت طاهر، ومس الطاهر ليس بحدث، بل لو كان نجساً لم يكن حدثاً، وكل ما عليه أن يغسل النجاسة فقط، فإذا كان الإنسان لا يتوضأ من مس الميتة والنجاسات، فكذلك لا يتوضأ من باب أولى من غسل بدن المسلم. الراجح والله أعلم. بعد استعراض الأقوال في المسألة، وبعد أن نقلنا عن جمع من الأئمة بأنه لم يثبت حديث في الأمر بالغسل أو الوضوء من تغسيل الميت أرى والله أعلم أن القول بأن غسل الميت ناقض من نواقض الوضوء قول ضعيف، ولكن القول بالاستحباب من ذلك ليس ببعيد، وقد روى الخطيب في تاريخه في ترجمة محمد بن عبد الله المخزومي، من طريق عبد الله بن الإمام أحمد، قال: قال لي أبي: كتبت حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل؟ قال: قلت: لا. قال: في ذلك الجانب شاب يقال له: محمد بن عبد الله يحدث به، عن أبي هشام المخزومي، عن وهيب، فاكتب عنه (¬1). وهذا إسناد صحيح، وصححه الحافظ ابن حجر في التلخيص، وقال: وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث (¬2). اهـ ¬

(¬1) تاريخ بغداد (5/ 424). (¬2) تلخيص الحبير (1/ 239).

الفصل العاشر: في نقض الوضوء بالشك

الفصل العاشر: في نقض الوضوء بالشك إذا توضأ، ثم شك هل أحدث، فهل ينتقض وضوؤه؟ فقيل: لا ينتقض، بل يبني على اليقين مطلقاً، سواء كان في صلاة أم في غيرها، وهو مذهب الجمهور، ورواية ابن نافع، عن مالك. وقيل: ينقض مطلقاً، وهو رواية ابن القاسم عن مالك. وقيل: الشك ينقض الوضوء خارج الصلاة، ولا ينقض داخلها، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، ونسب هذا القول للحسن رحمه الله (¬2). دليل الجمهور على عدم النقض. الأصل العظيم، أن اليقين لا يزول بالشك، فمن تيقن الطهارة وشك ¬

(¬1) جاء في تهذيب المدونة (ص: 181): " ولو أيقن بالوضوء، ثم شك في الحدث، فلم يدر أأحدث بعد الوضوء أم لا، فليعد وضوءه". اهـ وقال الخرشي في شرحه (1/ 157): من شك في طريان الحدث له بعد علمه بطهر سابق، فإن وضوءه ينتقض إلا أن يكون مستنكهاً بأن يشم في كل وضوء أو صلاة أو يطرأ له في اليوم مرة أو أكثر فلا أثر لشكه الطارئ بعد علم الطهر، ولا يبني على أول خاطر به على ما اختاره ابن عبد السلام؛ لأن من هذه صفته لا ينضبط له الخاطر الأول من غيره، والوجود يشهد لذلك، وإن كان ابن عرفة اقتصر على بنائه على ذلك، وكلام المؤلف فيمن حصل له الشك في طرو الحدث قبل الدخول في الصلاة بخلاف من شك في طرو الحدث في الصلاة أو بعدها فلا يخرج منها ولا يعيدها إلا بيقين؛ لأنه شك طرأ بعد تيقن سلامة العبادة. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/ 301)، الثمر الداني (1/ 200)، القوانين الفقهية (ص: 21)، حاشية العدوي (1/ 431). (¬2) المغني (1/ 126).

دليل من قال بوجوب الوضوء بالشك بالحدث إلا أن يكون في صلاة

بالحدث، أو تيقن النجاسة وشك في الطهارة، بنى على اليقين، وهذا الأصل له أدلة شرعية صحيحة، منها. (1122 - 351) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم. دليل من قال بوجوب الوضوء بالشك بالحدث إلا أن يكون في صلاة. قالوا: إنما أوجب الوضوء بالشك؛ لأن الطهارة شرط، والشك في الشرط مؤثر، بخلاف الشك في طلاق زوجته، أو عتق أمته، أو شك في الطهارة أو الرضاع لا يؤثر؛ لأنه شك في المانع، وهو لا يؤثر، وإنما أثر في الشرط دون المانع، لأن العبادة محققة في الذمة فلا تبرأ منها إلا بطهارة محققة، والمانع يطرأ على أمر محقق وهو الإباحة أو الملك من الرقيق، فلا تنقطع بأمر مشكوك فيه (¬1). وأما وجه الفرق بين الحدث داخل الصلاة وخارج الصلاة. فقد أخذوا ذلك من ظاهر الحديث، (1123 - 352) فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد ¬

(¬1) الفواكه الدواني (1/ 237).

الراجح من القولين

الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (¬1). فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا شك في الصلاة أن يستمر فيها، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، قالوا: وأما إذا شك خارج الصلاة، فالحكم مختلف، فيلزمه أن يأتي بالطهارة بيقين. قال الدسوقي في حاشيته: من شك، وهو في الصلاة طرأ عليه الشك فيها بعد دخوله، فوجب أن لا ينصرف عنها إلا بيقين، ومن شك خارجها طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب أن لا يدخلها إلا بطهارة متيقنة (¬2). وتعليل آخر: قالوا: قياساً على النوم، فإن وجوب الوضوء من النوم لوجود الشك في الحدث، فكذلك إذا شك في الحدث بدون نوم فإنه يوجب الوضوء. قال ابن حجر تعليقاً على ذلك: إن كان ناقضاً خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك في الصلاة كبقية النواقض (¬3). الراجح من القولين: بعد استعراض الأدلة يتبين لنا والله أعلم أن قول الجمهور أقوى، لأن الشك لا يقضي على اليقين، وأن الأصل استصحاب المتيقن حتى ينتقل عنه إما بيقين أو بغلبة ظن، وأما الشك الذي هو استواء الطرفين، فإنه لا يقضي على اليقين، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (137)، ومسلم (361). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 124). (¬3) فتح الباري (1/ 238).

الفصل الحادي عشر: كل ما يوجب الحدث الأكبر فإنه يوجب الوضوء

الفصل الحادي عشر: كل ما يوجب الحدث الأكبر فإنه يوجب الوضوء إذا اغتسل من وجب عليه حدث أكبر، دون أن يتوضأ أو ينوي رفع الحدث الأصغر، فهل يرتفع حدثه؟ فقيل: يرتفع حدثه، وهو مذهب الجمهور. وقيل: كل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً إلا الموت فلا بد أن يتوضأ، أو ينوي رفع الحدث الأصغر، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وقيل: فعل الوضوء شرط في صحة الغسل من الجنابة، وهو رأي داود الظاهري. دليل الجمهور: لم يذكر الله سبحانه وتعالى الوضوء في القرآن، بل قال تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} (¬1)، ولو كان الوضوء واجباً لذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه. الدليل الثاني: (1124 - 353) ما رواه البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فأفرغه عليك (¬2). ¬

(¬1) المائدة، آية: 6. (¬2) صحيح البخاري (337).

ولو كان الوضوء واجباً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ولم يطلب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا مجرد إفراغه عليه. الدليل الثالث: (1125 - 354) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الدلالة: عبر بـ " إنما " الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر الوضوء. الدليل الرابع: حكى بعضهم الإجماع على عدم وجوب الوضوء. قال الحافظ في الفتح: " قام الإجماع على أن الوضوء في غسل الجنابة غير واجب " (¬2). ¬

(¬1) صحيح مسلم (330). (¬2) في شرحه لحديث (259)

دليل الحنابلة على وجوب الوضوء أو نيته

وقال ابن عبد البر: " الله عز وجل إنما فرض على الجنب الغسل دون الوضوء، بقوله عز وجل: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1)، وقوله: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} (¬2) (¬3). ولا تصح دعوى الإجماع مع خلاف داود الظاهري ". دليل الحنابلة على وجوب الوضوء أو نيته. لعلهم يرون أنه إذا قام الحدث الأكبر في البدن، فقد قام الحدث الأصغر من باب أولى، فإذا لم يتوضأ، ولم ينو رفع الحدث الأصغر فإن الحدث الأصغر قائم في البدن، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال بالنيات " وهذا لم ينو، فلم يحصل له هذا العمل، والله أعلم. دليل داود الظاهري بأن الوضوء شرط في صحة الغسل. لعل داود لظاهري رأى في قوله تعالى أن قوله سبحانه: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} ? (¬4). فقوله سبحانه: {فاطهروا} أمر، وهو مجمل، وبيانه يؤخذ من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حافظ على الوضوء قبل الغسل، فإذا كان قوله: {فاطهروا} أمر، والأصل في الأمر الوجوب، كان ¬

(¬1) النساء، آية: 43. (¬2) المائدة، آية: 6. (¬3) التمهيد (3/ 415) كما في فتح البر. (¬4) المائدة، آية: 6.

الراجح من الخلاف

الفعل الذي وقع بياناً لهذا المجمل له حكم المجمل، فيكون واجباً مثله. وهذا الاستدلال ممكن أن يسلم لو أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على صحة الغسل بلا وضوء، كحديث الأعرابي، وحديث أم سلمة، وقد سقناهما في أدلة الجمهور. الراجح من الخلاف. الذي يظهر والله أعلم أن موجبات الغسل لا توجب إلا الغسل، ولا توجب الوضوء، ولا نيته؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يطلب منا إلا التطهر في حال الجنابة: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1)، ولم يوجب علينا وضوءاً، ومن غسل جميع جسمه ناوياً رفع الحدث الأكبر فقد ارتفع حدثه، وكان له أن يصلي بهذا الغسل حتى يحدث، والله أعلم. ¬

(¬1) المائدة: 6.

الباب الثاني: فيما يحرم على المحدث

الباب الثاني: فيما يحرم على المحدث الفصل الأول: يحرم على المحدث فعل الصلاة قال ابن حزم: الوضوء للصلاة فرض لا تجزئ الصلاة إلا به لمن وجد الماء. هذا إجماع لا خلاف فيه من أحد, وأصله قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬1). وقال النووي: الطهارة شرط في صحة الصلاة، هذا مجمع عليه، ولا تصح صلاة بغير طهور، إما بالماء أو بالتيمم بشرطه (¬2). وقال أيضاً: جمعت الأمة على أنه من صلى محدثا مع إمكان الوضوء فصلاته باطلة , وتجب إعادتها بالإجماع , سواء أتعمد ذلك أم نسيه أم جهله (¬3). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) المجموع (3/ 139). (¬3) المجموع (4/ 160).

وقال في مغني المحتاج: ويحرم بالحدث حيث لا عذر: الصلاة بأنواعها بالإجماع (¬1). وقال العراقي في شرحه لحديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، قال: «استدل به العلماء على اشتراط الطهارة في صحة الصلاة، وهو مجمع عليه، حكى الإجماع في ذلك جماعة من الأئمة» (¬2). مستند الإجماع: (1126 - 355) جاء في الصحيحين من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (¬3). (1127 - 356) روى مسلم رحمه الله، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة ابن سعيد وأبو كامل الجحدري ـ واللفظ لسعيد ـ قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول وكنت على البصرة (¬4). ¬

(¬1) مغني المحتاج (1/ 36). (¬2) طرح التثريب (2/ 213). (¬3) البخاري (135)، ومسلم (2ـ 225). (¬4) رواه مسلم (224).

الفصل الثاني: في تحريم الطواف على المحدث

الفصل الثاني: في تحريم الطواف على المحدث اختلف الفقهاء في اشتراط الطهارة من الحدث للطواف، فقيل: الطهارة من الحدث شرط لصحة الطواف. وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها، وتجبر بدم. وهو الراجح عند الحنفية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). وقيل: الطهارة من الحدث الأصغر سنة. وهو اختيار ابن تيمية (¬6). وقد حررنا أدلة كل قول، وبيان الراجح منها في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية، فأغنى عن إعادته هنا. ¬

(¬1) المنتقى ـ الباجي (2/ 290)، مواهب الجليل (1/ 374) القوانين الفقهية ـ ابن جزي (ص55)، الخرشي (2/ 314). (¬2) المجموع ـ النووي (8/ 17)، حاشية البيجوري (1/ 600). (¬3) انظر الإنصاف (4/ 16)، الفروع (1/ 260، 261)، المبدع (3/ 221). (¬4) البحر الرائق (1/ 203)، شرح فتح القدير (1/ 166)، بدائع الصنائع (2/ 129)، المبسوط (4/ 38). (¬5) المبدع (1/ 261). (¬6) مجموع الفتاوى (26/ 198)، وانظر أعلام الموقعين (3/ 34).

الفصل الثالث: في وجوب الوضوء من مس المصحف

الفصل الثالث: في وجوب الوضوء من مس المصحف اختلف العلماء في من يريد مس المصحف هل يشترط أن يكون على طهارة من الحدث أم لا. فقيل: يحرم على المحدث مس المصحف. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). واختيار ابن تيمية (¬2). وقيل: تستحب له الطهارة، ولا تجب. قال البيهقي: اختارها العراقيون (¬3). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 168)، تبيين الحقائق (1/ 57ـ58)، البحر الرائق (1/ 211)، بدائع الصنائع (1/ 33ـ34)، مراقي الفلاح (ص: 60). وانظر في مذهب المالكية مختصر خليل (ص:14)، الخرشي (1/ 160)، حاشية الدسوقي (1/ 125)، الكافي (ص: 24)، مواهب الجليل (1/ 303)، منح الجليل (1/ 117،118)، القوانين الفقهية (ص: 25)، الشرح الصغير (1/ 149)، وانظر في مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/ 36)، روضة الطالبين (1/ 79)، المجموع (2/ 77)، الحاوي الكبير (1/ 143ـ145). وانظر في مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 134)، المحرر (1/ 16)، شرح منتهى الإاردات (1/ 77)، الإنصاف (1/ 222)، المغني (1/ 202) الفروع (1/ 188) الكافي (1/ 48). (¬2) قال في مجموع الفتاوى (21/ 266): " قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه له - يعني: كتاب عمرو بن حزم - وهو أيضاً قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف ". (¬3) الخلافيات للبيهقي (1/ 497).

وهو مذهب الظاهرية (¬1)، واختيار ابن المنذر (¬2). وقد ذكرنا أدلة كل قول، مع بيان الراجح في كتاب الحيض والنفاس، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. ¬

(¬1) المحلى (مسألة 116). (¬2) الأوسط (2/ 103).

[الغسل]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم، وبعد: فهذا كتاب أحكام الغسل الفقهية والحديثية، أقدمه لإخواني طلبة العلم الشرعي، ويأتي بعد أن انتهيت من أحكام الوضوء: سننه وفروضه ونواقضه وأحكام المسح على الحائل، في ثلاثة مجلدات، ولله الحمد، للنتقل من الطهارة الصغرى إلى الطهارة الكبرى بالماء، وقد اشتمل الكتاب على ما يزيد على مائة مسألة فقهية تقريباً، وبلغ عدد أحاديثه وآثاره بالمكرر: خمساً وأربعين ومائتي حديث (245)، وستكون مسائله على النحو التالي. خطة البحث: تشتمل الخطة على ستة أبواب، مقسمة إلى فصول ومباحث وفروع ومسائل على النحو التالي: الباب الأول: في موجبات الغسل. الفصل الأول: خروج المني. المبحث الأول: خروجه في اليقظة. فرع: هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج. المبحث الثاني: خروج المني حال النوم. فرع: إذا التذ في نومه، ثم خرج منه المني في اليقظة من غير لذة. المبحث الثالث: في تكرار خروج المني. الفرع الأول: في الرجل يذكر احتلاماً ولم ير بللا.

الفرع الثاني: إذا رأى منياً في ثوب ينام فيه هو وغيره. الفرع الثالث: في الرجل يجامع دون الفرج، ثم يدب ماؤه، فيدخل في الفرج، ثم يخرج. الفصل الثاني: من موجبات الغسل التقاء الختانين، ولو لم يحصل إنزال. المبحث الأول: في الإيلاج في فرج امراة ميتة، أو إيلاج فرج رجل ميت في قبل امرأة. المبحث الثاني: في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها. المبحث الثالث: إذا كان المجامِع أو المجامَع صغيراً فهل يجب عليه الغسل. فرع: إذا دخل ذكر النائم والمجنون ونحوهما في فرج المرأة أو العكس. المبحث الرابع: إذا أولج رجل ذكره في فرج البهيمة. المبحث الخامس: يشترط لوجوب الغسل بالإيلاج دخول كامل الحشفة. فرع: إذا قطعت الحشفة. المبحث السادس: في الإيلاج في الدبر. فرع: في إدخال الأصبع ونحوها في الفرج. المبحث السابع: إذا أولج ذكره في قبل أو دبر مع وجود حائل. الفرع الأول: إذا أولج في قبل أو دبر خنثى مشكل. الفرع الثاني: لو غيب الرجل ذكره في دبر نفسه. الفصل الثالث: في الشك في التقاء الختانين أو الشك في إنزال المني. الفصل الرابع: من موجبات الغسل إسلام الكافر.

الفصل الخامس: من موجبات الغسل موت الرجل أو تغسيله. المبحث الأول: في وجوب غسل الميت. المبحث الثاني: في الغسل من تغسيل الميت. الفصل السادس: في غسل الجمعة. المبحث الأول: خلاف أهل العلم في وجوب غسل الجمعة. المبحث الثاني: غسل الجمعة لليوم أو للصلاة. الفصل السابع: من موجبات الغسل حيض المرأة. مبحث: خلاف العلماء في الموجب للغسل. الفصل الثامن: من موجبات الغسل النفاس. الباب الثاني: في الأغسال المستحبة. الفصل الأول: الغسل للإحرام. الفصل الثاني: الغسل لدخول مكة. الفصل الثالث: الغسل من زوال العقل. الفصل الرابع: الغسل للعيدين. المبحث الأول: في وقت الغسل للعيد. المبحث الثاني: هل اغتسال العيد لليوم أو للصلاة. الفصل الخامس: الغسل يوم عرفة. الفصل السادس: في الاغتسال للوقوف بمزدلفة.

الفصل السابع: في الاغتسال لرمي الجمار. الفصل الثامن: الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء. الفصل التاسع: الغسل من الحجامة. الباب الثالث: أحكام الجنب. الفصل الأول: تحريم فعل الصلاة. الفصل الثاني: في طواف الجنب. الفصل الثالث: في مكث الجنب في المسجد. الفصل الرابع: في قراءة الجنب للقرآن. الفصل الخامس: في مس الجنب للمصحف. الفصل السادس: في صيام الجنب. مبحث: في الحائض والنفساء تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح. الفصل السابع: في أذان وإقامة الجنب للصلاة. المبحث الأول: في أذان الجنب. المبحث الثاني: في إقامة الجنب للصلاة. الفصل الثامن: في نوم الجنب. الفصل التاسع: في أكل الجنب وشربه. الفصل العاشر: في استحباب الوضوء لمعاودة الوطء.

الفصل الحادي عشر: في طهارة جسد الجنب وعرقه. الفصل الثاني عشر: في انغماس الجنب في الماء الدائم. المبحث الأول: في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم. المبحث الثاني: أثر انغماس الجنب على الماء القليل. الفصل الثالث عشر: في ذبيحة الجنب. الباب الرابع: في آداب الغسل. الفصل الأول: عدم الإسراف في الماء مع إحكام الغسل. الفصل الثاني: من آداب الغسل: أن يستتر عن أعين الناس. المبحث الأول: في حكم ستر العورة. الفرع الأول: ستر العورة عن النظر إليها من الأجانب. الفرع الثاني: في كشف العورة بالخلوة من غير حاجة. الفرع الثالث: في كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خالياً. المبحث الثاني: في ساتر سائر البدن حال الغسل. المبحث الثالث: في دخول الحمام من أجل الاغتسال. المبحث الرابع: إذا دخل الحمام بنية الاغتسال، ثم شك هل اغتسل؟ الفصل الثالث: في اغتسال الرجل وزوجه من إناء واحد، وهما جنبان. الفصل الرابع: حكم التسمية في الغسل. الفصل الخامس: من آداب الغسل البداء بغسل فرجه وما أصابه من آذى قبل الاغتسال.

الفصل السادس: من آداب الغسل: غسل اليدين قبل الوضوء وقبل غسل الفرج. المبحث الأول: في محل غسل اليدين من غسل الجنابة. المبحث الثاني: هل يغسل يديه كليهما، أو اليمنى فقط لأنها آلة الغرف. المبحث الثالث: الموجب لغسل اليدين في غسل الجنابة. المبحث الرابع: في عدد غسل الكفين في ابتداء الغسل. الفصل السابع: من سنن الغسل الوضوء قبله. المبحث الأول: في حكم الوضوء في غسل الجنابة. المبحث الثاني: موضع الوضوء في غسل الجنابة. المبحث الثالث: إذا اغتسل بدون وضوء، فهل يرتفع حدثه الأصغر. المبحث الرابع: في نية الوضوء في غسل الجنابة. المبحث الخامس: في التثليث في وضوء الغسل. الفصل الثامن: في استحباب المضمضة والاستنشاق في الغسل. الفصل التاسع: في السنن الواردة في غسل الرأس. المبحث الأول: ما السنة في وضوء الغسل غسل الرأس أو مسحه. المبحث الثاني: في تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس. المبحث الثالث: في استحباب التثليث في غسل الرأس. المبحث الرابع: هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس. المبحث الخامس: هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة. المبحث السادس: في حكم المسترسل، هل يجب غسل ظاهره وباطنه.

الفصل العاشر: في استحباب التيامن في الاغتسال. الفصل الحادي عشر: في حكم تأخير غسل الرجلين. الفصل الثاني عشر: في الموالاة في غسل الجنابة. الفصل الثالث عشر: في تدليك البدن في الغسل. الباب الخامس: في فروض الغسل. الفرض الأول: الماء الطهور مع القدرة عليه. الفرض الثاني: النية. الفرض الثالث: تعميم جميع البدن بالغسل. الباب السادس: في ذكر صفة الغسل الكامل والمجزئ.

الباب الأول في موجبات الغسل

الباب الأول في موجبات الغسل الفصل الأول خروج المني المبحث الأول خروجه في اليقظة إذا خرج المني دفقاً بلذة فإنه يوجب الغسل بلا خلاف بين الفقهاء، قال الكاساني: الجنابة تثبت بأمور بعضها مجمع عليها، وبعضها مختلف فيه، أما المجمع عليها فنوعان: أحدهما: خروج المني عن شهوة دفقاً من غير إيلاج، بأي سبب حصل الخروج كاللمس والنظر والاحتلام حتى يجب الغسل بالإجماع (¬1). اهـ وقال ابن جزي: فإن خرج بلذة معتادة من الجماع فما دونه وجب الغسل إجماعاً. (¬2) وقال النووي: وقد أجمع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني (¬3). اهـ. ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 160). (¬2) القوانين الفقهية (ص: 30 - 31). (¬3) المجموع (2/ 158).

وقال ابن قدامة: خروج المني الدافق بشهوة, يوجب الغسل من الرجل والمرأة في يقظة أو في نوم. وهو قول عامة الفقهاء. قاله الترمذي، ولا نعلم فيه خلافاً (¬1). اهـ. واختلفوا في خروج المني بدون لذة كما لو خرج لعلة من مرض أو برد ونحوهما؟. فقيل: لا يوجب الغسل إلا إذا خرج دفقاً بلذة، وهو مذهب الجمهور (¬2). وقيل: يوجب الغسل على أي صفة خرج، سواء كان بدفق أم بغيره، وسواء كان بلذة أم بغير لذة، وهو مذهب الشافعي (¬3). ¬

(¬1) المغني (1/ 128). (¬2) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/ 67)، بدائع الصنائع (1/ 36)، حاشية ابن عابدين (1/ 160)، والمالكية يشترطون اللذة فقط، والظاهر أنه يلزم من وجود اللذة أن يكون خروجه دفقاً، انظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/ 127 - 128)، الشرح الصغير (1/ 161)، الخرشي (1/ 161)، مواهب الجليل (1/ 305). وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/ 128)، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/ 232)، مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله (1/ 112)، المبدع (1/ 177)، شرح الزركشي (1/ 285). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 158): ولا فرق عندنا بين خروجه بجماع أو احتلام, أو استمناء أو نظر أو بغير سبب, سواء خرج بشهوة أو غيرها، وسواء تلذذ بخروجه أم لا, وسواء خرج كثيراً أو يسيراً، ولو بعض قطرة, وسواء خرج في النوم أو اليقظة، من الرجل =

دليل الجمهور على اشتراط الدفق بلذة

دليل الجمهور على اشتراط الدفق بلذة. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} (¬1). وجه الاستدلال: أن الماء الذي يجب منه الغسل إنما هو الماء الذي يكون منه الولد، وقد ذكر الله لنا صفته، بقوله: {مِن مَّاء دَافِقٍ} فإذا خرج بدون دفق فلا يعتبر هو الماء الذي يكون منه الولد، والذي يجب به الغسل. الدليل الثاني: (1128 - 1) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبيدة بن حميد التيمي أبو عبد الرحمن، حدثني ركين، عن حصين بن قبيصة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء، فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، قال: فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذكر له، قال: فقال: لا تفعل، إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فضخت الماء فاغتسل (¬2). ¬

= والمرأة: العاقل والمجنون , فكل ذلك يوجب الغسل عندنا، وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: لا يجب إلا إذا خرج بشهوة ودفق. اهـ (¬1) الطارق: 5 و6. (¬2) المسند (1/ 109).

وفي رواية لأحمد، عن علي قال: " كنت رجلا مذاء، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إذا حذفت فاغتسل من الجنابة، وإذا لم تكن حاذفاً فلا تغتسل " (¬1). [الحديث في الصحيحين دون ذكر هذه الزيادة، والقصة واحدة، وقد تفرد بزيادة الاغتسال بفضخ الماء أو بحذف الماء بعض الرواة، والأكثر على عدم ذكر هذه الزيادة، فهي زيادة شاذة] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 107). (¬2) روى زيادة " إذا فضخت الماء فاغتسل " الركين بن الربيع، رواها عنه ثلاثة: الأول: عبيدة ابن حميد كما في مسند أحمد (1/ 109)، وسنن أبي داود (206)، والبزار (802)،. وسنن النسائي (193)، وفي الكبرى له (199)، وابن خزيمة (20)، وصحيح ابن حبان (1107). والثاني: زائدة بن قدامة كما في مسند الطيالسي (144)، وأحمد (1/ 109، 125)، وأبو داود (206)، والنسائي في المجتبى (194)، وفي الكبرى (200)، والطحاوي (1/ 46)، وابن حبان (1102). الثالث: شريك، كما في مسند أحمد (1/ 145) بزيادة ذكر غسل الأنثيين. وخالهفم حسين بن علي، فرواه ابن أبي شيبة (1/ 89) عنه عن الركين، عن حصين ابن قبيصة، عن علي مرفوعاً بلفظ: إذا رأيت المذي توضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت الودي فضخ الماء فاغتسل. وأخشى أن تكون لفظة " الودي " تحرفت عن المني، وأن العبارة " وإذا رأيت المني فضخ الماء فاغتسل " خاصة أن الودي مجمع على أنه لا يوجب الغسل، وإنما الذي يوجب الغسل هو المني، وبناء عليه، فيكون هنا متابعة أخرى لطريق عبيد بن حميد بزيادة " ذكر الغسل من المني". كما جاءت زيادة ذكر الغسل من طريق ضعيف آخر، وإن لم يكن فيه شاهد على مسألتنا، فقد رواه أحمد (1/ 87) من طريق خالد الطحان. وابن أبي شيبة (1/ 87) والترمذي (114) وابن ماجه (504) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 46) عن هشيم، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الترمذي (114) من طريق زائدة،، وأخرجه أبو يعلى (314) من طريق أيوب بن واقد الليثي. وأخرجه أبو يعلى أيضاً (457) والبزار (630) من طريق جرير بن عبد الحميد، كلهم رووه عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاءً، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أما المني ففيه الغسل وأما المذي ففيه الوضوء. وإسناده ضعيف، فيه يزيد بن أبي زياد، جاء في التقريب: ضعيف، كبر، فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً. اهـ وقد رواه أحمد (1/ 111) من طريق محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد به، بلفظ الجماعة بدون ذكر الغسل. كما رواه أحمد (1/ 107) من طريق جواب التيمي، عن يزيد بن شريك، عن علي، قال: كنت رجلاً مذاء، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إذا حذفت فاغتسل من الجنابة، وإذا لم تكن حاذفاً فلا تغتسل. وجواب صدوق رمي بالإرجاء، وقد ساق ابن عدي في الكامل (2/ 177) هذا الحديث من طريق رزام بن سعيد قال سألت جواب التيمي عن المذي فقال: سألت عنه أبا إبراهيم التيمي يزيد بن شريك، فألجأ الحديث الى علي، فألجأ علي الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رآني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد شجبت، فقال: أبا علي لقد شجبت! قال: شجبت من الاغتسال بالماء وأنا رجل مذاء. قال: لا تغتسل منه إلا من الخذف، فان رأيت منه شيئا فلا تعد أن تغسل ذكرك ولا تغتسل إلا من الخذف. وهذا المتن منكر؛ لأن الحديث متفق عليه بأن علياً قد استحيى من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته منه، وأنه أوصى غيره بأن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم المذي، وهذا اللفظ يشعر بأن الأمر كان بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين علي مباشرة بدون واسطة. ورواه أبو يعلى (362) من طريق حصين بن صفوان، عن علي، قال: كنت رجلاً غلاماً مذاء، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الماء قد آذاني، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال: إنما الغسل من الماء الدافق. وحصين بن صفوان مجهول. وحديث علي هي قصة واحدة لا تحتمل التعدد، وقد رواه عن علي جماعة لم يذكروا هذه الزيادة، هم أكثر عدداً وأقوى حفظاً، ورواية بعضهم في الصحيحين وبعضهم في أحدها، وبعضهم خارج الصحيح بإسناد صحيح منهم: الأول: محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. كما في صحيح البخاري (132،178)، ومسلم (303)، وعبد الرزاق (604)، ابن أبي شيبة (1/ 87) رقم 968، وأحمد (1/ 82)، والنسائي في الكبرى (149)، والطحاوي (1/ 46). الثاني: ابن عباس، عن علي. وهو في صحيح مسلم (303)، وأخرجه أحمد (1/ 104)، والنسائي (438،436)، وابن خزيمة (22،23)، والطحاوي (1/ 46). الثالث: أبو عبد الرحمن السلمي، عن علي. وهو في صحيح البخاري (296)، ومسند الطيالسي (144)، وأحمد (1/ 129)، والنسائي (1/ 152)، وابن الجارود في المنتقى (6)، وابن خزيمة (18). الرابع: هانئ بن هانئ، عن علي. كما في مسند أحمد (1/ 108)، والطحاوي (1/ 46) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي. الخامس: عائش بن أنس، عن علي. كما في مسند أحمد (6/ 5)، و (4/ 320،321)، والحميدي (39)، والنسائي (154)، والطحاوي (1/ 47) وغيرهم. السادس: سليمان بن يسار، عن المقداد. كما في الموطأ (1/ 40)، وعبد الرزاق (600)، وأحمد (6/ 5)، وابن ماجه (505)، وابن الجارود (5)، والبيهقي في السنن (1/ 115)، وابن خزيمة (21)، وابن حبان (1101)، =

دليل الشافعية على وجوب الغسل بخروج المني كيفما كان

قال ابن الأثير: قوله: وإذا رأيت فضخ الماء فاغتسل " أي دفقه، يريد المني (¬1). دليل الشافعية على وجوب الغسل بخروج المني كيفما كان. الدليل الأول: (1129 - 2) ما رواه مسلم، قال: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب حدثه، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه، ¬

= كلهم رووه من طريق سالم أبي النضر، عن سليمان بن يسار، عن المقداد بن الأسود، أن علي ابن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل إذا دنا من أهله، فخرج منه المذي، فذكر نحو ما تقدم، وفيه: إذا وجد ذلك أحدكم، فلينضح فرجه بالماء، وليتوضأ وضوءه للصلاة. هذا لفظ مالك في الموطأ، قال ابن عبد البر: هذا إسناد ليس بمتصل؛ لأن سليمان بن يسار لم يسمع من المقداد، ولا من علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. اهـ قلت: قد رواه بكير بن عبد الله الأشج، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، عن علي، كما في صحيح مسلم (19 - 303)، وهذا سند متصل، وقد خرجت هذه الرواية في ما سبق. السابع: الحارث بن شبيل كما في مصنف ابن أبي شيبة (987). فهؤلاء سبعة من الرواة رووه عن علي، بعضها في الصحيحين وبعضها في أحدهما، وليس في روايتهم ذكر زيادة: " وإذا فضحت الماء فاغتسل". انظر لمراجعة بعض طرق هذا الحديث: أطراف المسند (4/ 400)، إتحاف المهرة (14196)، تحفة الأشراف (10079). (¬1) النهاية لابن الأثير (ص: 709) وقد طبع الكتاب في مجلد واحد، من دار ابن الجوزي.

الدليل الثاني

عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنما الماء من الماء (¬1). [الحديث له قصة، وهو في من جامع زوجته، ولم ينزل، وقد نسخ هذا الحكم كما سيأتي إن شاء الله تعالى] (¬2). الدليل الثاني: القياس على إيلاج الحشفة، فكما أن إيلاج الحشفة يجب به الغسل، سواء كان هذا بلذة أم بغير لذة، فكذلك نزول المني موجب للغسل، سواء كان ذلك بلذة أم بغيرها. الدليل الثالث: القياس على خروج المني حال النوم، فكما أنه يجب عليه الغسل إذا استيقظ ورأى ماء، ولو كان خروجه بدون لذة، فكذلك رؤيته حال اليقظة لا تشترط فيها اللذة. الراجح من الخلاف. الغسل بخروج المني إنما يجب بخروجه المعتاد المعروف، وهو خروجه بلذة وفي حالة الدفق، لأن خروجه على خلاف هذا لا يختلف المني فيه عن ¬

(¬1) صحيح مسلم (343). (¬2) فقد رواه مسلم (343) من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم، وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان، فصرخ به، فخرج يجر إزاره فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعجلنا الرجل. فقال عتبان: يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن، ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الماء من الماء.

المذي، ثم إن الأصل عدم وجوب الغسل حتى نتيقن أو يغلب على ظننا وجوبه، فالأمر المتيقن هو خروجه في حالة اللذة، وذلك لأنه مجمع عليه، وما عداه فإن الأصل بقاء الطهارة، ولا ننتقل عنها إلا بيقين أو غلبة ظن راجح، والله أعلم.

فرع هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج

فرع هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقيل: لا يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، فإذا انتقل المني من مكانه على وجه اللذة، ثم خرج بعد ذلك من غير لذة وجب عليه الغسل، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد (¬1)، والمشهور من مذهب المالكية (¬2). وقيل: يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، وهو اختيار أبي يوسف رحمه الله (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). وقيل: يجب عليه الغسل إذا انتقل المني من مكانه على وجه اللذة، ولو لم يخرج، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ولا تأتي هذه المسألة على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى؛ لأنه يوجب الغسل بخروج المني مطلقاً، سواء كان لشهوة أم لغير شهوة (¬6). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 67)، البناية (1/ 271)، شرح فتح القدير (1/ 61). (¬2) انظر الخرشي على متن خليل (1/ 162)، الشرح الصغير (1/ 161)، أسهل المدارك (1/ 64). (¬3) المبسوط (1/ 67)، البناية (1/ 271)، شرح فتح القدير (1/ 61) (¬4) جاء في المنتقى للباجي (1/ 100): وقال القاضي أبو الحسن: والظاهر من مذهب مالك أنه إذا لم تقارنه لذة حال خروجه لم يجب عليه غسل. اهـ (¬5) الإنصاف (1/ 230)، كشاف القناع (1/ 141)، (¬6) تقدم العزو إلى مذهب الشافعية في المسألة التي قبل هذه، فانظره مشكوراً.

دليل من قال يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج

ويظهر الفرق بين هذه الأقوال فيمن احتلم، فأمسك ذكره حتى سكنت شهوته، ثم سال منه المني، وكذلك المجامع إذا اغتسل، ثم سال منه بقية المني، فمن قال: يشترط أن تكون اللذة مقارنة لظهوره من الجسد لم يشترط الغسل هنا، ومن قال: لا يشترط، أوجب الغسل، ومن لم يشترط خروج المني، واكتفى بانتقاله على وجه اللذة أوجب الغسل في المسألتين، والله أعلم. دليل من قال يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج. قال: إذا اشترطنا وجود اللذة، فإن المعتبر بوجودها في الحال الذي يجب فيه الغسل، والغسل إنما يجب بخروج المني، لا في انتقاله من مكانه، فإذا كان حال خروجه غير مصحوب بلذة لم يجب الغسل، لأنه في هذه الحالة لا فرق بين خروج المني وخروج المذي، فإن خروج المذي يخرج بعد انكسار الشهوة، ومع ذلك لا يجب فيه غسل. دليل من اشترط أن تكون اللذة حال انتقال المني، ولو لم تكن مقارنة للخروج. قال: الوجوب مبني على أمرين: خروج المني، ووجود اللذة، فإذا وجدت اللذة حال انتقال المني من مكانه، ثم خرج المني بعد ذلك فقد وجد موجب الغسل، وهو خروج المني بسبب الشهوة، ولا فرق بين أن تكون اللذة مقارنة أو غير مقارنة. وصدق عليه حديث أم سلمة " هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم إذا هي رأت الماء ".

دليل من قال: يكفي وجود الشهوة حال انتقال المني ولو لم يخرج المني

دليل من قال: يكفي وجود الشهوة حال انتقال المني ولو لم يخرج المني. قالوا: الغسل يجب بوجود الجنابة، وحقيقة الجنابة: هي تباعد الماء عن مكانه مع وجود الشهوة، هذا أصلها في اللغة قال تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (¬1)، أي البعيد، فإذا انتقل الماء ولو لم يخرج فقد باعد الماء محله، فصدق عليه اسم الجنب، وبالتالي وجب الغسل لوجود الجنابة. وهذا أضعف الأقوال؛ لأن المعتبر في الأحداث ليس انتقالها، وإنما ظهورها، فالريح والبول والغائط والمذي وسائر الأحداث لا عبرة بانتقالها من مكانها حتى تخرج من البدن، فإذا خرجت بطلت الطهارة، فكذلك المني. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق وجوب الاغتسال بالرؤية. قال ابن قدامة: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الاغتسال على الرؤية، وفضخه، بقوله: " إذا رأت الماء " وقوله: " إذا فضخت الماء فاغتسل " فلا يثبت الحكم بدونه، وما ذكره من الاشتقاق لا يصح ; لأنه يجوز أن يسمى جنبا لمجانبته الماء , ولا يحصل إلا بخروجه منه أو لمجانبته الصلاة أو المسجد أو غيرهما مما منع منه, ولو سمي بذلك مع الخروج لم يلزمه وجود التسمية من غير خروج , فإن الاشتقاق لا يلزم منه الاطراد, ومراعاة الشهوة للحكم لا يلزم منه استقلالها به, فإن أحد وصفي العلة وشرط الحكم مراعى له, ولا يستقل بالحكم , ثم يبطل بلمس النساء , وبما إذا وجدت الشهوة هاهنا من غير انتقال; فإن الشهوة لا تستقل بالحكم في الموضعين مع مراعاتها فيه, وكلام أحمد هاهنا إنما يدل على أن الماء إذا انتقل, لزم منه الخروج. وإنما يتأخر, ¬

(¬1) النساء: 36.

الراجح من الخلاف

ولذلك يتأخر الغسل إلى حين خروجه، الخ كلامه رحمه الله تعالى (¬1). الراجح من الخلاف: الراجح، والله أعلم أن الغسل يجب بخروج المني دفقاً بلذة، فإذا تخلف ذلك، فإن كان المانع من قبل الإنسان، بأن أمسك ذكره حتى لا يخرج المني على وجه الدفق، ثم خرج المني بعد ذلك، فإن الغسل يجب عليه، وإن كان المانع ليس من كسب الإنسان، فقد تخلف موجب الغسل، وهو خروجه دفقاً بلذة، والله أعلم. ¬

(¬1) المغني (1/ 129).

المبحث الثاني خروج المني حال النوم

المبحث الثاني خروج المني حال النوم إذا استيقظ من النوم فرأى بللاً في ثوبه فله ثلاث حالات. الأولى: أن يتيقن أنه مني، فهنا يجب عليه الغسل ذكر احتلاماً أو لم يذكر، ولا يشترط أن يكون خروجه دفقاً أو بلذة (¬1)؛ لأن الإنسان في حالة النوم قد يخرج منه المني، وهو لا يشعر. ودليل هذا القول: (1130 - 3) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة أم المؤمنين أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء. ورواه مسلم (¬2). فلم يشترط لوجوب الغسل إلا رؤية الماء. ¬

(¬1) قال ابن نجيم في البحر الرائق (1/ 58): يجب الغسل اتفاقاً فيما إذا تيقن أنه مني وتذكر الاحتلام أو لا. اهـ وقال الإمام مالك في المدونة (1/ 31): من انتبه من نومه فرأى بللاً على فخذه أو في فراشه، قال: ينظر، فإن كان مذياً توضأ، ولم يكن عليه غسل، وإن كان منياً اغتسل. اهـ وانظر في مذهب الحنابلة: الكافي (1/ 55). (¬2) البخاري (282)، ومسلم (313).

الثانية

الحالة الثانية: إذا تيقن أنه مذي. فقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً ذكر احتلاماً أو لم يذكر، وهو قول أبي حنيفة ومحمد (¬1). ووجهه، قالوا: إن المني يرق بإطالة المدة، فتصير صورته صورة المذي، لا حقيقة المذي. فإن قيل: كيف توجبون الغسل في خروج المذي؟ أجاب ابن الهمام: لو تيقن أنه مذي لا يجب الغسل اتفاقاً، لكن التيقن متعذر مع النوم (¬2). ونقل ابن نجيم عن الخلاصة قوله: " ولسنا نوجب الغسل بالمذي، لكن المني يرق بإطالة المدة فتصير صورته صورة المذي، لا حقيقة المذي " (¬3). وقيل: إذا لم يذكر احتلاماً لم يجب عليه الغسل، وهو قول أبي يوسف (¬4). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 59)، شرح فتح القدير (1/ 62)، حاشية ابن عابدين (1/ 163)، وهم يخصون هذا في النائم فقط، أما لو كان مغمى عليه أو كان سكران فأفاق، فوجد مذياً فلا غسل عليه. ووجه الفرق: أن النوم مظنة الاحتلام، بخلاف المغمى عليه والسكران. كما أن بعض كتب الحنفية تذكر خلافاً في مسألة: ما إذا وجد مذياً ولم يتذكر الاحتلام، فعند أبي حنيفة ومحمد يجب عليه الغسل، وعند أبي يوسف لا يجب عليه الغسل، وبعضهم لا يذكر هذا الخلاف، ولعلهم لا يذكرونه اقتصاراً، والله أعلم. (¬2) شرح فتح القدير (1/ 62). (¬3) البحر الرائق (1/ 59). (¬4) شرح فتح القدير (1/ 62).

الثالثة

وقيل: لا يجب عليه الغسل مطلقاً ذكر احتلاماً أو لم يذكر، وهو مذهب الجمهور (¬1). ودليله ظاهر، وذلك أن المذي لا يوجب الغسل، وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غسل ذكره، والوضوء منه، فقط كما في قصة علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وقد تقدم ذكره وتخريجه. الحالة الثالثة: أن يشك هل هو مني أو مذي؟ فقيل: إذا شك هل هو مني أو مذي، وذكر احتلاماً فإنه يجب عليه الغسل قولاً واحداً في مذهب الحنفية (¬2). وإذا شك، ولم يذكر احتلاماً، فإنه يجب عليه الغسل عند أبي حنيفة ومحمد، ولا يجب عند أبي يوسف (¬3). وقيل: يجيب عليه الغسل مطلقاً مع الشك، وهو مذهب المالكية (¬4). ¬

(¬1) سبق لنا قول الإمام مالك في المدونة (1/ 31): من انتبه من نومه فرأى بللاً على فخذه أو في فراشه، قال: ينظر، فإن كان مذياً توضأ، ولم يكن عليه غسل، وإن كان منياً اغتسل. اهـ وانظر في مذهب الحنابلة: الكافي (1/ 55). (¬2) شرح فتح القدير (1/ 62)، البحر الرائق (1/ 59). (¬3) انظر المرجعين السابقين. (¬4) قال في الشرح الصغير (1/ 162): " من انتبه من نومه، فوجد بللاً في ثوبه أو بدنه، فشك هل هو مني أو مذي، وجب عليه الغسل؛ لأن الشك مؤثر في إيجاب الطهارة، بخلاف الوهم، فمن ظن أنه مذي، وتوهم في المني فلا يجب عليه الغسل، فلذا لو شك بين ثلاثة أمور: كمني ومذي وودي لم يجب الغسل؛ لأن تعلق التردد بين ثلاثة أشياء، يصير كل فرد من أفرادها وهماً. اهـ

الراجح

وقيل: لا يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: إذا رأى بللاً وجهل كونه منياً، فإن لم يتقدم نومه سبب من نظر أو فكر أو ملاعبة أو انتشار وجب عليه الغسل، وإن تقدم نومه سبب مما سبق لم يجب عليه الغسل، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). والراجح: أنه لا يجب عليه الغسل مع الشك حتى يتيقن موجب الغسل، أو يغلب على ظنه؛ لأن القاعدة: أن الشك لا يقضي على اليقين. ¬

(¬1) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 241)، المجموع (2/ 162). (¬2) كشاف القناع (1/ 139)، الإنصاف (1/ 228 - 229).

فرع إذا التذ في نومه ثم خرج منه المني في اليقظة من غير لذة اختلف الفقهاء في هذه المسألة، هل يجب عليه الغسل؟ فقيل: يجب، وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن (¬1)، وأشهر القولين في مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: لا يجب، وهو قول أبي يوسف، وقول في مذهب المالكية (¬5). وأدلة هذه المسألة هي الأدلة نفسها والتي ذكرناها في مسألة سابقة: وهي هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، أو يكفي أن يجد اللذة حال انتقال المني، فإذا خرج بعد ذلك المني ولو بدون شهوة فقد وجب الغسل؟ وما دمنا قد ذكرنا الأدلة في تلك المسألة فلا حاجة إلى إعادتها هنا، والله أعلم. ¬

(¬1) سبق لنا أن مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن لا يشترطان أن تكون اللذة مقارنة لخروج المني، فيكفي أن يجد اللذة حال انتقال المني، بخلاف أبي يوسف فإنه يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، وقد سبق العزو إلى مذهبهم في المسألة السابقة، وهذه المسألة ترجع إلى تلك المسألة، فمن اشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، لم ير وجوب الغسل، ومن لم يشترط قال بوجوبه، والله أعلم. (¬2) مواهب الجليل (1/ 307)، وقال في الشرح الصغير (1/ 161): " ويلفق حالة النوم لحالة اليقظة، فإذا التذ في نومه، ثم خرج منه المني في اليقظة بعد انتباهه من غير لذة اغتسل. اهـ (¬3) يرى الشافعية أن وجوب الغسل متعلق بخروج المني، كيفما خرج، ولا يشترطون اللذة أصلاً لوجوب الغسل، انظر المجموع (2/ 158). (¬4) يرى الحنابلة وجوب الغسل بمجرد انتقال المني، ولو لم يخرج، فإذا انتقل المني من مكانه بشهوة، فقد وجب الغسل، خرج المني أو لم يخرج، انظر: الإنصاف (1/ 230)، كشاف القناع (1/ 141). (¬5) مواهب الجليل (1/ 307).

المبحث الثالث في تكرار خروج المني

المبحث الثالث في تكرار خروج المني إذا اغتسل ثم خرج المني منه مرة ثانية، فهل يعيد الاغتسال؟ فقيل: لا يجب الغسل، وهو مذهب المالكية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجب الغسل، وهو مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب أحمد (¬4). وقيل: يجب إذا خرج قبل البول أو النوم أو المشي الكثير، فإن خرج بعد البول أو النوم أو المشي الكثير لم يجب، وهو مذهب الحنفية (¬5). وقيل: عكسه، أي يجب الغسل إن خرج بعد البول، فإن خرج قبل البول لم يجب به غسل، وهو مذهب الأوزاعي (¬6). دليل القائلين بعدم وجوب الغسل. ذكروا لحجتهم أكثر من تعليلك ¬

(¬1) الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 155)، الشرح الصغير (1/ 162)، (¬2) جاء في الإنصاف (1/ 231): " قال الخلال: تواترت الروايات عن أبي عبد الله أنه ليس عليه إلا الوضوء، بال أو لم يبل، على هذا استقر قوله. قال المصنف والشارح وابن عبيدان: هذا المشهور عن أحمد ". وانظر كشاف القناع (1/ 141)، المقنع في شرح مختصر الخرقي (1/ 233)، الفروع (1/ 197)، المبدع (1/ 179). (¬3) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 239)، الحاوي (1/ 216) المجموع (2/ 158). (¬4) الهداية (1/ 18)، المقنع شرح مختصر الخرقي (1/ 233). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 160)، تبيين الحقائق (1/ 16)، وهذا القول هو رواية عن أحمد إلا أنه اقتصر على ذكر البول دون النوم والمشي، انظر الإنصاف (1/ 231). (¬6) الحاوي الكبير (1/ 216).

دليل من قال: يجب عليه الغسل مطلقا

منها: أن هذا مني واحد، يوجب غسلاً واحداً، كما لو خرج دفعة واحدة ومنها: أنه خارج لغير شهوة، وإنما يجب الغسل بخروج المني لشهوة، وبه علل أحمد: قال: لأن الشهوة ماضية، وإنما هو حدث أرجو أن يجزيه الوضوء (¬1). دليل من قال: يجب عليه الغسل مطلقاً. الدليل الأول: عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الماء من الماء " فلم يفرق بين ماء وآخر. وأجيب: بأن مطلق قوله - صلى الله عليه وسلم - الماء من الماء غير مراد، بدليل أن الرجل لو أولج ذكره في قبل امرأة حتى التقى الختانان وجب عليهما الغسل، وإن لم يكن هناك ماء منهما، فالمراد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: الماء من الماء، هو جواب على سؤال، وهو إذا احتلمت المرأة في المنام، فهل يجب عليها الغسل بمجرد الاحتلام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: الماء من الماء. وكذلك قاله - صلى الله عليه وسلم - في أول الإسلام لمن جامع امرأته، ثم نزع قبل أن ينزل، وقد نسخ هذا الأمر بعد، وصار الغسل واجباً بالتقاء الختانين، كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة، والله أعلم. الدليل الثاني: ولأن هذا ماء آدمي خرج من محله، فأوجب الغسل، كما لو خرج ابتداء. ولأن ما أوجب الغسل في الأول أوجبه في الثانية بلا فرق. ¬

(¬1) كشاف القناع (1/ 142).

دليل من قال: يجب عليه الغسل إن خرج قبل البول

وقد أجيب: بأن الغسل إنما يجب بخروجه دفقاً بلذة، كما سبق التدليل على ذلك، وهذا ما لم يوجد مع الماء الثاني. دليل من قال: يجب عليه الغسل إن خرج قبل البول. قالوا: إن خرج بعد البول، فإن هذا ماء جديد لا علاقة له بالماء الأول، وقد خرج بدون شهوة، فلا يجب به غسل، وإن خرج قبل البول فهو جزء من الماء السابق، وقد خرج مع الشهوة فيوجب غسلاً جديداً. دليل من قال: يجب عليه الغسل إن خرج بعد البول. عكسوا التعليل السابق، فقالوا: إن ما قبل البول هو من المني الأول، وكفاه الغسل الأول، وما بعد البول هو مني ثان، فلزمه غسل ثان. الراجح من الخلاف: القول بعدم وجوب الغسل مرة أخرى، لأنه موجب واحد، لم يتعدد، وقد اغتسل له، فلا يوجب غسلين، ولأنه بقية الماء السابق، وقد خرج بدون شهوة، فيكتفى في الغسل الأول، والله أعلم.

الفرع الأول في الرجل يذكر احتلاما ولم ير بللا

الفرع الأول في الرجل يذكر احتلاماً ولم ير بللاً اختلف العلماء فيمن رأى احتلاماً ولم ير بللاً، فقيل: لا يجب عليه الغسل، وهو قول عامة أهل العلم (¬1). قال الترمذي: إذا رأى احتلاماً ولم يرى بلة، فلا غسل عليه عند عامة أهل العلم (¬2). وقيل: يجب عليه الغسل، وهو رواية عن أحمد (¬3). وقيل: يجب على المرأة دون الرجل، وهو قول في مذهب الحنفية (¬4). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (1/ 62)، وانظر في مذهب المالكية: المنتقى للباجي (1/ 106)، وفي مذهب الشافعية: البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 241)، الأوسط (2/ 83)، وفي مذهب الحنابلة انظر المغني لابن قدامة (1/ 130)، (¬2) سنن الترمذي عقب حديث (113). (¬3) قال ابن رجب في شرحه للبخاري (1/ 283): " حكى ابن أبي موسى من أصحابنا رواية عن أحمد أنه إذا رأى في منامه احتلاماً ووجد لذة الإنزال في منامه، ولم يجد بللاً عند استيقاضه أنه يلزمه الغسل، وبناه على قول الإمام أحمد المشهور عنه أن المني إذا انتقل من محله، ولم يخرج، فإنه يجب الغسل بانتقاله .... الخ كلامه رحمه الله. وقال في الإنصاف (1/ 229): إذا احتلم ولم يجد بللاً: لم يجب الغسل على الصحيح من المذهب. وعليه الأصحاب، وحكاه ابن المنذر وغيره إجماعاً. وعنه يجب. قال الزركشي: وأغرب ابن أبي موسى في حكايته رواية الوجوب. وعنه يجب إن وجد لذة الإنزال، وإلا فلا. اهـ (¬4) التفريق بين الرجل والمرأة أن الرجل يقذف الماء قذفاً دون المرأة، وبناء عليه فرق هذا القول بين الرجل والمرأة: انظر شرح فتح القدير (1/ 62).

دليل القائلين بعدم وجوب الغسل

دليل القائلين بعدم وجوب الغسل. الدليل الأول: الإجماع، قال ابن المنذر: " أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا رأى في نومه أنه احتلم أو جامع، ولم يجد بللاً، أنه لا غسل عليه (¬1). وقال ابن الهمام: ولو تذكر الاحتلام والشهوة، ولم ير بللاً لا يجب اتفاقاً (¬2). وسبق أن نقلت لك خلافاً في المسألة في معرض ذكر الأقوال، فتكون حكاية الإجماع فيها نظر، والله أعلم. الدليل الثاني: (1131 - 4) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة أم المؤمنين، أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء، ورواه مسلم (¬3). وجه الاستدلال: لم يوجب عليه الصلاة والسلام الغسل بمجرد الاحتلام، وإنما شرط رؤية الماء. ¬

(¬1) الأوسط (2/ 83). (¬2) شرح فتح القدير (1/ 62). (¬3) البخاري (282)، ومسلم (313).

دليل من قال: يجب عليه الغسل

دليل من قال: يجب عليه الغسل. استدلوا بما استدلوا به في مسألة سابقة، من وجوب الغسل على الرجل في انتقال المني من محله، ولو لم يخرج، وقد أجيب على دليلهم هناك، وتبين ضعف هذا الدليل، وما بني على دليل ضعيف فهو ضعيف، ويضاف إليه أنه على التسليم بوجوب الغسل بمجرد انتقال المني، فإنه هنا قد لا يتحقق انتقال المني بمجرد ذكر الاحتلام، ووجود اللذة في النوم، فقد يجد النائم كل ذلك ولا ينتقل المني من مكانه، والله أعلم. دليل من فرق بين الرجل والمرأة. قالوا: إن ماء المرأة لا يكون دافقاً كالرجل، وبالتالي قد يوجد منها الماء، ولا يخرج، فإذا وجدت شهوة الإنزال كان عليها الغسل (¬1). وهذا التعليل ضعيف، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سئل: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء. وسبق تخريجه قبل قليل. فعلق الاغتسال على الرؤية، وهي لا تراه إلا إذا خرج منها، فإذا لم يخرج منها لم يجب عليها الغسل. وقال ابن الهمام: المراد بالرؤية العلم مطلقاً، بدليل أنها لو تيقنت الإنزال بأن استيقظت في فور الاحتلام، فأحست بيدها البلل، ثم نامت فما استيقظت حتى جف، فلم تر بعينها شيئاً لا يسع القول بأن لا غسل عليها، مع أنه لا رؤية بصر، بل رؤية علم، ورأى يستعمل حقيقة في معتى علم باتفاق اللغة (¬2). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 63). (¬2) المرجع السابق.

ويجاب عن هذا القول: بأن رأى البصرية غير رأى بمعنى علم، فالأولى تتعدى إلى مفعول واحد، والثانية تتعدى إلى مفعولين، وعليه فرأى في الحديث بصرية، وليست علمية، والاعتراض الذي ساقه ابن الهمام لا يعارض الحديث، فإن الإنسان إذا حس المني بيده صار كمن رأه في عينه، وليست المسألة ظاهرية بحته، المهم أن يتحقق من خروج المني بيده كالأعمى، أو بعينه، ولكن أين الدليل على وجوب الغسل على امرأة لم يخرج منها الماء يقيناً، ولم تحسه مطلقاً لا في يدها ولا في عينها، وإنما وجدت اللذة فقط، وإذا كان ابن الهمام ينقل الإجماع على أن الرجل لا بد أن يرى الماء، ولا يكفي الإحساس باللذة، فكذلك المرأة، بل المرأة ورد فيها نص نبوي بخلاف الرجل، والله أعلم.

الفرع الثاني إذا رأى منيا في ثوب ينام فيه هو وغيره

الفرع الثاني إذا رأى منياً في ثوب ينام فيه هو وغيره اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقيل: يجب الغسل عليهما، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يندب الغسل في حقهما، ولا يجب، وهو اختيار ابن العربي من المالكية (¬2). وقيل: يجب الغسل عليهما إن كانا غير زوجين، وإن كانا زوجين اغتسل الزوج فقط، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬3). وقيل: لا غسل على واحد منهما، وهذا مذهب الشافعية (¬4)، ¬

(¬1) قال ابن الهمام في شرح فتح القدير (1/ 62): " ولو وجد الزوجان بينهما ماء، دون تذكر ولا مميز: بأن لم يظهر غلظه ورقته، ولا بياضه ولا صفرته، يجب عليهما الغسل، صححه في الظهيرية، ولم يذكروا القيد، فقالوا: يجب عليهما، وقيل: إذا كان غليظاً أبيض فعليه، أو رقيقاً أصفر فعليها، فيفيدونه بصورة نقل الخلاف، والذي يظهر تقييد الوجوب بما ذكرنا، فلا خلاف إذاً ". اهـ وانظر البحر الرائق (1/ 59). (¬2) الشرح الصغير (1/ 163). (¬3) الشرح الصغير (1/ 163)، (¬4) قال الماوردي في الحاوي (1/ 213): لو رأى رجل المني في ثوب هو لا بسه، ولم يحس من نفسه الإنزال فيه، فلا يخلو حال ذلك الثوب من أن يلبسه غيره أم لا، فإن لبسه غيره فلا غسل عليه؛ لجواز أن يكون غيره، ولا على ذلك الغير لجواز أن لا يكون ذلك منه، وإن كان ذلك الثوب لا يلبسه غيره، أو لم يلبسه غيره منذ غسله، وقد كان يلبسه غيره قبل الغسل، نظر فيه: فإن كان المني من ظاهره، فلا غسل عليه لجواز أن يكون قد لا قى منياً على ثوب غيره فتعدى عليه، أو قد حاكه رجل أنزل فوقع منيه على ثوبه، فإن كان المني من داخل الثوب فالغسل عليه واجب؛ لعلمنا أنه منه، وامتناع كونه من غيره. اهـ

دليل من قال بوجوب الغسل عليهما

والحنابلة (¬1)، وقول في مذهب الحنفية (¬2). دليل من قال بوجوب الغسل عليهما. الطهارة شرط في صحة الصلاة، ولا بد من تيقن تحققها، فإذا رأى المني في ثوبهما لم يتحقق كل واحد منهما من تحقيق الطهارة، وأصبحت طهارة كل واحد منهما مشكوكاً فيها؛ لاحتمال أن يكون الماء منه، ولا بد من اليقين في قيام الطهارة، ولذا وجب الغسل عليهما. دليل من قال: لا يجب الغسل على واحد منهما. قدم تعليلاً عكس التعليل السابق، فقال: الطهارة متيقنة، والحدث مشكوك فيه، والشك لا يقضي على اليقين، فنستصحب اليقين حتى نتيقن زواله، ولهذه القاعدة دليل صحيح صريح من السنة، (1132 - 5) بما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب ح وعن عباد بن تميم، عن عمه أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً (¬3). ¬

(¬1) قال في الإنصاف (1/ 229): " لا يجب الغسل إذا رأى منياً في ثوب ينام فيه هو وغيره، وكانا من أهل الاحتلام على الصحيح من المذهب. وعنه يجب ". اهـ وانظر كتاب المغني (1/ 130)، كشاف القناع (1/ 140). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 130)، (¬3) صحيح البخاري (137) ومسلم (361).

دليل من قال: إن كانا زوجين وجب الغسل على الزوج

دليل من قال: إن كانا زوجين وجب الغسل على الزوج. قالوا: أوجبنا الغسل على الرجل دون المرأة؛ عملاً بالغالب، وهو أن الرجل هو الذي يخرج ماؤه غالباً إلى ثوبه مع الاحتلام دون المرأة. وهذا التعليل عليل، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين سئل، هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فالحديث له منطوق ومفهوم: منطوقه: أن الغسل واجب على المرأة إذا رأت الماء، ومفهومه: أن الغسل غير واجب عليها إذا لم تر الماء، فكيف نقول: إن المرأة ممكن أن تحتلم، ويجب عليها الغسل، ولا يظهر منها الماء الموجب لذلك. دليل من قال: يستحب الغسل منهما. أن وجود المني على الثوب دليل على أن أحدهما محدث لا بعينه، فلا يجب الغسل على واحد منهما، لعدم التعيين، ولكن قد تيقن موجب الطهارة من أحدهما لا بعينه، ولهذا يذهب بعضهم إلى أنه لا يأتم أحدهما بالآخر كما لو سمعا ريحاً من أحدهما ولا يعلم من أيهما، فيستحب الاغتسال منهما حتى نتيقن حصول الطهارة منهما، وحتى نخرج من خلاف العلماء، والله أعلم. الراجح: أن الطهارة ليست واجبة، والاستحباب دليل شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، والأصل بقاء الطهارة، وعدم الحدث حتى نتيقن حصوله من أحدهما، والله أعلم.

الفرع الثالث في الرجل يجامع دون الفرج ثم يدب ماؤه فيدخل في الفرج ثم يخرج

الفرع الثالث في الرجل يجامع دون الفرج ثم يدب ماؤه فيدخل في الفرج ثم يخرج إذا جامع الزوج دون الفرج ثم دب ماءه فدخل في فرج المرأة، ثم خرج منها فهل يوجب ذلك غسلاً، اختلف العلماء في هذا، فقيل: لا غسل عليه إلا أن يظهر عليها الحبل من هذا الماء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2). وقيل: لا غسل عليها مطلقاً، اختاره بعض المالكية (¬3)، وهو مذهب الشافعية (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، واختاره ابن حزم رحمه الله تعالى (¬6). وقيل: عليها الغسل بشرط أن يحصل منها لذة بذلك، وهو قول في مذهب المالكية (¬7). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 16)، الفتاوى الهندية (1/ 15). (¬2) منح الجليل (1/ 122)، حاشية العدوي على الخرشي (1/ 165). (¬3) الخرشي (1/ 165)، الفواكه الدواني (1/ 116)، وقال في الذخيرة (1/ 293): وعدم الوجوب رواية لابن القاسم عن مالك. (¬4) المجموع (2/ 173)، روضة الطالبين (1/ 85). (¬5) الإنصاف (1/ 232)، المستوعب (1/ 225). (¬6) المحلى (1/ 254). (¬7) قال القرافي في الذخيرة (1/ 293): " إذا جامع دون الفرج، فأنزل، ووصل ماؤه إلى فرجها، فإن أنزلت يجب الغسل، وإن لم تنزل، ولم تلتذ لم يجب، وإن التذت، ولم يظهر منها إنزال فقولان: الوجوب؛ لأن التذاذها قد يحصل به الإنزال، وهو الغالب، وهو مقتضى قول مالك رحمة الله عليه في الكتاب لقوله: لا يجب عليها إلا أن تكون قد التذت، وعدم الوجوب رواية لابن القاسم عن مالك". اهـ

دليل من قال: لا غسل عليها

وقيل: عليها الغسل بشرط أن يخرج من الفرج بعد دخوله، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1)، وهو وجه في مذهبي الشافعية (¬2)، والحنابلة، اختاره ابن عقيل (¬3)، وهو مروي عن عطاء والزهري وقتادة (¬4). تعليل الحنفية: أن الحبل منها دليل على أنها قد حصل منها إنزال؛ لأن الولد يخلق من مائهما. ويجاب عن هذا: بأن هذا الاعتقاد بأن الجنين يخلق من ماء المرأة والرجل رأيته في بعض كتب فقه الحنفية والمالكية، والطب قد حسم هذه المسألة، وثبت له أن الولد إنما يخلق من ماء الرجل وبويضة المرأة، وليس لماء المرأة أي دور في تخلق الجنين بإذن الله تعالى، فإذا صادف جماع الرجل نزول البويضة حبلت، سواء أنزلت أم لم تنزل، وإذا لم يصادف ذلك نزول البويضة لم تحبل، ولو أنزلت، وهذا الأمر أصبح من الحقائق الطبية. دليل من قال: لا غسل عليها: بأن الغسل إنما يجب بخروج مائها، أو بإيلاج الذكر، ولم يحصل منها ¬

(¬1) تبين الحقائق (1/ 16). (¬2) قال النووي في المجموع (2/ 172): " حكى القفال والمتولي والبغوي وغيرهم من الخرسانيين وجهاً شاذاً أنه يلزمها الغسل، وهو قول الشيخ أبي زيد المروزي ". ثم قال النووي: وهو غلط، وإن كثر قائلوه أو ناقلوه. الخ كلامه رحمه الله تعالى. (¬3) الإنصاف (1/ 232)، (¬4) المحلى (1/ 254)، المجموع (2/ 172).

دليل من قال: يجب عليها الغسل

إنزال ولم يحدث إيلاج، فلم يجب الغسل، وخروج هذا الماء الأجنبي منها شأنه شأن خروج ماء الاستنجاء ونحوه، وآخر ما يمكن أن يلحق به هو البول، لا غير، والله أعلم. دليل من قال: يجب عليها الغسل. لعله نظر إلى أن موجب الحدث هو خروج المني من فرج المرأة، والمقصود مطلق المني، سواء كان منها أو من غيرها. وهذا التعليل ضعيف جداً؛ لأن مرور الماء من المخرج ليس هو الموجب، للغسل، ولذلك لم يوجب الغسل خروج دم الاستحاضة، مع أنه دم خارج من المرأة نفسها، وإنما الموجب خروج الماء على صفة مخصوصة توجب فتور البدن وانكسار الشهوة، فلو خرج ماؤها على غير هذه الصفة لم يوجب الغسل كما بينا حتى يكون خروجه على وجه اللذة، فكيف بخروج ماء غيرها، والله أعلم. دليل من اشترط اللذة. قال: إن اللذة قد يحصل منها إنزال في الغالب، وهي لا تدري، فأقيمت اللذة مقام تحقق نزول المني، لكون اللذة هي سبب الإنزال. وهذا القول ضعيف أيضاً، ولا يوجد دليل من السنة أن اللذة من موجبات الغسل، وقد تحصل اللذة ولا يحصل الإنزال، وقد علق الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل برؤية الماء، فقال لأم سليم حين سألته هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت، فقال: نعم، إذا رأت الماء، والله أعلم.

الفصل الثاني من موجبات الغسل التقاء الختانين ولو لم يحصل إنزال

الفصل الثاني من موجبات الغسل التقاء الختانين ولو لم يحصل إنزال إذا التقى الختانان، فهل يوجب هذا الغسل؟ اختلف العلماء في ذلك، فقيل: يوجب الغسل، وهو مذهب الأئمة (¬1). قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، والفقهاء من التابعين ومن بعدهم: مثل سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، قالوا: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل (¬2). اهـ وقيل: لا يوجب الغسل، اختاره جمع من الصحابة والتابعين (¬3)، وهو مذهب داود الظاهري (¬4)، وقال البخاري: الغسل أحوط، فلعله لا يرى الوجوب (¬5). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 36)، تبيين الحقائق (1/ 16)، شرح فتح القدير (1/ 63)، البحر الرائق (1/ 61). وفي مذهب المالكية، انظر: المدونة (1/ 135)، المنتقى للباجي (1/ 96)، موهب الجليل (1/ 308)، الخرشي (1/ 163). وفي مذهب الشافعية، انظر: المجموع (2/ 148)، نهاية المحتاج (1/ 212)، وفي مذهب الحنابلة انظر: المغني (1/ 131)، الإنصاف (1/ 232)، كشاف القناع (1/ 142). (¬2) سنن الترمذي (1/ 182). (¬3) سوف يأتي إن شاء الله تعالى الآثار عنهم مسندة في ثنايا بحث هذه المسألة. (¬4) المنتقى للباجي (1/ 96)، المغني (1/ 131). (¬5) صحيح البخاري (1/ 111)، وهذه العبارة تارة تساق لترجيح قول على قول، وتارة تكون ظاهرة في عدم الوجوب، وإنما الغسل من باب الاحتياط، وقد تكون إشارة إلى أن الخلاف في المسألة قوي جداً، وإن كان البخاري رحمه الله قد يرى الوجوب. =

*

وسبب الخلاف في ذلك: ما جاء من النصوص الصحيحة الصريحة في عدم إيجاب الغسل من مجرد الإيلاج حتى يحصل إنزال، وقد قيل: إن هذا الحكم كان في أول الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم بالأمر بالغسل بالتقاء الختانين، ولو لم يكن إنزال، فمن بلغه النسخ أخذ به، ومن لم يبلغه النسخ، لم يوجب الغسل حتى يحصل الإنزال، وإليك أدلة كل قول. دليل من قال: لا يجب الغسل بالتقاء الختانين حتى ينْزل. الدليل الأول: (1133 - 6) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني أبو سلمة، أن عطاء بن يسار أخبره، أن زيد بن خالد الجهني أخبره، أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال: عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب، ¬

_ = قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 398): استشكل بن العربي كلام البخاري، فقال: إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم، وما خالف فيه إلا داود، ولا عبرة بخلافه، وإنما الأمر الصعب مخالفة البخاري، وحكمه بأن الغسل مستحب، وهو أحد أئمة الدين وأجلة علماء المسلمين، ثم أخذ يتكلم في تضعيف حديث الباب بما لا يقبل منه، وقد أشرنا إلى بعضه ثم قال: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بقوله: الغسل أحوط أي في الدين، وهو باب مشهور في الأصول، قال: وهو أشبه بإمامة الرجل وعلمه. قال الحافظ: وهذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك الغسل، وإنما ترجم ببعض ما يستفاد من الحديث من غير هذه المسألة. الخ كلامه رحمه الله تعالى. وقول ابن العربي: إيحاب الغسل أطبق عليه الصحابة فمن بعدهم كلام فيه نظر كبير، وقد رده الحافظ ابن حجر، وسوف ننقل كلامه بحروفه في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى.

والزبير ابن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب رضي الله عنهم، فأمروه بذلك. قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة، أن عروة بن الزبير أخبره، أن أبا أيوب أخبره، أنه سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه مسلم أيضاً (¬1). فهذان حديثان مسندان، عن عثمان وأبي أيوب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صريحان في عدم إيجاب الغسل على من جامع، ولم ينزل. وأجيب عن هذا بجوابين: الأول: انفراد يحيى بن أبي كثير بهذا الحديث. قال ابن عبد البر: هو حديث انفرد به يحيى بن أبي كثير، وقد جاء عن عثمان وعلي وأبي بن كعب ما يدفعه من نقل الثقات الأثبات ويعارضه، وقد دفعه جماعة منهم: أحمد بن حنبل وغيره، وقال علي وأبي بخلافه قال يعقوب بن شيبة: سمعت علي بن المديني وذكر حديث يحيى بن أبي كثير هذا، فقال: إسناده جيد، ولكنه حديث شاذ، قال: وقد روي عن عثمان، وعلي، وأبي بن كعب، أنهم أفتوا بخلافه ثم قال: وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل حديث حسين المعلم، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال: سألت خمسة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وأبي بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، فيه علة تدفعه بها؟ قال: نعم؛ بما يروى عنهم من خلافه، قلت: عن عثمان، وعلي، وأبي بن كعب؟ قال: نعم. ¬

(¬1) البخاري (292)، ومسلم (347).

والحق أن الأحاديث في هذا الباب كثيرة، قال الحافظ ابن حجر: وفي الباب عدة أحاديث في عدم الإيجاب (¬1). قلت: منها ما رواه البخاري ومسلم من طريق عروة، عن أبي أيوب، عن أبي بن كعب مرفوعاً. ومنها ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي صالح السمان، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. وكل هذه الأحاديث في الصحيحين، وسوف نأتي إن شاء الله تعالى على ذكر هذه المتون، ولو لم يرد في هذا الباب إلا حديث يحيى ابن أبي كثير لقيل ربما يكون معلولاً بالتفرد، وربما يحمل كلام الإمام أحمد على الترجيح بينها، وليس مراده الحكم بوهم الراوي فيما روى. قال الحافظ ابن حجر: وقد حكى الأثرم، عن أحمد أن حديث زيد بن خالد المذكور في هذا الباب معلول؛ لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث، وقد حكى يعقوب بن شيبة، عن علي بن المديني أنه شاذ، والجواب عن ذلك أن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده، وحفظ رواته، وقد روى ابن عيينة أيضا، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة، عن عطاء، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، فليس هو فرداً، وأما كونهم أفتوا بخلافه فلا يقدح ذلك في صحته؛ لاحتمال أنه ثبت عندهم ناسخه فذهبوا إليه، وكم من حديث منسوخ، وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية. اهـ (¬2). ¬

(¬1) تلخيص الحبير (1/ 235). (¬2) فتح الباري (1/ 397).

الدليل الثاني

وقد ثبت الخلاف بين الصحابة في هذه المسألة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري، عن عائشة. كما ثبت الخلاف بعد الصحابة من التابعين، رحمهم الله تعالى، والله أعلم. الجواب الثاني: أن هذا الحديث كان في أول الإسلام، ثم نسخ في إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل. وسوف أسوق إن شاء الله تعالى في أدلة القول الثاني ما ورد في هذا الباب. الدليل الثاني: (1134 - 7) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني أبو أيوب، قال: أخبرني أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينْزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي (¬1). وأخرجه مسلم أيضاً. الدليل الثالث: (1135 - 8) ما رواه البخاري من طريق النضر، قال: أخبرنا شعبة، عن الحكم، عن ذكوان أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى رجل من الأنصار، فجاء، ورأسه يقطر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لعلنا أعجلناك؟ فقال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أعجلت أو قحطت فعليك الوضوء. ¬

(¬1) البخاري (293)، ومسلم (346).

قال البخاري: تابعه وهب، قال: حدثنا شعبة، قال أبو عبد الله: ولم يقل غندر ويحيى، عن شعبة الوضوء. ورواه مسلم أيضاً (¬1). (1136 - 9) وفي رواية لمسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان، فصرخ به، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعجلنا الرجل. فقال عتبان: يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الماء من الماء (¬2). وأجيب عنه بجوابين: الأول: قال ابن عبد البر: هذا إسناد صحيح من جهة النقل ثابت، ولكنه يحتمل التأويل؛ لأن قوله (الماء من الماء) ليس فيه ما يدفع الماء من التقاء الختانين؛ لأن من أوجب الغسل من التقاء الختانين يقول: الماء من الماء ومن التقاء الختانين أيضا، فهي زيادة حكم (¬3). ويجاب عن هذا: بأن هناك فرقاً بين قولنا: الماء من الماء، وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الماء من الماء. فاللفظ الثاني يدل على الحصر، بطريقة النفي والإثبات، لأن معناه: لا ماء واجب إلا من الماء النازل، بخلاف قولنا: الماء من الماء، فهو لا يمنع الزيادة. ¬

(¬1) البخاري (180)، ومسلم (345). (¬2) مسلم (343). (¬3) التمهيد (23/ 108).

الجواب الثاني: قالوا: إن المراد " الماء من الماء " في الاحتلام لا في اليقظة، وهذا مجمع عليه، فيمن رأى أنه يجامع ولم ينزل أنه لا غسل عليه، وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس. (1137 - 10) فقد روى الترمذي رحمه الله، من طريق شريك، عن أبي الجحاف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إنما الماء من الماء في الاحتلام. قال أبو عيسى: سمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: لم نجد هذا الحديث إلا عند شريك (¬1). [ضعيف الإسناد] (¬2). وأجيب: أولاً: ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ضعيف، لا يثبت من جهة الإسناد. ثانياً: حديث أبي سعيد الخدري يأباه، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - جواباً على سؤال من عتبان، وقد اغتسل عتبان قبل أن ينزل، فقال عتبان: يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن، ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما ¬

(¬1) سنن الترمذي (112). (¬2) في إسناده شريك بن عبد الله النخعي، سيء الحفظ، وقد انفرد به كما أشار إلى ذلك وكيع رحمه الله، وقد أخرجه الطبراني (11/ 304) رقم: 11812 عن عبد الله بن أحمد، ثنا محمد بن الصباح، ثنا شريك به.

دليل من قال: يجب الغسل بالتقاء الختانين ولو لم ينزل

الماء من الماء. رواه مسلم، وسبق تخريجه. فهذا دليل على أن حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إنما الماء من الماء ليس خاصاً في الاحتلام، بل هو محكم في النائم واليقظان. (1138 - 11) ثالثاً: أن ما وراه البخاري ومسلم وتقدم لفظه، عن زيد ابن خالد الجهني، أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن، قال: عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب والزبير ابن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبي بن كعب رضي الله عنهم فأمروه بذلك. سبق تخريجه. فقوله: إذا جامع الرجل امرأته، ولم يمن صريح في إنه قد وقع الجماع، فليس الحديث عن الاحتلام، ولا عن المباشرة فيما دون الجماع. دليل من قال: يجب الغسل بالتقاء الختانين ولو لم ينْزل. لهم أدلة تنص على وجوب الغسل بالتقاء الختانين ولو لم يحصل إنزال، وأدلة تنص على نسخ الحكم الأول من كون الغسل لا يجب بالإكسال، أما الأدلة التي تذكر وجوب الغسل بالتقاء الختانين، فمنها: الدليل الأول: (1139 - 12) ما رواه البخاري من طريق قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل. وأخرجه مسلم أيضاً (¬1). ¬

(¬1) البخاري (291) ومسلم (348).

وأجيب: بأن الحديث ليس صريحاً في وجوب الغسل بمجرد التقاء الختانين، لأن قوله " ثم جهدها " يحتمل أنه أراد بالجهد الإنزال، لأنه هو الغاية في الأمر، فلا يكون فيه دليل. وأجيب: بأنه قد رواه مسلم من طريق مطر، عن الحسن به، وزاد: وإن لم ينْزل (¬1). بل وقع التصريح حتى في بعض طرق قتادة (¬2). ¬

(¬1) مسلم (348). (¬2) فقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1/ 321) عن حماد بن سلمة، عن قتادة به، وزاد: أنزل أو لم ينْزل. ورواه البيهقي في السنن (1/ 163) من طريق يزيد بن زريع، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به، بالزيادة نفسها. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 396) ورواه ابن أبي خيثمة في تاريخه، عن عفان، قال: حدثنا همام وأبان، قالا: حدثنا قتادة به، وزاد في آخره: أنزل أو لم ينْزل. قلت: هذا الطريق هو في مسند أحمد (2/ 347) يرويه الإمام أحمد، عن عفان، حدثنا همام وأبان به، وفي آخره: أنزل أو لم ينْزل. ... = = ورواه الدارقطني في سننه (1/ 112) من طريق علي بن سهل، حدثنا عفان به بالزيادة نفسها. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 56) من طريق عفان به، إلا أنه لم يذكر متنه، بل أحال إلى متن سابق. فعلى هذا يكون طريق مطر، عن الحسن لم يختلف عليه في زيادة " وإن لم ينزل ". وأما طريق قتادة، فقد اختلف عليه في ذكر هذه الزيادة، فرواه شعبة وهشام، عن قتادة بدون زيادة: (وإن لم ينزل). ورواه همام، وأبان، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، عن قتادة بذكر زيادة وإن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لم ينْزل، وإليك تخريج ذلك: أما رواية شعبة وهشام بدون زيادة وإن لم ينْزل، فقد أخرجها أبو داود الطيالسي (1/ 321) ومن طريقه أخرجه أحمد (2/ 520) وأبو عوانة (1/ 288) والبيهقي في المعرفة (257) قال: حدثنا شعبة وهشام، عن قتادة به. وأخرجه أبو داود (216) حدثنا مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، حدثنا هشام وشعبة به، بلفظ: وألزق الختان بالختان. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 84) رقم931، وأحمد (2/ 234، 393، 520) وإسحاق ابن راهوية (19) والبخاري (287،291)، ومسلم (348)، والدارمي (761) وابن ماجه (610)، وابن الجارود (92)، والطحاوي (1/ 56)، وابن حبان (1174، 1182، 1178) وأبو عوانة (1/ 288) والدارقطني (1/ 113)، والبيهقي في السنن (1/ 163)، والبغوي في شرح السنة (241،242) من طريق هشام به. وأخرجه أحمد (2/ 520) وإسحاق بن راهوية (110)، ومسلم 0348) والنسائي في الكبرى (197)، وفي المجتبى (191)، وابن الجارود (92)، والطحاوي (1/ 56) والبيهقي (1/ 163) من طريق شعبة وحده به. ... = = وأما رواية همام، وأبان، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، بذكر زيادة: (وإن لم ينْزل)، فقد سبق تخريجها في أول تخريج هذا الحديث. فالذي يظهر أنها محفوظة حتى من طريق قتادة، وهي متابعة قوية لطريق مطر، عن الحسن، والله أعلم. واستكمالاً لتخريج الحديث، فقد رواه أحمد (2/ 470،471) من طريق أشعث. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 84) رقم 932 من طريق يونس بن عبيد. وأبو يعلى (6227) من طريق جرير بن حازم، كلهم عن الحسن، عن أبي هريرة به. وهنا دلسه الحسن، فإنه قد سبق لنا من رواية الصحيحين أن الحسن يرويه عن أبي رافع، عن أبي هريرة. ذكر الدارقطني في العلل (8/ 260) بسنده عن موسى بن هارون، قال: سمع الحسن من أبي هريرة إلا أنه لم يستمع منه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا قعد بين شعبها الأربع، بينهما أبو رافع. اهـ =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1140 - 13) ما رواه مسلم من طريق هشام، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق، أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة، فأذن لي، فقلت لها: يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك، فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك، ¬

_ = قلت: وهذا دليل على أن تدليس الحسن ليس من قبيل الإرسال فحسب، وإنما قد يدلس أحاديث من سمع منهم ما لم يسمعه، وإن كان الغالب عليه الإرسال، والله أعلم. وكنت فيما سبق قد جزمت أن تدليسه من قبيل الإرسال حتى وقعت على هذا الحديث، فينظر هل له أمثله أخرى، والله أعلم. وأخرجه النسائي (192) وفي الكبرى (198) من طريق يونس، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة. وقال النسائي عقبه: هذا خطأ، والصواب أشعث عن الحسن، عن أبي هريرة، وقال نحوه: أبو حاتم وأبو زرعة في العلل لابنه (1/ 38)، والدارقطني في العلل (8/ 258،259). وأخرجه أبو يعلى (4926) من طريق هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، وذكر أبو هريرة قصة الاختلاف بين الصحابة، وإن أبا هريرة انطلق إلى عائشة، فسألها، فأجابته بوجوب الغسل بالتقاء الختانين، وذكر ذلك عن عائشة موقوفاً عليها، وسوف يأتي بحث مسند عائشة بعد هذا الحديث إن شاء الله تعالى. انظر لمراجعة بعض طرق هذا الحديث في أطراف المسند (8/ 112 - 113)، تحفة الأشراف (14659)، إتحاف المهرة (20052).

فإنما أنا أمك. قلت فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل (¬1). ورواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنا أبا موسى أتى عائشة فذكر نحوه موقوفاً على عائشة، وقال أبو موسى في آخره: لا أسأل عن هذا أحداً بعدك أبداً (¬2). [اختلف على عائشة في وقفه ورفعه، والطرق الموقوفة أقوى، إلا أن الموقوف له حكم الرفع] (¬3). ¬

(¬1) مسلم (349). (¬2) الموطأ (1/ 46). (¬3) رواه جمع من الرواة عن عائشة موقوفاً، منهم سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وميمون بن مهران، وعبيد الله بن عدي بن الخيار، ورفاعة بن رافع، وغيرهم. ورواه جمع آخر مرفوعاً، على اختلاف على بعضهم في رفقه ووقفه، وإليك بيان من وقفت على رواياتهم: فقد أخرجه مالك في الموطأ (1/ 46) ومن طريقه الشافعي في مسنده (1/ 37 - 38). وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (954) عن ابن جريج، كلاهما، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة موقوفاً. وفيه قصة مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (23/ 100) من طريق أبي قرة، عن مالك، عن يحيى ابن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب مرفوعاً. قال ابن عبد البر: هذا خطأ - يعني رفعه من طريق مالك - والصواب ما في الموطأ. اهـ يعني رواية الوقف. وأخرجه أحمد (6/ 47)، وابن أبي شيبة (1/ 84) رقم: 929، وإسحاق بن راهوية =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (1100) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 55)، والبيهقي في المعرفة (1/ 463)، والبغوي في شرح السنة (243) من طريق علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة مرفوعاً. وعلي بن زيد ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق (945)، وابن أبي شيبة (1/ 84) وابن راهوية (1219) من طريق عطاء بن أبي رباح. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 60) من طريق ميمون بن مهران، كلاهما عن عائشة موقوفا، بلفظ: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل. ووراه مسروق، واختلف عليه أيضاً: فأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 84) رقم 935 من طريق داود، عن مسروق، عن عائشة موقوفاً. وأخرجه عبد الرزاق (938) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (579) من طريق الشعبي، عن مسروق، عن عائشة مرفوعاً. وأخرجه مالك في الموطأ (1/ 46) ومن طريقه عبد الرزاق (941) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 60)، والبيهقي (1/ 166) من طريق أبي النظر مولى عمر بن عبيد الله. = = قال البخاري في التاريخ الكبير (6/ 182) وقال أبو النضر ومحمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة موقوفاً. وأخرجه إسحاق بن راهوية (1044) من طريق أبي واقد الليثي. وأخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/ 374) من طريق عثمان بن عطاء، كلاهما عن أبي سلمة، عن عائشة به مرفوعاً. وأخرجه أحمد في المسند (6/ 161) والترمذي في السنن (108)، والنسائي في الكبرى (196)، وابن ماجه (608)، وابن حبان (1176) والدارقطني (1/ 111) من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واغتسلنا. وقد توبع الوليد بن مسلم، فقد أخرجه أبو يعلى (4925) من طريق عيسى بن يونس. وابن الجاورد في المنتقى (93) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 55) من طريق بشر ابن بكر. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وابن حبان (1175، 1181،1186) من طريق عبد الله بن كثير. والدراقطني (1/ 111) والبيهقي في السنن (1/ 164) من طريق الوليد بن مزيد. كلهم عن الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 84) عن ابن علية، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه وعن نافع، قالا: قالت عائشة: إذا خالط الختان الختان فقد وجب الغسل. وهذا موقوف. وقد أعله البخاري كما نقله عنه الترمذي في العلل الكبير (1/ 184): هذا حديث خطأ، إنما يرويه الأوزاعي عن عبد الرحمن بن القاسم مرسلاً، ثم استدل على ذلك بأن أبا الزناد قال: سألت القاسم بن محمد: سمعت في هذا الباب شيئاً؟ فقال: لا. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (1/ 233): وأجاب من صححه بأنه يحتمل أن يكون القاسم كان نسيه، ثم تذكر، فحدث به ابنه، أو كان حدث به ابنه، ثم نسي. قال الحافظ: ولا يخلو الجواب عن نظر. اهـ وأخرجه مسلم (349) وابن خزيمة (227) وأبو عوانة (1/ 288 - 289) وابن حبان (1183)، والطبراني في الأوسط (7119) من طريق هشام بن حسان، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، عن عائشة مرفوعاً. ... = = قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي بردة إلا حميد بن هلال، ولا عن حميد إلا هشام، ولا عن هشام إلا الأنصاري. اهـ قلت: قد أخرجه مسلم من طريق محمد الأنصاري ومن طريق عبد الأعلى، كلاهما عن هشام بن حسان، فتأمل. وقد سبق لنا رواية سعيد بن المسيب، عن عائشة في قصة أبي موسى الأشعري موقوفاً على عائشة. وأخرجه مسلم (350)، وأبو عوانة (1/ 289)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 55)، والدارقطني (1/ 112)، والبيهقي (1/ 164) من طريق عياض بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، عن أم كلثوم، عن عائشة قالت: إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجامع أهله، ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي إسناده عياض بن عبد الله، قال أبو حاتم: ليس بقوي. الجرح والتعديل (6/ 409). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 524). وقال الساجي: روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر. تهذيب التهذيب (8/ 180). وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وقال البخاري: منكر الحديث. المرجع السابق. وقد ساق مسلم حديثه هذا في المتابعات. وفي التقريب: فيه لين. ومع لين حفظه إلا أنه هنا قد توبع: تابعه أشعث بن سوار وابن لهيعة من رواية عبد الله بن وهب عنه. فقد أخرجه أحمد (6/ 68) من طريق حسن بن صالح. وأبو يعلى (4697) من طريق عبد الرحيم بن سليمان، كلاهما عن أشعث، عن الزبير، عن جابر، عن أم كلثوم، عن عائشة، قالت: فعلناه مرة، فاغتسلنا. يعني الذي يجامع ولا ينزل. اهـ هذا لفظ أحمد، ولفظ أبي يعلى: قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالطها من غير أن ينزل، قالت: فاغتسلنا. وأشعث ضعيف. كما أخرجه أحمد (6/ 74) حدثنا موسى. وأخرجه الدارقطني (1/ 112) من طريق عبد الله بن وهب، كلاهما عن أبي الزبير به بنحوه. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2754) حدثنا عبد الله بن الحسين المصيصي، ثنا محمد بن بكار، ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أم كلثوم، عن عائشة، قالت: إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا. وعبد الله بن الحسين المصيصي ضعيف. كما رواه عن عائشة: عبد العزيز بن النعمان، وعبد العزيز فيه جهالة، لم يخرج له أصحاب الكتب الستة، ولم يرو عنه أحد إلا عبد الله بن رباح فيما ذكره ابن حجر في تعجيل المنفعة، ولم يوثقه أحد إلا ابن حبان، ولا يعرف له سماع من عائشة فيما ذكره البخاري في التاريخ الكبير (6/ 9). فقد أخرجه أحمد (6/ 123، 227، 239)، وإسحاق بن راهوية (1354)، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 55) من طريق حماد بن سلمة، قال: حدثنا ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن عبد العزيز بن النعمان، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقى الختانان اغتسل. وراه أحمد (6/ 265) عن عبد الوهاب بن عطاء. وإسحاق بن راهوية (1355) عن عبدة بن سليمان، كلاهما، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عبد الله بن رباح، أنه دخل على عائشة، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك، فذكر نحو قصة أبي موسى مع عائشة، وذكر وجوب الغسل مرفوعاً. وقد اختصره إسحاق بن راهوية رحمه الله. وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (9/ 49)، والتحفة (16119)، وإتحاف المهرة (21698). ورواه أحمد (5/ 115) قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا زهير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حبيبة، عن عبيد بن رفاعة بن رافع، عن رفاعة بن رافع، وكان عقبياً بدرياً قال: كنت عند عمر، فقيل له: إن زيد بن ثابت يفتي الناس برأيه في المسجد، في الذي يجامع ولا ينزل. فقال: أعجل به، فأتى به، فقال: يا عدو نفسه، أوقد بلغت أن تفتي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيك؟! قال: ما فعلت، ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: أي عمومتك؟ قال: أبي بن كعب، وأبو أيوب، ورفاعة بن رافع. فالتفت إليَّ: ما يقول هذا الغلام؟ فقلت: كنا نفعله في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فسألتم عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. قال: كنا نفعله في عهده، فلم نغتسل. قال: فجمع الناس، واتفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء إلا رجلين، علي ابن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، قالا: إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل. فقال علي: يا أمير المؤمنين، إن أعلم الناس بهذا أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا علم لي. فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. =

قال ابن عبد البر: وهذا الحديث يدخل في المسند بالمعنى والنظر؛ لأنه محال أن ترى عائشة نفسها في رأيها حجة على غيرها من الصحابة حين اختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم، ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه؛ لأن كل واحد ليس بحجة على صاحبه عند التنازع؛ لأنهم أمروا إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدلك على أن تسليم أبي موسى لعائشة في هذه المسألة إنما كان من أجل أن علم ذلك كان عندها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلذلك سلم لها؛ إذ هي أولى بعلم مثل ذلك من غيرها (¬1). قلت: وقولها: على الخبير سقطت إشارة إلى أنها لا تتكلم إلا عن علم فإن معنى خبر الأمر أي علمه والخُبْرُ بالضم: هو العلم بالشيء، والخَبِيرُ العالم (¬2). ¬

= قال: فتحطم عمر ـ يعني: تغيظ ـ ثم قال: لا يبلغني أن أحداً فعله، ولا يغتسل إلا أنهكته عقوبة. وقد سبق لي الكلام على هذا الطريق بالذات في كتابي الحيض والنفاس رقم (81)، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. هذا ما تيسر لي الوقوف عليه من طريق عائشة، وأقوى الطرق عنها ما جاء من طريق سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وميمون بن مهران، وقد رووا الحديث عنها موقوفاً، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي موسى الأشعري عنها مرفوعاً، وكما ذكرت في المتن أن الموقوف له حكم الرفع، والله أعلم. (¬1) التمهيد (23/ 100). (¬2) مختار الصحاح (ص: 71).

الدليل الثالث

وأما الأدلة التي تصرح أن عدم الغسل كان في أول الأمر ثم نسخ، فمنها: الدليل الثالث: (1141 - 14) روى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن مهران البزاز الرازي، حدثنا مبشر الحلبي، عن محمد أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل ابن سعد، حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (215). (¬2) رجاله ثقات، وقد أخرجه الدارمي (760)، وابن خزيمة (226)، وابن حبان (1179)، والطبراني (538)، والدارقطني (1/ 126) والبيهقي (1/ 166) من طريق محمد بن مهران به. ورواه الزهري، واختلف عليه فيه: فرواه عثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهري، عن سهل بالعنعنة بين الزهري وسهل. وأخرجه أحمد (5/ 115)، وابن ماجه (609)، وابن الجارود (91)، وابن خزيمة (225)، والبيهقي (1/ 165) من طريق عثمان بن عمر، أخبرنا يونس، عن الزهري، قال: قال سهل الأنصاري، حدثني أبي ابن كعب. ورواه عبد الله بن المبارك، عن يونس به، واختلف على عبد الله، فأخرجه أحمد (5/ 115) حدثنا علي بن إسحاق. وأخرجه أيضاً (5/ 115) حدثنا خلف بن الوليد. وأخرجه الترمذي (110)، وابن خزيمة (225)، والحازمي في الاعتبار (ص:32) والضياء في المختاره (1178) من طريق أحمد بن منيع. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 57) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وابن حبان (1173) من طريق حبان بن موسى. والبيهقي (1/ 165) من طريق الحسن بن عرفة، ستتهم رووه عن ابن المبارك: عن يونس، عن الزهري، عن سهل بالعنعنة. وخالفهم كل من أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني كما في تهذيب الآثار ومسند بقي ابن مخلد. ومعلى بن منصور، كما في كتاب ابن شاهين كلاهما، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، حدثني سهل بن سعد. وهذا خطأ، والصحيح رواية من رواه بالعنعنة لما يلي: أولاً: أن ستة رواة رووه عن ابن المبارك بالعنعنة، فهم أكثر عدداً. ثانياً: أن من رواه عن الزهري من غير طريق ابن المبارك كلهم لم يصرحوا بالتحديث، منهم شعيب بن أبي حمزة كما في مسند أحمد (5/ 116) وابن خزيمة (225). ومنهم عقيل بن خالد، كما في سنن الدارمي (759)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 57)، من طريق عبد الله بن صالح، عن عقيل بن خالد به. ثالثاً: أنه قد رواه عمرو بن الحارث، وصرح بأن هناك واسطة بين الزهري وسهل بن سعد، فقد أخرجه أبو داود (214)، والطحاوي (1/ 57)، وابن خزيمة (226)، والبيهقي (1/ 165) من طريق عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، حدثني بعض من أرضى، عن سهل بن سعد، أن أبياً حدثه ... وذكر نحو الحديث. وأخرجه أحمد (5/ 116) من طريق رشدين بن سعد، حدثني عمرو بن الحارث به. ورشدين فيه كلام معروف، ولكنه قد توبع كما لحظت. ولا يفرح بطريق معمر بن راشد المصرح فيها بالسماع عند ابن خزيمة (226) من طريق محمد بن جعفر، نا معمر بن راشد، عن الزهري، قال: أخبرني سهل بن سعد؛ لما قاله أبو حاتم في الجرح والتعديل (8/ 257) ما حدث معمر بن راشد بالبصرة ففيه أغاليط. اهـ قال ابن خزيمة: أهاب أن يكون هذا وهماً من محمد بن جعفر أو ممن دونه؛ لأن ابن وهب روى عن عمرو بن الحارث، عن الزهري، قال: أخبرني من أرضى عن سهل بن سعد. ولأن معمر لم يضبط الحديث، فقد رواه مرة كما تقدم، ورواه مرة موقوفاً على سهل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن سعد، أخرجه عبد الرزاق (951)، وابن أبي شيبة (1/ 89) عن عبد الأعلى السامي. وابن خزيمة (226) من طريق محمد بن جعفر، والطبراني في الكبير (5696) من طريق عبد الواحد بن زياد، ثلاثتهم عن معمر بن راشد، عن الزهري، عن سهل بن سعد، قال: إنما كان قول الأنصار: الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم أمرنا بالغسل. ولم يذكر في إسناده أبي بن كعب. ولهذا قال ابن خزيمة عن طريق معمر بن راشد المصرح فيه بالتحديث، قال: في القلب من هذه اللفظة التي ذكرها محمد بن جعفر: أعني قوله: أخبرني سهل بن سعد - وأهاب أن يكون هذا وهماً من محمد بن جعفر، أو ممن دونه. أهـ وجاء في التمهيد لابن عبد البر (23/ 107): قال موسى بن هارون: كان الزهري إنما يقول في هذا الحديث: قال سهل بن سعد، ولم يسمع الزهري هذا الحديث من سهل بن سعد، وقد سمع من سهل أحاديث إلا أنه لم يسمع هذا منه، رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن الزهري، قال: حدثني بعض من أرضى، أن سهل بن سعد أخبره. الخ كلامه رحمه الله تعالى. وفي تلخيص الحبير (1/ 234): جزم موسى بن هارون، والدارقطني بأن الزهري لم يسمعه من سهل. اهـ وإذا ثبت لنا أن الزهري لم يسمعه من سهل، فقد صح الطريق الذي اخترته في المتن من طريق أبي حازم، عن سهل، عن أبي بن كعب، ولا يبعد أن يكون الزهري إنما سمعه من أبي حازم، ودلسه، قال ابن خزيمة في صحيحه (1/ 113): وهذا الرجل الذي لم يسمه عمرو بن الحارث يشبه أن يكون أبا حازم سلمة بن دينار؛ لأن ميسرة بن إسماعيل روى هذا الخبر عن أبي غسان محمد بن مطرف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد. وقال ابن حبان في صحيحه (3/ 447): وقد تتبعت طرق هذا الخبر، على أن أجد أحداً رواه عن سهل بن سعد، فلم أجد في الدنيا أحداً إلا أبا حازم، ويشبه أن يكون الرجل الذي قال الزهري: حدثني من أرضى، عن سهل بن سعد، هو أبو حازم رواه عنه. اهـ وهذا القول أقرب للصواب من قول ابن حبان قبل هذا الكلام: ويشبه أن يكون الزهري سمع الخبر من سهل بن سعد كما قاله غندر، وسمعه عن بعض من يرضاه عنه، فرواه مرة عن سهل بن سعد، وأخرى عن الذي رضيه عنه. اهـ =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1142 - 15) ما رواه ابن حبان، من طريق الحسين بن عمران، عن الزهري، قال: سألت عروة عن الذي يجامع ولا ينزل، قال: على الناس أن يأخذوا بالآخر والآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حدثتني عائشة ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة، ثم اغتسل بعد ذلك، وأمر الناس بالغسل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= لأنه في معرض المقارنة بين من رواه بالعنعنة وبين من صرح بالتحديث نجد لا مقارنة بين الرواة، وأن الكفة ترجح رواية من رواه بالعنعنة لما ذكرناه سابقاً، ويكفي أن هذا هو رأي الإمام الدارقطني، كما نقلناه عنه سابقاً، وكفى بالدارقطني خبيراً في العلل، والله أعلم. انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (1/ 198)، تحفة الأشراف (27)، إتحاف المهرة (46). (¬1) صحيح ابن حبان (1180). (¬2) في إسناده الحسين بن عمران، قال فيه البخاري: لا يتابع على حديثه في القدر. وقال ابن حبان في صحيحه: ثقة من الثقات. صحيح ابن حبان (3/ 455) وسماه الحسين بن عثمان. وهو وهم. وذكره في الثقات. وقال الدراقطني: لا بأس به. وذكره العقيلي في الضعفاء (1/ 254): ونقل قول البخاري: لا يتابع على حديثه، ثم قال: والحديث في الغسل في التقاء الختانين ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير هذا الوجه. اهـ وأخرجه الحازمي في الاعتبار (ص: 34) من طريق ابن حبان، وقال: هذا حديث قد حكم أبو حاتم بن حبان بصحته، وأخرجه في صحيحه، غير أن الحسين بن عمران قد يأتي عن الزهري بالمناكير، وقد ضعفه غير واحد من أصحاب الحديث، وعلى الجملة فالحديث بهذا السياق فيه ما فيه، ولكنه حسن جيد في الاستشهاد. اهـ =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1143 - 16) ما رواه أحمد، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا رشدين بن سعد، عن موسى بن أيوب الغافقي، عن بعض ولد رافع بن خديج، عن رافع بن خديج قال: ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا على بطن امرأتي، فقمت، ولم أنزل، فاغتسلت، وخرجت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته أنك دعوتني، وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أنزل، فاغتسلت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا عليك، الماء من الماء. قال رافع: ثم أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بالغسل (¬1). [إ سناده ضعيف] (¬2). ¬

= وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 83): الذي وجدته في كتاب الضعفاء للعقيلي، أنه روى هذا الحديث، ثم أعله بالحسين بن عمران، وقال: لا يتابع على حديثه، ولا يعلم هذا اللفظ عن عائشة إلا في هذا الحديث. وذكر العقيلي عن آدم بن موسى قال: سمعت البخاري يقول: حسين بن عمران الجهني لا يتابع على حديثه. وكذلك ذكر أبو العرب القروي عن أبي بشر، قال: ولم أقف على أكثر من هذا في حسين بن عمران، وهو أخف من قول الحازمي: وقد ضعفه غير واحد، بل لو قيل: ليس فيه جزم بالتضعيف لم يبعد ذلك. اهـ كلام الزيلعي رحمه الله تعالى. قلت: الأثر بهذا الإسناد منكر، فأصحاب الزهري: معمر، ويونس، وعقيل، وشعيب، رووه عن الزهري، عن سهل بن سعد، عن أبي، وخالفه حسين بن عمران، فرواه عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وتفرده بمثل هذا الإسناد يعتبر منكراً، ولو كان ثقة لم يقبل تفرده ومخالفته لأصحاب الزهري، فكيف وقد تكلم فيه، والله أعلم. (¬1) المسند (4/ 143). (¬2) في إسناده رشدين بن سعد، وهو ضعيف، وفيه جهالة بعض ولد رافع، واسمه سهل كما في رواية الطبراني، ولم أقف له على ترجمة. وأخرجه الطبراني في الكبير (4374) من طريق أبي طاهر بن السرح، عن رشدين بن سعد، وسمى بعض ولد رافع سهلاً. =

الدليل السادس

الدليل السادس: أن بعض من كان يرى عدم وجوب الغسل إلا بالإنزال قد رجع إلى وجوب الغسل، وهذا يدل على أنه ثبت عنده ما يدل على نسخ حكم إنما الماء من الماء. (1144 - 17) فمنها ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان، أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل؟ فقال زيد: يغتسل. فقال له محمود: إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل. فقال له زيد بن ثابت: إن أبي ابن كعب نزع عن ذلك قبل أن يموت (¬1). [إسناده صحيح، إن كان عبد الله بن كعب مولى عثمان سمعه من محمود بن لبيد الأنصاري] (¬2). ¬

= وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 264): فيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف. وقال الحازمي في الاعتبار (ص: 32): هذا حديث حسن. قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 84): وهذا فيه نظر؛ فإن فيه رشدين بن سعد، أكثر الناس على ضعفه، وبعض ولد رافع مجهول العين والحال، وحيث سنده على ضعيف ومجهول، كيف يكون حسناً؟! انظر أطراف المسند (2/ 334 - 335)، إتحاف المهرة (4551). (¬1) الموطأ (1/ 47)، ومن طريق مالك أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 166). ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 57) من طريق يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد به. انظر إتحاف المهرة (4844) (¬2) قال الحافظ في التهذيب (5/ 323): نقل ابن خلفون أنه روى عن محمود بن لبيد الأنصاري، وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري. اهـ ولم يتعقبه بشيء. وقال بعضهم: هذا الخبر يدور على عبد الله بن كعب، ولم يصح له سماع من زيد بن =

الدليل السابع

قال الشافعي: لا أحسبه تركه إلا أنه ثبت له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعده ما نسخه (¬1). اهـ وقال البيهقي: قول أبي بن كعب الماء من الماء، ثم نزوعه عنه، يدل على أنه ثبت له أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بعدُ ما نسخه، وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب (¬2). الدليل السابع: (1145 - 18) ومنها ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل (¬3). [سعيد بن المسيب قد سمع من عثمان، ومات عمر وله ثمان سنوات، وهو من أعلم الناس بقضاء عمر، وعلى تقدير أنه عن عمر مرسل فإن مراسيله من أصح المراسيل] (¬4). ¬

= ثابت، وإنما يروى عن خارجة بن زيد، وهو أيضاً غير مشهور بنقل العلم. انظر التمهيد (23/ 116). اهـ وقد يشهد له ما ذكرته بسند صحيح من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن أبي ابن كعب في دليل سابق من هذه المسألة. (¬1) نصب الراية (1/ 84). (¬2) سنن البيهقي (1/ 166). (¬3) ومن طريق مالك أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 57). وانظر إتحاف المهرة (13667). (¬4) اختلف في سماع سعيد من عمر، =

فهذا دليل آخر على رجوع عثمان إلى القول بوجوب الغسل. وسبق لنا قول الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: حديث حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد قال: سألت خمسة من أصحاب رسول الله: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وأبي بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، فيه علة تدفعه بها؟. قال: نعم بما يروى عنهم من خلافه. قلت: عن عثمان وعلي وأبي بن كعب؟ قال: نعم (¬1). ¬

= قال أبو طالب: قلت لأحمد بن حنبل: سعيد بن المسيب؟ فقال: ومن كان مثل سعيد ابن المسيب، ثقة من أهل الخير. قلت: سعيد، عن عمر، حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر، وسمع منه، إذا لم يقبل سعيد عن عمر، فمن يقبل؟ الجرح والتعديل (4/ 60). وقال عبد الله بن وهب: سمعت مالكاً، وسئل عن سعيد بن المسيب، قيل: أدرك عمر؟ قال: لا، ولكنه ولد في زمان عمر، فلما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره حتى كأنه رآه. قال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره. تهذيب الكمال (11/ 74). ... = = وقال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: سعيد بن المسيب قد رأى عمر، وكان صغيراً. قلت ليحيى: يقول: ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر؟ قال يحيى: ابن ثمان سنين يحفظ شيئاً!! المرجع السابق. وقال إسحاق بن منصور: قلت ليحيى بن معين: يصح لسعيد بن المسيب سماع من عمر؟ قال: لا. المراسيل ـ ابن أبي حاتم (ص: 71). وقال أبو حاتم الرزاي: سعيد بن المسيب، عن عمر مرسل، يدخل في المسند على المجاز. وقال أيضاً: لا يصح سماع لسعيد بن المسيب عن عمر إلا رؤيته على المنبر ينعي النعمان ابن مقرن. المرجع السابق. (¬1) التمهيد (23/ 111).

الدليل الثامن

الدليل الثامن: ذكر ابن خواز منداد، أن إجماع الصحابة انعقد على إيجاب الغسل من التقاء الختانين (¬1). وقال القاضي ابن العربي: انعقد الإجماع أخيراً على إيجاب الغسل (¬2). وأجيب: بأن الخلاف محفوظ من الصحابة وممن دونهم، أما الصحابة فالخلاف بينهم مشهور. قال ابن عبد البر وهو ممن يرى وجوب الغسل: " كيف يجوز القول بإجماع الصحابة في شيء في هذه المسألة مع ما ذكرناه في هذا الباب، ومع ما ذكره عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال: سمعت خمسة من المهاجرين الأولين، منهم علي بن أبي طالب، فكلهم قال: الماء من الماء (¬3). وأما الخلاف فيمن بعدهم فقد قال الحافظ ابن حجر: ادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، وهو معترض أيضاً، فقد قال الخطابي: إنه قال به من الصحابة جماعة، فسمى بعضهم، قال: ومن التابعين الأعمش، وتبعه عياض لكن قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره، وهو معترض أيضاً، فقد ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وهو في سنن أبي داود بإسناد صحيح، وعن هشام بن عروة عند عبد الرزاق بإسناد صحيح. ¬

(¬1) التمهيد (23/ 113). (¬2) تلخيص الحبير (1/ 235). (¬3) التمهيد (23/ 113 - 114).

الراجح من الخلاف

وقال عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: لا تطيب نفسي إذا لم انزل حتى اغتسل؛ من أجل اختلاف الناس لأخذنا بالعروة الوثقى. وقال الشافعي في اختلاف الحديث: حديث الماء من الماء ثابت، لكنه منسوخ، إلى أن قال: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا - يعني من الحجازيين - فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل. اهـ قال الحافظ: فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهوراً بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب والله أعلم. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة يظهر لي أن الخلاف في المسألة قوي، وأنه قد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - القول بعدم وجوب الغسل، وربما كان هذا القول في أول الأمر، ثم نسخ هذا الحكم، فالأحاديث التي تدل على وجوب الغسل ناقلة عن البراءة الأصلية فهي مقدمة على غيرها، وكما قال البخاري: الغسل أحوط.

المبحث الأول في الإيلاج في فرج امرأة ميتة، أو إيلاج فرج رجل ميت في قبل امرأة

المبحث الأول في الإيلاج في فرج امرأة ميتة، أو إيلاج فرج رجل ميت في قبل امرأة إذا أولج رجل ذكره في فرج امرأة ميتة، ولم ينزل، فهل حكمهما حكم المرأة الحية؟ فيجب الغسل بمجرد الإيلاج، ولو لم ينزل، أو يشترط هنا لوجوب الغسل الإنزال؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقيل: لا يجب الغسل بمجرد الإيلاج في فرج امرأة ميتة حتى ينزل، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال: لا يجب الغسل في فرج الميتة. تعليل الحنفية في عدم وجوب الغسل: إن الموجب للغسل هو إنزال المني كما أفاده حديث (إنما الماء من الماء) لكن المني تارة يوجد حقيقة، وتارة يوجد حكماً عند كمال سببه، وهو غيبوبة الحشفة في محل يشتهى عادة مع ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 61)، البناية (1/ 273)، حاشية ابن عابدين (1/ 161). (¬2) الخرشي (1/ 164)، الفواكه الدواني (1/ 117)، حاشية الدسوقي (1/ 129) وقد فرق المالكية بين أن يولج الرجل ذكره في فرج امرأة ميتة، فيجب عليه الغسل، وبين أن تدخل المرأة ذكر رجل ميت في فرجها، فلا يجب عليها الغسل إلا أن تنزل، ولا أعلم ما هو الفرق بين المسألتين. (¬3) الأم (1/ 37)، روضة الطالبين (1/ 81)، المهذب (1/ 29)، الوسيط (1/ 339)، الحاوي الكبير (1/ 212). (¬4) الإنصاف (1/ 235 - 236)، مطالب أولي النهى (1/ 164)،

دليل من قال بوجوب الغسل

خفاء خروجه، وفي الميتة ونحوها لم يكن الإيلاج سبباً كاملاً لإنزال المني؛ لعدم الداعية إليه، فلم يوجد إنزال المني حقيقة ولا تقديراً، فلو قلنا بالوجوب من غير إنزال لكان فيه ترك العمل بالحديث أصلا, وهو لا يجوز (¬1). فملخص الكلام هنا بأن الميتة لا تشتهى عادة، وأن الإيلاج في حشفة الميتة لا لذة فيها، أو أن اللذة فيها ناقصة غير كاملة. دليل من قال بوجوب الغسل. استدلوا بأن النصوص التي توجب الغسل بالتقاء الختانين مطلقة، ولم تقيد ذلك بكون المرأة حية أو ميتة، فالأخذ بالمطلق والعام أسعد من تقييد النص المطلق، أو تخصيص العام بعلة مستنبطة، لا ندري هل هي العلة أم غيرها؟ وكون المحل لا يشتهى عادة فهذا ليس كافياً في تقييد النص، فانظر إلى المرأة العجوز المتناهية في القبح العمياء البرصاء المقطعة الأطراف لو جومعت، وهي لا تشتهى عادة، وجب الغسل بالتقاء الختانين، فانتقضت العلة. الراجح: أن الغسل يجب بالتقاء الختانين، ونقصان اللذة لا يكفي للقول بتقييد النص النبوي المطلق، والله أعلم. ¬

(¬1) بتصرف البحر الرائق (1/ 61).

المبحث الثاني في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها

المبحث الثاني في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها اختلف الفقهاء في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، هل يجب على من وطئها الغسل؟. فقيل: لا يجب، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: إن كانت تطيق الجماع وجب عليه الغسل، وإلا فلا، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل القائلين بعدم وجوب الغسل. إن الموجب للغسل هو إنزال المني، كما أفاده حديث (إنما الماء من الماء) لكن المني تارة يوجد حقيقة، وتارة يوجد حكماً عند كمال سببه، وهو غيبوبة الحشفة في محل يشتهى عادة مع خفاء خروجه، فكان الإيلاج في مثل هذا سبباً لاستطلاق وكاء المني عادة، فقام مقام خروج المني احتياطاً؛ لأنه ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 61)، البناية في شرح الهداية (1/ 273). (¬2) الشرح الصغير (1/ 163)، مواهب الجليل (1/ 309). (¬3) روضة الطالبين (1/ 81)، حاشية البيجوري على متن أبي شجاع (1/ 138). (¬4) جاء في مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله (1/ 1030) قال: سألت أبي عن رجل وطئ امرأته، وهي صغيرة، يجب عليها الغسل؟ قال: نعم، إذا وصل إليها وجب الغسل، وإذا التقى الختانان وجب الغسل، الصغيرة والكبيرة " وانظر المبدع (1/ 182)، الفروع (1/ 198) شرح العمدة (1/ 360)، الإنصاف (1/ 234)، كشاف القناع (1/ 143)، المستوعب (1/ 226).

دليل القائلين بوجوب الغسل

مغيب عن بصره، فربما خرج ولم يقف عليه لقلته، وفي الصغيرة ونحوها لم يكن الإيلاج سببا كاملا لإنزال المني؛ لقصور اللذة، فلم يوجد إنزال المني حقيقة ولا تقديراً، فلو قلنا بالوجوب من غير إنزال لكان فيه ترك العمل بالحديث أصلا, وهو لا يجوز (¬1). ويشكل على هذا التنظير أن المرأة لو أدخلت ذكر زوجها العنين، فعلى مقتضى التعليل لا يجب عليه غسل؛ لأنه ليس هناك إنزال للماء لا حقيقة ولا تقديراً، وهو خلاف ظاهر النصوص من وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وقد أوجب الحنفية الغسل من جماع الخصي على الفاعل والمفعول به، والله أعلم (¬2). دليل القائلين بوجوب الغسل: عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» وحديث «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل»، فهذه النصوص مطلقة، وهي توجب الغسل بالتقاء الختانين من غير قَيْدٍ، ومن قَيَّد ذلك بكونه من الكبيرة فقد قيد النصوص الشرعية بلا دليل. ¬

(¬1) بتصرف البحر الرائق (1/ 61). (¬2) انظر الفتاوى الهندية (1/ 15)، وقد نص المالكية على وجوب الغسل على العنين إذا أولج حشفته في فرج امرأته، انظر مواهب الجليل (1/ 308).

المبحث الثالث إذا كان المجامع أو المجامع صغيرا فهل يجب عليه غسل؟

المبحث الثالث إذا كان المجامِع أو المجامَع صغيراً فهل يجب عليه غسل؟ اختلف الفقهاء في ذلك، فقيل: لا يجب عليه غسل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وتعليلهم ظاهر، وهو قائم على أن الصغير غير مكلف، ولا تجب عليها الصلاة التي تجب الطهارة لها، وأن الأصل في وجوب الغسل هو الإنزال، وليس من أهله، وإنما أقيم التقاء الختانين مقام الإنزال؛ لأنه سبب فيه، ولأنه لا ¬

(¬1) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (1/ 16)، (¬2) الشرح الصغير (1/ 165)، بل إن المالكية لا يوجبون الغسل على المرأة الكبيرة إذا وطئها غير بالغ، انظر مواهب الجليل (1/ 309). وهناك قول آخر في مذهب المالكية، وهو أن الصغيرة إذا وطئها بالغ، فإن كانت تؤمر بالصلاة أمرت بالغسل، انظر مواهب الجليل (1/ 309) وانظر بهامشه التاج والإكليل في الصفحة نفسها، والله أعلم. قال الحطاب في مواهب الجليل: الصور العقلية أربع: الأولى: أن يكونا بالغين، فلا إشكال في وجوب الغسل. الثاني: عكسه، أن يكونا غير بالغين، ولا فرق بين الصغير والمراهق على المشهور. قال ابن بشير: مقتضى المذهب أن لا غسل، وقد يؤمران فيه على وجه الندب. الثالث: أن يكون الواطئ غير بالغ، فلا غسل إلا أن تنزل. الرابع: أن تكون الموطوءة غير بالغة، وهي ممن تؤمر بالصلاة، قال ابن شاس: لا غسل عليها؛ لأنها إنما أمرت بالوضوء ليسره، بخلاف الغسل، كما أمرت بالصلاة دون الصوم. وقال أشهب: عليها الغسل. قال ابن الحاجب: تؤمر الصغيرة على الأصح. الخ كلامه رحمه الله. (¬3) الإنصاف (1/ 234).

يطلق عليه جنب ما دام لم يبلغ السن الذي يستطيع فيه الإنزال. وقيل: يجب عليه الغسل، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2) إلا أن الحنابلة اشترطوا أن يكون مثله يجامع وإن لم يبلغ، وبعضهم يشترط كون الذكر ابن عشر سنين والأنثى بنت تسع سنين، وهذا تفسير للشرط. قالوا: وإذا قلنا بوجوب الغسل، فلا يعني ذلك: أنه يأثم بتركه، وإنما هو شرط لصحة الصلاة ونحوها مما تشترط لفعله الطهارة. وللقياس على البول، فكما أن الصغير إذا بال لم تصح صلاته حتى يتوضأ، ولا يقال: يجب عليه الغسل، كما لا يقال: يجب عليه الوضوء، بل يقال: صار محدثاً، ويجب على الولي أن يأمره بالغسل إن كان مميزاً، كما يأمره بالوضوء. واستدل الإمام أحمد بفعل عائشة، وقد تزوجت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي بنت تسع سنين. قال ابن قدامة: سئل يعني أحمد عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ , فجامع المرأة , يكون عليهما جميعا الغسل؟ قال: نعم. قيل له: أنزل أو لم ينزل؟ قال: نعم. وقال: ترى عائشة حين كان يطؤها النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن تغتسل؟ ويروى عنها: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» (¬3). ¬

(¬1) قال النووي في روضة الطالبين (1/ 81): " ويصير الصبي والمجنون المولجان أو المولج فيهما جنبين بلا خلاف، فإن اغتسل الصبي وهو مميز صح غسله، ولا يجب إعادته إذا بلغ. الخ كلامه رحمه الله تعالى. (¬2) المغني (1/ 132)، (¬3) المغني (1/ 132).

إلا أن السؤال الذي يرد على الاستدلال بفعل عائشة، هل كانت عائشة صغيرة لم تبلغ الحنث حين كانت زوجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ?؟ أو كانت قد بلغت، وإن كانت بنت تسع سنين؟ الظاهر الثاني، فإذا كانت قد بلغت لم يكن هناك دليل على مسألتنا، والله أعلم. ولذلك روى الترمذي (¬1)، والبيهقي (¬2)، كلاهما تعليقاً: قال البيهقي: وروينا عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. قال البيهقي: تعني - والله أعلم - فحاضت فهي امرأة. [ضعيف لتعليقه] (¬3). ¬

(¬1) سنن الترمذي (3/ 418). (¬2) سنن البيهقي (1/ 320). (¬3) سبق بحثه في كتاب الحيض والنفاس رقم (17).

فرع إذا دخل ذكر النائم والمجنون في فرج المرأة أو العكس نص الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3).على أن المرأة إذا أدخلت ذكر رجل نائم، أو مجنون، أو مغمى عليه، أو مكره، فعليهما الغسل؟ وعللوا ذلك بأن موجب الطهارة لا يشترط فيه القصد، بدليل احتلام النائم وسبق الحدث، والله أعلم. ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ". سبق تخريجه. وقيل: لا يجب الغسل على النائم والمجنون ونحوهما، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (¬5). واستدل ابن حزم بأن الغسل لا يجب بمجرد مطلق الإيلاج، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل " فقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا جلس " وقوله " ثم جهدها " هذه الألفاظ لا تطلق إلا على المختار القاصد، ولا يسمى المغلوب أنه قعد، ولا النائم ولا المغمى عليه كذلك. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 308)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 163 - 164). (¬2) روضة الطالبين (1/ 81)، تحفة المحتاج (1/ 162). (¬3) شرح منتهى الإرادات (1/ 80)، الإنصاف (1/ 233)، مطالب أولي النهى (1/ 165). (¬4) الإنصاف (1/ 233). (¬5) المحلى (1/ 248).

فكان المراد معنى زائداً على مجرد الإيلاج، وهو انتشار الذكر ولذته بذلك، وأما إذا كان الذكر لم ينتشر، كما هو الحال في النائم فلا فرق بين دخوله ودخول الأصبع في الفرج، ومع ذلك لا يوجب الغسل إيلاجه في فرج المرأة، ولو وجدت اللذة بذلك.

المبحث الرابع إذا أولج رجل ذكره في فرج البهيمة

المبحث الرابع إذا أولج رجل ذكره في فرج البهيمة اختلف الفقهاء في الرجل يدخل ذكره في فرج بهيمة، هل يجب عليه الغسل بمجرد الإيلاج أو لا بد من الإنزال؟ فقيل: لا يجب عليه الغسل، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: بل يجب عليه، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال: لا يجب عليه الغسل. لا يجب الغسل إلا بدليل شرعي، ولا يوجد دليل يوجب الغسل من الإيلاج في فرج البهيمة، ولا يصح القياس على فرج المرأة لوجود الفارق؛ وذلك لأن الشهوة في فرج البهيمة ليست كالشهوة في فرج المرأة، وهو ما يعبر عنه بعض الفقهاء بقصور الشهوة في البهيمة. دليل من قال بوجوب الغسل: أن هذا الإيلاج إيلاج في فرج أصلي فأشبه الإيلاج في فرج المرأة. ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 37)، البحر الرائق (1/ 61)، الفتاوى الهندية (1/ 15)، حاشية ابن عابدين (1/ 166)، فتح القدير (1/ 64). (¬2) الخرشي (1/ 164)، الفواكه الدواني (1/ 117)، حاشية العدوي (1/ 146)، حاشية الدسوقي (1/ 129)، منح الجليل (1/ 121 - 122). (¬3) المجموع (2/ 150)، أسنى المطالب (1/ 65)، حاشية الجمل (1/ 152). (¬4) الإنصاف (1/ 235)، الفروع (1/ 198)، كشاف القناع (1/ 143)، وقد أوجب الحنابلة الغسل فيما لو أولج في فرج سمكة.

والقول الأول أقوى من حيث التعليل، ويظهر ذلك بأنه لو أولج أصبعه في فرج المرأة لم يجب عليها غسل، وإن كانت قد تتلذذ المرأة بهذا، وقد يتلذذ الرجل أيضاً، ومع ذلك لم يجب الغسل عليهما، فلا بد من أن يكون ذكر الرجل في قبل المرأة، هذا ما ورد فيه النص، وما عداه فالأصل عدم الوجوب، والله أعلم.

المبحث الخامس يشترط لوجوب الغسل بالإيلاج دخول كامل الحشفة

المبحث الخامس يشترط لوجوب الغسل بالإيلاج دخول كامل الحشفة ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه يشترط إيلاج الحشفة كاملة لوجوب الغسل بالتقاء الختانين (¬1). وقيل: يجب الغسل بإيلاج بعض الحشفة، اختاره بعض الشافعية، وأبو يعلى الصغير من الحنابلة (¬2). دليل من قال: يجب إدخال الحشفة. (1146 - 19) ما رواه مسلم من طريق هشام بن حسان، حدثنا حميد ابن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت، فاستأذنت على عائشة، فأذن لي، فقلت لها: يا أماه - أو يا أم المؤمنين- إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك؟ فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل. ¬

(¬1) انظر فصل: وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وانظر مواهب الجليل (1/ 308). (¬2) الإنصاف (1/ 232).

[وقد رواه مالك في الموطأ (¬1) من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي موسى الأشعري، عن عائشة من قولها بلفظ: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، وسبق الكلام على الحديث] (¬2). الدليل الثاني: (1147 - 20) ما رواه أحمد من طريق أبي معاوية، عن حجاج بن أرطأة، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا التقت الختانان، وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). فهذه الأحاديث تشترط أن يجاوز الختان الختان، وبعضها يقول: وتوارت الحشفة، وهو تفسير لمجاوزة الختان الختان، لأن ختان الرجل لا يجاوز موضع الختان من المرأة إلا وقد توارت الحشفة. قال النووي: بين الشيخ أبو حامد فرج المرأة , والتقاء الختانين، بياناً شافياً، فقال هو وغيره: ختان الرجل: هو الموضع الذي يقطع منه في حال الختان، وهو ما دون حزة الحشفة. ¬

(¬1) الموطأ (106). (¬2) سبق تخريجه مفصلاً: انظر حديث رقم (2140). (¬3) المسند (2/ 178). (¬4) لضعف حجاج بن أرطأة، وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 86) وابن ماجه (611) من طريق أبي معاوية به. وأخرجه الطبراني في الأوسط (4489) من طريق أبي حنيفة، عن عمرو بن شعيب به. وزاد: أنزل أو لم ينزل. وهو موجود في مصنف مسند أبي حنيفة لأبي نعيم (ص: 161).

دليل من قال: يكفي بعض الحشفة

وأما ختان المرأة - فاعلم - أن مدخل الذكر: هو مخرج الحيض والولد والمني , وفوق مدخل الذكر ثقب مثل إحليل الرجل, هو مخرج البول, وبين هذا الثقب ومدخل الذكر جلدة رقيقة, وفوق مخرج البول جلدة رقيقة مثل ورقة بين الشفرين, والشفران تحيطان بالجميع, فتلك الجلدة الرقيقة يقطع منها في الختان وهي ختان المرأة; فحصل أن ختان المرأة مستعل, وتحته مخرج البول, وتحت مخرج البول مدخل الذكر. قال البندنيجي وغيره: ومخرج الحيض الذي هو مخرج الولد ومدخل الذكر هو خرق لطيف, فإذا افتضت البكر اتسع ذلك الخرق فصارت ثيباً. قال أصحابنا: فالتقاء الختانين أن تغيب الحشفة في الفرج, فإذا غابت فقد حاذى ختانه ختانها, والمحاذاة هي التقاء الختانين, وليس المراد بالتقاء الختانين التصاقهما وضم أحدهما إلى الآخر, فإنه لو وضع موضع ختانه على موضع ختانها, ولم يدخله في مدخل الذكر لم يجب غسل بإجماع الأمة, هذا كلام الشيخ أبي حامد وغيره (¬1). دليل من قال: يكفي بعض الحشفة. لا أعلم لهم دليلاً من السنة، إلا أن يقال: إذا كان إدخال الحشفة بمثابة إدخال الذكر كله، والحشفة بعض الذكر، فإدخال بعض الحشفة بمنزلة إدخال الحشفة. وهذا القياس إن كان قد قيل به، فإنه قياس بمقابلة النص، فإن النص علق وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وبمجاوزة الختان الختان، وإدخال بعض الحشفة لا يتحقق هذا الشرط، فلا يجب به غسل، والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع (2/ 148 - 149).

فرع إذا قطعت الحشفة إذا قطع بعض الذكر فإن كان الباقي دون قدر الحشفة لم يتعلق به شيء من الأحكام باتفاق الأئمة (¬1). وإن كان قدرها فقط تعلقت الأحكام بتغييبه كله دون بعضه. وإن كان أكثر من قدر الحشفة فقولان: فقيل: لا بد لوجوب الغسل من تغييب جميع الباقي، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: يتعلق الحكم بقدر الحشفة منه، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، ووجه في مذهب الشافعية رجحه النووي (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 162) و (4/ 5) حاشية الطحطاوي (ص: 63)، الفواكه الدواني (1/ 117)، المجموع (2/ 151)، شرح العمدة (1/ 360)، (¬2) قال النووي في الروضة (1/ 82): " ولنا وجه أن تغييب قدر الحشفة لا يوجب الغسل، وإنما يوجبه تغييب جميع الباقي إن كان قدر الحشفة فصاعداً. قال النووي: هذا الوجه مشهور، وهو الراجح عند كثير من العراقيين، ونقله صاحب الحاوي عن نص الشافعي رحمه الله، ولكن الأول أصح - يعني أنه يكفي أن يغيب قدر الحشفة- اهـ وانظر حلية العلماء (1/ 170)، شرح زبد ابن رسلان (ص: 56). (¬3) البحر الرائق (1/ 61)، حاشية الطحطاوي (ص: 63)، حاشية ابن عابدين (1/ 162). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 528)، الفواكه الدواني (1/ 117). (¬5) حلية العلماء (1/ 170)، الوسيط (1/ 339)، مغني المحتاج (1/ 71). (¬6) المبدع (1/ 182)، دليل الطالب (ص: 14).

دليل من قال: لابد من إيلاج جميع الذكر

دليل من قال: لابد من إيلاج جميع الذكر. الأصل أن الغسل يتعلق بإيلاج الذكر كله؛ لأنه آلة الجماع، جاء الدليل بوجوب الغسل بإدخال الحشفة، فقلنا به بموجب الدليل، فإذا لم توجد الحشفة رجعنا إلى المتيقن، وهو وجوب الغسل بإيلاج الذكر كله، ولا يوجد دليل على أن إيلاج مقدار الحشفة من الذكر موجب للغسل، وقياس غير الحشفة على الحشفة قياس مع الفارق، فإن الحشفة من الذكر، هي مجمع الشهوة من العضو. دليل من قال: يكفي إيلاج مقدار الحشفة. دليل هذا القول: هو القياس على الحشفة، فإذا كان مقدار الحشفة يوجب الغسل، فإدخال مقدار الحشفة من الذكر عند عدم الحشفة موجب للغسل أيضاً، والله أعلم.

المبحث السادس في الإيلاج في الدبر

المبحث السادس في الإيلاج في الدبر اختلف الفقهاء في الإيلاج في الدبر، هل يوجب الغسل؟ فقيل: يوجب الغسل، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يوجب الغسل، وهو قول آخر غير مشهور عن مالك (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). دليل من قال: يوجب الغسل. الدليل الأول: قال تعالى عن قوم لوط: {إنكم لتأتون الفاحشة} (¬4). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/ 61)، تبيين الحقائق (1/ 16،17)، شرح فتح القدير (1/ 63). وانظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/ 129)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 164). وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/ 37)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 234). وقال النووي في المجموع (2/ 149): أما إيلاج الحشفة فيوجب الغسل بلا خلاف عندنا, والمراد بإيلاجها إدخالها بكمالها في فرج حيوان آدمي أو غيره, قبله أو دبره, ذكر أو أنثى, حي أو ميت, صغير أو كبير, فيجب الغسل في كل ذلك, والله أعلم. وفي مذهب الحنابلة: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 57)، المغني (1/ 131). (¬2) قال الدسوقي في حاشيته (1/ 129) وفي قول شاذ لمالك، أن التغييب في الدبر لا يوجب غسلاً حيث لا إنزال ". وقال في مواهب الجليل (1/ 308): وحكى ابن رشد رواية عن مالك لا غسل في الوطء في الدبر. اهـ (¬3) المحلى (1/ 274) مسألة: 187. (¬4) العنكبوت: 28.

الدليل الثاني

وقال عن الزنا في القبل: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} (¬1). وقال تعالى: {واللذان يأتيانها منكم} (¬2). فجعل هاهنا فاحشة، وهاهنا فاحشة، فسمي هذا كما سمي هذا، فكان الموجب في هذا كالموجب في تلك. الدليل الثاني: إذا كان الإيلاج في الدبر يوجب الحد، فكذلك يوجب صاعاً من ماء. الدليل الثالث: قالوا: إن الإيلاج في الدبر سبب لنزول المني عادة، مثل الإيلاج في السبيل المعتاد، والسبب يقوم مقام المسبب خصوصاً في موضع الاحتياط (¬3). دليل من قال: لا يوجب الغسل. الدليل الأول: عدم الدليل الموجب للغسل، والغسل لا يجب إلا بدليل شرعي، ولم يأت نص من الشارع على وجوب الغسل في الإيلاج في الدبر، وإنما النصوص الواردة جاءت بالتقاء الختانين، {وما كان ربك نسياً} (¬4). الدليل الثاني: كون الإيلاج محرماً لا يكفي لوجوب الغسل، فالقتل والكذب والغيبة محرمات بأدلة قطعية، ومع ذلك لا يجب الغسل منها. ¬

(¬1) النساء: 15. (¬2) النساء: 16. (¬3) بدائع الصنائع (1/ 36). (¬4) مريم: 64.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: أن هذا المحل لم يخلق للجماع، وبالتالي لا يوجب الغسل الإيلاج فيه، كما لا يوجب الغسل الإيلاج في فخذ المرأة أو في إبطها أو عكن بطنها أو نحو ذلك، والدليل على أنه لم يخلق لهذا قوله تعالى إنكاراً على قوم لوط {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم} (¬1). وكونه يسمى فاحشة فلا يكفي هذا لوجوب الغسل، بل جاء إطلاق الفاحشة على غير الجماع قال تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} (¬2). وقد ذكر المفسرون أن الآية نزلت فيمن يطوف بالبيت عرياناً، ومع ذلك من تعرى أمام الناس لا يجب عليه الغسل، وإن كان فعله من الفواحش، والله أعلم (¬3). والقول بعدم وجوب الغسل قول قوي، والغسل أحوط، والله أعلم. ¬

(¬1) الشعراء (165 - 166). (¬2) الأعراف: 28. (¬3) تفسير الطبري (8/ 154).

فرع في إدخال الأصبع ونحوها في الفرج

فرع في إدخال الأصبع ونحوها في الفرج قد يدخل الإنسان أصبعه في قبل أو دبر، وقد يدخل الطبيب آلة تعرف بالمنظار للكشف على الجهاز الهضمي عن طريق الدبر، فهل يوجب مثل هذا الغسل؟ فقيل: لا يوجب الغسل، وهو مذهب الأئمة (¬1). وقيل: إذا أدخل أصبعه في دبره وجب عليه الغسل، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2). دليل من قال: لا يجب الغسل. بأن الأصبع ليس آلة للجماع، فلا يجب فيه غسل، سواء أدخله في قبل أو دبر، وسواء وجدت الشهوة أم لم توجد، مثله تماماً لو استنكح يده، ووجد اللذة بذلك إلا أنه لم ينزل، فلا يجب في ذلك غسل، لأن اليد لم تخلق للنكاح. دليل من قال: يجب عليه الغسل. ربما قاسه على كلام لبعض الفقهاء من وجوب قضاء الصيام بمثل هذا الفعل، وأن الفاعل قد يجد لذة بذلك. وهذا كلام ضعيف، ولا دليل عليه البتة والله أعلم. ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 62)، حاشية ابن عابدين (1/ 166)، التاج والإكليل (1/ 449)، المجموع (2/ 156). (¬2) البحر الرائق (1/ 62).

المبحث السابع إذا أولج ذكره في قبل أو دبر مع وجود حائل

المبحث السابع إذا أولج ذكره في قبل أو دبر مع وجود حائل لو أدخل الرجل ذكره في كيس أو لف عليه خرقة، ثم أدخل ذكره في قبل أو دبر امرأة، فهل عليهما الغسل؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقيل: لا غسل عليه مطلقاً، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو قول لبعض المالكية (¬3)، وأصح الأوجه في مذهب الشافعية (¬4)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: إن كان الحائل رقيقاً وجب الغسل، وإن كان كثيفاً لم يجب، قال الحطاب المالكي: وهو الأشبه بمذهبنا (¬6)، اهـ وهو وجه في مذهب الشافعية (¬7). ¬

(¬1) حلية العلماء (3/ 269)، المجموع (2/ 152)، روضة الطالبين (1/ 82). (¬2) كشاف القناع (1/ 143)، الإنصاف (1/ 232)، المستوعب (1/ 228). (¬3) مواهب الجليل (1/ 308). (¬4) قال النووي في الروضة (1/ 82): " ولو لف على ذكره خرقة، فأولجه، وجب الغسل على أصح الأوجه، ولا يجب في الثاني، والثالث: إن كانت الخرقة خشنة: وهي التي تمنع وصول بلل الفرج إلى الذكر، وتمنع وصول الحرارة من أحدهما إلى الأخر لم يجب، وإلا وجب. اهـ وقال النووي في المجموع (2/ 152): ولو لف على ذكره خرقة، وأولجه بحيث غابت الحشفة، ولم ينزل، ففيه ثلاثة أوجه حكاها الماوردي والشاشي في كتبه والروياني وصاحب البيان وغيرهم: الصحيح وجوب الغسل عليهما، وبه قطع الجمهور. الخ كلامه رحمه الله تعالى. وانظر مغني المحتاج (1/ 69). (¬5) المستوعب (1/ 228). (¬6) مواهب الجليل (1/ 308)، وانظر حاشية العدوي (1/ 183). (¬7) المجموع (2/ 152).

دليل من قال: لا يجب عليه الغسل مطلقا

وفسر المالكية الخفيفة: ما يحصل معها اللذة. وفسرها بعض الشافعية: بحيث لا تمنع وصول بلل الفرج إلى الذكر، ولا يمنع وصول الحرارة إليه. دليل من قال: لا يجب عليه الغسل مطلقاً. قالوا: إن الإيلاج إنما هو وقع على الخرقة، ولم يمس الذكر الفرج، والدليل على أنه لم يقع مماسة أن هذه الأكياس يستعملها حتى المبتلى بأمراض جنسية معدية كمرض نقص المناعة، ولا تنتقل العدوى مع وجود هذه العوازل، وقياساً على القول بنقض الوضوء من مس الذكر ومس المرأة، فكما أنه لا ينقض الوضوء مس الذكر بحائل، وكذلك لا ينقض الوضوء مس المرأة بحائل على من يقول بالنقض من المس، فكذلك لا يوجب الغسل إيلاج بحائل، فلا بد من وجود مماسة بين الفرج وبين الذكر، وهذا ما لم يحصل. دليل من قال: يجب الوضوء مع الحائل. قالوا: إن الحكم متعلق بالإيلاج، وقد حصل. دليل من قال بالتفريق بين الرقيق والغليظ. إذا سلمنا أن إيلاج الذكر في الفرج موجب للغسل بدون إنزال، وكان هذا الحائل رقيقاً لم يمنع كمال اللذة والإحساس بحرارة المكان، وقد يصل بلل الفرج إلى الذكر، فوجود العازل كعدمه حيث يجد مع العازل ما يجده بدونه.

الراجح

الراجح: القول بأن الجماع مع وجود هذه الأكياس كالجماع بدونها من حيث اللذة والحرارة قول ليس دقيقاً، وكل من جرب هذه الأكياس يشعر بأن وجودها يكون على حساب كمال الاستمتاع واللذة، فالقول بعدم وجوب الغسل قول قوي، والغسل أحوط للدين خاصة أن الأمر يتعلق بالركن العملي الأول في الإسلام، والله أعلم.

الفرع الأول إذا أولج في قبل أو دبر خنثى مشكل

الفرع الأول إذا أولج في قبل أو دبر خنثى مشكل إذا أولج الرجل في دبر خنثى مشكل، كان على الخلاف في الإيلاج في الدبر، لأن الدبر أصلي لا إشكال فيه، وقد سبق تحرير الخلاف. فقيل: يجب عليه الغسل، وهو مذهب الجمهور. وقيل: لا يجب الغسل بالإيلاج في الدبر، وهو رواية عن مالك، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى. وانظر أدلتهم والعزو إلى كتبهم في مسألة الإيلاج في الدبر. أما إذا أولج رجل في فرج خنثى مشكل، أو أولج خنثى مشكل ذكره في دبر أو قبل، فقيل: لا يجب عليهما الغسل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). وقيل: يجب عليهما الغسل، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬5)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬6). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 63)، البناية في شرح الهداية (1/ 274 - 275). (¬2) المهذب (1/ 29)، إعانة الطالبين (1/ 71)، روضة الطالبين (1/ 82). (¬3) الإنصاف (1/ 235)، الكافي (1/ 57)، كشاف القناع (1/ 143 - 144)، المغني (1/ 131). (¬4) مواهب الجليل (1/ 309). (¬5) قال العدوي في حاشيته على الخرشي (1/ 162): والمعتمد وجوب الغسل على قاعدة: أن الشك في الحدث يوجب الغسل. وانظر: حاشية الدسوقي (1/ 128)، الفواكه الدواني (1/ 117)، حاشية العدوي (1/ 183)، الذخيرة (1/ 292). (¬6) الإنصاف (1/ 235).

دليل القول بعدم وجوب الغسل من الإيلاج في فرج الخنثى المشكل

دليل القول بعدم وجوب الغسل من الإيلاج في فرج الخنثى المشكل. قالوا: إن فرج الخنثى المشكل لا يعلم، هل هو فرج أصلي أو عضو زائد؟ ومع عدم اليقين بحقيقة الحال لا يجب الغسل بمجرد الشك؛ لأن الأصل عدم وجوب الغسل حتى نتيقن الحدث. واستدلوا على هذه القاعدة: (1148 - 21) بما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (¬1) دليل المالكية على وجوب الغسل. الدليل الأول: قالوا: قد تيقنا حصول الإيلاج، وحدث شك، هل هو فرج أصلي أو زائد، فأصبحت طهارته مشكوكاً في بقائها؛ لأن كلا الاحتمالين قائم، ولا بد من اليقين في تحقيق الطهارة، وإنما أوجب الغسل بالشك؛ لأن الطهارة شرط، والشك في الشرط مؤثر، بخلاف الشك في طلاق زوجته، أو عتق أمته، أو في الرضاع فلا يؤثر؛ لأنه شك في المانع، وهو لا يؤثر، وإنما أثر في الشرط دون المانع، لأن العبادة محققة في الذمة فلا تبرأ منها إلا بطهارة محققة، والمانع يطرأ على أمر محقق، وهو الإباحة أو الملك من الرقيق، فلا تنقطع بأمر مشكوك فيه (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (137)، ومسلم (361). (¬2) الفواكه الدواني (1/ 237).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: وعملاً بعموم الخبر «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» وسبق تخريجه. الدليل الثالث: القياس على الإيلاج في دبر الخنثى المشكل. وأجاب المالكية عن حديث عبد الله بن زيد: «لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً». بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره إذا شك في الصلاة أن يستمر فيها، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، لأن الخروج من الصلاة محرم، قالوا: وأما إذا شك خارج الصلاة، فالحكم مختلف، فيلزمه أن يأتي بالطهارة بيقين. قال الدسوقي في حاشيته: من شك، وهو في الصلاة طرأ عليه الشك فيها بعد دخوله، فوجب أن لا ينصرف عنها إلا بيقين، ومن شك خارجها طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب أن لا يدخلها إلا بطهارة متيقنة (¬1). قال ابن حجر تعليقاً على ذلك: إن كان ناقضاً خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك في الصلاة كبقية النواقض (¬2). بعد استعراض الأدلة نجد أن مذهب الجمهور أقيس، ومذهب الإمام مالك رحمه الله أحوط، والله أعلم. ¬

(¬1) حاشية الدسوقي (1/ 124). (¬2) فتح الباري (1/ 238).

الفرع الثاني لو غيب الرجل ذكره في دبر نفسه

الفرع الثاني لو غيب الرجل ذكره في دبر نفسه ذكر بعض الفقهاء هذه الصورة، واختلفوا في وجوب الغسل منها: فقيل: لا غسل عليه، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب عليه الغسل، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، ومذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4). دليل الحنفية: النصوص الموجبة للغسل وردت في فاعل ومفعول به، فنقتصر على ما ورد فيه النص. قال ابن عابدين: «ولأنه أولى من الصغيرة والميتة في قصور الداعي». اهـ ومعناه هذا: أي أن الحنفية لا يوجبون الغسل بالإيلاج في الصغيرة والميتة، فالإيلاج في دبر نفسه من باب أولى لنقص اللذة. دليل من أوجب الغسل. العمل بعموم الخبر، فإنه إيلاج ذكر في أحد السبيلين، فمناط الحكم هو إيلاج فرج أصلي في قبل أصلي، وقد تحقق، سواء كان الفاعل والمفعول به ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 62)، حاشية ابن عابدين (1/ 162). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 162). (¬3) حاشية العدوي على الخرشي (1/ 164)، حاشية الدسوقي (1/ 128)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 163). (¬4) حاشية البجيرمي (1/ 90).

مختلفين أو كانا من شخص واحد كالإنزال، قد يكون سبب الإنزال الاستمتاع بامرأة لا تحل له، وقد يكون سبب الإنزال الاستمتاع بيده، فلا فرق في الحكم في وجوب الغسل، والله أعلم.

الفصل الثالث في الشك في التقاء الختانين أو الشك في إنزال المني

الفصل الثالث في الشك في التقاء الختانين أو الشك في إنزال المني إذا شك الرجل هل أنزل منياً أو لم ينزل، أو شك، هل التقى الختانين أو لا؟ فهل يوجب هذا الشك الغسل عليه؟ اختلف العلماء في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه لا يجب عليه الغسل بمجرد الشك حتى يستيقن (¬1). وذهب المالكية إلى وجوب الغسل بالشك (¬2). وأدلة هذه المسألة هي أدلة المسألة السابقة معنا، إذا أولج في فرج خنثى مشكل، فهل يجب عليه الغسل، مع الشك هل هو فرج أصلي أو زائد؟ أو لا يجب عليه الغسل حتى يتيقن أنه فرج أصلي؟ فأغنى ذكر الأدلة هناك عن إعادتها هنا. ومذهب المالكية في الشك قول ضعيف غير مطرد، فهم يفرقون بين الشك في نجاسة الماء، وبين الشك في نجاسة غيره، ويفرقون بين الشك في نجاسة البدن، وبين الشك في نجاسة الثوب، ويفرقون بين الشك في النجاسة وبين الشك في الحدث، ويفرقون بين الشك في الحدث داخل الصلاة وبين الشك فيه خارجها. ¬

(¬1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 57)، شرح فتح القدير (1/ 186)، السراج الوهاج (صك 13)،مغني المحتاج (1/ 39)، منهاج الطالبين (1/ 4)، المغني (1/ 130)، المبدع (1/ 171). (¬2) الشرح الصغير (1/ 162)، الذخيرة (1/ 302).

وإليك بيان مذهبهم في هذه المسائل. إذا شك في نجاسة الثوب ونحوه وجب نضحه (¬1). وإذا شك في نجاسة البدن وجب غسله (¬2). وإذا شك في حصول الحدث، ففيه قولان: فقيل: ينقض مطلقاً، وهو رواية ابن القاسم عن مالك. وقيل: الشك ينقض الوضوء خارج الصلاة، ولا ينقض داخلها، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬3)، ونسب هذا القول للحسن رحمه الله (¬4). ¬

(¬1) قال الدسوقي في حاشيته (1/ 81): " يجب غسل النجاسة في حالتين: إذا تحققت النجاسة، أو ظنها ظناً قوياً، ويجب النضح في حالتين: إذا شك في إصابة النجاسة أو ظنها ظناً ضعيفاً. اهـ وانظر مختصر خليل (ص: 9)، الخرشي (1/ 116)، البيان والتحصيل (1/ 85). (¬2) البيان والتحصيل (1/ 81). (¬3) جاء في تهذيب المدونة (ص: 181): " ولو أيقن بالوضوء، ثم شك في الحدث، فلم يدر أأحدث بعد الوضوء أم لا، فليعد وضوءه". اهـ وقال الخرشي في شرحه (1/ 157): من شك في طريان الحدث له بعد علمه بطهر سابق، فإن وضوءه ينتقض إلا أن يكون مستنكحاً بأن يشم في كل وضوء أو صلاة أو يطرأ له في اليوم مرة أو أكثر فلا أثر لشكه الطارئ بعد علم الطهر، ولا يبني على أول خاطر به على ما اختاره ابن عبد السلام؛ لأن من هذه صفته لا ينضبط له الخاطر الأول من غيره، والوجود يشهد لذلك، وإن كان ابن عرفة اقتصر على بنائه على ذلك، وكلام المؤلف فيمن حصل له الشك في طرو الحدث قبل الدخول في الصلاة بخلاف من شك في طرو الحدث في الصلاة أو بعدها فلا يخرج منها ولا يعيدها إلا بيقين؛ لأنه شك طرأ بعد تيقن سلامة العبادة. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/ 301)، الثمر الداني (1/ 200)، القوانين الفقهية (ص: 21)، حاشية العدوي (1/ 431). (¬4) المغني (1/ 126).

وروى ابن نافع عن مالك أنه لا وضوء عليه مطلقاً كالجمهور (¬1). وأما مذهب المالكية في الشك في الماء، فيعمل بالأصل، وهو الطهارة كمذهب الجمهور (¬2). وقد بسطت أدلتهم والجواب عليها في كتاب المياه من هذا البحث، فارجع إليها إن شئت (¬3). ¬

(¬1) فتح الباري (1/ 238). (¬2) قال الباجي في المنتقى (1/ 59): " إن وجد مريد الطهارة الماء متغيراً، ولم يدر من أي شيء تغير، أَمِنْ معنى يمنع التطهر به، أم مِنْ معنى لا يمنع ذلك؟ فإنه ينظر إلى ظاهر أمره، فيقضي عليه به، فإن لم يكن له ظاهر، ولم يدر من أي شيء هو حمل على الطهارة، روى ذلك ابن القاسم في المجموعة. اهـ وقال في الفواكه الدواني (1/ 125): لو تحققنا تغير الماء، وشككنا في المغير له، هل هو من جنس ما يضر أم لا؟ فهو طهور حيث استوى طرفا الشك، وإلا عمل على الظن، بخلاف ما لو تحققنا التغير وعلمنا أن المغير مما يضر التغير به وشككنا في طهارته ونجاسته فلا يكون طهوراً بل هو طاهر فقط. اهـ (¬3) انظر كتاب أحكام الطهارة: المياه والآنية: الباب التاسع: في الشك والاشتباه. الفصل الأول: في حكم الماء ونحوه إذا كان مشكوكاً فيه.

الفصل الرابع من موجبات الغسل إسلام الكافر

الفصل الرابع من موجبات الغسل إسلام الكافر اختلف العلماء في إسلام الكافر الأصلي أو المرتد هل يوجب الغسل؟ فقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يستحب الغسل مطلقاً وجد منه ما يوجب الغسل أو لم يوجد، وهو قول في مذهب الحنفية (¬4)، وقول في مذهب المالكية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). وقيل: يستحب الغسل إلا أن يوجد منه ما يوجب الغسل حال كفره ¬

(¬1) حاشية الدسوقي (1/ 130 - 131)، مواهب الجليل (1/ 311)، وقال القرطبي في تفسيره (8/ 102): " والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله ... الخ كلامه رحمه الله. (¬2) قال في الإنصاف (1/ 236): الثالث: إسلام الكافر - أي من موجبات الغسل- أصلياً كان أو مرتداً، هذا المذهب، نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب. الخ كلامه رحمه الله. وانظر الكافي (1/ 57)، كشاف القناع (1/ 145)، الفروع (1/ 199). (¬3) الكافي (1/ 57). (¬4) شرح فتح القدير (1/ 64). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 130 - 131)، مواهب الجليل (1/ 311). (¬6) المستوعب (1/ 230 - 231)، قال في الإنصاف (1/ 236): وهو أولى.

دليل من قال: يجب عليه الغسل مطلقا

فإنه يجب عليه الغسل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). دليل من قال: يجب عليه الغسل مطلقاً. الدليل الأول: (1149 - 22) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن الأغر، عن خليفة بن حصين، عن جده قيس بن عاصم أنه أسلم، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر (¬4). [الحديث إسناده منقطع] (¬5). ¬

(¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 90): والاغتسال في الحاصل أحد عشر نوعاً: خمسة منها فريضة، ثم ذكرها، ثم قال: وآخر مستحب وهو الكافر إذا أسلم، فإنه يستحب له أن يغتسل، به أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جاءه يريد الإسلام، وهذا إذا لم يكن جنباً، فإن أجنب ولم يغتسل حتى أسلم، فقد قال بعض مشايخنا: لا يلزمه الغسل؛ لأن الكفار لا يخاطبون بالشرائع والأصح أنه يلزمه. الخ كلامه رحمه الله تعالى. وانظر الفتاوى الهندية (1/ 16)، البحر الرائق (1/ 69)، شرح فتح القدير (1/ 64). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 131 - 132). (¬3) الحاوي الكبير (1/ 217)، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (1/ 71)، كفاية الأخيار (1/ 47). (¬4) المسند (5/ 61). (¬5) اختلف فيه على سفيان: فرواه عبد الرزاق في المصنف (9833). وأحمد (5/ 61) والترمذي (605) وابن خزيمة (255) عن عبد الرحمن بن مهدي. وأبو داود (355) حدثنا محمد بن كثير العبدي. وأخرجه النسائي (188) وابن خزيمة (255) وابن حبان (1240) من طريق يحيى بن سعيد القطان. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه ابن الجاورد في المنتقى (14) من طريق أبي عامر. وأخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (885)، والطبراني في الكبير (18/ 338) رقم 866، والبيهقي في السنن (1/ 171) من طريق أبي عاصم. كلهم (ابن مهدي والقطان وعبد الرزاق والعبدي وأبو عامر وأبو عاصم) رووه عن سفيان، عن الأغر، عن خليفة بن حصين، عن جده قيس بن عاصم. ورواه وكيع، واختلف عليه فيه: فرواه أحمد في المسند (5/ 61) حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأغر المنقري، عن خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم، عن أبيه، أن جده أسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يغتسل بماء وسدر. فزاد في الإسناد حصين بن قيس، وحصين بن قيس لم يرو عنه إلا ابنه، وذكره ابن حبان في الثقات (4/ 156) فهو مجهول. وأخرجه أبو علي بن السكن في كتابه السنن كما في كتاب الوهم والإيهام (2/ 429) من طريق علي بن خشرم، عن وكيع به بنفس إسناد الإمام أحمد رحمه الله. ورواه ابن سعد في الطبقات (7/ 37). والبيهقي في السنن (1/ 171) من طريق سعدان بن نصر، كلاهما عن وكيع، عن سفيان، عن الأغر، عن خليفة بن حصين أن جده قيس بن عاصم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - .... فذكر الحديث. وهذه الرواية عن وكيع، عن سفيان موافقة لرواية الجماعة عن سفيان. وتابع قبيصة بن عقبة وكيعاً بذكر زيادة (حصين بن قيس)، أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (1/ 396) و (3/ 187)، ومن طريقه البيهقي (1/ 172). فهل يسلك في الطريقين طريق الترجيح أو يقال: إن خليفة بن حصين عنعنه عن جده، وقد دلسه، وقد تبين من جمع الطرق وجود الراوي الساقط، في هذا قولان لأهل العلم. قال أبو حاتم في العلل (1/ 24) هذا خطأ، أخطأ قبيصة في هذا الحديث، إنما هو الثوري، عن الأغر، عن خليفة بن حصين، عن جده قيس. وقد علمت بأن قبيصة لم ينفرد بالحديث عن سفيان، بل رواه وكيع عن سفيان بالزيادة أيضاً، والراوي عن وكيع أمة في الحفظ، وهو الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وتابعه غيره كما سلف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورجح ابن القطان الفاسي وابن السكن، أن الحديث من رواية خليفة بن حصين، عن أبيه، عن جده. قال ابن السكن كما في كتاب الوهم والإيهام (2/ 429): هكذا رواه وكيع مجوداً عن أبيه، عن جده. وقال ابن القطان: في كتابه الوهم والإهام (2/ 429): فقد تبين أن رواية يحيى ومحمد ابن كثير عن سفيان منقطعة، فإنه كانت معنعنة، فجاء وكيع - وهو في الحفظ من هو - فزاد في الإسناد (عن أبيه) فارتفع الإشكال، وتبين الانقطاع. ثم نقول: فإذ لا بد في هذا الإسناد من زيادة حصين بن قيس، بين خليفة وقيس، فالحديث ضعيف؛ فإنه زيادة عادت بنقص، فإنها ارتفع بها الانقطاع، وتحقق ضعف الخبر، فإن حاله مجهولة، بل هو في نفسه غير مذكور، ولم يجر له ذكر في كتابي البخاري وابن أبي حاتم إلا غير مقصود برسم يخصه، أما البخاري فإنه لما ذكر خليفة بن حصين قال: روى عن أبيه. وأما ابن أبي حاتم فإنه لما ذكر قيس بن عاصم، قال: روى عنه ابن ابنه خليفة بن حصين، فأما في باب من اسمه حصين فلم يذكر، وابنه خليفة ثقة، وكذلك الأغر بن الصباح، فاعلم ذلك. اهـ كلام ابن القطان رحمه الله. ونقل ابن دقيق العيد كلام ابن السكن وكلام ابن القطان، ولم يتعقبه بشيء انظر كتاب الإمام في معرفة أحاديث الأحكام (3/ 37). ورواه الطبراني في الكبير (18/ 338) رقم 867 من طريق يحيى الحماني، ثنا قيس بن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن قيس بن عاصم، أنه قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستخلاه، فأمره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر، فاغتسل، فأقيمت الصلاة، فدخل بين أبي بكر وعمر، فقام بينهما، فلما قضي الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد سألني قيس بن عاصم ثلاث كلمات، ما سألني عنهن غير أبي بكر. ورواه أبو بكر أحمد بن عبد الله البرقي في تاريخه كما في كتاب الإمام لابن دقيق العيد (3/ 37) من طريق عبد الرحيم بن سليمان، عن قيس بن الربيع به، بلفظ: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر، وأن يقوم بين أبي بكر وعمر، فيعلمانه. وهذه الزيادة في حديث قيس بن الربيع زيادة منكرة. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1150 - 23) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبيد الله وعبد الله ابنا عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن ثمامة الحنفي أسر، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إليه، فيقول: ما عندك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمن تمن على شاكر، وإن ترد المال تعط منه ما شئت، وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبون الفداء، ويقولون: ما نصنع بقتل هذا، فمر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فأسلم، فحله، وبعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل، وصلى ركعتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد حسن إسلام إخيكم (¬1). [في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالغسل، وهو غير محفوظ، وإنما المحفوظ أنه اغتسل من قبل نفسه كما هي رواية الصحيحين، كما أن المحفوظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مَنَّ عليه بإطلاق سراحه قبل أن يعلن إسلامه، فذهب واغتسل، ثم أعلن إسلامه، فكان غسله قبل أن يعلن إسلامه خلاف ¬

= وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (5/ 210)، التحفة (11100)، إتحاف المهرة (16356). (¬1) المصنف (9834). ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن الجارود في المنتقى (15)، وابن خزيمة (253)، وأبو عوانة (6699)، وابن حبان (1238)، والبيهقي في السنن (1/ 171). وأخرجه ابن حبان في الثقات (1/ 280) من طريق عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر وحده به. وأخرجه أحمد (2/ 304) حدثنا عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن عمر وحده به، ولفظه: " اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل ".

هذا الحديث] (¬1). ¬

(¬1) انفرد بهذا الحديث العمريان: عبيد الله وعبد الله ابنا عمر، وقد رواه غيرهما عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وليس فيه الأمر بأن يغتسل، وإنما فيه أنه اغتسل، وقد كنت أحمل على عبد الرزاق في المخالفة، إلا أني وقفت على راو آخر وهو عبد الرحمن بن مهدي يرويه عن عبد الله بن عمر المكبر، وفيه الأمر بالغسل، كما جاء في علل الخلال نقلاً من كتاب الإمام في معرفة أحاديث الأحكام (3/ 38) عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن سريج، عن عبد الله بن عمر - يعني العمري - عن سعيد المقبري به، وفيه: فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينطلق إلى حائط أبي طلحة، فيغتسل. فخرج عبد الرزاق من عهدته، والله أعلم. وقد قُرِنَتْ رواية عبد الله بن عمر الضعيف برواية أخيه عبيد الله الثقة، وكنت أعتقد أن اللفظ لعبد الله وحده، لأنه يبعد أن يكون عبيد الله بن عمر، وهو الثقة ينفرد بألفاظ في هذا الحديث ليست محفوظة، منها الأمر بالغسل، ومنها أنه اغتسل بعد إسلامه، ومنها أن إطلاق سراحه كان بعد أن أعلن إسلامه، وكل هذه الألفاظ مخالفة لرواية الصحيحين، بل ومخالف لكل من روى الحديث ولو خارج الصحيح، وقد وقفت على طريق عبد الله بن عمر منفرداً، وفيه الأمر بالغسل، كما سبق ذكره من طريق ابن مهدي وسريج، وقد كان من سبيل أهل الحديث الحمل على الضعيف وتبرئة الثقة إذا وجد إلى ذلك سبيل، خاصة أن هذه المخالفات تليق بحال عبد الله بن عمر لما عرف من سوء حفظه، إلا أني وقفت على طريق عند البزار كما في كشف الأستار (333) حدثنا سلمة بن شبيب وزهير بن محمد - واللفظ لزهير - أنا عبد الرزاق، أنا عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال رضي الله عنه أسلم، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر. وقد انفرد البزار بهذا الطريق، وكل من رواه من طريق عبد الرزاق إنما رواه مقروناً برواية أخيه عبد الله، فإن كان طريق البزار محفوظاً فهذا يبين أن الوهم من عبيد الله وأخيه، وأنا أشك في ذلك، لأن البزار فيه لين، وانفراده بهذا الطريق يجعل في النفس منه شيئاً، والموجود في مصنف عبد الرزاق روايته عن الأخوين مقرونين (9834). وقد رواه جمع من الحفاظ عن عبد الرزاق عن العمريين مقرونين، منهم: الأول: محمد بن يحيى الذهلي، كما في المنتقى لابن الجارود (15)، وصحيح ابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = خزيمة (253)، ومسند أبي عوانة (6699)، والسنن الصغرى للبيهقي (1/ 113)، وفي الكبرى (1/ 171). الثاني: سلمة بن شبيب، كما في صحيح ابن حبان (1238)، وهذه الواية عن سلمة تخالف رواية البزار عنه، حيث رواه سلمة عن عبد الرزاق، عن عبيد الله وعبد الله، بل إن ابن حبان رواه في الثقات (1/ 280) من طريق سلمة بن شبيب، ثنا عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر المكبر وحده. الثالث: النجار، كما في الأوسط لابن المنذر (2/ 115). الرابع: أبو الأزهر، كما في سنن البيهقي الصغرى (1/ 113)، والكبرى (1/ 171). وسواء جعلنا الوهم من عبد الله أو من أخيه عبيد الله إلا أن الحديث من هذا الطريق قد انفرد بالأمر بالغسل، والمحفوظ أن ثمامة هو الذي اغتسل من قبل نفسه، وقبل أن يعلن إسلامه، وإليك بيان من وقفت عليه ممن روى الحديث، ولم يذكر الأمر بالغسل: الأول: الليث بن سعد، وهو في البخاري (462، 469، 2422، 2423، 4372) ومسلم (1764)، وأبو داود (2679)، والنسائي (189)، وابن خزيمة (252)، وابن حبان (1239)، والبيهقي (1/ 171). وأنقل إليك لفظ البخاري لتعرف قدر المخالفة في لفظ العمريين عن لفظ الصحيح، فقد رواه البخاري (4372) من طريق الليث، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال عندي ما قلت لك، فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب =

ويحتمل أن يكون ثمامة اغتسل لمقابلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان في الأسر ثلاثة أيام، وهو كبير قومه، فلما أطلق سراحه وكان يريد الجلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، لإعلان إسلامه رأى أن يحسن من حاله، خاصة أن بلاد الحجاز بلاد حارة، كما أنه يليق بثمامة وهو كبير قومه، وقد نوى أن يقابل رجلاً مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ الثاني: عبد الحميد بن جعفر، كما في صحيح مسلم (1764)، وأبي عوانة (6696)، والبيهقي في السنن (9/ 65). الثالث: ابن عجلان، كما في مسند أحمد (2/ 246) إلا أنه قال: فذهبوا به إلى بئر الأنصار، فغسلوه، فأسلم .... الخ الحديث، وليس فيه الأمر بالاغتسال، وإن كان هذا مخالف لما في الصحيحين من كونه انطلق هو فاغتسل. الرابع: محمد بن إسحاق، واختلف عليه في إسناده، فرواه البيهقي في السنن (9/ 66) وفي الدلائل (4/ 79 - 80) من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وفيه: " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أطلقوه، فقد عفوت عنك يا ثمام، فخرج ثمامة حتى أتى حائطاً من المدينة، فاغتسل فيه، وتطهر، وطهر ثيابه، ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو جالس في المسجد ... وذكر الحديث. وليس فيه أنه أمره بالغسل. ورواه البيهقي في الدلائل (4/ 181) من طريق محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، فزاد في إسناده (والد سعيد المقبري) وهو وهم. ورواه أحمد (2/ 304) حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي- حدثنا عبد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد به، بلفظ: أن ثمامة بن أثال أو أثالة أسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل. ومن طريق أحمد أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/ 36).

الدليل الثالث

أن يُحَسِّنَ من هيئته ما استطاع، فكان غسله ليطرد عنه رائحة العرق، وقد وقع غسله قبل أن يعلن إسلامه، فإذا قلنا: تشترط النية للغسل، فقبل إعلان إسلامه ليس من أهل العبادة، فلا يصح غسله عن غسل الإسلام على القول بوجوب الغسل. الدليل الثالث: (1151 - 24) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن إدريس بن مطيب المصيصي، حدثنا سليم بن منصور بن عمار، حدثنا أبي، حدثنا معروف أبو الخطاب، عن واثلة بن الأسقع لما أسلمت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: اغتسل بماء وسدر، واحلق عنك شعر الكفر. قال الطبراني: لم يروه عن واثلة بن الأسقع إلا بهذا الإسناد، تفرد به منصور بن عمار (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المعجم الصغير (880). (¬2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/ 82) رقم: 199. وأخرجه الحاكم في المستدرك (6428) من طريق محمد بن إسماعيل بن مهران، ثنا سليم بن منصور به. ورواه صاحب طبقات المحدثين بأصبهان (3/ 238 - 239) من طريق عامر بن عامر، ثنا سليم بن منصور به. وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 71) من طريق أبي الحسن أحمد بن الحسن الصوفي، قال: سمعت سليم بن منصور به. وفي إسناده منصور بن عمار، جاء في ترجمته: قال أبو حاتم: ليس بالقوي، صاحب مواعظ. الجرح والتعديل (8/ 176). =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1152 - 25) ما رواه الطبراني من طريق أحمد بن عبد الملك بن واقد الحراني، ثنا قتادة بن الفضل بن قتادة الرهاوي، عن أبيه، حدثني عم أبي هشام ابن قتادة الرهاوي، عن أبيه، قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: يا قتادة اغتسل بماء وسدر، واحلق عنك شعر الكفر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر من أسلم أن ¬

_ = وقال ابن حبان: أخباره في القصص والحث على الخير أكثر من أن يحتاج إلى ذكرها، وليس من أهل الحديث الذين يحفظون، وأكثر روايته عن الضعفاء. الثقات (9/ 170). وقال العقيلي: لا يقيم الحديث، وكان فيه تجهم من مذهب جهم. الضعفاء الكبير (4/ 193). وقال الدارقطني: يروي عن ضعفاء أحاديث لا يتابع عليها. لسان الميزان (6/ 98). وأما ابنه سليم بن منصور، فله ترجمة في الجرح والتعديل (4/ 216): قال ابن أبي حاتم: روى عنه أبى، وسألته عنه، فقلت أهل بغداد يتكلمون فيه؟ فقال: مه، سألت ابن أبى الثلج عنه، فقلت له: إنهم يقولون: كتب عن ابن عليه، وهو صغير، فقال: لا، كان هو أسن منا. وترجم له الخطيب في تاريخ بغداد (9/ 232) ونقل كلام أبي حاتم المتقدم. وفي الإسناد معروف الخياط، جاء في ترجمته: قال أبو حاتم: ليس بالقوي. الجرح والتعديل (8/ 322). وقال ابن عدي: هذه الأحاديث لمعروف عن واثلة منكرة جداً، ثم قال: ومعروف هذا عامة ما يرويه، وما ذكرته أحاديث لا يتابع عليه. الكامل (6/ 327). وقال الحافظ ابن حجر: أورد له ابن عدي في ترجمته عدة أحاديث منكرة من رواية عمر بن حفص المعمر، والبلية فيه، لا من معروف. تهذيب التهذيب (10/ 209). وفي التقريب: ضعيف. فالحديث ضعيف، وقد ضعفه الحافظ في تلخيص الحبير (2/ 68).

الدليل الخامس

يختتن، وإن كان ابن ثمانين سنة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (1153 - 26) قال ابن دقيق العيد: وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أسلم أن يغتسل (¬3). [مع كونه ساقه معلقاً، فإسناده ضعيف جداً] (¬4). ¬

(¬1) المعجم الكبير (19/ 14) رقم 20. (¬2) ترجمة الإسناد: قتادة بن الفضل بن قتادة الرهاوي، سأل ابن أبي حاتم أباه عنه، فقال: شيخ. الجرح والتعديل (7/ 135). وذكره ابن حبان في الثقات (9/ 22). وليس له رواية في الكتب الستة أو في المسند. الفضل بن قتادة، ذكره البخاري في التاريخ الكبير، ولم يذكر فيه شيئاً. التاريخ الكبير (7/ 115). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 317). وليس له رواية في المسند أو في الكتب الستة. - هشام بن قتادة، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/ 68). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 503). وضعفه الحافظ في تلخيص الحبير (2/ 68). (¬3) الإمام (3/ 39). (¬4) في إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، وهو متروك. قال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين (356). =

الدليل السادس

الدليل السادس: (1154 - 27) قال ابن دقيق العيد: وروي من حديث سالم بن سالم، عن أبي المغيرة، عن أبي البراء رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أسلم أن يغتسل بماء وسدر (¬1). [إسناده ضعيف مع كونه ساقه معلقاً] (¬2). ¬

= وقال أحمد: ليس يسوى حديثه شيئاً، خرقنا حديثه، سمعت منه، ثم تركناه، وكان ولي قضاء المدينة، أحاديثه مناكير، وكان كذاباً حرقت أحاديثه منذ دهر. الكامل (4/ 277). وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن عمه ما ليس من حديثه، وذاك أنه يهم، فيقلب الإسناد، ويلزق المتن بالمتن، يفحش ذلك في روايته، فاستحق الترك. المجروحين (2/ 53). وفي التقريب: متروك. (¬1) الإمام في معرفة أحاديث الأحكام (3/ 39). (¬2) في إسناده سلم بن سالم البلخي، وقد ضعفوه، قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: سلم بن سالم البلخي ليس بذاك في الحديث، كأنه ضعفه. الجرح والتعديل (4/ 266). وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: سلم بن سالم ضعيف الحديث، وترك حديثه ولم يقرأه علينا. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سئل أبو زرعة عن سلم بن سالم فقال: أخبرني بعض الخراسانيين، قال: سمعت ابن المبارك يقول: اتق حيات سلم بن سالم لا تلسعك. وقال أيضاً: سمعت أبا زرعة يقول ما أعلم أنى حدثت عن سلم بن سالم إلا أظنه مرة، قلت: كيف كان في الحديث؟ قال: لا يكتب حديثه، كان مرجئاً، وكان لا - وأومى بيده إلى فيه- يعنى لا يصدق.

دليل من قال: لا يجب عليه الغسل مطلقا

دليل من قال: لا يجب عليه الغسل مطلقاً. الدليل الأول: عدم قيام دليل صحيح يوجب الغسل على الكافر إذا أسلم، والأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل صحيح، وقد رأينا من خلال ذكر أدلة القائلين بالوجوب بأنها أدلة ضعيفة. الدليل الثاني: ما أكثر الصحابة الذين أسلموا، ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالغسل، ولو كان الغسل واجباً، لكان هذا الحكم مشهوراً؛ لحاجة الناس إليه، ولجاءت به النصوص الصحيحة؛ لأنه ما من أحد أسلم في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا ويحتاج إلى معرفة هذا الحكم، فكونه ينفرد بهذا الحكم حصين بن قيس، وهو غير معروف، ولم يرو عنه إ لا ابنه يجعل في النفس شيئاً من إيجاب مثل هذا الحكم، لا سيما أننا قد علمنا أن حديث ثمامة في الأمر بالغسل حديث شاذ مخالف لرواية الصحيحين وغيرهما. وأجيب: كونه لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من أسلم بالغسل بعد إسلامه، فيقال: إن عدم النقل ليس نقلاً للعدم؛ لأن الأصل العمل بما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يلزم أن ينقل العمل به من كل واحد؛ ولأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - واحداً من الأمة أمر لجميع الأمة. ورد هذا: بأن هذا الجواب مسلم لو ثبت الأمر النبوي لواحد من الأمة، وإذا لم يثبت كما تبين من خلال الكلام على إسناد الأحاديث فلا يصح أن يقال: إنه قد ثبت الأمر به لواحد من الأمة فيكون أمراً للجميع.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن ليدعو أهل الكتاب إلى الإسلام، وأخبره بأن يدعوهم إلى الشهادتين، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة وهكذا، ولم يخبره بأن من أسلم فعليه أن يغتسل، ولو كان لزاماً على كل كافر دخل في الإسلام أن يغتسل لنبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى هذا، والله أعلم. (1155 - 28) فقد روى البخاري رحمه الله من طريق يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب. ورواه مسلم (¬1). دليل من قال: يستحب له الغسل مطلقاً. أخذ من حديث قيس بن عاصم وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالغسل بأن الأمر للاستحباب، والذي حمله على صرف اللفظ عن ظاهره، كون الذي أسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير، ولم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرهم بالغسل، فصار هذا قرينة لصرف الأمر من الوجوب إلى الندب. ¬

(¬1) البخاري (1496)، ومسلم (19)

دليل من قال: يجب عليه الغسل إن كان جنبا حال كفره

وهذا التوجيه حسن لو صح حديث قيس بن عاصم، أما من لم يصحح الحديث، ولا يرى ثبوت الأحكام الشرعية بالأحاديث الضعيفة، فإن الأصل براءة الذمة حتى يثبت دليل صحيح خال من النزاع، وهذا ما لم يتحقق في مسألتنا هذه، والله أعلم. دليل من قال: يجب عليه الغسل إن كان جنباً حال كفره. قالوا: لا خلاف في أن الكافر إذا بال في حال كفره، ثم أسلم، أنه يلزمه الوضوء إذا أراد الصلاة، فإذا كان ذلك في الحدث الأصغر، فكذلك الحدث الأكبر، فإذا أجنب قبل أن يسلم، ثم أسلم، فإنه يلزمه الغسل قياساً على البول. وأجيب: بأن الله سبحانه وتعالى قال: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (¬1). ولحديث عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإسلام يهدم ما قبله» رواه مسلم. ولأنه أسلم خلق كثير لهم الزوجات والأولاد , ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغسل وجوباً, ولو وجب لأمرهم به. ولأن الكافر إذا أسلم لا يطالب بقضاء الصلاة ولا بقضاء الصوم، فكذلك لا يطلب بما فعله حال كفره قبل أن يلتزم أحكام الإسلام. وأما القياس على البول فهو قياس مع الفارق، فهو لم يجب عليه الوضوء للصلاة بسبب الحدث السابق حال كفره، وإنما هو مخاطب عند القيام إلى ¬

(¬1) الأنفال: 38.

الراجح من الأقوال

الصلاة بأن يكون على طهارة، وهو لم يفعلها، وقد قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ....} (¬1) الآية، فكان فعله الوضوء بناء على امتثال أمر الله سبحانه وتعالى حال إسلامه، وليس بسبب الحدث القائم وقت كفره. ورده النووي بقوله: أما الآية الكريمة والحديث فالمراد بهما غفران الذنوب, فقد أجمعوا على أن الذمي لو كان عليه دين أو قصاص لا يسقط بإسلامه, ولأن إيجاب الغسل ليس مؤاخذة وتكليفاً بما وجب في الكفر, بل هو إلزام شرط من شروط الصلاة في الإسلام فإنه جنب والصلاة لا تصح من الجنب, ولا يخرج بإسلامه عن كونه جنباً، والجواب عن كونهم لم يؤمروا بالغسل بعد الإسلام أنه كان معلوماً عندهم, كما أنهم لم يؤمروا بالوضوء لكونه معلوماً لهم, والفرق بين وجوب الغسل ومنع قضاء الصوم والصلاة من وجهين. أحدهما: ما سبق أن الغسل مؤاخذة بما هو حاصل في الإسلام، وهو كونه جنباً بخلاف الصلاة. والثاني: أن الصلاة والصوم يكثران فيشق قضاؤهما، وينفر عن الإسلام، وأما الغسل فلا يلزمه إلا غسل واحد، ولو أجنب ألف مرة وأكثر، فلا مشقة فيه. الراجح من الأقوال: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن أقرب الأقوال إلى الصحة القول بعدم الوجوب، لعدم ثبوت دليل صحيح يقضي بوجوب الغسل، والله أعلم. ¬

(¬1) المائدة: 6.

الفصل الخامس من موجبات الغسل موت الرجل أو تغسيله

الفصل الخامس من موجبات الغسل موت الرجل أو تغسيله المبحث الأول في وجوب غسل الميت إذا مات المسلم، ولم يكن شهيداً، شرع تغسيله قبل الصلاة عليه، وهل غسله واجب أو سنة؟ في هذا خلاف بين العلماء، فقيل: غسله واجب، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره بعض المالكية (¬4). وقيل: سنة، وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى (¬5). ¬

(¬1) المبسوط (2/ 58)، بدائع الصنائع (1/ 299)، البحر الرائق (1/ 68)، حاشية ابن عابدين (1/ 167). (¬2) الأم (1/ 274)، المهذب (1/ 127)، المجموع (5/ 112) روضة الطالبين (2/ 98). (¬3) المبدع (2/ 220)، الإنصاف (2/ 469)، الكافي (1/ 247). (¬4) جاء في حاشية الدسوقي (1/ 407): " أما وجوب الغسل فهو قول عبد الوهاب وابن محرز وابن عبد البر، وشهره ابن راشد وابن فرحون ... الخ كلامه رحمه الله تعالى. (¬5) مواهب الجليل (2/ 208)، وقال في حاشية الدسوقي (1/ 407): " وأما سنيته فحكاها ابن أبي زيد وابن يونس وابن الجلاب وشهره ابن بزيزة ... اهـ

دليل الجمهور

دليل الجمهور: الدليل الأول: (1156 - 29) ما رواه البخاري من طريق حفصة، عن أم عطية رضي الله عنها قالت: توفيت إحدى بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اغسلنها بالسدر وتراً، ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فضفرنا شعرها ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها. ووراه مسلم أيضاً (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: اغسلنها، وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب. الدليل الثاني: (1157 - 30) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: بينما رجل واقف بعرفة، إذ وقع عن راحلته، فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً، ورواه مسلم (¬2). ¬

(¬1) البخاري (1263)، ومسلم (939). (¬2) البخاري (1256)، مسلم (1206).

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - «اغسلوه» وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب إلا لقرينة صارفة، ولا قرينة. الدليل الثالث: حكى بعضهم الإجماع على وجوب غسل الميت،. قال ابن الهمام: غسل الميت فرض بالإجماع (¬1). وقال النووي في المجموع: «وغسل الميت فرض كفاية بإجماع المسلمين» (¬2). وكذا حكاه النووي في الروضة (¬3). وأنكر ابن حجر على النووي دعوى الإجماع، فقال: وهو ذهول منه شديد، فإن الخلاف مشهور عند المالكية، حتى إن القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة، ولكن الجمهور على وجوبه، وقد رد ابن العربي على من لم يقل بذلك - أي من لم يقل بالسنية - (¬4). الدليل الرابع: لقد غُسِّل أشرفُ الخلق على الله سبحانه وتعالى، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتغسيل ابنته، وغُسِّل أبو بكر بعده، والناس يتوارثونه خلفاً عن سلف، ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه مات، فدفن من غير غسل إلا الشهداء (¬5). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (2/ 105). (¬2) المجموع (5/ 112). (¬3) روضة الطالبين (2/ 98). (¬4) فتح الباري (3/ 126). (¬5) بدائع الصنائع (2/ 257).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: يستدل الحنفية بحديث ينسبونه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونصه: «حق المسلم على المسلم ستة حقوق، وفي جملته: أن يغسله بعد موته» (¬1). وبعضهم يقول: حق المسلم على المسلم ثمانية حقوق، وذكر منها غسل الميت (¬2). قال الزيلعي: فهذا حديث ما عرفته، ولا وجدته، والذي وجدناه من هذا النوع، ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس. انتهى. وفي لفظ لمسلم: «حق المسلم على المسلم ست، فزاد: وإذا استنصحك فانصح له» (¬3). الدليل السادس: (1158 - 31) ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، قال:، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد ابن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عتي قال: رأيت شيخا بالمدينة يتكلم، فسألت عنه، فقالوا: هذا أبي بن كعب، فقال: إن آدم عليه السلام لما حضره الموت قال لبنيه: أي بني، إني أشتهي من ثمار الجنة؟ فذهبوا يطلبون له، فاستقبلتهم الملائكة، ومعهم أكفانه وحنوطه، ومعهم الفؤوس والمساحي والمكاتل، فقالوا لهم: ¬

(¬1) المبسوط (2/ 58). (¬2) شرح فتح القدير (2/ 106). (¬3) نصب الراية (2/ 257).

يا بني آدم ما تريدون وما تطلبون - أو ما تريدون وأين تذهبون - قالوا: أبونا مريض، فاشتهى من ثمار الجنة، قالوا لهم: ارجعوا فقد قضي قضاء أبيكم، فجاءوا، فلما رأتهم حواء عرفتهم، فلاذت بآدم فقال: إليك إليك عني؛ فإني إنما أوتيت من قبلك، خلي بيني وبين ملائكة ربي تبارك وتعالى، فقبضوه، وغسلوه، وكفنوه، وحنطوه، وحفروا له، وألحدوا له، وصلوا عليه، ثم دخلوا قبره، فوضعوه في قبره، ووضعوا عليه اللبن، ثم خرجوا من القبر، ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا: يا بني آدم، هذه سنتكم (¬1). [ضعيف انفرد به عتي بن ضمرة ولم يتابع عليه، وفي إسناده اختلاف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (5/ 136). (¬2) انفرد بهذا الخبر عتي، عن أبي بن كعب، ولم يتابع عليه، وقد اختلف فيه، فقال فيه ابن سعد: كان عتي ثقة قليل الحديث، روى عن أبي بن كعب وغيره. انظر الطبقات الكبرى (7/ 146). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 286). وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، روى عنه الحسن ستة أحاديث. انظر معرفة الثقات (2/ 127). وقال علي بن المديني: مجهول، سمع من أبي بن كعب، لا نحفظها إلا من طريق الحسن، وحديثه يشبه حديث أهل الصدق، وإن كان لا يعرف. تهذيب التهذيب (7/ 95). وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وسكت عليه (7/ 41). وقال عمرو بن علي: إسحاق بن الربيع كان شديد القول في القدر، وحدث عن الحسن بحديث منكر، عن عتي، عن أبي، كان آدم عليه السلام رجلاً طوالاً، كأنه نخلة سحوق. فهذا عمرو بن علي رحمه الله يعتبر هذا الحديث حديثاً منكراً. الكامل (1/ 336). وعتي بن ضمرة رحمه الله لم يرو عنه إلا راو واحد، وهو الحسن، وقد قيل: إنه روى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عنه ابنه عبد الله، وابنه هذا لم يوقف له على ترجمة، ولذلك قال ابن المديني: سمع من أبي، لا نحفظها إلا من طريق الحسن. اهـ فمثله لا يقبل تفرده بمثل هذا الحديث، وهذا كان سبيل المتقدمين لا يقبلون من الصدوق سنة يتفرد بها، فكيف والحديث فيه اختلاف في وقفه ورفعه، كما أن فيه اختلافاً في إسناده كما سنوضحه إن شاء الله تعالى عند الكلام على طرق الحديث، وهو مخالف لما ذكر في الكتاب بأن الله سبحانه وتعالى بعث غراباً يبحث في الأرض ليعلم ولد آدم كيف يواري سوأة أخيه، والله أعلم. [تخريج الحديث]. الحديث رواه حماد بن سلمة، واختلف عليه فيه: فقد رواه عبد الله بن أحمد كما في متن الباب، ومن طريقه رواه ابن عساكر في تاريخه، والضياء المقدسي في المختارة (1251) عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عتي، عن أبي بن كعب موقوفاً. وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 545) من طريق موسى بن إسماعيل. والطبراني في الأوسط (8261) والمقدسي في الأحاديث المختارة (1252) والمحاملي في أماليه (403)، وابن عدي في الكامل (3/ 143) من طريق روح بن أسلم، كلاهما عن حماد ابن سلمة، عن ثابت، عن الحسن، عن أبي بن كعب مرفوعاً. قال الطبراني: لم يرفع هذا الحديث عن حماد بن سلمة إلا روح بن أسلم. وقال المقدسي: روح بن أسلم تكلم فيه غير واحد من الأئمة، والمشهور غير مرفوع، والله أعلم. وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث عن حماد غير محفوظة إلا حديث أبي فإنه شورك فيه. اهـ فهنا جعل حماد في الإسناد ثابتاً بدلاً من حميد، وجعله مرفوعاً بدلاً من وقفه، إلا أن الحافظ ابن حجر قد أشار في إتحاف المهرة (1/ 248) أنه عند الحاكم موقوف، فإما أن يكون من اختلاف النسخ، أو أحدهما خطأ، فيتأمل. هذا فيما يتعلق برواية حماد بن سلمة. وأخرجه عبد الرزاق (6088) عن معمر، عن ثابت البناني، قال: نزلت الملائكة حين =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حضر آدم الوفاة، فلما رآهم عرفهم، فقبضوه، وغسلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، ودفنوه، وبنوه ينظرون، قال عبد الرزاق: قال معمر: سمعت غير ثابت يقول: ثم قالوا: هذه سنة ولدك. ورواية معمر عن ثابت فيها كلام. ورواه جماعة عن الحسن من غير طريق حماد، فرواه يونس بن عبيد، واختلف عليه أيضاً فرواه الطيالسي في مسنده (549)، والبيهقي (3/ 404) عن خارجة بن مصعب، عن يونس، عن الحسن، عن عتي السعدي، عن أبي بن كعب موقوفاً. وخارجة متروك. ورواه الدارقطني (1/ 71) من طريق شبابة، ثنا خارجة، عن يونس به مرفوعاً. ورواه إسماعيل بن علية، واختلف عليه: فرواه ابن أبي شيبة (2/ 450) رقم 10912 وسعيد بن منصور كما في إتحاف الخيرة (2557) عن إسماعيل بن علية، عن يونس به موقوفاً. ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 344 - 345) عن أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله ابن أحمد، حدثني أبي، ثنا إ سماعيل به مرفوعاً. ورواه عن يونس أيضاً هشيم، واختلف عليه فيه: فرواه سعيد بن سليمان كما في الطبقات الكبرى (1/ 33 - 34). وأحمد بن منيع كما في إتحاف الخيرة (2558) روياه عن هشيم، عن يونس به موقوفاً. وخالفهما سعيد بن منصور وعلي بن حجر فرواه الحاكم (1/ 344) من طريقهما مقرونين عن هشيم به مرفوعاً. ورواه عثمان بن سعد، واختلف عليه أيضاً: فأخرجه ابن أبي شيبة (4/ 258) رقم 4426، والطبراني في الأوسط (4/ 358) رقم 4426، والدارقطني (2/ 71)، والبيهقي (4/ 36) من طريق أبي عبيدة الحداد، عن عثمان ابن سعد، عن الحسن، عن عتي به مرفوعاً. وعثمان بن سعد ضعيف. وأخرجه الدراقطني (2/ 71) من طريق داود بن المحبر، ثنا رحمة بن مصعب، عن عثمان ابن سعد به موقوفاً. وهذا أضعف من الذي قبله، داود بن المحبر متروك. =

وعلى تقدير صحته فإن قوله «سنة ولد آدم» تعم الواجب والمندوب، فليست نصاً صريحاً في الوجوب. ¬

_ = كما رواه ابن سعد (1/ 33) من طريق إسحاق بن الربيع، عن الحسن، عن عتي به موقوفاً. قال عمرو بن علي، عن إسحاق بن الربيع كما في الكامل لابن عدي (1/ 336): حدث عن الحسن بحديث منكر، عن عتي، عن أبي كان آدم عليه السلام رجلاً طوالاً، كأنه نخلة سحوق ... اهـ روواه الطيالسي (549) حدثنا ابن فضالة، عن الحسن، عن عتي به مرفوعاً. كما أخرجه الطبراني في الأوسط (9259) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن ذكوان، عن الحسن به مرفوعاً. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 346) رقم: 1276 من طريق عمر بن مالك المعافري، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن الحسن، عن أبي بن كعب. وهنا رواه الحسن عن أبي بن كعب مباشرة، ولعله دلسه عنه، فإنه قد صرح بالتحديث من رواية سعيد بن سليمان، أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا يونس بن عبيد، عن حسن، قال: أخبرنا عتي السعدي به. وقد جعل الحاكم هذا الاختلاف عن الحسن هو السبب في عدم إخراج الشيخين لهذا الحديث، فقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وهو من النوع الذي لا يوجد للتابعي إلا الرواي الواحد، فإن عتي بن ضمرة السعدي ليس له راو غير الحسن، وعندي أن الشيخين عللاه بعلة أخرى، وهو أنه روي عن الحسن، عن أبي دون ذكر عتي، ثم ساق طريق يزيد بن عبد الله بن الهاد السابق، ثم قال: وهذا لا يعلل به حديث يونس بن عبيد؛ فإنه أعرف بحديث الحسن من أهل المدينة ومصر، والله أعلم. ورواه عبد الرزاق (6086) عن ابن جريج، قال: حدثت عن أبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وهذا إسناد ضعيف لجهالة الواسطة بين ابن جريج وبين أبي بن كعب رضي الله عنه. وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (1/ 224)، إتحاف المهرة (100، 104).

دليل من قال: غسل الميت ليس بواجب

دليل من قال: غسل الميت ليس بواجب. الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم عطية المتقدم: «اغسلنها بالسدر وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك». فجعلوا قوله «إن رأيتن ذلك» عائد إلى جميع ما ذكر من الغسل أو الزيادة على الثلاث. ولو كان غسل الميت بمثابة الغسل من الحدث، وأنه تعبدي لم يزد على الثلاث، ولم يجعل الغسل راجعاً إلى تقدير الغاسل، وإذا ترجح أن الغسل ليس تعبدياً لم يكن واجباً؛ لأن المسلم الميت طاهر، والطاهر لا يجب تطهيره. ثم إنه ذكر مع الغسل، الثلاث والوتر، وهما ليس واجبين إجماعاً، فكذلك الغسل. وقال القاضي عياض: وسبب الخلاف قوله عليه السلام: «إن رأيتن ذلك» هل معناه: إن رأيتن الغسل، أو إن رأيتن الزيادة في العدد، وهذا وأشباهه مما اختلف فيه أهل الأصول، وذلك أنهم مختلفون في التقييد والاستنثناء، والشروط إذا تعقبت الجمل، هل يرجع إلى جميعها إلا ما أخرجه الدليل، أو إلى أقربها؟ (¬1). الراجح من الخلاف: أرى أن القول بوجوب الغسل أرجح من القول بسنيته، للأمر به، والمحافظة عليه، ولكي يهيأ الميت لملاقاة الملائكة، والله أعلم. ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (3/ 383).

المبحث الثاني في الغسل من تغسيل الميت

المبحث الثاني في الغسل من تغسيل الميت اختلف العلماء في حكم الغسل لمن غَسَّل ميتاً، فقيل: ليس بسنة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: بل سنة، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، واختاره بعض الحنابلة (¬4). وقيل: يجب الغسل، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5)، ورجحه ابن حزم (¬6). وقيل: يجب الغسل من تغسيل الكافر دون المسلم، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬7). وقيل: غسل الكافر يوجب الوضوء فقط، وهو المنصوص عن أحمد (¬8). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 66) بدائع الصنائع (1/ 32)، حاشية ابن عابدين (1/ 166)، أحكام القرآن للجصاص (5/ 169). (¬2) الذخيرة (1/ 290)، الإشراف على مسائل الخلاف (1/ 47)، القوانين الفقهية (ص:39)، الاستذكار (2/ 137 - 138). (¬3) الأم (1/ 38)، روضة الطالبين (1/ 85)، الحاوي الكبير (1/ 460). (¬4) الكافي في فقه ابن حنبل (1/ 255)، كشاف القناع (1/ 151). (¬5) المبدع (1/ 191)، المغني (1/ 134). (¬6) المحلى (1/ 270) مسألة: 181. (¬7) المبدع (1/ 191)، المغني 1/ 134). (¬8) انظر شرح العمدة (1/ 342).

دليل من قال: يجب عليه الغسل

دليل من قال: يجب عليه الغسل. الدليل الأول: (1159 - 32) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، وقد رجح جمع من الأئمة المتقدمين وقفه] (¬2). الدليل الثاني: (1160 - 33) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن عبد الله ابن أبي السفر، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله ابن الزبير، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغتسل من أربع من الجمعة، والجنابة، والحجامة، وغسل الميت (¬3). [ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المسند (2/ 454). (¬2) منهم أبو حاتم، وأحمد، والبخاري، والذهلي، وابن المنذر، والبيهقي، وغيرهم، وقد سبق تخريج الحديث في كتاب نواقض الوضوء، باب الوضوء من غسل الميت، فأغنى عن إعادته هنا. (¬3) المسند (6/ 152). (¬4) في إسناده مصعب بن شيبة متكلم فيه، قال أبو داود في السنن (3160): سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن الغسل من غسل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الميت، فقال: يجزيه الوضوء. ثم قال أبو داود: وحديث مصعب ضعيف، فيه خصال ليس العمل عليه. اهـ وفي سنن البيهقي (1/ 301): قال أبو عيسى (الترمذي): سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: إن أحمد بن حنبل وعلي بن عبد الله قالا: لا يصح في هذا الباب شيء، قال البخاري: حديث عائشة في هذا الباب ليس بذاك. اهـ وساق العقيلي بإسناده من طريق أحمد بن محمد بن هانئ، قال: ذكرت لأبي عبد الله -يعني الإمام أحمد - الوضوء من الحجامة، فقال: ذاك حديث منكر، رواه مصعب بن شيبة، أحاديثه مناكير، منها هذا الحديث، وعشر من الفطرة ... ". وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن الغسل من الحجامة، قلت: يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الغسل من أربع؟ فقال: لا يصح، هذا رواه مصعب بن شيبة، وليس بقوي. قلت لأبي زرعة: لم يرو عن عائشة من غير حديث مصعب؟ قال: لا. وضعفه ابن عبد البر في الاستذكار (8/ 202)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 300)، والخطابي في معالم السنن (4/ 306) وغيرهم. ومصعب بن شيبة، تقدمت ترجمته في كتابي سنن الفطرة، وفي كتابي الإنصاف فيما جاء في الأخذ من اللحية وتغيير الشيب بالسواد من الخلاف، في الكلام على حديث: عشر من الفطرة ... " فأغنى عن إعادته هنا. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه الدارقطني في السنن (1/ 134) ومن طريقه ابن الجوزي في الواهيات (630) من طريق عبد الله بن محمد بن حجاج بن المنهال، عن يحيى بن حماد به، ولفظه: الغسل من خمسة: فزاد الغسل من ماء الحمام. ورواه البيهقي في السنن (1/ 300) من طريق سفيان، عن عبد الله بن أبي السفر به، بزيادة الغسل من ماء الحمام. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 48) رقم 483، وأيضاً (1/ 433) رقم: 4994، وأبو داود (348،3160)، وابن خزيمة (256)، والدارقطني (1/ 113)، والحاكم في المستدرك (1/ 163)، والبيهقي في السنن (1/ 199،300)، وفي الخلافيات (1002) من طريق زكريا =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (2161 - 34) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: وقد كنت حفظت من كثير من علمائنا بالمدينة أن محمد بن عمرو بن حزم كان يروي عن المغيرة أحاديث، منها أنه حدثه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من غسل ميتاً فليغتسل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1162 - 35) ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن زريع، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من غسل ميتاً فليغتسل (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

= ابن أبي زائدة، عن مصعب به. وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: إتحاف المهرة (21789)، أطراف المسند (9/ 68)، تحفة الأشراف (16193). (¬1) المسند (4/ 246). (¬2) ضعيف لجهالة من روى عنهم ابن إسحاق، ولذلك قال الهيثمي في المجمع (3/ 22): في إسناده من لم يسم. ولو كان صحيحاً لما قال أحمد وعلي بن المديني: لا يصح في هذا الباب شيء، وقد نقلت ذلك في الحديث السابق فانظره. وانظر أطراف المسند (5/ 375). (¬3) الأوسط (3/ 149) رقم: 2760. (¬4) اختلف فيه على ابن إسحاق، فرواه يزيد بن زريع، عن معمر، عن إبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وخالف معمراً جماعة، منهم: الأول: شعبة، كما في مسند أحمد (1/ 97)، والطيالسي (120)، ومسند الإمام الشافعي (1/ 207)، والنسائي (190)، وابن الجارود (550)، والأحاديث المختارة للمقدسي (745). الثاني: الثوري، كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 470) ح 11155، وأحمد (1/ 131) وأبو داود (3214)، والنسائي في الكبرى (195)، والبيهقي في السنن (3/ 398)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (746). الثالث: إسرائيل، كما في سنن البيهقي (1/ 304). الرابع: إبراهيم بن طهمان، كما في مسند أبي يعلى (423)، وفي معجمه أيضاً (239)، والأحاديث المختارة للمقدسي (747). الخامس: أبو الأحوص، كما في مصنف ابن أبي شيبة (11840). السادس والسابع والثامن والتاسع: شريك وزهير وقيس بن الربيع وورقاء ذكر ذلك الدارقطني في علله (4/ 144). كلهم رووه عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي بن أبي طالب في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالاغتسال من دفن أبيه. وسوف أحكم على هذا الطريق إن شاء الله تعالى عند الكلام على دليل من قال: يغتسل من غسل الكافر إذا مات دون المسلم. قال الدراقطني في علله (4/ 146): وقال يزيد بن زريع، عن معمر، عن إبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، قال: ولا يثبت هذا عن أبي إسحاق، والمحفوظ قول الثوري وشعبة ومن تابعهما، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علي. اهـ وقال ابن أبي حاتم في العلل (1046): " سألت أبي عن حديث رواه محمد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، قال: قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - من غسل ميتاً فليغتسل. قال أبي: هذا حديث غلط، ولم يبين غلطه. اهـ قلت: لم يبين غلطه اختصاراً أو اقتصاراً، وإلا فغلطه بين كما أوضحه الدارقطني. كما أن في إسناده والد أبي إسحاق السبيعي، قال الهيثمي في المجمع (3/ 22 - 23): رواه الطبراني في الأوسط من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن أبيه، ولم أجد من ذكر أباه. اهـ

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1163 - 36) ما رواه البخاري في التاريخ الكبير من طريق ابن وهب، عن إسامة، عن سعيد بن أبي سعيد مولى المهري، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من غسل ميتاً فليغتسل (¬1). [ضعيف] (¬2). دليل من قال: لا يشرع الغسل من تغسيل الميت. الدليل الأول: لم يثبت دليل صحيح في الأمر بالغسل من تغسيل الميت، والواجبات لا تثبت إلا بدليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قول صحابي لا مخالف له. وقد قال جمع من أئمة المسلمين بأنه لم يثبت فيه حديث، من ذلك: الإمام أحمد (¬3)، وعلي بن المديني (¬4)، والذهلي (¬5)، وابن المنذر (¬6). ¬

(¬1) التاريخ الكبير (1/ 397) ومن طريقه البيهقي (1/ 301). (¬2) قد ساق البخاري الاختلاف في إسناد هذا الحديث في تاريخه (1/ 396 - 397)، مما يدل على اضطراب فيه، فقد رواه البخاري من طريق ابن علية وابن عيينة، عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة من قوله. وقال وهيب: عن أبي واقد، عن إسحاق مولى زائدة وابن ثوبان، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكر البخاري اختلافات أخرى من غير طريق إسحاق مولى زائدة، فرجع هذا الحديث إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ذكرت طرقه بشيء من التفصيل عند الكلام على الوضوء من غسل الميت، فارجع إليه غير مأمور، والله أعلم. (¬3) سنن البيهقي الكبرى (1/ 301). (¬4) المرجع السابق. (¬5) فتح الباري تحت رقم (1253). (¬6) الأوسط (5/ 351).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1164 - 37) ما رواه الحاكم من طريق أبي شيبة: إبراهيم بن عبد الله، ثنا خالد بن مخلد، ثنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه؛ فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم (¬1). [المحفوظ أنه موقوف على ابن عباس، وأخطأ من رفعه] (¬2). ¬

(¬1) الحاكم في المستدرك (1/ 386)، ومن طريق أبي شيبة أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ (38)، والدارقطني في السنن (2/ 76)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 306). (¬2) هكذا رواه أبو شيبة عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال. وخالفه معلى بن منصور كما في سنن البيهقي (1/ 306). وأبو سلمة منصور بن سلمة كما في الناسخ والمنسوخ لابن شاهين (39)، وسنن البيهقي (1/ 306) فروياه عن سليمان بن بلال به، موقوفاً على ابن عباس. كما رواه عن ابن عباس من قوله جماعة، منهم: عطاء بن أبي رباح، كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 469)، وعبد الرزاق (6101)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 349)، والبيهقي في السنن (1/ 306). وسعيد بن جبير وعكرمة، كما في سنن البيهقي (1/ 306). فالخطأ إما من خالد بن مخلد الراوي عن سليمان بن بلال، أو ممن دونه كأبي شيبة. ومال البيهقي رحمه الله إلى أن الخطأ من أبي شيبة، فقال: وروي هذا - يعني أثر ابن عباس- مرفوعاً، ولا يصح، ثم ساقه بإسناده مرفوعاً من طريق أبي شيبة، وقال: هذا ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة كما أظن. وتعقب الحافظ ابن حجر البيهقي في تلخيص الحبير (1/ 138)، فقال: " أبو شيبة هو إبراهيم ابن أبي بكر بن أبي شيبة، احتج به النسائي، ووثقه الناس "، ثم قال: " فالإسناد حسن". =

الدليل الثالث

وكون الثابت موقوفاً على ابن عباس فهو حجة خاصة أنه حكم معلل بمقدمة ونتيجة، وهو بما أن الميت طاهر، فإن غسل الطاهر لا يوجب الغسل. الدليل الثالث: (1165 - 38) مارواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة، عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت، هل على الذين يغسلون المتوفين غسل؟ قالت: لا (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). قلت: وهذا الأثر عن عائشة يدل على بطلان ما رواه مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغتسل من أربع وذكر منها غسل الميت، والذي خرجته في أدلة القول الأول. قال ابن عبد البر عقب أثر عائشة: «فدل على بطلان حديث مصعب ابن شيبة؛ لأنه لو صح عنها ما خالفته، ومن جهة النظر والاعتبار لا تجب طهارة على من لم يوجبها الله عليه في كتابه، ولا أوجبها رسوله من وجه يشهد بها عليه». ¬

= وقال في التهذيب (1/ 136): " وكأن البيهقي ظنه جده إبراهيم بن عثمان، فهو المعروف بأبي شيبة أكثر مما يعرف بها هذا، وهو المضعف ". اهـ قلت: سواء كان الخطأ من أبي شيبة، أو من خالد بن مخلد، وسواء كان أبو شيبة الثقة أو الضعيف، فإن الرفع خطأ، فإن كان الخطأ من ثقة، فيقال: المحفوظ وقفه، وإن كان الضعيف، فيقال: المعروف، هذه ما تقتضيه قواعد هذا الفن، والله أعلم. (¬1) المصنف (2/ 469) رقم: 11141. (¬2) ومن طريق ابن أبي شيبة رواه ابن المنذر في الأوسط (5/ 349 - 350).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1166 - 39) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن ابن عمر كفن ميتاً، وحنطه، ولم يمس ماء (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (2/ 470) رقم 11144. (¬2) ورواه ابن أبي شيبة (2/ 469) رقم 111، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عمر: أغتسل من غسل الميت، قال: لا. وعطاء بن السائب قد اختلط بآخرة، وقد روى النسائي في السنن الكبرى (1970) حديثاً من طريق أبي الأحوص، عن عطاء، ثم قال: عطاء بن السائب كان قد اختلط، وأثبت الناس فيه سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج. ولم يذكر صاحب كتاب الكواكب النيرات، ولا محققه، هل سمع أبو الأحوص من عطاء قديماً أو سمع منه بآخرة؟ ولكن طريق عروة، عن ابن عمر يشهد لصحة هذا الطريق. وروى عبد الرزاق في المصنف (6106) عن الثوري، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عمر، أغتسل من الميت؟ قال: أمؤمن هو؟ قلت: أرجو. قال: فتمسح من المؤمن، ولا تغتسل منه. اهـ وسنده حسن. ووراه ابن أبي شيبة (1/ 469) من طريق حجاج، عن سليمان بن الربيع، عن سعيد بن جبير، قال: غسلت أمي ميتة، فقالت: هل علي غسل؟ فأتيت ابن عمر، فسألته، فقال: أنجساً غسلت! ثم أتيت ابن عباس فسألته، فقال: مثل ذلك. ورواه ابن أبي شيبة أيضاً (1/ 469) من طريق حجاج، عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر، قالا: ليس على غاسل الميت غسل. وحجاج هو ابن أرطأة، ضعيف، ويدلس عن المتروكين. وروى عبد الرزاق (1141) من طريق الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر قال: إني لأحب أن أغتسل من خمس: وذكر منها غسل الميت. ورواية الأعمش عن مجاهد فيها كلام.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1167 - 40) روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: أخبرني علقمة المزني، قال: غسل أباك أربعة من أصحاب الشجرة، فما زادوا على أن احتجزوا على ثيابهم، فلما فرغوا توضؤوا وصلوا عليه. قال: وسمعت أبا الشعثاء يقول: ألا تتقون الله، تغتسلون من موتاكم، أنجاس هم؟ (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). دليل من قال: يجب الغسل من تغسيل الكافر. (1168 - 41) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت ناجية بن كعب يحدث عن علي رضي الله عنه، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبا طالب مات، فقال له: النبي - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فواره، فقال: إنه مات مشركا. فقال: اذهب فواره. قال: فلما واريته، رجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: اغتسل (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المصنف (6103). (¬2) ورواه ابن أبي شيبة (11142) من طريق حبيب بن الشهيد، عن بكر بن عبد الله به بنحوه. (¬3) المسند (1/ 97). (¬4) تفرد به ناجية بن كعب، عن علي، ولم يتابع عليه، وقد جاء في ترجمته: قال يحيى بن معين: صالح. الجرح والتعديل (8/ 486). =

وأجيب: أولاً: الحديث تفرد به ناجية بن كعب، عن علي، ولم يتابع عليه. ثانياً: لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً بأن يغسله، وإنما أمره أن يواره، ولو صح لكان الحديث دليلاً على الغسل من دفن الكافر أو من حمله، ولا قائل به. وقد قال البيهقي رحمه الله: «وليس فيه أنه غسله» (¬1). اهـ قلت: ولا يشرع إذا مات الكافر أن يغسل. ثالثاً: لعل الغسل بسبب أمر آخر، لا يرجع إلى أبي طالب، ولذلك جاء عند ابن أبي شيبة، من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي وفيه: «فانطلقت، فواريته، ثم رجعت إليه وعلي أثر التراب والغبار» (¬2). ¬

= أي في دينه، ولو قصد غير ذلك لقال: صالح الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. المرجع السابق. وهذه ليست عبارة توثيق. وقال ابن المديني: لا أعلم أحداً روى عنه غير أبي إسحاق، وهو مجهول. وقال الحافظ: ذكره ابن حبان في الثقات، ولم أقف عليه فيها، وإنما وقفت عليه في المجروحين (3/ 57) قال عنه ابن حبان: كان شيخاً صالحاً، إلا أن في حديثه تخليطاً، لا يشبه حديثه أقرانه الثقات عن علي، فلا يعجبني الاحتجاج إذا انفرد، وفيما وافق الثقات فإن احتج به محتج أرجو أنه لم يجرح في فعله ذلك. اهـ وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال البيهقي في السنن (1/ 304): وناجية بن كعب الأسدي لم تثبت عدالته. اهـ وفي التقريب: ثقة. اهـ ولم يصب الحافظ رحمه الله تعالى، بل هو إلى الضعف أقرب. [تخريج الحديث]. سبق أن خرجت هذا الحديث عند الكلام على حديث حذيفة في أدلة القول الأول، فارجع إليه غير مأمور. (¬1) سنن البيهقي (1/ 304). (¬2) المصنف (11840).

دليل من قال: غسل الميت يوجب الوضوء فقط

وعلى الرغم من تفرد أبي الأحوص بهذه الزيادة إلا أن واقع الحال يشهد لها، فإن من أراد أن يحفر للميت حفرة بأرض مثل أرض الحجاز، لا بد أن يصيبه من أثر التراب والغبار، فبعيد أن يشتغل الإنسان بالحفر والدفن، ثم يرجع نظيف البدن. دليل من قال: غسل الميت يوجب الوضوء فقط. قد تعرضت لأدلة هذا القول في باب نواقض الوضوء، وهل غسل الميت يوجب الوضوء أم لا؟ ورجحت هناك أن غسل الميت لا يوجب الوضوء، وليس حدثاً، ولا مظنة للحدث فارجع إليه غير مأمور. دليل من قال: يستحب الغسل ولا يجب. استدلوا بأدلة القائلين بالوجوب، إلا أنهم حملوا الأمر فيها على الاستحباب، والذي حملهم على صرف الأمر من الوجوب إلى الندب ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (¬1)، والدارقطني في السنن (¬2)، والبيهقي في السنن الكبرى (¬3)، من طريق محمد بن عبد الله المخرمي، عن أبي هشام المغيرة بن سلمة المخزومي، عن وهيب، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لم يغتسل. [إسناده صحيح] (¬4). ¬

(¬1) تاريخ بغداد (5/ 423). (¬2) سنن الدراقطني (2/ 72). (¬3) سنن البيهقي (1/ 306). (¬4) وأمر الإمام أحمد ابنه عبد الله أن يكتب هذا الحديث، فجاء في تاريخ بغداد (5/ 423)، وفي سير أعلام النبلاء (12/ 266) قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال لي أبي: =

الراجح من الأقوال

الراجح من الأقوال: بعد استعراض الأقوال وأدلتها نجد أن القول بوجوب الغسل من تغسيل الميت قول ضعيف، والآثار في ذلك لا تسلم من ضعف، وقد حكم جمع من أئمة الحديث بأنه لا يثبت في الباب حديث، وأما القول بالاستحباب فإنه قول قوي. قال الخطابي: ولا أعلم أحداً من الفقهاء يوجب الاغتسال من غسل الميت، ولا الوضوء من حمله، ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب. اهـ (¬1). قلت: أما القول بوجوب الاغتسال من غسل الميت والقول بوجوب الوضوء من حمله فقد حفظ القول بهما، ولكن الأدلة لا تعضدهما، والله أعلم. ¬

= كتبت حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر .... وذكر الأثر. قلت: لا. قال: في المخرم شاب يقال له محمد بن عبد الله، يحدث به عن أبي هشام المخزومي، عن وهيب، فاكتبه عنه. اهـ وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 138): وهذا إسناد صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث. والله أعلم. (¬1) معالم السنن (4/ 305).

الفصل السادس في غسل الجمعة

الفصل السادس في غسل الجمعة المبحث الأول خلاف أهل العلم في وجوب غسل الجمعة اختلف العلماء في حكم غسل الجمعة، فقيل: الغسل سنة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وقيل: الغسل واجب، وهو رواية عن أحمد (¬5)، ومذهب الظاهرية (¬6). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 90)، بدائع الصنائع (1/ 35)، تبيين الحقائق (1/ 18)، شرح فتح القدير (1/ 65)، البحر الرائق (1/ 66)، الفتاوى الهندية (1/ 16). (¬2) المجموع (4/ 404)، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/ 329)، فتاوى الرملي (1/ 60)، نهاية المحتاج (2/ 328). (¬3) الجامع لأحكام القرآن (18/ 106)، التمهيد (10/ 80)، الفواكه الدواني (2/ 266)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 185)، ويعبر عنه بعض فقهاء المالكية بأن الغسل يوم الجمعة واجب وذلك لتأكيد سنيته، وليس معنى أنه واجب وجوب الفرائض الذي يأثم بتركها. (¬4) الفروع (1/ 202)، وقال في الإنصاف (1/ 247): وهذا المذهب مطلقاً، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، ونص عليه. اهـ وانظر كشاف القناع (1/ 149)، شرح منتهى الإرادات (1/ 83). (¬5) الإنصاف (1/ 247)، (¬6) قال ابن حزم في المحلى (2/ 8) مسألة: 178: " وغسل يوم الجمعة فرض لازم لكل بالغ من الرجال والنساء، وكذلك الطيب والسواك ... ". اهـ وانظر رسالة الإمام داود =

دليل من قال: الغسل يوم الجمعة مسنون

وقيل: يجب من عرق أو ريح يتأذى به الناس، اختاره بعض الحنابلة (¬1). دليل من قال: الغسل يوم الجمعة مسنون. الدليل الأول: (1169 - 42) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فذلك أفضل (¬2). [إسناده ضعيف، الحسن لم يسمع هذا الحديث من سمرة] (¬3). ¬

= الظاهري، وأثره في الفقه الإسلامي (ص: 233). (¬1) قال صاحب الإنصاف (1/ 247): " وأوجبه الشيخ تقي الدين من عرق أو ريح يتأذى به الناس، وهو من مفردات المذهب أيضاً. (¬2) المسند (5/ 11). (¬3) الحديث فيه ثلاث علل: العلة الأولى: لم يسمعه الحسن من سمرة، وقد اختلف العلماء في سماع الحسن من سمرة إلى ثلاثة أقوال: الأول: قيل: إنه سمع منه مطلقاً، وهو قول علي بن المديني، والترمذي. الثاني: أنه لم يسمع منه شيئاً، اختاره ابن حبان في صحيحه، وقال شعبة وابن معين: الحسن لم يلق سمرة. القول الثالث: أنه سمع منه حديث العقيقة فقط، ففي صحيح البخاري سماع منه لحديث العقيقة، واختار هذا النسائي، قال أبو عبد الرحمن في المجتبى (1380)، وفي السنن الكبرى (1684): الحسن عن سمرة كتاباً، ولم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة. اهـ ومال إليه الدارقطني في سننه. انظر نصب الراية للزيلعي (1/ 89) فقد أطال الكلام فيه، وحاشية سبط ابن العجمي على الكاشف (1/ 322) تحقيق محمد عوامة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = العلة الثانية: الاختلاف في إسناده، فقيل: عن الحسن، عن سمرة. وقيل: عن الحسن، عن أنس. وقيل: عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة. وقيل: عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وقيل غير ذلك مما سيأتي تفصيله عند تخريج الحديث. العلة الثالثة: مخالفته لما أهو أصح منه وأقوى من أحاديث في الصحيحين، وظاهرها وجوب الغسل يوم الجمعة، وسوف نذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكر أدلة القائلين بالوجوب. قال الترمذي في العلل (141) بعد أن ساق الحديث من طريق شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعاً. قال الترمذي: سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: روى همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكرا: عن سمرة. اهـ فألمح البخاري بذكر الاختلاف على قتادة إلى تضعيف الحديث. وقال ابن حجر في الفتح تحت رقم (879): " ولهذا الحديث طرق، أشهرها وأقواها رواية الحسن، عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة، وابن خزيمة، وابن حبان، وله علتان: إحداهما: أنه من عنعنة الحسن. والأخرى: أنه اختلف عليه فيه. أخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطبراني من حديث أنس، والطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمرة، والبزار من حديث أبي سعيد، وابن عدي من حديث جابر، وكلها ضعيفة. الخ كلامه رحمه الله. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب، وابن أبي شيبة (1/ 436)، رقم 5026 والدارمي (1540)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 119)، والبيهقي (1/ 295) و (3/ 190) من طريق عفان به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أحمد (5/ 8)، والبيهقي (3/ 190) من طريق عبد الصمد. وأحمد (5/ 8) من طريق بهز. وأخرجه أحمد أيضاً (5/ 16)، وابن الجارود في المنتقى (285) من طريق عبد الرحمن ابن مهدي. وأبو داود (354)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 119)، والطبراني في الكبير (7/ 199) رقم 6817، والبيهقي (3/ 190) من طريق أبي الوليد الطيالسي. وأخرجه الطبراني (6817)، والبيهقي (3/ 190) من طريق أبي عمر حفص بن عمر الحوضي، كلهم: (بهز، وعبد الصمد، وأبو الوليد، وابن مهدي، وأبو عمر الحوضي) رووه عن همام به. وتابع شعبة بن الحجاج هماماً في هذا الإسناد، فأخرجه أحمد (5/ 11) والنسائي في المجتبى (1380)، وفي الكبرى (1684)، وابن خزيمة (1757)،والطبراني في الكبير (6818) وابن الجعد في مسنده (986) من طريق يزيد ابن زريع. وأخرجه الترمذي (497)، والطبراني (6819)، والبغوي في شرح السنة (335) والروياني في مسنده (787) من طريق سعيد بن سفيان. وأخرجه البيهقي (1/ 295 - 296)، والخطيب في تاريخه (2/ 352) من طريق عفان. ثلاثتهم، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وأخرجه الطبراني في الكبير (6820) من طريق أبي عوانة، عن قتادة به. وتابع يونس بن عبيد قتادة في روايته عن الحسن، فأخرجه الطبراني في الكبير (7/ 223) من طريق يحيى بن خالد، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن سمرة به. وقد تفرد بذلك يحيى بن خالد، عن يونس، وهو ممن لا يحتمل تفرده بذلك، فالمعروف أن الحديث حديث قتادة، عن الحسن. قال ابن عدي: حدث عن يونس بن عبيد وغيره ما لا يرويه غيره، وقال: ولخالد هذا إفرادات وغرائب عمن يحدث عنه، وليس بالكثير، وأرجو أنه لا بأس به؛ لأني لم أر في حديثه متناً منكراً. الكامل (3/ 9). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الذهبي: صويلح، قواه ابن عدي. المغني في الضعفاء (1889). والحديث مداره على قتادة، وقد اختلف فيه عليه: فقيل: عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، كما سبق. وقيل: عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وقيل: عن قتادة، عن الحسن، عن أنس. وقيل: عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة. وقيل: عن الحسن، عن أبي هريرة. أما الرواية المرسلة: فرواه كل من معمر، وسعيد بن أبي عروبة، وأبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقد أخرجه عبد الرزاق (5311)، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه البيهقي (1/ 296) من طريق عبد الوهاب الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال البيهقي: وكذلك رواه أبان بن يزيد العطار، عن قتادة. اهـ أي رواه مرسلاً. وأما رواية الحسن، عن أنس. فأخرجها البزار كما في كشف الأستار (628)، والطحاوي (1/ 119) من طريق الربيع بن صبيح، عن الحسن. وعن يزيد الرقاشي، عن أنس رضي الله عنه. قال البزار: إنما يعرف هذا عن يزيد، عن أنس، هكذا رواه غير واحد، وجمع يحيى، عن الربيع في هذا الحديث بين الحسن ويزيد، عن أنس، فحمله قوم على أنه عن الحسن، عن أنس، وأحسب أن الربيع إنما ذكره عن الحسن مرسلاً، وعن يزيد عن أنس، فلما لم يفصله جعلوه كأنه عن الحسن، عن أنس، وعن يزيد، عن أنس. اهـ قلت: من تأمل الإسناد السابق لم يستبعد كلام البزار، وقد سبق تخريج الحديث عن الحسن مرسلاً، لكن روي الحديث من طريق الحسن، عن أنس من غير طريق الربيع بن صبيح، فقد أخرجه الطحاوي (1/ 119)، والعقيلي (2/ 167) من طريق الضحاك بن حمزة، عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحجاج بن أرطأة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن الحسن، عن أنس. وهذا إسناد ضعيف، مسلسل بالضعفاء، فالضحاك والحجاج ضعيفان، وإبراهيم بن مهاجر متكلم فيه. وأخرجه أبو داود الطيالسي (2110) حدثنا الربيع، عن يزيد، عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل. ومن طريق الربيع بن صبيح أخرجه الطحاوي (1/ 119)، وابن عدي (3/ 133)، والبيهقي (1/ 296). وأخرجه علي بن الجعد في مسنده (1750) أنا سفيان الثوري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك به. ومن طريق علي بن الجعد رواه أبو يعلى في مسنده (4086). وكذلك ورواه الطحاوي (1/ 119) من طريق ابن الجعد، قال: أنا الربيع بن صبيح وسفيان الثوري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس به. وقال البغوي في الجعديات (1773): هكذا حدثنا علي، عن سفيان، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، وهو مرسل، لم يسمع الثوري من يزيد الرقاشي شيئاً، بينهما الربيع بن صبيح. قلت: قال الغماري في الهداية (3/ 291): " ورواه أبو العباس بن سريج في جزئه، قال: حدثنا الرمادي، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، ثنا سفيان، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي به. اهـ فهذا يؤكد ما ذكره البغوي. وأخرجه ابن ماجه (1091) من طريق إسماعيل بن مسلم المكي، عن يزيد الرقاشي به. ويزيد الرقاشي مشهور الضعف، وإسماعيل بن مسلم المكي ضعيف أيضاً. ورواه عبد الرزاق (5312) من طريق عكرمة بن عمار، عن يزيد الرقاشي به. ورواه الدارقطني في العلل كما في تلخيص الحبير (2/ 67) من طريق عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس. وقال: وهم فيه عباد بن العوام، والصواب رواية يزيد بن زريع وغيره، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. اهـ وأما رواية الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة. فأخرجها أبو داود الطيالسي (1350)، ومن طريقه البيهقي (1/ 296). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه العقيلي (2/ 167)، والطبراني في الأوسط (7765)، والبيهقي (1/ 296) وأسلم بن سهل الواسطي في تاريخ واسط (1/ 158)، من طريق أبي حرة به من غير شك. وأبو حرة، وثقه أحمد. وقال يحيى بن معين: صالح، وحديثه عن الحسن ضعيف، يقولون: لم يسمعه من الحسن. وفي التقريب: صدوق عابد، وكان يدلس عن الحسن. وقال الحافظ في التلخيص (655): " ورواه أبو حرة عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة، ووهم في اسم صحابيه. وله شاهد من حديث جابر ومن حديث أبي سعيد، وهما ضعيفان. أما حديث جابر فرواه عبد الرزاق (5313) عن الثوري، عن رجل، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله والإسناد ضعيف. ورواه عبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (1077) من طريق الثوري، عن أبان، عن أبي نضرة به. فاتضح الرجل المبهم في إسناد عبد الرزاق. ورواه الطحاوي (1/ 119) والبزار، كما في مختصر زوائد مسند البزار (439) من طريق قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 175): رواه البزار، وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري، وضعفه جماعة. قلت: أين أصحاب الإعمش لو كان هذا من حديثه، فانفراد قيس بن الربيع دون أصحاب الأعمش يوجب في النفس شيئاً من قبول هذا الخبر. وأما حديث أبي سعيد، فرواه البزار كما في مختصر مسند البزار (440) من طريق أسيد ابن زيد، ثنا شريك، عن عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ يوم الجمعة، فبها ونعمت، ومن اغتسل، فالغسل أفضل". قال البزار: لا نعلمه عن أبي سعيد إلا من هذا الوجه، وأسيد كوفي شديد التشيع، احتمل حديثه أهل العلم، وكذبه غيره. اهـ ومن طريق أسيد بن زيد رواه البيهقي في السنن (1/ 296). قال الذهبي في اختصاره لسنن البيهقي (1275): أسيد بن زيد واهٍ. وأشار البيهقي إلى اختلاف على أبي نضرة، فقد قيل: عن أبي نضرة، عن أبي سعيد =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1170 - 43) ما رواه مسلم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا (¬1). وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - أثنى على المتوضئ، ولم يذكر الغسل، فلو كان واجباً لذكره عليه الصلاة والسلام. قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتباً عليه الثواب المقتضي للصحة، ¬

= كما تقدم. وقال البيهقي في السنن (1/ 296): ورواه الثوري، عمن حدثه عن أبي نضرة، عن جابر. اهـ فتبين من خلال هذا التخريج أن الحديث على ضعفه، فيه اختلاف كثير، فلا يمكن أن يعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة في الصحيحين من الأمر بالغسل، والأصل في الأمر الوجوب، وبعضها صريح بأن الغسل واجب، وكلمة واجب لا تستعمل إلا بما لزم شرعاً كما سيأتي بيانه. وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (2/ 527)، التحفة (4587)، إتحاف المهرة (6066). (¬1) صحيح مسلم (857).

الدليل الثالث

فدل على أن الوضوء كاف (¬1). وأجيب: قال ابن حجر: ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ «من اغتسل» فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب، فاحتاج إلى إعادة الوضوء (¬2). قلت: كلام ابن حجر ظاهر، فهذا الدليل لا يمنع وجوب الغسل بدليل آخر، ولا يوجد دليل واحد يقوم بكل الواجبات الشرعية، فهذا دليل يوجب السعي للجمعة عند سماع النداء، وآخر يوجب الغسل، وثالث يوجب الاستماع وعدم الكلام وهكذا، وعلى التنزل أن يكون هذا الدليل فيه تلويح بعدم وجوب الغسل، فيكون ذلك على البراءة الأصلية، والأحاديث التي توجب الغسل تكون مقدمة؛ لأنها ناقلة عن البراءة الأصلية، وشاغلة للذمة، والله أعلم. الدليل الثالث: (1171 - 44) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فناداه عمر، أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت. فقال: والوضوء أيضاً، وقد ¬

(¬1) فتح الباري تحت رقم (879). (¬2) المرجع السابق.

علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: لما لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل دل ذلك على أنهما قد علما أن الأمر بالغسل للاختيار (¬2). وزاد بعضهم بأن من حضر من الصحابة الصلاة قد وافقوهما على ترك عثمان للغسل، فكان إجماعاً. وقال ابن عبد البر: «ومن الدليل على أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغسل يوم الجمعة ليس بفرض واجب، أن عمر رضي الله عنه في هذا الحديث لم يأمر عثمان بالانصراف للغسل، ولا انصرف عثمان حين ذكره عمر بذلك، ولو كان الغسل واجباً فرضاً للجمعة ما أجزأت الجمعة إلا به، كما لا تجزئ الصلاة إلا بوضوء للمحدث أو بالغسل للجنب، ولو كان كذلك ما جهله عمر ولا عثمان» (¬3). قال القاضي عياض: هذا قول من عمر، وإقرار بمحضر جماعة من الصحابة، ولا منكر له، ولا مخالف، فهو كالإجماع، وعامة الفقهاء والأصوليين منهم يعدون هذا إجماعاً (¬4). اهـ وأجيب: بأنه لم يقل أحد: بأن غسل الجمعة شرط لصحة الصلاة، لا تجزئ صلاة ¬

(¬1) البخاري (878)، ومسلم (845). (¬2) الفتح تحت رقم (879). (¬3) التمهيد (5/ 247). (¬4) إكمال المعلم (3/ 233).

الجمعة إلا به، ولم يأت نص نبوي يقول: «لا يقبل الله صلاة الجمعة إلا بالغسل» كما قيل ذلك في الوضوء، ولو صلى تاركاً للغسل عمداً مع القدرة عليه صحت صلاته، وقد حكي إجماعاً صحة صلاة الجمعة ولو لم يغتسل (¬1)، وإنما قالوا: الغسل واجب، وليس بشرط، وإذا فهم ذلك فلا يمكن أن تكون قصة عثمان رضي الله عنه مع عمر دليلاً على نفي وجوب الغسل، بل إن الحديث ظاهر في وجوب الغسل، من وجهين: الأول: كون عمر يقطع الخطبة، ويشتغل بمعاتبة عثمان رضي الله عنه، ويقوم بتوبيخه على رؤوس الناس، كل ذلك دليل على وجوب الغسل، فلو كان ترك الغسل مباحاً لما فعل ذلك عمر رضي الله عنه. الثاني: أن عمر رضي الله عنه قد أعلن في خطبته، بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل، والأصل في الأمر الوجوب، وإنما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت، إذ لو فعل لفاتته الجمعة، خاصة وأن الخطبة كانت على عهد الخلفاء الراشدين قصيرة، كما كانت على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يلزم من ذلك تأثيم عثمان؛ لأنه إنما تركه ذاهلاً عن الوقت، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإنسان إذا خشي لو توضأ أن تفوته الجمعة فإنه يتيمم، فما بالك بالغسل الذي هو مجرد واجب، وليس شرطاً في صحة الصلاة، على أن عثمان قد يكون قد اغتسل في أول النهار، لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران، أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء (¬2)، وإنما لم يعتذر بذلك ¬

(¬1) الفتح تحت رقم (879). (¬2) صحيح مسلم (231).

الدليل الرابع

لعمر كما اعتذر عن التأخير؛ لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة، كما هو الأفضل (¬1). الدليل الرابع: (1172 - 45) ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في العباء يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم، وهو عندي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا (¬2). وجه الاستدلال: قوله «لو أنكم تطهرتم» فكلمة «لو» حرف للتمني، أو للشرط، والجواب محذوف لكان حسناً، وهذا يدل على الحض والترغيب في الغسل، لا على الوجوب. وأجيب: بأن حديث عائشة هذا ليس فيه الأمر بالغسل، وإنما عرض عليهم الغسل عرضاً، وحثهم عليه، فليس فيه دليل على وجوب الغسل، ثم أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أمر إلزام، فصار الغسل واجباً لذلك، ولو لم يرد إلا هذا الحديث ما قال أحد بوجوب الغسل، وإنما وردت مجموعة من الأحاديث تأمرهم بالغسل، ¬

(¬1) بتصرف يسير انظر الفتح تحت رقم (879). (¬2) البخاري (902)، ومسلم (847).

الدليل الخامس

وبعضها يعبر بالوجوب، (غسل الجمعة واجب) وبعضها بلفظ: (الغسل على كل بالغ) وهي ظاهرة في الوجوب، وبعضها بلفظ (الغسل على كل مسلم) ولا يمنع أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغبهم بالغسل أول الأمر، ثم أوجبه عليهم، فيكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - تدرج بهم كشأن بعض الأحكام الشرعية، والله أعلم. الدليل الخامس: (1173 - 46) ما رواه البخاري، من طريق عمرو بن سليم الأنصاري، قال: أشهد على أبي سعيد، قال: أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد. قال عمرو: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم، أواجب هو أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث. ورواه مسلم دون قول عمرو (¬1). وجه الاستدلال: ظاهر الحديث وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعطف على الغسل، فالتقدير الغسل واجب، والاستنان والطيب كذلك، وليس الطيب والاستنان بواجبين اتفاقاً، فدل على أن الغسل ليس بواجب، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد. وأجيب بعدة أجوبة، منها: الأول: لا نسلم أن دلالة الاقتران، تعني التساوي في الحكم، لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف، وقد قال سبحانه وتعالى: {كلوا من ثمره إذا ¬

(¬1) صحيح البخاري (880)، ومسلم (846).

أثمر، وآتوا حقه يوم حصاده} (¬1)، والأكل مباح، ودفع الحق واجب. ثانياً: على التسليم بأن الحديث ظاهر في وجوب الاستنان والطيب، فيقال: قد دل الإجماع على خروج الطيب والاستنان من القول بالوجوب، وبقي ما عداه على الأصل، وهو وجوب الغسل. ثالثاً: لا نسلم حكاية الإجماع بأن الطيب والاستنان ليسا واجبين، فالخلاف محفوظ فيهما، فأما الاستنان، فالقول بوجوبه ذهب إليه داوود الظاهري (¬2)، ونُسِبَ هذا القول إلى إسحاق بن راهوية (¬3). وقد استعرضت أدلة الأقوال في كتابي سنن الفطرة، وهو جزء من هذه السلسلة، والله الموفق. وأما الطيب، فقد قال الحافظ ابن حجر: روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة. وإسناده صحيح، وكذا ¬

(¬1) الأنعام: 141. (¬2) المنتقى شرح الموطأ (1/ 130)، مواهب الجليل (1/ 264)، المغني ـ ابن قدامة (1/ 69) قال: ولا نعلم أحداً قال بوجوبه إلا إسحاق وداود ". وقال النووي في المجموع (1/ 327): " السواك سنة، وليس بواجب. هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة إلا ما حكى الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا عن داود، أنه أوجبه. وحكى صاحب الحاوي أن داود أوجبه، ولم يبطل الصلاة بتركه،. قال: وقال إسحاق بن راهويه: هو واجب، فإن تركه عمداً بطلت صلاته. وهذا النقل عن إسحاق غير معروف، ولا يصح عنه، وقال القاضي أبو الطيب والعبدري: غلط الشيخ أبو حامد في حكايته وجوبه عن داود، بل مذهب داود أنه سنة؛ لأن أصحابنا نصوا أنه سنة، وأنكروا وجوبه، ولا يلزم من هذا الرد على أبي حامد ". اهـ (¬3) المجموع (1/ 327)، المغني ـ ابن قدامة (1/ 69).

الدليل السادس

قال بوجوبه بعض أهل الظاهر (¬1). وإن كنت أرجح أن الطيب والاستنان ليسا واجبين، وظاهر حديث أبي سعيد يفيد الوجوب في الجميع، لكن لا يمنع أن يقال: خرج الطيب والاستنان من القول بالوجوب بدليل آخر، وبقي غسل الجمعة على الوجوب، ولذلك روى البخاري عن عمرو بن سليم الأنصاري الراوي لحديث أبي سعيد قوله: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث. مما يدل على أن فهم السلف للوجوب على ظاهره، وهو الإلزام، ولذلك شهد عمرو بن سليم بوجوب الغسل يوم الجمعة، ولم يشهد على وجوب الطيب والاستنان، ولو كان الوجوب بمعنى التوكيد كما تأوله الجمهور لشهد بذلك للجميع. الدليل السادس: قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: «أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب، وفي ذلك ما يكفي ويغني عن الإكثار». ثم قال: «ومع إجماعهم على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب، اختلفوا فيه: هل هو سنة مسنونة للأمة؟ أم هو استحباب وفضل؟ أو كان لعلة فارتفعت؟» (¬2). ودعوى الإجماع على أنه ليس بواجب فيه نظر كبير، فالقول بوجوبه قد شهد به عمرو بن سليم الأنصاري الراوي للحديث عن أبي سعيد، وقوله في ¬

(¬1) الفتح تحت رقم (879). (¬2) التمهيد (10/ 80).

دليل من قال: غسل الجمعة واجب

البخاري، وسبق تخريجه، كما أنه رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الظاهرية، وقال الحافظ: وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار بن ياسر (¬1). قلت: وهو مقتضى صنيع عمر حين أنكر على عثمان بن عفان ترك الاغتسال، وهو على المنبر محتجاً بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل، وهو في الصحيحين، وسبق تخريجه. دليل من قال: غسل الجمعة واجب. الدليل الأول: (1174 - 47) ما رواه البخاري من طريق نافع وسالم فرقهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل (¬2). وجه الدلالة: قوله - صلى الله عليه وسلم - «فليغتسل» وهذا أمر بالغسل يوم الجمعة، والأصل في الأمر الوجوب، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (¬3). وقال تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} (¬4)، وقد عاقبه على ترك الامتثال. ¬

(¬1) الفتح تحت رقم (879). (¬2) البخاري (877،894،919). (¬3) النور: 63. (¬4) الأعراف: 12.

الدليل الثاني

وقال تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} (¬1)، فذم على ترك امتثال أمره. (1175 - 45) وبما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (¬2). وقد أجمعت الأمة على وجوب الصلاة والزكاة من قوله سبحانه وتعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (¬3). الدليل الثاني: (1176 - 49) ما رواه مسلم من طريق وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده. ورواه البخاري (¬4). وجه الدلالة: قوله (حق لله) فالحق بمعنى الواجب، ففي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه، ولا ¬

(¬1) المرسلات: 48. (¬2) صحيح البخاري (887). (¬3) النور: 56. (¬4) مسلم (849)، والبخاري (898).

يشركوا به شيئاً)) (¬1). فاسْتُعْمِلَتْ كلمة حق في أعظم الواجبات على الإطلاق، وهو ما خلق الخليقة من أجله، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (¬2). الدليل الثالث: (1177 - 50) ما رواه البخاري من طريق صفوان بن سليم، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. ورواه مسلم (¬3). فالواجب هو اللازم شرعاً، وقد حاول الجمهور تأويل الحديث؛ فقالوا: إن كلمة واجب المقصود بها التوكيد، كما تقول: إكرامك علي واجب، والذي حملهم على هذا التأويل المخالف لظاهر الحديث: إما لأنهم فهموا من كلمة واجب، أن الغسل شرط في صحة الصلاة، فقالوا: الإجماع منعقد على صحة الصلاة، ولو لم يغتسل للجمعة، فحملهم هذا على تأويل الحديث عن ظاهره، والحق أن الحديث نص في وجوب الغسل، وليس نصاً على شرطية الغسل، فلا يصح الاعتراض (¬4). ¬

(¬1) البخاري (7373)، ومسلم (30). (¬2) الذاريات: 56. (¬3) صحيح البخاري (879)، ومسلم (846). (¬4) قال الشافعي في الرسالة (ص: 303) قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غسل يوم الجمعة واجب، يحتمل معنيين: الظاهر منهما أنه واجب، فلا تجزئ الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، كما لا يجزئ في طهارة الجنب غير الغسل. =

أو لأنهم حاولوا الجمع بين الأحاديث التي توجب الغسل وبين أحاديث تعارضها، ولكن ليست صحيحة، مثل حديث «من اغتسل يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل». قالوا: فقوله «الغسل أفضل» فإنه يقتضي إشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء، فحملهم ذلك على تأويل «غسل يوم الجمعة واجب» إلى ما ذكرنا من أن المقصود به توكيد الغسل، وليس لزومه. والحق أن سند هذا الحديث لا يمكن أن يعارض به أحاديث الصحيحين، فقد علمت ما في الحديث من اختلاف من خلال الكلام على سنده ومتنه. قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة، وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر - يعني من الأمر بالغسل، ومن الحكم بأنه واجب - وقد أولوا صيغة الأمر على الندب، وصيغة الوجوب على التأكيد، كما يقال: إكرامك علي واجب، وهو تأويل ضعيف إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحاً على هذا الظاهر، وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث. الخ كلامه رحمه الله (¬1). ¬

= ويحتمل واجب في الاختيار والأخلاق والنظافة، ثم استدل للاحتمال الثاني بقصة عثمان مع عمر التي تقدمت، قال: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل دل ذلك على أنهما عقد علما، أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغسل على الاختيار. اهـ قال ابن حجر في الفتح تحت رقم (879) بعد أن نقل نص الشافعي المتقدم: وقد نقل الخطابي وغيره الإجماع على أن صلاة الجمعة بدون الغسل مجزئة لكن حكى الطبري من قوم أنهم قالوا بوجوبه، ولم يقولوا: إنه شرط، بل واجب مستقل تصح الصلاة بدونه، كأن أصله قصد التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس. الخ كلامه رحمه الله تعالى. (¬1) الفتح تحت رقم (879).

قلت: وكلمة (واجب) في الحقيقة الشرعية تعني اللزوم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم». وقد أخرج أبو داود (¬1)، والنسائي (¬2)، وابن الجارود (¬3)، والطبراني في المعجم الأوسط (¬4)، والطحاوي في شرح معاني الآثار، (¬5) وابن خزيمة (¬6)، وابن حبان (¬7)، والبيهقي (¬8)، من طرق عن مفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل. فجمع بكلمة (على) الظاهرة في الوجوب بين الرواح وبين الغسل (¬9). ¬

(¬1) السنن (342). (¬2) روى النسائي الجملة الأولى منه فقط دون الغسل (1371). (¬3) المنتقى (287). (¬4) الأوسط (4816). (¬5) شرح معاني الآثار (1/ 116). (¬6) صحيح ابن خزيمة (1721). (¬7) صحيح ابن حبان (1220). (¬8) سنن البيهقي (3/ 172). (¬9) تفرد بالزيادة في إسناده ومتنه مفضل بن فضالة، عن عياش، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن نافع، ورواية نافع عن ابن عمر في الصحيحين وغيرهما، ليس فيه زيادة ذكر حفصة في الإسناد، وليس فيه الجمع بين الأمر بالرواح، والأمر بالغسل. قال الطبراني كما في الفتح تحت رقم (879): لم يروه عن نافع بزيادة حفصة إلا بكير، ولا عنه إلا عياش، تفرد به مفضل. ولم أقف على تعليق الطبراني في نسختي من الأوسط. وتعقبه الحافظ بقوله: رواته ثقات، فإن كان محفوظاً فهو حديث آخر، ولا مانع أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يسمعه ابن عمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن غيره من الصحابة، فسيأتي في ثاني أحاديث الباب من رواية ابن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله الله عليه وسلم، ولا سيما مع اختلاف المتون. أهـ قلت: القواعد الحديثية تقتضي شذوذ هذه الزيادة، فقد رواه نافع وسالم وأخوه عبد الله وعبد الله بن دينار عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعضها: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، ورواية بعضهم في الصحيحين، ولم يذكروا حفصة في إسناده، كما لم يجمعوا بين وجوب الرواح ووجوب الغسل، بل اقتصروا على لفظ: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل. وإليك بيان ما وقفت عليه ممن خرج أحاديثهم، فقد روى الحديث جماعة منهم: الأول: مالك كما في الموطأ (1/ 102)، ومسند أحمد (2/ 64)، وصحيح البخاري (877)، وسنن النسائي (1376)، والسنن الكبرى له (1678)، وسنن الدارمي (1536)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 115)، وسنن البيهقي (1/ 293). الثاني: الليث كما في صحيح مسلم (844)، وسنن البيهقي (1/ 297). الثالث: عبيد الله بن عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 435)، رقم 5014، ومسند أحمد (2/ 3)، والمنتقى لابن الجاورد (280)، والطبراني في الكبير (13392)، وصحيح ابن حبان (1225)، والخطيب في تاريخه (5/ 300). الرابع: الحكم بن عتيبة، كما في الطيالسي (1850)، ومصنف ابن أبي شيبة (1/ 436) رقم 5021، وأحمد (2/ 77)، وسنن النسائي (1405)، وفي الكبرى (1677)، والطحاوي (1/ 115)، والمعجم الأوسط للطبراني (108). الخامس: أبو إسحاق السبيعي، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 433)، ومسند أحمد (2/ 42)، والنسائي في الكبرى (1679)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 115). السادس: يحيى بن سعيد الأنصاري كما في صحيح ابن حبان (1225). السابع: يحيى بن كثير الكاهلي، كما في صحيح ابن حبان (1224)،.والله أعلم. الثامن: مالك بن مغول، كما في مسند أحمد (2/ 41). التاسع: أيوب، كما في مسند الطيالسي (1848)، والحميدي (610)، أحمد (2/ 48)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 115). العاشر: يحيى بن أبي كثير، كما في مسند أحمد (2/ 105)، والطبراني في الأوسط =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (26، 56). الحادي عشر: الزهري، كما في معجم الأوسط للطبراني (46). الثاني عشر: عبد الله بن سعيد بن أبي هند، كما في المعجم الأوسط للطبراني (257). كل هؤلاء رووه عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يذكروا في الإسناد حفصة، ولم يجمعوا بين الأمر بالرواح إلى الجمعة وبين الأمر بالغسل، بل اقتصروا على قولهم " من جاء منكم الجمعة فليغتسل ". وقد وافقهم سالم وأخوه عبد الله وعبد الله بن دينار، فرووه عن ابن عمر بمثل ما رواه الجماعة من طريق نافع، عنه. فأما رواية سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد رواه الطيالسي (1818)، وأحمد (2/ 9)، والحميدي (608)، والبخاري (894)، ومسلم (844)، والترمذي (492)، والنسائي في الكبرى (1672)، وفي المجتبى (1406)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 155) وابن الجارود في المنتقى (283) وابن خزيمة (1749)، والبيهقي (3/ 188). وأما رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنه. فهي في مسند أحمد (2/ 37)، والحميدي (609)، وصحيح ابن حبان (1223). وأما رواية عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، فهي في مسند أحمد (2/ 120)، وصحيح مسلم (844)، والترمذي (493)، والنسائي في الكبرى (1675)، وفي المجتبى (1407)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 115) من طريق الليث، وأخرجه عبد الرزاق (5291)، وأحمد (2/ 149)، ومسلم (844)، والنسائي في الكبرى (1673) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 115)، والبيهقي في السنن (1/ 293) من طريق ابن جريج كلاهما (الليث وابن جريج) روياه عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر مرفوعاً. قال النسائي: ما أعلم أحداً تابع الليث على هذا الإسناد غير ابن جريج، وأصحاب الزهري يقولون: عن سالم بن عبد الله عن أبيه. ورواه يحيى بن وثاب، عن ابن عمر كما في مسند أحمد (2/ 53،115)، والنسائي في الكبرى (16801)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 115). =

دليل من قال: الغسل واجب على من كان به رائحة كريهة

دليل من قال: الغسل واجب على من كان به رائحة كريهة. الدليل الأول: (1178 - 51) ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في العباء يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم، وهو عندي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا. ووراه مسلم (¬1). وأجيب: بأن هذا الحديث لا ينافي الوجوب، فبيان سبب الوجوب لا ينافي استصحاب الحكم، مع أن حديث عائشة ليس فيه أمر بالغسل، وإنما كان مجرد عرض وحث على الغسل، ثم أمرهم أمر إلزام بالغسل بعد ذلك، وكون السبب قد ارتفع لا يرتفع الحكم، أرأيت إلى مشروعية الرمل في الطواف، كان سبب مشروعيته إغاظة المشركين، ودحض ما أشاعوه بين الناس، بأن ¬

= فكل هؤلاء يشهد على خطأ حديث من جعله عن ابن عمر عن حفصة، وهو طريق فرد لم يتابع، فالباحث يجزم بشذوذ مثل هذا الطريق، وطريقة المتقدمين تأبى قبول مثل ذلك، بل إذا كان النسائي يشير إلى تعليل الحديث من طريق عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، مع أنه ورد من طريقين كلاهما ثقة ابن جريج والليث، ولم يختلف في متنه لمجرد أن أصحاب الزهري رووه عنه، عن سالم، عن ابن عمر، فما بالك بهذا الطريق الذي اشتمل على مخالفتين أحدهما في الإسناد، والأخرى في المتن، والله أعلم. انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: إتحاف المهرة (21382). (¬1) البخاري (902)، ومسلم (847).

الدليل الثاني

الصحابة رضوان الله عليهم قد وهنتهم حمى يثرب، ولا يزال الناس يرملون إلى اليوم، مع أن الله سبحانه وتعالى قد طهر مكة من رجس المشركين. الدليل الثاني: (1179 - 52) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز، يعني ابن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، أن أناسا من أهل العراق جاءوا، فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدء الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الريح قال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه. قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق (¬1). ¬

(¬1) سنن أبي داود (353)، ومن طريق عبد الله بن مسلمة أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 116 - 117). وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 116 - 117) من طريق ابن أبي مريم، عن الدراوردي به. ورواه أحمد (1/ 268) وعبد بن حميد كما في المنتخب (590)، وابن خزيمة (3/ 127) والحاكم في المستدرك (1/ 280 - 281) من طريق سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو به. =

[قال الحافظ إسناده حسن] (¬1). وأجاب عنه الحافظ بعدة أجوبة، منها: أولاً: الثابت عن ابن عباس خلافه. قلت: لعل الحافظ يشير إلى ما رواه ابن عباس مرفوعاً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالغسل أمراً مطلقاً (¬2)، فإن كان مقصود الحافظ بقوله: «خلافه» أنه يخالفه مخالفة معارضة، بحيث يلزم من قبول هذا طرح ذاك، فليس بصواب، فابن عباس ساق سبب وجوب الغسل، ثم روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالغسل أمراً مطلقاً، وهما لا يتعارضان، خاصة فيما يتعلق بالمرفوع، أما فهم ابن عباس، بأن السبب إذا ارتفع ارتفع الحكم، فهذا فهم من عنده، موقوفاً عليه، والحجة في المرفوع خاصة، كما سيشير إليه الحافظ في الكلام التالي. ثانياً: قال الحافظ: «على تقدير الصحة، فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، وأما نفي الوجوب فهو موقوف؛ لأنه من استنباط ابن عباس، وفيه نظر؛ إذ لا يلزم من زوال السبب زوال المسبب، كما في الرمل والجمار» (¬3). هذا فيما يتعلق بأهم الأدلة لكل فريق، وبعد استعراض الأدلة نجد أن ¬

= إنظر إتحاف المهرة (8295)، أطراف المسند (3/ 221)، التحفة (6179). (¬1) الفتح تحت رقم (879)، وهو كما قال، ويشهد له حديث عائشة الذي قبله. (¬2) روى البخاري في صحيحه (884) من طريق طاوس، قال: قلت لابن عباس: ذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رءوسكم، وإن لم تكونوا جنباً، وأصيبوا من الطيب. قال ابن عباس: أما الغسل فنعم، وأما الطيب فلا أدري. ورواه مسلم أيضاً (848). (¬3) المرجع السابق.

الخلاف في المسألة قوي جداً، وأجد نفسي تميل إلى القول بالوجوب، لأنه ظاهر الأحاديث، والقائلون بالسنية يحتاجون إلى تأويل النصوص، وصرفها عن ظاهرها، لمعارض ليس من القوة بحيث نضطر إلى تأويل النصوص عن ظاهرها، والله أعلم، ومع القول بوجوب الغسل فإن من صلى بدون أن يغتسل فصلاته صحيحة، حتى ولو تركه بدون عذر؛ لأن الغسل واجب، وليس شرطاً في صحة الصلاة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وجوب الغسل إنما كان من أجل النظافة وإزالة العرق، وليس عن حدث، والله أعلم.

المبحث الثاني غسل الجمعة لليوم أو للصلاة

المبحث الثاني غسل الجمعة لليوم أو للصلاة اختلف الفقهاء هل غسل الجمعة للصلاة، أو لليوم؟ فقيل: الغسل للصلاة، ويدخل وقته بطلوع الفجر، وهو مذهب الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: الغسل للصلاة، ووقته أن يصلي الجمعة بذلك الغسل، حتى ولو اغتسل قبل طلوع الفجر، فإن اغتسل قبيل صلاة الجمعة، ثم أحدث قبل أن يصلي، أعاد الغسل، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬4). وقيل: الغسل لليوم، فلو اغتسل قبل غروب يوم الجمعة حقق السنة، اختاره بعض الحنفية (¬5)، وهو اختيار ابن حزم (¬6). ¬

(¬1) حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (1/ 379)، واشترط المالكية ألا يفصل بني الغسل والرواح نوم أو غذاء إلا أن يكون ذلك في المسجد. (¬2) إعانة الطالبين (2/ 72)، المنهج القويم (ص: 380)، المهذب (1/ 113)، مغني المحتاج (1/ 291). (¬3) كشاف القناع (1/ 150)، شرح منتهى الإرادات (1/ 83). (¬4) تبيين الحقائق (1/ 18)، شرح فتح القدير (1/ 67)، حاشية ابن عابدين (1/ 169)، شرح فتح القدير (1/ 67). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 169)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص:69)، شرح فتح القدير (1/ 67). (¬6) المحلى (2/ 19) مسألة: 179.

دليل من قال: الغسل يوم الجمعة للصلاة

دليل من قال: الغسل يوم الجمعة للصلاة. الدليل الأول: (1180 - 53) ما رواه البخاري من طريق نافع وسالم فرقهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل (¬1). الدليل الثاني: ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز، يعني ابن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة أن أناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدء الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الريح قال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه. قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم ¬

(¬1) البخاري (877،894،919).

الدليل الثالث

بعضا من العرق (¬1). [قال الحافظ إسناده حسن] (¬2). فكان مشروعية الغسل من أجل اجتماع الناس في المسجد، ودفعاً لما قد يتأذى بعضهم من بعض نتيجة انبعاث الروائح الكريهة عند اجتماع الناس. الدليل الثالث: (1181 - 54) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فناداه عمر، أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت. فقال: والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل (¬3). وجه الاستدلال: أنكر عمر على عثمان إتيانه الجمعة مقتصراً على الوضوء، وتاركاً للغسل، ولو كان وقت الغسل لم يذهب بعد، لم يكن الإنكار في محله، فكان يمكن لعثمان أن يغتسل بعد الجمعة، فدل هذا على أن الغسل لحضور الصلاة، وليس لذات اليوم. ¬

(¬1) سنن أبي داود (353). (¬2) الفتح تحت رقم (879)، وهو كما قال، ويشهد له حديث عائشة الذي قبله. (¬3) البخاري (878)، ومسلم (845).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1182 - 55) ما رواه البخاري من طريق سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. ووراه مسلم (¬1). قوله: «من اغتسل ثم راح» التعبير بـ (ثم) دليل على الترتيب، فكان الغسل قبل الرواح. دليل من قال: الغسل لليوم، وليس للصلاة. الدليل الأول: (1183 - 56) ما رواه البخاري من طريق صفوان بن سليم، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. ورواه مسلم (¬2). ¬

(¬1) البخاري (881)، ومسلم (850). (¬2) صحيح البخاري (879)، ومسلم (846).

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أضاف الغسل إلى يوم الجمعة، ويوم الجمعة يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. الدليل الثاني: (1184 - 57) ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في العباء يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم، وهو عندي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا» فجعل الطهر من أجل اليوم، وليس من أجل الصلاة. الدليل الثالث: (1185 - 58) ما رواه مسلم من طريق وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده. ¬

(¬1) البخاري (902)، ومسلم (847).

وفي رواية للبخاري «على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً» (¬1). وجه الاستدلال: جعل الغسل مشروعاً في السبعة أيام، فإذا اغتسل في اليوم السابع فقد قام بالمشروع، وقد بينب الرويات الأخرى، أن هذا اليوم هو يوم الجمعة، ففي أي ساعة اغتسل فقد امتثل الأمر. (1186 - 59) فقد روى أحمد رحمه الله، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن داود بن أبي هند، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على كل مسلم غسل في سبعة أيام، كل جمعة (¬2). [أخطأ فيه داود بن أبي هند، فرواه على الجادة، عن أبي الزبير، عن جابر، وقد رواه الثقات عن أبي الزبير، عن طاووس، عن أبي هريرة] (¬3). ¬

(¬1) مسلم (849)، والبخاري (898). (¬2) المسند (3/ 304). (¬3) الحديث رواه أحمد كما في إسناد الباب، وابن أبي شيبة (1/ 434) رقم: 5007، والنسائي (1378)، وابن خزيمة (1747)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 116)، وابن حبان (1219) من طريق داود بن أبي هند به. قال ابن أبي حاتم في العلل (49): " سألت أبي عن حديث رواه داود بن أبي هند، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " غسل يوم الجمعة واجب في كل سبعة أيام " قال أبي: هذا خطأ، إنما هو على ما رواه الثقات، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن أبي هريرة موقوف. اهـ =

دليل من قال: لو اغتسل قبل الفجر ثم صلى الجمعة بذلك الغسل أجزأ

قلت: الجمع بين هذه الروايات ممكن، فقد يطلق الكل، ويراد به البعض، كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} (¬1). وقد يطلق البعض، ويراد به الكل، كما في قوله تعالى: {فتحرير رقبة} (¬2)، فالأحاديث التي أطلق فيها الغسل يوم الجمعة، لم يرد به كل اليوم، وإنما أراد به بعض اليوم، وهو ما قبل صلاة الجمعة، والقرينة التي تؤيد ذلك الأحاديث الصحيحة المصرحة بالأمر بالغسل من أراد أن يأتي الجمعة، أي الصلاة، والله أعلم. دليل من قال: لو اغتسل قبل الفجر ثم صلى الجمعة بذلك الغسل أجزأ. استدل من جهة اللغة، فإن النصوص قد نصت على الغسل يوم الجمعة لمن يريد حضور الصلاة، واليوم يطلق ويراد به اليوم والليلة، قال تعالى: {قال ¬

= قلت: قد تابع ابن جريج داود بن أبي هند، فرواه عبد بن حميد كما في المنتخب (1072) حدثني ابن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على كل مسلم في كل سبع غسل يوم، وذلك يوم الجمعة، فإما أن يكون الخطأ من ابن جريج، وقد دلسه عن أبي الزبير، حيث لم يصرح بالتحديث، وإما أن يكون الحمل على أبي الزبير، فإن أبا الزبير ليس بالمتقن، والله أعلم، خاصة أن رواية طاووس عن أبي هريرة والتي أشار إليها أبو حاتم الرازي، هي في الصحيحين، وقد سقتها قبل قليل، والله أعلم. انظر إتحاف المهرة (3259)، أطراف المسند (2/ 125)، تحفة الأشراف (2706). (¬1) آل عمران: 173. (¬2) النساء: 92.

الراجح من الخلاف

رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً} (¬1). وقال في آية أخرى {ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً} (¬2). (1187 - 60) وقد روى البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام (¬3). وفي رواية لمسلم: (أن أعتكف يوماً)، قال - صلى الله عليه وسلم -: أوف بنذرك (¬4). الراجح من الخلاف: أن الغسل للصلاة، ليس من قبيل الغسل عن الأحداث، فهو مراد به النظافة، ومن أجل اجتماع الناس، وقد أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والأصل في الأمر الوجوب، وجاء بعضها بلفظ (غسل الجمعة حق لله) وفي بعضها «غسل الجمعة واجب» وفي بعضها (على كل مسلم) وهي كلها ألفاظ إن لم تكن صريحة فهي ظاهرة في الوجوب، وقد علق الأمر بالسعي إلى الجمعة: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل» وفي بعضها أضاف الغسل إلى يوم الجمعة، فيقال: الغسل للصلاة يوم الجمعة، ويوم الجمعة يدخل من ليلة الجمعة حتى حضور الصلاة، لكن لو أنه عندما نام ليلة الجمعة، تعرض لعرق كثير أذهب فائدة اغتسال ذلك اليوم، كان المطلوب منه إعادة الغسل؛ لأن غسل الجمعة المراد منه النظافة، وليس رفع الحدث، والله أعلم. ¬

(¬1) مريم: 10. (¬2) آل عمران: 41. (¬3) البخاري (2042)، ومسلم (1656). (¬4) مسلم (1656).

مبحث في غسل من لا تجب عليه الجمعة

مبحث في غسل من لا تجب عليه الجمعة بينت فيما سبق خلاف أهل العلم في وقت الغسل، وهل الغسل مشروع للصلاة أو لليوم؟ وينبني على هذا الخلاف خلاف آخر، فمن قال: إن الغسل للصلاة رأى أن الحكم خاص بمن تلزمه الجمعة، أو بمن أراد حضورها، ولو لم تلزمه. ومن قال: إن الغسل لليوم، رأى أن الغسل مشروع للمرأة، والرجل، والمسافر، وغيرهم، بل ذهب بعض أهل العلم إلى مشروعيته حتى للحائض والنفساء، وإليك بيان الأقوال في هذه المسألة، فقيل: يسن لكل من أراد حضور الجمعة، سواء الرجل والمرأة، والصبي والمسافر والعبد وغيرهم، ولا يسن لمن لم يرد الحضور، وإن كان من أهل الجمعة، وهو الصحيح من مذهب الحنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأصح الأقوال في مذهب الشافعية (¬3). ¬

(¬1) انظر الفتاوى الهندية (1/ 16)، شرح فتح القدير (1/ 67)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 20). (¬2) قال العدوي في حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني (1/ 379): " تسن في حق كل من حضرها، ولو لم تلزمه من مسافر وعبد وامرأة وصبي، كان ذا رائحة كالقصاب: أي اللحام أم لا ... الخ كلامه رحمه الله. وقال الدسوقي في حاشيته (1/ 384): " والمعروف من المذهب أنه سنة لآتيها، ولو لم تلزمه ". اهـ وانظر الفواكه الدواني (2/ 266). (¬3) المجموع (4/ 405)، وقال في حلية العلماء (2/ 240): " والصحيح تعلق ذلك بالحضور دون لزومه ". اهـ وانظر مغني المحتاج (1/ 290)، منهاج الطالبين (1/ 22).

دليل من قال: الغسل متعلق بالحضور، ولو لم تلزمه

وقيل: يسن لذكر حضر الجمعة، ولو لم تجب عليه، كالعبد، والمسافر، ولا يستحب للمرأة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يسن إلا لمن لزمه الحضور، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: يسن لمن هو من أهل الجمعة، ومنعه من الحضور عذر ونحوه، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3). وقيل: الغسل على كل بالغ من الرجال والنساء، حضروا الصلاة أو لم يحضروا، وهو قول أبي ثور (¬4)، وقول في مذهب الشافعية (¬5)، واختاره ابن حزم حتى للحائض والنفساء (¬6). دليل من قال: الغسل متعلق بالحضور، ولو لم تلزمه. الدليل الأول: (1188 - 61) ما رواه البخاري من طريق نافع وسالم فرقهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل (¬7). ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 247)، شرح منتهى الإرادت (1/ 83)، كشاف القناع (1/ 150)، مطالب أولي النهى (1/ 176). (¬2) المجموع (4/ 405). (¬3) المجموع (4/ 405). (¬4) حلية العلماء (2/ 240). (¬5) المجموع (4/ 405)، مغني المحتاج (1/ 290)، منهاج الطالبين (1/ 22). (¬6) المحلى (1/ 266) مسألة: 1790. (¬7) البخاري (877،894، 919).

الدليل الثاني

فكلمة «أحد» نكرة مضافة، فتعم كل أحد ممن جاء إلى الجمعة، سواء كان صغيراً أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، مسافراً أو غير مسافر، ومن قصر اللفظ على بعض أفراده لزمه دليل على تقييد هذا المطلق. الدليل الثاني: (1189 - 62) ما رواه البخاري من طريق سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. ووراه مسلم (¬1). قوله: «من اغتسل ثم راح» فيه فائدتان: الأولى: أن الغسل قبل الرواح. والثانية: أن الرواح سبب في الغسل. الدليل الثالث: (1190 - 63) ما رواه ابن خزيمة من طريق محمد بن رافع، عن زيد بن الحباب، حدثني عثمان بن واقد العمري، حدثني نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أتى الجمعة من الرجال ¬

(¬1) البخاري (881)، ومسلم (850).

والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء (¬1). [ذكر النساء في الحديث غير محفوظ] (¬2). ¬

(¬1) صحيح ابن خزيمة (1752). (¬2) رواه ابن خزيمة كما في إسناد الباب، ومن طريق ابن خزيمة رواه البيهقي (3/ 188). ورواه ابن حبان (1226) من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا زيد بن الحباب به. انظر إتحاف المهرة (11006) وقد ذكر الحافظ أن أبا عوانة قد رواه أيضاً من طريق زيد بن الحباب، عن عثمان بن واقد به. وقد انفرد بزيادة ذكر النساء عثمان بن واقد، عن نافع، وقد رواه جمع عن نافع، ولم يذكروا ما ذكره عثمان بن واقد، كما رواه سالم وأخوه عبد الله وابن دينار ويحيى بن وثاب وغيرهم عن ابن عمر ولم يذكروا في الحديث لفظ (النساء). قال الآجري عن أبي داود: عثمان بن واقد ضعيف. قلت له: إن الدوري يحكي عن ابن معين أنه ثقة، فقال: هو ضعيف، حدث بحديث: " من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل " ولا نعلم أحداً قال هذا غيره. اهـ قلت: قد خالف عثمان بن واقد كلاً من مالك، وعبيد الله بن عمر، والليث، والحكم ابن عتيبة، وأبي إسحاق السبيعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن كثير الكاهلي، ومالك ابن مغول، وأيوب، ويحيى بن أبي كثير. وإليك بيان مصادر هذه الرويات، فلو خالف عثمان بن واقد مالكاً وحده لردت رواياته، كيف وقد خالف أخص أصحاب نافع: عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس. فرواية مالك في الموطأ (1/ 102)، ومسند أحمد (2/ 64)، وصحيح البخاري (877)، وسنن النسائي (1376)، والسنن الكبرى له (1678)، وسنن الدارمي (1536)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 115)، وسنن البيهقي (1/ 293). الثاني: الليث كما في صحيح مسلم (844)، وسنن البيهقي (1/ 297)، الثالث: عبيد الله بن عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 435)، رقم 5014، =

دليل من قال: الغسل يلزم كل بالغ حضر الجمعة أو لا

دليل من قال: الغسل يلزم كل بالغ حضر الجمعة أو لا. الدليل الأول: (1191 - 64) ما رواه البخاري من طريق صفوان بن سليم، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم (¬1). فكلمة «كل» من ألفاظ العموم، فتعم الرجال والنساء، مَنْ حضر الجمعة ومن لم يحضر، حتى الحائض والنفساء. ¬

= ومسند أحمد (2/ 3)، والمنتقى لابن الجاورد (280)، والطبراني في الكبير (13392)، وصحيح ابن حبان (1225)، والخطيب في تاريخه (5/ 300). الرابع: الحكم بن عتيبة، كما في الطيالسي (1850)، ومصنف ابن أبي شيبة (1/ 436) رقم 5021، وأحمد (2/ 77)، وسنن النسائي (1405)، وفي الكبرى (1677)، والطحاوي (1/ 115). الخامس: أبو إسحاق السبيعي، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 433)، ومسند أحمد (2/ 42)، والنسائي في الكبرى (1679)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 115). السادس: يحيى بن سعيد الأنصاري كما في صحيح ابن حبان (1225). السابع: يحيى بن كثير الكاهلي، كما في صحيح ابن حبان (1224)،.والله أعلم. الثامن: مالك بن مغول، كما في مسند أحمد (2/ 41). التاسع: أيوب، كما في مسند الطيالسي (1848)، والحميدي (610)، أحمد (2/ 48)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 115). العاشر: يحيى بن أبي كثير، كما في مسند أحمد (2/ 105)، والطبراني في الأوسط (26، 56). (¬1) صحيح البخاري (879)، ومسلم (846).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1192 - 65) ما رواه مسلم من طريق وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده. ورواه البخاري (¬1). وجه الاستدلال: أنه جعل الغسل في كل سبعة أيام، فكأن هذا توقيت لتنظيف الجسد مرة واحدة من كل أسبوع، حضر الجمعة أو لم يحضر. وأجابوا عن حديث «من جاء منكم الجمعة فليغتسل» بأن هذا الحديث فيه الأمر بالغسل على من حضر الجمعة، وليس فيه نص على إسقاط الغسل عمن لم يحضر، وفي الأحاديث الأخرى بينت وجوب الغسل على كل مسلم كما في حديث «حق لله على كل مسلم» وفي بعضها «واجب على كل محتلم» فهذا قدر زائد فيجب الأخذ به. دليل من قال: الغسل واجب على الرجال دون النساء. (1193 - 66) ما رواه البخاري، من طريق سالم بن عبد الله، أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من جاء منكم الجمعة فليغتسل. ورواه مسلم. وجه الاستدلال: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من جاء منكم الجمعة» يؤخذ منه فائدتان: ¬

(¬1) مسلم (849)، والبخاري (898).

دليل من قال: يلزم الغسل لمن تلزمه الجمعة وإن تركها لعذر

الأولى: أن الغسل مشروع في حق من يحضر الجمعة. الثانية: أنه نص على وجوب الغسل على الرجال، لقوله: «منكم» ولم يقل: «منكن» فسقط وجوب الغسل على النساء. وأجيب: بأن الأحكام على عمومها للرجال والنساء إلا بدليل، فما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، وكذلك العكس، وقد قال تعالى: {وأقيموا الصلاة} فكان هذا خطاباً للرجال، وقدخل فيه النساء، وكذلك قوله: ... {آتوا الزكاة} عام للرجال والنساء، كما أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى الجمعة فليغتسل» فإن كلمة (من) اسم شرط، وهو من ألفاظ العموم. دليل من قال: يلزم الغسل لمن تلزمه الجمعة وإن تركها لعذر. قالوا: هذا الرجل المعذور في ترك الجمعة مشروع في حقه أمران، الأول حضور الجمعة، والثاني الغسل لها، فإذا عجز عن أحدهما لم يسقط الآخر. الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض أدلة كل قول، أجد أن القول بأن الغسل مشروع في حق من حضر الجمعة من الرجال والنساء البالغين أقوى من حيث الأدلة، والنصوص تفسر بعضها بعضاً، فالأحاديث التي تأمر بالغسل يوم الجمعة، يجب أن تقيد بالأحاديث التي تعلق الأمر بالغسل على شهود الجمعة، وقد نصت على أن الوجوب على كل محتلم، فغير البالغ، ولو حضر ليس مخاطباً في الغسل، خاصة إذا علمنا أن سبب مشروعية الغسل هو اجتماع الناس، وقد يتضايق بعضهم من بعض بسبب اجتماع الناس، وقد ينبعث من بعضهم بعضُ الروائح التي تؤذي الآخرين، والله أعلم.

الفصل السابع من موجبات الغسل حيض المرأة

الفصل السابع من موجبات الغسل حيض المرأة اتفق العلماء على أن الغسل يجب من الحيض، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع. أما من القرآن: فقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (¬1). وجه الاستدلال: أن المرأة يلزمها تمكين زوجها من الوطء، ولا يجوز ذلك إلا بالغسل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإن قيل: أين الدلالة من الآية على أنه لا يجوز الوطء إلا بعد الاغتسال؟ فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بجواز إتيان الزوجة بشرطين: الأول: انقطاع الدم، ويؤخذ من قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} (¬2). فقوله: «يطهرْنَ» بالتخفيف. كلمة «طهر» تستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان وهو انقطاع دم الحيض. ¬

(¬1) البقرة آية (222). (¬2) البقرة، آية: 222.

الدليل من السنة على وجوب الاغتسال

الشرط الثاني: «فإذا تطهرن فأتوهن» وكلمة (تطهرن) بالتشديد: أي اغتسلن؛ لأن كلمة (تطهرّ) تستعمل فيما يكتسبه الإنسان بفعله، وهو الاغتسال من الماء. وقد سبق تحرير هذه المسألة في كتاب الحيض والنفاس من هذه السلسلة. الدليل من السنة على وجوب الاغتسال: (1194 - 67) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: «إني استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟» فقال: لا، إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)) (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم اغتسلي وصلي» أمر بالاغتسال، والأصل في الأمر الوجوب. (1195 - 68) ودليل آخر رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة بنت جحش، ختنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحت عبد الرحمن بن عوف، استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي. ¬

(¬1) صحيح البخاري (325). وقد رواه الشيخان أيضاً بلفظ: " فاغسلي عنك الدم ثم صلي ".

الدليل من الإجماع

قالت عائشة فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش، حتى تعلو حمرة الدم الماء. قال ابن شهاب فحدثت بذلك أبا بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: يرحم الله هنداً، لو سمعت بهذه الفتيا، والله إن كانت لتبكي؛ لأنها كانت لا تصلي (¬1). وجه الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فاغتسلي وصلي». وفي رواية: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي». وأما الدليل من الإجماع: فقد نقل الإجماع جماعة، منهم الكاساني الحنفي (¬2). وقال النووي: «أجمع العلماء على وجوب الغسل بسبب الحيض، وبسبب النفاس، وممن نقل الإجماع فيهما ابن المنذر، وابن جرير الطبري وآخرون» (¬3). ونقل الإجماع ابن مفلح الحنبلي (¬4). ¬

(¬1) صحيح مسلم (334). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 138). (¬3) المجموع (2/ 168). (¬4) المبدع (1/ 185).

المبحث الأول خلاف العلماء في الموجب للغسل اختلف العلماء في الموجب للغسل: هل الموجب خروج الدم؟ أم انقطاعه؟ أم إرادة الصلاة؟ أم الموجب الجميع (خروج الدم وانقطاعه وإرادة الصلاة)؟ إلى أقوال: فقيل: الموجب للغسل خروج الدم. اختاره بعض الحنفية (¬1)، وقول العراقيين من الشافعية (¬2). وقيل: الموجب انقطاع دم الحيض. اختاره بعض الحنفية (¬3)، وأبو حامد من الشافعية (¬4)، وهو مفهوم كلام الخرقي (¬5). وقيل: الموجب للغسل خروج الدم، لكن الانقطاع شرط لصحته. وهو مذهب المالكية (¬6)، والحنابلة (¬7). ¬

(¬1) تبيين الحقائق للزيلعي (1/ 17)، البحر الرائق (1/ 63)، العناية شرح الهداية مطبوع بهامش فتح القدير (1/ 65)، البناية للعيني (1/ 278)، حاشية ابن عابدين (1/ 165). (¬2) انظر روضة الطالبين (1/ 81)، المجموع (2/ 168)، مغني المحتاج (1/ 69). (¬3) انظر البحر الرائق (1/ 63)، وانظر المراجع السابقة للأحناف. (¬4) انظر المجموع (2/ 168). (¬5) انظر المغني (1/ 276)، والإنصاف (1/ 238)، الفروع (1/ 200). (¬6) الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 130)، منح الجليل (1/ 123)، مواهب الجليل (1/ 374)، الشرح الصغير (1/ 166)، أسهل المدارك ((1/ 65). (¬7) كشاف القناع (1/ 146)، شرح منتهى الإرادات (1/ 81)، الفروع (1/ 200)، الإنصاف (1/ 238).

دليل من قال: الموجب للغسل خروج الدم

وقيل: الموجب للغسل إرادة القيام إلى الصلاة. اختاره بعض الحنفية (¬1)، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: الغسل يجب بمجموع خروج الدم وانقطاعه والقيام إلى الصلاة. وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). دليل من قال: الموجب للغسل خروج الدم. قالوا: إذا خرج الدم فقد نقض الطهارة الكبرى، وإن لم يجب الغسل مع سيلان الدم، لأنه ينافيه، فإذا انقطع أمكن الغسل. فوجوبه من أجل الحدث السابق. التعليل الثاني: أن الحيض الذي أوجب الغسل من وجهين: الأول: من حيث كونه سبباً في منع الصلاة والصيام ونحوهما. الثاني: أننا لا يمكن أن نعتبر انقطاع الدم، وهو نوع من الطهارة موجباً للطهارة، فمحال أن الطهارة توجب الطهارة، وإنما الموجب للطهارة هو النجاسة، إنما أجل الاغتسال إلى حين انقطاع الحيض، لأنه لا فائدة من الاغتسال حينئذٍ. دليل من قال: الموجب للغسل انقطاع الدم. قالوا: لأن الدم ما دام باقياً لا يمكن الغسل، وما لا يمكن لا يجب. ورد عليهم: بأن الحائض يحرم عليها الصلاة والصيام بخروج الدم، ولو كان الموجب هو الانقطاع لما حرم عليها حتى ينقطع. ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 64). (¬2) المجموع (2/ 168)، الروضة (1/ 81). (¬3) انظر المراجع السابقة.

دليل من قال: يجب بإرادة القيام إلى الصلاة

ولأن النجاسة حصلت بخروج الدم، فوجب التطهير عنده، إذ التنجس ووجوب التطهير متلازمان. دليل من قال: يجب بإرادة القيام إلى الصلاة. ولعل ملحظ هذا القول رأى بأن الإنسان لا تجب عليه الطهارة الصغرى والكبرى إلا إذا وجب عليه فعل عبادة تشترط لها الطهارة، فإذا طهرت المرأة بعد طلوع الشمس لم يجب عليها الاغتسال إلا عند إرادة فعل صلاة الظهر في وقتها، ولعلهم ذكروا الصلاة وأرادوا به المثال: أي ومثل الصلاة سائر العبادات التي تشترط لها الطهارة؛ ولأن الحدث الأصغر والأكبر إنما أمرنا بالطهارة منهما عند القيام إلى الصلاة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ..} إلى قوله: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1). دليل من قال: لا يجب الغسل إلا بخروج الدم وانقطاعه والقيام إلى الصلاة. أدلته: مجموع أدلة الأقوال السابقة، وهي أن خروج الدم موجب للحدث الأكبر وانقطاعه وإرادة الصلاة موجبان للغسل كذلك. والراجح من هذه الأقوال: أن خروج الدم موجب للغسل، لكن انقطاعه شرط للصحة، وهذا الوجوب على التراخي، وليس على الفور، فإذا وجبت عبادة تشترط لها الصلاة وضاق بوقتها ولم يبق من وقتها إلا ما يكفي للغسل والصلاة وجب الغسل حينئذ. والله أعلم. ¬

(¬1) المائدة آية (6).

الفصل الثامن من موجبات الغسل النفاس

الفصل الثامن من موجبات الغسل النفاس يجب على النفساء الاغتسال إذا طهرت. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم أن على النفساء الاغتسال عند خروجها من النفاس. اهـ (¬1). وقال ابن حزم: ((ودم النفاس يمنع ما يمنع منه دم الحيض، هذا لا خلاف فيه من أحد، ثم قال: «وكذلك الغسل منه واجب بإجماع» (¬2). وقال صاحب المجموع، وصاحب نيل المآرب يزيد بعضهم على بعض، قالا: والنفاس كحيض، فيما يجب: كغسل، وقضاء صوم، وكفارة بوطء فيه. وفيما يحرم: كصلاة وصوم ووطء في فرج، وطلاق. وفيما يسقط: كقضاء الصلاة، وطواف الوداع. وفيما يحل: كاستمتاع بما دون فرج. وفيما يمنع صحة الصلاة، والصوم، والطواف، والاعتكاف، والغسل (¬3). وقال ابن قدامة: وحكم النفساء حكم الحائض في جميع ما يحرم عليها، ويسقط عنها، لا نعلم في هذا خلافاً، وكذلك تحريم وطئها، وحل ¬

(¬1) الأوسط (2/ 248). (¬2) المحلى (مسألة: 261). (¬3) المجموع (2/ 536)، ونيل المآرب (1/ 112).

مباشرتها، والاستمتاع بما دون الفرج منها، والخلاف في الكفارة بوطئها (¬1). وقال في المهذب: «ودم النفاس يحرم ما يحرمه الحيض، ويسقط ما يسقطه الحيض؛ لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل، فكان حكمه حكم الحيض» (¬2). وقال في المعونة: «وجميع ما ذكرناه من الظواهر - يعني من أحكام الحيض- وإن كان النص فيها متناولاً للحيض وحده، فإن النفاس ملحق به بالإجماع؛ لأن أحداً لم يفرق بينهما في هذه الأحكام، أو بالقياس، وهو أنه دم خارج من الفرج، لا يكون إلا مع البلوغ» (¬3). وقال ابن رجب: ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض فيما يحرمه ويسقطه، وقد حكى الإجماع غير واحد من العلماء، منهم ابن جرير وغيره (¬4). ¬

(¬1) المغني (1/ 432). (¬2) المجموع (2/ 535). (¬3) المعونة (1/ 187). (¬4) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 187).

الباب الثاني في الأغسال المستحبة

الباب الثاني في الأغسال المستحبة الفصل الأول الغسل للإحرام يسن لمن أراد أن يحرم بالحج أو بالعمرة أن يغتسل لإحرامه، ذكراً كان أو أنثى، صغيراً كان أو كبيراً، حتى الحائض والنفساء، وهذا مذهب الأئمة (¬1). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (4/ 3)، بدائع الصنائع (2/ 143)، شرح فتح القدير (2/ 429 - 430)، البحر الرائق (2/ 344)، الفتاوى الهندية (1/ 222). وفي مذهب المالكية، جاء في المدونة (2/ 360): قلت لابن القاسم: هل يوسِّع مالك في ترك الغسل للرجل أو المرأة إذا أراد الإحرام؟ قال: لا، إلا من ضرورة. قال: وقال مالك: والنفساء تغتسل، والحائض تغتسل إذا أرادت الإحرام، ولا تدع الغسل إلا من ضرورة. اهـ وانظر: مواهب الجليل (3/ 11)، الخرشي (2/ 322)، حاشية الدسوقي (2/ 38). وفي مذهب الشافعية، قال الشافعي في الأم (2/ 145): أستحب الغسل عند الإهلال للرجل والصبي والمرأة والحائض والنفساء وكل من أراد الإهلال اتباعاً للسنة، ومعقول أنه يجب إذا دخل المرء في نسك، لم يكن فيه أن يدخله إلا بأكمل الطهارة، وأن يتنظف له لامتناعه من إحداث الطيب في الإحرام، وإذا اختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة، وهي نفساء، لا يطهرها الغسل للصلاة، فاختار لها الغسل، كان من يطهره الغسل للصلاة أولى أن يختار له، أو في مثل معناه أو أكثر منه، ثم قال رحمه الله: وما تركت الغسل للإهلال، ولقد كنت أغتسل له مريضاً في السفر، وإني أخاف ضرر الماء، وما صحبت أحدا أقتدي به، فرأيته تركه، ولا رأيت منهم =

دليل من قال: الغسل للإحرام مسنون

وقيل: يجب الغسل على النفساء إذا أرادت الإحرام، وعلى المرأة إذا أهلت بعمرة ثم حاضت، ثم أرادت أن تهل بالحج ففرض عليها الغسل أيضاً، وهذا مذهب ابن حزم رحمه الله (¬1). وقيل: يجب الغسل على كل من أراد أن يهل، طاهراً كان أو غير طاهر، قال ابن عبد البر: وبه قال: أهل الظاهر (¬2). دليل من قال: الغسل للإحرام مسنون. الدليل الأول: (1196 - 69) ما رواه البزار، قال: حدثنا الفضل بن يعقوب الجزري، ثنا سهل بن يوسف، ثنا حميد، عن بكر، عن ابن عمر، قال: من السنة أن يغتسل الرجل إذا أراد أن يحرم. قال البزار: لا نعلمه عن ابن عمر من وجه أحسن من هذا (¬3). [رجاله ثقات] (¬4). ¬

= أحداً عدا به أن رآه اختياراً ". اهـ وانظر المجموع (7/ 220)، وفي مذهب الحنابلة: انظر المغني (3/ 119)، الإنصاف (3/ 432)، شرح منتهى الإرادات (1/ 528)، كشاف القناع (2/ 406). (¬1) المحلى (5/ 68) مسألة: 824، ومسألة: 849 وانظر أيضاً المحلى (1/ 274). (¬2) الاستذكار (4/ 5). (¬3) مختصر زوائد مسند البزار (746). (¬4) ورواه الدارقطني (2/ 220) والحاكم في المستدرك (1/ 447) من طريق سهل بن يوسف به، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد مسند البزار: هو إسناد صحيح. اهـ انظر إتحاف =

الدليل الثاني

وقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر من فعله موقوفاً عليه، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: (1197 - 70) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا عبد الله بن يعقوب المدني، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب (¬1). [تفرد به عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه] (¬2). ¬

= المهرة (9371). (¬1) سنن الترمذي (830). (¬2) الحديث أخرجه الترمذي كما في إسناد الباب، والدارمي (1794)، وابن خزيمة (2595) من طريق عبد الله بن يعقوب، وأخرجه الدارقطني (2/ 220) من طريق أبي غزية، وأخرجه البيهقي (5/ 32) من طريق الأسود بن عامر شاذان، ثلاثتهم عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال ابن صاعد: شيخ الدارقطني: هذا حديث غريب، ما سمعناه إلا منه. وقال ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام (3/ 449) بعد أن نقل كلام الإشبيلي بأنه حديث حسن غريب، قال: كذا قال، ولم يبين لم لا يصح، وذلك أن الترمذي ساقه هكذا: حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا عبد الله بن يعقوب المدني، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجه بن زيد، عن أبيه، فذكره، فالذي لأجله حسنه الترمذي، هو الاختلاف على =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1198 - 70) ما رواه الطبراني من طريق عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: نا خالد ابن إلياس، عن صالح بن أبي حسان، عن عبد الملك بن مروان، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج إلى مكة اغتسل حين يريد أن يحرم. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبد الملك بن مروان إلا صالح بن أبي حسان، ولا عن صالح إلا خالد بن إلياس، تفرد به عبيد الله بن عبد المجيد (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

= عبد الرحمن بن أبي الزناد، ولعله عرف عبد الله بن يعقوب، وما أدري كيف ذلك، ولا أراني تلزمني حجته، فإني أجهدت نفسي في تَعرُّفه، فلم أجد أحداً ذكره. اهـ قلت: قد توبع عبد الله بن يعقوب المدني، ولكن انفراد عبد الرحمن بن أبي الزناد بهذا الحديث عن أبيه يوجب في النفس شكاً من صحته، فأين أصحاب أبي الزناد عن هذا الحديث، وإن كان ما رواه المدنيون عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أحسن حالاً مما رواه البغداديون، قال علي بن المديني: ما حدث بالمدينة، فهو صحيح، وما حدث ببغداد، أفسده البغداديون. تهذيب التهذيب (6/ 171)، وقد روى عنه هذا الحديث مدني، فليتأمل. إتحاف المهرة (4759)، التحفة (3710). (¬1) المعجم الأوسط (4889). (¬2) في إسناده خالد بن إلياس، جاء في ترجمته: قال البخاري: ليس بشيء، منكر الحديث. الضعفاء الكبير للعقيلي (2/ 3). وقال النسائي: مدني، متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (172). =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1199 - 72) ما رواه الحاكم في المستدرك من طريق يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لبس ثيابه، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين، ثم قعد على بعيره، فلما استوى على البيداء أحرم بالحج (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= وقال أحمد: متروك الحديث. تهذيب التهذيب (3/ 70). وقال ابن عبد البر: ضعيف عند جميعهم. المرجع السابق. وفي التقريب: متروك الحديث. وصالح بن أبي حسان، قال فيه البخاري فيما نقل الترمذي عنه: ثقة. انظر تهذيب التهذيب (4/ 337). وقال النسائي: مجهول. المرجع السابق. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. المرجع السابق. وفي التقريب: صدوق. وذكر الحافظ هذا الحديث في الدراية، وقال: حديث ضعيف جداً. اهـ قلت: فلا يصلح هذا الحديث للاعتبار، والله أعلم. (¬1) المستدرك (1/ 447)، ومن طريق يعقوب بن عطاء أخرجه الدارقطني (2/ 219 - 220). انظر إتحاف المهرة (8171). (¬2) في إسناده يعقوب بن عطاء، وهو ضعيف الحديث، قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: ضعيف الحديث، وسمعته مرة يقول: أحاديثه أحاديث مناكير. الضعفاء الكبير (4/ 445). وقال يحيى بن معين: ليس بذاك، وقال أيضاً: ضعيف. المرجع السابق. وقال أبو زرعة والنسائي: ضعيف. تهذيب التهذيب (11/ 344). =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: أصح ما ورد في الاغتسال للإحرام، كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر به أسماء بنت عميس، وهي نفساء، وأمر به عائشة، وهي حائض، واغتسال مثلهما لم يكن لرفع حدث، وإنما قصد به النظافة، فغيرهما ممن يصلي مع المسلمين أولى بالأمر بالغسل، والله أعلم. (1200 - 73) فقد روى مسلم من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه في صفة حج الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي .. الحديث (¬1). وقوله: «استثفري» دليل على أن الدم ما زال ينزل منها. (1201 - 74) وروى مسلم من طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أنه قال في حديث طويل وفيه: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها، فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج ... الحديث (¬2). ¬

= وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن يعقوب بن عطاء ممن جمع أئمة الإسلام حديثه، ولم يخرجاه. اهـ (¬1) صحيح مسلم (1218). (¬2) صحيح مسلم (1213).

الدليل السادس

الدليل السادس: الإجماع، فقد حكى الإجماع بعض أهل العلم على استحباب الغسل للإحرام. قال النووي: اتفق العلماء على أنه يستحب الغسل عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة أو بهما (¬1). (1202 - 75) ومن الآثار: ما رواه مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة (¬2). [إسناده في غاية الصحة]. دليل ابن حزم على وجوب الغسل على النفساء وعلى الحائض إذا خشيت فوات الحج. (1203 - 76) ما رواه مسلم من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه في صفة حج الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي .. الحديث (¬3). وقوله: «اغتسلي» أمر، والأصل في الأمر الوجوب إلا لصارف، ولا صارف هنا. (1204 - 77) وروى مسلم من طريق الليث، عن أبي الزبير، ¬

(¬1) المجموع (7/ 220)، (¬2) الموطأ (1/ 322). (¬3) صحيح مسلم (1218).

عن جابر رضي الله عنه أنه قال في حديث طويل وفيه: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك، قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: كالاستدلال بالحديث الذي قبله حيث أمرها بالغسل، والأصل في الأمر الوجوب. ويجاب: هذا الحكم يتمشى مع ظاهرية ابن حزم رحمه الله، لكن أهل القياس يعلمون أن الأمر هنا ليس للوجوب، وذلك إذا كان الغسل في حق المرأة الطاهرة وكذلك في حق الرجل ليس واجباً بالإجماع، فكيف يكون واجباً في حق المرأة النفساء والحائض، خاصة أن الغسل لن يمكنها من الطواف، ولن يمنع نزول الدم، والله أعلم. قال ابن المنذر في الأشراف: أجمع عوام أهل العلم على أن الإحرام بغير غسل جائز, قال: وأجمعوا على أن الغسل للإحرام ليس بواجب إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال: إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكره (¬2). قلت: هذه العبارة من الحسن البصري لا تدل على وجوب الغسل، لأن ¬

(¬1) صحيح مسلم (1213). (¬2) المجموع (7/ 220).

دليل من قال: الغسل للإحرام واجب

الغسل المراد به التنظيف، فإذا نسيه فقد تركه لعذر، فيقضيه، كما تقضى السنن الرواتب إذا تركها المرء لعذر، والله أعلم. دليل من قال: الغسل للإحرام واجب. ربما استدل بأمره صلى الله عليه وسلم للفنساء والحائض بالغسل، فإذا أمرن به، فالأصل في الأمر الوجوب، وإذا كان واجباً في حق النفساء والحائض كان واجباً في حق الطاهر من باب أولى. والراجح: القول بالاستحباب، فإنه أقوى دليلاً، وقد علمت المناقشة الواردة على أدلة من قال بالوجوب.

الفصل الثاني الاغتسال لدخول مكة

الفصل الثاني الاغتسال لدخول مكة من الأغسال المسنونة الغسل عند دخول الحرم، وقبل الطواف، وهو مذهب الأئمة. وهل الغسل لدخول الحرم، أو من أجل الطواف بحيث لا يشرع الغسل للحائض والنفساء، قولان. فقيل: لدخول الحرم، فيشرع الغسل للجميع حتى الحائض والنفساء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: بل من أجل الطواف، فلا يشرع الغسل للحائض والنفساء، وهو مذهب المالكية (¬4)، ورجحه ابن تيمية رحمه الله (¬5). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (2/ 14)، البحر الرائق (2/ 350 - 351) الفتاوى الهندية (1/ 224)، حاشية ابن عابدين (2/ 492). (¬2) قال النووي في المجموع (8/ 6): " وهو مستحب لكل محرم حتى الحائض والنفساء والصبي ". الخ كلامه رحمه الله، وانظر تحفة المحتاج (4/ 56)، (¬3) كشاف القناع (2/ 476)، الفروع (1/ 203)، المحرر (1/ 20)، شرح منتهى الإرادات (1/ 84)، الإنصاف (1/ 250). (¬4) وانظر في مذهب المالكية: المنتقى للباجي (2/ 192)، مواهب الجليل (3/ 103 - 104)، الخرشي (2/ 322 - 323)، الفواكه الدواني (1/ 355)، (¬5) الفروع (1/ 203)، الإنصاف (1/ 250).

الدليل على مشروعية الغسل لدخول مكة. (1205 - 78) ما رواه البخاري، قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا، أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك (¬1). (1206 - 79) وفي رواية لمسلم: أن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح، ويغتسل، ثم يدخل مكة نهاراً، ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله (¬2). والذي يظهر أن الغسل كان للطواف، ولو كان الغسل لدخول الحرم لكان الغسل مشروعاً قبيل دخول الحرم، أو بعد دخوله مباشرة، أما كونه يغتسل بعد دخول الحرم، والمبيت بذي طوى، فيكون الغسل ظاهراً أنه من أجل الطواف، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر النفساء والحائض بالغسل عند دخول الحرم، كما أمر أسماء بنت عميس بالغسل عند الإحرام، ولو أمرهن لنقل وحفظ؛ لأنه من شريعة الله التي تعهد الله بحفظها، فلما لم ينقل علم أنه غير مشروع، والله أعلم. ثم القياس على الجمعة، فكما أن الغسل مشروع يوم الجمعة للصلاة من أجل اجتماع الناس، فكذلك الغسل مشروع للطواف من أجل ازدحام الطائفين، لئلا يتأذى الناس والملائكة بسبب الروائح المنبعثة، والله أعلم. ¬

(¬1) البخاري (1573). (¬2) مسلم (1259).

الفصل الثالث الغسل من زوال العقل

الفصل الثالث الغسل من زوال العقل إذا أفاق المجنون أو المغمى عليه، فيشرع في حقه الغسل، ولا يجب عليه، نص عليه كثير من العلماء (¬1). وقيل: يجب الغسل، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2)، وحكاه الرافعي من الشافعية وجهاً (¬3). ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (2/ 26): قال أصحابنا: ويستحب للمغمى عليه الغسل إذا أفاق، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن المنذر وابن الصباغ وغيرهما: أجمع العلماء على أن الغسل لا يجب عليه. اهـ وانظر طرح التثريب (8/ 190)، الأشباه والنظائر (ص: 213)، تحفة المحتاج (2/ 467) روضة الطالبين (2/ 44)، والإنصاف (1/ 248)، كشاف القناع (1/ 150)، الفروع (1/ 203) مطالب أولي النهى (1/ 176، 177). في المدونة (1/ 12): قيل لمالك: فالمجنون أعليه الغسل إذا أفاق؟ قال: لا، ولكن عليه الوضوء. اهـ فهل نفي مالك للغسل يقصد به نفي الوجوب، أو يقصد به نفي المشروعية، محتمل، والذي يظهر أنه نفي للمشروعية، ولذلك قال القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم، عند الكلام على غسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أغمي عليه في مرض موته، قال (2/ 319) المراد هنا بالغسل الوضوء. اهـ قلت: وهو خلاف ظاهر اللفظ، فهذا دليل على أن المالكية لا يرون الغسل مشروعاً للمغمى عليه والمجنون، والله أعلم. (¬2) الفروع (1/ 203). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 26): "حكى الرافعي وجهاً ضعيفاً شاذاً، أنه يجب الغسل من الجنون مطلقاً, ووجهاً أشذ منه أنه يجب من الإغماء أيضا. ذكره في باب الغسل, والله أعلم.

دليل من قال بأن الغسل سنة

وقيل: لا يشرع الغسل، وهو مذهب مالك، وحمل بعضهم غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته حين أغمي عليه، ليقوى على الخروج، وهو اختيار ابن حزم (¬1). دليل من قال بأن الغسل سنة. (1207 - 80) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال حدثنا زائدة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة، فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت: بلى، ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك. قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماء في المخضب، فقعد، فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس ... الحديث (¬2). ¬

(¬1) المحلى (1/ 222) مسألة: 157. (¬2) البخاري (687)، ومسلم (418).

دليل من قال: لا يشرع الغسل

قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا، فاغتسل» دليل الاستحباب بالغسل من الإغماء، وإذا تكرر الإغماء استحب تكرار الغسل لكل مرة، فإن لم يغتسل إلا بعد الإغماء مرات كفى غسل واحد، وقد حمل القاضي عياض الغسل هنا على الوضوء، ولكن الصواب أن المراد غسل جميع البدن، فإنه ظاهر اللفظ، ولا مانع يمنع منه، فإن الغسل مستحب من الإغماء، بل قال بعض أصحابنا: إنه واجب، وهذا شاذ، ضعيف (¬1). وإذا كان هذا الغسل في حق المغمى عليه، فالمجنون من باب أولى؛ لأنه أشد. دليل من قال: لا يشرع الغسل. ذكر إن حديث عائشة السابق ليس فيه دليل على أن الغسل كان بسبب الإغماء، وإنما الغسل كان من أجل الحاجة لكي يتقوى للخروج إلى الصلاة بالمسلمين؛ لأنه لم يطلب الماء للغسل إلا حين قيل له: الناس عكوف في المسجد، ينتظرونك للصلاة، فلو كانت الصلاة في بيته لم يغتسل من أجل الإغماء، وفرق بين الغسل من أجل النشاط والقوة، وبين الغسل من أجل الإغماء. وهذا أجود من حمل القاضي عياض، بأن المراد بالغسل الوضوء؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ. ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم (4/ 136)، وقال أيضاً: فيه دليل على جواز الإغماء على الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، ولا شك في جوازه؛ فإنه مرض، والمرض يجوز عليهم بخلاف الجنون، فإنه لا يجوز عليهم؛ لأنه نقص، والحكمة في جواز المرض عليهم ومصائب الدنيا تكثير أجرهم، وتسلية الناس بهم؛ لئلا يفتتن الناس بهم، ويعبدوهم .. الخ كلامه رحمه لله.

دليل من قال: الغسل واجب

دليل من قال: الغسل واجب. قال إن الجنون سبب في نزول المني غالباً، ويلحق به المغمى عليه، فما كان مظنة للحدث نزل منزلة الحدث كالنوم. ويجاب: بأن الريح من النائم ليس لها أمارة يعرف بها خروج الحدث، فنزل النوم منزلة الحدث، بخلاف نزول المني فإن له أمارة وأثراً على البدن والثوب، ولذلك لا يجب الغسل من النوم مع أن فيه زوال العقل؛ لأن موجب الغسل له أمارة تدل عليه، بخلاف نقض الوضوء بالريح، والله أعلم. الراجح والله أعلم، أن المغمى عليه إذا هم بفعل الصلاة، فوجد ثقلاً في بدنه، فإنه يستحب له الغسل ليصلي بقوة ونشاط، فإن كان لا يريد الصلاة، فلا يستحب له الغسل، والله أعلم.

الفصل الرابع الغسل للعيدين

الفصل الرابع الغسل للعيدين اختلف العلماء في غسل العيدين، فقيل: يشرع الغسل للعيدين، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يشرع الغسل (¬5). دليل مشروعية الغسل للعيدين. الدليل الأول: (1208 - 81) ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني من لا أتهم، ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 65)، المبسوط (1/ 102)، بدائع الصنائع (1/ 35)، تبيين الحقائق (1/ 18)، البحر الرائق (1/ 66)، الفتاوى الهندية (1/ 16). (¬2) المنتقى للباجي (1/ 316)، مواهب الجليل (2/ 193)، الفواكه الدواني (1/ 274)، التمهيد (11/ 213)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 77)، حاشية الصاوي (1/ 527). (¬3) الأم (1/ 197) المجموع (2/ 233)، فتاوى الرملي (1/ 60)، روضة الطالبين (2/ 75) حلية العلماء (2/ 254). (¬4) المغني (2/ 112)، الفروع (1/ 202)، الإنصاف (1/ 247)، شرح منتهى الإرادات (1/ 325)، كشاف القناع (1/ 150). (¬5) جاء في المنتقى (1/ 316): " قال مالك: ولا أوجب غسل العيد كغسل يوم الجمعة، وجه ذلك: الاتفاق على غسل الجمعة، والاختلاف في غسل العيدين ". فأثبت الخلاف في مشروعيته، وهو إثبات للقول بعدم المشروعية، وهو واضح.

عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنهم سمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم جمعة من الجمع، وهو على المنبر يقول: يا معشر المسلمين، إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين، فاغتسلوا فيه من الماء، ومن كان عنده طيب أن يمس منه، وعليكم بهذا السواك (¬1). [إسناده ضعيف لإبهام الواسطة بين الزهري وبين الصحابي] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (5301). (¬2) الحديث اختلف فيه على الزهري اختلافاً كثيراً، فرواه معمر كما في إسناد الباب، عن الزهري، عن من لا أتهم، عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه مالك، عن الزهري، واختلف عليه فيه: فرواه يحيى كما في الموطأ (1/ 65) عن مالك، عن الزهري، عن ابن السباق، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع .... فذكر الحديث. وكذا رواه الشافعي في مسنده (ص: 63) عن مالك به. وهذا مرسل. قال ابن عبد البر كما في التمهيد (11/ 210): هكذا رواه جماعة من رواة الموطأ، عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن السباق مرسلاً، كما روي، ولا أعلم فيه بين رواة الموطأ اختلافاً. اهـ ورواه يزيد بن سعيد الصباحي، واضطرب فيه، فقال مرة، عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة. وقال مرة: عن مالك، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. وقال أخرى: عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري. وإليك بيانها: فقد رواه الطبراني في الأوسط (3433)، وفي الصغير (358) حدثنا الحسن بن مطرح الخولاني المصري، نا يزيد بن سعيد الصباحي، نا مالك بن أنس، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، =

وجه الاستدلال: قوله: «جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا فيه» فعلل الأمر بالاغتسال يوم الجمعة لكونه عيداً، فكذلك كل عيد للمسلمين يكون مشروعاً الاغتسال فيه، والله أعلم. ¬

_ = عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع ... وذكر الحديث. قال الطبراني: لم يروه عن مالك إلا يزيد بن سعيد، ومعن بن عيسى. اهـ قال ابن عبد البر في التمهيد (11/ 210): رواه يزيد بن سعيد الصباح، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، ولم يتابعه أحد من الرواة على ذلك، ويزيد بن سعيد هذا من أهل الإسكندرية ضعيف. اهـ ثم ساقه بإسناده من طريق الحسن بن أحمد بن سليمان أبو علي البصري، عن يزيد بن سعيد الصباحي، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جمعة من الجمع: يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيداً .... وساقه بنفس اللفظ. قال أبو عمر: لم يتابعه أحد على الإسنادين جميعاً في هذين الحديثين. ثم ساقه ابن عبد البر بإسناده من طريقين، عن يزيد ين سعيد الصباحي، عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، فأسقط من إسناده: والد سعيد المقبري. قال ابن عبد البر: وهذا اضطراب عن يزيد بن سعيد، ولا يصح شيء من روايته في هذا الباب. وقال ابن أبي حاتم في العلل (591): وهم يزيد بن سعيد في إسناد هذا الحديث، إنما يرويه مالك بإسناد مرسل. اهـ وقال ابن عبد البر في التمهيد (11/ 220): ورواه حجاج بن سليمان الرعيني، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة وحميد ابني عبد الرحمن بن عوف، وعن أحدهما عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في يوم جمعة: جعله الله عيداً، فاغتسلوا، وعليكم بالسواك. قال ابن عبد البر: ولا يصح فيه عن مالك إلا ما في الموطأ. يعني: مرسل.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1209 - 82) ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، قال: قال حدثني نصر بن علي، قال: حدثنا يوسف بن خالد، قال حدثنا أبو جعفر الخطمي، عن عبد الرحمن بن عقبة بن الفاكه، عن جده الفاكه بن سعد، وكانت له صحبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر قال: وكان الفاكه ابن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام (¬1). [موضوع] (¬2). ¬

(¬1) المسند (4/ 78). (¬2) في إسناده: يوسف بن خالد السمتي، جاء في ترجمته: قال يحيى بن معين: كذاب خبيث عدو لله، رجل سوء، رأيته بالبصرة ما لا أحصي لا يحدث عنه أحد فيه خير. الجرح والتعديل (9/ 221). وقال يحيى أيضاً: كذاب زنديق لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبى، وسألته عن يوسف بن خالد السمتي فقال: أنكرت قول يحيى بن معين فيه: إنه زنديق، حتى حُمِل إليَّ كتاب قد وضعه في التجهم باباً باباً، ينكر الميزان في القيامة، فعلمت أن يحيى بن معين كان لا يتكلم إلا على بصيرة وفهم. قلت: ما حاله؟ قال: ذاهب الحديث. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث، ضعيف الحديث، اضرب على حديثه، كان يحيى بن معين يقول: كان يكذب. المرجع السابق. وفي إسناده عبد الرحمن بن عقبة بن الفاكه، لم يرو عنه إلا أبو جعفر الخطمي، ولم يوثقه أحد، ولذا قال عنه الحافظ في التقريب: مجهول. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه عبد الله بن أحمد كما في إسناد الباب، وأخرجه ابن ماجه (1316)، =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1210 - 83) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا جبارة بن المغلس، حدثنا حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

= والطبراني في الكبير (18/) رقم 828، والدولابي في الكنى (1/ 85)، وابن قانع في معجمه (2/ 336) من طريق يوسف بن خالد به. وانظر أطراف المسند مما استدركه المحقق على ابن حجر (5/ 178)، تحفة الأشراف (11020). (¬1) سنن ابن ماجه (1315). وانظر تحفة الأشراف (5/ 254). (¬2) الحديث أخرجه أيضاً ابن عدي في الكامل (2/ 229)، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 278) أخبرنا أبو يعلى، ثنا جبارة به. قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 156): هذا إسناد ضعيف؛ لضعف جبارة، وكذلك حجاج، ومع ضعفه، قال فيه إذنه: روى عن ميمون بن مهران أحاديث لا يتابع عليها .. ". قلت: قال يحيى بن معين: جبارة بن المغلس كذاب. الجرح والتعديل (2/ 550). قال ابن أبي حاتم: كان أبو زرعة حدث عنه في أول أمره وكناه، قال: حدثنا أبو محمد الحماني، ثم ترك حديثه بعد ذلك، فلم يقرأ علينا حديثه. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سمعت أبا زرعة ذكر جبارة بن المغلس فقال: قال لي ابن نمير: ما هو عندي ممن يكذب. قلت: كتبت عنه؟ قال: نعم. قلت: تحدث عنه؟ قال: لا. قلت: ما حاله؟ قال: كان يوضع له الحديث فيحدث به، وما كان عندي ممن يتعمد الكذب. وقال أبو حاتم الرازي: هو على يدي عدل، مثل القاسم بن أبى شيبة. الجرح والتعديل (2/ 550). وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (2/ 50). وقيل فيه غير ذلك.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1211 - 84) ما رواه الطبراني من طريق نصر بن حماد، قال: نا أيوب ابن خوط، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صام رمضان، وغدا بغسل إلى المصلى، وختمه بصدقة، رجع مغفوراً له (¬1). قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا أيوب بن خوط، تفرد به نصر بن حماد. [ضعيف جداً] (¬2). ¬

(¬1) الطبراني في الأوسط (5784). (¬2) في إسناده أيوب بن خوط، جاء في ترجمته: قال البخاري: تركه ابن المبارك. التاريخ الكبير (1/ 414). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (26). وقال الدارقطني: متروك. تهذيب التهذيب (1/ 352). وقال عمرو بن علي: كان أمياً لا يكتب، وهو متروك الحديث، ولم يكن من أهل الكذب، كان كثير الغلط والوهم. المرجع السابق. وقال الآجري عن أبي داود: ليس بشيء. المرجع السابق. وفي التقريب: متروك. قلت: وهذا الحديث دليل على غلطه ووهمه، فأين أصحاب قتادة عن هذا الحديث. وفي إسناده نصر بن حماد، قال فيه أبو حاتم الرازي: متروك الحديث. الجرح التعديل (8/ 470). وقال أبو زرعة: لا يكتب حديثه. المرجع السابق. وقال ابن حبان: كان من الحفاظ، ولكنه كان يخطئ كثيراً، ويهم في الأسانيد حتى يأتي بالأشياء كأنها مقلوبة، فلما كثر ذلك منه بطل الاحتجاج به إذا انفرد. المجروحين (3/ 54).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1212 - 85) ما رواه البزار، قال: حدثنا محمد بن معمر، ثنا عبد العزيز، ثنا مندل، عن محمد بن عبيد الله، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل للعيدين (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬

(¬1) كشف الأستار (648). (¬2) في إسناده مندل، جاء في ترجمته: قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل: سألت أبى عن مندل بن على، فقال: ضعيف الحديث. قلت له: حبان أخوه؟ قال: لا، هو أصلح منه ـ يعنى: مندل أصلح من أخيه. وقال مرة: ما أقربهما. الجرح والتعديل (8/ 431). وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: مندل بن على ليس بشيء. المرجع السابق. وقال عثمان بن سعيد: سألت يحيى بن معين عن مندل بن على؟ فقال: ليس به بأس. المرجع السابق. وفي موضع آخر: سئل يحيى عن مندل وحبان، فقال: ضعيفان في الحديث. الكامل (6/ 455) وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبى يقول: سألت يحيى بن معين، عن مندل وحبان، أيهما أحب إليك؟ قال: ما بهما بأس. قال عبد الرحمن: سمعت أبى يقول كذا أقول، وكان البخاري أدخل مندلاً في كتاب الضعفاء، فقال أبى: يحول من هناك. الجرح والتعديل (8/ 431). وقال ابن نمير: حبان وأخوه مندل أحاديثهما فيها بعض الغلط. المرجع السابق. وسئل أبو زرعة عن مندل، فقال: لين. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. المرجع السابق وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (578). وقال ابن سعد: فيه ضعف، ومنهم من يشتهي حديثه ويوثقه، وكان خيراً فاضلاً من أهل السنة. الطبقات الكبرى (6/ 381). وقال ابن عدي: لمندل غير ما ذكرت، وله أحاديث أفراد وغرائب، وهو ممن يكتب =

الدليل السادس

الدليل السادس: (1213 - 86) ما رواه مالك في الموطأ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى (¬1). [إسناده في غاية الصحة، وهو موقوف على ابن عمر]. الدليل السابع: (1214 - 87) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا ابن علية، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن زاذان، قال: سأل رجل علياً رضي الله عنه عن الغسل؟ فقال: اغتسل كل يوم إن شئت، فقال: الغسل الذي هو الغسل؟ قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر (¬2). [إسناده صحيح]. ¬

= حديثه. الكامل (6/ 455). وفي التقريب: ضعيف. قال الهيثمي في المجمع (2/ 198): رواه البزار، ومندل فيه كلام، ومحمد هذا ومن فوقه لا أعرفهم. اهـ قلت: عرفه ابن رجب كما في فتح الباري (6/ 71) وهو محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، وهو ضعيف جداً، واهي الحديث. (¬1) الموطأ (1/ 177). (¬2) مسند الشافعي (ص: 385)، ورواه الشافعي في الأم (7/ 163). ورواه ابن أبي شيبة (1/ 500) رقم: 5771، عن وكيع، عن شعبة به، وذكر فقط غسل الأضحى والفطر. ووراه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 119) من طريق يعقوب بن إسحاق، ثنا شعبة به. انظر إتحاف المهرة (14251).

الدليل الثامن

فينبغي أن يكون الاستدلال على مشروعية الاغتسال في يوم العيد على فعل ابن عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ لأن فعل الصحابي حجة فيما لم يُخَالَف فيه، ولم يُخَالِف نصاً صريحاً مرفوعاً. الدليل الثامن: القياس على غسل الجمعة، بجامع أن كلاً منهما عيد للمسلمين، ويجتمع فيه الناس، فيستحب فيه أن يكون المسلم في كامل زينته، ومنها الاغتسال والطيب وغيرهما. دليل من قال: غسل العيدين ليس مشروعاً. هذا القول رأى أن العبادات توقيفية، ولا يتعبد الله سبحانه وتعالى إلا بما شرع لهم، ولا يوجد دليل صحيح مرفوع يأمر بالغسل يوم العيد، {وما كان ربك نسياً}. وقد قال البزار: لا أحفظ في الاغتسال في العيدين حديثاً صحيحاً (¬1). ويجاب عنه: كونه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث مرفوع، فهذا مسلم، ولكن قد فعله السلف، ومنهم علي بن أبي طالب، وهو خليفة راشد، وله سنة متبعة، كما فعله ابن عمر، وهو من أحرص الناس على السنة، فكل هذا يدل على أن استحباب الغسل للعيدين له أصل، والله أعلم. الراجح من الخلاف: استحباب الغسل يوم العيد يتنازعه عندي معنيان، ¬

(¬1) تلخيص الحبير (2/ 81).

فعدم ثبوت اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم للعيد، وعدم ثبوت الأمر به من لدن النبي صلى الله عليه وسلم، والعيد يتكرر في عهده صلى الله عليه وسلم، ولو فعله أو أمر به، لنقل إلينا برواية الثقات العدول، فلما لم ينقل ذلك علم أن هذا الأمر ليس مشروعاً، وكان ذلك بمثابة نقل عدم الفعل منه صلى الله عليه وسلم. وينازع ذلك أن الغسل قد ثبت عن علي بن أبي طالب، وعن ابن عمر رضي الله عنهم، خاصة أن ما ورد عن علي بن أبي طالب كان قولياً، وهو أبلغ من الفعل، وهو إمام راشد، له سنة متبعة، والمعنى الذي من أجله شرع الغسل يوم الجمعة، وهو اجتماع الناس موجود في العيد، بل هو في العيد أكبر اجتماعاً من الجمعة، ومطلوب في العيد أن يكون الإنسان على هيئة حسنة، ومنها الاغتسال، فيكون الغسل لهذا المعنى مستحباً، وهذا ما أميل إليه، والله أعلم.

المبحث الأول في وقت الاغتسال للعيد

المبحث الأول في وقت الاغتسال للعيد بحثنا في المسألة السابقة استحباب الاغتسال للعيدين، واختلفوا في وقت الاغتسال، فقيل: وقته بعد صلاة الفجر، فإن فعله قبل طلوع الصبح لم يصب سنة الاغتسال، نص عليه خليل في مختصره (¬1)، وهو مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجوز فعله قبل الفجر، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والمنصوص عن أحمد (¬5)، إلا أنهم اختلفوا في أي جزء من الليل يصح فعله، ¬

(¬1) انظر مختصر خليل (ص: 49)، وانظر مواهب الجليل (1/ 193)، (¬2) مطالب أولي النهى (1/ 176)، كشاف القناع (1/ 150)، شرح منتهى الإرادات (1/ 325). (¬3) قال الباجي في المنتقى (1/ 316): ويستحب أن يكون غسله متصلا بغدوه إلى المصلى، قال ابن حبيب: أفضل أوقات الغسل للعيد بعد صلاة الصبح، قال مالك في المختصر: فإن اغتسل للعيدين قبل الفجر فواسع، ووجه ذلك ما ذكرناه من أن من سنته الاتصال بالغدو إليها فلذلك استحب أن يكون بعد صلاة الصبح، فإن قدمه قبل الفجر فواسع؛ لقرب ذلك؛ ولأن الغسل لا تذهب آثاره قبل الغدو ولا تتغير نظافته. اهـ (¬4) المجموع (5/ 11)، ومغني المحتاج (1/ 312)، حواشي الشرواني (3/ 47)، المهذب (1/ 119). (¬5) قال ابن عقيل: والمنصوص عن أحمد أنه قبل الفجر وبعده؛ لأن زمن العيد أضيق من وقت الجمعة، فلو وقف على الفجر ربما فات، ولأن المقصود منه التنظيف، وذلك يحصل بالغسل بالليل لقربه من الصلاة. انظر المغني لابن قدامة (2/ 113).

دليل من قال: يجوز بساعة من الليل

فقيل: في يصح الغسل في أي جزء من الليل، وهو أحد الوجوه في مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يختص في النصف الثاني من الليل، وهو وجه في مذهب الشافعية أيضاً (¬2). وقيل: يصح فعله عند السحر، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، ووجه ثالث في مذهب الشافعية (¬4). دليل من قال: يجوز بساعة من الليل. قال: لأن وقت الاغتسال ضيق، والناس يقدمون إلى الصلاة من مكان بعيد، فلو اشتغلوا بالاغتسال بعد صلاة الفجر ربما فاتتهم الصلاة. دليل من قال: الغسل بعد طلوع الصبح. قال: إن اليوم يبدأ من طلوع الصبح كما في الصيام، فإذا اغتسل قبل دخول وقته لم يصب السنة، شأنه شأن العبادات المؤقتة بوقت، لا تصح قبل أو بعد وقتها. والحق أن اليوم إذا أطلق دخل فيه الليل والنهار، ويدخل من غروب الشمس إلى غروبها من الغد، وقد ذكرنا دليل ذلك في غسل الجمعة. ¬

(¬1) حلية العلماء (2/ 254)، روضة الطالبين (2/ 75)، مغني المحتاج (1/ 312)، حواشي الشرواني (3/ 47)، المهذب (1/ 119). (¬2) انظر المراجع السابقة. (¬3) نصت بعض كتب المالكية على أن وقته يدخل بأول السدس الأخير من الليل، انظر منح الجليل (1/ 463)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 527). (¬4) حلية العلماء (2/ 254)، روضة الطالبين (2/ 75)، المجموع (5/ 11)، ومغني المحتاج (1/ 312)، حواشي الشرواني (3/ 47)، المهذب (1/ 119).

المبحث الثاني هل اغتسال العيد لليوم أو للصلاة

المبحث الثاني هل اغتسال العيد لليوم أو للصلاة كما اختلف العلماء هل اغتسال العيد من أجل الصلاة، فيفوت وقته بفواتها، أو من أجل اليوم، فيغتسل ولو بعد الصلاة، ولو لم يحضر الصلاة مع المسلمين. فقيل: إنه لليوم؛ لأنه يوم زينة وفرح واجتماع، فلا يفوت فعله بفوات الصلاة، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: إن الاغتسال للصلاة، فيفوت بفوات الصلاة، وهو مذهب الحنابلة (¬3). لأن الصلاة هي الاجتماع الكبير في ذلك اليوم، فشرع لإذهاب الروائح الكريهة، وحتى لا يتأذى الناس بعضهم من بعض. ولا شك أن من فعله للصلاة فقد أحسن، ولكن لو لم يفعله للصلاة، هل يقال: خرج وقته، ولا تفعله لليوم، مع أن في هذا اليوم يشرع اتخاذ الزينة من لبس الثياب الحسنة، والتطيب وغير ذلك؟ مع أن هناك اجتماعاً آخر وإن كان أصغر من اجتماع الصلاة، وذلك أن الأقارب يجتمعون في ذلك اليوم بعد الصلاة، يصل بعضهم بعضاً، فمن هذا المعنى يكون مذهب الحنابلة قولاً مرجوحاً، والله أعلم. ¬

(¬1) الفواكه الدواني (2/ 266)، حاشية الدسوقي (1/ 398)، منح الجليل (1/ 463)، الخرشي (2/ 101)، مواهب الجليل (2/ 194). (¬2) مغني المحتاج (1/ 312)، حواشي الشرواني (3/ 47)، المهذب (1/ 119). (¬3) مطالب أولي النهى (1/ 176)، كشاف القناع (1/ 150)، شرح منتهى الإرادات (1/ 325).

الفصل الخامس الغسل يوم عرفة

الفصل الخامس الغسل يوم عرفة استحب الفقهاء الغسل يوم عرفة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يستحب الغسل ليوم عرفة، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله (¬5). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 35)، تبيين الحقائق (1/ 18)، شرح فتح القدير (1/ 65)، البحر الرائق (1/ 66)، الفتاوى الهندية (1/ 16). (¬2) كفاية الطالب (1/ 676)، شرح الزرقاني (2/ 474)، مواهب الجليل (3/ 104)، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (ص: 371). (¬3) انظر الأم (2/ 146)، المجموع (2/ 234)، مغني المحتاج (1/ 479)، إعانة الطالبين (2/ 308). (¬4) الفروع (1/ 203)، كشاف القناع (1/ 151)، مطالب أولي النهى (1/ 177). (¬5) قال في كتاب الإنصاف (1/ 250): واختار الشيخ تقي الدين: عدم استحباب الغسل للوقوف بعرفة .... هكذا جاء في كتاب الإنصاف، والموجود في كتاب مجموع الفتاوى (26/ 132): والاغتسال لعرفة قد روي فيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن ابن عمر وغيره، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: غسل الإحرام، والغسل عند دخول مكة، والغسل يوم عرفة، وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار، وللطواف والمبيت بمزدلفة فلا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، ولا استحبه جمهور الأئمة: لا مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد، وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه .... الخ كلامه رحمه الله. فهذا الكلام يشعر بأن ابن تيمية يرى استحباب الغسل لعرفة، وأنه منسوب إلى الصحابة رضوان الله عليهم، وأن البدعة هي في الاغتسال لغير عرفة: كرمي الجمار والمبيت =

دليل من قال: يستحب الغسل

دليل من قال: يستحب الغسل. الدليل الأول: (1215 - 88) ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، قال: قال حدثني نصر بن علي، قال: حدثنا يوسف بن خالد، قال حدثنا أبو جعفر الخطمي، عن عبد الرحمن بن عقبة بن الفاكه، عن جده الفاكه بن سعد وكانت له صحبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر قال: وكان الفاكه ابن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام (¬1). [موضوع] (¬2). الدليل الثاني: (1216 - 89) ما رواه مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة (¬3). ¬

= بمزدلفة، والله أعلم. كما أن ابن مفلح رحمه الله، وهو من تلاميذ ابن تيمية رحمه الله، ذكر في الفروع (1/ 203): غسل عرفة وطواف زيارة ووداع ومبيت بمزدلفة ورمي جمار، ثم قال: "وخالف شيخنا - يعني ابن تيمية - في الثلاثة " يعني في الأخيرة منها: وهي الاغتسال لرمي الجمار والمبيت والطواف. وهذا يعني أنه يرى مشروعيته لعرفة، والله أعلم. (¬1) المسند (4/ 78). (¬2) سبق تخريجه في مسألة (الاغتسال للعيد). (¬3) الموطأ (1/ 322).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1217 - 90) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا ابن علية، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن زاذان، قال: سأل رجل علياً رضي الله عنه عن الغسل؟ فقال: اغتسل كل يوم إن شئت، فقال: الغسل الذي هو الغسل؟ قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر (¬1). [إسناده صحيح]. دليل من قال: لا يستحب الغسل. إذا ثبت هذا القول، فإنه يمكن أن يستدل له، بأن النسك قد تولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانه للأمة، منادياً: «خذوا عني مناسككم» ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اغتسل لعرفة، ولو اغتسل لحفظه الصحابة رضوان الله عليهم، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء مع إمكان فعله تشريع للأمة كفعله الشيء، فالترك والفعل كلاهما سنة، فلا يستحب الاغتسال لعرفة من أجل عرفة، أما لو اغتسل لوجود سبب يقتضي ذلك كوجود روائح كريهة في بدنه، فهذا سبب آخر لا علاقة له بعرفة. والراجح: استحباب الغسل لعرفة، خاصة أنه ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو خليفة راشد، وثبت عن ابن عمر وهو صحابي جليل، فهذا ¬

(¬1) سبق تخريجه، انظر رقم (2214).

كاف في الاستدلال على مشروعية الاغتسال، خاصة أن الثابت عن علي رضي الله عنه ليس مجرد الفعل الذي قد يدخله احتمال أن يكون هناك سبب يقتضي الغسل من درن ونحوه، وإنما هو نص قولي يذكر فيه الأغسال المستحبة، فذكر منها يوم عرفة.

الفصل السادس في الاغتسال للوقوف بمزدلفة

الفصل السادس في الاغتسال للوقوف بمزدلفة استحب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، الاغتسال لمزدلفة. وقيل: لا يستحب، وهو اختيار ابن تيمية (¬4). دليل من قال بالاستحباب: ربما استدل له بأنه مكان يجتمع فيه الناس، فكان الغسل مشروعاً قياساً على غسل الجمعة. دليل من قال: لا يستحب. قال ابن تيمية: لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: غسل الإحرام، والغسل عند دخول مكة، والغسل يوم عرفة، وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار، وللطواف، والمبيت بمزدلفة، فلا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، ولا استحبه جمهور الأئمة: لا مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد، وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه ... الخ كلامه رحمه الله (¬5). وهذا القول هو الراجح من أقوال أهل العلم، والله أعلم. ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 66)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 20)، تبيين الحقائق (1/ 19)، الفتاوى الهندية (1/ 16). (¬2) قال الشافعي في الأم (2/ 221): " وأحب له أن يغتسل لرمي الجمار والوقوف بعرفة والمزدلفة .... " الخ كلامه رحمه الله، وانظر المجموع (2/ 234). (¬3) الإنصاف (1/ 250)، الفروع (1/ 203)، (¬4) مجموع الفتاوى (26/ 132) (¬5) المرجع السابق، نفس الصفحة.

الفصل السابع في الاغتسال لرمي الجمار

الفصل السابع في الاغتسال لرمي الجمار استحب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) الغسل لرمي الجمار. وقيل: لا يستحب، اختاره ابن تيمية (¬4). دليل المشروعية: قالوا: إن هذه المواضع يجتمع لها الناس، فيستحب الاغتسال لها كالجمعة، وبسبب هذا التعليل نص الشافعية أنه لا يغتسل لرمي جمرة العقبة؛ لأن وقت الرمي من نصف الليل إلى آخر النهار، فلا يجتمع لها الناس في وقت واحد، ولأنه اغتسل للوقوف بالمشعر الحرام، وهو يرمي جمرة العقبة بعده بساعة، فأثر الغسل باق، فلا حاجة إلى إعادته (¬5). دليل من قال: لا يستحب. أن هذه العبادة لو كانت مستحبة لفعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو أرشد إليها من قوله، فلما لم يفعلها مع إمكان الفعل علم أن الترك هو السنة، وكما ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 170). (¬2) المهذب (1/ 204)، إعانة الطالبين (2/ 72)، الإقناع للشربيني (1/ 72)، الوسيط (2/ 634). (¬3) المحرر (1/ 20)، الإنصاف (1/ 250)، شرح العمدة (1/ 361). (¬4) مجموع الفتاوى (26/ 132). (¬5) المهذب (1/ 204)، الوسيط (2/ 634).

ذكرت سابقاً أن الترك سنة كالفعل، فما تركه المصطفى فالسنة تركه، وما فعله فالسنة فعله، إلا أن يدل دليل على أنه خاص به، وهذا هو الراجح.

الفصل الثامن الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء

الفصل الثامن الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء استحب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء. وقيل: لا يستحب، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل من قال بالاستحباب: قال: إن هذا موضع يجتمع فيه الناس، فيستحب الاغتسال دفعاً للروائح الكريهة، وقياساً على غسل الجمعة. ¬

(¬1) المجموع (2/ 234) و (5/ 75)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 328). (¬2) الإنصاف (1/ 247)، الفروع (1/ 202)، كشاف القناع (1/ 151)، مطالب أولي النهى (1/ 176). (¬3) الإنصاف (1/ 247)، وقد قال ابن نجيم في البحر الرائق (1/ 69): " ولم أجده لأئمتنا فيما عندي ". يعني غسل الاستسقاء والكسوف. قلت: قد وجدته في كتاب درر الحكام في شرح غرر الأحكام (1/ 20)، وهو قبل ابن نجيم رحمهما الله تعالى، ولعله تابع بعض الكتب من غير المذهب، فإن متأخري أهل المذاهب ربما نقلوا من كتب غيرهم، إذا لم ينص على المسألة في كتبهم، خاصة إذا كانت المسألة تتمشى مع أصول مذهبهم، إلا أنهم في الغالب قد ينصون على الكتب التي نقلوا منها، والله أعلم. كما نص عليها من المتأخرين ابن عابدين في حاشيته (1/ 170). ولم أقف على هذه المسألة في كتب المالكية، والله أعلم.

دليل من قال: لا يستحب ذلك

دليل من قال: لا يستحب ذلك. انظر دليله في المسألة التي قبل هذه، وعمدته أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ولا قول في الاغتسال لهذه الصلوات، والله أعلم.

الفصل التاسع الغسل من الحجامة

الفصل التاسع الغسل من الحجامة اختلف العلماء في الاغتسال من الحجامة، فقيل: يسن الاغتسال، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يجب الاغتسال من الحجامة (¬4). وقيل: لا يستحب الاغتسل منها، قال المرداوي الحنبلي: وهو الصحيح من المذهب (¬5). ¬

(¬1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاج (ص: 69)، شرح فتح القدير (1/ 66)، درر الحكام في شرح غرر الأحكام (1/ 20). (¬2) نص عليها الشافعي في القديم، كذا قال النووي في المجموع (2/ 234)، وانظر أسنى المطالب (1/ 265)، نهاية المحتاج (2/ 332). وقال الغزالي في الوسيط (2/ 292): " هما اختياران لا يبلغان مبلغ السنن المتأكدة، وأنكر معظم الأصحاب استحبابهما ". اهـ وقال النووي في روضة الطالبين (2/ 44): " ومنها الغسل من الحجامة .... ذكر صاحب التلخيص عن القديم استحبابهما، والأكثرون لا يذكرونهما .. ". اهـ (¬3) الفروع (1/ 203)، الإنصاف (1/ 251)، مطالب أولي النهى (1/ 178). (¬4) أشار إلى هذا القول إشارة صاحب الطحطاوي في حاشتيه على مراقي الفلاح (ص: 70) حيث علل الاستحباب بالغسل من الحجامة خروجاً من الخلاف القائل بلزوم الغسل، والله أعلم. (¬5) الإنصاف (1/ 251)، شرح العمدة (1/ 361)، الفروع (1/ 183).

دليل من قال بالاستحباب

دليل من قال بالاستحباب: الدليل الأول: (1218 - 91) ما رواه أحمد من طريق مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله ابن الزبير، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغتسل من أربع من الجمعة، والجنابة، والحجامة، وغسل الميت (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثاني: (1219 - 92) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا وكيع، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن زاذان، أن علياً رضي الله عنه كان يغتسل من الحجامة (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬

(¬1) المسند (6/ 152). (¬2) سبق تخريجه، انظر رقم (2160). (¬3) الأم (7/ 165). (¬4) رجاله ثقات. ورواه عبد الرزاق في المصنف (701) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (1/ 180) عن إسرائيل بن يونس، عن ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، أن علياً كان يستحب أن يغتسل من الحجامة. وهذا إسناد ضعيف جداً، أو موضوع، في إسناده ثوير بن أبي فاختة، قال الثوري: كان ثوير من أركان الكذب، وكان يحيى وابن مهدي لا يحدثان عنه. التاريخ الكبير (1/ 183)، وانظر المجروحين لابن حبان (1/ 205).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1220 - 93) ما رواه بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: اغتسل من الحجامة (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1221 - 94) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا احتجم الرجل فليتغتسل، ولم يره واجباً (¬3). [صحيح عن ابن عباس] (¬4). ¬

(¬1) المصنف (1/ 48) رقم 480. (¬2) لأنه من رواية الأعمش، عن مجاهد، وأكثرها لم يسمعه منه، بل هي مدلسة. وقد رواه عبد الرزاق في المصنف (702) عن الثوري، عن الأعمش به، بأطول من هذا. ومن طريق عبد الرزاق رواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 180). (¬3) المصنف (1/ 48) رقم 484. (¬4) ومن طريق إسرائيل رواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 180). ورواه ابن أبي شيبة أيضاً (1/ 48) رقم: 484، حدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل به. ورواه ابن أبي شيبة أيضاً (1/ 48) رقم 479، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن المسيب ابن رافع، عن ابن عباس، قال: الغسل من الحجامة. وهذا إسناد منقطع، وقد قال يحيى بن معين بأن المسيب بن رافع لم يسمع من صحابي إلا من البراء وأبي إياس عامر بن عبدة. تهذيب التهذيب (10/ 139).

دليل من قال: لا يغتسل من الحجامة

دليل من قال: لا يغتسل من الحجامة. الدليل الأول: (1222 - 95) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا احتجم غسل أثر محاجمه (¬1). [إسناده صحيح]. قلت: ما ثبت عن ابن عمر، لا يعارض ثبوت الغسل عن بعض الصحابة، لأن من اغتسل فقد استحب الغسل من الحجامة، ومن ترك الاغتسال دل على أن الاغتسال ليس بواجب، ونحتاج إلى أثر ينفي استحباب الاغتسال من الحجامة، ولم أقف عليه. دليل من قال: الاغتسال من الحجامة واجب. لم أقف له على دليل، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من قول الصحابة رضوان الله عليهم. الراجح: ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - احتجم، ولم ينقل أنه اغتسل، ولا يقال: عدم النقل ليس نقلاً للعدم، بل يقال: قام المقتضي للغسل، ولم يفعل - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الغسل مشروعاً لفعله عليه الصلاة والسلام، ولو فعله لنقل إلينا، فلما لم يفعله دل على أن الترك منه - صلى الله عليه وسلم - هو السنة، مثله مثل ما لو فعل أمراً على وجه التعبد كان الفعل هو السنة، فيكون قول الصحابي ليس بحجة، ولا يرجع إلى المسألة ¬

(¬1) المصنف (1/ 47).

الأصولية، هل فعل الصحابي حجة، أو ليس بحجة، فإني أميل إلى الاحتجاج بقول الصحابي وفعله إذا لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه ترك أو فعل، أما وقد ثبت الترك، فالسنة الترك، ولا يبدع من فعل الاغتسال لفعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم، والله أعلم.

الباب الثالث أحكام الجنب

الباب الثالث أحكام الجنب الفصل الأول تحريم فعل الصلاة يحرم على الجنب فعل الصلاة، ودليله كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين، أما الكتاب، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1). فأمر بالطهارة من الجنابة عند القيام إلى الصلاة. (1224 - 97) ومن السنة، ما رواه البخاري من طريق همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ. قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ¬

(¬1) المائدة: 6.

ضراط. ورواه مسلم عدا قول أبي هريرة (¬1). وإذا كان هذا في الحدث الأصغر فالحدث الأكبر من باب أولى. الدليل الثاني: (1225 - 98) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: مكانكم، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر، فصلينا معه (¬2). الدليل الرابع: (1226 - 99) ما رواه مسلم من طريق سماك بن حرب، عن مصعب ابن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول، وكنت على البصرة (¬3). وأما الإجماع، فقد قال النووي: ((أجمع المسلمون على تحريم الصلاة على المحدث، وأجمعوا على أنها لا تصح منه، سواء كان عالماً بحدثه، أو جاهلاً، أو ناسياً، لكنه إن صلى جاهلاً أو ناسياً فلا إثم ¬

(¬1) البخاري (135)، ومسلم (225). (¬2) البخاري (275)، ومسلم (605). (¬3) مسلم (224).

عليه، وإن كان عالماً بالحدث وتحريم الصلاة مع الحدث فقد ارتكب معصية عظيمة ...)) (¬1). قلت: وإذا كان هذا في الحدث الأصغر، كان ذلك في الحدث الأكبر من باب أولى؛ لأنه أغلظ الحدثين. ¬

(¬1) المجموع (2/ 78).

الفصل الثاني في طواف الجنب

الفصل الثاني في طواف الجنب اختلف العلماء في طواف الجنب. فقيل: يشترط الطهارة من الجنابة، بل ومن الحدث الأصغر، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها، وتجبر بدم، وهو الراجح عند الحنفية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). وقيل: الطهارة من الجنابة سنة، وهو رواية عن أحمد (¬6)، واختاره ابن ¬

(¬1) المدونة (2/ 402)، الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 475)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 166)، المنتقى ـ الباجي (2/ 290)، مواهب الجليل (1/ 374) القوانين الفقهية ـ ابن جزي (ص55)، الخرشي (2/ 314). (¬2) المجموع النووي (8/ 17)، حلية العلماء (3/ 280)، روضة الطالبين (3/ 79)، حاشية البيجوري (1/ 600). (¬3) المغني (3/ 186)، الإنصاف (4/ 16)، الفروع (1/ 260،261)، المبدع (3/ 221). (¬4) أحكام القرآن للجصاص (3/ 355)، المبسوط (1/ 44)، شرح فتح القدير (1/ 51)، حاشية ابن عابدين (2/ 536). (¬5) شرح العمدة (3/ 586). (¬6) قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (26/ 206): " نص أحمد في رواية، على أن الجنب إذا طاف ناسياً أجزأه ذلك، فمن أصحابه من قصر ذلك على حال النسيان، ومنهم من قال: هذا يدل على أن الطهارة ليست فرضاً؛ إذ لو كانت فرضاً لما سقطت بالنسيان؛ لأنها من =

دليل الجمهور على اشتراط الطهارة من الجنابة

حزم رحمه الله (¬1). دليل الجمهور على اشتراط الطهارة من الجنابة. الدليل الأول: لا خلاف في اشتراط الطهارة الصغرى والكبرى في الصلاة، وقد حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فيثبت للطواف ما يثبت للصلاة، ومنه اشتراط الغسل من الجنابة. (1227 - 100) فقد روى الترمذي رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا، جرير، عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير. [إسناده ضعيف، والراجح وقفه على ابن عباس] (¬2). ¬

= باب المأمور به، لا من باب المنهي عنه، كطهارة الحدث في الصلاة، بخلاف اجتناب النجاسة في الصلاة، فإن ظاهر مذهب أحمد أنه إذا صلى ناسياً لها، أو جاهلاً بها لا يعيد؛ لأن ذلك من باب المنهي عنه، فإذا فعله ناسياً أو جاهلاً به لم يكن عليه إثم، فيكون وجوده كعدمه ... الخ كلامه رحمه الله. وانظر المغني (3/ 186). (¬1) المحلى (5/ 189) مسألة: 839. (¬2) إسناده ضعيف؛ لأن جريراً متأخر السماع من عطاء بن السائب، وهو قد اختلط، إلا أنه لم ينفرد به، فقد تابعه الثوري، وقد اتفقوا على أنه سمع منه قبل الاختلاط. وقد اختلف على عطاء في هذا الحديث، فرواه عنه الثوري، وابن عيينة، وجرير، والفضيل بن عياض، وموسى بن أعين، كلهم عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس مرفوعاً. =

وقد رجح كونه موقوفاً جمع من الأئمة. قال الحافظ: «رجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي» اهـ (¬1). ¬

= وخالفهم ابن فضيل، فرواه عن عطاء بن السائب به موقوفاً على ابن عباس، كما في مصنف ابن أبي شيبة، ولا شك أن الراجح من رواية عطاء بن السائب أنها مرفوعة، ولكن عطاء قد خالفه من هو أفضل منه، فرواه عبد الله بن طاووس، وإبراهيم بن ميسرة، والحسن ابن مسلم، عن طاووس، عن ابن عباس موقوفاً. وهؤلاء أرجح من عطاء بن السائب وليث بن أبي سليم، والله أعلم. فإبراهيم بن ميسرة، وعبد الله بن طاووس أحاديثهما في الكتب الستة، وتوثيقهما لا نزاع فيه، وهما من أخص أصحاب طاووس، أضف إلى ذلك أن عطاء بن السائب لم يرو عنه ممن اتفق على سماعه قبل الاختلاط إلا الثوري، وقد اختلف عليه في رفعه ووقفه، ورجح ابن حجر رواية من رواه عن سفيان موقوفاً. وتابع ليث بن أبي سليم عطاء بن السائب في رفعه، إلا أن ليثاً ضعفه مشهور، وفي التقريب: صدوق اختلط جداً، ولم يتميز حديثه فترك. وعلى هذا يكون المحفوظ من رواية طاووس عن ابن عباس أنها موقوفة عليه. ومع مخالفة عطاء بن السائب لمن هو أوثق منه، فقد اختلف عليه اختلافاً كثيراً. فقيل: عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس. وقيل: عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، تارة موقوفاً، وتارة مرفوعاً. وقيل: عن عطاء بن السائب، عن طاووس، أو عكرمة، أو كلاهما عن ابن عباس. وهذا الاختلاف على عطاء مما يضعف روايته، ولا يعارض بها رواية الثقات عن طاووس. وقد تتبعت طرق الحديث، وخرجته وتكلمت عليه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، (336) فأغنى عن إعادته هنا. (¬1) تلخيص الحبير (1/ 225).

وقال الترمذي رحمه الله: «روي هذا الحديث عن ابن طاووس وغيره، عن طاووس، عن ابن عباس موقوفاً، ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء ابن السائب» (¬1) اهـ. ورجح وقفه أيضاً ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬2)، وابن عبد الهادي كما في فيض القدير (¬3). كما أن متنه شاهد على أنه ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالحديث يعتبر الطواف كالصلاة إلا في الكلام، وقد قال علماء الأصول: الاستثناء معيار العموم، بمعنى أنها تثبت للطواف جميع أحكام الصلاة إلا ما استثني، وعند التأمل نرى أنه يجوز بالطواف الأكل والشرب، وليس فيه تسليم، ولا دعاء استفتاح، ولا استقبال القبلة، ولا تجب له قراءة الفاتحة، وله أن يقطع طوافه لشهود صلاة الجنازة، أو لحضور الجماعة، ثم يبني على طوافه بخلاف الصلاة، ولا يحتاج فيه إلى تسوية صفوف، ولا تقديم الرجال على النساء، وله أن يطوف وهو عاري الكتفين، وبالتالي فهذه المخالفات تدل على أن الكلام ليس من عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (¬4) (¬5). ¬

(¬1) السنن (3/ 93). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 274) (26/ 126). (¬3) (4/ 293). (¬4) النساء آية (82). (¬5) وقد قال بعضهم: إن هذا الحديث على فرض صحته يشبه حديث أبي هريرة في الصحيح، فقد روى البخاري (647) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: دل الدليل على اشتراط الطهارة الصغرى، وما اشترطت فيه الطهارة الصغرى كانت الطهارة الكبرى شرطاً فيه من باب أولى؛ لأنها أغلظ، والدليل على اشتراط الطهارة الصغرى، (1228 - 101) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ، عن ابن وهب، أخبرني عمرو، عن محمد بن عبد الرحمن، ذكرت لعروة، قال: فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها، أن أول شيء بدأ به حين قدم ¬

_ = الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة. وهو في مسلم (276) بغير هذا اللفظ. والذي ينتظر الصلاة لا يلزمه ما يلزم المصلي، فله أن يأكل ويلتفت عن القبلة، وغيرها، فقد يكون الطواف صلاة من أجل أن الصلاة شرعت لإقامة ذكر الله، قال تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} والطواف إنما شرع لإقامة ذكر الله، وإن كانت الصلاة في اللغة: الدعاء، والطواف يدعو به الطائف ما شاء من أمور الدنيا والآخرة. وهذا الكلام ليس دقيقاً؛ لأن هناك فرقاً بين أن أقول: الطواف كالصلاة في الأجر والمثوبة، وبين أن أقول: الطواف صلاة إلا في الكلام، فهذا واضح أن الحديث لم يتعرض للثواب، وإنما تعرض فيما يجب ويلزم ويمنع. قال الكاساني في بدائع الصنائع (2/ 129): تعليقاً على حديث "الطواف بالبيت صلاة ": يحمل على التشبيه كما في قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} أي كأمهاتهم، ومعناه أن الطواف كالصلاة إما في الثواب، أو في أصل الفرضية في طواف الزيارة؛ لأن كلام التشبيه لا عموم له فيحمل على المشابهة في بعض الوجوه، عملاً بالكتاب والسنة " وانظر المبسوط (4/ 38).

النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ، ثم طاف، ثم لم تكن عمرة. الحديث (¬1). ولا يقال: إن الوضوء مجرد فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، لأننا نقول: (1229 - 102) قد روى مسلم في صحيحه من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابراً يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمى على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (¬2). قال الشنقيطي: وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لطوافه، قد دل دليلان على أن الوضوء لازم لابد منه: أحدهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: «خذوا عني مناسككم»، وهذا الأمر للوجوب والتحتم، فلما توضأ للطواف لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالاً لأمره، في قوله - صلى الله عليه وسلم - «خذوا عني مناسككم». الثاني: أن فعله في الطواف من الوضوء له، ومن هيئته التي أتي به عليها كلها بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لبيان نص من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم، ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع؛ لأن قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - للسارق من الكوع، بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى {فاقطعوا ¬

(¬1) رواه البخاري (1614)، ومسلم (1235) وفي مسلم قصة. (¬2) صحيح مسلم (1297).

أيديهما} لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق، وإلى المنكب)) (¬1). وأجيب عن هذا الدليل: أما كونه لما طاف توضأ، فهذا وحده لا يدل على الوجوب؛ فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة حتى ولو كان طاهراً، وتيمم لرد السلام، وقال: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر. وأما الجواب عن قوله: «لتأخذوا عني مناسككم». قال ابن القيم: «أن نفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا كان قد فعل فعلاً على وجه الاستحباب، فأوجبناه لم نكن قد أخذنا عنه وتأسينا به، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل في حجته أشياء كثيرة جداً لم يوجبها أحد من الفقهاء» اهـ (¬2). وعلى كل حال، لا أرى الاستدلال بمثل هذا الأمر العام المشتمل على أحوال وهيئات، وصفات وأقوال، أحكامها مختلفة، لا أرى أن يستدل على وجوبها بهذا العموم، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم» يدل على كونه مشروعاً، وأنه من أفعال المناسك، أما دلالته على الوجوب فيحتاج إلى دليل خاص، كما أن دلالته على الشرطية أو الركنية يحتاج إلى دليل خاص كذلك، فإذا كان ورود الأمر الخاص فيه نزاع في دلالته على الوجوب كما هو معلوم في أصول الفقه، فما بالك في حديث: «خذوا عني مناسككم» والذي يشمل جميع أفعال المناسك. ¬

(¬1) أضواء البيان (5/ 203). (¬2) تهذيب السنن (1/ 53).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: دل الدليل على منع الجنب من المكث في المسجد، ويلزم من طواف الجنب المكث فيه؛ لأن الطواف متعلق بالبيت، والبيت في وسط المسجد الحرام، والدليل على منع الجنب من المكث في المسجد، من الكتاب ومن السنة، أما الكتاب: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1). (1230 - 103) وأما السنة فهو ما رواه أبو داود (¬2) من طريق أفلت بن خليفة، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة، قالت: سمعت عائشة تقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: «وجهوا هذه البيوت عن المسجد» ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجهوا البيوت عن المسجد؛ فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب. [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) سورة النساء: 43. (¬2) سنن أبو داود (232). (¬3) وقد ضعف الحديث الإمام أحمد كما في شرح السنة (2/ 46) للبغوي، وابن المنذر في الأوسط (2/ 110)، وابن حزم كما في المحلى (2/ 186) والخطابي في معالم السنن (1/ 159) وقال ابن رجب في شرح البخاري (1/ 321): روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " أخرجه أبو داود من حديث عائشة، وابن ماجه من حديث أم سلمة، وفي إسناديهما ضعف. وعلى تقدير صحة ذلك فهو محمول على اللبث في المسجد". =

الدليل الرابع

وسوف نناقش مسألة المكث في المسجد في فصل مستقل إن شاء الله تعالى، فانظر فيه الجواب عن الآية والحديث. الدليل الرابع: منعت الحائض عن الطواف بالبيت بالإجماع مع القدرة على الطواف في حال الطهر، فيقاس عليها الجنب بجامع أن كلاً منهما حدث أكبر يوجب الغسل، ويمنع من الصلاة. قال ابن عبد البر: الحائض لا تطوف بالبيت، وهو أمر مجتمع عليه، لا أعلم فيه خلافاً (¬1). وقال ابن رشد: «اتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء، وذكر الثالث منها، قال: والثالث: فيما أحسب الطواف» (¬2). ¬

= وقال عبد الحق الإشبيلي كما في بيان الوهم والإيهام لابن القطان (5/ 327): " لا يثبت من قبل إسناده ". وقال ابن رشد كما في بداية المجتهد المطبوع مع الهداية (2/ 31): " وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث ". وقوى الحديث بعضهم. فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1327) وهذا ذهاب منه لتصحيح الحديث لأنه قد رسم كتابه بالصحيح، وحسن إسناده ابن القطان كما في كتاب الوهم والإيهام (5/ 332)، وتابعه الزيلعي في نصب الراية (1/ 194)، وحسنه ابن سيد الناس كما في الهداية في تخريج أحاديث البداية (2/ 31). والحق مع من ضعف الحديث، وعلة الحديث جسرة لم يوثقها معتبر والحمل عليها فيه. والله أعلم، وقد سبق تخريج هذا الحديث في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (300)، فأغنى عن إعادة تخريجه هنا. (¬1) التمهيد (17/ 265). (¬2) بداية المجتهد مع الهداية (2/ 59،60).

وقال النووي: وقد أجمع العلماء على تحريم الطواف على الحائض والنفساء. وأجمعوا على أنه لا يصح منهما طواف مفروض ولا تطوع، وأجمعوا على أن الحائض والنفساء لا تمنع من شيء من مناسك الحج إلا الطواف وركعتيه، نقل الإجماع في هذا كله ابن جرير وغيره (¬1). وقال ابن تيمية: «وأما الذي لا أعلم فيه نزاعاً، أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض، إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر، فما أعلم منازعاً أن ذلك يحرم عليها، وتأثم به» (¬2). وقال ابن حزم: أما امتناع الصلاة والصوم والطواف والوطء في الفرج حال الحيض فإجماع متيقن مقطوع به، لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيه (¬3). (1231 - 104) وعمدة الإجماع ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نُفِست؟ قالت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري، ورواه مسلم (¬4). ¬

(¬1) المجموع (2/ 386). (¬2) مجموع الفتاوى (26/ 206). (¬3) المحلى (مسألة 254). (¬4) صحيح البخاري (305). رواه مسلم (120ـ1211).

الدليل الخامس

(1232 - 105) وبما رواه البخاري رحمه الله من طريق الزهري، حدثني عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتهما، أن صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضت في حجة الوداع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحابستنا هي؟ فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله، وطافت بالبيت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلتنفر. ورواه مسلم (¬1). وأجيب: بأن قياس الجنب على الحائض قياس مع الفارق، فأنتم لا تقولون بأن أحكامهما واحدة من كل وجه حتى يتم القياس، فهذه الحائض لا تقضي الصلاة، بخلاف الجنب، ولا يصح الصوم مع الحيض، بخلاف الجنب فإنه يصح أن يصبح صائماً، وهو جنب، وإذا توضأ الجنب مكث في المسجد عندكم، مع أن الجنابة لم ترتفع، ولا تبيحون للحائض أن تمكث في المسجد ولو توضأت، فكل هذا يجعل قياس الأخف على الأغلظ قياساً ضعيفاً، مع أن مكث الحائض في المسجد متنازع فيه، وقد رجحت في كتابي الحيض والنفاس جواز مكث الحائض في المسجد، فانظره هناك. الدليل الخامس: استدل بعضهم بقوله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (4401)، ومسلم (382ـ 1211) (¬2) سورة الحج آية (26).

وجه الاستدلال من وجهين: الأول: أن الطواف ذكر مع الصلاة، فإذا كانت الصلاة تشترط لها الطهارة، فكذلك الطواف، بل إن تقديم الطواف على الصلاة يدل على أن الطهارة فيه أولى. الوجه الثاني: إذا وجب تطهير مكان الطائف، فبدنه من باب أولى. وأجيب: بأن هذه الدلالة دلالة اقتران، وهي من أضعف الدلالات، ولا يلزم من اقترانهما اشتراكهما في الحكم. قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} (¬1). والأكل مباح، فهل إتيان حقه يوم حصاده تقولون: إنه مباح، ثم إنه قال في الآية الأخرى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} (¬2). هل تقولون: إن المعتكف لا يصح اعتكافه إلا على طهارة؛ لأنه قرن بالصلاة، فإذا سقطت الدلالة من هذه الآية سقطت من تلك. وكونه قدم الطواف على الصلاة ليس دليلاً على كونه أولى بالطهارة من الصلاة، فقد يكون قدم باعتبار أن الطواف أخص بالبيت من الصلاة، فالصلاة يصليها الإنسان في كل المساجد، بل في الأرض كلها، وأما الطواف فلا يطوف الإنسان إلا في هذا البيت، والله أعلم. ¬

(¬1) سورة الأنعام آية (141). (¬2) سورة البقرة آية (125).

دليل من قال: الطهارة من الجنابة سنة في الطواف

وأما الأمر بتطهير المكان، فالمراد من الشرك: وهو نجاسة معنوية، ومن الخبث: وهو نجاسة حسية، وأما المؤمن فإنه ليس بنجس، ولا ينجس بالحدث، ولا يمنع المحدث من دخول البيت، فليس مقصوداً في الآية. دليل من قال: الطهارة من الجنابة سنة في الطواف. الدليل الأول: هذا القول لا يحتاج إلى دليل، وإنما الذي يطالب بالدليل الذي يقول باشتراط الطهارة من الجنابة ومن الحدث الأصغر للطواف، فعدم الدليل الموجب للطهارة كاف في الاستدلال، كما أن الأصل براءة الذمة حتى يثبت الدليل الصحيح الصريح، فدليل هذا القول هو عدم وجود دليل يدل على وجوب الطهارة من الحدث في الطواف، ومنه الطهارة من الجنابة. قال ابن تيمية: «لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف، مع العلم أنه قد حج معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر عمراً متعددة، والناس معتمرون معه، فلو كان الوضوء فرضاً في الطواف لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاماً، ولو بينه لنقل ذلك المسلمون عنه، ولم يهملوه» (¬1). وقال ابن القيم: «لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المسلمين بالطهارة، لا في عمرته، ولا في حجته، مع كثرة من حج معه واعتمر، ويمتنع أن يكون ذلك واجباً ولا يبينه للأمة، وتأخير البيان عن وقته ممتنع» (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 273). (¬2) تهذيب السنن (1/ 52،53).

الدليل الثاني

قلت: وقد طاف مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجته خلق كثير، وكثير منهم حديث عهد بالإسلام، ومع ذلك لم يأمرهم بالطهارة، وقد ينتقض وضوء كثير منهم أثناء الطواف، ومع هذا الاحتمال القوي، لم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يلزمهم الطهارة في الطواف، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أنه يعلن أفعاله ليأخذ الناس مناسكهم، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشعر بأنه قد لا يحج العام القابل، وكان كما تنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا لم يدل دليل على وجوب الطهارة الصغرى للطواف، فكذلك لم يدل دليل على وجوب الطهارة من الجنابة، والله أعلم. الدليل الثاني: قال ابن تيمية: «ثبت أيضاً أن الطهارة لا تجب لغير الصلاة». (1233 - 106) لما ثبت في صحيح مسلم، من حديث ابن جريج، حدثنا سعيد بن الحارث، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب له طعام، فأكل، ولم يمس ماء. قال ابن جريج: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد ابن الحارث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم تتوضأ؟ قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. قال عمرو: سمعته من سعيد بن الحارث. اهـ (¬1). ثم قال: «ما أردت صلاة، فأتوضأ» يدل على أنه لم يجب عليه الوضوء إلا إذا أراد صلاة، وأن وضوءه لما سوى ذلك مستحب، وليس بواجب)) اهـ. ¬

(¬1) انظر الكلام علي الحديث، من حيث الاختلاف في متنه في رقم (228) من كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية.

دليل من قال: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها وتجبر بدم

وما يقال في عدم اشتراط الطهارة من الحدث الأصغر للطواف يقال: في عدم اشتراط الطهارة من الجنابة، سواء بسواء. دليل من قال: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها وتجبر بدم. استدلوا: على أن الطهارة واجبة بقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالآية بالطواف، وهو اسم للدوران حول البيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، فاشتراط الطهارة في الطواف يكون زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس؛ لأن الركنية لا تثبت إلا بدليل قاطع، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد؛ لأنه يوجب العمل، ولا يوجب علم اليقين والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين. وأصل الطواف ركن ثابت بالنص، والطهارة فيه تثبت بخبر الواحد، فيكون موجباً للعمل دون العلم، فلم تصر الطهارة ركناً، ولكنها واجبة، والدم يقوم مقام الواجبات في الحج (¬2). ويجاب: أولاً: لا نسلم أنه قد قام دليل على وجوب الطهارة للطواف ولو بخبر آحاد، فأين هذا الدليل الموجب للطهارة حتى نأخذ به؟ ثانياً: تفريق الحنفية بين ما هو قطعي الدلالة، وما هو ظني الدلالة، ¬

(¬1) سورة الحج: آية (29). (¬2) المبسوط ـ السرخسي (4/ 38).

الراجح

والأول يصلح أن يكون دليلاً على الفرض، والثاني يكون دليلاً على الواجبات دون الشروط والأركان، والتفريق بين الواجب والفرض كل هذه الأمور مرجوحة لاتقوم على دليل صحيح، ولا يوافقهم فيها الجمهور، ثم الراجح من خبر الآحاد أنه يفيد العلم ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وتجويز الخطأ في خبر الآحاد تجويز عقلي، والأصل عدمه، ولو فتح الباب للتجويز العقلي لهدم الشرع، وهي لا تخرج عن أوهام ووساوس، لا تبنى على أسس، إنما بنيت على شفا جرف هار، وقد كان البلاغ في الرسالة يقوم على خبر الواحد، وهو أصل الشرع، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل الآحاد من الصحابة لتبليغ رسالته، وتقوم الحجة بذلك، فغيره من باب أولى. وليس هذا مقام بسط الكلام بالاحتجاج بخبر الواحد. الراجح: جواز الطهارة من المحدث، سواء كان حدثاً أصغر أو أكبر عدا الحيض، فإن الطواف لا يصح مع الحيض مع القدرة على الطواف في حال الطهر، فإن اضطرت إلى الطواف صح منها، والخلاف في طواف الحائض قد عقدت له فصلاً مستقلاً في كتابي الحيض والنفاس، فليراجع من هناك، والله أعلم.

الفصل الثالث في مكث الجنب في المسجد

الفصل الثالث في مكث الجنب في المسجد اختلف العلماء في مكث الجنب للمسجد، فقيل: لا يجوز للجنب أن يمكث في المسجد مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: يجوز له المكث في المسجد بشرط الوضوء، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يجوز له المكث مطلقاً، سواء كان متوضئاً أو غير متوضئ، وهو اختيار ابن حزم (¬5). دليل من قال: لا يجوز للجنب المكث في المسجد. من الكتاب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬6). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 38)، المبسوط (1/ 118)، (¬2) المدونة (1/ 32)، التاج والإكليل (1/ 338)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 557)، (¬3) الأم (1/ 54)، وقال النووي في المجموع (2/ 184): " مذهبنا أنه يحرم عليه المكث في المسجد جالساً أو قائماً أو متردداً أو على أي حال كان، متوضئاً كان أو غيره، ويجوز له العبور من غير لبث، سواء كان له حاجة أم لا .... الخ كلامه رحمه الله تعالى. (¬4) المغني (1/ 97)، (¬5) المحلى (1/ 39) مسألة: 262. (¬6) سورة النساء: 43.

(1234 - 107) فقد روى عبد الرزاق (¬1)، قال: عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن ابن مسعود أنه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد مجتازاً ولا أعلمه إلا قال: {ولا جنباً إلا عابر سبيل} (¬2). [إسناده منقطع؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، وقيل بل هو على الاتصال؛ لأن كل ما حدثه به عن أبيه، فقد رواه عن أهل بيته، فهو في حكم المتصل] (¬3). (1235 - 108) وروى ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبونعيم، ثنا أبو جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} قال: إلا وأنت مار فيه (¬4). [سنده ضعيف، والثابت عن ابن عباس خلاف هذا كما سيأتي إن شاء الله تعالى] (¬5). ¬

(¬1) المصنف (1613). (¬2) سورة النساء: 43. (¬3) سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (305). (¬4) الأوسط (2/ 106) ورواه الطبري في تفسيره (9555) من طريق عبد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي به. (¬5) سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (306).

وقد ذهب عطاء (¬1)، والحسن (¬2)، وإبراهيم النخعي (¬3)، إلى أن معنى قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} الجنب يمر في المسجد. وقد اختلف العلماء في معنى الآية على قولين: الأول: أن معنى قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} أي: لا تقرب موضع الصلاة وأنت جنب إلا أن تكون ماراً في المسجد غير ماكث فيه. وعليه فيكون معنى قوله: {لا تقربوا الصلاة} أي لا تقربوا مواضع الصلاة (¬4). وقد تقدم أن هذا القول مروي عن ابن مسعود. ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة (1/ 135) بسند رجاله ثقات وفيه عنعنة ابن جريج عن عطاء لكنه مكثر عن عطاء فلعلها تغتفر. (¬2) رواه ابن جرير الطبري (9559) بسند رجاله ثقات وفيه عنعنة قتادة، وهو مدلس مكثر. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (1/ 135) رقم 1554 بسند صحيح. (¬4) انظر تفسير القرطبي (5/ 100)، تفسير مجاهد (1/ 158)، زاد المسير (2/ 90)، فتح القدير (1/ 469)، مشكل إعراب القرآن (1/ 198)، تفسير ابن كثير (1/ 503) ورجح أن المراد بقوله " إلا عابري سبيل " أي المجتاز مراً. قال ابن كثير: " لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله {وإن كنتم مرضى أو على سفر} معنى مفهوم. وفي أحكام القرآن للجصاص (3/ 169) ورجح أن المراد به المسافر، قال: " وما روي عن علي وابن عباس في تأويله: أن المراد المسافر الذي لا يجد الماء فيتيمم أولى من تأويل من تأوله على الاجتياز في المسجد؛ وذلك لأن قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} نهي عن فعل الصلاة في هذه الحال، لا عن المسجد؛ لأن ذلك حقيقة اللفظ، ومفهوم الخطاب، وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز: بأن تجعل الصلاة عبارة عن موضعها، كما يسمى الشيء باسم غيره للمجاورة، أو لأنه تسبب منه كقوله تعالى {لهدمت صوامع وبيع وصلوات} يعني به مواضع الصلاة، ومتى أمكننا استعمال اللفظ على حقيقته لم يجز صرف ذلك عن الحقيقة، وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة وهو قوله تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون}.

المعنى الثاني: أن معنى قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} أي: لا يقرب الصلاة الجنب إلا أن يكون مسافراً فيتيمم ويصلي، وهذا التفسير هو الثابت عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهم، وجماعة من التابعين. (1236 - 109) فقد روى ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، ومحمد ابن المثني، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس في قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} (¬1)، قال: المسافر. وقال ابن المثنى: السفر (¬2). فهذا سند في غاية الصحة، ولا تضر عنعنة قتادة، وقد جاء حديثه من طريق شعبة (¬3). وله شاهد من قول علي - رضي الله عنه -. (1237 - 110) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله وزر عن علي: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} (¬4)، قال: المار الذي لايجد الماء يتيمم ويصلي (¬5). ¬

(¬1) النساء: 43. (¬2) تفسير الطبري (9537). (¬3) وقد سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودارية، رقم (307)، فأغنى عن إعادته هنا. (¬4) سورة النساء: 43. (¬5) المصنف (1/ 144) رقم 1663.

ورواه ابن جرير الطبري (¬1)، وابن المنذر (¬2)، من طريق ابن أبي ليلى إلا أن ابن المنذر لم يذكر عباد بن عبد الله، وابن جرير رواه عن عباد أو عن زر. [وهذا إسناد فيه ضعف] (¬3). وقد فسر قوله تعالى: {عابري سبيل} بالمسافرين جماعة من التابعين، منهم مجاهد (¬4)، وعمرو بن دينار (¬5)، وسعيد بن جبير (¬6)، وسليمان بن موسى (¬7)، والحكم بن عتيبة (¬8)، والحسن بن مسلم (¬9). هذان هما القولان الواردان في معنى الآية، ولكل قول عندي مرجح. فأما ترجيح أن المراد به المجتاز، وليس المسافر، فيرجحه أن الله سبحانه وتعالى قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ¬

(¬1) تفسير الطبري (9539). (¬2) الأوسط (2/ 108). (¬3) وقد سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس، برقم (308). (¬4) رواه عبد الرزاق (1615)، وابن جرير الطبري في تفسيره (9543)، (9544)، (9545)، (9546) من طرق عن مجاهد. (¬5) رواه عبد الرزاق (1614) بسند صحيح عنه. (¬6) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9540) بسند صحيح عنه. (¬7) رواه ابن أبي شيبة (1/ 145) رقم 1666 بسند صحيح عنه. (¬8) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9551) بسند صحيح عنه. (¬9) رواه ابن أبي شيبة (1/ 144) رقم 1664 بسند صحيح، ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9547) من طريق شيخ ابن أبي شيبة.

فلم تجدوا ماء فتيمموا ...} (¬1) الآية، فلو كان يقصد بقوله: إلا عابري سبيل هو المسافر، لم يكن لإعادة ذكره معنى. وأما ترجيح تفسير {عابري سبيل} بالمسافر، فيكفي أنه تفسير اثنين من الصحابة رضي الله عنهما: ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، ولأنه لا يحتاج إلى تقدير في الآية، فمعنى: {لا تقربوا الصلاة} على حقيقته وليس مواضع الصلاة. الدليل الثاني: (1238 - 111) ما رواه أبو داود (¬2) من طريق أفلت بن خليفة، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة، قالت: سمعت عائشة تقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: «وجهوا هذه البيوت عن المسجد» ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجهوا البيوت عن المسجد؛ فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب)). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) سنن أبو داود (232). (¬3) وقد ضعف الحديث الإمام أحمد كما في شرح السنة (2/ 46) للبغوي، وابن المنذر في الأوسط (2/ 110)، وابن حزم كما في المحلى (2/ 186) والخطابي في معالم السنن (1/ 159) وقال ابن رجب في شرح البخاري (1/ 321): روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " أخرجه أبو داود من حديث عائشة، وابن ماجه من حديث أم =

الدليل الثالث: روي أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب، والمساجد بيوت الله، وأماكن إقامة ذكره، والملائكة فيها أكثر من غيرها، ولذا منع من يأكل الثوم والبصل من دخول المساجد؛ وعُلِّل ذلك بأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فإذا كانت الملائكة لا تدخل مكاناً فيه جنب، منع الجنب من دخول المسجد حتى لا يؤذي الملائكة، (1239 - 112) فقد روى أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثني علي بن مدرك، عن أبى زرعة، عن ابن نجي، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا صورة ولا كلب (¬1). ¬

= سلمة، وفي إسناديهما ضعف. وعلى تقدير صحة ذلك فهو محمول على اللبث في المسجد". وقال عبد الحق الإشبيلي كما في بيان الوهم والإيهام لابن القطان (5/ 327): " لا يثبت من قبل إسناده ". وقال ابن رشد كما في بداية المجتهد المطبوع مع الهداية (2/ 31): " وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث ". وقوى الحديث بعضهم. فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1327) وهذا ذهاب منه لتصحيح الحديث لأنه قد رسم كتابه بالصحيح، وحسن إسناده ابن القطان كما في كتاب الوهم والإيهام (5/ 332)، وتابعه الزيلعي في نصب الراية (1/ 194)، وحسنه ابن سيد الناس كما في الهداية في تخريج أحاديث البداية (2/ 31). والحق مع من ضعف الحديث، وعلة الحديث جسرة لم يوثقها معتبر والحمل عليها فيه. والله أعلم، وقد سبق تخريج هذا الحديث في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (300)، فأغنى عن إعادة تخريجه هنا. (¬1) المسند (1/ 84).

[زيادة ذكر الجنب منكرة، وإسناد هذا الحديث ليس بالقوي، وحديث ابن عباس وعائشة وابن عمر وميمونة في الصحيح بدون ذكر الجنب] (¬1). ¬

(¬1) في إسناده نجي الحضرمي، لم يرو عنه غير ابنه عبد الله، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد. كما أن في إسناده ولده عبد الله بن نجي، قال فيه العجلي: ثقة تابعي من خيار التابعين. معرفة الثقات (984). وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (16/ 220). وقال البخاري، عن علي: فيه نظر. الكامل (4/ 234). وقال الدارقطني: ليس بقوي في الحديث. تهذيب التهذيب (6/ 50). وقال الشافعي: مجهول. المرجع السابق. وقال ابن عدي: أخباره فيها نظر. الكامل (4/ 234). ولعل الحمل على حديثه هذا من أبيه، وليس منه، والله أعلم. [تخريج الحديث] الحديث قيل فيه: عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، عن علي. وقيل: عن عبد الله بن نجي، عن علي، بإسقاط والد عبد الله بن نجي، وعبد الله لم يسمع من علي. أما طريق عبد الله بن نجي، عن أبيه، عن علي، فأخرجه النسائي في المجتبى (261،4281)، وفي الكبرى (4792) وأبو يعلى (626) من طريق يحيى بن سعيد القطان. وأخرجه أبو يعلى (313) والنسائي في المجتبى (261)، وفي الكبرى (257)، وابن حبان (1205)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (756) من طريق هشام بن عبد الملك. وأخرجه أبو داود (227) عن حفص بن عمر النمري. وأخرجه الطحاوي (4/ 282) من طريق عبد الله بن رجاء وحبان بن هلال. وأخرجه الحاكم (1/ 171) من طريق آدم بن أبي إياس. وأخرجه الطحاوي (4/ 282)، والبيهقي (1/ 201) من طريق يعقوب بن إسحاق الحضرمي، كلهم عن شعبة به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الحاكم: هذا حديث صحيح. ولم يعترض عليه الذهبي في التلخيص، لكن قال الذهبي في الميزان: نجي الحضرمي لا يدرى من هو؟ ووراه أحمد (1/ 85) والبزار (879)، وابن خزيمة (902) من طريق محمد بن عبيد، حدثني شرحبيل بن مدرك، عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، عن علي. وأخرجه النسائي (1213) من طريق أبي أسامة مختصراً، عن شرحبيل بن مدرك به. قال ابن خزيمة (2/ 54): لست أحفظ أحداً قال: عن أبيه غير شرحبيل بن مدرك هذا. وأما طريق عبد الله بن نجي، عن علي، فرواه أبو داود الطيالسي (110)، وأخرجه البزار (880) من طريق محمد بن جعفر، كلاهما عن شعبة به بإسقاط والد عبد الله بن نجي. ورواه عبد الواحد بن زياد، واختلف عليه فيه: فرواه الدارمي (2663)، عن أبي النعمان، وابن خزيمة (904) من طريق معلى بن أسد، كلاهما عن عبد الواحد بن زياد، عن عمارة، عن الحارث العكلي، عن أبي زرعة، عن عبد الله بن نجي، عن علي. ووراه البزار (881) حدثنا أبو كامل (يعني: فضيل بن حسين الجحدري)، عن عبد الواحد بن زياد، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن عبد الله بن نجي، عن علي، بإسقاط الحارث. كما رواه مغيرة بن مقسم، واختلف عليه فيه: فقيل: عن مغيرة بن مقسم، عن الحارث العكلي، عن عبد الله بن نجي. أخرجه أحمد (1/ 80) وابن أبي شيبة (5/ 242) رقم 52676، وابن ماجه (3708)، والنسائي (1212) والطحاوي (4/ 282) حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا مغيرة بن مقسم، حدثني الحارث العكلي، عن عبد الله بن نجي، عن علي بنحوه. واقتصر ابن أبي شيبة والنسائي وابن ماجه على بعض الحديث بذكر فضل علي. وقيل: عن مغيرة بن مقسم، عن الحارث، عن أبي زرعة، عن عبد الله بن نجي، بزيادة =

وله شاهد ضعيف من حديث عمار، أخرجه أحمد، من طريق حماد بن سلمة، أخبرنا عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، أن عماراً قال: قدمت على أهلي ليلاً، وقد تشققت يداي، فضمخوني بالزعفران، فغدوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلمت عليه، فلم يرد علي، ولم يرحب بي، فقال: اغسل هذا. قال: فذهبت، فغسلته، ثم جئت، وقد بقي علي منه شيء، فسلمت عليه، فلم يرد علي، ولم يرحب بي وقال: اغسل هذا عنك، فذهبت فغسلته، ثم جئت، فسلمت عليه، فرد علي، ورحب بي وقال: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر، ولا المتضمخ بزعفران، ولا ¬

_ = أبي زرعة بين الحارث، وبين عبد الله بن نجي. أخرجه ابن خزيمة (904) عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن ابن عياش. ورواه النسائي (1211)، وأبو يعلى (592)، وابن خزيمة (904) من طريق جرير بن عبد الحميد، كلاهما (ابن عياش وجرير) عن المغيرة به بزيادة أبي زرعة. وقال الدارقطني في العلل (3/ 258): ورواه زيد بن أبي أنيسة، عن الحارث العكلي، عن أبي زرعة، عن عبد الله بن نجي، عن علي. فهذه متابعة من زيد بن أبي أنيسة لمغيرة على زيادة أبي زرعة بين الحارث، وبين عبد الله ابن نجي. وأخرجه أحمد (1/ 107) من طريق سفيان، عن جابر (يعني: الجعفي) عن عبد الله ابن نجي، عن علي. وذكر قصة امتناع دخول جبريل البيت لوجود جرو في البيت، وجابر ضعيف مشهور الضعف. قال الدارقطني في العلل (3/ 258): ويقال: إن عبد الله بن نجي لم يسمع هذا الحديث من علي، وإنما رواه عن أبيه، عن علي، وليس بقوي في الحديث. اهـ انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (4/ 444)، تحفة الأشراف (. . .)، إتحاف المهرة (1450، 14551، 14552، 14779، 14780).

الجنب، ورخص للجنب إذا نام، أو أكل، أو شرب أن يتوضأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ويجاب: أولاً: أن الحديث ضعيف، كما وضح من تخريجه. ثانياً: حديث عائشة (¬3)، وأبي طلحة (¬4)، وميمونة (¬5)، وابن عمر (¬6)، في ¬

(¬1) المسند (4/ 320). (¬2) يحيى بن يعمر لم يلق عمار بن ياسر، ذكره الدارقطني في التهذيب (11/ 305). وعطاء الخرساني كثير الوهم والتدليس. وقد أخرج الحديث الطيالسي (646)، وابن أبي شيبة (4/ 50)، وأبو داود (225،4176، 4601)، والترمذي (613)، والبزار (1402)، وأبو يعلى (1635)، والبيهقي (5/ 36) من طرق عن حماد بن سلمة به. قال أبو داود: بين يحيى بن يعمر وعمار بن ياسر في هذا الحديث رجل. ورواه عبد الرزاق في المصنف (1087) عن معمر، عن عطاء به، وهذه متابعة من معمر لحماد بن سلمة. وأخرجه عبد الرزاق (6145)، وأحمد (4/ 320) وأبو داود (4177) ومن طريقه البيهقي (5/ 36) من طريق ابن جريج، أخبرني عطاء بن أبي الخوار، أنه سمع يحيى بن يعمر يخبر عن رجل أخبره عن عمار بن ياسر بنحوه في قصة غسل الخلوق من ثوبه ثلاثاً. وأخرجه أبو داود (4180)، والبيهقي (5/ 36) من طريق الحسن البصري، عن عمار رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث لا تقربهم الملائكة بخير: جيفة الكافر والمتمضخ بخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ. والحسن لم يسمع من عمار. (¬3) مسلم (2104). (¬4) البخاري (3225)، ومسلم (2106). (¬5) مسلم (2105). (¬6) البخاري (3227).

الصحيح، بذكر الكلب والصورة دون ذكر الجنب. ثالثاً: ترجم البخاري في صحيحه: باب كينونة الجنب بالبيت، وساق حديث عائشة المتفق عليه في نوم الجنب إذا توضأ (¬1). قال الحافظ: «أشار المصنف بهذه الترجمة إلى تضعيف ما ورد عن علي مرفوعاً: ((إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ولا جنب» رواه أبو داود وغيره، وفيه نجي بضم النون وفتح الجيم الحضرمي، ما روى عنه غير ابنه عبد الله، فهو مجهول، لكن وثقه العجلي، وصحح حديثه ابن حبان، والحاكم، فيحتمل كما قال الخطابي: أن المراد بالجنب من يتهاون بالاغتسال، ويتخذ تركه عادة، لا من يؤخره ليفعله، قال: ويقويه: أن المراد بالكلب غير ما أذن في اتخاذه، وبالصورة ما فيه روح وما لا يمتهن. قال النووي: وفي الكلب نظر. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد با لجنب في حديث علي من لا يرتفع حدثه كله ولا بعضه، وعلى هذا فلا يكون بينه وبين حديث الباب منافاة؛ لأنه إذا توضأ ارتفع بعض حدثه على الصحيح (¬2). قلت: لست بحاجة إلى الجمع أو التأويل والحديث ضعيف، فالمعروف هو امتناع الملائكة من دخول بيت فيه كلب أو صورة، وليست الجنابة أغلظ من النجاسة، ومع ذلك لا تمنع النجاسة دخول الجنابة، والجنب طاهر البدن والعرق، وقد رجحت في كتاب النجاسة جواز دخول المشرك مساجد الله عدا المسجد الحرام، كما ربط ثمامة في سارية من سواري المسجد، والمشرك جنب وزيادة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربما قرأ القرآن، ورأسه في حجر عائشة، وهي ¬

(¬1) البخاري (286)، ومسلم (305). (¬2) فتح الباري تحت رقم (286).

دليل الحنابلة على جواز المكث بشرط الوضوء

حائض، ولو كانت الجنابة تمنع دخول الملائكة لوجدت نصوص تحث على المبادرة في غسل الجنابة، ولم يؤمر المسلم بالغسل إلا عند القيام إلى الصلاة، أو تخفيف الجنابة بالوضوء عند النوم، والله أعلم. دليل الحنابلة على جواز المكث بشرط الوضوء. (1240 - 113) ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد الداروردي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة (¬1). [وهشام بن سعد وإن كان فيه كلام، إلا أن أبا داود قال فيه: أثبت الناس في زيد بن أسلم، وباقي رجاله ثقات إلا الداروردي فإنه صدوق، إلا أن هشام بن سعد قد اختلف عليه في هذا الأثر] (¬2). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 313). (¬2) فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 135) 1557: حدثنا وكيع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال: كان الرجل منهم يجنب ثم يدخل المسجد فيتحدث فيه " اهـ. ووكيع أثبت من الداروردي ولا مقارنة، وذكره عن زيد. ولم يذكر عطاء بن يسار، كما لم يذكر وضوءاً. وروى حنبل بن إسحاق صاحب أحمد، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنباً فيتوضأ، ثم يدخل المسجد فيتحدث ". وهنا تابع أبو نعيم وكيعاً في عدم ذكر عطاء، إلا أنه ذكر الوضوء. وكما ذكرت بأن ذلك حكاية فعل لا تدل على الوجوب، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره (2/ 313) بأن إسناده صحيح على شرط مسلم.

دليل من قال: يجوز مكث الجنب في المسجد

وعلى فرض صحته فإنه لايدل على الوجوب. أولاً: أن هذا حكاية فعل عن بعض أصحاب رسول الله، والفعل المجرد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب فكيف من غيره. ثانياً: أن هذا الأثر فيه اختلاف سنداً ومتناً كما تبين من تخريجه. ثالثاً: على تفسير: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1)، بأن المقصود به المجتاز فإنه يعارض هذاالأثر، فإن الآية تضمنت نهي الجنب عن المكث في المسجد، وجعلت غاية النهي هي الاغتسال، بينما الأثر جعل غاية النهي الوضوء. رابعاً: أن الأثر لم يحك عنهم أن هذا الفعل منهم كان زمن التشريع، بل صريح في أن زيد بن أسلم رآهم، وهذا يدل على أن ذلك كان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحك عن عموم الصحابة حتى يكون حكاية للإجماع، فلا يصلح للاحتجاج. دليل من قال: يجوز مكث الجنب في المسجد. الدليل الأول: أصحاب هذا القول ليسوا بحاجة إلى دليل؛ لأن المطالب بالدليل من منع ذلك؛ لأن الأصل الحل، وبراءة الذمة، ولم يرد دليل صحيح صريح في منع الجنب من المكث في المسجد، ولا يجوز منعه إلا بدليل صحيح صريح سالم من المعارضة، ولم يوجد هنا. الدليل الثاني: إذا كان المشرك يدخل المسجد، ويمكث فيه، ولا يبعد أن يكون جنباً، فالمسلم الجنب من باب أولى، ¬

(¬1) سورة النساء آية: 43

(1241 - 114) فقد روى البخاري، قال: حدثناعبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وقد اختصره البخاري (¬1). وأجاب النووي عن هذا الدليل بقوله: ((القياس على المشرك جوابه من وجهين: الأول: أن الشرع فرق بينهما!! فقام دليل تحريم مكث الجنب، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس بعض المشركين في المسجد، فإذا فرق الشرع لم يجز التسوية. الثاني: أن الكافر لا يعتقد حرمة المسجد، فلا يكلف بها، بخلاف المسلم، وهذا كما أن الحربي لو أتلف على المسلم شيئاً لم يلزمه ضمانه، لأنه لم يلتزم الضمان بخلاف المسلم والذمي إذا أتلفا (¬2). ويمكن أن يدفع هذا الكلام، بأن الكافر منهي عما ينهى عنه المسلم، فإذا منع المسلم من دخول المسجد، وقد أكل بصلاً أو ثوماً، منع الكافر كذلك في ¬

(¬1) صحيح البخاري (462)، وقد رواه البخاري (3472) ومسلم (1764) بأطول من هذا. (¬2) المجموع (2/ 185).

الدليل الثالث

هذه الحال، وكذلك إذا منع المسلم من البصق في المسجد لم يترك الكافر ليبصق فيه، ومثله النهي عن البيع فيه وإنشاد الضالة ونحوها، يلزم الكافر بما يلزم به المسلم، فما كان من قبيل المنهيات أو كان من قبيل الأحكام الوضعية يستوي فيه الكبير والصغير والمسلم والكافر، كالكذب والسرقة والزنا ونحوها، وإذا مكنا الكافر من دخول المسجد، وإن كان لا يعتقد حرمته، فإن هذا الفعل أصبح من كسبنا، وليس من كسب الكافر، والله أعلم. الدليل الثالث: أن الجنب ليس نجساً، فبدنه، وعرقه، وريقه طاهر، فلا يمنع من دخول المسجد، بل إن المسلم المتضمخ بالنجاسة على وجه لا يتعدى لا يمنع من دخول المسجد، فإذا كان على بدن المسلم أثر بول، أو على ثوبه، لم يحرم عليه دخول المسجد، فالجنب من باب أولى. (1242 - 115) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عياش، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: «لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت له: فقال: سبحان الله، يا أبا هريرة إن المؤمن لا ينجس» ورواه مسلم (¬1). وجه الشاهد منه، قوله: «إن المؤمن لا ينجس» سواء قلنا: إن معنى الحديث: إن المؤمن لا ينجس بالجنابة، وإن كانت قد تلحقه النجاسة الحسية ¬

(¬1) البخاري (285)، ومسلم (371) واللفظ للبخاري.

الدليل الرابع

كغيره، أو قلنا: إن المؤمن طاهر بإيمانه، كما أن المشرك نجس بشركه، فهي طهارة معنوية، فعلى كلا التفسيرين إذا كان المؤمن لا ينجس، ولو كان جنباً، فالطاهر لا يمنع من دخول المسجد. الدليل الرابع: إذا كانت الحائض لا تمنع من دخول المسجد على الصحيح، مع أن حدثها أغلظ من حدث الجنابة، فالجنب من باب أولى، (1243 - 116) فقد روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نُفِست؟ قالت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: «افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي في البيت». فيقال: إن الاستثناء معيار العموم، فلم يستثن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الطواف، ومعلوم أن الحاج يمكث في المسجد، ولو كان لا يحل لها لنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه. وبهذا الاستدلال قال ابن حزم، فقد قال: ((لو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض لأخبر بذلك عليه السلام عائشة إذ حاضت، فلم ينهها إلا عن الطواف في البيت، ومن الباطل ¬

(¬1) صحيح البخاري (305). رواه مسلم (120ـ1211).

الراجح من أقوال أهل العلم

المتيقن أن يكون لا يحل لها دخول المسجد فلا ينهاها عليه السلام عن ذلك، ويقتصر على منعها من الطواف (¬1). وهذا الاستدلال فيه نظر، لأن استثناء الطواف من العموم السابق: «افعلي ما يفعل الحاج» فكأنه قال: ((افعلي جميع المناسك ما عدا الطواف، والمكث في المسجد ليس من الأعمال الخاصة بالمناسك، والله أعلم. ومع أن هذا الدليل لا أراه كافياً في الاستدلال بمنع الحائض من دخول المسجد، إلا أنه ليس الدليل الوحيد في الباب، وقد بحثت هذا الفصل ورجحت جواز دخول الحائض المسجد في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، وهو جزء من هذه السلسلة، فأغنى عن إعادته هنا، فالدليل متوجه في الجملة: وهو أن ما جاز للحائض فعله جاز للجنب، وليس العكس، وقد صح عندي جواز دخول الحائض المسجد، فالجنب أولى. الراجح من أقوال أهل العلم. بعد استعراض أدلة الأقوال أرى أن الراجح من أقوال أهل العلم جواز دخول الجنب المسجد، والحدث ليس أغلظ من النجاسة، ومع ذلك لا يمنع المسلم المتلبس بالنجاسة على وجه لا يتعدى من دخول المسجد، والله أعلم. ¬

(¬1) المحلى مسألة (262).

الفصل الرابع في قراءة الجنب للقرآن

الفصل الرابع في قراءة الجنب للقرآن اختلف العلماء في قراءة الجنب للقرآن، فقيل: لا يجوز له، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يجوز للجنب أن يقرأ القرآن، وهو مذهب ابن عباس (¬5)، وسعيد ¬

(¬1) مذهب الحنفية المنع من قراءة الآية، وأما ما دون الآية ففي مذهب قولان: انظر شرح معاني الآثار (1/ 90)، البحر الرائق (1/ 209)، حاشية ابن عابدين (1/ 248)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 94)، المبسوط (1/ 62)، بدائع الصنائع (1/ 37)، الهداية شرح البداية (1/ 31). (¬2) رخص مالك في الآيات اليسيرة للتعوذ، بل أجاز بعضهم قراءة المعوذتين، وذكر الآية للاستدلال أو الرقية ونحوها انظر مواهب الجليل (1/ 317)، القوانين الفقهية (ص: 25)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:24)، الخرشي (1/ 173)، حاشية الدسوقي (1/ 138 - 139). (¬3) المجموع (2/ 178)، المهذب (1/ 30)، حلية العلماء (1/ 172)، إعانة الطالبين (1/ 69)، روضة الطالبين (1/ 86)، شرح زبد بن رسلان (ص: 70). (¬4) البخاري معلقاً عنه بصيغة الجزم، في كتاب الحيض، باب (8) تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، قال: ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً. وسوف يأتي تخريجه عن إن شاء الله تعالى. (¬5) المبدع (1/ 187) شرح العمدة (1/ 386)، الإنصاف (1/ 243)، الكافي (1/ 58)، كشاف القناع (1/ 147).

دليل الجمهور على منع الجنب من قراءة القرآن

ابن المسيب (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2). دليل الجمهور على منع الجنب من قراءة القرآن. الدليل الأول: (1244 - 117) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمة، عن علي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن مالم يكن جنباً (¬3). [إسناده ضعيف، والمعروف أنه موقوف على عليّ] (¬4). ¬

(¬1) حلية العلماء (1/ 173) (¬2) المحلى (1/ 94) مسألة: 116. (¬3) المسند (1/ 83). (¬4) في الإسناد عبد الله بن سَلِمة، لم يرو عنه غير عمرو بن مرة على الصحيح. قال شعبة: سمعت عبد الله بن سلمة يحدثنا، وكان قد كبر، فكنا نعرف وننكر. تهذيب الكمال (15/ 50). وقال البخاري: لا يتابع في حديثه. التاريخ الكبير (5/ 99). وقال النسائي: يعرف وينكر. الضعفاء والمتروكين له (347)، لسان الميزان (2/ 431). وقال الدارقطني: ضعيف. السنن (2/ 121). وقال ابن حبان: يخطئ. الثقات (5/ 12). وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/ 169). وقال: يعقوب بن شيبة: ثقة. تهذيب التهذيب (2/ 212). وقال أبو حاتم: تعرف وتنكر. الجرح والتعديل (5/ 73). وذكره ابن الجوزي في الضعفاء، وقال الذهبي في الكاشف: صويلح. فالأكثر على ضعفه، وعلى التنزل بأنه ثقة، فقد تغير، وحدث بهذا الحديث بعد أن =

وعبد الله بن سلمة، وإن كان فيه كلام، إلا أنه قد توبع، (1245 - 118) فقد روى أحمد، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، حدثني عامر بن السمط، عن أبي الغريف، قال: أتي علي بوضوء، فمضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية (¬1). [إسناده ضعيف، وقوله: «هذا لمن ليس بجنب ...» الخ موقوف] (¬2). ¬

= كبر قال عمرو بن مرة: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فيعرف، وينكر، كان قد كبر وبالرغم من أن شعبة كان يقول: هذا الحديث ثلث رأس مالي، فإنه كان يقول أيضاً: روى عبد الله ابن سلمة هذا الحديث بعدما كبر. وإذا كان قد رواه زمن تغيره لم يقبل منه. وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث. فضعفه أحمد رحمه الله، والشافعي والنووي والخطابي والبيهقي. انظر معرفة السنن والآثار (1/ 323)، ومعالم السنن (1/ 156)، المجموع (2/ 183)، الخلاصة للنووي (1/ 207)، وخالفهم الترمذي وابن السكن وعبد الحق والبغوي والحاكم، وحسنه الحافظ ابن حجر، وقد نقلت كل ذلك عنهم مع تتبع مصادر الحديث في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (225) فأغنى عن إعادته هنا. (¬1) المسند (1/ 110). (¬2) في إسناده أبو الغريف، ضعفه بعضهم بحجة أنه لم يوثقه إلا ابن حبان، والحق أنه قد وثقه يعقوب بن شيبة كما في المعرفة والتاريخ (3/ 200)، وذكره البرقي فيمن احتملت روايته، وقد تكلم فيه، وقال الحافظ في التقريب: صدوق رمي بالتشيع. وأما أبو حاتم الرازي فقد خسفه، وهو من المتشددين في الجرح غالباً، فقال: كان على شرطة علي، وليس بالمشهور، قيل: هو أحب إليك أو الحارث الأعور؟ قال: الحارث أشهر، وهذا شيخ قد تكلموا فيه، من نظراء أصبغ بن نباتة. الجرح والتعديل (5/ 313). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأصبغ قد قال فيه الحافظ: متروك. اهـ وباقي رجاله ثقات إلا شيخ أحمد فإنه صدوق. وأمر آخر، وهو المهم، أن الحديث ظاهره أن لفظه كله مرفوع، ويحتمل أن المرفوع ينتهي عند قوله: " هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ "، وأما قوله: " ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، وأما الجنب فلا ولا آية " فيحتمل أنه من قول علي موقوفاً عليه، ويحتمل أن يكون موصولاً بالقدر المرفوع، ومع الاحتمال يطلب مرجحاً لأحد الأمرين، فوجدت الدارقطني في سننه (1/ 118) قد أخرجه من طريق يزيد بن هاورن، نا عامر بن السمط، ثنا أبو الغريف الهمداني، قال: كنا مع علي في الرحبة، فخرج إلى أقصى الرحبة، فوالله ما أدري أبولاً أحدث أم غائطاً؟ ثم جاء فدعا بكوز من ماء، فغسل كفيه، ثم قبضهما إليه، ثم قرأ صدراً من القرآن، ثم قال: اقرؤا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة، فإن أصابته جنابة، فلا ولا حرفاً واحداً. وقال الدارقطني: هو صحيح عن علي. فرواية يزيد بن هارون عن عامر بن السمط صريحة بالوقف. وأخرجه عبد الرزاق (1306) عن الثوري، عن عامر الشعبي، قال سمعت أبا الغريف الهمداني، يقول: ... . وذكر الأثر موقوفاً على علي. وأظن قوله (عامر الشعبي) خطأ، بل هو عامر بن السمط. وقد راجعت ترجمة أبي الغريف في تهذيب المزي ولم أجد من تلاميذه عامر الشعبي. ورواه شريك، عن عامر بن السمط به موقوفاً على علي، كما في المصنف لابن أبي شيبة (1086). ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 96،97) من طريق خالد بن عبد الله الواسطي (الطحان)، ومن طريق إسحاق بن راهوية، فرقهما، عن عامر بن السمط به، موقوفاً على عليّ. فيكون على هذا رواه الثوري، ويزيد بن هارون، وإسحاق بن راهوية، وخالد بن عبد الله الطحان، وشريك، خمستهم رووه عن عامر بن السمط عن أبي الغريف، عن عليّ موقوفاً عليه، وخالفهم عائذ بن حبيب، فرواه عن عامر بن السمط، عن علي بلفظ محتمل للرفع والوقف، ورواية الجماعة مقدمة على رواية عائذ على القول بالتعارض، لأن الواحد من هؤلاء مقدم على عائذ ابن حبيب ولا مقارنة. فتكون رواية عائذ بالرفع شاذة؛ لمخالفتها من =

وجه الاستدلال من الحديثين: قالوا: إن تبليغ القرآن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجب، وكونه يترك هذا الواجب يدل على أنه تركه لما هو أوجب منه، وهو اشتراط الطهارة من الجنابة لقراءة القرآن. ويجاب عن هذا الأثر بما يأتي: الأول: أننا أثبتنا أن الأثر موقوف على علي رضي الله عنه، وليس مرفوعاً، فإن قيل: أليس الموقوف حجة، قيل: نعم يكون حجة لو لم يخالف من صحابي آخر، وقد خالفه ابن عباس، فأجاز قراءة القرآن للجنب كما سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى. ثانياً: قولهم: إن قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبيل التبليغ، يقال لهم: هل كل قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للقرآن من قبيل ذلك، أو يقال: إن قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها ما هو واجب، ومنها ما هو على سبيل الاستحباب، كالتعبد بتلاوته؟ كما ¬

_ = هو أوثق. وإن كنت أرجح أن الروايتين موقوفتان على علي، لأن الرواية المحتملة ترد إلى الرواية الصريحة. والله أعلم. فإن قيل: هذا الموقوف ألا يقوي رواية عبد الله بن سلمة المرفوعة. فالجواب أن الموقوف غالباً علة برد المرفوع، فكون عبد الله بن سلمة هو الذي تفرد برفعه، مع كونه قد تغير، وحدث به في زمن الكبر، كل هذا دليل على خطئه ووهمه، وإن كانت طريقة جمهور الفقهاء لا يعللون المرفوع بالموقوف، ولكن طريقة جمهور المحدثين أدق وأحوط. [تخريج الحديث] أخرجه مع أحمد، أبو يعلى (365) حدثنا أبو خيثمة، حدثنا عائذ بن حبيب به. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 276) رجاله موثوقون. اهـ

الدليل الثاني

أن تبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - واحداً من أمته للقرآن تبليغ للأمة، فأكثر ما تكون قراءته له - صلى الله عليه وسلم - على وجه الذكر والتعبد، فإذا كان كذلك، كان حديث عليّ لو صح مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. قال ابن خزيمة: «لا حجة في هذا الحديث لمن منع الجنب من القراءة؛ لأنه ليس فيه نهي، وإنما هو حكاية فعل» (¬1). وقال ابن حزم: ((فأما منع الجنب من قراءة القرآن فاحتجوا بما رواه عبد الله بن سلمة، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه نهي عن أن يقرأ الجنب القرآن، وإنما هو فعل منه عليه السلام ... الخ كلامه رحمه الله تعالى (¬2). الدليل الثاني: (1246 - 119) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا علي بن حجر والحسن بن عرفة، قالا: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) تلخيص الحبير (1/ 242) رقم 184 (¬2) المحلى (مسألة 116). (¬3) سنن الترمذي (131). (¬4) وسبق تخريجه في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (223).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1247 - 120) ما رواه الدارقطني، من طريق أبي نعيم النخعي (عبد الرحمن بن هانئ)، نا أبو مالك النخعي، عن عبد الملك بن حسين، حدثني أبو إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي. قال أبو مالك: وأخبرني عاصم بن كليب، عن أبي بردة، عن أبي موسى كلاهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا علي إني أرضى لك ما أرضى لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقرأ القرآن وأنت جنب، ولا أنت راكع، ولا أنت ساجد، ولا تصل، وأنت عاقص شعرك، ولا تدبح تدبيح الحمار (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الرابع: (1248 - 121) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق عبد الله بن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنود، عن مالك بن عبادة الغافقي، قال: أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جنب، فأخبرت عمر بن الخطاب، فجرني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إن هذا أخبرني أنك أكلت، وأنت جنب، قال: نعم إذا توضأت أكلت ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 118). (¬2) في إسناده أبو مالك النخعي، متروك الحديث، وقد سبقت ترجمته وافية مع تخريج الحديث في كتابي الحيض والنفاس (226)، فانظره هنالك.

الدليل الخامس

وشربت، ولكني لا أصلي، ولا أقرأ حتى أغتسل (¬1). [إسناده ضعيف، ولو صح لكان حكاية فعل في الجنب خاصة] (¬2). الدليل الخامس: (1249 - 122) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن الثوري، عن أبي وائل، عن عبيدة السلماني، قال: كان عمر بن الخطاب يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. [رجاله ثقات، والكراهة عند السلف تعني التحريم، وعمر له سنة متبعة؛ لأنه من الخلفاء الراشدين المأمورين باتباع سنتهم] (¬3). ويجاب عن هذا: أولاً: الكراهة في الشرع لفظ مشترك بين التحريم والكراهة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر. وقال تعالى: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً} (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 88). (¬2) في إسناده عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف، وفيه أيضاً ثعلبة بن أبي الكنود، ذكره البخاري وابن أبي حاتم، وسكتا عليه، الجرح التعديل (2/ 463)، التاريخ الكبير (2/ 175)، وانظر تخريجه بطوله في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (227). (¬3) المصنف (1307) وقد سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (228)، فأغنى عن إعادته هنا. (¬4) الإسراء: 38.

الدليل السادس

فالكراهة في النص الأول كراهة تنزيه، وفي الثاني والثالث المراد منها التحريم، وإذا كانت الكراهة نصاً مشتركاً لم يكن الدليل نصاً في التحريم. ثانياً: على فرض أن المراد بها التحريم، فإن الصحابة قد اختلفوا في قراءة الجنب للقرآن، وليس قول بعضهم حجة على البعض، وإذا اختلفوا كان الموقف الشرعي النظر في أقرب أقوالهم للحق، كما هو الحال في هذه المسألة. الدليل السادس: (1250 - 123) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا غندر، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، أن ابن مسعود كان يمشي نحو الفرات، وهو يقرئ رجلاً القرآن، فبال ابن مسعود، فكف الرجل عنه، فقال ابن مسعود: مالك؟ فقال: إنك بلت. فقال ابن مسعود: إني لست بجنب (¬1). [إسناده منقطع، إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وباقي رجاله ثقات إلا حماد بن أبي سليمان فإنه صدوق له أوهام، كما أن الأثر موقوف] (¬2). وعلى فرض صحته، فإن الجواب عنه لا يختلف عن الجواب عن أثر عمر رضي الله عنه. الدليل السابع: (1251 - 124) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن مخلد، نا العباس بن محمد الدوري (ح) ¬

(¬1) المصنف (1/ 97). (¬2) سبق تخريجه في كتاب الحيض والنفاس رقم (229).

وحدثنا إبراهيم بن دُبَيْس بن أحمد الحداد، نا محمد بن سليمان الواسطي، قالا: نا أبو نعيم، نا زمعة ابن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، قال: كان ابن رواحة مضطجعاً إلى جنب امرأته، فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة، فوقع عليها، وفزعت امرأته، فلم تجده في مضجعه، فقامت وخرجت، فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت، فأخذت الشفرة، فقال: مهيم؟ فقالت: مهيم! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتيني؟ فقالت: رأيتك على الجارية. فقال: ما رأيتيني، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدنا القرآن، وهو جنب، قالت: فاقرأ، فقال: أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الفجر ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع فقالت: آمنت بالله، وكذبت البصر، ثم غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فضحك حتى رأيت نواجذه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ] إسناد القصة ضعيف، وفيه انقطاع، والشعر ثابت لعبد الله ابن رواحة من غير هذا الطريق] (¬2). قالوا: فهذه الأحاديث في منع الجنب صالحة للاحتجاج إما بنفسها، وأما بمجموعها، وكلها تدل على أن الجنب ليس له أن يقرأ القرآن. وأجيب: بأن أحاديث منع الجنب من قراءة القرآن كونها لا تأتي إلا من طريق ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 120). (¬2) سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (229).

دليل من قال: يجوز للجنب قراءة القرآن

الضعفاء، فانفرادهم بهذا الحكم مع حاجة الأمة إليه، يوجب في النفس ريبة من قبول هذا الحكم، فالحكم إذا كانت الأمة بحاجته، لا بد أن تأتي النصوص صحيحة صريحة تقوم بمثلها الحجة، وكما قلنا في أحاديث البسملة في الوضوء، وأحاديث تخليل اللحية في الوضوء نقوله هنا، والاعتبار بالحديث الضعيف ليس على إطلاقه، وقد حكم العلماء بأن البسملة بالوضوء لا يثبت فيها حديث، وكذلك أحاديث التخليل مع كثرة الشواهد في الباب، والله أعلم. دليل من قال: يجوز للجنب قراءة القرآن. الدليل الأول: الأصل عدم وجوب الغسل لقراءة القرآن، فمن أوجب الغسل لقراءة القرآن فعليه الدليل، وبالتالي فهذا القول لا يطالب بالدليل، وإنما يطالب بأن يجيب عن أدلة القائلين بالوجوب، وقد فعل فيما سبق، وهذا كاف في عدم وجوب الغسل من قراءة القرآن، ومع ذلك فسوف نلتمس دليلاً إيجابياً على صحة قراءة القرآن من الجنب، فيقال: أمر الله بتلاوة القرآن وتدبره، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (¬1). وقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (¬2). وهذا الأمر بالتدبر مطلق، فمن ادعى منع الجنب أو غيره كلف أن يأتي بالبرهان. ¬

(¬1) سورة ص: 29. (¬2) محمد: 24.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: لو كان الجنب ممنوعاً من قراءة القرآن لجاءت النصوص الصحيحة الصريحة بمنعه، كما جاء في منعه من الصلاة، فلما كانت الأحاديث الواردة لا تقوم بها حجة، وتدور على الضعفاء والمتروكين علم أن الشرع لا يمنع من ذلك؛ لأن كل شيء يحتاج إليه في الشرع، ويتكرر، وتكون حاجته عامة ليست مقصوة على فرد معين، لا بد أن تأتي النصوص فيه صحيحة صريحة واضحة تقوم بمثلها الحجة، قال سبحانه وتعالى: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم} (¬1). الدليل الثالث: (1252 - 125) ما رواه مسلم من طريق البهي، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬2). وجه الاستدلال: قال ابن حجر: الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف (¬3). فإذا كان لفظ الذكر يشمل قراءة القرآن، وكان لفظ الذكر مطلقاً في الحديث، فمن قيد الذكر بما عدا القرآن فعليه الدليل. وحاول أن يرده ابن رجب، فقال: ((ليس فيه دليل على جواز قراءة ¬

(¬1) التوبة: 115. (¬2) مسلم (117). (¬3) الفتح، تحت حديث (305).

الدليل الرابع

القرآن للجنب؛ لأن ذكر الله إذا أطلق لا يراد به القرآن)). وهذا غير صحيح؛ لأن قوله: ((الذكر إذا أطلق لا يراد به القرآن، هل يريد لا يراد به القرآن شرعاً، أم عرفاً، فإن كان يقصد العرف فمسلم، والعرف يختلف من قوم إلى قوم، ومن زمان إلى آخر، وأما في الشرع فإن القرآن كله يسمى الذكر، قال سبحانه وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (¬1)، وقال سبحانه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (¬2)، والآيات في هذا كثيرة، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة العرفية. الدليل الرابع: (1253 - 126) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمد بن عمرو ابن عباد بن جبلة حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا سعيد ابن حويرث، أنه سمع ابن عباس يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه طعام فأكل ولم يمس ماء. قال: وزادني عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث (¬3). (1254 = 127) ورواه عبد بن حميد كما في المنتخب، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عمرو بن دينار، عن ¬

(¬1) الحجر: 9. (¬2) النحل: 44. (¬3) مسلم (374).

الدليل الخامس

سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس. وفيه: «إنما أمرتم بالوضوء للصلاة». وسنده صحيح، وفيه التعبير بالحصر بـ (إنما). وجه الاستدلال: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أردت صلاة فأتوضأ» وقوله: «إنما أمرتم بالوضوء للصلاة» منطوقه: أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة، ومفهومه: أنه لا يجب الوضوء لغير الصلاة من قراءة القرآن للجنب والحائض وغيرهما. وقد استدل به ابن تيمية: على جواز الطواف من غير وضوء، فالباب واحد، فينبغي أن يستدل به على هذا الباب أيضاً، والله أعلم. الدليل الخامس: (1255 - 128) ما روى ابن المنذر من طريق عبيد بن عبيدة من بني عباب الناجي، قال: قرأ ابن عباس شيئاً من القرآن، وهو جنب، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما في جوفي أكثر من ذلك (¬1). [صحيح عن ابن عباس] (¬2). القول الراجح: بعد استعراض أدلة كل قول، نجد أن القول بجواز قراءة الجنب للقرآن أقوى حجة من القائلين باشتراط الطهارة من أجل القراءة، وهو مذهب ابن عباس رحمه الله تعالى، والله أعلم. ¬

(¬1) الأوسط (2/ 98). (¬2) سبق تخريجه، انظر كتاب الحيض والنفاس (233).

الفصل الخامس في مس الجنب للمصحف

الفصل الخامس في مس الجنب للمصحف اختلف العلماء في مس الجنب للمصحف، فقيل: تشترط له الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). واختيار ابن تيمية (¬2). وقيل: يجوز للجنب أن يمس المصحف، وهو مذهب ابن حزم رحمه الله (¬3). وقد ناقشت هذه المسألة مناقشة مستفيضة في كتابي الحيض والنفاس وكتبت فيها في أكثر من أربعين صفحة، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 168)، تبيين الحقائق (1/ 57ـ58)، البحر الرائق (1/ 211)، بدائع الصنائع (1/ 33، 34)، مراقي الفلاح (ص: 60). وانظر في مذهب المالكية مختصر خليل (ص:14)، الخرشي (1/ 160)، حاشية الدسوقي (1/ 125)، الكافي (ص: 24)، مواهب الجليل (1/ 303)، منح الجليل (1/ 117،118)، القوانين الفقهية (ص: 25)، الشرح الصغير (1/ 149)، وانظر في مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/ 36)، روضة الطالبين (1/ 79)، المجموع (2/ 77)، الحاوي الكبير (1/ 143ـ145). وانظر في مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 134)، المحرر (1/ 16)، شرح منتهى الإاردات (1/ 77) الإنصاف (1/ 222) المغني (1/ 202) الفروع (1/ 188) الكافي (1/ 48). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 266). (¬3) قال ابن حزم في المحلى (1/ 97): " وأما مس المصحف، فإن الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه، فإنه لا يصح منها شيء; لأنها إما مرسلة، وإما صحيفة لا تسند، وإما عن مجهول، وإما عن ضعيف ... الخ كلامه رحمه الله تعالى.

الفصل السادس في صيام الجنب

الفصل السادس في صيام الجنب اختلف العلماء في الرجل يجامع أهله قبل الفجر، ثم يطلع عليه الفجر، وهو جنب، هل يصح صومه، أو يلزمه الغسل قبل طلوع الفجر؟ فقيل: يصح صوم الجنب مطلقاً، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: لا يصح صومه مطلقاً، وهو مروي عن أبي هريرة، وسالم بن عبد الله، والحسن البصري (¬2). وقيل: إن أخر الاغتسال لغير عذر بطل صومه. وهو قول عروة بن الزبير (¬3). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (3/ 56)، بدائع الصنائع (2/ 92)، وفي مذهب المالكية انظر: المنتقى للباجي (2/ 43)، تفسير القرطبي (2/ 326)، التمهيد (17/ 424). وفي مذهب الشافعية: الأم (2/ 97)، المهذب (1/ 181 - 182)، المجموع (6/ 327)، الوسيط (2/ 537)، مغني المحتاج (1/ 436). وفي مذهب الحنابلة: المغني (3/ 36)، الكافي في فقه أحمد (1/ 350)، شرح العمدة (1/ 458). (¬2) نقل النووي في المجموع (6/ 327) عن ابن المنذر قوله: " وقال سالم بن عبد الله: لا يصح صومه - يعني فيمن أصبح جنباً - قال: وهو الأشهر عن أبي هريرة والحسن البصري". وفي حلية العلماء (3/ 160): وحكي عن أبي هريرة وسالم بن عبد الله رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا أصبح جنباً بطل صومه، ويلزمه إمساك بقية النهار، ويقضي يوماً مكانه. اهـ وانظر المغني (3/ 36)، ويحكى أن أبا هريرة رجع عن رأيه، انظر طرح التثريب (4/ 124). (¬3) حلية العلماء (3/ 160)، طرح التثريب (4/ 123).

دليل الجمهور على صحة صوم الجنب

وقيل: يصح في النفل دون الفرض، وهو قول إبراهيم النخعي (¬1). دليل الجمهور على صحة صوم الجنب. الدليل الأول: قال تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} (¬2). وجه الاستدلال: دلت الآية على إباحة الوقاع في كل أجزاء الليل إلى طلوع الفجر، ويفهم منه إباحة الإصباح جنباً في حالة الصوم؛ لأن إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، يستلزم أن يطلع عليه الفجر، وهو جنب. وهذه إشارة لطيفة من النص القرآني على صحة صوم الجنب. الدليل الثاني: (1256 - 129) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن عروة وأبي بكر، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدركه الفجر في رمضان من غير حلم، فيغتسل ويصوم، ورواه مسلم (¬3). ¬

(¬1) المجموع (6/ 327). (¬2) البقرة: 187. (¬3) البخاري (1930)، ومسلم (1109).

الدليل الثالث

وفي رواية للبخاري: «كان يدركه الفجر، وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم» (¬1). وجه الاستدلال: يؤخذ من الحديث فائدتان: الأولى: أنه كان يجامع في رمضان، ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بياناً للجواز. الثانية: أن ذلك كان من جماع، لا من احتلام (¬2). الدليل الثالث: (1257 - 130) ما رواه مسلم، من طريق أبي بكر (يعني ابن الحارث) حدثه، أن مروان أرسله إلى أم سلمة رضي الله عنها يسأل، عن الرجل يصبح جنبا أيصوم؟ فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من جماع لا من حلم، ثم لا يفطر، ولا يقضي. وهو في البخاري (¬3). وجه الاستدلال من الحديث كالذي قبله. دليل من قال: لا يصح صوم الجنب. الدليل الأول: (1258 - 131) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: ¬

(¬1) البخاري (1926). (¬2) فتح الباري تحت رقم (1926). (¬3) صحيح مسلم (1109)، وانظر البخاري (1931، 1925).

هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نودي للصلاة، صلاة الصبح وأحدكم جنب، فلا يصم يومئذ (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 314). (¬2) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن حبان (3485)، وعلقه البخاري بإثر حديث (1926) من طريق همام وابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالفطر. وأخرجه النسائي في الكبرى (2925) من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، أنه احتلم ليلاً في رمضان، فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر، ثم نام قبل أن يغتسل، فلم يستيقظ حتى أصبح، قال: فلقيت أبا هريرة حين أصبحت، فاستفتيته في ذلك، فقال: أفطر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان يأمر بالفطر إذا أصبح الرجل جنباً. قال عبد الله بن عبد الله: فجئت عبد الله بن عمر، فذكرت له الذي أفتاني به أبو هريرة، فقال: أقسم بالله لئت أفطرت لأوجعن شبيبتك، صم فإن بدا لك أن تصوم يوماً آخر، فافعل. وخالف عقيل بن خالد، شعيب بن أبي حمزة، فأخرجه النسائي في الكبرى (2926) من طريق الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة بلفظه. وعبد الله وعبيد الله كلاهما ثقة، وسواء كان هذا الراجح أو ذاك، فالإسناد صحيح، قال ابن عبد البر في التمهيد (17/ 422): وعبد الله وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر ثقتان. اهـ ورواه أحمد (2/ 248) قال: سفيان، عن عمرو، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو القاري قال: سمعت أبا هريرة يقول لا ورب هذا البيت ما أنا قلت: من أصبح جنبا فلا يصوم، محمد ورب البيت قاله، ما أنا نهيت عن صيام يوم الجمعة، محمد نهى عنه ورب البيت. وعبد الله بن عمرو القارئ، لم يرو عنه فيما يظهر إلا يحيى بن جعدة، وذكره ابن سعد، وقال: كان قليل الحديث كما في الطبقات (5/ 482). وأخرجه الحميدي (1018)، وابن ماجه (1702) والنسائي في الكبرى (2744) وابن خزيمة (3/ 314 - 315)، وابن حبان (3609)، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (393) من طريق سفيان بن عيينة به. =

وقد وقف العلماء من حديث عائشة وأم سلمة، ومن حديث أبي هريرة إما موقف الترجيح أو موقف الجمع، أو القول بالنسخ، فأما موقف الترجيح فمن وجوه: الأول: أن حديث عائشة موافق لحديث أم سلمة، ورواية الاثنين تقدم على رواية الواحد، لا سيما وهما زوجتان، وهما أعلم بذلك من غيرهما من الرجال. الوجه الثاني: أن حديث عائشة وحديث أم سلمة موافقان للقرآن، وذلك أن الله سبحانه وتعالى في آية البقرة أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر، ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزم منه أن يصبح جنباً، وصيامه صحيح. الوجه الثالث: أن حديث عائشة وأم سلمة موافقان للنظر، وهو أن المحرم هو الجماع في وقت الصيام، وأما كون حكم الجنابة باقياً عليه في وقت الصيام فهذا لا يحرم عليه، فقد يحتلم بالنهار ويجب عليه الغسل، ولا يغتسل مباشرة بل يبقى ساعات كثيرة بالنهار، وهو جنب، ولا يفسد صومه بالإجماع، ولا يجب عليه الغسل إلا عند القيام إلى الصلاة، فكذلك إذا احتلم ¬

_ = وأخرجه أحمد (2/ 286) حدثنا محمد بن بكر البرساني، أخبرني ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، أخبره عن عبد الرحمن بن عمرو القارئ، عن أبي هريرة به. وقرنه برواية عبد الرزاق، عن ابن جريج إلا أن عبد الرزاق قال: عن عبد الله بن عمرو القارئ كما هي رواية سفيان المتقدمة، وهي أرجح. وقد أخطأ أبو محمد بن بكر البرساني في قوله: عبد الرحمن، وإنما هو عبد الله. انظر أطراف المسند (7/ 331)، إتحاف المهرة (19027)، التحفة (13583، 13585).

ليلاً، ثم بقي ساعات جنباً وهو صائم، بل هو من باب أولى، وإنما يمنع الصائم من تعمد الجماع نهاراً، وهو شبيه بمن يمنع من التطيب، وهو محرم، لكن لو تطيب، وهو حلال، ثم أحرم فبقي عليه لونه أو ريحه لم يحرم ذلك عليه. الوجه الرابع: إن أبا هريرة قد رجع عن قوله حين بلغه حديث عائشة وأم سلمة، فهذا يدل على أن أبا هريرة رضي الله عنه قد رجح حديث عائشة وأم سلمة على ما سمعه من الفضل بن عباس، (1259 - 132) فقد روى مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي بكر، قال: سمعت أبا هريرة يقص، يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنباً فلا يصم، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث (لأبيه) فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً من غير حلم، ثم يصوم، قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول، قال: فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله، قال: فذكر له عبد الرحمن، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم، قال: هما أعلم، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن عباس، فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك (¬1). ¬

(¬1) مسلم (1109).

ورواه أحمد من طريق شعبة، عن الحكم عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه به، وفيه: قال أبو هريرة: عائشة إذن أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [إسناده صحيح] (¬1). (1260 - 133) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب، أن أبا هريرة رجع عن فتياه من أصبح جنباً فلا صوم له (¬2). ورجاله ثقات إلا أن رواية قتادة عن سعيد بن المسيب فيها كلام (¬3). ¬

(¬1) المسند (6/ 99) وسنده صحيح، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (300) من طريق محمد بن جعفر به. وأخرجه إسحاق بن راهوية (1085) عن وهب بن جرير والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 103) من طريق أبي داود وروح، كلاهما عن شعبة به. ورواه أبو داود الطيالسي (1503) عن شعبة به، دون ذكر قصة أبي هريرة. (¬2) المصنف (2/ 330) رقم 9581. ورواه البيهقي (4/ 215) من طريق عبد الوهاب ابن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة به. (¬3) جاء في تهذيب التهذيب في ترجمة قتادة (8/ 318): " قال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن: سمعت علي بن المديني يضعف أحاديث قتادة، عن سعيد بن المسيب تضعيفاً شديداً، وقال: أحسب أن أكثرها بين قتادة وسعيد فيها رجال". وفي جامع التحصيل للعلائي (ص: 255): " قال أحمد بن حنبل: أحاديث قتادة، عن سعيد بن المسيب، ما أدري كيف هي؟ قد أدخل بينه وبين سعيد نحواً من عشرة رجال لا يعرفون ". =

(1261 - 143) وأخرج النسائي في الكبرى (¬1)، من طريق عبد الله بن المبارك، عن ابن أبي ذئب، عن سليمان بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أخيه محمد، ¬

= قلت: ولعل هذا الكلام إما أن يراد به الحكم على غالب حديث قتادة عن سعيد، أو على أحاديث بعينها؛ لأن الشيخين قد أخرجا أحاديث لقتادة، عن سعيد بن المسيب، منها على سبيل المثال: ما أخرجه البخاري (1292) ومسلم (927) من طريق شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن عمر مرفوعاً الميت يعذب في قبره بما نيح عليه. كما روى له مسلم أيضاً (1198) من طريق شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة مرفوعاً: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم. وهو في البخاري من غير هذا الطريق. وأخرج له البخاري (2621) ومسلم (1622) من طريق شعبة، عن قتادة، عن سعيد ابن المسيب، عن ابن عباس مرفوعاً في العائد في هبته كالعائد في قيئه. وأخرجه له البخاري (4162) ومسلم (1859) من طريق شعبة، عن قتادة، عن سعيد ابن المسيب، عن أبيه، قال: لقد رأيت الشجرة، ثم أتيتها بعد فلم أعرفها. وأنت تلحظ أن هذه الأحاديث جاءت من طريق شعبة، عن قتادة، وشعبة لا يروي عن قتادة إلا ما صرح فيه بالتحديث كما هو معلوم لطلبة أهل العلم بالحديث. وأخرج له مسلم أيضاً (2127) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن معاوية في قصة الشعر ... وقد أخرجه البخاري من غير هذا الطريق (3468). وأخرج له البخاري (4153) من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن جابر في عدد الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية. ورواه مسلم أيضاً لكن من غير هذا الطريق. فهذه الأحاديث تدل على أن كلام ابن المديني والإمام أحمد رحمهما الله تعالى ليس على إطلاقه، فتأمل، والله أعلم. (¬1) السنن الكبرى (2928).

أنه كان يسمع أبا هريرة يقول: من احتلم من الليل أو واقع أهله، ثم أدركه الفجر، ولم يغتسل، فلا يصوم، قال: ثم سمعته نزع عن ذلك. [إسناده فيه لين] (¬1). فيكفي في التصريح بالرجوع من أبي هريرة بما ورد في صحيح مسلم، وسقته في أول الاستدلال على رجوع أبي هريرة، وبما رواه أحمد من طريق شعبة، عن الحكم، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عائشة وأم سلمة في صحة صيام الجنب، وإخبار عبد الرحمن لأبي هريرة بما قالتاه، وشهادة أبي هريرة بأن أمهات المؤمنين أعلم. (1262 - 135) وأما ما رواه أحمد (¬2)، عن علي بن عاصم، عن خالد، عن أبي قلابة، عن عبد الرحمن بن عتاب، قال: كان أبو هريرة يقول: من أصبح جنباً فلا صوم له، قال: فأرسلني مروان بن الحكم أنا ورجل آخر إلى عائشة وأم سلمة، وفيه: فقال مروان لعبد الرحمن: أخبر أبا هريرة بما قالتا، فقال: أبو هريرة: كذا كنت أحسب، وكذا كنت أظن. قال: فقال له مروان: بأظن وبأحسب تفتي الناس! [فإسناده ضعيف، ومتنه منكر] (¬3). ¬

(¬1) في إسناده سليمان بن عبد الرحمن بن ثوبان، لم يرو عنه إلا ابن أبي ذئب، ولم يوثقه إلا ابن حبان، ولذلك قال عنه الحافظ في التقريب: مقبول، يعني حيث يتابع، وإلا فلين الحديث. ولم يرو له أحد من أصحاب الكتب الستة إلا النسائي روى له هذا الحديث فقط، والله أعلم. (¬2) المسند (6/ 184). (¬3) انفرد علي بن عاصم الواسطي بذكر عبد الرحمن بن عتاب، والحديث في الصحيحين، من طريق عبد الرحمن بن الحارث، عن أبي هريرة، وعن عبد الرحمن بن الحارث =

(1263 - 136) وأما ما رواه ابن عبد البر من طريق عمر بن قيس، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة أنه قال: كنت حدثتكم: من أصبح جنباً فقد أفطر، فإنما ذلك من كيس أبي هريرة، فمن أصبح جنباً فلا بفطر (¬1). [فإسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

= عن عائشة وأم سلمة. وعبد الرحمن بن عتاب لم أقف له على ترجمة، ولا تحتمل تعدد القصة، فإنما هي قصة واحدة. ثانياً قد رواه الثقات عن أبي قلابة، عن عائشة، وعن أبي قلابة عن أم سلمة، وكلاهما منقطع، لم يسمع أبو قلابة منهما. وهو أرجح من طريق علي بن عاصم، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عبد الرحمن بن عتاب، عن عائشة وأم سلمة. فقد رواه عبد الوهاب بن عطاء، واختلف عليه فيه: فرواه النسائي في السنن الكبرى (2939،2940) من طريق محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن عبد الوهاب، قال: وحدثنا وذكر خالد، عن أبي قلابة، عن عبد الرحمن بن الحارث، أنا أبا هريرة كان يقول: وفي آخره: قال أبو هريرة: هكذا كنت أحسب. قال النسائي: واللفظ لابن المثنى. قال النسائي: وأرسله خالد بن عبد الله وعبد العزيز بن المختار. فرواه النسائي في الكبرى (2944) من طريق محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أم سلمة .. ورواه النسائي (2941) من طريق خالد بن عبد الله الواسطي. وأخرجه أيضاً (2942) من طريق عبد العزيز بن المختار، كلاهما عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عائشة .. وأخرجه النسائي في الكبرى (2943) من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وكل هذه الأسانيد منقطعة كما أسلفت، وليس في هذه الأسانيد ذكر لأبي هريرة، وإنما فيه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً من غير احتلام ثم يتم صومه. (¬1) التمهيد (22/ 44). (¬2) في إسناده عمر بن قيس، متروك الحديث، انظر الجرح والتعديل (6/ 129)، وقال =

الوجه الخامس: من وجوه الترجيح ما ذكره البخاري في صحيحه، بعد أن أخرج حديث عائشة وأم سلمة، ثم ساق بعده ما يعارضه معلقاً، قال البخاري: قال همام وابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالفطر. قال البخاري: والأول أسند، يعني: حديث عائشة وأم سلمة. ومقصود البخاري بقوله: والأول أسند، أي أكثر طرقاً إلى عائشة وأم سلمة، قال الحافظ: والذي يظهر لي أن مراد البخاري أن الرواية الأولى: أقوى إسناداً، وهي من حيث الرجحان كذلك؛ لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاءا عنهما من طرق كثيرة جداً بمعنى واحد، حتى قال ابن عبد البر: إنه صح وتواتر، وأما أبو هريرة فأكثر الروايات عنه أن كان يفتي به، وجاء عنه من طريق هذين (يعني همام وابن عبد الله بن عمر) أنه كان يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك وقع في رواية معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره .. أخرجه عبد الرزاق. وللنسائي من طريق عكرمة بن خالد، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال: بلغ مروان أنا أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..... فذكره، وله من طريق المقبري، قال: بعثت عائشة إلى أبي هريرة لا تحدث بهذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأحمد من طريق عبد الله بن عمرو القارئ، سمعت أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت، ما أنا قلت: من أدرك الصبح، وهو جنب فلا يصم، محمد ¬

_ = الحافظ في الفتح تحت حديث (1926): وأما ما أخرجه ابن عبد البر من رواية عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة ... وذكر الأثر. قال الحافظ: فلا يصح ذلك عن أبي هريرة؛ لأنه من رواية عمر ابن قيس، وهو متروك. اهـ

ورب الكعبة قاله. اهـ نقلاً من الفتح (¬1). وقد سبق تخريج كل هذه الطرق عند ذكر أثر أبي هريرة رضي الله عنه. وأما طريقة من سلك مسلك الجمع، فله في الجمع أقوال: الأول: قال بعضهم: إن حديث أبي هريرة إرشاد إلى الأفضل، فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز. قال النووي: وهذا مذهب أصحابنا، وجوابهم عن الحديث، فإن قيل: كيف يكون الاغتسال قبل الفجر أفضل، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه؟ فالجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله لبيان الجواز، ويكون في حقه حينئذ أفضل؛ لأنه يتضمن البيان للناس، وهو مأمور بالبيان، وهذا كما توضأ مرة مرة في بعض الأوقات بياناً للجواز، ومعلوم أن الثلاث أفضل، وطاف على البعير، ومعلوم أن الطواف ساعياً أفضل (¬2). وهذا الجواب غير ظاهر، فلا يمكن حمل حديث أبي هريرة على فعل الأفضل وقد وقع التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر لمن أصبح جنباً، وبالنهي عن الصيام لمن أصبح وهو جنب. القول الثاني في الجمع: قال بعضهم: إن حديث عائشة وأم سلمة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث أبي هريرة في حق أمته، فلا تعارض، فيكون من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - كونه يصبح جنباً، وهو صائم، ولا يجوز هذا الفعل لأمته عليه الصلاة والسلام. ¬

(¬1) تحت حديث رقم (1926). (¬2) شرح النووي لصحيح مسلم، تحت حديث (1109).

وهذا القول ضعيف؛ لأن خصائص النبي لا تثبت إلا بدليل صريح على أن هذا الحكم خاص به، وإلا فالأصل التأسي به - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬1). وقد ورد دليل صريح بأن هذا الحكم ليس خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، (1264 - 137) فقد روى مسلم من طريق أبي يونس مولى عائشة، عن عائشة أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة، وأنا جنب، أفأصوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب، فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي (¬2). القول الثالث في الجمع: قال بعضهم: لعل حديث أبي هريرة محمول على من أدركه الفجر مجامعاً، فاستدام بعد طلوع الفجر عالماً فإنه يفطر، ولا صوم له (¬3). (1265 - 138) قال الحافظ ابن حجر: ويعكر عليه ما رواه النسائي من طريق أبي حازم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، أنا أبا هريرة كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه، ولم يغتسل حتى ¬

(¬1) الأحزاب: 21. (¬2) مسلم (1110). (¬3) ذكره النووي في شرحه لصحيح مسلم تحت حديث رقم (1109).

دليل من فرق بين الفرض والنفل أو بين المعذور وغير المعذور

أصبح فلا يصوم (¬1). إسناده صحيح. وأما وجه من اتبع طريقة النسخ، فقال البيهقي: «وروينا عن أبي بكر ابن المنذر أنه قال: أحسن ما سمعت في هذا، أن يكون ذلك محمولاً على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرماً على الصائم في الليل بعد النوم، كالطعام والشراب، فلما أباح الله عز وجل الجماع إلى طلوع الفجر، جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم؛ لارتفاع الحظر، فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن عباس على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه» (¬2). قال ابن حجر: «ويقويه أن في حديث عائشة هذا الأخير ما يشعر بأن ذلك كان بعد الحديبية، لقوله فيها: ((قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر» وأشار إلى آية الفتح، وهي إنما نزلت عام الحديبية، سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، وإلى دعوى النسخ ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد)) (¬3). دليل من فرق بين الفرض والنفل أو بين المعذور وغير المعذور. هذان القولان هما من وجوه الجمع بين حديث أبي هريرة، وبين حديث عائشة وأم سلمة، فحمل حديث أبي هريرة على الفرض، وحمل حديث عائشة وأم سلمة على النفل. ¬

(¬1) ذكره الحافظ في الفتح تحت رقم (1926)، وقد رواه النسائي في السنن الكبرى (2933). (¬2) سنن البيهقي (4/ 215). (¬3) فتح الباري تحت رقم (1926).

الراجح من خلاف أهل العلم

أو حمل حديث أبي هريرة على غير المعذور، وحمل حديث عائشة وأم سلمة على المعذور، ومن سلك طريق الجمع لم ير حديث أبي هريرة غلطاً، أو منسوخاً، وإنما رأى أن هناك دليلين ظاهرهما التعارض، فحاول الجمع، وما زال بعض التابعين لا يرون أن أبا هريرة رجع عن حديثه. ولذلك قال الترمذي في سننه: حديث عائشة وأم سلمة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، ثم قال: وقد قال قوم من التابعين: إذا أصبح جنباً يقضي ذلك اليوم، والقول الأول أصح (¬1). فهنا الترمذي يرى أن هناك قوماً من التابعين يأخذون بحديث أبي هريرة. (1266 - 139) وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيبيت الرجل جنباً في شهر رمضان حتى يصبح، يتعمد ذلك، ثم يصوم؟ قال: أما أبو هريرة فكان ينهى عن ذلك، وأما عائشة فكانت تقول: ليس بذلك بأس، فلما اختلفا على عطاء، قال: يتم يومه ذلك، ويبدل يوماً (¬2). [وإسناده صحيح عن عطاء]. الراجح من خلاف أهل العلم. بعد استعراض أدلة الأقوال نرى أن استصحاب حكم الجنابة لا يؤثر على الصيام، وقد دللنا على ذلك أثراً ونظراً، وهذا القول قد رأى بعضهم أن الإجماع انعقد عليه عند المتأخرين، قال النووي: ((وأما حكم المسألة فقد أجمع ¬

(¬1) سنن الترمذي (779). (¬2) المصنف (7400).

أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب، سواء كان من احتلام أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين)) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: «وقد بقي على مقالة أبي هريرة بعض التابعين كما نقله الترمذي، ثم ارتفع ذلك الخلاف، واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النوووي، وأما ابن دقيق العيد، فقال: صار ذلك إجماعاً أو كالإجماع» (¬2). وهل ينعقد الإجماع بعد ثبوت الخلاف عند الصحابة والتابعين، هذه مسألة خلافية عند أهل الأصول، ليس هذا موضع تحريرها، فلعل الله أن ييسر لأكتب في هذه المسألة بحثاً مستقلاً إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم تحت رقم (1109). (¬2) الفتح تحت رقم (1926).

مبحث في الحائض والنفساء تطهر قبل الفجر ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح

مبحث في الحائض والنفساء تطهر قبل الفجر ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح إذا طهرت المرأة من الحيض ليلاً، ونوت الصيام، وأخرت الغسل إلى طلوع الفجر، فهل يصح صومها ذلك اليوم؟ اختلف العلماء في ذلك: فقيل: إن طهرت قبل الفجر بوقت يتسع فيه للغسل، فلم تغتسل حتى طلع الفجر أجزأها، وإن كان الوقت ضيقاً، لا يتسع للغسل، لم يصح صومها (¬1). وهذا مذهب الحنفية، واختاره من المالكية عبد الملك، ومحمد بن مسلمة (¬2). ¬

(¬1) إلا أن الحنفية يستثنون ما لو كان حيضها أكثر الحيض عندهم (عشرة أيام)، أو كان نفاسها أكثر النفاس عندهم (أربعون يوماً) ففي هذه الحالة إذا طهرت قبل الفجر صح صومها إذا أمكنها أن تنوي، ولو لم تدرك من الوقت ما يتسع للغسل. ووجهه: أن المرأة إذا طهرت لأكثر الحيض أو النفاس فإنها تخرج من الحيض والنفاس بمجرد انقطاع الدم، أما إذا انقطع الحيض لدون عشرة أيام، أو انقطع النفاس لدون أربعين يوماً، فإن مدة الاغتسال محسوبة من الحيض والنفاس، فلا بد أن تدرك من الليل ما يتسع فيه للاغتسال ". انظر بدائع الصنائع (2/ 89) وقال في شرح فتح القدير (1/ 171): " واعلم أن مدة الاغتسال معتبرة من الحيض في الانقطاع لأقل من العشرة، وإن كان تمام عادتها، بخلاف الانقطاع للعشرة " اهـ. (¬2) انظر المعونة على مذهب مالك (1/ 481)، التفريع (1/ 308، 309)، الجامع =

وقيل: صيامها صحيح، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يباح الصيام مطلقاً حتى تغتسل، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2)، وحكي قولاً للأوزاعي (¬3). وسبب الخلاف في هذه المسألة، اختلافهم فيها: هل هي مقيسة على من أجنب من الليل، ثم طلع عليه الفجر ولم يغتسل، أو لا؟ فمن رأى أن الحيض حدث يمنع من الصيام لم يجر القياس. ومن رأى أن الحائض إذا طهرت من الدم أصبحت كالجنب بجامع أن ¬

= لأحكام القرآن ـ القرطبي (2/ 326)، والموجود في تفسير القرطبي منسوباً لعبد الملك بأنه إذا طهرت قبل الفجر، ولم تغتسل فإن يومها يوم فطر مطلقاً، بينما الموجود في التفريع التفصيل: إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الاغتسال ففرطت، فلم تغتسل حتى أصبحت، لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقاً لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها، وقد أشار إلى مثل ذلك القرطبي رحمه الله. (¬1) المدونة (1/ 207) وفيه: " وسألت مالكاً عن المرأة ترى الطهر في آخر ليلتها من رمضان، قال: إن رأته قبل الفجر اغتسلت بعد الفجر، وصيامها مجزئ عنها ". وقال الخرشي (2/ 247): يجب الصوم على من رأت علامة الطهر قبل الفجر، وإن كان ذلك بلحظة، ولو لم تغتسل إلا بعد الفجر، بل ولو لم تغتسل أصلاً، فقوله في المدونة: "فاغتسلت " لامفهوم له؛ لأن الطهارة ليست شرطاً فيه، بخلاف الصلاة ... . " الخ كلامه رحمه الله. وانظر مختصر خليل (ص: 71)، والمعونة على مذهب مالك (1/ 481)، التفريع (1/ 308،309)، الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي (2/ 326) ونسبه قولاً للجمهور. وقال ابن المنذر في الإقناع (1/ 194): " وإذا أصبح المرء جنباً، أو كانت امرأة حائضاً فطهرت آخر الليل، ثم أصبحا صائمين يغتسلان " أي وصيامهما صحيح. (¬2) الإنصاف (1/ 349) المبدع (1/ 262). (¬3) الجامع لأحكام القرآن (2/ 326). ونسبه ابن قدامة في المغني (4/ 393) قولاً للأوزاعي، والحسن بن حيّ، وعبد الملك بن الماجشون، والعنبري ".

كلاً منهما يملك أن يرفع حدثه متى شاء، فالحائض عندما انقطع دمها قد طهرت من الخبث، وبقيت طهارتها من الحدث، فأصبح حدثها بعد انقطاع دمها لا يوجب إلا الغسل، كالجنب تماماً، وصفة الغسل في الجنابة والحيض واحدة، أجرى القياس، فصحح صيام الحائض إذا طهرت من الليل ولم تغتسل إلا بعد طلوع الصبح. وهناك من رأى أنه يشترط أن تدرك من الوقت زمناً يتسع للغسل، حتى يكون الصيام واجباً في ذمتها، فإن كان الوقت ضيقاً، لا تدرك فيه الغسل، لم يصح صومها، ويومها يوم فطر، ويخرج الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في من طهرت قبل خروج وقت الصلاة، هل يشترط أن تدرك من الوقت زمناً يتسع للغسل حتى تكون الصلاة واجبة في ذمتها، أو يكفي أن تدرك من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام، أو مقدار ركعة، على الخلاف المعروف ولا مدخل فيه لوقت الغسل. وقد ذكرنا أدلة هذه الأقوال بشيء من التفصيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودارية فأغنى عن إعادته هنا (¬1). ¬

(¬1) انظر كتاب الحيض والنفاس (2/ 685).

الفصل السابع في أذان وإقامة الجنب للصلاة

الفصل السابع في أذان وإقامة الجنب للصلاة المبحث الأول في أذان الجنب اختلف الفقهاء في أذان الجنب، فقيل: يكره أذانه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا بأس بذلك في غير المسجد، وهو قول في مذهب المالكية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). ¬

(¬1) قال في البحر الرائق (1/ 277): " أما أذان الجنب فمكروه رواية واحدة .. ". وقال في الفتاوى الهندية (1/ 54): " وكره إذان الجنب وإقامته باتفاق الروايات، والأشبه أن يعاد الأذان، ولا تعاد الإقامة .. ". وانظر تبيين الحقائق (1/ 93)، شرح فتح القدير (1/ 252). (¬2) قال في مواهب الجليل (1/ 435): " وهل يجوز أذان الجنب والصبي، في المذهب قولان ... ". وانظر الخرشي (1/ 232)، حاشية الدسوقي (1/ 195). (¬3) قال في الأم (1/ 85): " فإذا أذن، أو أقام، محدثاً، أو جنباً كره، وصح أذانه. والكراهة في الجنب أشد ". وانظر المجموع (3/ 113) الأم (1/ 85)، مغني المحتاج (1/ 138)، روضة الطالبين (1/ 313). (¬4) شرح منتهى الإرادات (1/ 82)، كشاف القناع (1/ 329)، الكافي (1/ 102). (¬5) النوادر والزيادات (1/ 167)، مواهب الجليل (1/ 435). (¬6) قال عنه صاحب الإنصاف (1/ 415): " وهو الصحيح من المذهب ".

دليل من قال: لا يصح الأذان إلا بطهارة

وقيل: إن أذن جنباً أعاد، وهو اختيار الخرقي من الحنابلة (¬1). دليل من قال: لا يصح الأذان إلا بطهارة. (1267 - 140) استدلوا: بما رواه البيهقي من طريق سلمة بن سليمان الضبي، ثنا صدقة بن عبيد الله المازني، ثنا الحارث بن عتبة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، قال: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر، ولا يؤذن إلا وهو قائم (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). الدليل الثاني: قالوا: إن للأذان شبهاً بالصلاة، وذلك أنهما يفتتحان بالتكبير، ويؤديان مع الاستقبال، ويختصان بالوقت، ولا يتكلم فيهما (¬4). ¬

(¬1) وقال أبو داود في مسائله لأحمد (198): سمعت أحمد سئل، يؤذن الجنب؟ قال: لا. وقال أحمد مثله في مسائل أحمد رواية ابنه صالح رقم (38). وقال فيها أيضاً (1038): يعجبني أن يتوقى. اهـ وقال في رواية ابن هانئ (188): لا يعجبني أن يؤذن الجنب. اهـ وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/ 322): " أكثر الرويات عن أحمد المنع من أذان الجنب، وتوقف عن الإعادة في بعضها، وصرح بعدم الإعادة في بعضها، وهو اختيار أكثر الأصحاب، وذكر جماعة عنه رواية بالإعادة، واختارها الخرقي ". (¬2) سنن البيهقي (1/ 392). (¬3) في إسناده سليمان بن سلمة الضبي، قال فيه ابن عدي: بصري، منكر الحديث عن الثقات، أظنه يكنى أبا هشام. ثم قال: ولم أر لسليمان كثير حديث. الكامل (3/ 332) ونقله الذهبي في المغني في الضعفاء (2537)، ولم يتعقبه بشيء. وقال النووي في المجموع (3/ 112): وهو موقوف مرسل؛ لأن أئمة الحديث متفقون على أن عبد الجبار لم يسمع من أبيه شيئاً، وقال جماعة منهم: إنما ولد بعد وفاة أبيه بستة أشهر. اهـ (¬4) العناية (1/ 252).

دليل من قال: يكره أذان الجنب

ويجاب عنه: بأن الجنابة أحد الحدثين، ولو كان الأذان صلاة، ما صح مع الحدث الأصغر، ولما أجزأ عندهم. الدليل الثالث: قالوا: إن الأذان يتطلب دخول المسجد، والجنب ممنوع من دخول المسجد. ويجاب: بأن هذه المسألة قد بحثت في فصل مستقل، وعُرِض فيها أقوال أهل العلم، فمنهم من منع مطلقاً، ومنهم من أباح المرور فيه بدون مكث، ومنهم من أجاز المكث بشرط الوضوء، وقد ترجح من خلال البحث جواز دخول الجنب للمسجد مطلقاً، فأغنى عن إعادته هنا. دليل من قال: يكره أذان الجنب. الدليل الأول: قالوا: قد ذهب بعض أهل العلم إلى أن أذان الجنب لا يصح، فخروجاً من الخلاف قلنا بالكراهة (¬1). والتعليل بالخلاف تعليل ضعيف، مع أنهم في هذه المسألة لم يخرجوا من الخلاف، بل زادوا منه لأمور: أولاً: أنتم لم تأتوا بقول يجمع بين القولين حتى يقال: قد وفقتم بين الخلاف، فلا أنتم قلتم بصحته بلا كراهة، ولا أنتم منعتم منه، فأنتم في الحقيقة ¬

(¬1) كشاف القناع (1/ 239)، الكافي (1/ 102).

أحدثتم قولاً ثالثاً في المسألة، لا بسبب دليل دعاكم إلى القول بهذا، ولكن الذي دعاكم إلى القول به، وجود قولين في المسألة، وبدلاً من أن يكون في المسألة قولان، أصبح فيها ثلاثة أقوال، فأصبح تعليلكم زاد من الخلاف، ولم تخرجوا منه. ثانياً: الكراهة حكم شرعي، يقوم على دليل شرعي، ووجود الخلاف ليس من أدلة الشرع المتفق عليها، ولا المختلف فيها حتى نعلل به الحكم الشرعي. ثالثاً: لو أخذنا بالخلاف كدليل أو تعليل للحكم الشرعي، للزم أن كل مسألة خلافية، نقول: إنها مكروهة، وهذا لا يقول به أحد، فالصحيح أن الخلاف قسمان: خلاف يكون ضعيفاً جداً، فهذا نطرحه ولا نبالي. وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلافاً له حظ من النظر وخلاف يكون قوياً، فتجد كل خلاف في المسألة له دليل قوي، وله حظ من النظر، فهنا ينظر: فإن أمكن الخروج من الخلاف، بحيث نأخذ بقول يجمع بين القولين، فهو جيد، ويكون من باب الاحتياط، وليس السبب وجود الخلاف، ولكن السبب تنازع الأدلة، فهو من باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وليس كل خلاف يمكن الخروج منه، فإن هناك أقوالاً متضادة لا يمكن الخروج من الخلاف فيها، وذلك مثل قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية، فهناك قول يقول: تجب قراءتها، وقول آخر يقول: تحرم قراءتها، فلا يمكن هنا في مثل هذه المسألة الخروج من خلاف أهل العلم، ولا بد من ترجيح أحد القولين لامتناع جمع هذين القولين في قول ثالث، والله أعلم.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: قالوا: إنه ذكر مشروع للصلاة يتقدمها أشبه الخطبة. قلت: القياس في العبادات ضعيف، ولا يصح إلا مع النص على العلة ووجودها في المقيس، وهذا لا يتأتى هنا، مع أن المقيس عليه، وهو الخطبة لا دليل فيها على كراهتها من الجنب. الدليل الثالث: قالوا: إن المؤذن يدعو الناس إلى التأهب للصلاة، فإذا لم يكن متأهباً لها دخل تحت قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (¬1). ويجاب: بأن الآية ليس هذا موضعاً لها، ولذا قال في آخر الآية: {أفلا تعقلون} والأذان من الجنب ليس منافياً للعقل، ثم إن الجنب سوف يصلي فلا يدخل تحت من يأمر الناس بشيء ولا يفعله، غاية ما فيه أنه سوف يذهب للغسل بعد الأذان، فهو كمن أذن، وهو محدث حدثاً أصغر، ثم ذهب يتوضأ بعد الأذان، ولا فرق إلا أن هذه طهارة لأربعة أعضاء، وهذه طهارة للبدن كله. دليل من قال: يصح الأذان من الجنب. قالوا: لم يأت نهي من كتاب الله، ولا من سنة رسول - صلى الله عليه وسلم - للجنب يمنعه من الأذان، وقد قال سبحانه وتعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} (¬2). ¬

(¬1) البقرة: 44. (¬2) الأنعام: 119.

القول الراجح

فصح أن كل ما لم يفصل لنا تحريمه، فهو مباح (¬1). الدليل الثاني: أن الأذان ذكر لله، والجنب لا يمنع من ذكر الله سبحانه وتعالى اتفاقاً في غير القرآن الكريم، فكذا لا يمنع من الأذان. القول الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بصحة أذان الجنب هو أقوى الأقوال، وذلك أن من منع أو كره أذان الجنب لم يأت بدليل صحيح صريح على ما ذهب إليه، والأصل عدم المنع، وإذا كنتم لا تمنعون الجنب من إجابة المؤذن، وهو سوف يقول مثل ما قال المؤذن، فكيف يمنع من الأذان، فلا فرق بينهما، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر المحلى (3/ 143).

المبحث الثاني في إقامة الجنب للصلاة

المبحث الثاني في إقامة الجنب للصلاة اختلف أهل العلم في إقامة الجنب للصلاة، فقيل: لا تصح الإقامة من الجنب، وهو مذهب المالكية (¬1)، وقول عطاء (¬2)، ومجاهد (¬3)، والأوزاعي (¬4)، وإسحاق (¬5). وقيل: تكره، وهو مذهب الحنفية (¬6)، والشافعية (¬7)، والحنابلة (¬8)، وقول في مذهب المالكية (¬9). ¬

(¬1) قال في المدونة (1/ 60): " يؤذن المؤذن، وهو على غير وضوء، ولا يقيم إلا على وضوء". وقال في الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 38): " ويجزئ الأذان على غير طهارة، ولا يقيم أحد إلى طاهراً .. ". (¬2) ذهب عطاء إلى كراهة أذان المحدث وإقامته، انظر المجموع (3/ 114)، ومصنف عبد الرزاق (1/ 465). (¬3) المجموع (3/ 114)، الأوسط (3/ 37). (¬4) المجموع (3/ 114)، عمدة القارئ (5/ 148). (¬5) المجموع (3/ 114). (¬6) المبسوط (1/ 131)، البحر الرائق (1/ 277)، الفتاوى الهندية (1/ 54)، حاشية بن عابدين (1/ 392). (¬7) المجموع (3/ 113)، روضة الطالبين (1/ 313). (¬8) الفروع (1/ 320)، كشاف القناع (1/ 239)، الروض المربع (1/ 125). (¬9) الخرشي (1/ 232)، مواهب الجليل (1/ 437).

وجه منع الجنب من إقامة الصلاة

وقيل: تصح الإقامة من الجنب بلا كراهة، وهو اختيار ابن حزم (¬1). وجه منع الجنب من إقامة الصلاة. كل الأدلة التي استدلوا بها على منع الجنب من الأذان، استدلوا بها هنا على منع الجنب من إقامة الصلاة، بل قالوا: إن الإقامة أشد في المنع من الأذان. وجه كراهة إقامة الجنب. أنه يلزم منه الخروج من المسجد بعد الأذان، ويترتب عليه فوات قدر من الصلاة، وفواته المكان الفاضل، ويلزم منه الفصل بين الإقامة والصلاة، وهي متصلة بها. وجه تصحيح إقامة الجنب. نفس الأدلة التي استدلوا بها على تصحيح أذان الجنب يستدل بها هنا على صحة إقامة الجنب، فلم يأت دليل من كتاب أو سنة يمنع من إقامة الجنب للصلاة، والتعاليل التي ذكروها لا تكفي في الكراهة الشرعية. الراجح: صحة إقامة الجنب، ولو قيل: إنها خلاف الأولى لم يبعد هذا القول، أما الجزم بالكراهة، فيفتقر إلى نهي من الشارع، ولم يثبت، والله أعلم. ¬

(¬1) المحلى (1/ 180) مسألة: 325,

الفصل الثامن في نوم الجنب

الفصل الثامن في نوم الجنب اتفق العلماء على جواز النوم للجنب قبل الاغتسال، واختلفوا في جواز النوم قبل الوضوء، فقيل: الوضوء قبل أن ينام أفضل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وإليه مال ¬

(¬1) قال في المبسوط (1/ 73)، ولا بأس للجنب أن ينام, أو يعاود أهله قبل أن يتوضأ؛ لحديث الأسود عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصيب من أهله, ثم ينام من غير أن يمس ماء، فإذا انتبه ربما عاود, وربما قام فاغتسل"، ثم قال: "وإن توضأ قبل أن ينام فهو أفضل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصاب من أهله، فتوضأ, ثم نام, وهذا لأن الاغتسال والوضوء محتاج إليه للصلاة لا للنوم والمعاودة، إلا أنه إذا توضأ ازداد نظافة فكان أفضل". اهـ وعبارة الفتاوى الهندية أن الوضوء حسن، قالوا (1/ 16): " ولا بأس للجنب أن ينام ويعاود أهله قبل أن يتوضأ، وإن توضأ فحسن " فهذه العبارة لا يؤخذ منها سنية الوضوء للجنب، كما لا يؤخذ منها استحباب الوضوء له، وإنما يدل على أن الوضوء من الفضائل فحسب. وانظر بدائع الصنائع (1/ 38). بينما الزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 3) اعتبر الوضوء للجنب عند إرادة النوم سنة. وفي شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 125) بعد أن ساق حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ينام وهو جنب، ولا يمس ماء. قال الطحاوي: فذهب قوم إلى هذا، وممن ذهب إليه أبو يوسف، فقالوا: لا نرى بأساً أن ينام الجنب من غير أن يتوضأ؛ لأن التوضئ لا يخرجه من حال الجنابة إلى حال الطهارة، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ينبغي له أن يتوضأ للصلاة قبل أن ينام ". فهذا ظاهره أن أبا يوسف لا يرى الوضوء للنوم من الجنب، لأنه جعل قول أبي يوسف في مقابلة قول من قال: ينبغي له أن يتوضأ " حيث قال الطحاوي: وخالف أبا يوسف =

ابن عبد البر رحمه الله (¬1). وقيل: يندب للجنب أن يتوضأ قبل أن ينام، هو مذهب المالكية (¬2)، ¬

= آخرون، فقالوا: ينبغي له أن يتوضأ، فمعنى ذلك أن قول أبي يوسف: أنه لا ينبغي للجنب أن يتوضأ، وهذا قول آخر في مذهب الحنفية. وقد فهم هذا الفهم أيضاً صاحب التاج والإكليل (1/ 145) من المالكية، فقال: " ونقل الطحاوي أن أبا يوسف ذهب إلى عدم الاستحباب، وتمسك بما رواه أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجنب، ثم ينام، ولا يمس ماء. " (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد (17/ 44): " وأولى الأمور عندي في هذا الباب، أن يكون الوضوء للجنب عند النوم كوضوء الصلاة حسناً مستحباً، فإن تركه فلا حرج؛ لأنه لا يرفع به حدثه، وإنما جعلته مستحباً، ولم أجعله سنة لتعارض الآثار فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلاف ألفاظ نقلته، ولا يثبت ما كانت هذه حاله سنة ". (¬2) في مذهب المالكية وقفت على ثلاثة أقوال: القول بأنه مندوب، وآخر بأنه مرغب فيه، أي من الفضائل، وثالث: بأنه واجب، ففي الشرح الصغير (1/ 176) اقتصر على القول بالندب فقط، وهو ما اختاره خليل في مختصره رحمه الله تعالى (ص: 17)، وتابعه عليه شراح المختصر، كما في حاشية الدسوقي (1/ 138)، وتأتي عبارته بعد قليل إن شاء الله تعالى. وجاء في شرح الزرقاني (1/ 143): " ذهب الجمهور إلى أنها للاستحباب - يعني وضوء الجنب للنوم - وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وذهب أهل الظاهر إلى وجوبه، وهو شذوذ ". وقال القاضي عياض في إكمال المعلم (2/ 142): ظاهر مذهب مالك أنه ليس بواجب، وإنما هو مرغب فيه ". وهذا يجعل الوضوء أقل من المندوب؛ لأن المستحب والمرغب فيه عند فقهاء المالكية يلحق بالفضائل، وليس بالسنن. وهناك قول بالوجوب عند المالكية، ونسب إلى مالك، ولكن أكثر أصحابه على عدم ثبوت هذا القول عن مالك، قال ابن العربي في العارضة كما في شرح الزرقاني (1/ 142): " قال مالك والشافعي: لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ، وأُنْكِر عليه؛ لأنهما لم يقولا بوجوبه، ولا يعرف عنهما ". =

وقيل: يكره أن ينام بدون وضوء، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬2)، واختيار ابن تيمية رحمه الله (¬3). وقيل: يجب عليه الوضوء إذا أراد أن ينام، اختاره ابن حبيب من ¬

= وقد قال الدسوقي في حاشيته (1/ 138): " لا خلاف في أن الجنب مأمور بالوضوء قبل النوم، وهل الأمر بذلك واجب أو ندب؟ في المذهب قولان ". وعبارة المدونة (1/ 30): " قال مالك: لا ينام الجنب حتى يتوضأ، ولا بأس أن يعاود أهله قبل أن يتوضأ، قال: ولا بأس أن يأكل قبل أن يتوضأ، قال: وأما الحائض فلا بأس أن تنام قبل أن تتوضأ، وليس الحائض في هذا بمنزلة الجنب. اهـ فنهى مالك الجنب أن ينام حتى يتوضأ، وجَوَّز أكل الجنب ومعاودته الوطء بدون وضوء، كما جوز النوم للحائض بدون وضوء، وقوله: ليس الحائض بمنزلة الجنب، فظاهر هذا الكلام أن مالك يرى وجوب الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام، فقول ابن العربي ليس بمستنكر، خاصة أن الدسوقي في حاشيته ذكر أن في المذهب المالكي قولين: الوجوب والندب، وممن قال بالوجوب من المالكية ابن حبيب، فيستغرب كيف يقول ابن عبد البر: إن القول بالوجوب شاذ، فيكفي أنه قد قال به اثنان من المالكية: ابن حبيب وابن العربي، وهو ظاهر عبارة الإمام في المدونة، أضف إلى ذلك، أن القول بالوجوب هو ظاهر السنة، حيث علق جواز النوم بشرط الوضوء، فجاء في الحديث: " أينام الجنب؟ قال: نعم إذا توضأ وسيأتي تخريجه في ذكر الأدلة إن شاء الله تعالى. (¬1) المهذب (1/ 30)، وقال النووي في المجموع (2/ 178): " ويكره للجنب أن ينام حتى يتوضأ ". وانظر: مغني المحتاج (1/ 63)، روضة الطالبين (1/ 87)، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/ 78)، الفتاوى الفقهية الكبرى للهيتمي (1/ 63). وفي إعانة الطالبين (1/ 79): ويحصل أصل السنة بغسل الفرج إن أراد نحو جماع أو نوم أو أكل أو شرب، وإلا كره. اهـ (¬2) قال في مطالب أولي النهى (1/ 185 - 186): " وكره تركه أي الوضوء لجنب لنوم فقط، أي دون الأكل والشرب ". اهـ وانظر كشاف القناع (1/ 158). (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 343).

دليل من قال: للجنب أن ينام دون أن يمس ماء

المالكية (¬1)، وهو مذهب الظاهرية (¬2). دليل من قال: للجنب أن ينام دون أن يمس ماء. الدليل الأول: (1268 - 141) ما رواه أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام، وهو جنب، ولا يمس ماء (¬3). [حديث معلول] (¬4). ¬

(¬1) انظر إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 142)، مواهب الجليل (1/ 316)، وسبق لنا أن هذا القول منسوب إلى مالك، وهو ظاهر عبارة المدونة، والله أعلم. (¬2) قال ابن عبد البر في التمهيد (17/ 44): وأما من أوجبه من أهل الظاهر، فلا معنى للاشتغال بقوله لشذوذه؛ ولأن الفرائض لا تثبت إلا بيقين". اهـ (¬3) المسند (6/ 146). (¬4) هكذا رواه أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة بلفظ: " دون أن يمس ماء ". وخالفه إبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن الأسود، فروياه عن الأسود، ولم يقولا: " دون أن يمس ماء " أما رواية إبراهيم النخعي، فرواها أبو داود الطيالسي (1384) حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً، فأراد أن ينام، أو يأكل توضأ. ومن طريق شعبة أخرجه أحمد (6/ 126) ومسلم (305) وأبو داود في السنن (224)، والنسائي (255)، وفي الكبرى (525، 253)، وابن ماجه (591)، والدارمي (2078)، وأبو عوانة (1/ 278)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 125)، وابن خزيمة (215)، والبيهقي في السنن (1/ 193، 202). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الطبراني في الأوسط (5203) من طريق ميمون، عن إبراهيم به. وأما رواية عبد الرحمن بن الأسود، عن الأسود، عن عائشة، فأخرجها أحمد (6/ 273) من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: سألتها، كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع، إذا كان هو جنب، وأراد أن ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كان يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم ينام. وهذا سند حسن، رجاله كلهم ثقات إلا ابن إسحاق، فإنه صدوق، ومن طريق ابن إسحاق أخرجه ابن راهوية في مسنده (1485)، والدارمي (757). وتابع حجاج بن أرطأة ابن إسحاق، وحجاج ضعيف، ويمشي في المتابعات، فقد أخرجه أحمد (6/ 224) حدثنا ابن نمير، قال: حدثنا حجاج، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجنب من الليل، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة حتى يصبح، ولا يمس ماء. وأخرجه أحمد (6/ 260) حدثنا سليمان بن حيان، حدثنا حجاج به. وهذا المتن وإن كان إسناده فيه مقال، إلا أنه يوضح الإشكال القائم في إسناد أبي إسحاق، وأن المقصود بقوله: " ولا يمس ماء " يعني به: ولا يغتسل، وليس معناه أنه لا يتوضأ، وبهذا ينتفي الإشكال لكن هذا يقال: لو كان إسناد الحديث صحيحاً، أما وقد انفرد به مثل حجاج، فهو ضعيف، ومتنه منكر؛ لتفرده بهذا اللفظ. كما أن الحديث رواه غير الأسود عن عائشة، في الصحيحين وفي غيرهما، موافقاً لرواية إبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن الأسود، عن الأسود، عن عائشة، ولم يذكروا ما ذكره أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، وسوف يأتي تخريجها إن شاء الله تعالى عند ذكر أدلة القائلين بوجوب الوضوء عند النوم. فاختلف العلماء هل الحديثان محفوظان؟ أعني لفظ حديث أبي إسحاق، عن الأسود، ولفظ إبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن الأسود عن الأسود أو أن أحدهما أرجح من الآخر؟ فذهب أكثر العلماء إلى ترجيح رواية إبراهيم، وعبد الرحمن بن الأسود، وأن رواية أبي إسحاق خطأ ووهم، ذهب إلى ذلك إمام أهل السنة أحمد رحمه الله، وشعبة، ومسلم، والثوري وأبو داود، والترمذي، ويزيد بن هارون، وأبو حاتم الرازي وغيرهم، فهؤلاء هم أدرى الناس بعلل بالحديث، ومن خالفهم في هذا الشأن فقد تكلف، وتكلم بما لا يعرف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال أبو داود في السنن (228) حدثنا الحسن بن علي الواسطي، قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: هذا الحديث وهم، يعني حديث أبي إسحاق. وجاء في كتاب العلل لابن أبي حاتم (1/ 49): سمعت أبي، وذكر حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة .... وذكر الحديث. فقال أبي: سمعت نصر بن علي، يقول: قال أبي: قال شعبة: قد سمعت حديث أبي إسحاق، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كا ينام جنباً، ولكني أتقيه ". وقال الترمذي بعد أن ذكر رواية أبي إسحاق: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب، ولا يمس ماء " قال: وقد روى غير واحد، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتوضأ قبل أن ينام. وهذا أصح من حديث أبي إسحاق عن الأسود، وقد روى عن أبي إسحاق هذا الحديث: شعبة، والثوري، وغير واحد، ويرون أن هذا غلط من أبي إسحاق ". اهـ كلام الترمذي. وقال الحافظ في تلخيص الحبير (187): " قال أحمد: إنه ليس بصحيح. وقال أبو داود: هو وهم ". ثم ذكر كلام يزيد بن هارون المتقدم، ثم قال الحافظ: "وأخرج مسلم الحديث دون قوله: " ولم يمس ماء " وكأنه حذفها عمداً؛ لأنه عللها في كتاب التمييز. وقال مهنأ، عن أحمد ابن صالح: لا يحل أن يروى هذا الحديث. وفي علل الأثرم: لو لم يخالف أبا إسحاق في هذا إلا إبراهيم النخعي وحده لكفى، فيكف وقد وافقه عبد الرحمن بن الأسود، وكذلك روى عروة وأبو سلمة عن عائشة. وقال ابن مفوز: أجمع المحدثون على أنه خطأ من أبي إسحاق ". وتعقبه الحافظ، فقال: "كذا قال، وتساهل في نقل الإجماع، فقد صححه البيهقي، وقال: إن أبا إسحاق قد بين سماعه من الأسود في رواية زهير عنه، ثم قال: وقال الدارقطني في العلل: يشبه أن يكون الخبران صحيحين، قاله بعض أهل العلم. وقال الترمذي: يرون أن هذا غلط من أبي إسحاق، وعلى تقدير صحته فيحمل على أن المراد: " لا يمس ماء " للغسل، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن أحمد بلفظ: "كان يجنب من الليل، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، حتى يصبح، ولا يمس ماء"، أو كان يفعل الأمرين لبيان الجواز، وبهذا جمع ابن قتيبة في اختلاف الحديث، ويؤيده ما رواه هشيم، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة، مثل رواية أبي إسحاق، عن الأسود، وما رواه ابن خزيمة في صحيحيهما، عن ابن عمر، أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أينام أحدنا، وهو جنب؟ قال: نعم، ويتوضأ إن شاء، وأصله في الصحيحين دون قوله: " إن شاء ". اهـ نقلاً من تلخيص الحبير. وزيادة " إن شاء " زيادة شاذة كما سيأتي تخريجها إن شاء الله تعالى ضمن أدلة هذا القول. قلت: والحق مع من ضعف هذا الحديث، وخلاف البيهقي لا يعارض به جهابذة أهل الحديث، كأحمد وأبي حاتم وشعبة والثوري وأبو داود والترمذي ويزيد بن هارون، وأحمد بن صالح، وغيرهم. وأما كلام الدارقطني، فهو مع أنه نقله عن بعض أهل العلم، فإنه مع ذلك ليس فيه جزم بصحة الحديث، وإنما قال: يشبه أن يكون الخبران صحيحين، فليس في هذا الكلام جزم بالصحة، والحديث الشاذ يشبه في إسناده إسناد الحديث الصحيح من جهة عدالة نقلته، إلا أن فقد شرطاً من شروط الحديث الصحيح، وهو سلامته من العلة القادحة. [تخريج رواية أبي إسحاق] الحديث يرويه جماعة عن عائشة، منهم الأسود كما في هذا الحديث، وقد رواه عن الأسود، عبد الرحمن بن الأسود وإبراهيم النخعي، وسبق تخريج روايتهما قبل قليل. ورواه أبو إسحاق السبيعي، عن الأسود، وانفرد بقوله: " دون أن يمس ماء " وقد علمت ما فيها، ويرويه جماعة عن أبي إسحاق، منهم: الأول: إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق به، أخرجه أحمد (6/ 146)، والنسائي في السنن الكبرى (9054)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 125) من طريق هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد به، وقد صرح هشيم بالتحديث عند الطحاوي، كما أن رواية النسائي ليس فيها قوله: " ولا يمس ماء ". الثاني: الأعمش، عن أبي إسحاق به. أخرجه أحمد (6/ 43) وإسحاق بن رواهوية (1518)، والترمذي (118)، والنسائي في الكبرى (9052) وابن ماجه (584)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 125) من طريق أبي بكر بن عياش، عن الأعمش به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 125) من طريق عبيد الله بن عمرو، عن الأعمش به. الثالث: سفيان الثوري، عن أبي إسحاق. أخرجه الطيالسي (1397)، وعبد الرزاق في المصنف (1082)، وأحمد (6/ 107)، وإسحاق بن راهوية (1512)، وأبو داود (228)، والترمذي (119)، وابن ماجه (583)، وأبو يعلى في مسنده (4729)، وابن المنذر في الأوسط (605)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 124)، والبيهقي في السنن (1/ 201) من طرق عن سفيان الثوري به. الرابع: أبو الأحوص، عن أبي إسحاق. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 64) رقم 682 عن أبي الأحوص به، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت له حاجة إلى أهله قضاها، ثم نام كهيئته، لا يمس ماء ". ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (582)، وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 125) من طريق مسدد، عن أبي الأحوص به. الخامس: إسرائيل، عن إبي إسحاق. أخرجه أحمد (6/ 214) حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق به بتمامه. وأخرجه أحمد (6/ 63) حدثنا وكيع، عن أبيه وإسرائيل، عن إبي إسحاق به، ببعضه. وأخرجه ابن ماجه (1365)، وابن حبان (2589) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل وحده به. وأخرجه أحمد (6/ 109) حدثنا أسود بن عامر، قال: حدثنا إسرائيل به، ببعضه. السادس: شعبة، عن أبي إسحاق. أخرجه الطيالسي (1386)، وإسحاق بن راهوية (1513، 1514)، وأحمد (6/ 176)، والبخاري في صحيحه (1146)، والنسائي في الكبرى (1389)، وفي المجتبى (1680)، وابن حبان (2593) وتعمد شعبة ترك قوله: " دون أن يمس ماء " السابع: شريك، عن أبي إسحاق. أخرجه أحمد (6/ 109) حدثنا أسود بن عامر، قال: أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق به، بلفظ: " إذا كانت له حاجة إلى أهله، أتاهم، ثم يعود، ولا يمس ماء ". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثامن: زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق به. واختلف على زهير فيه، فرواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 125) من طريق أبي غسان، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، قال: أتيت الأسود بن يزيد - وكان لي أخاً وصديقاً - فقلت: يا أبا عمرو حدثني ما حدثتك عائشة رضي الله عنها: أم المؤمنين عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام أول الليل، ويحيى آخره، ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته، ثم ينام قبل أن يمس ماء، فإذا كان النداء الأول وثب - وما قالت: قام - فأفاض عليه الماء - وما قالت: اغتسل، وأنا أعلم بما تريد - وإن كان جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة. فبناء على هذه الرواية بهذا اللفظ لا إشكال، " فإن كانت له حاجة قضى حاجته، ثم نام قبل أن يمس ماء، وإن كان جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة " قال ابن العربي في شرحه لسنن الترمذي (1/ 182): فهذا يدل على أحد وجهين: إما أن يريد الحاجة حاجة الإنسان من البول والغائط، فيقضيها، ثم يستنجي، ولا يمس ماء، وينام، فإن وطئ توضأ كما في آخر الحديث. ويحتمل أن يريد بالحاجة حاجة الوطء، وبقوله: " ثم ينام ولا يمس ماء " يعني: الاغتسال، ومتى لم يحمل الحديث على أحد هذين الوجهين تناقض أوله وآخره، فتوهم أبو إسحاق أن الحاجة هي حاجة الوطء، فنقل الحديث على معنى ما فهم ". ووافق المباركفوري ابن العربي على هذا الفهم في تحفته (1/ 115)، والشوكاني في نيل الأوطار. والحق أن هذا اللفظة أعني قوله: " وإن كان جنباً توضأ وضوءه للصلاة " قد انفرد بها أبو غسان، عن زهير، وقد رواه غيره عن زهير بلفظ: " إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم نام قبل أن أن يمس ماء ثم قال: وإن لم يكن جنباً توضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى ركعتين ". رواه أحمد (6/ 102) والبيهقي في السنن (1/ 201) عن حسن بن موسى. وأخرجه مسلم في صحيحه (739) والبيهقي في سننه (1/ 201) عن أحمد بن يونس ويحيى بن يحيى. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1269 - 142) ما رواه ابن خزيمة من طريق أحمد بن عبدة، أخبرنا سفيان، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر، عن عمر، أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أينام أحدنا، وهو جنب؟ قال: ينام، ويتوضأ إن شاء (¬1). [الحديث رجاله ثقات إلا أن زيادة إن شاء زيادة شاذة] (¬2). ¬

= وأخرجه إسحاق بن راهوية أيضاً (1515) عن أبي نعيم الملائي. وأخرجه البيقهي (1/ 201) من طريق عمرو بن خالد، كلهم أعني (أحمد بن يونس، ويحيى بن يحيى، وحسن بن موسى، وعمرو بن خالد، وأبا نعيم الملائي) ستتهم رووه عن زهير بلفظ: " وإن لم يكن جنباً توضأ " وليس بلفظ: " وإن كان جنباً توضأ " كما قال أبو غسان، إلا أن مسلم تعمد أن يحذف قوله: " دون أن يمس ماء "، وأعلها في كتابه التمييز، فبناء على هذا اللفظ ليس فيه حجة للطحاوي، وأبي بكر بن العربي، والمباركفوري، والشوكاني، ويبقى الكلام على مخالفة أبي إسحاق لإبراهيم وعبد الرحمن، وسبق أن ذكرنا أن أبا إسحاق قد حكم أكثر العلماء على غلطه في هذا الحديث. انظر بعض طرق الحديث في: أطراف المسند (9/ 24)، إتحاف المهرة (21525)، تحفة الأشراف (16017، 16018، 16020، 16023، 16024). (¬1) صحيح ابن خزيمة (211)، ومن طريق ابن خزيمة أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر (1216). (¬2) الحديث في سؤال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن نومه، وهو جنب، ويرويه عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، تارة من مسند عمر (أي عن ابن عمر، عن عمر) وتارة من مسند ابن عمر (أي عن ابن عمر أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -) والخطب في هذا سهل جداً، وأكثر الرواة يسوقونه من مسند ابن عمر رضي الله عنهما. ورجح الدارقطني أن الحديث عن ابن عمر أن عمر، قال في العلل (2/ 64) بعد أن ساق الاختلاف على رواته، قال: " والصحيح قول من قال: عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عمر. وكذلك رواه الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن عمر .. وكذلك قال يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو المحفوظ المضبوط ". تخريج الحديث من مسند عمر رضي الله عنه: رواه سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر، إلا أنه قد اختلف على سفيان في لفظه: فرواه ابن خزيمة (211)، ومن طريقه ابن حبان (1216) من طريق أحمد بن عبدة، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر، بلفظ: " ينام ويتوضأ إن شاء ". وأخرجه أحمد رحمه الله تعالى (1/ 24 - 25) حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر، أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أينام أحدنا، وهو جنب؟ قال: يتوضأ، وينام إن شاء " وقال سفيان مرة: ليتوضأ، ولينم ". فهنا الشرط راجع إلى النوم، وليس إلى الوضوء، كأنه قال: إذا توضأ إن شاء نام، وإن شاء اغتسل. وأشار أحمد إلى أن سفيان بن عيينة رواه مرة أخرى بدون ذكر المشيئة. وقد رواه أيضاً عن ابن عيينة سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، كما في صحيح ابن خزيمة (212) بلفظ: " إذا أراد أن ينام، فليتوضأ " ولم يذكر لفظ (المشيئة). وخالفهم الحميدي (657) فرواه عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن دينار به من مسند ابن عمر، بلفظ: " أينام أحدنا، وهو جنب، فقال: نعم إذا توضأ، ويطعم إن شاء ". جعل المشيئة راجعة إلى الأكل لا إلى النوم، ومع هذا الاختلاف على سفيان فقد رواه من هو أكثر منه عدداً، ولم يذكروا لفظ المشيئة. فقد رواه أحمد (1/ 38) من طريق الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنه تصيبني الجنابة من الليل، فأمره أن يغسل ذكره، ويتوضأ وضوءه للصلاة. فهنا الثوري رواه عن عبد الله بن دينار، وجعله من مسند عمر كما فعل ابن عيينة، ولم يذكر ما ذكره سفيان من ذكر المشيئة، كما رواه الثوري أيضاً من مسند ابن عمر، وليس فيه ذكر المشيئة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقد أخرجه أحمد (2/ 56) حدثنا يحيى. وأخرجه أحمد (2/ 116) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 127) عن أبي نعيم (الفضل بن دكين) وأخرجه الدارمي (756) عن عبيد الله بن موسى. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 127) من طريق أبي حذيفة النهدي، والفريابي، خمستهم (يحيى بن سعيد القطان، وعبيد الله بن موسى، وأبو حذيفة والفريابي وأبو نعيم) عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر من مسنده، وليس فيه ذكر المشيئة، ولفظ أحمد، عن ابن عمر، قال: سأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: تصيبني الجنابة من الليل؟ فأمره أن يغسل ذكره وليتوضأ. كما رواه جماعة عن عبد الله بن دينار بدون زيادة (إن شاء)، عن ابن عمر من مسنده، ولم يذكروا ما ذكره سفيان بن عيينة، وإليك من وقفت على روايتهم: الأول: إمام دار الهجرة، مالك بن أنس، أخرجه في الموطأ (1/ 47)، ومن طريق مالك أخرجه أحمد (2/ 64)، والبخاري (290)، ومسلم (306)، وأبو داود (221)، والنسائي في السنن الكبرى (256،9055،9056)، وفي المجتبى (260)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 127)، وابن حبان (1213) والبيهقي في السنن (1/ 199)، بلفظ: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يصيبه جنابة من الليل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ، واغسل ذكرك، ثم نم". الثاني: شعبة، عن عبد الله بن دينار. أخرجه الطيالسي (17)، وأحمد (1/ 50) و (2/ 79)، وعبد الله بن أحمد وجادة عن أبيه (2/ 46)، وأبو عوانة (1/ 278)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 127)، وابن خزيمة (214)، وابن حبان (1212) من طريق شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: إن عمر قال: يا رسول الله تصيبني من الليل الجنابة؟ فقال: اغسل ذكرك، ثم توضأ، ثم ارقد. وليس فيه ذكر المشيئة. الثالث: إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، أخرجه ابن حبان بإسناد صحيح (1214) بلفظ: " فأمره أن ينام ". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه غير عبد الله بن دينار، فقد رواه نافع وسالم، عن ابن عمر، بدون ذكر الشرط: أعني قوله: إن شاء. فأما رواية نافع عن ابن عمر، فجاء الحديث تارة من مسند ابن عمر، وتارة عن ابن عمر، عن عمر، كما هو الحال في رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وإليك بيان الحديث في مسنديه: ما جاء من مسند ابن عمر: فقد أخرجه أحمد في المسند (2/ 17، 36، 102)، وابن أبي شيبة (1/ 63) رقم 677، ومسلم (306)، والنسائي في المجتبى (259)، وفي الكبرى (9060،9061)، وابن ماجه (585) وعبد بن حميد كما في المنتخب (750) من طريق عبيد الله بن عمر. وأخرجه البخاري (287) وابن حبان (1215) من طريق الليث بن سعد. وأخرجه البخاري أيضاً (289) من طريق جويرية. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1074) ومن طريقه أخرجه أحمد (1/ 35)، وأبو عوانة (1/ 277) عن عبد الله بن عمر العمري. وأخرجه أيضاً (1075) من طريق أيوب. وأخرجه عبد الرزاق أيضاً (1077) ومن طريقه البيهقي (1/ 201) عن ابن جريج. وأخرجه النسائي في الكبرى (9064) من طريق عمرو بن سعد. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (103) من طريق عبد الرحمن بن ثابت، كلهم عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر ... وجاء الحديث عن نافع، عن ابن عمر، عن أبيه من مسند عمر. أخرجه أحمد (1/ 17، 35)، والنسائي في السنن الكبرى (9058، 9059)، والترمذي (120)، والبزار (147) من طريق عبيد الله بن عمر. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1074) عن عبد الله بن عمر العمري. وأخرجه النسائي في الكبرى (9063) والبزار في مسنده (131)، والطبراني في الكبير (1/ 26) ح 80 من طريق أيوب. وأخرجه أحمد (1/ 16) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 127) من طريق ابن إسحاق، =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1269 - 143) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمد بن عمرو ابن عباد بن جبلة حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا سعيد ابن حويرث، أنه سمع ابن عباس يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه طعام فأكل ولم يمس ماء. ¬

_ = وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 127) من طريق ابن عون، كلهم (أيوب، وعبد الله بن عمر، وعبيد الله بن عمر ومحمد بن إسحاق وابن عون) عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر. وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند أحمد. أما رواية سالم، عن ابن عمر، فقد أخرجه عبد الرزاق (1088) عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنام، وأنا جنب؟ قال: توضأ وضوءك للصلاة. قال سالم: فكان ابن عمر إذا أراد أن ينام أو يطعم، وهو جنب، غسل فرجه ووجهه ويديه، لا يزيد على ذلك. ففي هذه الرواية جعل السائل ابن عمر، وحذف اسم عمر رضي الله عنه، والمحفوظ أن القصة كانت لعمر، وجاء الحديث من مسند ابن عمر، ومن مسند أبيه، وفي كلا الحديثين لا يختلفون أن القصة كانت لعمر. ورواه النسائي في السنن الكبرى (9068) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 127) من طريق محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. قال النسائي: عن عمر. وقال الطحاوي: أن عمر رضي الله عنه .... وذكر الحديث. وهذا الإسناد وإن كان يوافق رواية الجماعة عن ابن عمر، إلا أن محمد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي نزيل المصيصة، صدوق كثير الغلط. انظر إتحاف المهرة (9563) و (9834)، وأطراف المسند (5/ 50) و (3/ 543)، تحفة الأشراف (8178).

دليل القائلين بوجوب الوضوء إذا أراد الجنب أن ينام

قال: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث (¬1). (1271 - 144) ورواه عبد بن حميد كما في المنتخب، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس. وفيه: «إنما أمرتم بالوضوء للصلاة». وسنده صحيح، وفيه التعبير بالحصر بـ (إنما). وجه الاستدلال: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أردت صلاة فأتوضأ» وقوله: «إنما أمرتم بالوضوء للصلاة» منطوقه: أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة، ومفهومه: أنه لا يجب الوضوء لغير الصلاة، ومنه الوضوء عند النوم للجنب. دليل القائلين بوجوب الوضوء إذا أراد الجنب أن ينام. الدليل الأول: (2272 - 145) ما رواه البخاري من طريق الليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد، وهو جنب، ورواه مسلم (¬2). فأذن بالنوم بشرط الوضوء، وهذا دليل على وجوبه. ¬

(¬1) صحيح مسلم (374)، وانظر تخريج متنه وافياً في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (234). (¬2) البخاري (287)، ومسلم (306).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: صح من فعله - صلى الله عليه وسلم -، أنه إذا أراد أن ينام توضأ، وهذا وإن كان فعلاً إلا أنه مؤيد لحديث عمر بن الخطاب، في عدم النوم إلا بشرط الوضوء، ولم ينقل ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث صحيح حتى يقال: يجوز تركه. (1273 - 146) فقد روى البخاري من طريق عن عروة، عن عائشة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب، غسل فرجه، وتوضأ للصلاة، ورواه مسلم (¬1). فقوله: «كان» دليل على الاستمرار من حاله - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: (1274 - 147) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخرساني، عن يحيى بن يعمر، عن عمار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه رخص للجنب، إذا أراد أن ينام، أو يأكل، أو يشرب، أن يتوضأ وضوءه للصلاة (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) البخاري (288)، ومسلم (305). (¬2) المصنف (1/ 63) رقم 678. (¬3) ضعيف، وقد سبق تخريجه على إثر حديث رقم (2239)، فأغنى عن إعادته هنا. وروى الطبراني في المعجم الكبير (11/ 361) من طريق يوسف بن خالد السمتي، عن عيسى بن هلال السدوسي، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو ينام أن يتوضأ. وهذا موضوع، وعلته يوسف بن خالد، وقد سبقت ترجمته في حديث رقم (2209).

دليل من قال: يكره النوم للجنب بدون وضوء

فقوله: «رخص» يدل على أنه في مقابل المنع، فيؤخذ منه أن غير المتوضئ لا يرخص له في النوم. وهذا ممكن أن يتوجه القول به لو صح الحديث. دليل من قال: يكره النوم للجنب بدون وضوء. هذا القول حين رأى أن القول بالوجوب قول قوي، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام، وهو جنب إلا وهو على وضوء، وحين استفتاه عمر رضي الله عنه في النوم أذن له بشرط الوضوء، رأى أن ترك الوضوء والحالة هذه مكروه، خروجاً من خلاف القائلين بالوجوب، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بالوجوب قول قوي، والقول بالاستحباب أقوى، وعلى كل فعلى المسلم أن يحرص على النوم على وضوء، خروجاً من خلاف أهل العلم، والله أعلم.

الفصل التاسع في أكل الجنب وشربه

الفصل التاسع في أكل الجنب وشربه اختلف العلماء في وضوء الجنب للأكل والشرب، فقيل: يغسل يديه إن كان أصابهما أذى، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: يستحب للجنب أن يتوضأ عند الأكل، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬

(¬1) قال في حاشية الطحطاوي (ص: 55): الجنب إذا أراد أن يأكل، أو يشرب غسل يديه وفاه، وإن ترك فلا بأس به " وانظر البحر الرائق (1/ 49)، بدائع الصنائع (1/ 38)، الفتاوى الهندية (1/ 16). (¬2) جاء في المدونة (1/ 30): " قلت: هل كان مالك يأمر من أراد أن ينام، أو يطعم إذا كان جنباً بالوضوء؟ قال: أما النوم فكان يأمره أن لا ينام حتى يتوضأ ... ثم قال: وأما الطعام فكان يأمره بغسل يده إذا كان الأذى قد أصابها، ويأكل، وإن لم يتوضأ ". وجاء في المنتقى للباجي (1/ 98): " قال مالك: لا يتوضأ إلا من أراد أن ينام فقط، وأما من أراد أن يطعم، ويعاود الجماع، فلم يؤمر بالوضوء ". وقد اقتصر خليل في مختصره (ص: 17): باستحباب الوضوء للنوم، واستحباب غسل الفرج لمعاودة الوطء، ولم يذكر الوضوء للأكل. وانظر حاشية الدسوقي (1/ 137 - 138). (¬3) المهذب (1/ 30)، المجموع (2/ 178)، روضة الطالبين (1/ 87)، مغني المحتاج (1/ 63). (¬4) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 148)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 343)، كشاف القناع (1/ 157)، مطالب أولى النهى (1/ 186)، شرح منتهى الإرادات (1/ 88)، كشاف القناع (1/ 158).

دليل من قال: يستحب له أن يغسل يديه

دليل من قال: يستحب له أن يغسل يديه. (1278 - 148) ما رواه أحمد، قال: حدثنا علي بن إسحاق، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل ويشرب، قالت: يغسل يده ثم يأكل ويشرب (¬1). [حديث الوضوء للنوم محفوظ في الصحيحين، وحديث غسل اليد للأكل المحفوظ أنه من قول عائشة رضي الله عنها غير مرفوع] (¬2). ¬

(¬1) المسند (6/ 118 - 119). (¬2) اختلف على الزهري في ذكر غسل اليد من الجنب للأكل، فقد رواه جماعة عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن عائشة بذكر الوضوء للنوم فقط، منهم: الأول: رواه الليث، واختلف عليه، فرواه يحيى بن يحيى كما في صحيح مسلم (305)، وسنن البيهقي (1/ 200). ومحمد بن رمح كما في صحيح مسلم (305)، وسنن ابن ماجه (584). وقتيبة بن سعيد كما في صحيح مسلم (305)، والنسائي في المجتبى (258)، وفي الكبرى (9044). وعبد الله بن وهب، كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 126)، وسنن البيهقي (1/ 200). ومعلى، وهاشم بن القاسم كما في مسند أبي عوانة (1/ 277)، ستتهم: (يحيى بن يحيى، ومحمد بن رمح، وقتيبة بن سعيد، وعبد الله بن وهب، ومعلى، وهاشم بن القاسم رووه عن الليث بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة به، بالاقتصار على الوضوء للنوم، فقط. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه محمد بن الحسن بن قتيبة، واختلف عليه في لفظه: فرواه ابن حبان في صحيحه (1217) عن الحسن بن قتيبة، عن يزيد بن موهب، عن الليث به، بلفظ الجماعة بالاقتصار على الوضوء للنوم. ورواه البيهقي (1/ 203) من طريق أبي علي الحافظ، عن محمد بن الحسن بن قتيبة به، بزيادة غسل اليد للأكل، ولفظه: " عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام. قالت عائشة: وإذا أراد أن يأكل، أو يشرب، يغسل يديه، ثم يأكل أو يشرب إن شاء. فقول عائشة موقوف على عائشة، وليس مرفوعاً، فمقصودها بقولها: (وإذا أراد يعني: الجنب أن يأكل، أو يشرب، يغسل يديه) وليس مقصودها: وإذا أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قلتُ ذلك: أولاً: لأن الحديث لو كان حكاية لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لماذا يقول الرواي: وقالت عائشة: والكلام كله تحكيه عائشة عن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وثانياً: قولها: إن شاء، هذا تعليق فعل للمستقبل، وليس حكاية عن فعل ماض. وثالثاً: أن هذا هو فهم البيهقي وأبي داود، حيث قال البيهقي: قال أبو داود: ورواه ابن وهب، عن يونس، فجعل قصة الأكل قول عائشة مقصوراً، قال البيهقي: وكذلك رواه الليث ابن سعد، عن الزهري. اهـ ومع كون هذه الزيادة موقوفة على عائشة، إلا أنه انفرد بها عن الليث، أبو علي الحافظ، عن ابن قتيبة، عن يزيد بن موهب الرملي، عن الليث. وقد رواه ابن حبان كما ذكرت، عن ابن قتيبة، ولم يذكر قول عائشة، وقد رواه ستة حفاظ عن الليث، ولم يذكروا ما زاده أبو علي الحافظ، فهذا يجعل في النفس شيئاً من قبولها، من طريق الليث. الثاني: سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب. أخرجه الإمام أحمد (6/ 36)، وابن أبي شيبة (1/ 62) رقم 657، وإسحاق بن راهوية (1040)، وأبو داود (222)، والنسائي في الكبرى (9043)، وأبو يعلى (4522)، وابن خزيمة (213)، وأبو عوانة (1/ 277)، من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب به بالاقتصار على الوضوء للنوم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثالث: ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب. أخرجه عبد الرزاق (1073)، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (612). وأخرجه أحمد (6/ 200) حدثنا محمد بن بكر، كلاهما، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب به، بالاقتصار على الوضوء للنوم دون ذكر الأكل. الرابع: يونس، عن ابن شهاب. أخرجه عبد الرزاق (1085)، وأحمد (6/ 118 - 119) وابن أبي شيبة (1/ 62) رقم 658، وأبو داود (223)، والنسائي في المجتبى (256،257)، وفي الكبرى (254،255)، وابن ماجه (593)، وأبو يعلى (4595، 4782، 4891)، وابن حبان (1218)، والدارقطني (1/ 126)، والبيهقي في السنن (1/ 203) من طريق ابن المبارك، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري به، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل ويشرب قالت: يغسل يديه، ثم يأكل ويشرب. فزاد عبد الله بن المبارك، عن يونس عن ابن شهاب ذكر غسل اليدين مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد اختلف على يونس في هذه الزيادة، فرواها ابن المبارك رحمه الله تعالى، عن يونس به، مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتابع عامرُ بنُ صالح عبدَ الله بن المبارك، فرواه أحمد (6/ 279) عنه، عن يونس بن يزيد به، بلفظ ابن المبارك، إلا أن عامر بن صالح متروك الحديث، قال فيه النسائي: ليس بثقة. الضعفاء والمتروكين (437). وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب. المجروحين (2/ 188). وقال يحيى بن معين: كان كذاباً. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين: جُنَّ أحمد بن حنبل، يحدث عن عامر بن صالح. الكامل (5/ 83). ولا يبعد أن يكون عامر بن صالح قد سرق إسناد حديث ابن المبارك، فإنه معروف بالسرقة، قال ابن عدي: عامة أحاديثه مسروقة من الثقات ... الكامل (5/ 83). وقد خالف ابن وهب، عبد الله بن المبارك، وعامر بن صالح هذا، فقال أبو داود في سننه على إثر حديث (222): "رواه ابن وهب، عن يونس، فجعل قصة الأكل قول عائشة مقصوراً ". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواية ابن وهب المرفوعة عن يونس قد اقتصر فيها على ذكر الوضوء للنوم، كما في رواية سفيان وابن جريج والليث عن ابن شهاب، فقد أخرجه النسائي في الكبرى (9044)، وأبو عوانة (1/ 277 - 278)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 126)، والبيهقي في السنن (1/ 200) من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب به، بذكر الوضوء للنوم فقط، دون ذكر غسل اليدين. وكذا رواه الحسن بن قتيبة، عن الليث، عن الزهري به، فذكر غسل اليدين من قول عائشة موقوفاً عليها كما هي رواية ابن وهب، عن يونس، وتقدم ذكرها في تخريج طريق الليث بن سعد، وهذا هو المحفوظ، خاصة أن الحديث كما قلت رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة والليث بن سعد، فاقتصروا على ذكر الوضوء للنوم، ولم يذكروا غسل اليدين للأكل والشرب، ورواه يحيى بن أبي كثير، ومحمد بن عمرو، عن أبي سلمة موافقاً لرواية الليث، وابن جريج، وسفيان، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة: في عدم ذكر غسل اليد للأكل والشرب، مما يجعل طريق ابن المبارك رحمه الله طريقاً شاذاً. وسيأتي إن شاء الله تعالى تخريج طريقهما بعد الفراغ من طريق يونس هذا. وكما اختلف على يونس بن يزيد في متنه، فقد اختلف عليه في إسناده، فأخرجه ابن خزيمة (218)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 128) من طريق عيسى بن يونس، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به. فجعل بدلاً من أبي سلمة، جعل عروة. وأخرجه الدارقطني (1/ 125 - 126) من طريق طلحة بن يحيى، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة أو عروة - على الشك - عن عائشة به. وأخرجه الدارقطني في سننه (1/ 126) من طريق أبي ضمرة، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة وعروة، عن عائشة. قال الدارقطني في العلل (5/ورقة 71): "ورواه أبو ضمرة فصح القولين جميعاً ". وسيأتي تخريج طريق عروة، عنها مستقلاً إن شاء الله تعالى. وقد رواه صالح بن أبي الأخضر أيضاً بزيادة غسل اليدين، إلا أنه قد اختلف على صالح في إسناده: فرواه أحمد (6/ 102)، قال: حدثنا ساكن بن نافع، قال: حدثنا صالح بن أبي الأخضر، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن الزهري، عن أبي سلمة، أن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، فإذا أراد أن يأكل، أو يشرب، غسل كفيه، ثم يأكل، أو يشرب إن شاء. ورواه أحمد (6/ 192) عن وكيع، ووراه أيضاً (6/ 119) من طريق عبد الله بن المبارك كلاهما، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة وأبي سلمة به. وصالح بن أبي الأخضر ضعيف، قال علي بن المديني: سمعت ابن عدي أو معاذ بن معاذ يقول: ألححنا على صالح بن أبي الأخضر في حديث الزهري، فقال: منه ما سمعت، ومنه ما عرضت، ومنه ما لم أسمع، فاختلط عليَّ. الكامل (4/ 64). وقال يحيى بن معين: ضعيف. المرجع السابق. وقال العجلي: يكتب حديثه، وليس بالقوي. معرفة الثقات (745). كما أن الحديث قد رواه الأوزاعي، ومحمد بن عبد الرحمن المعروف بيتيم عروة، روياه عن عروة، عن عائشة فلم يذكرا ما ذكره صالح بن أبي الأخضر. فقد أخرجه البخاي (288) والطبراني في الأوسط (8723) من طريق عبيد الله بن أبي جعفر، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب، غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة. فلم يذكر ما ذكره صالح بن أبي الأخضر من ذكر غسل اليد للأكل والشرب. ورواه أحمد (6/ 92) حدثنا قتيبة. ورواه أيضاً (6/ 103) حدثنا حسن كلاهما، عن ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود به، بلفظ البخاري. وأخرجه الطحاوي (1/ 126) من طريق الأوزاعي، عن عروة به، بلفظ البخاري. فتبين بهذا خطأ صالح بن أبي الأخضر، والله أعلم. طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة. أخرجه أحمد (6/ 202) حدثنا يحيى، عن هشام الدستوائي، قال: حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، قال: سألت عائشة: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام، وهو جنب؟ قالت: نعم، ولكن كان يتوضأ مثل وضوئه للصلاة. =

دليل من قال: يستحب له الوضوء

دليل من قال: يستحب له الوضوء. (1276 - 149) ما رواه مسلم، قال: من طريق ابن علية، ووكيع، وغندر، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، ¬

_ = وهذا سند صحيح، رجاله كلهم ثقات، وقد اقتصر على ذكر الوضوء للنوم، ولم يذكر غسل اليدين، وهي موافقة لرواية الزهري من طريق الليث وسفيان وابن جريج عنه، عن أبي سلمة. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 63) رقم 673 حدثنا ابن علية. وأخرجه أحمد (6/ 128) حدثنا عبد الوهاب بن عطاء. وأخرجه البخاري (286) حدثنا أبو نعيم. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 126) من طريق أبي داود، كلهم عن هشام الدستوائي به. وأخرجه البخاري (286) من طريق شيبان. وأخرجه الطحاوي (1/ 126) من طريق الأوزاعي، وأخرجه الطيالسي (1485) عن حرب بن شداد. وأخرجه أحمد (6/ 121) من طريق همام أربعتهم، عن يحيى بن أبي كثير به. وأما طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة. فأخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (6/ 216) حدثنا إسماعيل بن علية. وأخرجه أيضاً (6/ 237) حدثنا يزيد، كلاهما عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة به، بذكر الوضوء للنوم، ولم يذكر غسل اليد للأكل. فبهذه الطرق عن أبي سلمة يتضح لنا شذوذ من روى غسل اليدين للجنب عند الأكل مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن المحفوظ أن هذا من قول عائشة رضي الله عنها، فهي مدرجة في الحديث، وأن حديث عائشة المرفوع يتفق مع حديث ابن عمر في سؤال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن نوم الجنب، وأن الجنب إذا أراد أن ينام فليتوضأ، وما زاد على ذلك فليس بمرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.

عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً، فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة (¬1). [زيادة الوضوء للأكل انفرد به الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، وكان شعبة يرويه عن الحكم، ثم ترك ذكره بعد، قال الحافظ: «لعله تركه بعد أن كان يحدث به؛ لتفرده بذكر الأكل كما حكاه الخلال عن أحمد»] (¬2). ¬

(¬1) مسلم (305). (¬2) قول الحافظ: " لعله تركه لتفرده بذكر الأكل .. الخ " في تلخيص الحبير (1/ 140)، وسوف أسوق كلام الإمام أحمد إن شاء الله تعالى نقلاً من كتاب الإمام لا بن دقيق العيد في ثنايا البحث. وهذا الطريق (أعني: طريق الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة) سبق تخريجه عند الكلام على حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة في نومه - صلى الله عليه وسلم -، وهو جنب دون أن يمس ماء، ولم أشأ أن أتكلم عن هذه الزيادة هناك؛ لأن لها مناسبة أخرى سوف تأتي هنا، فالذي أراه أن وضوء الجنب للأكل ليس محفوظاً، أولاً: أن الحديث قد رواه أبو سلمة وعروة، عن عائشة، ولم يذكروا الوضوء للأكل، ورواه الأسود، واختلف عليه فيه: فرواه عبد الرحمن بن الأسود، وأبو إسحاق السبيعي عن الأسود، ولم يذكروا الوضوء للأكل، وقد سبق تخريج هذه الطرق عند الكلام على حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة: في نوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون أن يمس ماء. ورواه إبراهيم، عن الأسود، واختلف عليه: فرواه الحكم، عن إبراهيم به، بذكر الوضوء للأكل، تفرد به شعبة عنه. قال النسائي في السنن النسائي الكبرى (9048) خالفه منصور، ثم ساقه مسنداً عنه، عن إبرهيم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينام وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة. وهو يحتمل أنه أرسله إبراهيم، ويحتمل أنه أراد أي بالإسناد السابق: أي عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة به، ومع ذلك لم يذكر الوضوء للأكل. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ومنصور من أخص أصحاب إبراهيم رحمه الله تعالى، جاء في المنتخب من العلل للخلال (ص:325): " قال مهنأ: سألت أحمد: أيهما أحب إليك إذ حُدَّث عن إبراهيم؟ فقال: منصور. قلت: كيف ذاك؟ قال: بلغني أن الأعمش كان إذا حُدِّث عن أصحاب إبراهيم تكلم، وإذا حدث عن منصور سكت. قلت: كان الحكم ومنصور قرينان في الرواية عن إبراهيم، وهما مقدمان في غيرهما من أصحاب إبراهيم رحمه الله، وسواء كان التفرد من الحكم، أو من إبراهيم نفسه، فقد خالف غيره ممن روى الحديث عن الأسود، كما خالف كل من روى الحديث عن عائشة من غير طريق الأسود، وهذا هو المقصود. ثانياً: أن الإمام أحمد رحمه الله ما كان يسوي بين وضوء الجنب للنوم، ووضوئه للأكل، مع أن حديث عائشة قد قرن بينهما في هذا الطريق، ففي مسائل أحمد رواية ابنه صالح (433): وسألته عن الجنب يأكل، أو يشرب؟ قال: هو أسهل من النوم، والنوم يتوضأ ". فهنا الإمام أحمد لم يجعل الوضوء للنوم والأكل سواء. مع ما ذكره الخلال عن أحمد من تفرد شعبة بذكر الوضوء للأكل يدرك أن هذه الزيادة في النفس منها شيء. وكان الإمام مالك أيضاً لا يسوى بين الوضوء للنوم، والوضوء للأكل، كما في المدونة (1/ 30): قال مالك: لا ينام الجنب حتى يتوضأ، ولا بأس أن يعاود أهله قبل أن يتوضأ، قال: ولا بأس أن يأكل قبل أن يتوضأ ". ثالثاً: أن شعبة، وهو الراوي لهذه الزيادة قد تركها عمداً في آخر الأمر. قال أحمد بن حنبل كما في مسنده (6/ 191): قال يحيى، يعني ابن سعيد القطان: ترك شعبة حديث الحكم في الجنب: " وإذا أراد أن يأكل توضأ ". اهـ فإذا كان الرواي لهذه الزيادة قد تركها، وحذفها عمداً في آخر الأمر، فكيف لي أن أقبلها، خاصة مع ما ذكر من التفرد. وفي الإمام لابن دقيق العيد (3/ 92): " عن أحمد بن القاسم، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: " إذا أراد أن ينام فليتوضأ وضوءه للصلاة على الحديث (ثم ينام)، فأما إذا أراد أن يطعم، فليغسل يديه، ويمضمض، ويطعم؛ لأن الأحاديث في الوضوء لمن أراد النوم، قال: وبلغني أن شعبة ترك حديث الحكم بآخرة، فلم يحدث به في من أراد أن يطعم؛ وذلك لأنه ليس يقوله غيره، إنما هو في النوم ". =

الدليل الثاني: (1277 - 150) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن عمر بن هياج، حدثنا إسمعيل ابن صبيح، حدثنا أبو أويس، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر بن عبد الله قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجنب، هل ينام، أو يأكل، أو يشرب؟ قال: نعم إذا توضأ وضوءه للصلاة (¬1). [تفرد به أبو أويس، وليس بالقوي] (¬2). ¬

= فهذا صريح من الإمام أحمد أن الحديث إنما هو في الوضوء للنوم فقط. فتلخص لي من هذا، ومن التخريج السابق أن حديث عائشة يتفق عليه الرواة بذكر الوضوء للنوم، ويزيد بعضهم على بعض في غيره، وكل زيادة في هذا الحديث فهي إما زيادة شاذة كالوضوء للأكل، ونوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون أن يمس ماء، أو موقوفة على عائشة كغسل اليد للأكل أدرجها بعض الرواة ضمن الحديث المرفوع، ولله أعلم. انظر أطراف المسند (9/ 20)، إتحاف المهرة (21524)، تحفة الأشراف (15926). (¬1) سنن ابن ماجه (592). (¬2) ورواه ابن خزيمة في صحيحه (217) من طريق إسماعيل بن إبان الوراق، قال: حدثنا أبو أويس المدني به. وانظر إتحاف المهرة (2711)، تحفة الأشراف (2280). تفرد به أبو أويس: عبد الله بن عبد الله بن أويس، جاء في ترجمته: قال ابن حبان: كان ممن يخطئ كثيراً، لم يفحش خطؤه حتى استحق الترك، ولا هو ممن سلك مسلك الثقات، فيسلك مسلكهم، والذي أرى في أمره، تنكب ما خالف الثقات من أخباره، والاحتجاج بما وافق الثقات منها. المجروحين (2/ 24). وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت علي بن المديني، وسئل عن أبي أويس، فقال: كان عند أصحابنا ضعيفاً. تاريخ بغداد (10/ 7). وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، وهو عندهم من أهل الصدق. المرجع السابق. وقال يعقوب بن شيبة: أبو أويس صدوق، وصالح الحديث، وإلى الضعف ما هو. المرجع السابق. =

الدليل الثالث: (1278 - 151) ما رواه الطبراني من طريق جابر بن يزيد الجعفي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أجنب لم يطعم حتى يتوضأ وضوءه للصلاة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= وقال أبو داود: صالح الحديث. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق. وسئل الداقطني عن حديثه عن الزهري؟ فقال: في بعضها شيء. المرجع السابق. وقال أحمد: ليس به بأس. الكامل (4/ 182). وقال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين: ليس بثقة. الجرح والتعديل (5/ 92). ونقل المزي في تهذيبه أقوالاً كثيرة ليحيى بن معين فيه، منها: قال معاوية بن صالح عن يحيى: ليس بالقوي. وقال يحيى في رواية أبي بكر بن أبي خيثمة عنه: صالح، ولكن حديثه ليس بذاك الجائز. وقال في موضع آخر: أبو أويس ضعيف، مثل فليح. وقال في موضع آخر: أبو أويس وابنه ضعيفان. المرجع السابق. وقال عثمان بن سعيد الدارمي، عن يحيى بن معين: أبو أويس ضعيف، وفليح ضعيف ما أقربهما. وقال عباس الدوري عن يحيى: صدوق، وليس بحجة. الجرح والتعديل (5/ 92). وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه، ولا يحتج به. الجرح والتعديل (5/ 92). وقال أبو زرعة: صالح صدوق، كأنه لين. المرجع السابق. وقال ابن عدي: ولأبي أويس غير ما ذكرت من الحديث، وفي أحاديثه ما يصح، ويوافقه والثقات عليه، ومنها ما لا يوافقه عليها أحد، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (4/ 183). وفي التقريب: صدوق يهم. قلت: ومن هذا حاله، لا ينبغي أن يقبل تفرده، وقد انفرد في هذا الإسناد من حديث جابر. (¬1) مجمع البحرين (484). (¬2) في إسناده جابر بن يزيد الجعفي، وهو مشهور الضعف.

الدليل الرابع: (1279 - 152) ما رواه الطبراني من طريق إسحاق بن إبراهيم القرقساني، ثنا حجاج بن محمد، ثنا شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً، وأراد أن يأكل أو ينام توضأ (¬1). [قال الطبراني: لم يروه عن قتادة إلا شعبة، ولا عنه إلا حجاج تفرد به إسحاق] (¬2). ¬

(¬1) مجمع البحرين (485). (¬2) إسحاق بن إبراهيم القرقساني، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحاً، وقال: روى عنه أبو زرعة. الجرح والتعديل (2/ 209). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 121). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 274): إسناده حسن. قلت: قد روى الطحاوي (1/ 126) حدثنا علي بن شيبان، ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً بذكر الوضوء للنوم، وغسل الفرج، ولم يذكر الوضوء للأكل. وخالفه يزيد بن هارون، فروى أحمد (6/ 237) عن يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة، بذكر الوضوء للنوم فقط. وأخرجه أحمد بن حنبل أيضاً في مسنده (6/ 216) حدثنا إسماعيل بن علية، عن محمد ابن عمرو به، من مسند عائشة. وكذا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، فقال: عن عائشة بذكر الوضوء للنوم. وتم تخريجه في هذه الفصل، والله أعلم.

الراجح

الراجح: بعد استعراض الأقوال نجد أن الأدلة بوجوب الوضوء للأكل ليست سالمة من علة التفرد أو المخالفة، والأصل براء الذمة، وعدم المشروعية حتى يأتي دليل صحيح صريح سالم من المخالفة، نقطع بموجبه أو يغلب على ظننا استحباب وضوء الجنب للأكل، وما لم نصل إلى ذلك فلا أرى الجزم بالمشروعية، والله أعلم.

الفصل العاشر في استحباب الوضوء لمعاودة الوطء

الفصل العاشر في استحباب الوضوء لمعاودة الوطء اختلف العلماء في الوضوء من الجنب إذا رغب أن يعاود الوطء قبل الغسل، فقيل: يستحب الوضوء، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يجب الوضوء، اختاره ابن حبيب من المالكية (¬3)، وهو مذهب الظاهرية (¬4). وقيل: يستحب له غسل فرجه مطلقاً، سواء عاد إلى المرأة التي جامعها أو غيرها، وهذا مذهب المالكية (¬5). ¬

(¬1) شرح النووي لصحيح مسلم (3/ 217)، المجموع (2/ 178). (¬2) المغني (1/ 144)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 148)، كشاف القناع (1/ 157)، (¬3) فتح الباري (1/ 376). (¬4) قال ابن حزم في المحلى (1/ 102): " إلا معاودة الجنب للجماع، فالوضوء فرض بينهما ". وذكر ابن حجر في الفتح أن القول بالوجوب هو مذهب الظاهرية (1/ 376)، وكذا قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (3/ 218). (¬5) قال مالك في المدونة (1/ 30): " لا ينام الجنب حتى يتوضأ، ولا بأس أن يعاود أهله قبل أن يتوضأ ... ". وفي التاج والإكليل (1/ 316) " يستحب له غسل فرجه، ومواضع النجاسة إذا أراد أن يعاود الجماع ". وانظر المنتقى شرح الموطأ للباجي (1/ 107)، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 176)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 137)، مواهب الجليل (4/ 13).

دليل من قال: يجب الوضوء لمعاودة الوطء

وقيل: يجب غسل فرجه، وهو مذهب إسحاق بن راهوية (¬1). وقيل: إن كانت الموطوءة أخرى وجب غسل الفرج، اختاره بعض المالكية (¬2). دليل من قال: يجب الوضوء لمعاودة الوطء. (1280 - 153) ما رواه مسلم من طريق عاصم، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ (¬3). وجه الاستدلال: قوله: «فليتوضأ» أمر، والأصل في الأمر الوجوب. دليل من قال: يستحب الوضوء. دليله حديث أبي سعيد المتقدم، وإنما حملوه على الاستحباب للتعليل الوارد في بعض طرق الحديث، (1281 - 154) فقد رواه ابن خزيمة من طريق مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي المتوكل، ¬

(¬1) فتح الباري (1/ 377). (¬2) قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 176): " يندب للجنب أيضاً غسل فرجه إذا أراد العود للجماع، سواء كانت التي جامعها أو غيرها؛ لما فيه من إزالة النجاسة، وتقوية العضو. وقيل: إن كانت الموطوءة أخرى وجب الغسل؛ لئلا يؤذيها بنجاسة غيرها". اهـ (¬3) صحيح مسلم (308).

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أراد أحدكم العود فليتوضأ؛ فإنه أنشط له في العود (¬1). ¬

(¬1) صحيح ابن خزيمة (1/ 110) رقم 221. وأخرجه ابن حبان (1211)، والحاكم في المستدرك (1/ 152)، والبيهقي في السنن (1/ 204)، والبغوي في شرح السنة (271) من طريق مسلم بن إبراهيم به. وقد انفرد مسلم بن إبراهيم عن شعبة بهذه الزيادة. ورواه أبو داود الطيالسي (2215). وأحمد (3/ 21) حدثنا محمد بن جعفر والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 129) من طريق يوسف بن يعقوب، وأخرجه ابن خزيمة (219) من طريق خالد بن الحارث، أربعتهم (محمد بن جعفر، والطيالسي، ويوسف بن يعقوب، وخالد بن الحارث) عن شعبة به، بدون ذكر هذه الزيادة. ولا يقدم أحد من أصحاب شعبة على محمد بن جعفر، فكيف وقد وافقه ثلاثة. كما رواه جماعة عن عاصم، فلم يذكروا ما ذكره مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، وإليك من وقفت عليه منهم. الأول: سفيان بن عيينة كما في مسند أحمد (3/ 7)، والحميدي (753)، والنسائي في المجتبى (262)، وفي الكبرى (258)، وابن خزيمة (219، 220). الثاني: حفص بن غياث، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 79) وصحيح مسلم (308) وسنن أبي داود (220)، وسنن الترمذي (141)، والسنن الكبرى للنسائي (9039)، وابن خزيمة (219)، وسنن البيهقي (1/ 203). الثالث: أبو الأحوص، كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 129)، وصحيح ابن حبان (1210). الرابع: ابن أبي زائدة، كما في سنن البيهقي (7/ 192). الخامس: عبد الله بن المبارك، كما في السنن الكبرى للنسائي (9038). السادس: عبد الواحد بن زياد، كما في سنن ابن ماجه (587). السابع: جرير، كما في مسند أبي يعلى (1164). =

فدل على أن الأمر للإرشاد، أو للندب؛ لأن تحصيل النشاط للعود ليس بواجب، فكذلك وسيلته، وهو الوضوء. (1282 - 155) كما أنه يصرفه عن الوجوب بما رواه الطحاوي، من طريق يحيى بن أيوب، عن موسى بن عقبة وأبي حنيفة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجامع، ثم يعود ولا يتوضأ، وينام ولا يغتسل (¬1). [انفرد بهذا اللفظ يحيى بن أيوب، عن موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، وكل من رواه عن أبي إسحاق لم يذكروه بهذا اللفظ، فلعل يحيى رواه بالمعنى، فأخطأ فيه] (¬2). ¬

= الثامن: محاضر بن المورع، كما في مسند أحمد (3/ 28)، وأبي عوانة (1/ 280)، والبيهقي في السنن (1/ 203 - 204) ثمانيتهم، عن عاصم به، بدون ذكر فإنه أنشط للعود. وقد ذهب الحاكم، والبيهقي إلى أنها زيادة محفوظة، فمن رأى ذلك مع هذا التفرد، فله أن يأخذ به، ومن لم ير ذلك فإن القواعد الحديثية تأبى قبولها، ولو كان المتفرد بها حافظ كبير مثل مسلم بن إبراهيم، والله أعلم. وقد أخطأ الحاكم رحمه الله حين ظن أن المتفرد بكلمة (فإنه أنشط للعود) هو شعبة، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال في إتحاف المهرة (5/ 359): " والمتفرد باللفظ مسلم بن إبراهيم، لا شيخه، فقد رواه غيره عن شعبة بدونها ". اهـ وانظر لمراجعة بعض طرق الحديث: إتحاف المهرة (5581)، تحفة الأشراف (4250)، أطراف المسند (6/ 352). (¬1) شرح معاني الآثار (1/ 127). (¬2) يحيى بن أيوب، قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق ربما أخطأ. وقد خالف يحيى جماعة، منهم: إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، والثوري، وأبو الأحوص، =

دليل من قال: يغسل فرجه

دليل من قال: يغسل فرجه. استدلوا بحديث أبي سعيد المتقدم، ولكنهم حملوا الأمر بالوضوء على الوضوء اللغوي، وهو غسل الفرج (¬1). وحملهم هذا خطأ؛ لأن كلام الشارع يحمل على الحقيقة الشرعية إذا أمكن، فإن تعذر حمله على الحقيقة الشرعية حمل على الحقيقة اللغوية، فإن تعذر أيضاً حمل على الحقيقة العرفية، ولا تترك الحقيقة الشرعية مع إمكان الحمل عليها، ولم يمنع من حمله على الحقيقة الشرعية مانع. دليل من قال: يجب غسل فرجه إن كانت الموطوءة أخرى. قالوا: إذا عاد إلى امرأة أخرى لوثها بنجاسة غيرها؛ لأن فرجه لا يسلم من النجاسة، وهذا لا يجوز، بخلاف تلويثها بنجاستها هي، فإنه يتسامح فيه حتى تتمكن من إزالته. وهذا القول من المالكية مبني على قولهم بنجاسة المني، وهو قول مرجوح، بينت ضعفه في مباحث أحكام النجاسة، وفي كتاب آداب الخلاء في الاستنجاء من المني، وحتى على التنزل بأن المني نجس، فأين الدليل على تحريم التلوث بالنجاسة في مثل الجماع والاستنجاء ونحوهما، ولذلك قال الدسوقي في حاشيته: «غاية ما يلزم عليه التلطخ بالنجاسة، وهو مكروه على المعتمد ولو بالنسبة للغير إذا رضي بها» (¬2). ¬

= وزهير بن معاوية كلهم رووه عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة، فلم يذكروا معاودة الوطء أصلاً، وقد سبق تخريج روايتهم في فصل الوضوء لنوم الجنب، والله أعلم. (¬1) المنتقى للباجي (1/ 107). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 138).

الراجح

الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال في المسألة نجد أن القول باستحباب الوضوء لمعاودة الوطء هو القول الراجح؛ لدلالة السنة عليه من حديث أبي سعيد؛ ولأنه قول وسط بين القائلين بوجوب الوضوء، وبين القائلين بأنه يغسل فرجه فقط، ولحديث «ما أردت صلاة فأتوضأ» «إنما أمرتم بالوضوء للصلاة» وسبق تخريجه والله أعلم.

الفصل الحادي عشر في طهارة جسد الجنب وعرقه

الفصل الحادي عشر في طهارة جسد الجنب وعرقه عرق الجنب وسؤره وبدنه طاهر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: إن بدن الجنب نجس نجاسة حكمية، وهو مذهب أبي حنيفة (¬5). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 47،70)، الجوهرة النيرة (1/ 21)، بدائع الصنائع (1/ 67). (¬2) المدونة (1/ 26)، المنتقى للباجي (1/ 106)، شرح الزرقاني للموطأ (1/ 156)، الاستذكار (1/ 299) ط: دار الكتب العلمية، تحقيق سالم عطاء ومحمد معوض. (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 18): " ولا ينجس عرق جنب ولا حائض من تحت منكب ولا مأبض، ولا موضع متغير من الجسد، ولا غير متغير، فإن قال قائل: وكيف لا ينجس عرق الجنب والحائض؟ قيل: بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحائض بغسل دم الحيض من ثوبها، ولم يأمرها بغسل الثوب كله، والثوب الذي فيه دم الحيض الإزار، ولا شك في كثرة العرق فيه". اهـ وانظر المجموع (2/ 171). (¬4) المغني (1/ 135)، مجموع الفتاوى (21/ 58). (¬5) البناية (1/ 350)، حاشية ابن عابدين (1/ 201) وذكر عن أبي حنيفة أنه لو نزل رجل محدث في بئر أن الماء والرجل نجسان " وقال في البناية (1/ 351): " رواية الحسن، عن أبي حنيفة، أن الماء المستعمل نجس نجاسة مغلظة، فسرها في المبسوط (1/ 46): أي لا يعفى عنه أكثر من قدر الدرهم. ثم قال العيني: ورواية أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أنه نجس نجاسة مخففة، فسرها بالمبسوط (1/ 46) أن التقدير فيه بالكثير الفاحش. والله أعلم. وقد ذكرنا أدلة مذهبهم في كتاب المياه والآنية في مبحث (الماء المستعمل في رفع الحدث) وذكرنا الجواب عليها في مبحث طويل، فانظره هناك لزاماً. =

الدليل على طهارة بدن الجنب وعرقه

الدليل على طهارة بدن الجنب وعرقه. الدليل الأول: (1283 - 156) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا حميد، قال: حدثنا بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طريق المدينة، وهو جنب، فانخنست منه، فذهب، فاغتسل، ثم جاء فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك، وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله إن المسلم لا ينجس. ورواه مسلم (¬1). الدليل الثاني: من الإجماع، فقد حكى الإجماع بعض أهل العلم على طهارة بدن الجنب وعرقه وسؤره. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، ثبت ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وغيرهم (¬2). وقال ابن تيمية: ((متفق عليه بين الأئمة، أن بدن الجنب طاهر، وعرقه طاهر، والثوب الذي يكون فيه عرقه طاهر، ولو سقط الجنب في دهن، أو ¬

= وذكر النووي في المجموع (2/ 171)، فقال: " وحكى أصحابنا، عن أبي يوسف، أن بدن الحائض نجس، فلو أصابت ماء قليلاً نجسته، وهذا النقل لا أظنه يصح عنه، فإن صح فهو، محجوج بالإجماع، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن حيضتك ليست في يدك " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن المسلم لا ينجس " رواهما البخاري ومسلم. اهـ (¬1) البخاري (283)، ومسلم (371). (¬2) المغني (1/ 135).

دليل الحنفية على نجاسة بدن الجنب

مائع لم ينجسه بلا نزاع بين الأئمة، بل وكذلك الحائض عرقها طاهر، وثوبها الذي يكون فيه عرقها طاهر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أذن للحائض أن تصلي في ثوبها الذي تحيض فيه، وأنها إذا رأت دماً أزالته، وصلت فيه" (¬1). وقد ذكرت لك أن في مذهب الحنفية قولاً بأن الجنب إذا انغمس في ماء قليل نجسه، مما يجعل المسألة خلافية، وليست محل إجماع. دليل الحنفية على نجاسة بدن الجنب. الدليل الأول: قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬2). والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة؛ إذ تطهير الطاهر لا يعقل (¬3). وأجيب: أولاً: إنما سمي طهارة؛ لأنه يطهر العبد من الذنوب، لا أنه طهره من نجاسة حلت فيه؛ ولذلك لما اعتبر أبو هريرة حدثه نجاسة، بين له - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إن المؤمن لا ينجس ". متفق عليه. وقوله: "لا ينجس" أى بمثل ذلك، وإلا فالمؤمن قد تطرأ عليه النجاسة الحسية كغيره. وثانياً: تجديد الوضوء يسمى طهارة شرعية مع أنه متطهر. ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (1/ 226). (¬2) المائدة: 6. (¬3) البناية بتصرف (1/ 350،351).

الراجح

وثالثاً: لو كان المحدث نجساً، لما صح حمله فى الصلاة، وقد جاء في حديث أبي قتادة في الصحيحين: «أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب» (¬1). ورابعاً: المغتسل لابد أن يتساقط عليه من الماء المستعمل، ومعنى هذا أنه سوف يتنجس به، وكذلك سوف يتنجس بما يصيب ثيابه وما يتنشف به. الراجح: أن بدن الجنب طاهر، وقد ثبتت طهارة من هو أغلظ من الجنب، أعني بذلك بدن الحائض، وإنما كانت الحائض أغلظ من الجنب، ذلك لأن الحائض قد اتصفت بالحدث الأكبر، وهو موجود في الجنب، واتصفت بنجاسة الخبث، وهو خروج الدم النجس منها، كما منعت من الصلاة والصيام، ومع ذلك فقد قام الدليل على طهارة بدن الحائض، فما بالك بالجنب. قال النووي: " قال العلماء: لا تكره مضاجعة الحائض، ولا قبلتها، ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة، وتحت الركبة، ولا يكره وضع يدها في شيء من المائعات، ولا يكره غسلها رأس زوجها، أو غيره من محارمها، وترجيله، ولا يكره طبخها وعجنها، وغير ذلك من الصنائع، وسؤرها وعرقها طاهران. وكل هذا متفق عليه، وقد نقل الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري في كتابه (مذاهب العلماء) إجماع المسلمين على هذا كله ودلائله من السنة ظاهرة مشهورة " (¬2). ¬

(¬1) البخاري (516)، ومسلم (41 - 543). (¬2) شرح النووي لصحيح مسلم (3/ 267).

الفصل الثاني عشر في انغماس الجنب في الماء الدائم

الفصل الثاني عشر في انغماس الجنب في الماء الدائم ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الانغماس في الماء الدائم، والإنسان جنب، (1284 - 157) فقد روى مسلم في صحيحه من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً (¬1). والبحث في هذا الحديث في مسألتين: الأولى: حكم الانغماس في الماء الدائم من الجنب. الثانية: أثر انغماس الجنب على الماء القليل. ¬

(¬1) مسلم (283).

المبحث الأول في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم

المبحث الأول في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم اختلف العلماء في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم، فقيل: يحرم، وهو قول في مذهب أبي حنيفة (¬1)، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: يكره، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وقيل: يجوز بلا كراهة بشرط أن يغسل عنه الأذى، وهو اختيار ابن القاسم من المالكية (¬6). وقيل: يجوز اغتسال الجنب في الماء الدائم ما لم يبل فيه، فإن بال فيه منع من الاغتسال (¬7). ¬

(¬1) وهذا القول مبني على رواية في المذهب، تقول بنجاسة الماء المستعمل في رفع الحدث، قال في بدائع الصنائع (1/ 67): " وجه رواية النجاسة ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلن فيه من جنابة " حَرُمَ الاغتسال في الماء القليل؛ لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام، فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة، لم يكن للنهي معنى؛ لأن إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر فحرام .... ". الخ كلامه رحمه الله تعالى. (¬2) المحلى (1/ 203)، ورأى أن الغسل لا يجزئ. (¬3) مواهب الجليل (1/ 75)، الخرشي (1/ 76)، حاشية الدسوقي (1/ 44)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 41)، منح الجليل (1/ 39). (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 189)، المجموع (2/ 108). (¬5) الفروع (1/ 116)، الإنصاف (1/ 44،98). (¬6) المنتقى للباجي (1/ 108). (¬7) فتح الباري (1/ 347).

دليل من قال: يحرم الاغتسال في الماء الدائم

دليل من قال: يحرم الاغتسال في الماء الدائم. (1285 - 158) ما رواه مسلم من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاغتسال فيه، والأصل في النهي التحريم، ولا نصرفه للكراهة إلا بقرينة، ولا قرينة صارفة. دليل من قال: النهي عن الاغتسال في الماء الدائم للكراهة. قال: إن بدن الجنب طاهر، وقد ذكرنا أن ذلك إجماع من أهل العلم في فصل مستقل، ولا يمكن أن ينجس الماء الطهور بملاقاة البدن الطاهر، فكان النهي لمعنى آخر غير معنى تنجس الماء بذلك. فقيل: إن النهي عن الاغتسال فيه من أجل ألا يكون الماء مستعملاً، فيسلبه الطهورية، ويدل لذلك قول أبي هريرة حين سئل: كيف يفعل: قال: يتناوله تناولاً، فدل على أن المنع إنما هو من الانغماس فيه، لئلا يصير الماء مستعملاً، فيمتنع على الغير الانتفاع منه، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره، وهذا التعليل هو قول الجمهور كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في حكم أثر إنغماس الجنب على الماء في الفصل التالي (¬2). ¬

(¬1) مسلم (283). (¬2) التعليل بأن النهي عن الاغتسال في الماء الدائم حتى لا يتحول إلى ماء مستعمل قول ضعيف لأمور: =

دليل من قال: يجوز بلا كراهة بشرط غسل الأذى

وقيل: نهى عن ذلك كراهة أن يستقذر الماء، فإن الطباع تنفر من الماء الراكد القليل إذا اغتسل فيه الجنب (¬1). وسواء كان لهذا المعنى أو ذاك، فإن مثل هذا لا يجعل النهي يبلغ مبلغ التحريم، وإنما هو الكراهة فقط. دليل من قال: يجوز بلا كراهة بشرط غسل الأذى. هذا القول من ابن القاسم مبني على أن ذكر الإنسان لا يسلم من المني والمذي، وهما نجسان في مذهب المالكية كما سنبينه إن شاء الله تعالى في باب ¬

= أولاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلل بأن الماء يكون مستعملاً، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قط بأن الماء يكون مستعملاً، فهذا الكلام زيادة على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: أن الحديث نص في الماء الدائم، وهو يشمل ما فوق القلتين، وما دون القلتين، وأنتم قلتم بأنه لا يكون مستعملاً إلا إذا كان دون القلتين، فهذه مخالفة ثانية للحديث. ثالثاً: أن الحديث نهي عن الاغتسال، وذلك يعني غسل البدن كله، وأنتم أدخلتم حتى الوضوء، بل أدخلتم ما دون ذلك، وذلك كما لو أدخل بعض أعضائه ناوياً رفع الحدث، فإن الماء يكون مستعملاً عندكم: أي طاهر، غير مطهر، فالحديث نص في الحدث الأكبر، فخالفتم الحديث، فأدخلتم الحدث الأصغر، بل حتى ولو غمس بعض أعضاء الحدث الأصغر. وهذه مخالفة ثالثة للحديث مع أن أبا هريرة قد أرشد إلى تناول الماء باليد، وهو نوع من إدخال العضو فيه، والتفريق بين اليد وغيرها تفريق بين متماثلين. رابعاً: الحديث نهى الجنب أن يغتسل في الماء ما دام جنباً، سواء نوى رفع الحدث، أو لم ينو؛ لأن معنى: " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " أي لا يغتسل حالة كونه جنباً، ولم يتطرق الحديث إلى اشتراط النية، وأنتم قلتم: لو انغمس، وهو جنب، ولم ينو رفع الحدث لايكون الماء مستعملاً، بل يبقى طهوراً، وهذه مخالفة رابعة. فتبين أن تعليل النهي حتى لا يكون الماء مستعملاً تعليل ضعيف، والله أعلم. (¬1) عون المعبود (1/ 101).

دليل من قال: إن النهي عن الجمع بين البول والاغتسال

النجاسات. فإذا غسل الإنسان الأذى عنه أصبح بدنه طاهراً، فلا كراهة في هذه الحالة في انغماسه في الماء الدائم، لأن الماء لا ينجس إلا بملاقاته النجاسة، ولا نجاسة هنا. وهذا قول ضعيف أيضاً؛ لأن النهي لو كان خوفاً من تلوث الماء بالنجاسة؛ لأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غسل الأذى قبل الاغتسال، خاصة وأنه يسن لمن أراد الغسل أن يغسل فرجه وما أصابه من أذى في أول غسله، فالنص النبوي مطلق، سواء غسل الأذى أو لم يغسله، ولا يجوز أن يخص النص العام ولا يقيد النص المطلق إلا بنص مثله. دليل من قال: إن النهي عن الجمع بين البول والاغتسال. (1286 - 159) استدلوا بما رواه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. هذا القول خرجه أصحابه على إمكان نصب كلمة (يغتسل) فقوله: «ثم يغتسل فيه» وذلك على تقدير (أن) محذوفة بعد حرف العطف (ثم) وكأنهم جعلوا (ثم) مقام واو المعية، أي: وأن يغتسل فيه. فكأنه نهى عن البول والاغتسال معاً، أي نهى عن الجمع بينهما، وليس فيه تعرض للبول مفرداً، أو للاغتسال مفرداً. وهذا الحمل مبني على تجويز نصب كلمة (يغتسل)، وتفسير النصب بأنه محمول على النهي عن الجمع بين البول والاغتسال. والذي يدل على أن النصب إنما ذكره النحاة من باب التجويز، وليس من باب الرواية.

قال ابن حجر: «قال القرطبي: لا يجوز النصب؛ إذ لا تضمر أن بعد (ثم) وأجازه ابن مالك بإعطاء (ثم) حكم (الواو) وتعقبه النووي: بأن ذلك يقتضي أن يكون المنهي عنه الجمع بين الأمرين، دون إ فراد أحدهما، وضعفه ابن دقيق العيد، بأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر» (¬1). فهذا واضح أن الكلام على التخريج اللغوي، وليس مبنياً على رواية محفوظة، رواها الرواة بالنصب، وقام النحويون بتخريجها بناء على ما حفظ من أفواه الرواة، فالمشهور في الحديث كما قال ابن حجر هو على رفع (ثم يغتسلُ فيه) (¬2). ¬

(¬1) الفتح تحت رقم (238). (¬2) قال ابن حجر في الفتح تحت رقم (238): " قوله: " ثم يغتسلُ فيه " بضم اللام على المشهور ". فيكون قوله (ثم يغتسل فيه): خرج مخرج التعليل، أي: لا تبل في هذا الماء الراكد؛ لأنه ليس من الحزم، ولا من المروءة أن تبول فيه، وأنت ستحتاجه عما قليل لغسل أو وضوء أو غيره. فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن زمعة مرفوعاً " لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم " رواه البخاري (5204). وفي رواية لمسلم (2855): إلام يجلد أحدكم امرأته جلد العبد - وفي رواية: الأمة - ولعلها يضاجعها من آخر يومه. وهذا الحديث لم يروه أحد بالجزم؛ لأن المراد النهي عن الضرب؛ لأنه يحتاج في مآل حاله إلى مضاجعتها، فتمتنع لإساءته إليها، فلا يحصل له مقصوده. وهناك طريق آخر عند أبي داود، قال فيه: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة " فيكون الحديث فيه النهي عن كل واحد منهما مستقلاً، والجمع بين النهي عن البول في الماء الدائم والنهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، ولو لم يبل فيه جمع بيهما ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة. =

الراجح

وعلى فرض أن اللفظ ورد بالنصب، فإنه لا يمكن منع أنه ثبت في صحيح مسلم من طريقين مستقلين: النهي عن البول في الماء الراكد من حديث جابر، والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم، وهو جنب دون تعرض للبول. فيكون قد ورد النهي عن البول منفرداً، وعن الاغتسال منفرداً، وعن الجمع بينهما على تقدير أن تكون رواية النصب محفوظة، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بأن اغتسال الجنب في الماء الدائم مكروه، وليس بحرام، هو القول القوي من حيث التعليل، كما أن هذا القول وسط بين قولين: القول بالتحريم مطلقاً، والقول بالجواز إذا غسل ما به من أذى، والله أعلم. ¬

_ = وليس النقاش في ثبوت النهي عن الاغتسال في الماء الدائم للجنب، وإنما جمع الحديثين في حديث واحد انفرد به ابن عجلان في سائر من روى الحديث، وانفراده يوجب ريبة أن الحديث بهذا اللفظ لم يثبت، وقد اختلف على ابن عجلان أيضاً في إسناده. كما روى الحديث جماعة عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما، لم يذكروا ما ذكره محمد بن عجلان: منهم: محمد بن سيرين، وهو من أثبت أصحاب أبي هريرة، وهمام، والأعرج من غير طريق ابن عجلان، وحميد بن عبد الرحمن، وخلاس بن عمرو، وعطاء بن مينا، وأبو عثمان مولى المغيرة بن شعبة، وأبو مريم، فهؤلاء ثمانية رواة رووه عن أبي هريرة، ولم يقل واحد منهم ما قاله ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن أبي هريرة بجمعه حديثين في حديث واحد، وإذا أحببت أن تقف على بيان تخريج ذلك من مصادر كتب السنة فانظر تخريجه في كتاب أحكام الطهارة من هذه السلسلة (أحكام المياه والآنية) في فصل: حكم الماء المستعمل في رفع الحدث. والله أعلم.

المبحث الثاني أثر انغماس الجنب على الماء القليل

المبحث الثاني أثر انغماس الجنب على الماء القليل ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الجنب إذا انغمس في ماء قليل تحول الماء إلى ماء مستعمل، وسبق لنا أن بينا في مباحث المياه متى يكون الماء مستعملاً؟ وذكرنا أن: الماء المتقاطر من أعضاء الوضوء في رفع الحدث مستعمل بالاتفاق. وأما إذا غمس يده في ماء بنية رفع الحدث، فهل يكون مستعملاً؟ قالوا: إذا كان الماء قليلاً كان مستعملاً. واختلفوا في حد القليل: فيرى الحنفية أن الجنب إذا انغمس في البئر بنية رفع الحدث فسد الماء، وإن انغمس لطلب الدلو فسد الماء على رأي أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه. ومعنى هذا أن البئر في حد القليل عندهم. وأما المالكية فيرون اليسير كآنية الوضوء والغسل، فإن غمس يده فيها صار مستعملاً، وإن كان أكثر من ذلك لم يكن مستعملاً. والشافعية والحنابلة يحدون القليل بما دون القلتين، فإن انغمس في ماء دون القلتين صار مستعملاً، وإلا فلا. ولا يكون الماء مستعملاً إذا أدخل يده في الإناء ليغترف منها. وقيل: بشرط أن يدخلها بنية الاغتراف (¬1). ¬

(¬1) انظر العزو إلى كتب المذاهب في مباحث (كتاب المياه - والآنية) فصل: في حكم الماء المستعمل.

إذا عرفنا هذا نأتي إلى الأقوال في حكم الماء القليل إذا استعمل في رفع الجنابة، كما لو انغمس فيه جنب بنية رفع الحدث، فقيل: إنه نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬1)، واختارها أبو يوسف (¬2). وقيل: إنه طهور مكروه في رفع الحدث، غير مكروه في زوال الخبث، وهو مذهب المالكية (¬3). وقيل: إنه طاهر غير مطهر، وهو الرواية المشهورة عن أبي حنيفة، وعليه الفتوى (¬4)، ¬

(¬1) البناية (1/ 350)، حاشية ابن عابدين (1/ 201) وذكر عن أبي حنيفة أنه لو نزل رجل محدث في بئر أن الماء والرجل نجسان " وقال في البناية (1/ 351): " رواية الحسن عن أبي حنيفة أن الماء المستعمل نجس نجاسة مغلظة، فسرها في المبسوط (1/ 46): أي لا يعفى عنه أكثر من قدر الدرهم. ثم قال العيني: ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه نجس نجاسة مخففة، فسرها بالمبسوط (1/ 46) أن التقدير فيه بالكثير الفاحش. والله أعلم. (¬2) المراجع السابقة. (¬3) الشرح الصغير (1/ 37)، حاشية الدسوقي (1/ 37)، بداية المجتهد مع الهداي في تخريج أحاديث البداية (1/ 274). والكراهة مقيدة بأمرين: الأول: أن يكون ذلك الماء قليلاً كآنية الوضوء والغسل. الثاني: أن يوجد غيره، وإلا فلا كراهة. (¬4) انظر شرح فتح القدير (1/ 87)، والمبسوط (1/ 46)، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/ 200، 201)، قال العيني في البناية (1/ 349): ورواه زفر رحمه الله أيضاً عن أبي حنيفة يعني، كونه طاهراً، ثم قال: حتى كان قاضي القضاة أبو حازم عبد الحميد العراقي يقول: ارجو أن لا تثبت رواية النجاسة فيه عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر، قال في المحيط: وهو الأشهر الأقيس. قال في المفيد: وهو الصحيح. قال الاسبيجابي: وعليه الفتوى.

ومذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، واختيار محمد بن الحسن من الحنفية (¬3). وقيل: طهور بلا كراهة، وهو رواية عن أحمد (¬4)، ورجحها ابن حزم (¬5)، ¬

(¬1) الأم (8/ 100)، الروضة (1/ 7)، وقال النووي في المجموع (1/ 202): " قال الشيخ أبو حامد: نص الشافعي في جميع كتبه القديمة والجديدة، أن المستعمل ليس بطهور ". وقال الماوردي: الماء المستعمل في رفع الحدث، وهو ما انفصل من أعضاء المحدث في وضوئه، أو من بدن الجنب في غسله، فذهب الشافعي المنصوص عليه في كتبه القديمة والجديدة، وما نقله عنه جميع أصحابه سماعاً، ورواية، أنه طاهر مطهر. هكذا في الحاوي (1/ 296)، وهذه العبارة نصها نقلها النووي إلا أنه قال: " وما نقله جميع أصحابه سماعاً ورواية أنه غير طهور ". المجموع (1/ 203). وعبارة النووي أصوب؛ لما عرف من مذهب الشافعي رحمه الله. ولذلك قال الماوردي بعد العبارة السابقة مما يبين أنها خطأ، قال: فكان أبو إسحاق المروزي، وأبو حامد المروزي يخرجان الماء المستعمل على قولين: الأول: أنه طاهر غير مطهر، وهو ما صرح به في جميع كتبه، ونقله جمهور أصحابه. اهـ فهذا يدل على خطأ في النص السابق، ولم ينتبه له محقق الكتاب - إن لم يكن الخطأ من الناسخ - ثم قال: والثاني: أنه طاهر مطهر، وهو ما حكاه عيسى بن أبان، ودلت عليه رواية أبي ثور، وكان أبو العباس، وابن أبي هريرة يمنعان من تخريج القولين، ويعدلان عن رواية عيسى؛ لأنه وإن كان ثقة، فهو مخالف لما يحكيه أصحاب الخلاف، ولم يلق الشافعي فيحكيه سماعاً من لفظه، ولا هو منصوصه، فيأخذ من كتبه، ولعله تأول كلامه في نصرة طهارته رداً على أبي يوسف فحمله على جواز الطهارة به. الخ كلامه. (¬2) الإنصاف (1/ 35،36)، كشاف القناع (1/ 32)، شرح منتهى الإرادات (1/ 14). (¬3) شرح فتح القدير (1/ 87)، والمبسوط (1/ 46)، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/ 200، 201)، البناية (1/ 349). (¬4) الكافي (1/ 5)، المبدع (1/ 44)، وقال صاحب الانصاف (1/ 36): وهو أقوى في النظر. (¬5) المحلى (1/ 183).

وابن تيمية (¬1)، وابن عبد الهادي (¬2)، والشوكاني (¬3)، وغيرهم. وقد ذكرت دليل كل قول، والراجح من الأقوال في كتاب أحكام المياه والآنية، فأغنى عن إعادته مرة أخرى، وذهبت إلى أن الراجح أن الماء المستعمل في غسل الجنابة طهور غير مكروه. ¬

(¬1) الاختيارات للبعلي (ص: 3)، ومجموع الفتاوى (20/ 519). (¬2) التنقيح (1/ 211). (¬3) نيل الأوطار (1/ 44).

الفصل الثالث عشر في ذبيحة الجنب

الفصل الثالث عشر في ذبيحة الجنب ذهب الأئمة الأربعة (¬1) إلى جواز أكل ذبيحة الجنب. وقيل: تكره، وهو رواية عن أحمد (¬2). وقال عكرمة وقتادة: يذبح الجنب إذا توضأ (¬3). والصحيح جواز ذبيحة الجنب بلا كراهة، لأدلة منها: الدليل الأول: القياس الجلي على ذبيحة الكتابي، فإذا كان القرآن قد نص على جواز ذبيحة أهل الكتاب، مع نص القرآن على أنهم مشركون، وأنجاس. قال تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} (¬4). مع قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (¬5). ¬

(¬1) انظر مواهب الجليل (3/ 209)، والمجموع (9/ 88)، والمغني (9/ 322)، شرح منتهى الإرادات (3/ 418)، مطالب أولي النهى (6/ 329). (¬2) قال في الإنصاف (10/ 389): " وعنه - يعني عن الإمام - تكره ذبيحة الأقلف، والجنب، والحائض، والنفساء ". (¬3) المحلى (6/ 143)، قلت: وقد ذكر عن عكرمة وقتادة أن الجنب لا يذبح، ولو توضأ، انظر مواهب الجليل (3/ 209)، ولا أعلم صحة إسناده عنهما. (¬4) المائدة: (¬5) التوبة: 28.

الدليل الثاني

والنصارى من جملة المشركين؛ لأنهم يعتقدون بأن الله ثالث ثلاثة، وأن المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام إله من دون الله، فكون ذبيحة الجنب تجوز من باب أولى فأولى، ثم أولى فأولى، وقد نصت السنة بأن المؤمن الجنب ليس بنجس، كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين، قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت ثم جئت، وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له، فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس (¬1). الدليل الثاني: نقل بعض أهل العلم الإجماع على جواز ذبيحة الجنب قال النووي: «نقل ابن المنذر الاتفاق على حل ذبيحة الجنب، قال: وإذا دل القرآن على حل ذبيحة الكتابي، مع أنه نجس، فالذي نفت السنة عنه النجاسة أولى» (¬2). وقال ابن قدامة: وإن كان جنباً جاز له أن يسمي ويذبح، وذلك أن الجنب تجوز له التسمية، ولا يمنع منها؛ لأنه إنما يمنع من القرآن، لا من الذكر، ولهذا تشرع له التسمية عند اغتساله، وليست الجنابة أعظم من الكفر، والكافر يسمي ويذبح، وممن رخص في ذبح الجنب: الحسن، والحكم، والليث، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً منع من ذلك (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (285) ومسلم (371). (¬2) المجموع (9/ 88). (¬3) المغني (9/ 331).

(1321 - 194) وقد روى البخاري في صحيحه من طريق عبيد الله، عن نافع، أنه سمع ابن كعب بن مالك يحدث عن أبيه، أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتاَ، فكسرت حجراً، فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من يسأله، وأنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذاك، أو أرسل، فأمره بأكلها (¬1). وجه الاستدلال من الحديث: ففي هذا الحديث دليل على جواز إباحة ذبيحة المرأة، والحائض، والجنب، أما المرأة فظاهر، وأما الحائض، فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل، هل المرأة كانت حائضاً أم لا؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وإذا جازت من الحائض جازت من الجنب، لأن الحيض أشد، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (2304).

الباب الرابع في آداب الغسل

الباب الرابع في آداب الغسل الفصل الأول في عدم الإسراف في الماء مع إحكام الغسل سبق أن ذكرنا الأقوال في مقدار ماء الوضوء، في كتاب الوضوء، ونبين هنا الأقوال في مقدار ماء الغسل، فالجمهور على كراهة الإسراف في ماء الغسل (¬1). وقيل: يحرم الإسراف فيه، اختاره البغوي والمتولي من الشافعية (¬2). كما أن الفقهاء متفقون على أنه لا يشترط قدر معين في ماء الغسل، لا يجوز النقص عنه، ولا الزيادة عليه، فإذا استوعب الأعضاء كفاه بأي قدر كان. قال النووي: «أجمعت الأمة على أن ماء الوضوء والغسل لا يشترط فيه قدر معين، بل إذا استوعب الأعضاء كفاه بأي قدر كان، وممن نقل الإجماع فيه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري» (¬3). ¬

(¬1) قال البخاري في صحيحه، في كتاب الوضوء: وكره أهل العلم الإسراف فيه. وقال النووي في المجموع (2/ 220): واتفق أصحابنا وغيرهم على ذم الإسراف في الماء في الوضوء والغسل، وقال البخاري في صحيحه: كره أهل العلم الإسراف فيه، والمشهور أنه مكروه كراهة تنزيه، وقال البغوي والمتولي: حرام ... ". (¬2) انظر المجموع (2/ 220). (¬3) المجموع (2/ 219).

وإذا قلنا لا يشترط قدر معين في ماء الغسل، فهل يستحب الصاع؟ فقيل: الصاع أدنى ما يكفي في الغسل، وهل يكفي الصاع حتى لو جمع بين الوضوء والغسل؟ أو الصاع يكفي إن ترك الوضوء، فإن توضأ قبل الغسل زاد على الصاع مداً للوضوء؟ قولان في مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يستحب أن يغتسل بالصاع، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا تقدير في ماء الغسل مطلقاً، وهو مذهب المالكية (¬4). وقيل: لا يجزئ في الغسل أقل من صاع، اختاره شعبان من المالكية (¬5)، وبعض الشافعية (¬6). ¬

(¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 35): وأما بيان مقدار الماء الذي يغتسل فيه، فقد ذكر في ظاهر الرواية، وقال: أدنى ما يكفي في الغسل من الماء صاع، وفي الوضوء مد " ثم قال: "وهذا التقدير الذي ذكره محمد، من الصاع والمد في الوضوء، ليس بتقدير لازم، بحيث لا يجوز النقصان عنه، أو الزيادة عليه، بل هو بيان مقدار أدنى الكفاية عادة، حتى إن من أسبغ الوضوء والغسل بدون ذلك أجزأه ". اهـ وانظر المبسوط (1/ 45)، الفتاوى الهندية (1/ 16) (¬2) قال في المجموع (1/ 492): " ماء الوضوء والغسل غير مقدر، لكن يستحب أن لا ينقص في الوضوء عن مد، ولا في الغسل عن صاع، والإسراف مكروه بالاتفاق ... (¬3) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 309)، الفروع (1/ 205)، شرح منتهى الإرادات (1/ 87)، كشاف القناع (1/ 155). (¬4) مواهب الجليل (1/ 256)، (¬5) مواهب الجليل (1/ 256). (¬6) المجموع (2/ 219).

دليل من قال: باستحباب الصاع للغسل

دليل من قال: باستحباب الصاع للغسل: الدليل الأول: (1287 - 160) ما رواه البخاري، من طريق أبي جعفر، أنه كان عند جابر بن عبد الله هو وأبوه، وعنده قوم، فسألوه عن الغسل؟ فقال: يكفيك صاع؟ فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعراً، وخير منك، ثم أمنا في ثوب (¬1). الدليل الثاني: (1288 - 161) ما رواه مسلم من طريق أبي ريحانة، عن سفينة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسله الصاع من الماء من الجنابة، ويوضئه المد (¬2). الدليل الثالث: (1289 - 162) ما رواه الشيخان من طريق عبد الله بن عبد الله بن جبر، قال: سمعت أنساً يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. رواه البخاري (¬3)، ومسلم (¬4). ¬

(¬1) البخاري (252). (¬2) مسلم (336). (¬3) البخاري (201). (¬4) مسلم (326).

دليل من قال: لا تقدير في ماء الغسل

دليل من قال: لا تقدير في ماء الغسل. استدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: الإجماع، قال ابن عبد البر: «أجمعوا على أن الماء لا يكال للوضوء، ولا للغسل، من قال منهم بحديث المد والصاع، ومن قال بحديث الفرق، لا يختلفون أنه لا يكال الماء لوضوء ولا غسل، لا أعلم في ذلك خلافاً، ولو كانت الآثار في ذلك على التحديد الذي لا يتجاوز استحباباً، أو وجوباً، ما كرهوا الكيل، بل كانوا يستحبونه اقتداء وتأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكرهونه» (¬1). الدليل الثاني: أن النصوص الواردة في مقدار الماء الذي يغتسل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت بمقادير متفاوتة، وهذا دليل على أنه ليس هناك مقدار معين يمكن استحبابه، بل المطلوب هو إحكام الغسل، مع قلة الماء. (1290 - 163) منها ما رواه مسلم من طريق حفصة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر، أن عائشة أخبرتها، أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد، يسع ثلاثة أمداد، أو قريباً من ذلك (¬2). (1291 - 164) ومنها ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن عروة، ¬

(¬1) التمهيد (8/ 105). (¬2) مسلم (321).

دليل من قال: لا يجزئ أقل من صاع

عن عائشة قالت كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من قدح يقال له الفرق. ورواه مسلم (¬1). قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة آصع (¬2). قال ابن حجر: «فهذا يدل على اختلاف الحال بقدر الحاجة، وفيه رد على من قدر الوضوء والغسل بالمد والصاع، كابن شعبان من المالكية، وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع» (¬3). دليل من قال: لا يجزئ أقل من صاع. استدلوا بحديث أنس في الصحيحين وتقدم ذكره، وليس فيه تحديد، بل ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اغتسل بأقل من صاع، كما ذكرت ذلك في أدلة المالكية. الراجح من الخلاف: مذهب المالكية أقوى من غيرهم، وأن الوارد لم يكن على سبيل استحباب التحديد؛ وذلك لأن الناس يختلفون في هذا، فهناك من الناس من هو معتدل الخلقة، ومنهم النحيف، ومنهم المتفاحش الخلق طولاً وعرضاً، ومنهم صاحب الشعر الكثير، ومنهم غير ذلك، فاستحباب مقدار معين لكل الناس على اختلاف خلقتهم قول ضعيف، فالأولى أن يقال كما قال المالكية: المستحب إحكام الغسل، مع قلة الماء، بأي مقدار تحقق ذلك، فقد حقق السنة، الله أعلم. ¬

(¬1) البخاري (250)، ومسلم (319). (¬2) الفتح تحت رقم (201). (¬3) فتح الباري تحت رقم (201).

الفصل الثاني من آداب الغسل أن يستتر عن أعين الناس

الفصل الثاني من آداب الغسل أن يستتر عن أعين الناس والستر تارة يكون للبدن، وتارة يكون للعورة، وحرصاً على هذا الأدب تكلم الفقهاء في هاتين المسألتين، وتعرضوا للكلام عليهما في حكم دخول الحمام؛ لأنه يلزم من دخول الحمام غالباً، أن يتعرض: إما لكشف عورته، أو النظر إلى عورة الآخرين ممن يتساهل في سترها،، وسوف أسوق البحث في هذه المسائل الثلاث في حكم ستر العورة، وفي حكم ستر البدن حال الغسل، وفي حكم دخول الحمام.

المبحث الأول في حكم ستر العورة

المبحث الأول في حكم ستر العورة الفرع الأول ستر العورة عن النظر إليها من الأجانب أما ستر العورة عن النظر إليها فهو واجب، ويحرم على المسلم أن يكشف عورته لناظر من غير حاجة (¬1). وهو أمر مجمع عليه، قال النووي: «ستر العورة عن العيون واجب بالإجماع» (¬2). ومستند الإجماع كتاب الله وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (2/ 185)، شرح معاني الآثار (1/ 476)، المبسوط (10/ 155)، العناية شرح الهداية (10/ 28)، درر الحكام (1/ 313،314)، واعتبر الزيلعي النظر إلى عورة الغير موجباً للفسق، انظر تبيين الحقائق (3/ 194). وانظر في مذهب المالكية: حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/ 736)، والخرشي (1/ 246)، حاشية العدوي (2/ 456)، المنتقى شرح الموطأ (2/ 2). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/ 237)، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 115)، وطرح التثريب (2/ 227) و (6/ 103)، وحاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 320). وانظر في مذهب الحنابلة: الفتاوى الكبرى (1/ 284،300)، الإنصاف (8/ 28)، كشاف القناع (1/ 265). (¬2) المجموع (3/ 171).

أما الكتاب فقال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} (¬1). (1292 - 165) ومن السنة: روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، عن الضحاك بن عثمان قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد (¬2). بقي للبحث مسألة كشف العورة، والإنسان خالٍ من غير حاجة، وكشف العورة للحاجة كما لو كشفها للغسل، وهذا الكشف يعبر عنه بالحاجة، وليس بالضرورة؛ لأنه يمكنه أن يغتسل بدون كشف العورة، كما لو اغتسل، وهو متسرول، وهاتان المسألتان قد خصصت لهما مباحث مستقلة، لوجود الخلاف فيها، والله أعلم. ¬

(¬1) النور: 30. (¬2) صحيح مسلم (338).

الفرع الثاني في كشف العورة بالخلوة من غير حاجة

الفرع الثاني في كشف العورة بالخلوة من غير حاجة أختلف أهل العلم في حكم كشف العورة بالخلوة من غير حاجة. فقيل: يكره، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3). وقيل: لا يجوز، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، وقول في مذهب الحنفية (¬6). ¬

(¬1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 36)، المبسوط (30/ 265)، البحر الرائق (8/ 219)، الكسب (ص: 77). (¬2) الفواكه الدواني (2/ 595)، حاشية العدوي (2/ 595). (¬3) طرح التثريب (2/ 227). (¬4) قال النووي في شرح صحيح مسلم (4/ 32): " وأما كشف الرجل عورته في حال الخلوة، بحيث لا يراه آدمي، فإن كان لحاجته جاز، وإن كان لغير حاجته ففيه خلاف بين العلماء في كراهته وتحريمه، والأصح عندنا أنه حرام". وانظر شرح زبد ابن رسلان (ص:59). وفي كتاب أسنى المطالب (1/ 176) " قال صاحب الذخائر: يجوز كشف العورة في الخلوة لأدنى غرض، ولا يشترط حصول الحاجة، ومن الأغراض كشف العورة للتبريد، وصيانة الثوب من الأدناس والغبار عند كنس البيت وغيره، وهي فائدة جليلة نقلها ابن العماد ". اهـ (¬5) الفروع (1/ 329)، الآداب الشرعية لابن مفلح (3/ 322)، مجموع الفتاوى (21/ 247)، كشاف القناع (1/ 264). (¬6) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 36).

دليل من قال بالتحريم

دليل من قال بالتحريم: (1293 - 166) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وإسماعيل بن إبراهيم، عن بهز قال: حدثني أبي، عن جدي قال: قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها، وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك. قال، قلت: يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه. حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز فذكر مثله قال فالله عز وجل أحق أن يستحيا منه، ووضع يده على فرجه (¬1). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: قال ابن حجر: «ظاهر حديث بهز يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقاً». اهـ قلت: لأن وجوب ستر العورة عن الناس لا ينازع فيه أحد، فإذا كان الله أحق أن يستحيا منه من الناس، كان ستر العورة خالياً أولى بالمنع هذا ما يفيده قوله: «فالله أحق» كما استُدِلَ به في قوله: «اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء» ¬

(¬1) المسند (5/ 3،4). (¬2) انظر من هذه السلسلة كتاب أحكام الطهارة (آداب الاستنجاء) رقم (250).

(1294 - 167) فقد روى البخاري، قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إن أختي قد نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان عليها دين، أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقض الله، فهو أحق بالقضاء (¬1). وكونه ثبت عن موسى وأيوب عليهما السلام اغتسالهما عريانين، فهذا في شريعتهما، وقد جاء في شريعتنا ما يدل على وجوب ستر العورة خالياً. قال الشوكاني: أصل ستر العورة الوجوب، فلا يحل كشف شيء منها إلا لضرورة، كما يكون عند خروج الحاجة، فالاستتار قبل حالة الخروج واجب، فيكشف عورته حالا الانحطاط لخروج الخارج، لا حال كونه قائماً، ولا حال كونه ماشياً إلى قضاء الحاجة (¬2). اهـ وممكن أن يجاب: بأن يقال: قوله: «فالله أحق بالقضاء» هذا التعبير لا يدل على الوجوب، فالصيام عن الميت، ووفاء نذره لا يجب على غير الميت، ولكن القضاء عنه من الوفاء له، والبر به، لأن الأصل في العبادة أنها واجبة على الإنسان نفسه، لكن إن تطوع أحد من الورثة كان محسناً، فلا يدل تعبير «فالله أحق» على وجوب قضاء العبادة عن الميت، وبالتالي لا يدل على وجوب ستر العورة، والإنسان خالياً، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (6699). (¬2) السيل الجرار (1/ 64).

دليل من قال: يستحب ولا يجب

دليل من قال: يستحب ولا يجب. عورة الإنسان بضعة منه، ولا يحرم عليه النظر إلى أي جزء من جسمه، فكما أنه يباح له النظر إلى عورة زوجته، وما ملكت يمينه، فعورته أولى بالجواز، وتحريم النظر إلى عورة الغير هي من باب تحريم الوسائل، حتى لا يكون وسيلة إلى الوقوع في المحرم، وهذا منتف في نظره إلى عورته، وإنما يستحب الستر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فالله أحق أن يستحيا منه». الراجح: القول باستحباب ستر العورة إذا كان الإنسان خالياً أقوى من حيث النظر، والله أعلم.

الفرع الثالث في كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خاليا

الفرع الثالث في كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خالياً اختلف الفقهاء في حكم كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خالياً، فقيل: بالجواز، والستر أفضل، وهو مذهب الأئمة الربعة (¬1)، واختاره البخاري رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: لا يجوز، اختاره ابن أبي ليلى (¬3). دليل من قال بالجواز. (1295 - 168) ما رواه البخاري من طريق معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر، ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (30/ 265) البحر الرائق (8/ 219)، الكسب (ص: 77). وفي مذهب المالكية، انظر حاشية العدوي (2/ 595)، الفواكه الداني (2/ 311). وفي مذهب الشافعية، انظر طرح التثريب (2/ 226)، المجموع (2/ 227) و (3/ 171) إعانة الطالبين (1/ 80)، شرح زبد ابن رسلان (ص: 59). وفي مذهب الحنابلة، انظر الإنصاف (1/ 447)، الفتاوى الفقهية الكبرى (1/ 48)، المغني (1/ 147)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 247)، المغني (1/ 146) .. (¬2) المجموع (2/ 228). (¬3) طرح التثريب (2/ 225).

حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، فقال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضرباً بالحجر (¬1). وجه الاستدلال: أن موسى عليه الصلاة والسلام اغتسل عرياناً، وهذا وإن كان في شرع من قبلنا، إلا أنه لم يأت في شرعنا ما ينسخه، ولو كان الاغتسال عرياناً في الخلوة منافياً للآداب لمنع منه الأنبياء. وقال الشوكاني: «وجه الدلالة منه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قص القصتين، ولم يتعقب شيئاً منهما، فدل على موافقتهما لشرعنا، وإلا فلو كان فيهما شيء غير موافق لبينه» (¬2). الدليل الثاني: (1296 - 169) ما رواه البخاري من طريق معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك (¬3). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال منه كالاستدلال بالحديث السابق سواء بسواء. ¬

(¬1) صحيح البخاري (278)، ومسلم (339). (¬2) نيل الأوطار (1/ 318). (¬3) البخاري (7493).

دليل من قال: يحرم التعري للاغتسال

الدليل الثالث: الاغتسال عرياناً غاية ما فيه أن يكون محرماً، وكل ما كان محرماً لغيره تبيحه الحاجة، وإن لم تكن ضرورة، انظر النظر إلى العورة في الختان، والنظر إلى العورة في التداوي، بل أباح الشرع ربا الفضل كما في بيع العرايا لحاجة التفكه، فالحاجة إلى الاغتسال عرياناً محافظة على ثيابه من البلل، وعلى بدنه من البرد يكفي في إباحة التعري للاغتسال، والله أعلم. دليل من قال: يحرم التعري للاغتسال. الدليل الأول: (1297 - 170) حديث بهز بن حكيم، قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها، وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك. قال، قلت: يا رسول الله، فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه. فإذا كان التعري حال الخلوة محرماً، فكذلك التعري حال الاغتسال، لأنه تعر حال الخلوة، وليس هناك ضرورة بحيث يباح التعري للاغتسال، فيمكنه أن يغتسل، وهو متزر أو عليه سراويل. وسبق الجواب عن هذا الحديث بالمسألة التي قبل هذه. الدليل الثاني: (1298 - 171) ما رواه ابن عدي، من طريق يحيى بن سعيد، ثنا أبو الزبير،

الراجح

عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل أحدكم الماء إلا بمئزر؛ فإن للماء عامراً (¬1). [ضعيف جداً أو موضوع] (¬2). الراجح: بعد استعراض أدلة القولين، نجد أن القول بجواز الاغتسال عرياناً هو الأقوى من حيث الدلالة، وهو الذي يليق بالفتوى، فإن المنع فيه تضييق على الناس، مع أنه لا يدفع مفسدة، ولا يحقق مصلحة، ويكفي أن الجواز قد دل عليه فعل موسى عليه الصلاة والسلام، وهو من أولى العزم من الرسل، ولو كان منافياً للفطرة، أو مخالفاً للمرؤة لكان أبعد ما يكون عنه أنبياء الله سبحانه وتعالى، والله أعلم. ¬

(¬1) الكامل في ضعفاء الرجال (7/ 194). (¬2) في إسناده يحيى بن سعيد، قال النسائي: يروي عن الزهري أحاديث موضوعة. الكامل (7/ 194). وقال البخار ي وأبو حاتم: منكر الحديث. لسان الميزان (6/ 258).

المبحث الثاني في ستر سائر البدن حال الغسل

المبحث الثاني في ستر سائر البدن حال الغسل تكلمت فيما سبق في ستر العورة، وبقي الكلام في ستر سائر البدن من غير العورة عن أعين الناس، وقد دلت أحاديث كثيرة على استحباب ستر سائر البدن، منها: (1299 - 172) ما رواه البخاري من طريق أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره، أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة تستره فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ (¬1). (1300 - 173) ومنها ما رواه البخاري من طريق الأعمش، عن سالم ابن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، وما أصابه، ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه (¬2). ¬

(¬1) البخاري (280)، ومسلم (336). (¬2) البخاري (281)، ورواه مسلم (317)، ولم يذكر فيه قولها: " سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -.

المبحث الثالث في دخول الحمام من أجل الاغتسال

المبحث الثالث في دخول الحمام من أجل الاغتسال تعريف الحمام: الحمام: مشدد، والمستحم في الأصل: الموضع الذي يستحم فيه بالحميم، وهو الماء الحار. قال في الفتاوى الهندية: «الحمام يذكره العرب، هكذا في عين الخليل، وهو فعال: من الحميم، واستحم الرجل: إذا دخل الحمام، وحقيقته: إغتسال بالماء الحميم» (¬1). وقال في الشرح الكبير: «حمام، بتشديد الميم: وهو بيت الماء، المعد للحموم فيه بالماء الساخن، لتنظيف البدن والتداوي» (¬2). ¬

(¬1) الفتاوى الهندية (6/ 250). (¬2) الشرح الكبير (4/ 43).

خلاف أهل العلم في دخول الحمام اختلف أهل العلم في حكم دخول الحمام للاغتسال، فقيل: إنه ينهى عنه الرجال والنساء، وهو رواية عن الإمام أحمد وإسحاق (¬1). وقيل: يباح دخوله للرجال، وهو مذهب الجمهور (¬2)، واختلفوا في ¬

(¬1) في كتاب المسائل (ص: 138): قلت يغتسل من الحمام؟ قال: لا. قال إسحاق: كما قال. وفي مسائل أحمد رواية عبد الله (24): سمعت أبي سئل عن الغسل من ماء الحمام؟ قال: لا يغتسل من ماء الحمام. (¬2) نص على أن القول بالجواز هو مذهب الجمهور ابن كثير في كتابه (الآداب والأحكام المتعلقة بدخول الحمام) (ص: 44)، وانظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (4/ 213)، المبسوط (10/ 147)، تبيين الحقائق (3/ 58)، شرح فتح القدير (4/ 399). وفي مذهب المالكية ذكر الحطاب في مواهب الجليل (1/ 80): أن دخول الحمام وقع فيه اختلاف في الروايات، وفتاوى الشيوخ، والذي حصله ابن رشد في جامع المقدمات وتبعه عليه المتأخرون: ابن شاس، والقرافي، وابن ناجي، وغيرهم، أن دخوله للرجال على ثلاثة أقسام: الأول: إذا كان خالياً، قال ابن ناجي: أو مع زوجته، أو جاريته، فهو جائز بلا كراهة. الثاني: إذا كان غير مستتر، أو معه من لا يستتر، فقال في المقدمات: لا يحل ذلك، ولا يجوز، ومن فعله كان جرحة في حقه. الثالث: إذا كان مستوراً مع مستورين، فذكر في هذا قولين: الجواز، والكراهة. وذكروا في وجه الكراهة، أنه قد لا يسلم من النظر إلى عورة أحد. وقيل: من أجل الاغتسال بالماء المسخن بالنجاسات والقذروات، ولاختلاف الأيدي فربما تناول أخذه بيده من لا يتحفظ لدينه. وقيل: من أجل الاغتسال بالماء الدائم. =

دخول النساء، فقيل: يباح للنساء بلا كراهة، اختاره بعض الحنفية (¬1)، وقال ابن رشد: الذي يوجبه النظر أنهن بمنزلة الرجال (¬2). وقيل: يحرم على النساء إلا لعذر، اختاره بعض الحنفية (¬3)، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يكره للنساء ولو من عذر، إلا أن تكون مفردة، وهو قول في مذهب المالكية (¬5). ¬

= وانظر في مذهب الشافعية: إعانة الطالبين (1/ 80)، مغني المحتاج (1/ 76)، المجموع شرح المهذب (2/ 237 - 237). وفي مذهب الحنابلة: مسائل أحمد رواية ابن هانئ (12): وسألته عن ماء الحمام، يجزئ عن الغسل؟ قال: نعم. وفي مسائل أحمد رواية صالح (558) قلت: ما تقول في الغسل بماء الحمام؟ قال: الحمام بمنزلة الماء الجاري عندي. وانظر: غاية المطلب (ص: 29)، المستوعب (1/ 247)، كشاف القناع (1/ 159)، الإنصاف (1/ 262). (¬1) قال في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 67): " وفي الخانية: دخول الحمام مشروع للرجال والنساء " وانظر المبسوط (10/ 147 - 148) تبيين الحقائق (3/ 58)، فتح القدير (4/ 399)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 416)، البحر الرائق (4/ 213). (¬2) مواهب الجليل (1/ 81)، حاشية العدوي (2/ 595) .. (¬3) شرح فتح القدير (4/ 399)، درر الحكام (1/ 416). (¬4) قال في الفروع (2/ 206): " وللمرأة دخوله لعذر، وإلا حرم، نص عليه ". وانظر غاية المطلب (ص: 29) الإنصاف (1/ 262)، شرح منتهى الإرادات (1/ 89)، الروض المربع (1/ 351)، شرح العمدة (1/ 405). (¬5) قال في الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 611) " وكره مالك دخول الحمام للمرأة بمئزر أو بغير مئزر، مريضة أو صحيحة ". وانظر القوانين الفقهية (ص: 289).

دليل من قال: يحرم الدخول للحمام

وقيل: يكره للنساء إلا لعذر وهو مذهب الشافعية (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2). دليل من قال: يحرم الدخول للحمام. الدليل الأول: (1301 - 174) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، قال: قال علي: بئس البيت الحمام (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). الدليل الثاني: (1302 - 175) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن ابن سيرين، عن ابن عمر قال: لا تدخل الحمام، فإنه مما أحدثوا من النعيم (¬5). [إسناده صحيح]. ¬

(¬1) المجموع (2/ 236 - 237)، مغني المحتاج (1/ 76)، نهاية المحتاج (1/ 131)، قوله (إلا لعذر) لا حاجة إلى الاستثناء، لأن المكروه تبيحه الحاجة وليست الضرورة. (¬2) حاشية العدوي (2/ 595). (¬3) المصنف (1/ 103) رقم 1166. (¬4) عمارة هو ابن القعقاع، وجرير هو ابن عبد الحميد. (¬5) المصنف (1/ 103) رقم 1165.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1303 - 176) ما رواه مسدد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، ثنا عبد الرحمن، قال: سألت محمد بن سيرين عن دخول الحمام؟ فقال: كان عمر بن الخطاب يكرهه (¬1). [ابن سيرين لم يسمع من عمر] (¬2). وأجيب: أولاً: أن كلام الصحابة رضي الله عنهم إنما هو عن اتخاذ الحمام في بلاد الحجاز، وهي بلاد حارة، لا يضطر فيها الإنسان إلى اتخاذ الحمام، ولذلك لم تعرف الحمامات في عهد النبوة، ولم تعرف كذلك في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم. ثانياً: على تقدير أن كلام الصحابة رضي الله عنهم عن الحمامات ¬

(¬1) المطالب العالية (175). (¬2) لم أجد في شيوخ محمد بن سيرين عمر بن الخطاب، وقد أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1120) عن معمر، عن قتادة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري ألا تدخلن الخمام إلا بمئز، ولا يغتسل اثنان من حوض. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 104) رقم 1175من طريق منصور، عن قتادة به. وقتادة لم يدرك عمر. ورواه عبد الرزاق أيضاً (1121) عن ابن جريج، بلغه عن عمر. ومع انقطاع هذين الإسنادين، فإن الكراهة مقيدة بدخول الحمام بدون إزار، فلا يكون دليلاً على مسألتنا. ورواه مكحول وقبيصة، عن عمر بنحو رواية قتادة، وسوف أذكرها، إن شاء الله تعالى، في أدلة من أجاز دخول الحمام.

الموجودة في الشام، وهي أرض باردة، فإن الصحابة مختلفون فيها، والحجة إنما هو فيما أجمعوا عليه، وأما ما اختلفوا فيه فينظر في أقربها للصواب، وسوف أسوق في أدلة المجيزين بعض الآثار عن الصحابة في دخولها، والانتفاع بها، والله أعلم. الدليل الثالث من أدلة المانعين: أن دخول الحمام من الإرفاه والتنعم الذي ينهى عنه، ومن ذلك: (1304 - 177) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا إسمعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد بن الحارث، عن كهمس، عن عبد الله بن شقيق، قال: كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملاً بمصر، فأتاه رجل من أصحابه، فإذا هو شعث الرأس مشعان، قال: ما لي أراك مشعاناً، وأنت أمير؟ قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن الإرفاه، قلنا: وما الإرفاه؟ قال: الترجل كل يوم (¬1). [إسناده صحيح وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: كون الصحابي ذكر في تفسير الترفه الترجل كل يوم، إنما قصد به المثال، لأن السؤال كان عن ترك الرأس شعثاً، وإلا كل ما فيه تنعم وترفه، فإن المؤمن منهي عن الإكثار منه؛ لأن المؤمن لا يذهب طيباته في حياته الدنيا، وإنما هذا شأن الكفار، قال سبحانه {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم ¬

(¬1) سنن النسائي (5058). (¬2) انظر أحكام الطهارة ح 661.

الدليل الرابع

طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} (¬1). وأجيب: بأنه الحمام يختلف اتخاذه من بلد لآخر، فالحمام في البلاد الحارة كالبلاد الحجازية يمكن أن يكون من الترفه، وعليه يحمل كلام ابن عمر رحمه الله المتقدم ذكره في الدليل الثاني، وأما اتخاذه في البلاد الباردة، لا سيما في العصور المتقدمة كان من الضرورة، حيث لم يكن موجوداً في ذلك العصر وسائل تسخين للمياه، وقد يكون الغسل واجباً، أو مستحباً، ثم على التسليم أن دخول الحمام من الترفه، فإن الترفه ليس من المحرمات، فقد يكون من باب المكروهات، والمكروه يرتفع بالحاجة، {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} (¬2)، فلا يؤمر الإنسان أن يغتسل بالماء البارد لا سيما في البلاد الباردة، وهو قادر على استعمال الماء الحار في استعمال مياه الحمام، والله أعلم. الدليل الرابع: (1305 - 178) ما رواه الطبراني من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي ابن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ((إن إبليس لما أنزل إلى الأرض، قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض، وجعلتني رجيماً، أو كما ذكر، فجعل لي ¬

(¬1) الأحقاف: 20. (¬2) الأعراف: 32.

الدليل الخامس

بيتاً، قال: الحمام ....)) وذكر الحديث بطوله (¬1). [الحديث ضعيف جداً] (¬2). الدليل الخامس: أن العقد مشتمل على غرر، والغرر منهي عنه، فإن العقد في استئجار الحمام يكون على الماء، وعلى مقدار مدة الليث في الحمام، وهما مجهولان، والإجارة لا تصح إلا بشرط معرفة العين المستهلكة من الماء، ومدة اللبث في الحمام، وإلا كان العقد مشتملاً على جهالتين: جهالة المدة، وجهالة المعقود عليه، وكل ذلك كاف في إفساد مدة الإجارة. وأجيب: بأن الأجرة في العقد في مقابلة الماء، واستعمال الأصطال، وسكنى المكان، وحفظ الثياب، والغرر ليس كله منهي عنه، بل هناك غرر متفق على قبوله، كالغرر اليسير، وغرر مجمع على النهي عنه كالغرر الكثير، وغرر مختلف ¬

(¬1) المعجم الكبير للطبراني (8/ 207) رقم 7837. (¬2) قال ابن حبان: إذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم. المجروحين (2/ 62). وفي إسناده أيضاً علي بن يزيد الألهاني. قال البخاري: منكر الحديث، عن القاسم بن عبد الرحمن، روى عنه عبيد الله بن زحر، ومطرح. التاريخ الكبير (6/ 301)، الضعفاء الصغير (255). وقال أيضاً: ذاهب الحديث، كما في علل الترمذي الكبير. انظر حاشية تهذيب الكمال وقال النسائي: ليس بثقة. المرجع السابق. وقال أيضاً: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (432).

فيه، هل يدخل في الغرر اليسير، فيقبل، أو في الغرر الكثير، فيمنع، وعقد الاستحمام من الغرر اليسير المقبول إن شاء الله تعالى؛ لأن عموم البلوى في هذا العمل، وتعارف الناس عليه يجعله جائزاً، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: «واغتفر في هذا الباب ما لم يغتفر في غيره؛ لأن منه ما ليس بمقدر كالماء، ومقدار الإقامة، والمتبع في ذلك عرف الناس، وتسامحهم بمثل ذلك؛ لأنه مما تدعو الحاجة إليه، ويعسر ضبطه على الناس، والله أعلم، وقد حكي عن بعض المتقشفين أنه كان يشارط الحمامي على قدر ما يستعمله من الماء، ولا يحتاج الأمر إلى ذلك إن شاء الله تعالى؛ لأن فاعله بعد مستهجناً، وكان يلزمه أن يجلس في الحمام بالمنكام؛ لينضبط له مقدار الزمان. ولم يجعل الله سبحانه وتعالى علينا في الدين من حرج، بل أموال اليتامى التي من تعمد أكلها أطعم يوم القيامة ناراً، قد أباح الله تعالى شركتهم في أطعمتهم من غير تقدير، بل بما جرت به العادة، وقال تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم}» (¬1) (¬2). ويقول ابن عابدين: «وللعرف؛ لأن الناس في سائر الأمصار يدفعون أجرة الحمام، وإن لم يعلم مقدار ما يستعمل من الماء، ولا مقدار العقود، فدل إجماعهم على جواز ذلك، وإن كان القياس يأباه لوروده على إتلاف العين مع الجهالة» (¬3). ¬

(¬1) البقرة: 220. (¬2) الآداب والأحكام المتعلقة بدخول الحمام (ص: 96). (¬3) حاشية ابن عابدين (5/ 32).

الدليل السادس

الدليل السادس: أن دخول الحمام وإن كان الإنسان قد يعرف من نفسه القيام بستر العورة، لكنه لا يضمن ذلك من قبل الناس، فلا يجوز له أن ينظر إلى عورة الناس، كما يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يمتثل الناس اعتزلهم، وإذا كان الناس في الأزمان المتقدمة يغلب عليهم الحياء، فإنهم في هذا العصر انقلبت فطر كثير منهم، وصاروا يمشون عراة على شواطئ البحار من غير نكير، لا تعرف الرجل منهم من المرأة، ولم يقتصر الأمر على العورة المخففة، بل قد يصل ذلك إلى العورة المغلظة، فيجب قطع الباب سداً للذريعة. وأجيب: بأن دخول الحمام محرم إذا اشتمل على فعل محرم، وذلك مثل كشف العورة، أو تعمد النظر إلى عورة الغير، أو كان فيه تمكين للأجنبي بمس العورة، وقد أجمع العلماء على أن ستر العورة واجب بالنص والإجماع. وممن حكى الإجماع على ذلك ابن كثير (¬1)، والنووي (¬2)، وغيرهم، وإنما تنازع الناس في حكم كشف العورة في الوحدة، وسبق ذكرها في بحث مستقل في ذكر هذه المسائل وأدلتها. واعلم أن دخول الحمام قد يكون محرماً، وقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، وقد يكون مباحاً، وقد يكون مكروهاً، فتدخله الأحكام الخمسة. ¬

(¬1) الآداب المتعلقة بدخول الحمام (ص: 48). (¬2) المجموع (3/ 171).

فيكون محرماً، إذا اشتمل على فعل محرم، كأن يترتب على دخوله ترك للصلاة، أو كشف للعورات. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: «الواجب على الكافة منعهن من تعاطي مثل ذلك، فإنه مما يترتب عليه من المفاسد الخاصة والعامة، اللازمة والمتعدية ما الله به عليم، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((لو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل» (¬1). فهذا قولها في المساجد التي زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال أن يمنعوهن إذا أردن الخروج إليها، فيكف بالحمامات)) (¬2). وقد يكون دخول الحمام واجباً إذا احتاج إلى طهارة واجبة، لا يمكنه فعلها إلا في الحمام، كالغسل من الجنابة، والحيض، والنفاس، أو للجمعة على القول بوجوبه، ولا يمكنه الاغتسال بالماء البارد ولا بغيره بالبيت، فهذا يجب عليه الذهاب للاغتسال؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله بأن هذه الاغتسال في البلاد الباردة لا يمكن إلا في حمام، وإن اغتسل في غير حمام خيف عليه الموت، أو المرض، فلا يجوز الاغتسال في غير حمام حينئذ (¬3). وقد يكون مستحباً إذا لم يمكنه فعل المستحب من الطهارة وغيرها إلا فيها، كغسل الجمعة على القول باستحبابه، ومثله الاغتسال الذي يقصد بها ¬

(¬1) البخاري (869)، ومسلم (445). (¬2) الآداب والأحكام المتعلقة بدخول الحمام (ص: 37). (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 311).

الدليل السابع

إزالة الدرن من البدن، فإن نظافة البدن من الدرن مستحب شرعاً، فهذا يستحب له الذهاب إلى الحمام إذا كان لا يستطيع الاغتسال في غير الحمام؛ ليحصل له هذا المقصود؛ لأنه والحالة هذه يعتبر الحمام وسيلة إلى فعل المستحب، فيكون مستحباً. وقد يكون مكروهاً إذا كان يترتب على دخول الحمام الوقوع في بعض المكروهات، كالإسراف في الماء. وقد يكون مباحاً كما لو كان دخوله للتلذذ والترفه، أو للتداوي على القول بأن التداوي مباح (¬1). الدليل السابع: أن مياه هذه الحمامات قد يغتسل فيه من لا يتحفظ عن النجاسات، وقد يبول فيها، وقد يكون على بدنه نجاسة، أو مرض، ثم الأواني المستعملة قد تكون نجسة، وقد يكون ما يغسل فيها من الثياب نجساً. ولذلك نهي عن الصلاة في الحمام، وذلك لأن أرضه لا تسلم من النجاسة. (1306 - 179) فقد روى أحمد من طريق محمد بن إسحاق، عن عمرو ابن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل الأرض مسجد وطهور إلا المقبرة والحمام (¬2). ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوى (21/ 305)، والآداب والأحكام المتعلقة بدخول الحمام (ص:35). (¬2) المسند (3/ 83).

[حديث مضطرب، اختلف في وصله وإرساله، وقد رجح الترمذي والدارقطني، والبيهقي، والنووي إرساله، كما أشار الترمذي والنووي إلى اضطرابه، ثم إن كلمة طهور انفرد بها محمد بن إسحاق، وكل من روى الحديث لم يذكرها، فليست محفوظة، فلا يكون النهي لعلة النجاسة] (¬1). ¬

(¬1) رواه السفيانان: الثوري وابن عيينة مرسلاً، وخالفهم محمد بن إسحاق، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد الواحد بن زياد، وحماد بن سلمة على اختلاف عليه في إسناده. قال الترمذي في سننه على إثر حديث (317): وكأن رواية الثوري، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت وأصح. وقال الدارقطني في العلل (4/ورقة 3): والمرسل المحفوظ. اهـ ونقله ابن عبد الهادي عنه في تنقيح التحقيق (1/ 303). وذكره النووي في الخلاصة (938) في قسم الأحاديث الضعيفة، وقال: ضعفه الترمذي وغيره، وقال: هو مضطرب، ولا يعارض هذا بقول الحاكم: " أسانيده صحيحة " فإنهم أتقن في هذا منه؛ ولأنه قد تصح أسانيده، وهو ضعيف لاضطرابه ". اهـ وقال ابن عبد البر في التمهيد (5/ 221): " في إسناد هذا الخبر من الضعف ما يمنع الاحتجاج به ". وقال أيضاً (5/ 225): " هذا الحديث رواه ابن عيينة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلاً، فسقط الاحتجاج به ". وقال ابن الجوزي في التحقيق (1/ 319): " وأما حديث أبي سعيد فمضطرب، كان الدراوردي يقول فيه تارة: عن أبي سعيد، وتارة لا يذكره ". وصححه ابن خزيمة حيث أورده في صحيحه (2/ 7) رقم 791، كما خرجه ابن حبان في صحيحه (2321)، كما حكم الحاكم بصحته أيضاً، فقال (1/ 251): " هذه الأسانيد كلها صحيحة على شرط البخاري ومسلم ". ولم يتعقبه الذهبي بشيء. كما رجح الوصل ابن المنذر في الأوسط (2/ 182)، فقال: " إذا روى الحديث ثقة، أو =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثقات مرفوعاً متصلاً، وأرسله بعضهم، يثبت الحديث برواية من روى موصولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يوهن الحديث، تخلف من تخلف عن إيصاله، وهذا السبيل في الزيادات في الأسانيد، والزيادات في الأخبار ". وقال ابن دقيق العيد في الإمام نقلاً من نصب الراية للزيلعي (2/ 324) " حاصل ما أعل به الإرسال، وإذا كان الرافع ثقة، فهو مقبول ". قلت: ليس هذا القول على إطلاقه، والعمل عند أئمة الحديث أحمد، والبخاري، وعلي ابن المديني، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والدارقطني إنما ينظرون إلى القرائن، ومقارنة من وصل بمن أرسل، ومن زاد بمن نقص، فإن أمكن الترجيح بين من أرسله ومن وصله، فالذهاب للترجيح، فيرجح الإرسال إذا كان المرسل أوثق، أو أكثر عدداً ممن وصله، أو أخص بالرواي من غيره، ويرجح الوصل إن كان العكس، وقد كتبت صفحات في أول الكتاب في كتاب المياه والآنية وبينت عمل أئمة الحديث في الزيادات الواردة في الحديث، وعرضت أحاديث كثيرة حكم الأئمة بشذوذها للمخالفة، ويمكن للقارئ مراجعة البحث مشكوراً، وحديث الباب لا يمكن للباحث الترجيح؛ لأن غالب من وصل الحديث روي عنه بالإرسال أيضاً، وبالتالي فالحديث أقرب ما يكون إلى أنه مضطرب، فلا يمكن والحالة هذه، أن أرجح بين من رواه مرسلاً وبين من رواه موصولاً، إذا أضفت إلى ذلك أن غالب أئمة الحديث ممن حكموا على الحديث حكموا عليه بالضعف، فهذا الترمذي، والدارقطني، والبيهقي، وابن عبد البر والنووي وابن الجوزي، كلهم ضعفوا الحديث. [تخريج الحديث] الحديث رواه عمرو بن يحيى، عن أبيه، ورواه عن عمرو جماعة، منهم: الأول: حماد بن سلمة، عن عمرو بن يحيى. أخرجه أحمد (3/ 83) حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد. ومن طريق يزيد بن هارون أخرجه ابن ماجه (745)، وأبو يعلى (1350)، والبيهقي في السنن (2/ 434 - 435). وهنا رواه حماد من غير شك. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أحمد (3/ 83) حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، فقال: عن أبي سعيد فيما يحسب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهنا لم يجزم بالوصل. وأخرجه أبو داود (492) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد (ح)، وحدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال موسى في حديثه: فيما يحسب عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة. فهنا رواية موسى بن إسماعيل، عن حماد على الإرسال، وليست على الوصل. وقد فهم المزي كما في تحفة الأشراف (3/ 484): أن موسى شك في رفعه، فتعقبه الحافظ في النكت الظراف، فقال: بل في وصله. فأنت ترى أن حماد بن سلمة روايته ليست متفقة على الوصل، بل اختلف عليه في وصله وإرساله وأيضاً على الظن في وصله دون جزم كما في مسند أحمد. الثاني: محمد بن إسحاق، عن عمرو بن يحيى. أخرجها أحمد في المسند، وذكرتها في المتن، وقد رواها أحمد موصولة في المسند، وأشار الترمذي إلى اختلاف حاصل على محمد بن إسحاق، فقد قال رحمه الله في سننه بإثر ح 317: ورواه محمد بن إسحاق، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: وكان عامة روايته عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر فيه عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ كلام الترمذي رحمه الله. وهذا اختلاف آخر أيضاً على محمد بن إسحاق، وهو ممن روى الحديث موصولاً. الثالث: عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو بن يحيى. أخرجها الترمذي (317)، والدارمي (323)، وابن خزيمة (791)، والبيهقي في السنن (2/ 435)، والبغوي في شرح السنة (506) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي به. وأشار الترمذي إلى اختلاف واقع على الدراوردي، فقال: قد روي عن عبد العزيز بن محمد روايتين، منهم من ذكره عن أبي سعيد، ومنهم من لم يذكره. وهذا حديث فيه اضطراب .... الخ كلامه رحمه الله تعالى. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فهذا راو ثالث ممن روى الحديث موصولاً يذكر الترمذي أنه قد اختلف عليه في وصله وإرساله. بل إن الدارمي رحمه الله تعالى ذهب إلى أن الأكثر على إرساله، ففي سنن الدارمي، بعد أن روى الحديث، قيل له: تجزئ الصلاة في المقبرة؟ قال: إذا لم تكن على القبر، فنعم، وقال: الحديث أكثرهم أرسلوه. اهـ الرابع: عبد الواحد بن زياد، عن عمرو بن يحيى. أخرجه أحمد (3/ 96)، وأبو داود (492)، وابن خزيمة (791)، وابن حبان (1699، 2316،2321)، والحاكم في المستدرك (1/ 251)، والبيهقي في السنن (2/ 435) من طرق عن عبد الواحد بن زياد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد. الخامس: سفيان الثوري، عن عمرو بن يحيى. أخرجه عبد الرزاق (1582) عن الثوري، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام. وهذا مرسل، وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 153) رقم 7574 حدثنا وكيع، ثنا سفيان به. ورواه أحمد (3/ 83) حدثنا يزيد، أخبرنا سفيان الثوري وحماد بن سلمة، عن عمرو ابن يحيى، عن أبيه، قال حماد في حديثه: عن أبي سعيد الخدري، ولم يجز سفيان أباه. فهذا صريح أن رواية يزيد بن هارون، عن سفيان مرسلة، لقوله: ولم يجز سفيان أباه. ورواه أبو يعلى (1350) من طريق يزيد بن هارون به، كإسناد أحمد تماماً، حيث قال: ولم يجاوز سفيان أباه. ومع هذا النقل الصريح بأن رواية يزيد بن هارون، عن الثوري مرسلة، فقد وقع لبس لبعض العلماء في رواية ابن ماجه. فقد رواه ابن ماجه (745) فقال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه. وحماد بن سلمة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... وذكر الحديث. فتوهم أن طريق الثوري وطريق حماد بن سلمة كلاهما موصول عن أبي سعيد، وممن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فهم ذلك المزي في تحفة الأشراف، فتعقبه الحافظ في النكت الظراف، فقال: فقد أخرجه ابن ماجه من رواية حماد والثوري، فجمعهما بلفظ يوهم أنهما متفقان على وصله ... ثم ذكر سياق ابن ماجه، ثم قال: فقوله: عن أبي سعيد: ظاهر في رواية حماد، ومحتمل في رواية الثوري، والتحقيق أن رواية الثوري ليس فيها عن أبي سعيد. اهـ كلام الحافظ. وما رجحه الحافظ هو الحق، وقد رواه البيهقي في السنن (2/ 434) بنفس إسناد ابن ماجه، ولم يلتبس عليه كما التبس على المزي، فقال بعد أن ساق إسناد الحديث: حديث الثوري مرسل، وقد روي موصولاً وليس بشيء، وحديث حماد بن سلمة موصول، وقد تابعه على وصله عبد الواحد بن زياد والدراوردي .. الخ كلام البيهقي رحمه الله تعالى. فحكم على طريق الثوري بأنه مرسل، وعلى طريق حماد بن سلمة بأنه موصول، ولم يجعل الطريقين كليهما موصولاً، كما فهم المزي. وأبعد النجعة أحمد شاكر حين قال: ولم أجده مرسلاً من رواية الثوري، إنما رأيته كذلك من رواية سفيان بن عيينة، فماذا يقول رحمه الله عن رواية أحمد وأبي يعلى عندما قالا: ولم يجاوز سفيان أباه .. قال أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تحقيقه للترمذي: ولا أدري كيف يزعم الترمذي ثم البيهقي أن الثوري رواه مرسلاً في حين أن روايته موصولة أيضاً .... حتى قال رحمه الله: وأنا لم أجده مرسلاً من رواية الثوري، وإنما رأيته كذلك من رواية سفيان بن عيينة، فلعله اشتبه عليهم سفيان بسفيان ... ". قلت: لقد علمت أن الذين رواه مرسلاً لم يكن الثوري وابن عيينة فقط، ولذلك قال الدارمي: والأكثر على إرساله. وقال الدارقطني في العلل ونقله ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 303): وراه جماعة عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلاً، والمرسل هو المحفوظ. اهـ نعم أشار الداقطني في العلل، ونقله ابن عبد الهادي في التنقيح، أن أبا نعيم وسعيد بن سالم، ويحيى بن آدم، قد رووه عن الثوري، فوصلوه .. ومعنا هذا أن الثوري كغيره قد اختلف عليه في وصله وإرساله، والله أعلم. السادس: سفيان بن عيينة، عن عمرو بن يحيى. أخرجه الشافعي في مسنده (ص: 20) أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن يحيى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المازني، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. قال الشافعي: وجدت هذا الحديث في كتابي في موضعين: أحدهما منقطعاً، والآخر عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. السابع: عمارة بن غزية، عن عمرو بن يحيى. أخرجه ابن خزيمة (792) من طريق بشر بن المفضل، ثنا عمارة بن غزية، عن يحيى بن عمارة الأنصاري، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. ومن طريق بشر بن المفضل، أخرجه البيهقي في السنن (2/ 435)، هذا ما وقفت عليه من طرقه، وأرى أن الحديث كما قال الترمذي: مضطرب، فكل من رواه موصولاً قد اختلف عليه فيه إلا طريقين: طريق عبد الواحد بن زياد، وهو ضعيف، وطريق عمارة بن غزية، عن يحيى بن عمارة، وهذا ليس كافياً في ترجيح الوصل على الإرسال، ولا العكس، والله أعلم. أضف إلى ذلك أن الحديث في الصحيحين من مسند جابر، وليس فيه استثناء، وإنما فيه: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " ولم يستثن. وأما ما رواه الترمذي (346)، وابن ماجه (746)، وعبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (765)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 383)، والروياني في مسنده (1431) وابن عدي في الكامل (3/ 203) من طريق زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلى في سبعة مواطن ... وذكر منها المقبرة والحمام .. فإن هذا الحديث غير صالح للاعتبار، فهو ضعيف جداً، وزيد بن جبيرة متروك الحديث. ورى الحديث ابن ماجه (747) من طريق أبي صالح، حدثني الليث، (عن عبد الله بن عمر) عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر. وهذا إسناد ضعيف أيضاً فيه العمري، وفيه عبد الله بن صالح أيضاً، وقد سقط من إسناد المطبوع (عبد الله بن عمر)، وقد ذكر الترمذي هذا الإسناد على إثر حديثه السابق بذكر عبد الله بن عمر، كما أشار الحافظ ابن حجر إلى سقوطه في بعض النسخ في تلخيص الحبير (1/ 215). قال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 148): سألت أبي عن حديث رواه الليث، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى أن يصلي الرجل في سبع =

فاستثنى الحمام من الأرض الطهور، وهذا دليل على نجاستها، وإنما تنجس الحمام بتنجس الماء المستعمل فيه. ويجاب عن هذا: أولاً: أما قولكم بأن مياه هذه الحمامات قد يغتسل فيها من لا يتحفظ عن النجاسات. فيقال: الأصل في الماء أنه طهور حتى يتغير بالنجاسة، ولم يتغير بها. ثانياً: الشك لا يقضي على اليقين، فنجاسة الماء مشكوك فيها، وطهوريته متيقنة، فلا ننتقل عن اليقين بمجرد الشك. ثالثاً: أننا إذا افترضنا أن الماء قد خالطته نجاسة، فإن ماء الحمامات كثير، وفي حكم الماء الجاري، والماء الجاري على الصحيح لا ينجس إلا بالتغير، كما قال الإمام أحمد ففي مسائله رواية صالح، قلت: ما تقول في الغسل بماء الحمام؟ قال: الحمام بمنزلة الماء الجاري عندي (¬1). وأما الجواب عن الحديث، والنهي عن الصلاة في الحمام، فيجيب عنه ابن تيمية رحمه الله تعالى، فيقول: ((استثنى الحمام مطلقاً، فيتناول الاسم ما دخل في المسمى، فلهم طريقان: ¬

= مواطن: ... وذكر الحديث ورواه زيد بن جبيرة، عن داود بن حصين، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: جميعاً واهيين. اهـ وانظر لمراجعة بعض طرق حديث أبي سعيد: أطراف المسند (6/ 322)، تحفة الأشراف (4406)، إتحاف المهرة (5781). (¬1) مسائل أحمد رواية صالح رقم (558).

دليل من قال بالجواز مطلقا للرجال والنساء

الأول: أن النهي تعبد لا يعقل معناه، كما ذهب إليه طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، كأبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأتباعه. والثاني: أن ذلك؛ لأنه مأوى الشياطين، كما في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتاً، قال: بيتك الحمام ... وذكر الحديث المتقدم (¬1). وهذا التعليل كتعليل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل بنحو ذلك، كما في الحديث: إن على ذروة كل بعير شيطاناً، وإنه جن، خلقت من جن، إذ لا يصح التعليل هناك بالنجاسة؛ لأنه فَرَّق بين أعطان الإبل ومبارك الغنم، وكلاهما في الطهارة والنجاسة سواء، كما لا يصح تعليل الأمر بالوضوء بأنه لأجل مس النار مع تفريقه بين لحوم الإبل ولحوم الغنم، وكلاهما في مس النار وعدمه سواء)) (¬2). دليل من قال بالجواز مطلقاً للرجال والنساء. الدليل الأول: قال الموصلي رحمه الله تعالى: «لم يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬3). وقال ابن القيم: «ولم يدخل - صلى الله عليه وسلم - حماماً قط، ولعله ما رآه بعينه، ولم يصح في الحمام حديث» (¬4). ¬

(¬1) ضعيف جداً، وسبق توضيح ذلك. (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 320). (¬3) المغني عن الحفظ والكتاب (ص: 247). (¬4) زاد المعاد (1/ 44).

الدليل الثاني

وقال عبد الحق في أحكامه: «وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة، فلا يصح منه شيء؛ لضعف الأسانيد» (¬1). وإذا كان لم يصح فيه حديث، فالأصل في دخوله الإباحة للرجال والنساء، بشرط أن يخلو من محظور آخر، كالتعري ونحوه، فهذا إنما يمنع لا من أجل الحمام، ولكن من أجل كشف العورة، وهو غير خاص في دخول الحمام، بل في كل مكان يتعرض فيه الناس إلى كشف عوراتهم فيجب أن يمنعوا من ذلك، ولو كان هذا في أماكن العبادة ونحوها. الدليل الثاني: (1307 - 180) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه دخل حمام الجحفة (¬2). [إسناده صحيح]. وإذا جاز دخوله للرجال جاز دخوله للنساء إلا بدليل، وإنما النساء شقائق الرجال. الدليل الثالث: (1308 - 181) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: نعم البيت الحمام، يذهب الدرن، ويذكر النار (¬3). [إسناده صحيح]. ¬

(¬1) الأحكام الوسطى (1/ 244). (¬2) المصنف (1/ 103) رقم: 1169. (¬3) المصنف (1/ 103) رقم: 1170.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1309 - 182) ما رواه البزار حدثنا يوسف بن موسى، ثنا يعلى بن عبيد، ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احذروا بيتاً يقال له الحمام، قالوا: يا رسول الله ينفي الوسخ؟ قال: فاستتروا. قال البزار: وهذا رواه الناس عن طاوس مرسلاً، ولا نعلم أحداً وصله إلا يوسف، عن يعلى، عن الثوري (¬1). وقال عبد الحق في أحكامه عن حديث البزار: هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب، على أن الناس يرسلونه عن طاوس (¬2). [المحفوظ أنه مرسل] (¬3). ¬

(¬1) مختصر مسند البزار (211)، وكشف الأستار (319). (¬2) الأحكام الوسطى (1/ 244). (¬3) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 277): رواه البزار، والطبراني في الكبير، إلا أنه قال: قالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن، وينفع المريض؟ ورجاله عند البزار رجال الصحيح إلا أن البزار، قال: رواه الناس عن طاوس مرسلاً. اهـ قلت: الرواية المرسلة أخرجها ابن أبي شيبة (1/ 105) رقم: 1184، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، رفعه: قال: من دخله منكم فليستتر. رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، وقد قال الحافظ ابن كثير في كتابه الآداب المتعلقة بدخول الحمام (ص: 34): وهذا إسناد جيد. اهـ كما رواه عبد الرزاق عن الثوري (117) عن ابن طاوس به مرسلاً. ورواه عبد الرزاق في مصنفه (1116) عن معمر، عن ابن طاووس به. وسقط من إسناد المصنف معمر، واستدركته من كتاب ابن كثير الآنف الذكر، والله أعلم. وأخرجه الطبراني في الكبير (10932) والحاكم في المستدرك (4/ 288) من طريق =

أدلة من فرق بين الرجال والنساء

أدلة من فرق بين الرجال والنساء. الدليل الأول: (1310 - 183) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي مليح الهذلي، أن نساء من أهل حمص، ومن أهل الشام دخلن على عائشة، فقالت: أنتن اللاتي يدخلن نساؤكم الحمامات؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها، إلا هتكت الستر بينها وبين الله (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

= يحيى الحراني، ثنا محمد بن مسلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ابن طاوس. وعن أيوب السختياني، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعاً. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7765) من طريق محمد بن سلمة به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. قلت: الحراني لم يخرج له مسلم، وقال فيه الحافظ: صدوق، ربما وهم، ومحمد بن إسحاق إنما أخرج له استشهاداً. انظر إتحاف المهرة (7866). (¬1) مسند أبي داود الطيالسي (1518). (¬2) الحديث رواه منصور، واختلف عليه فيه: فرواه شعبة، عن منصور، واختلف على شعبة، فرواه أبو داود الطيالسي كما في إسناد الباب، ومن طريقه الترمذي (2803)، والبيهقي في السنن (7/ 308)، ومحمد بن جعفر كما في مسند أحمد (6/ 173)، وسنن أبي داود (4010). وآدم بن إياس كما في المستدرك (4/ 288،289)، ثلاثتهم، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي المليح، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وخالفهم حجاج بن محمد، كما في المسند (6/ 173) فقال: عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي الميح، عن رجل، عن عائشة، فزاد في إسناده (هذا الرجل المبهم) ورواية الجماعة أولى؛ أولاً: لأنهم أكثر عدداً. وثانياً: لأن فيهم محمد بن جعفر، وهو من أثبت أصحاب شعبة. وثالثاً: لأنه قد رواه الثوري وإسرائيل، عن منصور، كرواية الجماعة عن شعبة. فقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1132)، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الإمام أحمد (6/ 173،198)، والحاكم في المستدرك (4/ 288). وأخرجه ابن ماجه (3750) من طريق وكيع. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/ 157)، من طريق محمد بن شرحبيل، ثلاثتهم (وكيع، وعبد الرزاق، ومحمد بن شرحبيل) عن سفيان. وأخرجه الدارمي (2652) من طريق إسرائيل، كلاهما (سفيان وإسرائيل) روياه عن منصور، عن سالم، عن أبي الميح، عن عائشة. فهذان الطريقان يرجحان رواية الجماعة عن شعبة، وبهما يتبين خطأ حجاج بن محمد. وخالف جرير بن عبد الحميد، شعبة والثوري وإسرائيل، فأخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده (1605)، وأبو داود (4010) عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن سالم، عن عائشة، فأسقط من إسناده أبا المليح، وسالم لم يسمع من عائشة. ورواية الجماعة هي المحفوظة، ولم يحفظ عن منصور روايته بإسقاط أبي المليح. وتابع جرير الأعمش في إسقاطه أبا المليح، إلا أن الأعمش قد اختلف عليه فيه: فرواه أحمد (6/ 41) حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن عائشة. فأسقط من إسناده أبا المليح. وخالفه يعلى بن عبيد، فأخرجه الدارمي (2651) عنه، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن عائشة. فزاد الأعمش في إسناده عمرو بن مرة، وأسقط أبا المليح. قال الدارقطني في العلل (5 - ورقة 95) وقول شعبة والثوري، عن منصور أشبه بالصواب. =

الدليل الثاني

والحديث استنبطت منه عائشة رضي الله عنها حرمة دخول النساء للحمام، وإن كان الحديث مطلق، ولم يقيد بدخول الحمام، ولذا لا يشمل الحديث امرأة دخلت الحمام بقميص مثلاً؛ لأن الوعيد على من وضعت ثيابها، وهذه لم تضع ثيابها، كذلك الحديث لا يشمل من وضعت بعض ثيابها عند من تحل له رؤية زينتها الظاهرة، كالأزواج والنساء ونحو ذلك، فالحديث يقصد به تلك المرأة التي تضع ثيابها أمام الرجال الأجانب بقصد الفاحشة أو مقدماتها، والله أعلم. الدليل الثاني: (1311 - 184) ما رواه أحمد من طريق عمر بن السائب، أن القاسم ابن أبي القاسم السبئي حدثه، عن قاص الأجناد بالقسطنطينية أنه سمعه يحدث، ¬

_ = وقال المزي في تهذيب الكمال (10/ 131): والصحيح عن أبي المليح عنها. وأخرجه أبو يعلى (4680) من طريق إسحاق بن سليمان الرازي، عن معاوية بن يحيى الصدفي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به. قلت: لم يروه عن الزهري إلا معاوية بن يحيى الصدفي، انفرد به عنه إسحاق بن سليمان الرازي، وقد قال البخاري في معاوية: روى عنه إسحاق بن سليمان أحاديث مناكير، كأنها من حفظه. التاريخ الكبير (7/ 336). قلت: لو كان هذا من حديث الزهري، فأين أصحاب الزهري المعروفين بالرواية عنه عن هذا الحديث؟ فلا يثبت الحديث من هذا الطريق، وله شاهدان من حديث أم الدرداء، وأم سلمة في مسند أحمد، وفي غيرهما، وفيهما ضعف، كما أن في متن حديث أم الدرداء نكارة. انظر في مراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (9/ 290)، تحفة الأشراف (17804)، إتحاف المهرة (22996)، و (21664).

الدليل الثالث

أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها بالخمر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل الحمام (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). فجعل النهي للرجال متوقف على لبس الإزار، ونهى المرأة نهياً مطلقاً من دخوله، لكن الحديث ضعيف. الدليل الثالث: (1312 - 185) ما رواه الطبراني من طريق علي بن يزيد، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، ¬

(¬1) المسند (1/ 20). (¬2) إسناده ضعيف؛ فيه أكثر من علة: الأولى: الانقطاع، قال البخاري في التاريخ الكبير (6/ 162): عمر بن السائب، عن القاسم بن أبي القاسم، روى عنه عمرو بن الحارث المصري، منقطع. الثانية: القاسم بن أبي القاسم، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/ 117)، والبخاري كما في التاريخ الكبير (7/ 167) فلم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولم يوثقه إلا ابن حبان كما في الثقات (7/ 333)، فهو رجل مستور. العلة الثالثة: جهالة قاص الأجناد، حيث لم أعرف عينه، والله أعلم. [تخريج الحديث] الحديث رواه أبو يعلى الموصلي (251)، والبيهقي (7/ 266) من طريق عمر بن السائب به. أطراف المسند (5/ 90)، إتحاف المهرة (15877).

الدليل الرابع

عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام ... الحديث (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1313 - 186) ما رواه أحمد من طريق عبد الله بن شداد، عن أبي عذرة، قال - وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى الرجال والنساء عن الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوها في المآزر (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المعجم الأوسط للطبراني (7320). (¬2) ورواه البزار كما في كشف الأستار (318) من طريق علي بن يزيد به. وفي مجمع الزوائد (1/ 277) رواه الطبراني في الأوسط والبزار باختصار ذكر الجمعة، وفيه علي بن يزيد الألهاني، ضعفه أبو حاتم، وابن عدي، ووثقه أحمد وابن حبان. اهـ وفي إسناده عطيبة بن سعد العوفي، ضعيف الحديث، ضعفه جماعة من أهل العلم، انظر الجرح والتعديل (6/ 382). (¬3) المسند (6/ 132). (¬4) في إسناده أبو عذرة، قال ابن القطان: مجهول الحال، وفي التقريب: مجهول. وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، وإسناده ليس بذاك القائم. والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 104)، وابن ماجه (3749) من طريق عفان به، إلا أن ابن أبي شيبة خالف في لفظه، فليس فيه الترخيص للرجال، واستثنى من النساء المريضة والنفساء. =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1314 - 187) ما رواه أحمد من طريق أبي خيرة، عن موسى بن وردان، قال أبو خيرة: لا أعلم إلا أنه قال: عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السادس: (1315 - 188) ما رواه أحمد من طريق ابن لهيعة، عن أبي الزبير، ¬

= وأخرجه أحمد (6/ 139) وابن ماجه (3749) من طريق وكيع. وأخرجه أحمد (6/ 179) والترمذي (2802) عن عبد الرحمن بن مهدي، وأخرجه أبو داود (4009) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 228) وفي شعب الإيمان (7765) عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه البهقي (7/ 308) من طريق هشام بن عبد الملك، كلهم عن حماد بن سلمة به. قال الحازمي في الاعتبار (ص: 194) لا يعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه، وأبو عذرة غير مشهور، وأحاديث الحمام كلها معلولة، وإنما يصح فيها عن الصحابة رضي الله عنهم، فإن كان هذا الحديث محفوظاً فهو صريح في النسخ، والله أعلم بالصواب. إتحاف المهرة (22986)، أطراف المسند (9/ 287)، تحفة الأشراف (17798). (¬1) المسند (2/ 321). (¬2) في إسناده أبو خيرة، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/ 444) وقال الحسيني والذهبي: لا يعرف. انظر تعجيل المنفعة (ص: 394)، ميزان الاعتدال (4/ 521).

عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام ... الحديث (¬1). [ضعيف بهذا الإسناد] (¬2). ¬

(¬1) المسند (3/ 339). (¬2) رواه عن أبي الزبير اثنان: أبو الزبير وطاووس. أما رواية أبو الزبير فله طرق، منها: الأول: ابن لهيعة، عن أبي الزبير، أخرجها أحمد في المسند، وقد تقدمت في حديث الباب. الثاني: عطاء، عن أبي الزبير. ورواه النسائي في المجتبى (401)، وفي الكبرى (6741)، والطبراني في الأوسط (8214،1694)، والحاكم في المستدرك (1/ 162)، والبيهقي في الشعب (5596) والخطيب في تاريخ بغداد (1/ 244) من طريق معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن عطاء، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدخل الحمام إلا بمئزر. ولم يذكر النسائي النهي عن دخول النساء. وعطاء في جميع الطرق التي وقفت عليها هنا لم ينسب، فهل هو عطاء بن أبي رباح، أو عطاء بن السائب؟ وبينهما فرق كبير، فإن كان عطاء هو عطاء بن أبي رباح، فالحديث إسناده صحيح إلى أبي الزبير، لكن الطبراني قال: في الأوسط: يقال: إن عطاء الذي روى عنه هشام الدستوائي هذا الحديث هو عطاء بن السائب، ولم يرو عنه إلا هشام، ولا عن هشام إلا ابنه، تفرد به إسحاق. اهـ يشير الطبراني إلى علة التفرد في الحديث. وهذا الذي ذكره الطبراني محتمل جداً، وهو أولى من صنيع المزي رحمه الله في التحفة، حيث جعله عطاء بن أبي رباح؛ أولاً: لأن عطاء بن أبي رباح من شيوخ أبي الزبير، وليس من تلاميذه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وثانياً: لم يذكر المزي من تلاميذ عطاء بن أبي رباح هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، كما لم يذكر المزي أيضاً من شيوخ هشام عطاء بن أبي رباح. ثالثاً: هشام الدستوائي يروي عن عطاء بن السائب، فيما ذكره أبو داود في مسائل أحمد، وقد سمع هشام من عطاء بن السائب قبل تغيره، نص عليه أبو داود في مسائل أحمد، قال أبو داود (1852) قال غير أحمد: قدم عطاء البصرة قدمتين، فالقدمة الأولى سماعهم صحيح، وسمع منه في القدمة الأولى: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وهشام الدستوائي، والقدمة الثانية: كان متغيراً فيها، سمع منه وهيب، وإسماعيل، وعبد الوارث، سماعهم منه ضعيف. اهـ رابعاً: أن حديث هشام في صحيح مسلم وفي غيره، بينه وبين عطاء دائما إما قتادة كما في ح (901)، أومطر كما في ح (997)، أوقتادة وبديل كما في ح (1674). فإذا كان عطاء هو ابن السائب، فإنه ليس معروفاً بالرواية عن أبي الزبير، وقد بحثت في الكتب التسعة عن رواية لحديث يرويه عطاء بن السائب، عن أبي الزبير فلم أجد له إلا هذا الإسناد المبهم، كما أن عطاء بن أبي رباح لم أجد له رواية في الكتب التسعة عن أبي الزبير، وإنما هناك أحاديث كثيرة يرويها عطاء بن أبي رباح وأبو الزبير، عن جابر، وهناك أحاديث يرويها أبو الزبير، عن عطاء كما في سنن النسائي (3845)، وأحمد (2661،2711) وموطأ مالك (872)، وأما رواية عطاء ابن أبي رباح، عن أبي الزبير، فلم أقف على إسناد واحد إلا أن يكون هذا الإسناد. وفي تحفة الأشراف (2/ 333) استدراك على المزي من جعل عطاء هو عطاء بن أبي رباح، فقد وجد المحقق في الحواشي تعليقاً من العراقي، فقال (2/ 333): في حاشية ل: ذكر شيخنا الحافظ العراقي أن س قال في الوليمة: إن عطاء هذا: هو ابن دينار مديني. وفي حاشية ل أيضاً: عطاء بن دينار، عن أبي الزبير، عن جابر، يذكر معه الحديثان الأولان من الترجمة التي قبل هذا، كما ذكره شيخنا أبو الفضل الحافظ العراقي. اهـ وعطاء بن دينار ذكر المزي في تهذيبه اثنين: أحدهما: مصري ثقة، والآخر ذكره تمييزاً، وقال: مولى قريش، ولعله هذا، وقال: ذكره أبو سعيد بن يونس، في أثناء ترجمة الهذلي، وقال: وهو منكر الحديث. تهذيب الكمال (20/ 69). وما دام أن هذا الإسناد بهذه الغرابة، فإن الباحث لا يستطيع أن يقبل هذا الإسناد، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فعلة التفرد الذي أشار إليها الطبراني رحمه الله ما زالت قائمة في هذا الإسناد من هذا الطريق، والله أعلم. وأخرجه الطبراني في الأوسط (688) من طريق عمرو بن هشام أبي أمية الحراني، قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير به. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن إبراهيم، إلا عثمان. وهذا إسناد رجاله إلى أبي الزبير ثقات، إلا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، قال فيه محمد بن عبد الله بن نمير: كذاب. المغني في الضعفاء (4036). لكن قال أبو حاتم: صدوق، وأنكر على البخاري إدخال اسمه في كتاب الضعفاء، وقال: يروي عن الضعفاء، يشبه ببقية في روايته عن الضعفاء. الجرح والتعديل (6/ 157). وقال يحيى بن معين: ثقة. المرجع السابق. وقال ابن عدي: لا بأس به، كما قال أبو عروبة، إلا أنه يحدث عن قوم مجهولين بعجائب، وتلك العجائب من جهة المجهولين، وهو في أهل الجزيرة كبقية في أهل الشام، وبقية أيضاً يحدث عن مجهولين بعجائب، وهو في نفسه ثقة، لا بأس به صدوق، وما يقع في حديثه من الإنكار، فإنما يقع من جهة من يروي عنه. الكامل (5/ 174). وفي التقريب: صدوق، أكثر الرواية عن الضعفاء والمجاهيل، فضعف بسبب ذلك، حتى نسبه ابن نمير إلى الكذب، وقد وثقه ابن معين. ورواه الدارمي (2092) من طريق الحسن بن أبي جعفر، حدثنا أبو الزبير به، بلفظ: من كان يؤمن بالله واليوم والأخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر. والحسن بن أبي جعفر ضعيف الحديث. وأخرجه ابن خزيمة (249)، والحاكم (1/ 162) من طريق الحسن بن بشر الهمداني، ثنا زهير، عن أبي الزبير به بلفظ: نهى أن يدخل الماء إلا بمئزر. وهذا اللفظ لم يذكر الحمام، كما لم يفرق بين الرجل والمرأة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، فتعقبه الذهبي بأنه على شرط مسلم. لكن قال ابن حبان في المجروحين (1/ 251): " ليس له أصل يرجع إليه، وقد سمع =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحسن ابن بشر هذا الخبر من حماد بن شعيب، ورواه عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، وَهِمَ فيه ". قلت: وإذا كان حديث الحسن بن بشر، إنما رواه عن حماد بن شعيب، فإن حماد بن شعيب ضعيف الحديث. وقد رواه أبو يعلى كما في المطالب العالية (179)، والعقيلي في الضعفاء (1/ 312)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 119)، وابن حبان في المجروحين (1/ 251) من طريق حماد بن شعيب، عن أبي الزبير به، بلفظ: ابن خزيمة. قال العقيلي: ولا يتابعه - يعني: حماد بن شعيب - عليه إلا من هو دونه ومثله. وقال ابن عدي: وهذا الحديث ليس يرويه بهذا اللفظ (أن يدخل الماء) غير أبي الزبير، وعن أبي الزبير غير حماد بن شعيب. الطريق الثاني: طاوس، عن جابر. أخرجه الترمذي (2801)، وأبو يعلى (1925) من طريق ليث بن أبي سليم، عن طاووس، عن جابر، بلفظ ابن لهيعة، عن أبي الزبير. قال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث طاووس، عن جابر إلا من هذا الوجه. قال محمد بن إسماعيل: ليث بن أبي سليم صدوق، وربما يهم في الشيء. قال محمد ابن إسماعيل: وقال أحمد بن حنبل: ليث لا يفرح بحديثه، كان ليث يرفع أشياء لا يرفعها غيره، فلذلك ضعفوه ". هذا ما يتعلق بطرق الحديث، فطريق طاووس، عن جابر منكر؛ لأن المحفوظ من حديث طاووس، أنه يرويه مرسلاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم تخريجه، بقي في الحديث طريق أبي الزبير، وقد تبين لك أنه يرويه جماعة عن أبي الزبير، فلعله من غريب حديثه، ومما ينكر عليه، ولا أرى تعليل الحديث بعنعنة أبي الزبير، لأن أبا الزبير على الصحيح ليس مدلساً، وقد بينت هذا في رسالتي (نقد مظاهر الإنصاف) وهي جواب على رسالة كتبها بعض الشباب، يدافع بها عن بعض الغلاة في عصرنا، وهي مخطوطة، ولعلها ترى النور قريباً بعد أن يطبع كتاب أحكام الطهارة كاملاً. انظر طرق الحديث في أطراف المسند (2/ 136)، إتحاف المهرة (3539) و (3282)، =

الدليل السابع

الدليل السابع: (1316 - 189) ما رواه أبو يعلى من طريق عمرو بن الربيع بن طارق، حدثني يحيى بن أيوب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن عبد الله ابن سويد الخطمي، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا يدخلن الحمام، قال: فنميته إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في خلافته، فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن سل محمد بن ثابت في حديثه، فإنه رضي، فسأله، فكتب إلى عمر رضي الله عنه، فمنع النساء من الحمام (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= تحفة الأشراف (2/ 333). (¬1) المطالب العالية (180) ولم أقف عليه في مسنده المطبوع، ولا في المقصد العلي في زوائد مسند أبي يعلى الموصلي، والله أعلم. (¬2) في إسناده يعقوب بن إبراهيم، ذكره البخاري في التاريخ الكبير (8/ 395)، وسكت عليه، وكذا فعل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/ 201)، وقال: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري مصري، ولم يرو عنه إلا يحيى بن أيوب ". ولم يوثقه إلا ابن حبان حيث ذكره في الثقات (7/ 642) فمثله مجهول. وقد وهم الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي حين قال: ويعقوب بن إبراهيم هذا الذي روى عنه الليث بن سعد، هو أبو يوسف. يقصدون به صاحب أبي حنيفة، وقد علمت أن البخاري وابن أبي حاتم لم يجعلاه أبا يوسف، وهما أعلم من الحاكم والذهبي، والله أعلم. =

هذه تقريباً الأحاديث التي وقفت عليها مرفوعة في التفريق بين الرجل والمرأة. ¬

_ = كما أن في الإسناد وهماً أخر، فقد اختلف في إسناده على يحيى بن أيوب الغافقي، فرواه أبو يعلى الموصلي كما في إسناد الباب وابن حبان (5597)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 309) من طريق عمرو بن الربيع، عن يحيى بن أيوب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن عبد الله بن سويد الخطمي، عن أبي أيوب. وخالفه عبد الله بن وهب والليث، أما رواية عبد الله بن وهب، فذكرها ابن أبي حاتم في العلل (192) عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن محمد بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي أيوب. فجعل عبد الله بن وهب عبد الله بن يزيد بدلاً من عبد الله بن سويد. وأما رواية الليث، فأخرجها الطبراني في المعجم الكبير (4/ 147) رقم 3873، وفي الأوسط (8658) من طريق عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن أيوب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن جبير، عن محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن أبي أيوب به. فوافق رواية ابن وهب بكون عبد الله هو ابن يزيد، وليس ابن سويد، وزاد في إسناده بين يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن شرحبيل زاد رجلاً اسمه عبد الرحمن بن جبير، وهذه الزيادة وهم، جاءت من عبد الله بن صالح، كاتب الليث، فإن في حفظه شيئاً، لكنها تقوي رواية ابن وهب في كون عبد الله هو عبد الله بن يزيد، وليس ابن سويد. وقد سأل ابن أبي حاتم أباه في العلل عن هذا الاختلاف (192) فقال أبوه: عبد الله بن سويد أشبه، فتعقبه ابنه، فقال: والذي عندي، والله أعلم، أن الأصح على ما رواه ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن يعقوب، عن محمد بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن أبي أيوب". اهـ والحق مع ابنه. وعبد الله بن يزيد الخطمي، صاحبي صغير، من رجال الجماعة، وعبد الله بن سويد ليس له ذكر إلا في ثقات ابن حبان، ولم يذكر في ترجمته إلا حاصل ما في هذه الرواية، والله أعلم.

الراجح

الراجح والله أعلم. قد يكون الرجل والمرأة فيما سبق يضطرون إلى دخول الحمام، خاصة في البلاد الباردة، وفي الغسل الواجب، فيكون الإنسان بين أن يدخل الحمام، ويغتسل، وبين أن يدع ويتيمم، وإذا اغتسل في غير الحمام ربما عرض نفسه للتلف، أما الآن والحمد لله فإن الحال قد تغيرت، وأصبح في كل بيت من بيوت المسلمين ما يقوم بتسخين المياه عن طريق الكهرباء، فلم يحتج الرجل ولا المرأة إلى الذهاب إلى الحمامات، ولكن من جهة النظر العلمي، فإن الأصل أن المرأة في الأحكام كالرجل إلا ما دل عليه الدليل، فإذا لم تتجرد المرأة في هذه الحمامات، ولم يكن معها أجانب ينظرون منها ما يحرم النظر إليه، فإن الأصل الحل، وأن المرأة كالرجل والله أعلم.

المبحث الرابع إذا دخل الحمام بنية الاغتسال ثم شك هل اغتسل

المبحث الرابع إذا دخل الحمام بنية الاغتسال ثم شك هل اغتسل إذا دخل رجل الحمام بنية الاغتسال من الجنابة، وبعد ما خرج منه بمدة، حصل له شك، هل اغتسل من الجنابة أم لا؟ فقيل: لا غسل عليه، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب عليه الغسل، وهو مذهب الجمهور (¬2). وجه قول الحنفية: قالوا: غلبنا الظاهر على الأصل، وذلك أن الظاهر من حاله أنه لا يخرج من الحمام إلا بعد أن يغتسل، والبناء على الظاهر واجب، ما لم يعلم خلافه. وجه قول الجمهور: العمل باليقين، وذلك أن الجنابة متيقنة، وأما رفع الجنابة فمشكوك فيه، والأصل عدم الغسل، وأنه باق على حكم الجنابة حتى يتيقن الانتقال منها. وقد دل على هذه القاعدة حديث متفق عليه، ¬

(¬1) قال في المبسوط (1/ 86): " وكذلك المحدث إذا علم أنه جلس للوضوء، ومعه الماء، وشك في أنه قام قبل أن يتوضأ، أو بعدما توضأ، فلا وضوء عليه؛ لأن الظاهر أنه لا يقوم حتى يتوضأ، والبناء على الظاهر واجب، ما لم يعلم خلافه ". اهـ وانظر بدائع الصنائع (1/ 33). (¬2) هذه المسألة تمشي على قاعدة مشهورة عند الجمهور، من تيقن الطهارة، وشك في الحدث، فإنه يبني على اليقين، انظر المجموع (2/ 74)، المنثور في القواعد (3/ 136)، البحر المحيط (1/ 16)، القواعد لابن رجب (ص: 339)، الإنصاف (1/ 222)، الفروع (1/ 187).

(1322 - 195) فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب ح وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (¬1). فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا شك في الحدث، وهو في الصلاة أن يستمر فيها، وأن يبقى على طهارته، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، وكذلك الحكم لا يختلف لو كان متيقناً الحدث، وشك في الطهارة، فإنه لا يزال محدثاً حتى يتيقن أنه اغتسل، وعلى هذه القاعدة فروع كثيرة منتشرة في كتب القواعد الفقهية، وكتب الفروق، فيرجع إليها في مظانها ليرى جوانب تطبيق هذه القاعدة، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (137)، ومسلم (361).

الفصل الثالث في اغتسال الرجل وزوجه من إناء واحد وهما جنبان

الفصل الثالث في اغتسال الرجل وزوجه من إناء واحد وهما جنبان (1317 - 190) روى البخاري في صحيحه من طريق إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، كلانا جنب، ورواه مسلم (¬1). وفي الصحيحين: «كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من الجنابة» (¬2). وفيهما: تختلف فيه أيدينا (¬3). (1318 - 191) وفي رواية لمسلم: «كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء بيني وبينه واحد، فيبادرني حتى أقول: دع لي، قالت: وهما جنبان» (¬4). وللبخاري: نغرف منه جميعاً (¬5). ففي هذا الحديث دليل واضح على جواز وضوء الرجل من فضل المرأة الجنب والعكس؛ لأن اغتسالهما من إناء واحد يعني أن كلاً منهما يغتسل ¬

(¬1) البخاري (299)، ومسلم (316). (¬2) البخاري (263)، ومسلم (316). (¬3) البخاري (261)، ومسلم (221) وكلمة (من الجنابة) جاءت في البخاري بلفظ آخر. (¬4) مسلم (46 - 321). (¬5) البخاري (273).

بفضل صاحبه، وقد اختلف في الوضوء من فضل الجنب في الصدر الأول، بين ابن عمر رضي الله عنه، وبين ابن عباس رضي الله عنه. (1319 - 191) فقد روى مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن حائضاً أو جنباً (¬1). [وسنده صحيح]. وبه أخذ إبراهيم النخعي، فقد قال ابن المنذر: انفرد إبراهيم النخعي بكراهة فضل المرأة إن كانت جنباً (¬2). وخالفهما حبر الأمة وترجمان القرآن، ابن عباس رضي الله عنهما. فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي يزيد المديني، قال: سئل ابن عباس عن سؤر المرأة، فقال: هي ألطف بناناً، وأطيب ريحا (¬3). [ورجاله ثقات]. وقد ذهب إلى الأخذ برأي ابن عباس جماهير أهل العلم، فأجازوا الوضوء بفضل المرأة، جنباً كانت، أو غير جنب (¬4)، وهو رواية عن أحمد، ¬

(¬1) الموطأ (1/ 52). (¬2) الأوسط (1/ 297). (¬3) المصنف (348). (¬4) انظر في مذهب الحنفية: تبيين الحقائق (1/ 31)، شرح معاني الآثار (1/ 26)، المبسوط (1/ 61،62)، حاشية ابن عابدين (1/ 133). وفي مذهب المالكية: الخرشي (1/ 66)، مختصر خليل (ص: 5)، بداية المجتهد =

اختارها ابن عقيل من الحنابلة (¬1)، ورجحه ابن المنذر (¬2)، قال ابن عبد البر في التمهيد: «والذي ذهب إليه جمهور العلماء، وجماعة فقهاء الأمصار، أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، وتتوضأ المرأة بفضله، انفردت بالإناء، أو لم تنفرد، وفي مثل هذا آثار كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحاح، والذي يُذْهَب إليه أن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما ظهر فيه من النجاسات، أو غلب عليه منها، فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال، والله المستعان» (¬3). اهـ قال ابن حجر: ونقل الطحاوي، ثم القرطبي، والنووي الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد، وفيه نظر؛ لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم، وهذا الحديث حجة عليهم (¬4). ¬

= (1/ 294)، التاج والإكليل (1/ 72)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 63)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 442)، الاستذكار (1/ 372)، حاشية الدسوقي (1/ 35). وفي مذهب الشافعية: الأم (1/ 21)، المجموع (2/ 221)، طرح التثريب (2/ 39،40)، تحفة المحتاج (1/ 77). (¬1) المغني (1/ 136). (¬2) قال في الأوسط (1/ 295): " والذي نقول به الرخصة في أن يغتسل كل واحد منهما ويتوضأ بفضل طهور صاحبه، وإن كانا جنبين أو أحدهما، أو كانت المرأة حائضاً، وسواء ذلك خلت به، أو لم تخل به، لثبوت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدالة على صحة ذلك. اهـ (¬3) التمهيد (14/ 165). (¬4) فتح الباري تحت رقم (193).

وخالف الحنابلة الجمهور في مسألتين: في فهم فضل المرأة، وفي حكمه: فقالوا في فضل المرأة: هو الماء الذي خلت به المرأة من مشاهدة مميز، سواء كان ذكراً أم أنثى، وليس ما انفردت به، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬1). وأما حكم هذا الماء، فقالوا: طهور في حق المرأة، وليس طهوراً في حق الرجل، فلا يستعمل في رفع حدث الرجل خاصة، ويستعمل في إزالة النجاسة، كما يستعمل في رفع حدث المرأة والصبي (¬2)، ومذهب ابن ¬

(¬1) قال أحمد كما في مسائل عبد الله (1/ 22،23): " سمعت أبي يقول: لا بأس أن يتوضأ - يعني بفضل وضوء المرأة - وهو يراها، ما لم تخل به ". اهـ فشرط هنا أن يراها، فيكون معنى الخلوة: هي عدم المشاهدة، ولذلك قال المراداوي في الإنصاف (1/ 49): إن في معنى الخلوة روايتين: أحدهما: وهي المذهب، أنها عدم المشاهدة عند استعمالها من حيث الجملة. والثانية: انفرادها بالاستعمال، سواء شوهدت أم لا، وتزول الخلوة بمشاركته لها في الاستعمال بلا نزاع. (¬2) مذهب الإمام أحمد كما في المشهور من مذهبه عند المتأخرين أن الماء لا يرفع حدث الرجل بشروط، وهي: الأول: أن تخلو به المرأة عن مشاهدة رجل، أو امرأة، أو مميز، وقد قدمنا أن في المذهب روايتين، هذه أحدهما. الثاني: أن تكون خلوتها بماء، فلا تضر خلوتها بتراب. الثالث: أن يكون الماء يسيراً دون القلتين. الرابع: أن تكون خلوتها بالماء لطهارة كاملة. الخامس: أن تكون طهارتها عن حدث، وليس عن إزالة نجاسة. =

حزم قريب منه (¬1). وهذا الرأي من غريب الفقه، إذ كيف يكون ماء طهور في حق المرأة، ولا يكون طهوراً في حق الرجل، والحكم بالطهورية هو حكم وضعي، وليس حكماً تكليفياً، فإما أن يكون الماء قد طرأ عليه ما يفسده، فَنَقَلَه عن الطهورية إلى غيرها، وإما أن تكون الطهورية باقية، فلا فرق حينئذ بين الرجل والمرأة. ¬

= قال ابن قدامة في المغني (1/ 137): " فإن خلت به في بعض أعضائها، أو في تجديد طهارة، أو استنجاء، أو غسل نجاسة، ففيه وجهان: أحدهما: المنع؛ لأنه طهارة شرعية. والثاني: لا يمنع؛ لأن الطهارة المطلقة تنصرف إلى طهارة الحدث الكاملة، وهذا ما عليه المتأخرون من أصحاب أحمد. وانظر في مذهب أحمد الكافي (1/ 62)، الإنصاف (1/ 48)، الفروع (1/ 83)، تنقيح التحقيق (1/ 214)، كشاف القناع (1/ 37). (¬1) قال ابن حزم في المحلى (1/ 204): " وكل ماء توضأت منه امرأة - حائض أو غير حائض - أو اغتسلت منه، فأفضلت منه فضلاً، لم يحل لرجلٍ الوضوء من ذلك الفضل، ولا الغسل منه، سواء وجدوا ماء آخر، أو لم يجدوا غيره، وفرضهم التيمم حينئذ، وحلال شربه للرجال والنساء، وجائز الوضوء به والغسل للنساء على كل حال، ولا يكون فضلاً إلا أن يكون أقل مما استعملته منه، فإن كان مثله، أو أكثر فليس فضلاً، والوضوء والغسل به جائز للرجال والنساء ". والفرق بين اختيار ابن حزم، ومذهب الحنابلة، أن ابن حزم لا يشترط أن تخلو به المرأة عن المشاهدة، بل يكفي أن تنفرد به عن الرجل، ولا يحد ابن حزم الماء اليسير في القلتين، بل يحده بأن يكون الماء المتبقي أقل مما استعملته منه، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلاً، والله أعلم.

والصحيح أن الوضوء بفضل المرأة، جنباً كانت، أو حائضاً، جائر بلا كراهة، وهل يكون سؤر الهرة أطيب من سؤر المرأة؟! فيتوضأ الإنسان من سؤر الهرة بدون حرج، ويتحاشى سؤر المرأة. وقد ذكرت أدلة الأقوال في مسألة مستقلة من كتاب أحكام الطهارة، في مباحث المياه والآنية، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله.

الفصل الرابع من آداب الغسل: ذكر التسمية في أوله

الفصل الرابع من آداب الغسل: ذكر التسمية في أوله اختلف الفقهاء في التسمية للغسل، ومعلوم أن المغتسل للجنابة تارة يتوضأ قبل أن يغتسل، وتارة يغتسل بدون وضوء، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم الوضوء في غسل الجنابة، فإن توضأ قبل غسله، فقد ذكرت في مباحث الوضوء حكم التسمية في الوضوء، وجرى تحرير الخلاف فيها مع ذكر الأدلة هناك، وتم ترجيح أن التسمية غير مشروعة في الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية، جاء في التاج والإكليل (¬1): «أنكر مالك التسمية على الوضوء، وقال: ما سمعت بهذا، أيريد أن يذبح»؟. وإن اغتسل بلا وضوء، فما حكم التسمية حينئذ عند الفقهاء رحمهم الله تعالى، فقيل: التسمية سنة، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3). ¬

(¬1) (1/ 347) وجاء في حاشيةالعدوي (1/ 182): ولم ير بعض العلماء القول بالبداءة بالتسمية من الأمر المعروف عند السلف، بل رآه من الأمر المنكر. وقد نقل عن مالك ثلاث روايات: إحداها، وبها قال ابن حبيب: الاستحباب. الثانية: الإنكار، وقال: أهو يذبح؟ الثالثة: التخيير. اهـ بتصرف يسير. (¬2) انظر إلى نور الإيضاح (ص: 23)، حاشية ابن عابدين (1/ 156)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 67). (¬3) شرح زبد ابن رسلان (ص: 58)، متن أبي شجاع (ص:24)، المجموع (2/ 510).

دليل من قال باستحباب التسمية في الغسل

وقيل: التسمية من الفضائل، وهو المشهور في مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا تستحب التسمية للجنب، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2)، وينبغي أن يكون قولاً في مذهب المالكية (¬3). وقيل: تجب التسمية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال باستحباب التسمية في الغسل. الدليل الأول: (1323 - 196) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، ¬

(¬1) الشرح الصغير (1/ 171)، القوانين الفقهية (ص: 22)، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (ص:60)، الفواكه الدواني (1/ 147)، حاشية العدوي (2/ 265)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:20). (¬2) ذكر النووي في المجموع (2/ 210) بأن هناك وجهاً في المذهب يرى أن التسمية غير مستحبة للجنب، حكاه القاضي حسين، والمتولي، وغيرهما، قال: ولم يذكر الشافعي في المختصر والأم والبويطي التسمية، وكذا لم يذكرها المصنف في التنبيه، والغزالي في كتبه، فيحتمل أنهم استغنوا بقولهم: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة؛ لأن وضوء الصلاة يسمي في أوله". قلت: ويحتمل أنهم لا يرون التسمية للجنب، كما هو وجه في مذهب الشافعية، والله أعلم. (¬3) قدمت في مباحث الوضوء بأن التسمية للوضوء مكروهة على قول في مذهب المالكية، فإذا كانت مكروهة في الوضوء لم يبعد أن تكون كذلك في الغسل. (¬4) الفروع (1/ 204)، الإنصاف (1/ 252)، شرح منتهى الإرادت (1/ 85)، كشاف القناع (1/ 154).

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر، أو قال: أقطع (¬1). [إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب] (¬2). ويجاب عن ذلك: أولاً: أن الحديث ضعيف. ثانياً: ليس كل عبادة مشروعة تكون التسمية فيها مشروعة، فالتسمية في العبادات منها ما هو شرط كالذبح، ومنها ما هو مستحب كما في قراءة القرآن، بل قد تستحب في بعض المباحات كالأكل والشرب. ومنها ما هو بدعة، كالتسمية في الأذان، وفي الإقامة، وفي الصلاة، وفي الحج والعمرة ونحوها، فليس كل فعل تشرع فيه التسمية (¬3). ¬

(¬1) المسند (2/ 359). (¬2) سبق تخريجه، انظر كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم: 105. (¬3) يقول البقوري في كتابه ترتيب الفروق واختصارها (1/ 368): " أفعال العباد إما قربات، وإما محرمات، وإما مكروهات، وإما مباحات: فالمباحات: جاءت البسملة في بعضها، كالأكل والشرب والجماع، والحث على ذلك في بعضها آكد من بعض، ولم يأت (أي الحث) في كل شيء من المباح، وأما ما لم يأت فيه، فحسن للإنسان أن يستعمله؛ ليجد بركة ذلك. وأما المحرمات والمكروهات، فيكره له التسمية عند الشروع فيها، من حيث قصد البركة بها، وذلك لا يراد في الحرام والمكروه، بل المراد من الشرع عدمه، وتركه. وأما القربات فقد جاء في بعضها وأُكِدَ فيه كالذبح، وجاء عند قراءة القرآن، واختلف فيه في بعضها، كالغسل والوضوء والتيمم .... الخ كلامه رحمه الله تعالى. فعلم من كلامه هذا أن التسمية مختلف في مشروعيتها في الغسل والوضوء والتيمم، وهو =

وقد قال القرافي في كتابه الفروق: «فأما ضابط ما تشرع فيه التسمية من القربات، وما لم تشرع، فيه فقد وقع بحث مع جماعة من الفضلاء، وعسر تحرير ذلك وضبطه، ثم قال: والقصد من هذا الفرق بيان عسره، والتنبيه على طلب البحث عن ذلك، فإن الإنسان قد يعتقد أن هذا لا إشكال فيه، فإذا نبه على الإشكال استفاده، وحثه ذلك على طلب جوابه» (¬1). قلت: رحمك الله رحمة واسعة يا أحمد بن إدريس القرافي، فلقد طلبت في بحثي هذا حديثاً صحيحاً أو ضعيفاً في مشروعية التسمية في غسل الجنابة، ولم أقف عليه حتى كتابة هذه السطور، وليس في قلبي شيء من عدم مشرعية التسمية في غسل الجنابة، فيبعد أن تكون التسمية مشروعة، ثم لا تأتي في الأحاديث التي تنقل لنا صفة الغسل من الجنابة، فهل يتصور أن يتتابع الصحابة على إهمال ترك التسمية، وعدم نقلها للأمة مع ثبوت مشروعيتها، ولو كانت التسمية من دين الله لحفظها الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (¬2)، وحفظ الكتاب إنما يكون أيضاً بحفظ الشرع، فلا يمكن أن يكون شيء من شرع الله غير محفوظ لنا، ودع عنك أيها القارئ الكريم متابعة جمهور الفقهاء بلا نور من كتاب الله سبحانه وتعالى، أو حجة من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهما الحجة ¬

= ما أريد أن يطلع عليه القارئ؛ ليعلم أن إنكار التسمية في الوضوء والغسل كان ثابتاً من لدن السلف، وقد سبق أن نقلت إنكار مالك للتسمية على الوضوء، وقوله: ما سمعت بهذا، أيريد أن يذبح "؟. (¬1) أنواع البروق في أنواع الفروق (1/ 132). (¬2) الحجر: 9.

الدليل الثاني

على خلقه، وما ليس فيهما فلا تتبعه، وإن قال به من قال، فإن خطأ القائل معذور به مأجور عليه، وأما متابعتك لغيرك من غير هدى فإن سلمت من الإثم، فلا أجر فيها، والله المستعان، وعليه التكلان. الدليل الثاني: وردت أحاديث كثيرة في مشروعية التسمية في الوضوء، بلفظ: (لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه). ورد ذلك من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن زيد، وأنس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وإن كان في أسانيدها مقال، فإنها صالحة للحجة بالمجموع (¬1). فإذا ثبتت التسمية في الطهارة الصغرى، كانت التسمية مشروعة في الطهارة الكبرى من باب أولى؛ لأنها صغرى وزيادة (¬2). وأجيب: لا نسلم أن التسمية مشروعة في الطهارة الصغرى، وقد تقدم بحث التسمية في الطهارة الصغرى، وتبين أن التسمية فيها غير مشروعة، وإذا بطل الأصل بطل الفرع، ولو أخذنا بظاهر أحاديث «لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» لقلنا: إن التسمية شرط في صحة الوضوء، من تركها، ولو سهواً، لم يصح وضوؤه، ووجب عليهم القول بأن منزلة التسمية في الوضوء، كمنزلة الوضوء للصلاة، ولما لم تكن هذه الأحاديث ¬

(¬1) وقد تم تخريجها والكلام على أسانيدها في كتاب الوضوء، فأغنى عن إعادته هنا. (¬2) انظر بتصرف: المبدع (1/ 194).

دليل الحنابلة على وجوب التسمية

بتلك الصحة لم يذهب الجمهور إلى أن التسمية شرط، بل لم يذهبوا إلى القول بالوجوب إلا رواية عن الإمام أحمد، وقد استقر مذهبه على القول بعدم الوجوب كما نقل الخلال عنه، ونقلت ذلك في كتاب الوضوء، وعليه فنقول لهم: لا تحتجوا علينا بأحاديث أنتم أنفسكم لا تقولون بمقتضاها، والله المستعان. دليل الحنابلة على وجوب التسمية: لما كان الحنابلة يوجبون التسمية في الطهارة الصغرى، أوجبوها في الطهارة في الكبرى من باب القياس. والجواب عنهم، هو الجواب نفسه الذي رُدَّ به قول الجمهور، فهذا الدليل هو عين دليل الجمهور إلا أن الجمهور قالوا: لما كانت الطهارة مشروعة في الطهارة الصغرى كانت مشروعة في الطهارة الكبرى، والحنابلة قالوا: لما كانت التسمية واجبة في الطهارة الصغرى كانت واجبة في الطهارة الكبرى، ولا يصح القياس لما ذكرنا في الجواب عن الدليل الذي قبل هذا. دليل من قال: التسمية غير مشروعة في الغسل. الدليل الأول: الأصل في العبادت الحضر، حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث الأغتسال من الجنابة ليس فيها ذكر التسمية، {وما كان ربك نسياً} (¬1). ¬

(¬1) مريم: 64.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: أن أحاديث غسل الجنابة في السنة خلو من التسمية، ولو كانت مشروعة لما أغفل الصحابة رضي الله عنهم ذكرها، ولو كانت التسمية مشروعة لحفظها الله لنا، فلما لم تنقل لنا التسمية في الغسل، لا في حديث صحيح، ولا في حديث ضعيف، كان هذا دليلاً على عدم مشروعية التسمية، والقول بمشروعية التسمية في غسل الجنابة يعني أن التسمية كانت تفعل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صحابته، ولكن الصحابة قد قصروا في نقل هذه السنة للأمة، وأسوق لك بعض الأحاديث الصحيحة في صفة غسل الجنابة، وليس فيها ذكر للتسمية، منها: (1324 - 197) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. ورواه مسلم (¬1). فهذه صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة وليس فيها ذكر البسملة. (1325 - 198) ومنها ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: حدثتني خالتي ميمونة، قالت: أدنيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسله من الجنابة، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ بها على فرجه، ¬

(¬1) البخاري (272) ومسلم (316)

وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بمنديل فرده. ورواه البخاري (¬1). وهذا الحديث كغيره ليس فيه التسمية، فيبعد أن تكون التسمية مشروعة ثم لا تنقل من قوله - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعله. (1326 - 199) ومنها ما رواه مسلم من طريق سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين (¬2). فهذه الأحاديث هي التي نقلت لنا صفة غسل الجنابة، وليست التسمية فيها، وبالتالي يقطع الباحث بعدم مشروعية التسمية، ولا حاجة لنا إلى الذهاب إلى القياس على الوضوء، لأمرين بل لثلاثة: الأول: عدم ثبوت التسمية في الوضوء. الثاني: أن الغسل كان يتكرر منه - صلى الله عليه وسلم -، كما كان يتكرر من صحابته رضوان الله عليهم، فكانت الأمة بحاجة إلى معرفة حكم التسمية في الغسل، فلما لم يأت ذكر للتسمية في أحاديث صفة الغسل من الجنابة، علم أنها ليست مشروعة. ¬

(¬1) البخاري (257) ومسلم (317). (¬2) صحيح مسلم (330).

الراجح من الخلاف

الثالث: أن القياس في العبادات، قياس ضعيف، ولذلك سبق لنا قول القرافي: «يعسر الحصول على ضابط لما تشرع فيه التسمية وما لا تشرع» وإذا كان لا يوجد ضابط كان القول بمشروعية التسمية في الغسل يحتاج إلى توقيف من الشارع، فالضابط المطرد: هو النص، فإذا لم نجد مثل ذلك لم نذهب ونتكلف بالقول بالقياس، وكيف نرد على من قال: إذا قلتم بالقياس، فقولوا بمشروعية التسمية في الصلاة والأذان بجامع أن كلاً منهما عبادة، فإذا منعتم القياس بهذه العبادات منعنا القياس على الوضوء، وهذا على التسليم في صحة التسمية في الوضوء، بل يمكن أن يعكس القياس، فيقال: لم يرد حديث صحيح ولا ضعيف في ثبوت التسمية في الغسل، أو في التيمم، وكلاهما طهارة من الحدث، فيقاس عليهم الوضوء بعدم مشروعية التسمية بجامع أن كلاً منهما طهارة من حدث، والله أعلم. الراجح من الخلاف. القول بعدم مشروعية التسمية، هو القول الذي يتمشى مع الأدلة، والأصل عدم المشروعية حتى تثبت التسمية في حديث صحيح خال من النزاع، والله أعلم، وإن عدم ثبوت حديث صحيح أو ضعيف في مشروعية التسمية في الغسل يؤكد لك أخي القارئ عدم مشروعية التسمية في الطهارة الصغرى، والتي وردت فيها أحاديث لا تقوم فيها حجة، فإذا كان اغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة لم نقف فيه على أثر مرفوع في مشروعية التسمية، فالطهارة الصغرى لا يستنكر القول بعدم مشروعية التسمية فيها، وإن وردت فيها أحاديث ليست بذاك، وإذا كان الجمهور يرى مشروعية التسمية في الغسل، مع أنه لا يوجد فيها سنة مرفوعة، ولو ضعيفة، لم نجعل قول الجمهور حجة في ذهابهم إلى مشروعية التسمية في الطهارة الصغرى، والله أعلم.

الفصل الخامس من آداب الغسل: غسل فرجه وما أصابه من أذى قبل الاغتسال

الفصل الخامس من آداب الغسل: غسل فرجه وما أصابه من أذى قبل الاغتسال يستحب لمن أراد الغسل أن يغسل فرجه، وما أصابه من أذى، سواء كان هذا الأذى نجساً كالمذي، أو كان طاهراً مستقذراً كالمني (¬1). وهذا الاستحباب، هل يستحب مطلقاً، أو يستحب حيث يوجد على ذكره أذى، فإن لم يوجد لم يستحب ذلك، كما لو أولج ذكره بحائل، ولم ينزل، في ذلك خلاف بين أهل العلم. فذهب الحنفية إلى أن تقديم غسل الفرج سنة مطلقاً، سواء كان على ذكره نجاسة أم لا، وقاسوه على تقديم الوضوء على غسل باقي البدن، سواء ¬

(¬1) معلوم أن المني قد اختلف العلماء في نجاسته، فذهب الحنفية والمالكية إلى نجاسته، انظر بدائع الصنائع (1/ 84)، والمبسوط (1/ 81)، والبحر الرائق (1/ 235 - 236)، وفي مذهب المالكية، انظر الاستذكار (3/ 113)، والقوانين الفقهية (ص: 41)، حاشية الدسوقي (1/ 111)، مواهب الجليل (1/ 284). وذهب الشافعية والحنابلة إلى طهارته، المني، انظر المجموع (1/ 146)، انظر مسائل أحمد رواية أبي داود (1/ 32) رقم 148،149،150. وقال أحمد في مسائله رواية صالح (3/ 46): قلت لأبي الفراش يصيبه المني، يبسط عليه؟ فقال: المني شيء آخر، وسهل في المني جداً، وقال: أين المني من البول، البول شديد، والمني يفرك، وقد جاء أنه بمنزلة المخاط، يقوله ابن عباس. اهـ وانظر مسائل أحمد رواية ابن هانئ (1/ 25)، ورواية عبد الله (1/ 49) رقم 52. ومسائل أحمد وإسحاق (1/ 157، 192، 247).

كان هناك حدث أم لا (¬1). وقيل: إن لم يكن هناك أذى، فلا حاجة إلى غسل فرجه، وهذا مذهب الشافعية (¬2). وربما أخذ الشافعية من قول ميمونة في الحديث «وغسل فرجه، وما أصابه من أذى» وأن الأذى يطلق على النجاسة، لقوله سبحانه وتعالى عن الحيض: {يسألونك عن المحيض قل هو أذى} (¬3). والمحيض: نجس بالإجماع. فالجواب: أن الأذى قد يطلق على النجاسة كإطلاقه على دم الحيض، وقد يطلق على الشيء الطاهر، قال تعالى: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر} (¬4). وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (¬5). وقال: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} (¬6). وقال: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه} (¬7). ¬

(¬1) الفتاوى الهندية (1/ 14). (¬2) انظر حواشي الشرواني (1/ 284). (¬3) البقرة: 222. (¬4) النساء: 102. (¬5) 264. (¬6) البقرة: 263. (¬7) البقرة: 196.

الدليل على استحباب غسل الفرج في غسل الجنابة

وأذى الرأس يقصد به القمل، كما هو معلوم من سبب النزول، وقصة كعب بن عجرة في الصحيحين (¬1)، ولا يقال: إن القمل نجس. وأرى أن غسل الفرج لا يتعين من أجل إزالة النجاسة، بل قد يبدأ بغسله حتى لا يحتاج إلى مسه بعد ذلك، فينتقض وضوؤه، ولو كان كل من جامع أصبح ذكره نجساً، لنقل عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مباشرة غسله بعد الجماع، خاصة أن الذكر يخرج من الجماع، وهو رطب، ولنقل عنه - صلى الله عليه وسلم - حرصه على توقيه، حتى لا تتعدى النجاسة إلى ثيابه، ولجاء الأمر بغسل الذكر بعد الجماع مباشرة، أو التحفظ منه، فلما لم ينقل عن المعصوم أمر بغسل الذكر من الجماع، ولم ينقل غسله مباشرة بعد الجماع، علم أن غسل الذكر في غسل الجنابة ليس واجباً، وسيأتي مزيد بيان لهذا، حين الكلام على دليل الاستحباب، والله أعلم. الدليل على استحباب غسل الفرج في غسل الجنابة. هناك دليلان أثري ونظري على استحباب البداءة بغسل الفرج. أما الدليل الأثري: (1327 - 200) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري اللفظ له ومسلم (¬2). ¬

(¬1) البخاري (1815)، ومسلم (1201). (¬2) صحيح البخاري (260)، ومسلم (317).

الدليل النظري

قال ابن تيمية: الاستنجاء من المني فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على الدوام، ولا أعلم إخلالهم به بحال (¬1). وأما الدليل النظري: فإنه يستحب أن يغسل فرجه قبل ضوئه؛ لأنه إذا أخر غسل الفرج، فإنه إن مس فرجه انتقض وضوؤه، وإن لم يمسه أخل بسنة الدلك، وربما لا يتقين وصول الماء إلى مغابنه إلا بالدلك (¬2). وقد استدل الحنفية والمالكية بهذا الحديث على نجاسة المني، وذلك لكونه استنجى من المني فغسل فرجه، وليس بصواب، فإن الغسل ليس مقصوراً فقط على النجاسة، فقد يكون الغسل للنظافة، أو من أمر مستقذر وإن لم يكن نجساً، وقد يكون الغسل من مذي أصابه، وهو نجس، فلا يصح الحديث دليلاً على نجاسة المني، وقد يكون الغسل حتى لا يحتاج إلى مسه بعد ذلك، فيبطل وضوؤه (¬3). ¬

(¬1) شرح العمدة (1/ 162)، وقال أيضاً في مجموع الفتاوى (21/ 594): الاستنجاء منه مستحب، كما يستحب إماطته من الثوب والبدن، وقد قيل: هو واجب، كما قد قيل: يجب غسل الأنثيين من المذي، وكما يجب غسل أعضاء الوضوء إذا خرج الخارج من الفرج، فهذا كله طهارة وجبت لخارج، وإن لم يكن المقصود بها إماطته وتنجيسه، بل سبب آخر، كما يغسل منه سائر البدن، فالحاصل أن سبب الاستنجاء منه ليس هو النجاسة، بل سبب آخر، فقولهم: يوجب طهارة الخبث، وصف ممنوع في الفرع، فليس غسله من الفرج للخبث، وليست الطهارات منحصرة في ذلك كغسل اليد عن القيام من نوم الليل، وغسل الميت، والأغسال المستحبة، وغسل الأنثيين وغير ذلك، فهذه الطهارة إن قيل بوجوبها، فهي من القسم الثالث، فيبطل قياسه على البول؛ لفساد الوصف الجامع. اهـ (¬2) شرح العمدة (1/ 370). (¬3) وقد ذكرت خلاف العلماء في حكم المني من حيث الطهارة والنجاسة، وأدلة كل فريق في مبحثين: أحدهما في كتاب أحكام النجاسة، وفي كتاب الاستنجاء من المني، فانظره هناك في مبحث مطول، فلله الحمد.

وقد أشار النووي إلى أن الاستنجاء من المني لا يكفي في رفع الجنابة، فلا بد من غسله مرة أخرى بنية رفع الجنابة، قال النووي: «وينبغي لمن اغتسل من إناء كالإبريق ونحوه، أن يتفطن لدقيقة قد يغفل عنها، وهي: أنه إذا استنجى، وطهر محل الاستنجاء بالماء، فينبغي أن يغسل محل الاستنجاء بعد ذلك بنية غسل الجنابة؛ لأنه إذا لم يغسله الآن ربما غفل عنه بعد ذلك، فلا يصح غسله لترك ذلك، وإن ذكره احتاج إلى مس فرجه، فينتقض وضوءه، أو يحتاج إلى كلفة في لف خرقة على يده، والله أعلم». (¬1) اهـ قلت: إذا استنجى بنية رفع الحدث وإزالة النجاسة كفى، ولا يحتاج الأمر إلى إعادة غسل الفرج مرة أخرى بنية رفع الجنابة، بل إن إزالة النجاسة لا يحتاج الأمر فيها إلى نية، فإذا ذهبت النجاسة ولو كانت النية رفع الحدث فقد حصل المطلوب، وربما كان غسل الفرج أولاً لكي لا يحتاج إلى غسله مرة أخرى فينتقض وضوءه، ولو كان غسل الفرج يتكرر أكثر من مرة لبينته السنة. ولذلك قال الخرشي: «ثم يغسل ذلك المحل، أو غيره بنية غسل الجنابة؛ ليأمن من نقض الوضوء بمس ذكره بعد ذلك، وإن لم ينو رفع الجنابة عند غسل فرجه فلا بد من غسله ثانياً؛ ليعم جسده، وكثير من الناس لا يتفطن لذلك فينوي بعد غسل فرجه، ثم لا يمسه حفظاً للوضوء، فيؤدي لبطلان الغسل لعرو غسل الفرج عن نية، قاله المؤلف في شرحه على المدونة اللخمي، وإن نوى رفع الجنابة في حين إزالة النجاسة عنه، وغسل غسلاً وحداً أجزأ على مذهب المدونة» (¬2). ¬

(¬1) شرح النووي لصحيح مسلم (3/ 229). (¬2) الخرشي (1/ 172).

فهذا الكلام أدق من كلام النووي، حيث لا يطلب غسل الفرج مرة أخرى إذا كان غسله للفرج بنية رفع الجنابة، أو نواهما معاً: إزالة النجاسة ورفع الحدث، وأرى أن الأمر سهل جداً، وأن النية العامة في رفع حدث الجنابة تكفي إن شاء الله تعالى، ولا يتطلب الأمر نية خاصة عند كل عضو من البدن، فإذا نوى نية عامة في هذا الغسل رفع الجنابة، يكون الفرج داخلاً في تلك النية، ولو غسله بنية إزالة الأذى، فنية الصلاة تكفي عن نية خاصة عند الركوع والسجود والجلوس، فكذلك نية الغسل تكفي عن نية خاصة عند غسل الفرج، أو الرأس، أو اليد، وهكذا، والله أعلم

الفصل السادس من آداب الغسل: غسل اليدين قبل الوضوء وقبل غسل الفرج

الفصل السادس من آداب الغسل: غسل اليدين قبل الوضوء وقبل غسل الفرج نحتاج في بحث هذه المسألة إلى الكلام أولاً: في محل غسل اليدين من غسل الجنابة. وثانياً: هل يغسل كفيه كليهما، أو اليمنى فقط التي يغرف بها؟ وثالثاً: ما نية غسلهما، هل يغسلهما بنية النظافة، أو بنية رفع الحدث، أو ماذا؟ ورابعاً: عدد غسلات اليد، هل تغسل مرة واحدة، أو أكثر؟ المبحث الأول: في محل غسل اليدين من غسل الجنابة جاء السنة الصحيحة الصريحة في أن غسل الكفين إنما يكون في ابتداء الغسل، وقبل الاستنجاء. (1328 - 201) لما روى البخاري من طريق سفيان عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، وما أصابه، ثم مسح بيده الحائط، أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم

أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه. فهذه الرواية صريحة في أن غسل اليد كان قبل غسل الفرج، وأن غسل الفرج كان قبل الوضوء، ثم يفيض على جسده الماء، وكان التعبير بلفظ (ثم) الدالة على الترتيب في جميع ذلك. (1329 - 202) وأما ما رواه البخاري رحمه الله تعالى من طريق سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه، وما أصابه من أذى، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحى رجليه، فغسلهما. هذه غسله من الجنابة. فذكر غسل الفرج بعد الوضوء، فقد أجاب عنه الحافظ في الفتح، فقال: «فيه تقديم وتأخير؛ لأن غسل الفرج كان قبل الوضوء؛ إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وقد بين ذلك ابن المبارك عن الثوري عند البخاري في باب الستر في الغسل، فذكر غسل اليدين، ثم غسل الفرج، ثم مسح يده بالحائط، ثم الوضوء غير رجليه، وأتى بـ ((ثم» الدالة على الترتيب في جميع ذلك)) (¬1). ¬

(¬1) فتح الباري تحت حديث (249).

المبحث الثاني هل يغسل يديه كليهما أو اليمنى فقط؛ لأنها آلة الغرف

المبحث الثاني هل يغسل يديه كليهما أو اليمنى فقط؛ لأنها آلة الغرف قال الباجي: «ويكفي غسل اليمنى في هذا الموضع على قول أشهب؛ ليمكنه غرف الماء بها، ولا معنى لغسل اليد اليسرى معها؛ لأنه يغسل بها فرجه بعد ذلك، فيباشر النجاسة، ولا يباشر شيئاً من ذلك بيمناه، فلذلك غسلها ليتناول بها الماء» (¬1). (1330 - 203) واستدل الباجي بأثر موقوف على ابن عمر رضي الله عنه، رواه مالك في الموطأ، عن نافع، عن عبد الله بن عمر كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فأفرغ على يده اليمنى، فغسلها، ثم غسل فرجه، ثم مضمض واستنثر ... الخ (¬2). (1331 - 204) بل يمكن أن يستدل له بما رواه البخاري من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة بنت الحارث، قالت: وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسله، وسترته، فصب على يده، فغسلها مرة أو مرتين، قال سليمان: لا أدري أذكر الثالثة أم لا، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه ... الحديث. قلت: الصحيح غسل الكفين معاً، وهذه الرواية لا بد من حملها على باقي الرويات الأخرى لحديث ميمونة، لأن الحديث واحد، فيقال: إن كلمة «يده» مفرد مضاف، فيعم كلتا يديه. ¬

(¬1) المنتقى للباجي (1/ 95). (¬2) الموطأ (102)

فحديث ميمونة مداره على الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، (1332 - 105) رواه البخاري من طريق أبي حمزة، عن الأعمش به بلفظ: «صب على يديه، فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها .... الحديث». فهنا ذكر أن الغسل كان لكلتا يديه قبل غسل الفرج، وأما بعد غسل فرجه فكان الغسل ليده اليسرى؛ لأنها هي التي باشر بها غسل فرجه، وهي التي ضرب بها الأرض. (2333 - 206) ورواه البخاري من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش به، بلفظ: «صببت للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسلاً، فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما، ثم غسل فرجه، ثم قال بيده الأرض، فمسحها بالتراب، ثم غسلها، ثم تمضمض واستنشق ...» الحديث. ورواية حفص هذه توافق رواية أبي حمزة، بأن غسل اليدين كان قبل غسل الفرج، وأن الغسل كان لكلتا يديه، ثم عاد وغسل اليد اليسرى بعد أن مسحها بالتراب. (1334 - 207) ورواه مسلم من طريق عيسى بن يونس، عن الأعمش به، بلفظ: «فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ بها على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة» (¬1). ¬

(¬1) مسلم (317).

فهذه الروايات في حديث ميمونة صريحة في أن الغسل كان لكفيه كليهما، ولم يختلف الأمر في صفة الغسل في حديث عائشة، (1335 - 208) فقد رواه البخاري من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بلفظ: «كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ...» الحديث (¬1). ورواه البخاري كذلك من طريق عبد الله بن المبارك، عن هشام به (¬2). ورواه مسلم من طريق وكيع، عن هشام به، بلفظ: «بدأ، فغسل كفيه ثلاثاً» (¬3). ورواه مسلم أيضاً من طريق أبي معاوية، عن هشام به، بلفظ: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ، فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة» (¬4). ¬

(¬1) البخاري (248). (¬2) صحيح البخاري (272). (¬3) مسلم (316). (¬4) مسلم (316).

المبحث الثالث الموجب لغسل اليدين في غسل الجنابة

المبحث الثالث الموجب لغسل اليدين في غسل الجنابة اختلف العلماء في موجب غسل اليدين، قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون غسلهما من أجل النظافة، وإزالة ما بهما من مستقذر (¬1). قلت: يمنع من هذا اعتبار العدد في غسلهما، فإنه لو كان الأمر من أجل النظافة وإزلة المستقذر فقط لاكتفى بذلك بغسلة واحدة، فإن النجاسة العينية تكفي في غسلها غسلة واحدة تذهب بعينها، فلما كان الغسل ثلاث مرات، كان الأمر ليس من أجل النظافة، أو إزالة النجاسة، أو المستقذر. وهذا الخلاف ليس لفظياً، فمن قال: إن الغسل من أجل النظافة، لم ير أن غسلهما مشروع فيما لو كانت يده نظيفة، أو كان قد غسلهما، ثم أحدث، فإذا استأنف الوضوء لم يشرع له إعادة غسلهما، كما أنه لا يرى وجوب النية في غسلهما؛ لأن الغسل إذا كان من قبيل النظافة، أو إزالة النجاسة لم تكن النية واجبة، بخلاف من يرى أن غسلهما من أجل الوضوء فحسب، سواء كانت اليد نظيفة، أو غير نظيفة. فالراجح أن غسل اليدين مشروع، حتى ولو كانت اليد نظيفة؛ لأن الطهارة إذا دخلتها أحكام العبادة المحضة غلبت عليها، فلم يراع فيها السبب، فغسل اليدين حين دخله العدد غلبت عليه أحكام العبادة المحضة، ومثله غسل الجمعة أصله إزالة الرائحة، فلما دخلت عليه أحكام العبادة لزمه الاتيان به، وإن لم يوجد سببه، والله أعلم. ¬

(¬1) الفتح، تحت رقم (248).

قال الحافظ: ويحتمل أن يكون غسلهما هو الغسل المشروع عند القيام من النوم (¬1). (1336 - 209) وقد أخذ ذلك بما رواه مسلم من طريق زائدة، عن معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فغسل يديه قبل أن يدخل يده في الإناء، ثم توضأ مثل وضوئه للصلاة (¬2). ورواه الشافعي والترمذي من طريق سفيان بن عيينة، عن هشام به، وذكر غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء. وكونه غسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ليس فيه دليل على أن ذلك بسبب القيام من النوم، بل كان ذلك هديه - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يتوضأ غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء، (1337 - 210) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد العزيز ابن عبد الله الأويسي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء ابن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق. الحديث. وأخرجه مسلم (¬3). ¬

(¬1) المرجع نفسه، والصحفة نفسها. (¬2) مسلم (316). (¬3) صحيح البخاري (160)، ومسلم (226).

فلم يدخل يمينه في الإناء حتى غسلها ثلاثاً، ولم يكن ذلك بسبب القيام من نوم الليل، لأن الحديث مطلق، نعم إذا كان غسل اليد بعد القيام من نوم الليل فإن غسلهما يتأكد، وقد قال بعض العلماء بالوجوب، وقد ذكرت خلاف العلماء في ذلك في باب المياه، والدليل على تأكد غسلهما إن كان ذلك بعد القيام من النوم، (1338 - 211) ما رواه مسلم حديث أبي هريرة في مسلم، «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده». ورواه البخاري دون قوله ثلاثاً (¬1). فالذي يظهر أن غسل الكفين ثلاثاً في ابتداء الغسل كان من أجل الوضوء، فَفَعَلَ في وضوء غسله، كما كان يفعل في وضوئه المعتاد، والله أعلم، ومن أدخل يديه في الإناء قبل غسلهما لم يضر ذلك وضوءه، فإن كانت يده نظيفة فالأمر ظاهر، يد طاهرة لاقت ماء طهوراً فلم تؤثر فيه. وإن كان في يده نجاسة، وتغير الماء بالنجاسة نجس إجماعاً، وإن لم يتغير الماء رجعت هذه المسألة إلى مسألة أخرى سبق أن حُرِّرت الأقوال فيها، وهي في حكم الماء إذا لاقته نجاسة فلم تغيره، وقد فصلت القول فيها في كتاب المياه. وقد ترجم البخاري باباً في صحيحه، بعنوان: باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يده قذر غير الجنابة، ثم ساق حديث القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه، ورواه مسلم (¬2). ¬

(¬1) مسلم (278)، البخاري (162). (¬2) البخاري (261)، ومسلم (316).

كما ساق أثراً معلقاً، قال البخاري: أدخل ابن عمر، والبراء بن عازب يده في الطهور، ولم يغسلها، ثم توضأ (¬1). قال الحافظ في الفتح في توجيه الاستدلال بحديث عائشة: «لما جاز للجنب أن يدخل يده في الإناء، ليغترف بها قبل ارتفاع حدثه؛ لتمام الغسل كما في حديث الباب، دل على أن الأمر بغسل يده قبل إدخالها ليس لأمر يرجع إلى الجنابة، بل إلى ما لعله يكون بيده من نجاسة متيقنة أو مظنونة». قلت: هذا التوجيه مبني على قول: إن الحدث لا يرتفع عن العضو المغسول حتى يرتفع الحدث عن البدن كله، أما من يرى: أن كل عضو تم غسله فقد ارتفع حدثه، فلا يتوجه هذا الاستدلال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قول الحافظ: إن غسل اليد لا يرجع إلى أمر الجنابة، بل إلى ما لعله يكون بيده من نجاسة متيقنة أو مظنونة، ينتقض ذلك باستحباب غسل اليد، ولو تيقن نظافتها، فغسل اليد في ابتداء الوضوء والغسل إن كانت اليد بحاجة إلى النظافة فظاهر، وإلا كان غسلهما تعبدي، وذلك لكون غسلهما يسن فيه التثليث، وغسل النجاسة يكفي فيه غسلة واحدة تذهب بعينها، والله أعلم. ¬

(¬1) قال الحافظ: أما أثر ابن عمر فوصله عبد الرزاق بمعناه، وأما أثر ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة عنه، وعبد الرزاق من وجه آخر أيضاً عنه. اهـ قلت: أثر ابن عمر يدل على أن غسل اليد قبل إدخاله في الإناء ليس بواجب، وليس يدل على عدم المشروعية عند نظافة اليد، فتأمل.

المبحث الرابع في عدد غسل الكفين في ابتداء الغسل

المبحث الرابع في عدد غسل الكفين في ابتداء الغسل ذهب الأئمة الأربعة (¬1)، إلى أن غسل الكفين في غسل الجنابة مرة واحدة إلى ثلاث مرات، ولا يزيد على الثلاث. وقيل: يغسل كفيه سبع مرات، يروى هذا عن ابن عباس، ولا يصح (¬2). دليل الجمهور: ما ورد في صفة الغسل من حديث ميمونة وحديث عائشة رضي الله عنهما من أنه غسل كفيه ثلاثاً، وسبق في الفصل الذي قبل هذا ذكر ألفاظهما. (1339 - 212) واستدل من رأى غسل الكفين سبعاً بما رواه أحمد من طريق ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، أن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا اغتسل من الجنابة أفرغ بيده اليمنى على اليسرى فغسلها سبعاً قبل أن يدخلها في الإناء، فنسي مرة كم أفرغ على يده، فسألني: كم أفرغت؟ فقلت: لا أدري؟ فقال: لا أم لك، ولم لا تدري، ثم توضأ وضوءه للصلاة ... الحديث (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 34)، المبسوط (1/ 44)، الشرح الكبير (1/ 137)، الفواكه الدواني (1/ 147)، المجموع (2/ 209)، الإنصاف (1/ 252)، شرح العمدة (1/ 370). (¬2) تفسير القرطبي (5/ 211)، التمهيد (22/ 94). (¬3) المسند (1/ 307). (¬4) وقد سبق بحثه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (186).

ومع ضعف الحديث، فإن الظاهر أن التسبيع كان في غسل الفرج، لأنه لم يذكر التسبيع إلا في غسل اليد اليسرى، واليد اليسرى هي التي يغسل بها المرء فرجه قبل الاغتسال، ولأنه ربما كان على الذكر نجاسة من مذي ونحوه، ففي غسل النجاسة قد قيل بغسلها سبعاً، كما هو مذهب الحنابلة، وهو مرجوح (¬1). قال ابن رجب: «وليس في هذه الرواية التسبيع سوى في غسل يده اليسرى قبل الاستنجاء، ويحتمل أن المراد به التسبيع في غسل الفرج خاصة، وهو الأظهر» (¬2). والصحيح أنه غسلها بعد الاستنجاء وقبل إدخال اليد في الإناء؛ وذلك لمباشرتها غسل الفرج، وما كان عليه من أذى، ومع ذلك فلو صح هذا عن ابن عباس لم يكن فيه حجة، لأنه موقوف عليه، فكيف، وهو ضعيف، مخالف للسنة المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ¬

(¬1) قد ذكرت خلاف العلماء في العدد المشروع في غسل النجاسة، وأن الصحيح أنه يكفي في غسل النجاسة غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، إلا في نجاسة الكلب، فإن النص قد ورد في غسلها سبعاً، والله أعلم. (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (1/ 267).

الفصل السابع من سنن الغسل: الوضوء قبله

الفصل السابع من سنن الغسل: الوضوء قبله نحتاج في الكلام على الوضوء في غسل الجنابة إلى الكلام على مسائل كثيرة منها: أولاً: حكم الوضوء في غسل الجنابة. وثانياً: في موضع الوضوء من الغسل، هل يكون قبل الغسل أو بعده؟ وثالثاً: في نية الوضوء، هل يتوضأ بنية رفع الحدث الأصغر، أو يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر؟ رابعاً: لو اغتسل بدون وضوء، فهل يرتفع الحدث الأصغر، أو يرتفع الحدثان، ولو لم يتوضأ؟ خامساً: في التثليث في الوضوء، هل يغسل أعضاء الوضوء مرة، أو ثلاثاً؟ فهذه خمس مسائل سوف نتكلم عليها في المباحث التالية إن شاء الله تعالى، وأسأل الله سبحانه وتعالى منه التوفيق والعون، إنه على كل شيء قدير.

المبحث الأول في حكم الوضوء في غسل الجنابة

المبحث الأول في حكم الوضوء في غسل الجنابة اتفق العلماء على مشروعية الوضوء لمن أراد أن يغتسل للجنابة (¬1)، واختلفوا في وجوبه، فقيل: الوضوء سنة، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (¬6). وقيل: الوضوء شرط في صحة الغسل، وهو رأي داود الظاهري رحمه الله تعالى (¬7)، وأبي ثور (¬8)، وراوية عن أحمد (¬9). ¬

(¬1) التمهيد (22/ 93). (¬2) شرح فتح القدير (1/ 56)، تبيين الحقائق (1/ 14) بدائع الصنائع (1/ 34)، حاشية ابن عابدين (1/ 156)، البناية (1/ 258)، البحر الرائق (1/ 52). (¬3) مختصر خليل (ص:15)، منح الجليل (1/ 128)، الكافي (ص:24)، الشرح الصغير (1/ 172)، حاشية الدسوقي (1/ 136)، القوانين الفقهية (ص:23). (¬4) المجموع (2/ 215)، روضة الطالبين (1/ 89)، مغني المحتاج (1/ 73) نهاية المحتاج (1/ 225). (¬5) كشاف القناع (1/ 152)، الإنصاف (1/ 252)، معونة أولي النهى شرح المنتهى (1/ 403)، الممتع شرح المقنع (1/ 233)، المغني (1/ 287)، الفروع (1/ 204). (¬6) المحلى (المسألة 188). (¬7) انظر المجموع (2/ 215) الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي (ص:496) (¬8) المجموع (2/ 215). (¬9) الفروع (1/ 205).

وقيل: إن كان أجنب، وهو محدث لزمه الوضوء، وإن كان حين أجنب طاهراً لم يلزمه، ذكره بعض الحنفية (¬1)، وذهب إليه بعض الشافعية (¬2)، وبعض الحنابلة (¬3). هذه مجمل الأقوال في المسألة. وسبب اختلافهم في حكم الوضوء، اختلافهم في آية المائدة في قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬4)، هل هي من قبيل المجمل، أو من قبيل المبين، فداود يرى أن قوله سبحانه وتعالى: {فاطهروا} أمر مجمل، وبيانه يؤخذ من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والرسول قد حافظ على الوضوء في غسله، فتكون هذه الصفة بياناً للأمر الرباني في قوله تعالى: {فاطهروا} فما كان ¬

(¬1) المبسوط (1/ 44). (¬2) قال الشيرازي في المهذب (1/ 32): " فإن أحدث وأجنب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجب الغسل، ويدخل فيه الوضوء، وهو المنصوص في الأم؛ لأنهما طهارتان فتداخلتا، كغسل الجنابة وغسل الحيض. والثاني: أنه يجب عليه الوضوء والغسل؛ لأنهما حقان مختلفان، يجبان بسببين مختلفين، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كحد الزنا والسرقة. والثالث: أنه يجب أن يتوضأ مرتباً، ويغسل سائر البدن؛ لأنهما متفقان في الغسل، ومختلفان في الترتيب، فما اتفقا فيه تداخلا، وما اختلفا فيه لم يتداخلا، قال الشيخ الإمام رحمه الله وأحسن توفيقه: سمعت شيخنا أبا حاتم القزويني يحكي فيه وجهاً رابعاً: أنه يقتصر على الغسل إلا أنه يحتاج أن ينويهما، ووجهه: لأنهما عبادتان متجانستان صغرى وكبرى، فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية، كالحج والعمرة. اهـ (¬3) قال في الإنصاف (1/ 259): " ذكر الدينوري وجهاً: أنه إن أحدث، ثم أجنب، فلا تداخل ... الخ كلامه رحمه الله تعالى. (¬4) المائدة: 6.

بياناً لأمر واجب، يكون حكمه حكم ذلك الواجب، كما أن قوله سبحانه وتعالى: {وأقيموا الصلاة} (¬1)، مجمل، وجاء بيانه من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان امتثال الصفة الورادة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة الصلاة واجبة؛ لكونها بياناً لأمر مجمل، وقل مثله في كثير من الأوامر المجملة في كتاب الله تعالى كما في قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} (¬2). وأما الجمهور فيرون أن قوله تعالى {فاطهروا} أمر مبين وليس مجملاً، وكذلك قوله تعالى {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬3)، فالغسل ليس مبهماً، وإنما هو مبين، فأباح الله سبحانه وتعالى الصلاة بالاغتسال، فمن شرط الوضوء مع الغسل فقد زاد في الآية ما ليس فيها، ولو كان الوضوء واجباً لذكره الله سبحانه وتعالى، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أفتى الصحابة بالاغتسال من الجنابة، ولم يذكر لهم الوضوء في أحاديث صحيحة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، قال: خذ هذا فأفرغه عليك، رواه البخاري (¬4)، فلم يطلب إلا إفراغ الماء على بدنه. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: «إنما كان يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين». رواه مسلم (¬5). فاكتفى بالإفاضة، ولم يذكر الوضوء، وجاء بلغة (إنما) الدالة على الحصر. ¬

(¬1) النور: 56. (¬2) النور: 56. (¬3) النساء: 43. (¬4) صحيح البخاري (337) من حديث طويل. (¬5) صحيح مسلم (330).

وأما قول من فرق بين من أجنب، وهو محدث، وبين من أجنب وهو طاهر، فيلزم الأول الوضوء دون الثاني، قالوا: إذا كان محدثاً يلزمه الوضوء؛ لأنه قبل الجنابة لزمه الوضوء، فلا يسقط غسل الجنابة الوضوء الواجب عليه، وهذا قول ضعيف؛ لأن الأحداث تتداخل. قال القرافي في الذخيرة: «اتفق أئمة الفقه على أن الوضوء غير واجب، سواء طرأت الجنابة على الحدث، أو الطهارة، إلا الشافعي في أحد قوليه: إن كان محدثاً قبل الجنابة، واحتج عليه القاضي بدخوله معاً إذا اجتمعا، أو سبقت الجنابة، فكذلك ههنا؛ ولأن الكبرى تدخل في الكبرى، فالصغرى أولى» (¬1). وعليه فقول الجمهور هو الراجح، حتى حكى ابن جرير الإجماع على صحة الغسل بدون وضوء (¬2)، ولا تصح حكاية الإجماع مع خلاف داود وأبي ثور، وقد استكملت أدلة الفريقين وبسطتها مع المناقشة والترجيح في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فليرجع إليه من أراد الاستزادة (¬3). ¬

(¬1) الذخيرة (1/ 310). (¬2) المجموع (2/ 215). (¬3) كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية (1/ 357) من الطبعة الأولى.

المبحث الثاني موضع الوضوء من غسل الجنابة

المبحث الثاني موضع الوضوء من غسل الجنابة في المبحث السابق تبين لنا أن الجمع بين الوضوء والغسل هو السنة عند الجمهور، وفي هذا البحث نتكلم على موضع الوضوء من الغسل، فقد نص جمهور الفقهاء على استحباب تقديم الوضوء على الغسل واختلفوا في غسل الرجلين من الوضوء (¬1): فمنهم من استحب تأخير غسل رجليه إلى آخر الغسل. ومنهم من رأى غسل الرجلين مع الوضوء. ومنهم من قال: هو مخير، إن شاء غسل رجليه مع وضوئه، وإن شاء أخر غسلهما إلى آخر غسله، وسوف يأتي إن شاء الله التفصيل فيه عند الكلام على غسل الرجلين. وقيل: الوضوء بعد الغسل أفضل، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: الوضوء قبل الغسل وبعده سواء، اختاره أصحاب الشافعي (¬3)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/ 44)، بدائع الصنائع (1/ 35). (¬2) الإنصاف (1/ 252). (¬3) حاشية الجمل (1/ 163)، حاشية البجيرمي (1/ 95)، قال النووي في كتابه المجموع (2/ 211): قال أصحابنا: " وسواء قدم الوضوء كله أو بعضه، أو أخره أو فعله في أثناء الغسل، فهو محصل سنة الغسل، ولكن الأفضل تقديمه ". اهـ وذكر الحافظ ابن رجب في شرحه للبخاري (1/ 249): " قال أصحاب الشافعي: إن الجنب مخير، إن شاء توضأ قبل الغسل، وإن شاء بعد ". اهـ (¬4) الإنصاف (1/ 252).

دليل من قال الوضوء قبل الغسل

وقيل: إن نسي الوضوء قبل الغسل، فإنه يتوضأ بعد الغسل، نص عليه مالك وأحمد (¬1). دليل من قال الوضوء قبل الغسل. الدليل الأول: (1340 - 213) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض ¬

(¬1) قال ابن رجب في شرح البخاري (1/ 245): " وأما إن نسي الوضوء قبل الغسل، فإنه يتوضأ بعد الغسل، نص عليه أحمد ومالك وغير واحد". كذا نسبه ابن رجب نصاً لمالك، وقد قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد (22/ 93): بعد أن ذكر إجماع العلماء على صحة الغسل بدون وضوء، قال: ومجمعون أيضاً على استحباب الوضوء قبل الغسل للجنب تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أعون على الغسل وأهذب فيه، وأما بعد الغسل فلا ". اهـ وقال في الاستذكار (1/ 260): " وأما الوضوء بعد الغسل فلا وجه له عند أهل العلم". قلت: لكن جاء في الذخيرة للقرافي (1/ 310): " قال صاحب الاستذكار: أجمع أهل العلم على أن الوضوء بعد الغسل لا وجه له، وإنما يستحب قبله. قال صاحب الطراز: ظاهر المذهب أنه يؤمر بالوضوء بعد الغسل ". اهـ فجعل الوضوء بعد الغسل ظاهر المذهب، فليتأمل. وفي كتاب النوادر والزيادات وهو من كتب المالكية (1/ 64): " قال عنه ابن القاسم وابن نافع: وإن لم يتوضأ قبل الغسل ولا بعده أجزأه الغسل إذا أمر يديه على مواضع الوضوء". فظاهر هذا النص أن له أن يتوضأ بعد الغسل، والله أعلم.

الدليل الثاني

الماء على جلده كله. ووراه مسلم (¬1). وفي الباب حديث ميمونة في الصحيحين (¬2). الدليل الثاني: (1341 - 214) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شريك وزهير، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتوضأ بعد الغسل (¬3). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬4). ¬

(¬1) البخاري (248)، ومسلم (316). (¬2) البخاري (260)، ومسلم (317). (¬3) مسند أبي داود الطيالسي (1390). (¬4) شريك سيئ الحفظ، وزهير سمع من أبي إسحاق بآخرة، لكن تابعهما الحسن بن صالح، عن أبي إسحاق، فيكون الحديث حسناً إن شاء الله بهذه المتابعات، والله أعلم. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أحمد (6/ 68) و (6/ 192)، وابن أبي شيبة (1/ 69) رقم 744، وأبو يعلى في مسنده (4531)، والترمذي (107)، والنسائي (252، 428)، وفي الكبرى (249)، وابن ماجه (579)، والحاكم (1/ 153) والبيهقي (1/ 179) من طريق شريك وحده، عن أبي إسحاق به. وأخرجه أحمد (6/ 119) وأيضاً في (6/ 154) وإسحاق بن راهوية (1521)، وأبو داود (250)، والحاكم (1/ 153)، والبيهقي (1/ 179) من طريق زهير وحده، عن أبي إسحاق به. وأخرجه أحمد (6/ 253)، والنسائي (252،428) من طريق الحسن، عن أبي إسحاق به. وقد جزم الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (9/ 22)، وفي إتحاف المهرة (21523) أن الحسن هو الحسن بن عياش، بينما المزي في التحفة سماه الحسن بن صالح. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1342 - 215) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن غنيم بن قيس، عن ابن عمر، سئل عن الوضوء بعد الغسل؟ فقال: وأي وضوء أعم من الغسل (¬1). [إسناده صحيح، وروي مرفوعاً، ولا يصح] (¬2). ¬

= قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال: وهذا قول غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين أن لا يتوضأ بعد الغسل. ولا أرى التعليل بعنعنة أبي إسحاق؛ لأن التدليس علة إنما تكشف بجمع الطرق، والمتن ليس منكراً حتى يبحث له عن علة، وكنت سابقاً ربما عللت بعض الأحاديث بعنعنة المدلس، فتبين لي بعد الاطلاع على كلام لبعض أهل العلم في عصرنا، دلل على أن العنعنة مما تصرف بها الرواة، فلا تكفي وحدها لرد الحديث، على أن أبا إسحاق مختلف فيه، هل هو مكثر أو مقل من التدليس؟ وقد قبل الشيخان عنعنته في الصحيحين، والله أعلم. انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (9/ 22)، التحفة (16019)، إتحاف المهرة (21523). (¬1) المصنف (1/ 69) رقم 743. (¬2) غنيم بن قيس، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه في الجرح والتعديل (7/ 58). قال النسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (8/ 225). وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 293). وفي التقريب: مخضرم ثقة، وباقي إسناده ثقات. وأخرجه عبد الرزاق (1039) عن ابن جريج، أخبرني نافع، عن ابن عمر، كان يقول: إذا لم تمس فرجك بعد أن تقضي غسلك، فأي وضوء أسبغ من الغسل؟ وسنده صحيح. =

الدليل الرابع

الدليل الرابع من الآثار: (1343 - 216) ما رواه عبد الرزاق، عن هشيم، عن جعفر بن أبي وحشية، عن أبي سفيان، قال: سئل جابر بن عبد الله عن الجنب يتوضأ بعد الغسل؟ قال: لا، إلا أن يشاء، يكفيه الغسل (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الخامس: ذكر بعض أهل العلم أن الوضوء بعد الغسل لم يصح فيه شيء، منهم ابن رجب الحنبلي في شرحه لصحيح البخاري (¬3). دليل من قال: الأفضل بعد الغسل. لا أعلم لهم دليلاً من السنة، بل السنة على خلافه، ¬

= وأخرجه عبد الرزاق أيضاً (1038) قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، قال: كان أبي يغتسل، ثم يتوضأ، فأقول: أما يجزيك الغسل؟ قال: وأي وضوء أتم من الغسل للجنب؟ ولكنه يخيل إلي أنه يخرج من ذكري الشيء، فأمسه، فأتوضأ لذلك. وسنده صحيح. ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 130) من طريق الأوزاعي، عن الزهري به، بلفظ: عن ابن عمر، أنه كان يرى أن الغسل من الجنابة يجزئ صاحبه من الوضوء. اهـ ورواه الطبراني (12/ 371)، والحاكم في المستدرك (1/ 153) من طريق عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، وهو ضعيف، في إسناده عبد الله بن عمر العمري. (¬1) المصنف (1045). (¬2) ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 130) من طريق عبد الرزاق به. (¬3) فتح الباري لابن رجب (1/ 249).

دليل من قال: هو مخير إن شاء توضأ قبل الغسل أو بعده

(1344 - 217) ولعله يستدل له في أثر ابن عمر فيما رواه عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، قال: كان أبي يغتسل، ثم يتوضأ، فأقول: أما يجزيك الغسل؟ قال: وأي وضوء أتم من الغسل للجنب، ولكنه يخيل إلي أنه يخرج من ذكري الشيء، فأمسه، فأتوضأ لذلك. [سنده صحيح، وسبق تخريجه قبل قليل]. ولا دليل فيه؛ لأن ابن عمر إنما حمله الوضوء على الغسل لانتقاض طهارته بمس ذكره، ولم يكن سبب الوضوء هو حدث الجنابة، إلا أن يفضل أحد الوضوء بعد الغسل من باب، أنه ربما مس ذكره أثناء الغسل، فاحتاج إلى إعادة الوضوء، فيقال: هذا الاستحسان كان قائماً في حق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولم يره سبباً في تقديم الغسل على الوضوء، فما بالك تراه سبباً في التقديم، فاحرص على عدم مس ذكرك، فإن مسسته فلا مانع من إعادة الوضوء، والله أعلم. دليل من قال: هو مخير إن شاء توضأ قبل الغسل أو بعده. يرى أن طهارة الجنب ليس فيها ترتيب، فمن اغتسل بعد الوضوء، أو توضأ بعد الغسل فقد حصل المطلوب، من القيام بالوضوء والغسل معاً في غسل الجنابة. وإذا ثبت في حديث ميمونة تأخير غسل رجليه في الوضوء إلا أن يفرغ من غسله، فإن الوضوء في هذه الصورة لم يتم إلا بعد الفراغ من الغسل، فإذا شُرِعَ له تأخير بعض أعضاء الوضوء إلى نهاية الاغتسال، لم يمنع أن يكون مخيراً في الأعضاء الأخرى.

دليل من قال: إن نسي أن يتوضأ في أول غسله توضأ بعده

ويقال لهم: قولكم ليس فيه ترتيب، إن كنتم تقصدون أنه لا يجب الترتيب فمسلم، فإن الوضوء كله لو تركه واقتصر على الغسل، فقد ارتفع حدثه، وإن قلتم: ليس فيه ترتيب، أي مشروع، فإنه غير مسلم، فإن السنة واضحة في الصحيحين وفي غيرهما من تقديم الوضوء، وأما تأخير غسل الرجلين فإنه لا مانع أن يقال: السنة للمغتسل في القدمين التخيير بين غسل القدمين أولاً، أو تأخيرهما إلى نهاية الغسل، ولا يقاس أعضاء بقية أعضاء الوضوء عليهما، تمسكاً بالنص الوارد، مع اختلاف العلماء في علة تأخير غسل القدمين، وسوف يبحث إن شاء الله تعالى في فصل قادم، العلة في تأخير غسل القدمين، والله أعلم. دليل من قال: إن نسي أن يتوضأ في أول غسله توضأ بعده. هذا القول رأى أن النسيان عذر شرعي، والمعذور يغتفر له ما لا يغتفر لغيره، فإذا ترك الوضوء قبل الغسل معذوراً فله أن يأتي به بعد الغسل. وهذا القول في ظاهره أنه جيد، وليس كذلك، فالمعذور يكتب له الأجر؛ لأنه لم يتعمد الترك، ولا يشرع في حقه الوضوء بعد الغسل، وذلك لأن الوضوء قبل الغسل يراد به ليس الوضوء الخاص برفع الحدث الأصغر، وإنما المطلوب أن يبدأ في غسله في مواضع الوضوء، ثم يغسل سائر جسده، ولا يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، أما إذا اغتسل ثم توضأ يكون قد غسل أعضاء الوضوء مرتين، مرة في الغسل، ومرة في الوضوء، وهذا لا حاجة له. وسيأتي مزيد بحث في مبحث مستقل عن نية الوضوء في الغسل، ليتبين لك أن المراد البداءة بأعضاء الوضوء، وليس الوضوء الذي سببه الحدث الأصغر، والله أعلم.

الراجح

الراجح: بعد ذكر الخلاف، ودليل كل قول، الذي يترجح لي أن السنة لا تحصل إلا بتقديم الوضوء على الغسل إلا في الرجلين، فإن شاء قدم غسل قدميه مع الوضوء، وإن شاء أخر غسلهما إلى نهاية الغسل، فإن ترك الوضوء قبل الغسل، فلا يعيده بعد الغسل، إلا أن تنتقض الطهارة الصغرى بحدث، والله أعلم.

المبحث الثالث إذا اغتسل بدون وضوء فهل يرتفع الحدث الأصغر

المبحث الثالث إذا اغتسل بدون وضوء فهل يرتفع الحدث الأصغر اختلف العلماء في هذه المسألة، فقيل: يجزئ الغسل عن الوضوء مطلقاً، سواء كان محدثاً حدثاً أصغر قبل الجنابة، أم لا، وسواء نوى رفع الحدثين معاً، أو نوى رفع الجنابة، وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وأصح الأقوال في مذهب الشافعية (¬3)، ¬

(¬1) يرى الحنفية أن الغسل يجزئ عن الحدثين الأصغر والأكبر، ولو لم ينو أحدهما، باعتبار أن النية في الوضوء والغسل ليست بشرط عندهم، بينما المالكية والشافعية وما اختاره ابن تيمية: يرى أنه إذا نوى الطهارة الكبرى أجزأه عن نية الطهارة الصغرى. انظر في مذهب الحنفية: البناية (1/ 173) تبيين الحقائق (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 24). وقال الجصاص في أحكام القرآن (2/ 515): " قال تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} فأباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء، فمن شرط في صحته مع وجود الغسل وضوءاً، فقد زاد في الآية ما ليس فيها، وذلك غير جائز ". فهذا نص من الحنفية رحمهم الله تعالى على إباحة الصلاة بالاغتسال فقط، والصلاة لا تجوز إلا وقد ارتفع الحدث الأصغر. وانظر المبسوط (1/ 44). (¬2) قال في الشرح الصغير (1/ 173): " الغسل على الصفة المتقدمة أو على غيرها يجزئ عن الوضوء، ولو لم يستحضر نية رفع الحدث الأصغر؛ لأنه يلزم من رفع الأكبر رفع الأصغر ". وقال في حاشية الدسوقي (1/ 140): " وكذا إذا أفاض الماء على جسده ابتداء، وذلك بنية رفع الحدث الأكبر، ولم يستحضر الأصغر، جاز له أن يصلي به ". وانظر: حاشية العدوي (1/ 270). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 224 - 225): " الحال الثاني: أن يحدث، ثم يجنب، كما هو الغالب، ففيه الأوجه الأربعة التي ذكرها المصنف، الصحيح عند الأصحاب، وهو المنصوص في الأم أنه يكفيه إفاضة الماء على البدن، ويصلي به بلا وضوء ".

واختاره ابن تيمية (¬1). وقيل: لا يرتفع الحدث الأصغر حتى يتوضأ، سواء توضأ قبل الغسل، أو توضأ بعده، وهو أحد قولي الشافعي (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا تتداخل الطهارتان الكبرى والصغرى إلا بنية، فعلى هذا، إما أن يتوضأ قبل الغسل، أو ينوي بغسله الطهارة من الحدثين، وهذا نص أحمد رحمه الله (¬4)، ووجه في مذهب الشافعية (¬5). ¬

(¬1) قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (21/ 396): " والقرآن يدل على أنه لا يجب على الجنب إلا الاغتسال، وأنه إذا اغتسل جاز له أن يقرب الصلاة، والمغتسل من الجنابة ليس عليه نية رفع الحدث الأصغر، كما قال جمهور العلماء ... ". وانظر شرح العمدة لابن تيمية رحمه الله (1/ 377). (¬2) الشافعية يقولون بذلك في بعض الصور دون بعض، لأنهم يرون أن الجنب له ثلاث أحوال: الحال الأولى: أن يجنب من غير أن يحدث حدثاً أصغر، فيكفيه في هذه الحالة غسل البدن، ولا يلزمه الوضوء قال النووي: بلا خلاف عندنا كما في المجموع (2/ 223). الحال الثانية: أن يحدث حدثاً أصغر، ثم يجنب، ففي مذهب الشافعية أربعة أوجه، أحدها: أنه يجب عليه الوضوء، فلو اغتسل بدون الوضوء لم يرتفع حدثه الأصغر. انظر المجموع (2/ 223). الحال الثالثة: أن يجنب من غير حدث، ثم يحدث، فهل يؤثر الحدث، فيه وجهان، أرجحهما أنه لا يؤثر، حكاه الدارمي عن ابن القطان، وحكاه الماوردي عن جمهور الأصحاب، فعلى هذا يجزيه الغسل بلا وضوء قطعاً. (¬3) قال ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة (1/ 376): " وعنه - أي: عن أحمد - أنه لا يرتفع الأصغر إلا بوضوء مع الغسل، بفعله قبل الغسل، أو بعده ". (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 396)، وقال في كشاف القناع (1/ 89): " إن نوى الغسل للجنابة لم يرتفع حدثه الأصغر إلا إن نواه ". وقال ابن تيمية في شرح العمدة في تقريره للمذهب (1/ 376): وإذا نوى الأكبر فقط بقي عليه الأصغر ". (¬5) الروضة (1/ 54)، المجموع (2/ 223).

دليل الجمهور على أنه يكفي الغسل وحده في رفع الحدثين

دليل الجمهور على أنه يكفي الغسل وحده في رفع الحدثين. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء، فمن شرط في صحة الغسل وجود الوضوء، أو شرط نية رفع الحدث، فقد زاد في الآية ما ليس فيها، وذلك غير جائز. الدليل الثاني: (1345 - 218) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [حديث حسن] (¬3). وجه الاستدلال: لم يطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - للمجنب إذا وجد الماء إلا أن يمسه بشرته، فلو كان الوضوء، أو نيته واجبة لذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) النساء: 43. (¬2) المصنف (913). (¬3) سبق تخريجه في كتاب أحكام الطهارة (المياه والآنية) رقم

الدليل الثالث

الدليل الثالث: أن الطهارة الكبرى متضمنة للطهارة الصغرى، فالأكبر متضمن لغسل الأعضاء الأربعة، فيتداخلان، كما أن الوضوء إذا تعددت أسبابه، أو تكرر السبب الواحد تداخلا، ولم يجب لكل سبب وضوء، والغسل إذا اختلفت أسبابه، أو تكرر السبب الواحد كذلك، فالطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى وتغني عنها. الدليل الرابع: أن تقديم الوضوء لم يكن من أجل رفع الحدث الأصغر، بل هو غسل في صورة وضوء، فتقديمه لأعضاء الوضوء بمنزلة تقديم اليمنى على اليسرى في الوضوء، والدليل على أنه توضأ بنية الغسل، ولم يكن بنية رفع الحدث الأصغر، قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم عطية واللواتي غسلن ابنته: اغسلنها، وابدأن بمواضع الوضوء منها. متفق عليه (¬1). فجعل الأمر موجه للغسل، وجعل ابتداء الغسل إنما هو لمواضع الوضوء، فهو لم يكن وضوءاً بنية رفع الحدث، وإنما كان غسلاً مقدماً فيه أعضاء الوضوء لشرفها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بدأ بمواضع الوضوء، ثم غسل سائر جسده، لم يكن يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل كان يكتفي بغسلها في أول الأمر، ولو كان غسله الأعضاء بنية رفع الحدث الأصغر لاحتاج إلى غسلها مرة أخرى بنية رفع الحدث الأكبر، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((الذين نقلوا لنا صفة غسله كعائشة رضي الله عنها ¬

(¬1) البخاري (167)، ومسلم (939).

دليل من قال: إذا لم ينو رفع الحدث الأصغر بالغسل لم يرتفع

ذكرت أنه كان يتوضأ، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه، ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين، وكان لا يتوضأ بعد الغسل)) (¬1). وسيأتي إن شاء الله تعالى كلام الفقهاء حول هذه المسألة بمزيد بحث في مبحث مستقل. فظهر لنا أن من فهم من الوضوء في أول الغسل، أنه أراد نية رفع الحدث الأصغر فقد أخطأ، وعليه فيكفي نية الغسل ليرتفع الحدثان، والله أعلم. دليل من قال: إذا لم ينو رفع الحدث الأصغر بالغسل لم يرتفع. (1346 - 219) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: لفظة: (إنما) للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ودليل آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإنما لكل امرئ ما نوى» وهذا لم يتوضأ، ولم ينو رفع الحدث الأصغر، فلا يكون له (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 397). (¬2) صحيح البخاري (6689)، ومسلم (1907). (¬3) المجموع (1/ 356)

دليل من قال: لا يرتفع الحدث الأصغر حتى يتوضأ

ويجاب: بأنه لا يمكن أن ينكر أحد تداخل بعض العبادات مع بعض، فهذه تحية المسجد مع الفرض تدخل تحية المسجد في الفرض، ولا يطالب بتحية المسجد، ومثله لو أفطر في نهار رمضان في اليوم الواحد مراراً لم يجب عليه إلا كفارة واحدة، ومثله طواف الإفاضة إذا أخره دخل فيه طواف الوداع على القول الصحيح، وهكذا، فكيف بالطهارة الصغرى والكبرى فكلاهما عبادتان من جنس واحد، فيتداخلان. دليل من قال: لا يرتفع الحدث الأصغر حتى يتوضأ. أنه يجب عليه الوضوء والغسل؛ لأنهما حقان مختلفان يجبان بسببين مختلفين، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كحد الزنا والسرقة. ولأنه قبل الجنابة قد لزمه الوضوء، فلا يسقط غسل الجنابة الوضوء الواجب عليه. وهذا التعليل في مقابل النصوص، فلا يقبل. الراجح من الخلاف. بعد معرفة أدلة الأقوال نجد أن قول الجمهور أقوى لقوة أدلته، وضعف أدلة الأقوال الأخرى، وهناك أدلة أخرى لم أذكرها للجمهور قد ذكرتها في كتابي الحيض والنفاس فليراجع هناك (¬1) والله أعلم. ¬

(¬1) (1/ 370).

المبحث الرابع في نية الوضوء في غسل الجنابة

المبحث الرابع في نية الوضوء في غسل الجنابة عرفنا فيما سبق، أن السنة: هو أن يغسل أعضاء الوضوء في ابتداء الغسل، وأنه لا يشرع له الوضوء بعد الغسل، والكلام الآن في هذا المبحث في النية، هل يتوضأ قبل الغسل بنية رفع الحدث الأصغر؟ أو يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر؟ وكنت قد أشرت في المسألة السابقة إلى هذه المسألة، ووعدت أن أفصل فيها كلام أهل الفقه في مبحث مستقل، وهذا أوان الوفاء بالوعد، فقيل: يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر، وهو مذهب المالكية (¬1)، واختاره محمد بن عقيل الشهرزوي من الشافعية (¬2)، وهو رأي ابن تيمية من الحنابلة (¬3). ¬

(¬1) قال الدسوقي في حاشيته (1/ 140): " إطلاق الوضوء على غسل أعضائه في الطهارة الكبرى مجاز؛ لأنه صورة وضوء، وهو في الحقيقة جزء من الغسل الأكبر ". وقال الخرشي في شرح مختصر خليل (1/ 170): " ثم يتوضأ بنية الجنابة وضوءاً كاملاً " اهـ فجعل الوضوء بنية الجنابة، وليس بنية رفع الحدث. قال العدوي في حاشيته على الخرشي (1/ 171): " " لا يخفى أن هذا الوضوء قطعة من الغسل، فهو صورة وضوء ". اهـ وقال في كفاية الطالب (1/ 267): " وظاهر كلامه (يعني المصنف) أنه يغسل ما حقه الغسل في هذا الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وهو مصرح به في بعض النسخ، والمشهور أنه إنما يغسله مرة مرة بنية رفع حدث الجنابة". ونظر الفواكه الدواني (1/ 148)، مواهب الجليل (1/ 314). (¬2) المجموع (2/ 211). (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 397).

وقيل: يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر، إلا إن أحدث، ثم أجنب فإنه، ينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر، اختاره عمرو بن الصلاح من الشافعية (¬1). قلت: يلزم على هذا القول وجوب الوضوء مع الغسل إذا كان جنباً محدثاً، والراجح عدم وجوب الوضوء مطلقاً، وهو الصحيح حتى في مذهب الشافعية، وقد تقدم تحرير الخلاف في الفصل الذي قبل هذا. ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (2/ 211): " لم يذكر الجمهور ماذا ينوي بهذا الوضوء؟ قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: لم أجد في مختصر، ولا مبسوط تعرضاً لكيفية نية هذا الوضوء، إلا لمحمد بن عقيل الشهرزوي، فقال: يتوضأ بنية الغسل، قال: إن كان جنباً من غير حدث فهو كما قال، وإن كان جنباً محدثاً كما هو الغالب، فينبغي أن ينوي بوضوئه هذا رفع الحدث الأصغر ". وقال ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام (1/ 131): " قولها - يعني: عائشة - (وتوضأ وضوءه للصلاة) يقتضي استحباب تقديم الغسل لأعضاء الوضوء في ابتداء الغسل، ولا شك في ذلك، نعم، يقع البحث في أن هذا الغسل لأعضاء الوضوء: هل هو وضوء حقيقة؟ فيكتفي به عن غسل هذه الأعضاء للجنابة، فإن موجب الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحد، أو يقال: إن غسل هذه الأعضاء، إنما هو عن الجنابة، وإنما قدمت على بقية الجسد تكريماً لها وتشريفاً، ويسقط غسلها عن الوضوء باندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى. فقد يقول قائل: قولها: " وضوءه للصلاة " مصدر مشبه به، تقديره: وضوءاً مثل وضوئه للصلاة، فيلزم من ذلك أن تكون هذه الأعضاء المغسولة مغسولة عن الجنابة؛ لأنها لو كانت مغسولة عن الوضوء حقيقة، لكان قد توضأ عن الوضوء للصلاة، فلا يصح التشبيه؛ لأنه يقتضي تغاير المشبه والمشبه به، فإذا جعلناها مغسولة للجنابة صح التغاير، وكان التشبيه في الصورة الظاهرة. وجوابه بعد تسليم كونه مصدراً مشبهاً به من وجهين: ... ثم ذكرهما، ويحسن بك أن ترجع إلى الكتاب لتقرأهما، فقد تركت نقلهما اختصاراً، والله الموفق.

دليل من قال: يتوضأ بنية رفع الجنابة

دليل من قال: يتوضأ بنية رفع الجنابة. الدليل الأول: الدليل على أن الوضوء في غسل الجنابة، هو غسل في صورة وضوء، وأن تقديمه لأعضاء الوضوء بمنزلة تقديم اليمنى على اليسرى في الوضوء، ولم يكن بنية رفع الحدث الأصغر، قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم عطية واللواتي غسلن ابنته: اغسلنها، وابدأن بمواضع الوضوء منها. متفق عليه (¬1). فجعل الأمر موجه للغسل، وجعل ابتداء الغسل إنما هو لمواضع الوضوء، فهو لم يكن وضوءاً بنية رفع الحدث، وإنما كان غسلاً مقدماً فيه أعضاء الوضوء لشرفها. الدليل الثاني: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من الوضوء غسل سائر جسده، ولم يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل كان يكتفي بغسلها في أول الأمر، ولو كان غسله الأعضاء بنية رفع الحدث الأصغر، لاحتاج إلى غسلها مرة أخرى بنية رفع الحدث الأكبر، وإلا فلا يمكن أن ينوي الأصغر، ويرتفع الأكبر؛ لأن الأصغر لا يتضمن الأكبر والعكس صحيح. (1347 - 220) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بين شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، ورواه مسلم (¬2). ¬

(¬1) البخاري (167)، ومسلم (939). (¬2) البخاري (272)، ومسلم (316).

فقولها: «ثم غسل سائر جسده» أي بقية جسده، وقد ذكر الزبيدي: أن كلمة سائر الناس: أي الباقي من الناس (¬1). وله شاهد من حديث ميمونة من رواية مسلم له، في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة، وفيه: «ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده» (¬2). والبخاري رحمه الله لا يرى غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل يتوضأ، ثم يغسل بقية بدنه، قال رحمه الله في صحيحه: ((باب: من توضأ في ¬

(¬1) انظر تاج العروس (6/ 489). وفي حديث أبي موسى في البخاري (3411) ومسلم (2431)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، فمعنى " سائر الطعام " أي على بقيته. وقال ابن الأثير في النهاية (2/ 327): "والسائر: الباقي، والناس يستعملونه بمعنى الجميع، وليس بصحيح، وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، وكلها بمعنى باقي الشيء" اهـ وذكر الزبيدي في تاج العروس (6/ 489) إلى أن في السائر قولين: الأول: وهو قول الجمهور من أئمة اللغة وأرباب الاشتقاق، أنه بمعنى الباقي، ولا نزاع فيه بينهم، واشتقاقه من السُّوْر، وهو البقية. والثاني: أنه بمعنى الجميع، وقد أثبته جماعة، وصوبوه، وإليه ذهب الجوهري، والجواليقي، وحققه ابن بري في حواشي الدرة، وأنشد عليه شواهد كثيرة، وأدلة ظاهرة، وانتصر لهم الشيخ النووي في مواضع من مصنفاته، وسبقهم إمام العربية أبو علي الفارسي، ونقله بعضٌ عن تلميذه ابن جني ... الخ كلامه رحمه الله، ولا مانع أن يكون معنى كلمة (سائر) مشتركاً بين المعنيين، والأصل فيها: أن تكون بمعنى الباقي إلا إن دلت قرينة على أن المراد بمعنى سائر: الكل فيقبل. (¬2) مسلم له (317).

الجنابة، ثم غسل سائر جسده، ولم يعد غسل مواضع الوضوء فيه مرة أخرى)) (¬1). قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «الذين نقلوا لنا صفة غسله كعائشة رضي الله عنها ذكرت أنه كان يتوضأ، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه، ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين، وكان لا يتوضأ بعد الغسل» (¬2). وقال ابن حزم رحمه الله: «وأما غسل الجنابة والوضوء، فإنه أجزأ فيهما عمل واحد، بنية واحدة لهما جميعاً، للنص الوارد في ذلك، ثم ذكر حديث ميمونة من رواية مسلم له، وفيه ((ثم غسل سائر جسده» فقال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعد غسل أعضاء الوضوء في غسله للجنابة ..)) (¬3). ويذكر ابن عبد البر أن غسل أعضاء الوضوء في غسل الجنابة ليس من قبيل المستحب، بل هو فرض، ويقصد أن المستحب هو تقديمها في الغسل، وأما غسلها إذا قدمتها فهو فرض؛ لأنه بنية رفع الجنابة، ونية رفع الجنابة فرض. يقول ابن عبد البر في الاستذكار: «والابتداء بالوضوء في غسل الجنابة يقتضي تقديم أعضاء الوضوء في الغسل سنة مسنونة في تقديم تلك الأعضاء خاصة؛ لأنه ليس في الغسل رتبة، وليس ذلك من باب السنة التي هي غير الفرض، ولذلك لم يحتج أن يعيد تلك الأعضاء بنية الجنابة؛ لأنه بذلك غسلها، وقدم الغسل لها على سائر البدن» (¬4). ¬

(¬1) كتاب الغسل باب (16). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 397). (¬3) المحلى، مسألة (95). (¬4) الاستذكار (3/ 61).

فقوله: «وليس ذلك من باب السنة التي هي غير الفرض» يقصد بالسنة: الطريقة المشروعة التي يدخل فيها الفرض والمندوب، ونص هنا على أن السنة المقصود بها الفريضة. وقال ابن عبد البر في التمهيد: «وأما قوله في حديث عائشة: ((يتوضأ وضوءه للصلاة» فيحتمل أنها أرادت بدأ بمواضع الوضوء، والدليل على ذلك أنه ليس في شيء من الآثار الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في غسل الجنابة أنه أعاد غسل تلك الأعضاء، ولا أعاد المضمضة ولا الاستنشاق، وأجمع العلماء على أن ذلك كله لا يعاد، من أوجب منهم المضمضة والاستنشاق ومن لم يوجبها)) (¬1). فإذا كان لا يرجع إلى أعضاء الوضوء مرة أخرى، وحكى فيه ابن عبد البر الإجماع، لزم على ذلك أحد ثلاثة أمور: الأول: أما أن يكون غسله لأعضاء الوضوء كان بنية رفع الحدث الأصغر، فيلزم منه أنه لم يغسلها بنية رفع الحدث الأكبر، فيبقى الحدث الأكبر ما زال على أعضاء الوضوء؛ لأن الحدث الأصغر أدنى، فهو لا يغني عن الحدث الأكبر؛ لكونه أعلى منه وأشد، والأخف لا يتضمن الأشد. الثاني: أن يكون غسل أعضاء الوضوء بنية رفع الحدثين، فيقال: هذه دعوى، إذ لو كان هذا شرطاً لرفع الحدث الأصغر، لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبينه القرآن، فلم يذكر في القرآن إلا قوله تعالى: {حتى تغتسلوا} وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خذ هذا فأفرغه عليك». الأمر الثالث: أن يكون غسله لأعضاء الوضوء كان بنية رفع الجنابة، وليس بنية رفع الحدث الأكبر، وهذا ما يفسر اكتفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسلها في الوضوء عن غسلها مرة أخرى عند غسل سائر جسده، وهذا هو المتعين. ¬

(¬1) التمهيد (22/ 95).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: قد يستدل له بأنه لا يمكن رفع الحدث الأصغر، والأكبر باق، وعليه فتكون نيته في الوضوء، هي نية الغسل، وإنما بدأ بمواضع الوضوء لشرفها. وبعضهم استدل بطريقة أخرى، فقال: الوضوء في غسل الجنابة مستحب، فلو توضأ بنية الوضوء المعروف للزم منه أن يجزئ المستحب عن الواجب (¬1)، فلزم أن يكون الوضوء هو بنية الغسل، وليس بنية رفع الحدث. قلت: وهذا الاستدلال يستأنس به مع الأدلة السابقة الذكر، وإن لم يكن وحده ملزماً. دليل من قال: إن كان عليه حدث وجنابة لزمه نية رفع الحدث الأصغر. ذكرنا دليلهم في الفصل الذي قبل هذا، من إيجابهم الطهارة الصغرى، وأجبنا عليه. فالراجح: أن الوضوء يكون بنية رفع الحدث الأكبر، وليس بنية رفع الحدث الأصغر، ولو نواهما معاً لم يمنع من ذلك مانع، أما أن يكون ذلك حتم عليه، وإلا فلا يرتفع حدثه، أو يكون ذلك بنية رفع الحدث الأصغر، وهو لن يعود إلى غسل أعضائه مرة أخرى فهذا فيه نظر، والله أعلم. وثمرة الخلاف بين القولين: أن من يرى أن وضوءه هذا بنية رفع الحدث الأكبر، فلو أحدث في أثنائه بنى على وضوئه؛ لأن الترتيب في الغسل ليس بشرط، وأي عضو تم غسله، فقد فرغ منه، وبقي عليه غسل الباقي، كما أنه لو أحدث في أثناء غسله لم يؤثر ذلك في غسله، بل يتمه ويجزيه. ¬

(¬1) بتصرف الذخيرة للقرافي (1/ 313).

ولذلك نص المالكية على أن وضوء الغسل لا يبطله إلا الجماع: قال في الشرح الصغير: «وضوء الجنب لا يبطله إلا الجماع، بخلاف وضوء غيره فإنه ينقضه كل ناقض مما تقدم» (¬1). وإنما كان لا يبطله إلا الجماع لأنه لم يكن وضوءاً، وإنما كانت صورته صورة الوضوء، والله أعلم. ¬

(¬1) الشرح الصغير (1/ 176).

المبحث الخامس في التثليث في وضوء الغسل

المبحث الخامس في التثليث في وضوء الغسل اختلف العلماء في وضوء الغسل، هل يغسل أعضاء الوضوء مرة واحدة، أو يغسلها ثلاثاً، كما هو في الوضوء المستقل عن غسل الجنابة؟ فقيل: يسن في وضوء الغسل أن يكون ثلاثاً ثلاثاً. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وبه قال سفيان الثوري (¬4)، وإسحاق بن راهويه (¬5)، ووجه في مذهب المالكية (¬6). وقيل: يتوضأ مرة مرة، وهو المشهور في مذهب المالكية (¬7). ¬

(¬1) مراقي الفلاح (ص:43،44)، بدائع الصنائع (1/ 34)، حاشية ابن عابدين (1/ 156،157). شرح فتح القدير (1/ 58). (¬2) مغني المحتاج (1/ 73)، نهاية المحتاج (1/ 225)، روضة الطالبين (1/ 89)، الحاوي (1/ 219). (¬3) الكشاف (1/ 152)، الفروع (1/ 204)، الإنصاف (1/ 252)، شرح منتهى الإرادات (1/ 85)، الكافي (1/ 59)، المحرر (1/ 20). (¬4) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (1/ 238). (¬5) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (1/ 238). (¬6) الشرح الصغير (1/ 172)، حاشية الدسوقي (1/ 136)، منح الجليل (1/ 128). (¬7) قال في كفاية الطالب (1/ 267): " وظاهر كلامه أنه يغسل ما حقه الغسل في هذا الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وهو مصرح به في بعض النسخ، والمشهور: أنه إنما يغسله مرة مرة، بنية رفع حدث الجنابة ". اهـ وانظر: تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/ 540)، مختصر خليل (ص15)، حاشية الدسوقي (1/ 136)، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل (1/ 314).

وقال ابن رجب: لم ينص أحمد إلا على تثليث غسل كفيه ثلاثاً، وعلى تثليث صب الماء على الرأس (¬1). اهـ. وينبغي أن يتفطن أن هذه المسألة غير مسألة التثليث في غسل البدن، وسوف تأتي هذه إن شاء الله تعالى. وقد ذكرت أدلة هذه الأقوال بشيء من التفصيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (¬2)، فأغنى عن إعادته هنا، وقد رجحت في ذلك أنه لا يشرع التثليث في وضوء الغسل؛ لأن هذا الوضوء جزء من غسل البدن، وإنما صورته صورة الوضوء، كما تقدم بيانه في الفصل السابق، والبدن لا يشرع فيه التثليث كما سوف يتبين إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل من هذا الباب، إلا في غسل الكفين في ابتداء الغسل، فإنه يشرع فيهما التثليث، (1348 - 221) لما روى البخاري من طريق عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: قالت ميمونة: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً ... وذكر بقية الحديث. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬3). وروى مسلم من طريق وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فبدأ، فغسل كفيه ثلاثاً ... الحديث (¬4). ¬

(¬1) شرح ابن رجب لصحيح البخاري (1/ 238). (¬2) الحيض والنفاس (1/ 418). (¬3) البخاري (265)، ومسلم (317). (¬4) مسلم (36 - 316).

وكأن غسل الكفين سنة مستقلة في ابتداء الطهارة، يغسلهن ثلاثاً إن أراد وضوءاً، أو أراد غسلاً، قبل إدخال يديه في الإناء، حتى ولو كانت اليد نظيفة، ويجب غسلهما في حالتين: إن كان في اليد نجاسة، أو كان قائماً من نوم الليل، ويستحب غسلهما في غير ذلك، والله أعلم. وقد بحثت مسألة حكم غسل اليدين بعد الاستيقاظ من النوم في كتاب أحكام الطهارة: في مباحث المياه، فأغنى عن إعادته هنا. وكذلك يستحب التثليث في غسل الرأس، وسوف يأتي بحثه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى، وأما ما عدا الكفين والرأس فلا يستحب التثليث على الصحيح من أقوال أهل العلم.

الفصل الثامن في استحباب المضمضة والاستنشاق في الغسل

الفصل الثامن في استحباب المضمضة والاستنشاق في الغسل اختلف أهل العلم في حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل، فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء والغسل، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: واجبان في الوضوء والغسل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). هذان قولان متقابلان. وفيه قولان آخران متقابلان أيضاً: فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، واجبان في الغسل، وهذا مذهب الحنفية (¬4). ¬

(¬1) الخرشي (1/ 133 - 170)، منح الجليل (1/ 128)، مواهب الجليل (1/ 313)، القوانين الفقهية (ص:22)، مقدمات ابن رشد (1/ 82)، بداية المجتهد مع الهداية (2/ 12)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:23،24)، حاشية الدسوقي (1/ 136)، الشرح الصغير (1/ 118 - 170). (¬2) الأم (1/ 41)، المجموع (1/ 396)، روضة الطالبين (1/ 88،58)، مغني المحتاج (1/ 73 - 57). (¬3) الفروع (1/ 144)، الإنصاف (1/ 152،153)، المحرر (1/ 11،20)، كشاف القناع (1/ 154)، معرفة أولي النهى شرح المنتهى (1/ 403)، المبدع (1/ 122)، الكافي (1/ 26)، الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (1/ 59). (¬4) شرح فتح القدير (1/ 25،56)، البناية (1/ 250)، تبيين الحقائق (1/ 4، 13)، =

وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل (¬1). وقيل: المضمضة سنة، والاستنشاق واجب فيهما (¬2). والراجح: أن المضمضة والاستنشاق سنة في غسل الجنابة، فقد روى البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فأفرغه عليك (¬3). (1350 - 223) وروى مسلم عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬4). فعبر بـ «إنما» الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر المضمضة والاستنشاق. وقد بسطت الكلام في المسألة، وناقشت أدلة الأقوال في بحث مطول، فأغنى عن إعادته هنا، فارجع إليه غير مأمور في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (¬5). ¬

= البحر الرائق (1/ 47)،حاشية ابن عابدين (1/ 156)، مراقي الفلاح (ص:42)، بدائع الصنائع (1/ 34)، رؤوس المسائل (ص:101). (¬1) انظر الفروع (1/ 144 - 145)، المبدع (1/ 122)، الإنصاف (1/ 152 - 153). (¬2) انظر المصادر السابقة. (¬3) صحيح البخاري (337). (¬4) صحيح مسلم (330). (¬5) الحيض والنفاس (1/ 386).

الفصل التاسع في السنن الواردة في غسل الرأس

الفصل التاسع في السنن الواردة في غسل الرأس نحتاج في الكلام على السنن الواردة في غسل الرأس إلى الكلام على جملة من المسائل: الأولى: هل يمسح الرأس في وضوء غسل الجنابة، أو لا يمسح باعتبار أن فرضه الغسل، وهو أعلى من المسح؟ الثانية: حكم تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس. الثالثة: استحباب التثليث في مسح الرأس. الرابعة: هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس. الخامسة: هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة؟ السادسة: في حكم المسترسل من الشعر، هل يجب غسل ظاهره وباطنه؟ فهذه ستة مسائل متعلقة بالرأس في غسل الجنابة، وأسأل الله سبحانه وتعالى عونه وتوفيقه، إنه على كل شيء قدير.

المبحث الأول ما السنة في وضوء الغسل غسل الرأس أو مسحه؟

المبحث الأول ما السنة في وضوء الغسل غسل الرأس أو مسحه؟ علمنا فيما سبق أن غسل أعضاء الوضوء سنة في ابتداء الغسل، وأن أعضاء الوضوء تغسل بنية رفع الجنابة، ومعلوم أن أعضاء الوضوء منها ما هو مغسول كالوجه واليدين والرجلين، ومنها ما هو ممسوح كالرأس، هذا في رفع الحدث الأصغر، فهل يمسح الرأس في وضوء رفع الحدث الأكبر، أو يكون السنة فيه الغسل؟ أما الوضوء في رفع الحدث الأصغر، فالمشروع فيه المسح بلا خلاف بين أهل العلم، واختلفوا هل يجزئ الغسل على ثلاثة أقوال: قيل: لا يجزئ مطلقاً. وقيل: يجزئ مع الكراهة. وقيل: يجزئ إن مر بيده على رأسه. وقد تقدم بحثها في كتاب الوضوء من هذه السلسلة وذكرنا مستمسك كل قول مع مناقشتها في الكلام على فروض الوضوء. وأما في غسل الجنابة، فهل يمسح الرأس في وضوء الغسل؟ أو يكتفي في غسل الرأس بدلاً من مسحه؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، فقيل: لا يمسح الرأس، بل يكتفي بغسله؛ إذ لا فائدة من مسحه، وهو سوف يغسل، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬1)، ورواية ابن وهب عن ¬

(¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 35): " وهل يمسح رأسه عند تقديم الوضوء على الغسل؟ ذكر في ظاهر الرواية أنه يمسح، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يمسح؛ لأن تسييل =

مالك (¬1)، وهو نص الإمام أحمد رضي الله عنه كما في المسائل (¬2)، ونص عليه إسحاق (¬3). وقال ابن رجب: «غسل الرأس في الوضوء يجزئ عن مسحه، لكنه في الوضوء المفرد مكروه، وفي الوضوء المقرون بالغسل غير مكروه» (¬4). وقيل: يمسح الرأس في وضوء الغسل، وهو مذهب الجمهور (¬5). ¬

= الماء عليه بعد ذلك يبطل معنى المسح، فلم يكن فيه فائدة، بخلاف سائر الأعضاء ". وانظر تبيين الحاقئق (1/ 14). (¬1) انظر المنتقى (1/ 93)، تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/ 540). (¬2) قال أبو داود في مسائل أحمد (136): قيل لأحمد: يمسح رأسه أعني الجنب إذا توضأ؟ قال: أي شيء يمسح، وهو يفيض على رأسه الماء. اهـ (¬3) قال ابن رجب في شرح البخاري (1/ 239): " وأما القول بأنه لا يمسح رأسه، بل يصب عليه الماء صباً، ويكتفي بذلك عن مسحه وغسله للجنابة، فهذا قد روي صريحاً عن ابن عمر رضي الله عنهما، ونص عليه إسحاق بن راهوية، نقله عنه حرب، ونقله أبو داود عن أحمد ". (¬4) المرجع السابق، في الصفحة نفسها. (¬5) انظر في مذهب الحنفية: مراقي الفلاح (ص: 44)، بدائع الصنائع (1/ 35)، البحر الرائق (1/ 52)، تبيين الحقائق (1/ 14). وفي مذهب المالكية: الشرح المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 137)، المنتقى للباجي (1/ 93)، مواهب الجليل (1/ 314)، منح الجليل (1/ 128). وفي مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/ 73)، نهاية المحتاج (1/ 225)، روضة الطالبين (1/ 89)، الحاوي (1/ 219). وفي مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/ 152)، الفروع (1/ 204)، الإنصاف (1/ 252)، معونة أولي النهى (1/ 403)، المغني (1/ 287).

دليل من قال: لا يمسح رأسه بل يغسله

دليل من قال: لا يمسح رأسه بل يغسله. الدليل الأول: كل الأحاديث التي فصلت وضوء غسل الجنابة تذكر صراحة غسل الرأس، وليس في حديث منها ذكر للمسح، من ذلك: (1351 - 224) ما رواه البخاري من طريق عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: قالت ميمونة رضي الله عنها: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح بيده الأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه، فغسل قدميه. وهو في مسلم بغير هذا اللفظ. فانظر كيف قالت رضي الله عنها: «غسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده» فلو كان الرأس يمسح كيف تذكر المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين، ثم تذكر غسل الرجلين، ولا تذكر مسح الرأس؟ فدل على أن المشروع هو الغسل، ولا معنى لمسح الرأس في عضو سوف يغسل ثلاث مرات، وأي مسح أبلغ من الغسل؟ الدليل الثاني: قد بينت في فصل سابق، أن هذا الوضوء لم يكن بنية رفع الحدث، وإنما هو جزء من الغسل الواجب قُدِّمَ فيه أعضاء الوضوء لشرفها، كتقديم اليمين بالنسبة للشمال، ولن يرجع إلى أعضاء الوضوء مرة أخرى، وإذا كان هذا الوضوء بنيه رفع الجنابة لم يكن فيه شيء ممسوح؛ لأن غسل الجنابة على اسمه غسل، وليس مسحاً، وهذا يوضح بجلاء كيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح رأسه؟ وإنما أفاض عليه الماء حين بلغ الرأس، والله أعلم.

دليل من قال: يمسح رأسه، ثم يغسله

دليل من قال: يمسح رأسه، ثم يغسله. (1352 - 225) استدلوا بما رواه البخاري في صحيحه من طريق عبد الله، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، رواه البخاري واللفظ له، ومسلم (¬1). وجه الاستدلال: قولها رضي الله عنها: «توضأ وضوءه للصلاة» يراد به الوضوء الكامل، ومنه مسح الرأس. ويجاب عن هذا الحديث: قولها رضي الله عنها: «توضأ وضوءه للصلاة» مجمل، قد يراد به الوضوء الكامل، وقد يقال: باعتبار الأغلب، فهذه ميمونة رضي الله عنها تقول: «توضأ وضوءه للصلاة» والمراد الأغلب، وليس كل أعضاء الوضوء، (1353 - 226) فقد روى البخاري من طريق سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري واللفظ له، ومسلم (¬2). ¬

(¬1) البخاري (272)، ومسلم (316). (¬2) البخاري (260)، ومسلم (317).

فإذا صح أن تقول ميمونة رضي الله عنها: «توضأ وضوءه للصلاة» والمراد غير رجليه، صح أن قول عائشة رضي الله عنها: «توضأ وضوءه للصلاة» أي وغسل رأسه بدلاً من مسحه، خاصة أن الرأس لم يترك حتى يستثنى، بل غسل غسلاً، وهو مسح وزيادة، وكوننا نحمل حديث عائشة على حديث ميمونة في صفة غسل الرأس، أولى من حمله على صفتين، خاصة أننا لم نقف على حديث واحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرح بمسح الرأس في غسل الجنابة، بل جاء عن عائشة ما يوافق حديث ميمونة عندما ذكر الوضوء بشيء من التفصيل، (1354 - 227) فقد روى أحمد رحمه الله، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، قال: سمعت أبا سلمة، قال: دخلت على عائشة، فسألتها عن غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة؟ قالت: كان يؤتى بإناء، فيغسل يديه ثلاثاً، ثم يصب من الإناء على فرجه، فيغسله، ثم يفرغ بيده اليمنى على اليسرى، فيغسلها، ثم يمضمض ويستنشق، ثم يفرغ على رأسه ثلاثاً، ثم يغسل سائر جسده (¬1). [حديث حسن، وشعبة روى عن عطاء قبل تغيره] (¬2). ¬

(¬1) المسند (6/ 173 - 174). (¬2) الحديث مداره على أبي سلمة، عن عائشة، ويرويه عن أبي سلمة عطاء بن السائب وبكير بن عبد الله الأشج، ورواية بكير في مسلم، وليس فيها ذكر الوضوء، وأما عطاء بن السائب فقد رواه عنه زائدة وحماد بن سلمة وعمر بن عبيد الطناني، وذكروا فيه التثليث في الوضوء، ورواه شعبة، عن عطاء، كما في إسناد الباب، ولم يذكر التثليث، وشعبة عندي أرجح، فالمحفوظ عدم ذكر تثليث الوضوء، وقد تكلمت على طرق الحديث في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (139) من الطبعة الأولى، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم.

الراجح من خلاف أهل العلم

فهذا حديث عائشة حين ذكر الوضوء فيه مفصلاً، ذكر غسل الرأس بدلاً من مسحه، وهو يؤكد أن قوله: «توضأ وضوءه للصلاة» أن ذلك يدخل فيه الرأس، ولكن بالغسل، وليس بالمسح، كما في رواية ميمونة، وكما في حديث عائشة من رواية أبي سلمة عنها، والله أعلم. الدليل الثاني على أن الرأس يمسح في الوضوء. (1355 - 228) ما رواه البخاري من طريق سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، قالت: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه ... وذكرت الحديث. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). فالاستثناء معيار العموم، فمعنى ذلك أنه لم يستثن إلا الرجلين، فدل على أن الرأس يمسح. قلت: هذا الحديث ليس صريحاً، نعم فيه دليل على أن الرأس لم يترك كما ترك غسل الرجلين، ولكنه ليس صريحاً أنه مسح رأسه، فقد يكون غسل رأسه، وهو مسح وزيادة، خاصة أن رواية أبي سلمة، عن عائشة عندما فصلت الوضوء في حديث عائشة، ذكرت أنه غسل رأسه، وكذلك جاء في حديث ميمونة، والله أعلم. الراجح من خلاف أهل العلم: الذي يظهر لي أن الراجح من كلام أهل العلم هو القول بغسل الرأس؛ إذ لا فائدة ترجى من المسح، وهو يريد غسله، فيدخل المسح بالغسل، لكون الغسل أعلى، والمقصود واحد، وهو رفع الجنابة، والله أعلم. ¬

(¬1) البخاري (281)، ومسلم (317).

المبحث الثاني في تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس

المبحث الثاني في تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس. تكلمنا عن تخليل الشعر في الوضوء، وكان محل التخليل في الوضوء هو خاص في اللحية؛ لأن شعر الرأس في الوضوء يمسح مسحاً، فلا حاجة فيه إلى التخليل، وانتهينا إلى أن الراجح أن التخليل ليس بسنة، ولا يصح فيه حديث. وأما في الغسل، فإن عندنا مع شعر اللحية شعر الرأس، فهل يشرع لهما التخليل، أو لا؟ قال مالك: «ولم يأت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله في وضوئه، وجاء أنه خلل أصول شعره في الجنابة» (¬1). الأصل في هذا الباب هو حديث عائشة رضي الله عنها. (1356 - 229) فقد روى البخاري من طريق مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب الماء على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله. فقول عائشة رضي الله عنها: «ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره» نص على تخليل شعر الرأس. (1357 - 230) ورواه مسلم من طريق أبي معاوية، عن هشام به، وفيه: ¬

(¬1) رواه ابن نافع، عن مالك، انظر النوادر والنوازل (1/ 33).

«ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه» (¬1). قال ابن رجب في شرح البخاري: «وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة، ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يتنبه لها أكثر الفقهاء، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وآدابه، ولم أر من صرح به منهم، إلا صاحب المغني من أصحابنا، وأخذه من عموم قول أحمد: الغسل على حديث عائشة، وكذلك ذكره صاحب المهذب من الشافعية» (¬2). ويمكن أيضاً يستدل بمشروعية تخليل الشعر بالقياس على غسل الحيض، فإن غسل الحيض وغسل الجنابة متشابهان في كثير من الأحكام، وبجامع أن كلاً منهما حدث أكبر، (1358 - 231) فقد روى مسلم في صحيحه من طريق إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث، عن عائشة، أن أسماء بنت شكل سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض؟ فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فَتَطَهَّر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكاً شديداً، حتى تبلغ شؤون رأسها ...» الحديث (¬3)، والحديث ورواه البخاري بأخصر من هذا (¬4). ¬

(¬1) مسلم (316). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (1/ 311). (¬3) صحيح مسلم (332). (¬4) صحيح البخاري (314)، وسبق بحثه في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم (112).

قلت في مذهب المالكية قولان في تخليل اللحية: قال أشهب: عن مالك: «وعليه تخليل لحيته في غسل الجنابة. قيل له في موضع آخر: أيخللها في غسله من الجنابة؟ قال: نعم، ويحركها، واحتج في الموضعين بأن النبي عليه السلام خلل أصول شعر رأسه، وكذلك روى عنه ابن القاسم، وابن وهب في المجموعة، بأنه يخلل لحيته في الغسل ويحركها» (¬1). وقال ابن حبيب: «ومن ترك تخليل لحيته في ذلك وأصابع رجليه لم يجزه» (¬2). وجه وجوب التخليل: قال الباجي: «وجه قول أشهب: قول عائشة في هذا الحديث:» ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره. ومن جهة المعنى: أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب، والبشرة التي تحت اللحية من جملته، فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها بالبلل، وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى؛ لأنها مبنية على التخفيف، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة، ولذلك جاز فيها المسح على الخفين، ولم يجز في الغسل)) (¬3). قلت: القول بوجوب التخليل قد يتمشى مع مذهب مالك القائل بوجوب الدلك في الغسل، ولكن الراجح أن تخليل أصول الشعر ليس بواجب لما يلي: ¬

(¬1) النوادر والنوازل (1/ 63). (¬2) المرجع السابق (1/ 64). (¬3) المنتقى للباجي (1/ 94).

أولاً: أن هذه الصفة لم يأت فيها أمر شرعي، كما لو قال: خللوا شعوركم أو نحو ذلك، وإنما هي حكاية فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، كما في القواعد الأصولية. ثانياً: أن هناك أحاديث كثيرة أخرى، تنقل لنا صفة الغسل من الجنابة من قوله، ومن فعله - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيها ذكر التخليل، أما الأحاديث القولية: فمنها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة الرجل الذي أصابته جنابة، ولا ماء، قال له: «خذ هذا فأفرغه عليك» قطعة من حديث طويل رواه البخاري (¬1)، فلم يطلب إلا إفراغ الماء على بدنه. (1359 - 232) ومنها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: «إنما كان يكفيك إن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين». رواه مسلم (¬2)، فاكتفى بالإفاضة، ولم يذكر التخليل. وأما الأحاديث الفعلية: وهي التي تحكي لنا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمنها وأشهرها حديث ميمونة: (1360 - 233) فقد رواه البخاري رحمه الله، عنها، قالت: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه، فغسل قدميه، وراه مسلم، واللفظ للبخاري (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (337) من حديث طويل. (¬2) صحيح مسلم (330). (¬3) البخاري (265)، ومسلم (317).

القول الثاني في مذهب مالك: أنه ليس عليه تخليل لحيته. روى ابن القاسم، عن مالك: ليس على المغتسل من الجنابة تخليل لحيته (¬1). قال الباجي: «وجه رواية ابن القاسم: أن الفرض قد انتقل إلى الشعر النابت على البشرة، فوجب أن يسقط حكم إيصال الماء إلى البشرة بإمرار اليد عليها» (¬2). قلت: إن كان نفي التخليل المقصود به نفي الوجوب، فذاك مسلم، وإن كان تعليل الباجي قد يفهم منه، أن إيصال الماء إلى البشرة قد سقط، وليس بمشروع، فإن كان هذا هو المقصود، فحديث عائشة رد عليه، وهو يفيد استحباب تخليل أصول شعر الرأس في الغسل، ولا يفيد الوجوب كما أسلفنا، وقد ترجم النسائي رحمه الله تعالى في سننه، في كتاب الطهارة، قال: باب: تخليل الجنب رأسه، ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها، وهو يدل على أن الاستحباب ما زال محكماً في غسل الجنابة، والله أعلم. وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: «قوله: ((ثم يخلل بيديه شعره» التخليل ههنا: إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر، ورأيت في كلام بعضهم إشارة إلى أن التخليل، هل يكون بنقل الماء، أو بإدخال الأصابع مبلولة بغير نقل الماء؟ وأشار به إلى ترجيح نقل الماء؛ لما وقع في بعض الروايات الصحيحة في كتاب مسلم: «ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول شعره» فقال هذا القائل: نقل الماء لتخليل الشعر: هو رد على من يقول: يخلل بأصابعه مبلولة ¬

(¬1) النوادر والنوزال (1/ 63)، المنتقى للباجي (1/ 94). (¬2) المنتقى للباجي (1/ 94).

بغير نقل الماء، قال: وذكر النسائي في السنن ما يبين هذا، فقال: باب تخليل الجنب رأسه، وأدخل حديث عائشة رضي الله عنها فيه، فقالت فيه: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب رأسه، ثم يحثي عليه ثلاثاً». قال: فهذا يبين أن التخليل بالماء. قال النووي: وفي الحديث دليل على أن التخليل يكون بمجموع الأصابع العشر، لا بالخمس)) (¬1). ¬

(¬1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 131).

المبحث الثالث استحباب التثليث في غسل الرأس

المبحث الثالث استحباب التثليث في غسل الرأس ذكرنا فيما سبق عند الكلام على وضوء الغسل أنه يتوضأ مرة واحدة بنية غسل الجنابة، ولا يشرع له تثليث الوضوء، إلا في غسل الكفين، فقد ثبت أنه غسلهما ثلاثاً، والكلام الآن في غسل الرأس، هل يشرع التثليث في غسله؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقيل: يشرع غسل الرأس ثلاث مرات، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). ¬

(¬1) قال في العناية شرح الهداية (1/ 58): " ثم يفيض الماء على رأسه، وسائر جسده ثلاثاً ". وقال في تحفة الملوك (ص: 28): " ثم يغسل رأسه وجسده ثلاثاً ". وقال مثله في الفتاوى الهندية (1/ 14). والحنفية يذهبون إلى استحباب التثليث ليس في الرأس فقط، بل في سائر البدن، انظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 68)، نور الإيضاح (ص: 23)، (¬2) المجموع (2/ 214)، تحفة المحتاج (1/ 279)، المهذب (1/ 31)، حلية العلماء (1/ 175)، الوسيط (1/ 348). (¬3) جاء في الفروع (1/ 204): " ويروي رأسه، والأصح ثلاثاً ". وانظر الإنصاف (1/ 253)، والكافي (1/ 59)، كشاف القناع (1/ 152). (¬4) استحباب التثليث في الرأس، هو ما اختاره خليل في مختصره، وذكره من مندوبات الغسل وسننه (ص: 17). وتبعه على ذلك شراح المختصر. قال في مواهب الجليل (1/ 316): " والتثليث مستحب، قال ابن حبيب: لا أحب أن ينقص من الثلاث، ولو عم بواحدة زاد الثانية والثالثة؛ إذ كذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو اجتزأ بالواحدة أجزأته ". وقال في الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 137) (وتثليث رأسه) أي يغسلها بثلاث غرفات، يعمها بكل غرفة، والأولى: هي الفرض ". =

دليل الجمهور على استحباب التثليث في غسل الرأس

وقيل: ليس فيه عدد معتبر، وإنما المطلوب أن يغسل رأسه، ويسبغ الغسل بدون توقيت عدد معين، فإذا بلغ الماء إلى بشرة الرأس فقد أدى ما عليه. وهذا نص مالك في المدونة (¬1). وقد نص القرطبي (¬2)، والقاضي عياض (¬3)، على أن التكرار في الغسل غير مشروع حتى في غسل الرأس. دليل الجمهور على استحباب التثليث في غسل الرأس. (1361 - 234) ما رواه البخاري من طريق عبد الله، قال: أخبرنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬4). ¬

= وقال الخرشي (1/ 172): ومنها تثليث غسل رأسه، بأن يعمها بكل واحدة ". وذكر صاحب الشرح الصغير أن التثليث من الفضائل، قال (1/ 171): "وفضائله ... ثم ذكر "وتخليل أصول شعر رأسه، وتثليثه يعمه بكل غرفة ". اهـ وانظر الفواكه الدواني (1/ 147)، التاج والإكليل (1/ 315). (¬1) جاء في المدونة (1/ 2): " ما رأيت عند مالك في الغسل والوضوء توقيتاً، لا واحدة، ولا اثنتين، ولا ثلاثاً، ولكنه كان يقول: يتوضأ، أو يغتسل، ويسبغهما جميعاً ". اهـ (¬2) المفهم (1/ 576). (¬3) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 156). (¬4) البخاري (282)، ومسلم (316).

فقوله رضي الله عنها: «أفاض عليه الماء ثلاث مرات» ظاهره أنه أفاضه على جميع رأسه، مما يدل على تعميم الرأس بكل غرفة. وراه البخاري من طريق مالك، عن هشام، وفيه: «ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه» (¬1). فالصب ظاهره على جميع الرأس، وبكفيه كليهما. (1361 - 235) وروى مسلم من طريق سليمان بن صرد، عن جبير بن مطعم، قال: تماروا في الغسل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض القوم: أما أنا فإني أغسل رأسي كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث أكف. رواه مسلم (¬2). وفي لفظ للبخاري: «فأفيض على رأسي ثلاثاً»، وأشار بيديه كلتيهما (¬3). فذه الرواية تدل على أن الغرفة كانت بكلتا يديه، وأنه أفاض على كل واحدة منها على جميع رأسه. (1363 - 236) وروى البخاري رحمه الله من طريق أبي جعفر، قال: قال لي جابر بن عبد الله: أتاني ابن عمك، يعرض بالحسن بن محمد بن الحنفية، قال: كيف الغسل من الجنابة؟ فقلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاثة أكف، ويفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده، فقال لي الحسن: ¬

(¬1) البخاري (248). (¬2) مسلم (327). (¬3) البخاري (254).

دليل من قال: لا يشرع التكرار في غسل الرأس

إني رجل كثير الشعر، فقلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر منك شعراً (¬1). دليل من قال: لا يشرع التكرار في غسل الرأس. ذهب القرطبي والقاضي عياض من المالكية إلى أنه لا يشرع التكرار في غسل الجنابة، لا في وضوء الغسل، ولا في الرأس، ولا في سائر البدن. وأجابوا عن الأحاديث السابقة بأنها لا تسلم إلا إذا دلت صراحة أن كل غرفة من الغرفات الثلاث حصل بها تعميم الرأس بالغسل. قال الباجي: «قوله: ((ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات» يحتمل أن يكون على ما شرع في الطهارة من التكرار، ويحتمل أن يكون لتمام الطهارة؛ لأن الغرفة لا تجزئ في استيعاب ما يحتاج إليه من غسل رأسه)) (¬2). وقال القرطبي في المفهم: «ولا يفهم من هذه الثلاث حفنات، أنه غسل رأسه ثلاث مرات؛ لأن التكرار في الغسل غير مشروع؛ لما في ذلك من المشقة، وإنما كان ذلك العدد؛ لأنه بدأ بجانب رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم على وسط رأسه، كما في حديث عائشة». (1364 - 237) قلت: حديث عائشة رواه مسلم من طريق القاسم، عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه: بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقال بهما على رأسه (¬3). ¬

(¬1) البخاري (256)، ورواه مسلم (329). (¬2) المنتقى للباجي (1/ 94). (¬3) مسلم (318).

ولفظ البخاري: «فأخذ بكفه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقال بهما على وسط رأسه» (¬1). وتعقب ابن رجب كلام القرطبي في شرحه لصحيح البخاري، فقال عن كلامه: وهو خلاف الظاهر، قال: «والظاهر، والله أعلم أنه يعم رأسه بكل مرة، ولكن يبدأ في الأولى بجهة اليمين، وفي الثانية: بجهة اليسار، ثم يصب الثالثة على الوسطى» (¬2). قلت: كلام ابن رجب هو الذي خلاف الظاهر، فلو كان المقصود هو فقط البداءة باليمين إلى نهاية الرأس، فلماذا يقدم الجهة اليسرى على وسط الرأس، فإن الجانب الأيسر لا يعرف في الشرع تقديمه على غيره، وكان الأفضل بعد تقديم الجهة اليمنى أن يبدأ بأعلى الرأس، فالظاهر أنه بدأ بجوانب الرأس مقدماً فيه اليمين لاستحباب تقديم اليمين، ثم أنهى ذلك بأعلى الرأس، ثم هي غرفة واحدة، كيف تكفي في كل مرة من جانب الرأس الأيمن إلى أعلاه، وصولاً إلى جانبه الأيسر وانتهاء بمؤخرة الرأس؟ فلو كانت هذه الصفة هي المنقولة، لجاءت صريحة في الحديث، ثم القول بعدم تثليث الرأس يطرد مع بقية أعمال الغسل، فقد ثبت لنا أن الوضوء ليس فيه تكرار، وسبق بحثه، وأن سائر البدن فيما عدا الرأس لا يشرع فيه تكرار، كما سيأتي إثباته إن شاء الله تعالى، فما بال الرأس يستثنى من سائر الجسم، فالقول بعدم تكرار غسله متسق مع القول بأنه لا يشرع تكرار في سائر أحكام الغسل، وكنت فيما سبق أرى سنية غسل الرأس ثلاثاً، ثم بعد التأمل رأيت أن القول بعدم تكرار غسل الرأس، هو الراجح، والله أعلم. ¬

(¬1) البخاري (258). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (1/ 259).

المبحث الرابع هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس

المبحث الرابع هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس الأحاديث المرفوعة في غسل الرأس للمرأة تذكر ثلاث غرفات، لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك. (1365 - 238) فقد روى مسلم عن أبي الزبير عبيد بن عمير، قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو، هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة في صحيح مسلم: «إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين» (¬2). فهذا نص مرفوع أن عائشة لا تزيد على ثلاث إفراغات، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغتسل معها. (1366 - 239) وروى البخاري من طريق صفية بن شيبة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنا إذا أصاب إحدانا جنابة، أخذت بيديها ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن، وبيدها على شقها الأيسر (¬3). ¬

(¬1) مسلم (331). (¬2) مسلم (330). (¬3) صحيح البخاري (277).

فظاهر هذا الأثر أنها تصب على رأسها خمس حفنات، إلا أن الأثر جاء بصيغة «كنا نفعل» ولم تضف ذلك إلى زمن النبوة، فهل له حكم الرفع، أو يكون موقوفاً؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم. وقد بينت في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية كلام أهل العلم حول الحديثين، وهل يؤخذ منه أن في غسل رأس المرأة صفتين، تارة بثلاث غرفات، وتارة بخمس، أو السبيل الترجيح بين ما ورد، أرجو مراجعة ما كتب هنالك لمن أراد الاستزادة، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية (1/ 428).

المبحث الخامس هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة

المبحث الخامس هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة. كانت المرأة العربية من عصر البنوة إلى عهد قريب، وهي تربي شعرها، حتى يكون لها ضفائر تنزل على ظهرها، فإذا أرادت المرأة أن تغتسل للجنابة أو للحيض، فهل عليها أن تنقض شعرها، ليتخلل الماء شعرها؟ أو يمكنها أن تغسل رأسها، ولو كانت لم تحل ضفائرها؟ وكذلك بعض الأعراب من أهل البادية يترك شعره حتى يكون له ضفائر طويلة، فهل إذا أراد أن يغتسل من الجنابة كان لزاماً عليه أن يحل ضفائره؟ في هذا المسألة اختلف الفقهاء: فقيل: لا تنقض المرأة ولا الرجل رأسه مطقاً، لا في غسل الجنابة ولا في غسل الحيض. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). ¬

(¬1) مختصر خليل (ص:15)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص:24)، الشرح الصغير (1/ 169)، أسهل المدارك (1/ 68)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 101)، حاشية الدسوقي (1/ 134)، منح الجليل (1/ 126،127)، مواهب الجليل (1/ 312،313)، المدونة (1/ 134). (¬2) الأم (1/ 40) وقال: " إذا كانت المرأة ذات شعر تشد ظفرها، فليس عليها أن تنفضه في غسل الجنابة، وغسلها من الحيض كغسلها من الجنابة لا يختلفان"، مغني المحتاج (1/ 73)، المجموع (1/ 215)، نهاية المحتاج (1/ 224)، روضة الطالبين (1/ 88)، الحاوي (1/ 224،225). (¬3) المغني (1/ 298)، المبدع (1/ 197)، الكافي (1/ 60)، الفروع (1/ 205)، الإنصاف (1/ 256).

وقيل: يجب على الرجل نقض شعره بخلاف المرأة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: في التفريق بين غسل الجنابة والحيض، فلا يجب نقضه في الجنابة ويجب في غسل الحيض، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2)، واختاره الباجي من المالكية (¬3)، وابن حزم من الظاهرية (¬4). والراجح القول الأول، وقد ذكرت أدلة الأقوال وناقشتها في كتابي الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق (¬5). ¬

(¬1) مراقي الفلاح (ص: 42،43)، بدائع الصنائع (1/ 34)، البحر الرائق (1/ 54)، تبيين الحقائق (1/ 14)، حاشية ابن عابدين (1/ 153)، شرح فتح القدير (1/ 58) وانظر العناية مطبوعة معه (1/ 59). (¬2) كشاف القناع (1/ 154)، الفروع (1/ 205)، الإنصاف (1/ 256)، المغني (1/ 298)، شرح منتهى الإرادات (1/ 86)، الكافي (1/ 60)، المحرر (1/ 21)، المبدع (1/ 197). (¬3) المنتقى (1/ 96). (¬4) المحلى (مسألة 192). (¬5) الحيض والنفاس رواية ودراية (1/ 433).

المبحث السادس في حكم المسترسل من الشعر هل يجب غسل ظاهره وباطنه

المبحث السادس في حكم المسترسل من الشعر هل يجب غسل ظاهره وباطنه إذا رجحنا أنه لا يجب عليها نقض الضفائر، فهل يجب غسل ظاهر الشعر وباطنه؟ أو يجب غسل ظاهره فقط؟ أو يجب غسل أصول الشعر (بشرة الشعر) دون المسترسل؟ هذه مسألة اختلف فيها العلماء: فقيل: يجب غسل ما استرسل من الشعر، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يجب، وهو مذهب الحنفية (¬4)، واختاره ابن قدامة من الحنابلة (¬5). وهذا القول هو الراجح، والقول الأول أحوط، وقد ذكرت أدلتهما في كتاب الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا (¬6). ¬

(¬1) الشرح الصغير (1/ 169)، مختصر خليل (ص:15)، أسهل المدارك (1/ 68)، حاشية الدسوقي (1/ 134)، منح الجليل (1/ 126، 127)، مواهب الجليل (1/ 312)، المدونة (1/ 134). (¬2) مغني المحتاج (1/ 73)، نهاية المحتاج (1/ 224)، روضة الطالبين (1/ 88) المجموع (1/ 215). (¬3) كشاف القناع (1/ 154)، الفروع (1/ 205)، الإنصاف (1/ 256)، شرح الزركشي (1/ 322)، شرح منتهى الإرادات (1/ 85)، الكافي (1/ 60)، المبدع (1/ 197). (¬4) مراقي الفلاح (ص:43)، البحر الرائق (1/ 55)، تبيين الحقائق (1/ 15)، حاشية ابن عابدين (1/ 153)، وصحح الكاساني في بدائع الصنائع القول بعدم وجوب إيصال الماء إلى أثناء الشعر إن كان مضفوراً (1/ 34). (¬5) المغني (1/ 301،302). (¬6) كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية (1/ 446).

الفصل العاشر استحباب التيامن في الاغتسال

الفصل العاشر استحباب التيامن في الاغتسال أما التيامن في غسل الرأس ففيه دليل خاص: (1367 - 240) فقد روى مسلم من طريق القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه، بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه. رواه البخاري، ومسلم واللفظ لمسلم (¬1). وأما التيامن في البدن فالأحاديث كلها تنص على إفاضة الماء على البدن، ولم تذكر أنه بدأ بشقه الأيمن، ثم الأيسر. فحديث عائشة في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، في البخاري: «ثم يفيض الماء على جلده كله» (¬2). ولفظ مسلم «ثم أفاض على سائر جسده» (¬3). وفي رواية أخرى للبخاري «ثم غسل سائر جسده» (¬4). وكذا قالت ميمونة رضي الله عنها في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) البخاري (258) ومسلم (318). (¬2) البخاري (248). (¬3) مسلم (316). (¬4) البخاري (273).

وقد وصفت عائشة وميمونة رضي الله عنهما كل شيء في غسله، من غسل الكفين ثلاثاً، ثم غسل الفرج، ثم وضوء الصلاة بتقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى، والرجل اليمنى على اليسرى، ثم تخليل أصول الشعر، ثم غسل الرأس بثلاث غرفات، ثم غسل القدمين بعد الفراغ من الغسل، فهل يمكن أن يفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - التيامن في غسل البدن، من تقديم الشق الأيمن، ثم الأيسر، ولا ينقلان ذلك، بل إن عائشة نقلت تقديم غسل الجانب الأيمن من الرأس، ثم الجانب الأيسر منه، ثم وسط الرأس، ولما كان التيامن في غسل الرأس مشروعاً، حفظ لنا بالنقل الخاص الصريح، فهل نحن بحاجة إلى استخدام عمومات، أو استخدام القياس في استحباب التيامن في غسل البدن، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل عند أزواجه، وينقلان لنا صفة غسله، ثم لا ينقلان لنا التيامن في غسل البدن؟ إن التيامن إما أن يكون مشروعاً، فيكون أولى الناس بفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتكون أمهات المؤمنين قد أهملن نقل هذه الصفة لنا من فعله - صلى الله عليه وسلم -؟ وإما أن يكون التيامن غير مشروع، ويكون تركهن لنقل التيامن في غسله دليلاً على أنه لم يكن يفعل هذه الصفة، وما تركه عليه الصلاة والسلام كانت السنة تركه، والله أعلم، إنني أبحث عن حديث صحيح صريح في استحباب تقديم الشق الأيمن في غسل البدن من الجنابة، وفي استحباب تأخير الشق الأيسر منه، إن الذي أراه أن البدن عضو واحد، والعضو الواحد الأصل فيه عدم تقسيمه إلى أيمن وأيسر، نعم ورد هذا في الرأس على خلاف الأصل، فنقتصر عليه، ولا نتعداه، انظر إلى الأذنين في الوضوء لما كانت من الرأس بحكم العضو الواحد مسحا جميعاً دون تقصد في تقديم اليمنى على اليسرى،

مع أنه لو قيل في التيامن في مسح الأذنين لم يبعد؛ لأن الأذنين في واقع الأمر عضوان مستقلان، فما بالك بالبدن الذي هو عضو واحد، فإذا كان الأمر ليس فيه حديث صريح في غسل الجنابة والحيض، فهل يقاس غسل الجنابة على غسل الميت، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم عطية رضي الله عنها: «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها». رواه البخاري ومسلم (¬1). فهل كان غسل الجنابة لا يتكرر فعله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى نضطر إلى القياس في عبادة كانت تفعل كثيراً في بيوت أمهات المؤمنين، ونقلن رضي الله عنهن ما شاهدنه من فعله عليه الصلاة والسلام، ولم يذكرن في حديث واحد، أنه كان يبدأ بالشق الأيمن على الشق الأيسر؟ (1368 - 241) أو نحتاج إلى أخذ استحباب التيامن، بما رواه البخاري، ومسلم (¬2)، من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، سمعت أبي يحدث عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله. أليس هذا الحديث مطلقاً، وليس نصاً في غسل الجنابة؟ فلماذا لم يؤخذ من هذا الحديث المطلق استحباب تقديم الأذن اليمنى على الأذن اليسرى، وذهب الفقهاء إلى أنهما يمسحان معاً، أو ذهب الفقهاء إلى استحباب تقديم الجانب الأيمن في مسح الرأس في الحدث الأصغر، خاصة أن التيامن في الرأس محفوظ في غسل الجنابة، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد فعل التيامن في غسل بدنه ¬

(¬1) البخاري (167) ومسلم (42ـ 939). (¬2) البخاري (168) (426) ومسلم (268).

من الجنابة، فلماذا لم تنقله عائشة وميمونة وغيرهما؟ وإذا كان لم يفعله فلماذا نستحب فعله اتكاء على حديث لم يكن سياقه في غسل الجنابة؟ فإن كانت المسألة إجماعاً في تقديم غسل الجانب الأيمن على الجانب الأيسر فهذا مسلم للإجماع؛ لأنه من الأدلة الشرعية، وإن لم يكن مسلماً فإني أترك هذه المسألة ليتأملها الباحثون وطلبة العلم، فيوجدوا أجوبة لما ذكرته، والله أعلم.

الفصل الحادي عشر في حكم غسل البدن ثلاث مرات

الفصل الحادي عشر في حكم غسل البدن ثلاث مرات تبين لنا في المبحث السابق أن الوضوء في غسل الجنابة لا يشرع فيه التثليث، واختلف العلماء في غسل البدن، هل يستحب التثليث فيه أو لا؟ فقيل: يستحب، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يستحب، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬4)، واختاره ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 34)، شرح فتح القدير (1/ 58). (¬2) روضة الطالبين (1/ 90)، مغني المحتاج (1/ 74)، المجموع (2/ 213) قال النووي: "المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه يستحب إفاضة الماء على جميع البدن ثلاث مرات ". (¬3) الإنصاف (1/ 253)، الفروع (1/ 204)، كشاف القناع (1/ 152)، المحرر (1/ 20). (¬4) نصت كتب المالكية على أن من سنن الغسل تثليث الرأس، ومعناه أنه لا يشرع التثليث لما عداه، وصرح بعضهم بأنه لا يشرع تثليث البدن، بل كره كثير منهم التثليث في أعضاء الوضوء فضلاً عن الغسل. انظر المسألة في الكتب التالية. الشرح الصغير (1/ 172)، بمختصر خليل (ص: 15)، وشروحه الخرشي (1/ 171)، وقال في حاشية العدوي المطبوع بهامش شرح الخرشي: " ليس شيء في الغسل يندب فيه التكرار غير الرأس " شرح الزرقاني (1/ 104). منح الجليل (1/ 129ـ 130)، وذكر فيه كراهة تثليث أعضاء الوضوء، ونص على إستحباب التثليث في الرأس. وقال في الشرح الكبير (1/ 136، 137) " يندب بدؤه بأعضاء وضوءه كاملة مرة بنية رفع الجنابة، فلا يندب التثليث بل يكره ".

ابن تيمية من الحنابلة (¬1). وهذا القول هو الراجح، وسبق أن بينت أن وضوء غسل الجنابة، وغسل الرأس وكذلك غسل البدن لا يشرع فيه التثليث، والخلاف في التثليث في الرأس خلاف قوي، فقد ورد فيه ثلاث غرفات، فمنهم من عد هذا من التكرار، ومنهم من أخذ بحديث عائشة، وأنه غسل جانب الرأس الأيمن بغرفة، والأيسر بغرفة، وأعالي الرأس بالغرفة الثالثة، وأما تثليث البدن فالخلاف فيه ضعيف، لأنه لم يرد فيه نص باستحباب التثليث، والراجح عندي طرد الباب، وأنه لا يشرع في غسل الجنابة تثليث البتة إلا في غسل الكفين، وغسلهما في ابتداء الطهارة سنة مستقلة تفعل في الوضوء وفي الغسل قبل مباشرة اليد للغسل، وقبل إدخالهما في الإناء. وقد عرضت هذه المسألة مع أدلتها في كتاب الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا، فلله الحمد (¬2). ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 253)، الفروع (1/ 204). (¬2) الحيض والنفاس رواية ودراية (1/ 464).

الفصل الثاني عشر في حكم تأخير غسل الرجلين

الفصل الثاني عشر في حكم تأخير غسل الرجلين إذا اغتسل المكلف من الجنابة، وبدأ بالوضوء، فهل يغسل رجليه مع الوضوء، أم يؤخر غسلهما إلى تمام الغسل، اختلف الفقهاء في ذلك. فقيل: لا يغسلهما مع الوضوء، بل يؤخر غسلهما إلى تمام الغسل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: يغسلهما مع الوضوء، وهو مذهب المالكية (¬5)، والمشهور عند الشافعية (¬6). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 58). (¬2) قال الصاوري في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 172): " لهم ـ يعني أهل المذهب طريقتان في الوضوء: التثليث، وعدمه، وتقديم الرجلين قبل غسل الرأس، وتأخيرهما بعد تمام الغسل. ورجح تأخير غسل الرجلين محمد عليش في منح الجليل (1/ 128). (¬3) قال النووي في روضة الطالبين (1/ 89): " تحصل سنة الوضوء سواء أخر غسل القدمين إلى الفراغ، أو فعله بعد مسح الرأس والأذن. وأيهما أفضل؟ قولان، المشهور أنه لا يؤخر. (¬4) الفروع (1/ 204)، المستوعب (1/ 240)، المغني (1/ 288). (¬5) التفريع ـ ابن الجلاب (1/ 194)، أسهل المدارك (1/ 67)، الشرح الصغير (2/ 172)، المعونة (1/ 132)، وقال في جواهر الإكليل (1/ 23): " ثم أعضاء وضوءه كاملة ـ أي يغسلهما ـ فلا يؤخر غسل رجليه إلى آخر غسله " اهـ. (¬6) روضة الطالبين (1/ 89).

وقيل: يغسلهما مع الوضوء، ويعيد غسلهما بعد تمام الغسل، وهوالمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: إن كان المكان غير نظيف، فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم (¬2). وقيل: التقديم في غسل الرجلين والتأخير سواء، وهو رواية عن أحمد (¬3). والذي يظهر لي أن السنة في تأخير غسلهما على حديث ميمونة، وقد بينت أن حديث عائشة والذي ظاهره أنه يكمل وضوءه ليس صريحاً، وقد جاء عن عائشة في معرض تفصيلها للوضوء ما يدل على تأخير غسلهما، فإذا أمكن حمل حديث عائشة على حديث ميمونة حملاً لا تكلف فيه تعين حمله، لأن الأصل عدم تعدد السنة في العضو المغسول، وقد بينت أنه يمكن حمل حديث عائشة على حديث ميمونة، وتكون الصفة الواردة في غسل الرجلين صفة واحدة، انظر الكلام على هذا في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فقد تكلمت عليه بشيء من التفصيل، فأغنى عن إعادته هنا (¬4). ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 253). (¬2) الفروع (1/ 204). (¬3) المغني ـ ابن قدامة (1/ 289)، الفروع (1/ 204). (¬4) الحيض والنفاس رواية ودراية (1/ 476).

الفصل الثالث عشر في الموالاة في غسل الجنابة

الفصل الثالث عشر في الموالاة في غسل الجنابة إذا فرق المغتسل غسله، بأن غسل بعض بدنه، ثم فصل بفاصل طويل، فهل يبني على غسله، أو يستأنف؟ اختلف الفقهاء في ذلك؛ لاختلافهم في حكم الموالاة في غسل الجنابة، فقيل: الموالاة سنة، وهو مذهب الجمهور (¬1)، ورجحه ابن حزم (¬2). وقيل: تجب الموالاة في الغسل، وهو مذهب المالكية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). دليل المالكية على الوجوب: الدليل الأول: أن الغسل المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - كان متوالياً، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فرق غسله، ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: حاشية ابن عابدين (1/ 156)، الجوهرة النيرة (1/ 7). وفي مذهب الشافعية، قال النووي في المجموع (2/ 213): " وأما موالاة الغسل فالمذهب أنها سنة ". وانظر تحفة الحبيب على شرح الخطيب (1/ 244). وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/ 257)، شرح منتهى الإرادات (1/ 51)، كشاف القناع (1/ 153)، مطالب أولي النهى (1/ 181). (¬2) قال ابن حزم في المحلى (1/ 312): " ومن فرق وضوءه أو غسله أجزأه ذلك ". (¬3) جاء في المدونة (1/ 28): " وسئل مالك عن الرجل يغسل جسده، ولا يغسل رأسه؛ وذلك لخوف من امرأته، ثم يدع غسل رأسه حتى يجف جسده، ثم تأتي امرأته لتغسل رأسه، هل يجزئه ذلك عن غسل الجنابة؟ قال: ليستأنف الغسل". وانظر مواهب الجليل (1/ 312)، حاشية الدسوقي (1/ 133)، الخرشي (1/ 168)، الفواكه الدواني (1/ 147). (¬4) الإنصاف (1/ 257).

الدليل الثاني

وليس المقصود هنا الاحتجاج بمطلق الفعل، ولكن هذا الفعل كان بياناً لقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1)، فكما أن الأمر بقوله تعالى: {فاطهروا} واجب، فكذلك ما وقع بياناً له من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان فعله متوالياً غير مفرق، فمن فرق غسله، فقد جاء أمراً ليس عليه أمر الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد. ويجاب: بأن الآية القرآنية في قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬2)، لم تذكر إلا غسل البدن فقط، وهذا هو الواجب، وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خذ هذا فأفرغه عليك». وما فعله - صلى الله عليه وسلم - في السنة المطهرة زيادة على ما في الآية الكريمة، فهو من قبيل الاستحباب، ومنه الموالاة، والوضوء قبله، والمضمضة والاستنشاق وغيرها، والله أعلم. الدليل الثاني: القياس على الوضوء، فإذا كانت الموالاة واجبة في الوضوء، فكذلك الغسل؛ لأنه إحدى الطهارتين. وأجيب: بأن وجوب الموالاة في الوضوء ليست محل إجماع، فقد اختلف العلماء في وجوب الموالاة فيه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك فرقاً بين ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) النساء: 43.

دليل الجمهور

الغسل والوضوء، فإن الوضوء فيه أعضاء متعددة: الوجه واليدان والرجلان، بخلاف الغسل فإنه ينظر إليه بأنه عضو واحد، وهو جميع البدن. وقد يقال: إذا كان لا يعذر في تفريق الأعضاء المختلفة في الوضوء، وهي أعضاء لا يرتبط بعضها ببعض، فكيف يعذر في تفريق غسل عضو واحد، فهو أولى بوجوب الموالاة من غيره. ويجاب على هذا: بأن حقيقة الموالاة: هي أن تكون بين شيئين مختلفين، فإذا كان الغسل لشيء واحد، وهو البدن، فكيف يتصور وجوب الموالاة فيه؟ دليل الجمهور: الدليل الأول: لو كانت الموالاة واجبة لجاء النص الشرعي المقرر لوجوبها، لأن المسألة مهمة جداً، فإما أن يرتفع الحدث أو لا يرتفع، وبالتالي إما أن تصح صلاته، أو تكون صلاته باطلة، فإذا كان الأمر بهذه المثابة من الأهمية، وتتعلق بأعظم أركان الإسلام العملية، وهي الصلاة، فلا بد من وجود نص صحيح صريح تقوم به الحجة على وجوب الموالاة، ولم يوجد. الدليل الثاني: أن المأمور به في الغسل هو غسل البدن، فكيفما غسل فقد قام بما أوجب الله عليه. الدليل الثالث: (1369 - 242) ما رواه البخاري من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس،

الراجح

عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه وما أصابه، ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه (¬1). فهنا غسل بدنه إلا رجليه، ثم تنحى من مقامه فغسل رجليه، فوجد مهلة بين فعله الأول وبين غسل رجليه، فإذا جاز وجود مهلة بين أفعال الغسل لم تكن الموالاة واجبة إلا أن يقال: إن هذا من التفريق اليسير، وهو لا يضر. قال ابن حزم: «إذا جاز أن يجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين وضوئه وغسله، وبين تمامهما بغسل رجليه مهلة خروجه من مغتسله، فالتفريق بين المدد لا نص فيه ولا برهان» (¬2). الراجح: أن القول بالوجوب هو حكم شرعي، يحتاج إلى دليل شرعي، ولم أجد دليلاً على وجوب الموالاة في الغسل، والأصل عدم الوجوب، والله أعلم. ¬

(¬1) البخاري (281)، ورواه مسلم (317)، ولم يذكر فيه قولها: " سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) المحلى (1/ 313).

الفصل الرابع عشر في تدليك البدن في الغسل

الفصل الرابع عشر في تدليك البدن في الغسل اختلف العلماء في تدليك البدن في الغسل، فقيل: التدليك ليس بفرض، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: التدليك فرض، وهو مذهب المالكية (¬2). قال القرافي: ومنشأ الخلاف: هل حقيقة الغسل لغة: الإيصال مع الدلك، فيجب، وهو الصحيح، ولذلك تفرق العرب بين الغسل والغمس لأجل التدليك، فتقول: غمست اللقمة في المرق، ولا تقول: غسلتها، أو نقول: حقيقته: الإيصال فقط، لقول العرب: غسلت السماء الأرض: إذا أمطرتها (¬3). قلت: إنما فرق بين المرق والماء، لأن الغسل يراد به الطهارة والنظافة، وهو مختص بالماء، فالماء مطهر بخلاف المرق، وليس هذا التفريق راجعاً إلى وجوب الدلك أو عدمه. ¬

(¬1) الفتاوى الهندية (1/ 14)، حاشبة ابن عابدين (1/ 156)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 470 - 471)، المبسوط (1/ 44)، تحفة الحبيب (1/ 244)، المغني لابن قدامة (1/ 183). (¬2) جاء في المدونة (1/ 27) " قال مالك: في الجنب يأتي النهر، فينغمس فيه انغماساً، وهو ينوي الغسل من الجنابة، ثم يخرج، قال: لا يجزئه إلا أن يتدلك، وإن نوى الغسل لم يجزه إلا أن يتدلك، قال: وكذلك الوضوء أيضاً. قلت: أرأيت إن أمر يديه على بعض جسده، ولم يمرهما على جميع جسده؟ قال: قال مالك: لا يجزئه ذلك حتى يمرهما على جميع جسده كله ويتدلك". وانظر الذخيرة (1/ 309). (¬3) الذخيرة (1/ 309).

دليل الجمهور على عدم وجوب الدلك

دليل الجمهور على عدم وجوب الدلك: الدليل الأول: (1370 - 243) ما رواه مسلم من طريق سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الاستدلال: قوله: «إنما كان يكفيك» ساقه مساق الحصر، ولم يذكر سواء إفاضة الماء على البدن، وهي لا تقتضي الدلك. الدليل الثاني: (1371 - 244) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [حديث حسن وسبق تخريجه] (¬3). ¬

(¬1) مسلم (330). (¬2) المصنف (913). (¬3) انظر الكلام على إسناد الحديث في كتاب أحكام الطهارة مباحث المياه: في باب خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ.

الدليل الثالث

لم يطلب الحديث إلا أن يمس الماء بشرة المسلم، ولا يلزم من ذلك التدليك، فدل الحديث على عدم وجوبه، والله أعلم. الدليل الثالث: لو كان الدلك فرضاً لجاء نقله عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك لما كان الدلك مشروعاً في غسل الرأس جاء ذكره في السنة، (1372 - 245) فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من طريق إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث عن عائشة، أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء .... الحديث (¬1). فلما لم يذكر دلك البدن في غسل الجنابة والحيض علم أنه ليس بواجب. الدليل الرابع: لو كان على بدنه نجاسة، فصب عليه الماء صباً حتى زالت عين النجاسة طهر المحل، ولو لم يدلك موضع النجاسة، فإذا كان لا يشترط الدلك مع طهارة الخبث، وقيام جرم النجاسة على البدن، فكيف يشترط الدلك في رفع الحدث، ولم يكن هناك شيء على البدن يزال بالدلك أصلاً؟ دليل المالكية على وجوب التدليك: الدليل الأول: قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل أعضاء الوضوء، والدلك شرط في حصول مسمى الغسل، فلا يكون هناك غسل إلا إذا كان معه دلك، فليس ¬

(¬1) مسلم (332)، وقد سبق الكلام عليه في كتاب الحيض والنفاس.

الدليل الثاني

المطلوب هو وصول الماء إلى هذه الأعضاء، بل المطلوب إيصال الماء إلى الجسد على وجه يسمى غسلاً، ولا يتحقق هذا إلا بالدلك (¬1). قال عطاء في الجنب يفيض عليه الماء؟ قال: لا، بل يغتسل غسلاً؛ لأن الله تعالى قال: {حتى تغتسلوا} ولا يقال: اغتسل إلا لمن دلك نفسه (¬2). وهذا القول ليس عليه دليل، والصحيح أن الغسل هو جريان الماء على العضو وقد شهد لذلك حديث عمران بن الحصين وحديث أم سلمة المتقدمان. قال ابن حزم: من ادعى أن اسم الغسل لا يقع إلا على التدلك باليد فقد ادعى ما لا برهان له به (¬3). الدليل الثاني: القياس على طهارة التيمم، قال المزني: ولأن التيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذلك هنا. وأجيب: قال ابن قدامة: وأما قياسه على التيمم فبعيد؛ لأن التيمم أمرنا فيه بالمسح، والمسح لا يكون إلا باليد، ويتعذر بالغالب إمرار التراب إلا باليد. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة القولين نجد أن قول الجمهور هو الصواب، وأن ¬

(¬1) مواهب الجليل بتصرف يسير (1/ 218). (¬2) المغني (1/ 290). (¬3) المحلى (مسألة: 115).

الدلك ليس بواجب، بل لو قيل: إن في استحبابه نظراً لم يبعد قائله عن الصواب (¬1)، ولا يقال: هذا من إسباغ الغسل، لأن الإسباغ في الطهارة المقصود به إكماله وإتمامه غير منقوص، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسبغوا الوضوء، ويل ¬

(¬1) اعتبر الحنفية الدلك من السنن والآداب انظر الفتاوى الهندية (1/ 14) كما استحب الدلك الشافعية وعللوا ذلك بالخروج من خلاف من أوجبه احتياطاً، وهذا يدل على أن المسألة ليست قائمة على سنة، وإنما على سبيل الاحتياط، انظر تحفة الحبيب (1/ 244)، كما استحبه الحنابلة كذلك، انظر المغني لابن قدامة (1/ 138). وقد ناقش الجصاص موضوع الدلك وقال كلاماً مقتضاه عدم الاستحباب، حيث يقول: " قال الله تعالى (فاغسلوا) فهو متى أجرى الماء على الموضع فقد فعل مقتضى الآية وموجبها، فمن شرط فيه دلك الموضع بيده، فقد زاد فيه ما ليس منه، وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ ". فقوله " غير جائز الزيادة " يتقضي التحريم، وهذا يعني عدم المشروعية. وقال السرخسي في المبسوط (1/ 45): " والدلك في الاغتسال ليس بشرط إلا على قول مالك يقيسه بغسل النجاسة العينية، ولنا أن الواجب بالنص الأطهار، والدلك يكون زيادة عليه، والدلك لمقصود إزالة عين من البدن، وليس على بدن الجنب عين يزيلها بالاغتسال، فلا حاجة إلى الدلك ". اهـ فهل هذا الكلام رد لمشروعية الدلك، أو رد لاشتراط الدلك، يتأمل، وإن كان الظاهر من كلام الحنفية في متونهم رد للاشتراط، والله أعلم. وإن كنت أميل إلى عدم استحباب الدلك، وليس لموجب الحنفية، وهو الزيادة على النص، وإنما لكون الدلك لم ينقل في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في الرأس خاصة، ولو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدلك لبدنه، لنقله إلينا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فلما لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - دلك البدن، بقي القول بمشروعيته يفتقر إلى دليل، إلا أن هذا القول مني معلق على القول به من السلف، فإن ثبت أن أحداً قال به، فهو متجه، وإلا لزمت مذهب الاستحباب؛ لأنه أخف القولين، والله أعلم.

للأعقاب من النار)) فجعل عدم وصول الماء إلى العقب من ترك الإسباغ. ولو كان الغسل لا يقع إلا على الدلك، لكان المواضع الذي لا يستطيع الوصول إليها بيده كبعض المواضع من ظهره لا يمكن أن يغسلها، فإما أن يقال: بسقوط الدلك للعجز، كما اختاره من المالكية ابن القصار (¬1)، وبالتالي لم يقم بغسل جميع بدنه؛ لأن الغسل عندهم لا يطلق إلى على جريان الماء مع الدلك. أو يقال: يجب أن يتخذ خرقة ليستعين بها على دلك ما يعجز عن دلكه، كما اختاره سحنون من المالكية (¬2)، وقال بعضهم: يجب استنابة من يدلكه من زوجة أو أمة، أو يتدلك بحائط إن كان ملكاً له، أو أذن له مالكها، ولم يكن الدلك يؤذيه (¬3)، وهذا أيضاً لم يقم عليه دليل من السنة، ومن التعمق الذي لم نؤمر به، وكل هذا يدل على ضعف القول بوجوب التدليك، والله أعلم. ¬

(¬1) الذخيرة للقرافي (1/ 309)، وسقوط الدلك في حالة العجز هو المعتمد في المذهب المالكي، انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 168). (¬2) الذخيرة للقرافي (1/ 309). (¬3) انظر الشرح الصغير (1/ 168).

الباب الخامس في فروض الغسل

الباب الخامس في فروض الغسل الفرض الأول الماء الطهور مع القدرة عليه لا يرفع الحدث إلا الماء الطهور مع وجوده، فلا يرفع الحدث الماء النجس، وهذا إجماع. قال ابن المنذر: قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فالطهارة على ظاهر كتاب الله بكل ماء، إلا ما منع منه كتاب، أو سنة أو إجماع، والماء الذي منع الإجماع الطهارة منه: هو الماء الذى غلبت عليه النجاسة بلون، أوطعم، أو ريح (¬2). ولا يرفع الحدث سائل آخر غير الماء: قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الحدث لا يرفع بسائل آخر غير الماء، كالزيت، والدهن، والمرق (¬3). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) الأوسط (2/ 268). (¬3) الأوسط لابن المنذر (1/ 253).

وقال الغزالي: الطهورية مختصة بالماء من بين سائر المائعات، أما في طهارة الحدث فبالإجماع (¬1). وتعقبه النووي في المجموع شرح المهذب، فقال: حكى أصحابنا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبي بكر الأصم: أنه يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة بكل مائع طاهر، قال القاضي أبو الطيب إلا الدمع فإن الأصم يوافق على منع الوضوء به، ثم قال: والأول أرجح؛ قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (¬2)، فأحالنا إلىالتيمم عند عدم الماء، ولم ينقلنا إلى سائل آخر (¬3). قلت: ويستثنى من السوائل النبيذ فإنه مختلف في رفع الحدث به: فقيل: يتوضأ به إن لم يجد غيره، وهو مذهب أبي حنيفة (¬4). وقيل: يتوضأ به ويتيمم، وهو مذهب محمد بن الحسن (¬5). وقيل: يتيمم، ولا يتوضأ به، وهو مذهب المالكية (¬6)،والشافعية (¬7)، ¬

(¬1) الوسيط (1/ 107،108). (¬2) المائدة: 6. (¬3) المجموع (1/ 139) وقال النووي: وأما قول الغزالي في الوسيط: طهارة الحدث مخصوصة بالماء بالإجماع، فمحمول على أنه لم يبلغه قول ابن أبي ليلى إن صح عنه. اهـ (¬4) المبسوط (2/ 90)، بدائع الصنائع (1/ 15)، العناية شرح الهداية (1/ 118)، أحكام القرآن (2/ 543). (¬5) البناية (1/ 464)، وفتح القدير (1/ 118، 119)، بدائع الصنائع (1/ 15) .. (¬6) قال مالك في المدونة (1/ 114): " ولا يتوضأ بشيء من الأنبذة، ولا العسل الممزوج بالماء، قال: والتيمم أحب إلي من ذلك " اهـ. (¬7) انظر الأم (1/ 7) قال النووي في المجموع (1/ 140): " أما النبيذ فلا يجوز الطهارة به عندنا على أي صفة كان من عسل أو تمر، أو زبيب، أو غيرها، مطبوخاً كان أو غيره، فإن نشَّ أو أسكر فهو نجس يحرم شربه، وعلى شاربه الحد، وإن لم ينش فطاهر لا يحرم =

والحنابلة (¬1)، واختاره أبو يوسف والطحاوي من الحنفية (¬2)، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬3)، وهو اختيار ابن حزم (¬4). وقد سبق أن ذكرت أدلتهم وبيان الراجح في كتاب أحكام الطهارة: أحكام المياه، فانظره هناك مشكوراً. فإذا لم يوجد الماء الطهور فإنه يتيمم، وهذه مسألة خلافية أعني التيمم من الجنب، وسوف أتعرض لذكر الخلاف فيها إن شاء الله تعالى في كتاب التيمم، بلغنا الله إياه بمنه وكرمه. قولنا: لا يرفع الحدث إلا الماء الطهور، لا أعني به إثبات قسم الماء الطاهر في نفسه غير المطهر لغيره، وهي مسألة بحثت في أقسام المياه، وخلصت إلى أن الماء قسمان على القول الصحيح: طهور، ونجس، بخلاف مذهب الجمهور الذي يذهب إلى إثبات قسم الماء الطاهر، المستعمل عندهم في الأكل والشرب، ولا يستعمل في رفع الحدث، ومن أراد الإطلاع على أدلة القوم فليرجع إليه في كتاب الطهارة: في أحكام المياه، في مبحث أقسام المياه، والله الموفق. ¬

= شربه، ولكن لا تجوز الطهارة به، هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف والجمهور " اهـ. (¬1) مسائل أحمد رواية عبد الله (1/ 22)، ومسائل ابن هانئ (1/ 5)، ومسائل أحمد وإسحاق (1/ 127)، المغني (1/ 23)، الانتصار في المسائل الكبار (1/ 136)، الكافي لابن قدامة (1/ 6)، المبدع (1/ 42)، تنقيح التحقيق (1/ 225). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 15) المبسوط (2/ 90)، تبيين الحقائق (1/ 35)، العناية شرح الهداية (1/ 118). (¬3) تبيين الحقائق (1/ 35). (¬4) المحلى (مسألة: 148).

الفرض الثاني النية

الفرض الثاني النية اختلف العلماء في حكم النية في طهارة الحدث عموماً: الأصغر والأكبر، فقيل: النية سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في طهارة التيمم، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: النية شرط لطهارة الحدث مطلقاً الأصغر والأكبر، بالماء أو التيمم، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وهو الراجح. وقيل: يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بلا نية، وهو قول الأوزاعي (¬5). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 32)، البناية في شرح الهداية (1/ 173)، تبيين الحقائق (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 24)، بدائع الصنائع (1/ 19)، مراقي الفلاح (ص:29). (¬2) المالكية يرون أن النية فرض من فروض الوضوء، فهم يتفقون مع الجمهور على وجوبها، ويختلفون في حكم الوجوب، هل هي شرط في صحة الوضوء، أو فرض من فروض الوضوء؟ فالشافعية والحنابلة يرون أن النية شرط، بينما المالكية يرون أن النية من فروض الوضوء انظر حاشية الدسوقي (1/ 85)، مواهب الجليل (1/ 182،230)، الفواكه الدواني (1/ 135)، مختصر خليل (ص: 13)، القوانين الفقهية (ص:19)، الخرشي (1/ 129)، الشرح الصغير (1/ 114،115)، منح الجليل (1/ 84)، الكافي (1/ 19). (¬3) المجموع (1/ 355)، الروضة (1/ 47)، مغني المحتاج (1/ 47)، نهاية المحتاج (1/ 156)، الحاوي الكبير (187)، متن أبي شجاع (ص:5). (¬4) معونة أولي النهى شرح المنتهى (1277)، الممتع شرح المقنع (1/ 176)، المحرر (1/ 11)، كشاف القناع (1/ 85)، المغني (1/ 156)، الكافي (1/ 23)، المبدع (1/ 116). (¬5) الأوسط لابن المنذر (1/ 370).

وسبب الاختلاف في اشتراط النية للطهارة ما قاله ابن رشد: اختلف العلماء هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا؟ بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (¬1) ثم قال: وسبب اختلافهم: تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة أعني غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى، كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى نية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين (¬2). وقد ذكرت أدلة الأقوال وناقشتها نقاشاً مستفيضاً في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية فارجع إليه غير مأمور. ولما كان الكلام في النية طويلاً ومتشعباً عقدت فصلاً خاصاً في كتاب الوضوء عن النية من حيث تعريفها، وبيان حكمها وذكر محلها، وشروطها، ووقتها، وكيفيتها، فالحمد لله على منه وفضله. ¬

(¬1) البينة: 5. (¬2) بداية المجتهد (1/ 103).

الفرض الثالث تعميم جميع الجسد بالغسل

الفرض الثالث تعميم جميع الجسد بالغسل اتفق الفقهاء على أن تعميم الجسد كله بالماء فرض من فروض الغسل (¬1). نقل الإجماع في هذا النووي وغيره (¬2). ومستند الإجماع في هذا قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬3). وقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬4). ومن السنة أحاديث كثيرة سبق ذكرها، منها حديث عائشة وميمونة وهما في الصحيحين، وحديث أم سلمة في مسلم، وحديث عمران بن حصين في البخاري للرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، ثم حضر الماء بعد، وكل هذه الأحاديث سبق تخريجها في هذا الكتاب. ولم يستثن من الإجماع إلا مسائل وقع فيها خلاف، منها: داخل الفم والأنف، وقد سبق بحث حكم المضمضة والاستنشاق، وخلصت إلى أنهما غير واجبين في الغسل. ¬

(¬1) انظر: المبسوط (1/ 44)، بدائع الصنائع (1/ 34)، المدخل (2/ 175)، الخرشي (1/ 167)، الفواكه الدواني (1/ 147)، حاشية الدسوقي (1/ 135)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 168)، المغني لابن قدامة (1/ 139)، الموسوعة الفقهية الكويتية (13/ 19). (¬2) انظر المجموع (2/ 212)، الموسوعة الكويتية (13/ 19). (¬3) النساء: 43. (¬4) المائدة: 6.

وكذلك لا يجب نقض ضفائر الرأس في الغسل وقد سبق بحث الخلاف فيه، كما لا يجب غسل المسترسل من الشعر، وقد سبق تحرير الخلاف فيه، وكذلك لا يجب غسل داخل فرج المرأة مطلقاً بكراً كانت أو ثيباً (¬1). وكذلك لا يجب غسل داخل العينين؛ لأنه لم ينقل غسلهما من المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولأنهما من الباطن الذي لم نؤمر بغسله؛ ولأن الغسل مضر بهما، ولأن غسلهما من الحرج المرفوع عن هذه الأمة، قال سبحانه وتعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬2). وقال سبحانه: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬3)، (¬4). وما عدا ذلك فإنه يجب إيصال الماء إليه حتى ولو كان غائراً، كعمق السرة ونحوها (¬5). ¬

(¬1) جاء في فتح الباري تحت حديث رقم (313) قوله: " نص أحمد على أنه لا يجب غسل باطن الفرج من حيض ولا جنابة ولا استنجاء. قال جعفر بن محمد: قلت لأحمد: إذا اغتسلت من المحيض تدخل يدها؟ قال: لا إلا ما ظهر، ولم ير أن تدخل أصابعها ولا يدها في فرجها في غسل ولا وضوء". وانظر كتاب الإنصاف (1/ 255 - 256). (¬2) الحج: 78. (¬3) المائدة: 6. (¬4) انظر شرح فتح القدير (1/ 57)، درر الحكام شرع غرر الأحكام (1/ 17). (¬5) قال في بدائع الصنائع (1/ 34): " ويجب إيصال الماء إلى داخل السرة؛ لإمكان الإيصال إليها بلا حرج ".

الباب السادس صفة الغسل الكامل والمجزئ

الباب السادس صفة الغسل الكامل والمجزئ بعد أن تكلمنا بشيء من تفصيل الخلاف، وذكر الأدلة على سنن الغسل، وآدابه، وفروضه، نستطيع أن نخلص من هذه المباحث بصفة الغسل الكامل والمجزئ منها على وجه الاختصار، وهذا العرض إنما هو خاص بما هو راجح لدى الباحث، وقد لا يكون راجحاً عند غيره، وربما لا يكون راجحاً في حقيقة الأمر، ومن أراد أن يطلع على وجه الترجيح، فلينظر المسألة في معرض ذكر خلاف العلماء فيها وأدلتها التفصيلية، المهم أن من اقتصر على الاطلاع على هذا الفصل، فلن يعرف وجه الحجة فيما رجحت، وكان يمكن أن يختم البحث بدون هذا الفصل، خاصة أن هذا الفصل خال من ذكر أدلة الترجيح، لولا ما تعود الفقهاء من ذكر صفة الغسل الكامل والمجزئ في بحوثهم، مما دفعني أن أختار هذه الطريقة لتجمع للطالب المبتدئ صفة الغسل على وجه الإيجاز، فأقول في صفة الغسل الكامل وبالله التوفيق: إذا أراد أن يغتسل، فلا بد أولاً من النية، وذلك بأن ينوي رفع الحدث، أو ينوي استباحة ما تشترط له الطهارة من صلاة ونحوها. ولا يتقدم الغسل أيُّ ذكر قولي، ومن ذلك البسملة، فإن الراجح أنها غير مشروعة لا في وضوء، ولا غسل، ولا تيمم. ثم يقوم بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء، ثلاثاً، أو مرتين. ثم يتمضمض ويستنشق مرة واحدة.

ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين غسلة واحدة، ولا يشرع تكرار غسلهما، ويكون غسلهما بنية الغسل، لا بنية رفع الحدث الأصغر، فهذا الوضوء صوري، وإنما المراد هو غسل بدنه، قُدِّمَ فيه غسل مواضع الوضوء لشرفها. ولا يشرع على الصحيح مسح رأسه، وإنما يخلل شعر رأسه بالماء حتى يبلغ الماء أصول شعره، وحتى يظن أنه قد أروى بشرته، ثم يفيض على رأسه ثلاثاً، مبتدئاً بجانب رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أعلى الرأس. ثم يفيض الماء على سائر جسده، ولا يعيد غسل مواضع الوضوء مرة أخرى. ثم يغسل قدميه. وبهذا يكون قد انتهى من الغسل مراعياً فيه سنن الغسل، ويكفي هذا الفعل في رفع الحدثين الأصغر والأكبر. وأما الغسل المجزئ، فهو أن ينوي الغسل، ثم يعم بدنه كله بالماء مرة واحدة، ولا يجب في هذا الغسل مضمضة ولا استنشاق، والله أعلم.

[التيمم]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي خلقنا من تراب، وجعله لأمتنا خاصة من بين سائر الأمم مسجداً وطهوراً، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه إلى يوم الدين،،، وبعد لما انتهيت بتوفيق من الله سبحانه وتعالى من أحكام الوضوء والغسل بالماء ناسب أن أنتقل إلى طهارة البدل منهما: وهو طهارة التيمم عند تعذر الماء أو العجز عن استعماله. ومن عناية الشارع بطهارة الحدث أن جعل لها بدلاً عند فقد آلته (الماء) أو عند العجز عن استعماله، بخلاف طهارة الخبث فلم يجعل لها بدلاً، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن مكن عباده من الصلوات: التي هي صلة بين العباد وبين خالقهم حتى في حالة عدم التمكن من الطهارة المائية، ولو منع الإنسان من الصلاة إلا في حالة وجود الماء لربما قسا قلب العبد بسبب تركه للصلوات أياماً وربما أسابيع بسبب عدم قيامه بما هو صلة بينه وبين ربه، فكان لطفاً من الله أن شرع التيمم مطهراً بدلاً من الماء، ليكون العبد متهيئاً لمناجاة الله في أعظم ركن عملي، وهو الصلاة، وهو ما أشار الله إليه في آية التيمم، من كون الغاية من مشروعية التيمم رفع الحرج عن هذه الأمة، والغاية الثانية تطهيرها، قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬1). ¬

(¬1) المائدة: 6.

خطة البحث

فكان الأمر قبل مشروعية التيمم إما أن يدع الإنسان الصلاة إلى حين وجود الماء ثم يقضي تلك الصلوات، أو يدع الصلاة من غير قضاء، وكل هذا فيه ما فيه من الحرج، فترك الصلوات فيه ما أشرنا إليه من قسوة القلب وغفلته عن ذكر ربه، وقد قال سبحانه وتعالى: {وأقم الصلاة لذكري} (¬1)، كما أن القضاء قد يشق على العبد إذا اجتمع إليه صلوات كثيرة خاصة في الأسفار التي تطول، ولا يكون الماء مقدوراً عليه، ثم فوات تطهير العبد الطهارة المعنوية من الوضوء، ومن بدله وهو التيمم، فترك الطهارة يجعل الذنوب تتراكم عليه، ولكن إذا كان يتعاهد نفسه بالوضوء أو ببدله بالتيمم، ثم بعد ذلك بالصلوات والتي ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها مثلاً بالنهر في باب أحدنا، يغتسل فيه باليوم خمس مرات، فلا يبقى من درن الإنسان شيئاً، وهكذا التيمم الذي يجعل المسلم بإمكانه أن يصلي ويتطهر من تلك الذنوب التي لا يسلم منها أحد، وكان الشرط في هذا البحث كغيره من البحوث السابقة التي سبقته، يقوم على تمهيد، وأبواب، وفصول ومباحث وفروع ومسائل على النحو التالي: خطة البحث: التمهيد: ويشتمل: على خمسة مباحث: المبحث الأول: تعريف التيمم. المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية التيمم. المبحث الثالث: في بدء مشروعية التيمم. المبحث الرابع: التيمم من خصائص الأمة المحمدية. المبحث الخامس: مشروعية التيمم على وفق القياس. ¬

(¬1) طه: 14.

الباب الأول: في حكم التيمم: الفصل الأول: في التيمم هل هو رخصه أو عزيمة. الفصل الثاني: هل التيمم يرفع الحدث، أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث؟. الفصل الثالث: إذا عدم الماء والصعيد. الفصل الرابع: في تأخير الصلاة لمن يرجو وجود الماء في آخر الوقت. الفصل الخامس: في حكم إمامه المتيمم للمتوضئ. الفصل السادس: في وطء عادم الماء. الباب الثاني: في الأسباب الموجبة للتيمم: الفصل الأول: فقد الماء، ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: إذا وجد ماء، لا يكفي للطهارة. المبحث الثاني: لو كان مع الجنب ما يكفي للوضوء. المبحث الثالث: لو كان المحدث على بدنه نجاسة ووجد ماء يكفي أحدهما. الفصل الثاني: في تعذر استعمال الماء، ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في تيمم المريض. المبحث الثاني: في تيمم الصحيح إذا كان يحتاج الماء لشرب ونحوه. المبحث الثالث: في الماء يباع بأكثر من ثمنه، هل يجب شراؤه، أو يتيمم؟.

المبحث الرابع: إذا وهب للرجل الماء، فهل يجب قبوله؟ الفصل الثالث: في التيمم خوفاً من فوات العبادة، ويشتمل على ثلاثة مباحث. المبحث الأول: إذا خاف خروج وقت الفريضة. المبحث الثاني: إذا خاف فوت صلاة الجنازة والعيد، فهل يتيمم؟ المبحث الثالث: التيمم لخوف فوات الجمعة. الباب الثالث: في شروط التيمم. الشرط الأول: النية، وينقسم البحث في النية إلى فصول ومباحث وفروع ومسائل على النحو التالي: الفصل الأول: في اشترط النية لطهارة التيمم. الفصل الثاني: لو سفت الرياح التراب على وجهه ونوى به التيمم. الفصل الثالث: في صفة النية. المبحث الأول: لو نوى مطلق التيمم. المبحث الثاني: إذا نوى المتيمم بتيممه رفع الحدث. المبحث الثالث: في اشتراط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر. الفرع الأول: لو تيمم ولم ينو ما تيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر. الفرع الثاني: لو تيمم للحدث الأصغر، فهل يرتفع حدثه الأكبر؟.

الفرع الثالث: في نية ما يتيمم له من صلاة ونحوهما. المسألة الأولى: لو نوى بالتيمم الصلاة وأطلق. المسألة الثانية: لو نوى أن يصلي نفلاً فهل يصلي به فريضة. المسألة الثالثة: لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة؟. المسألة الرابعة: إذا تيمم للفريضة، فهل يصلي به أكثر من فريضة. المسألة الخامسة: إذا تيمم للنافلة فهل له أن يصلي به نوافل أخرى. المبحث الرابع: لو تيمم يريد به تعليم الغير. الشرط الثاني: الإسلام. الشرط الثالث: التكليف. الشرط الرابع: انقطاع ما يوجب الحدث إلا في المعذور. الشرط الخامس: طلب الماء قبل التيمم. الباب الرابع: فيما يتيمم عنه. الفصل الأول: في التيمم عن الحدث. الفصل الثاني: في التيمم عن النجاسة.

الباب الخامس: في فروض التيمم الفرض الأول: مسح الوجه واليدين مع الاستيعاب. المبحث الأول: في ضرب اليدين في الأرض ليمسح بهما وجهه ويديه. المبحث الثاني: في استيعاب المسح للوجه واليدين. المبحث الثالث: في مسح ما تحت الشعر الخفيف في التيمم. المبحث الرابع: في صفة مسح الوجه واليدين عند الفقهاء،. المبحث الخامس: لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب. المبحث السادس: في مسح الوجه بيد واحدة أو إصبع واحد. الفرض الثاني: الترتيب في التيمم. الفرض الثالث: الموالاة في التيمم الباب السادس: في سنن التيمم الفصل الأول: في التسمية. الفصل الثاني: في تكرار المسح في التيمم. الفصل الثالث: في نفخ الأيدي بعد ضربها الأرض الفصل الرابع: في استحباب تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى. الفصل الخامس: في تجديد التيمم. الفصل السادس: في استقبال القبلة حال التيمم.

الفصل السابع: في إقبال اليدين وإدبارهما في التراب حال الضرب. الفصل الثامن: في البدء بأعلى الوجه حين المسح. الباب السابع: في مبطلات التيمم. الفصل الأول: يبطل التيمم ما يبطل الوضوء. الفصل الثاني: يبطل التيمم وجود الماء. المبحث الأول: وجود الماء قبل الصلاة. المبحث الثاني: إذا وجد الماء أثناء الصلاة. المبحث الثالث: إذا وجد المتيمم الماء بعد الفراغ من الصلاة. الفصل الثالث: خروج الوقت. هذه خطة البحث في هذا الكتاب، فإن يكن من صواب فهو من الله سبحانه وتعالى، وإن يكن من خطأ فهو من الشيطان، ومن ضعفي وتقصيري، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

التمهيد

التمهيد المبحث الأول: تعريف التيمم تعريف التيمم لغة واصطلاحاً: التيمم لغة: القصد، يقال: يمَّمتُه وتَيَمَّمته: إذا قصدته، وأصله التعمد والتوخي. ومنه قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (¬1)، أي: لا تقصدوا. وقوله سبحانه: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬2)، أي اقصدوا الصعيد الطيب. وقول كعب بن مالك: " فيممت بها التنور " أي: قصدت. ومنه قول الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني أأ الخير الذي أنا ابتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم اسماً علماً لمسح الوجه واليدين بالتراب (¬3). ¬

(¬1) البقرة: 267. (¬2) المائدة: 6. (¬3) انظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 299)، مختار الصحاح (ص: 310)، لسان العرب (12/ 23).

تعريف التيمم عند الفقهاء

تعريف التيمم عند الفقهاء: تعريف الحنفية: قال في بدائع الصنائع: " عبارة عن استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهر بشرائط مخصوصة " (¬1). تعريف المالكية: قال الصاوي في تعريف التيمم: " طهارة ترابية تشتمل على مسح الوجه واليدين بنية " (¬2). زاد بعضهم: تستعمل عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله، والمراد بالتراب: جنس الأرض فيشمل جميع أجزائها (¬3). تعريف الشافعية: قالوا: التيمم: إيصال التراب إلى الوجه واليدين بشروط بدلاً عن الوضوء، أو الغسل، أو بدلاً عن عضو من أعضائهما بشرائط مخصوصة (¬4). تعريف الحنابلة: قال البهوتي: " مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجه مخصوص" (¬5). وهذه التعريفات متقاربة، وقد قال أبو بكر بن العربي بأن التيمم له ثلاثة ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 45). (¬2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 179). (¬3) الفواكه الدواني (1/ 152)، شرح الخرشي لمختصر خليل (1/ 185). (¬4) حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 88)، تحفة المحتاج (1/ 324). (¬5) كشاف القناع (1/ 160)، وللاستزادة من الاطلاع على تعريف التيمم لغة انظر: شرح حدود ابن عرفة (ص: 42)، معجم مقاييس اللغة (1108).

أسماء، الأول: التيمم، قال الله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬1). الثاني: الوضوء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الصعيد الطيب وضوء المسلم، ولو لم يجد الماء عشر حجج " (¬2). الثالث: الطهور، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً " (¬3) (¬4). والاسمان الأخيران ليسا من باب التسمية اللغوية، وإنما هو من باب الحكم الشرعي، فالتيمم يقوم مقام الوضوء، كما أنه يطهر المسلم، أي يرفع حدثه، أو في حكم الطهور كما سيأتي تحرير الخلاف فيه إن شاء الله تعالى، هل التيمم مبيح أو رافع؟. ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) سبق تخريجه في كتاب أحكام الطهارة، رقم (39). (¬3) البخاري (335). (¬4) القبس شرح الموطأ (1/ 176).

المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية التيمم

المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية التيمم التيمم مشروع عند عدم الماء، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (¬1). ومن السنة، أحاديث كثيرة، منها: (1368 - 1) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ ... "الحديث (¬2). ورواه مسلم من طريق هشيم به، بلفظ: " وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً " (¬3). (1369 - 2) وروى مسلم في صحيحه من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) صحيح البخاري (335). (¬3) مسلم (521).

عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون (¬1). (1370 - 3) وروى مسلم أيضاً من طريقين عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خصلة أخرى (¬2). وأما الإجماع فقد نقله طائفة من أهل العلم، منهم: النووي فإنه قال: " إذا عدم الماء بعد طلبه المعتبر جاز له التيمم للآية، والأحاديث الصحيحة، والإجماع " (¬3). وقال صاحب كتاب رحمة الأمة: " التيمم بالصعيد الطيب عند عدم الماء أو الخوف من استعماله جائز بالإجماع " (¬4). وقال الشوكاني: " والحديث يدل على مشروعية التيمم للصلاة عند عدم الماء، من غير فرق بين الجنب وغيره، وقد أجمع العلماء على ذلك " (¬5). ¬

(¬1) مسلم (523). (¬2) مسلم (522). (¬3) المجموع (2/ 300). (¬4) رحمة الأمة (21). (¬5) نيل الأوطار (1/ 301).

المبحث الثالث: في بدء مشروعيته

المبحث الثالث: في بدء مشروعيته روت كتب السنة بدء مشروعية التيمم في أحاديث صحيحة، (1371 - 4) فقد روى البخاري رحمه الله من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته، ورواه مسلم (¬1). في هذا الحديث من الفقه: قول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض ¬

(¬1) صحيح البخاري (334)، ومسلم (367).

أسفاره " فيه دليل على جواز خروج النساء مع الرجال في الأسفار، وفي الغزوات إذا كان العسكر كبيراً يؤمن عليه الغلبة (¬1). وفيه أيضاً جواز تأديب الرجل ابنته ولو كانت متزوجة كبيرة خارجة عن بيته، ويلحق بذلك تأديب من له تأديبه (¬2). وفيه أيضاً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لم يبعث رجالاً في طلب العقد، وهو تحت البعير. وفيه أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى قد يربط تشريع بعض الأحكام بأسباب قدرية، وأخرى شرعية، فجعل غياب هذا العقد سبباً لمشروعية التيمم لجميع الأمة. وفيه إثبات البركة لبعض الصالحين، قال أسيد (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر " أي بل هي مسبوقة بغيرها من البركات، وفيه دليل على فضل عائشة وأبيها وتكرار البركة منهما (¬3)، وفي رواية للبخاري: جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة" (¬4). وفيه فرح الصحابة رضي الله عنهم بتيسير الأحكام عليهم، على خلاف ما ينشده بعض الناس في عصرنا من النزعة إلى التحريم، وحجب الأقوال التي ¬

(¬1) التمهيد (19/ 266). (¬2) فتح الباري تحت حديث رقم (334). (¬3) المرجع السابق. (¬4) البخاري (3773).

فيها تيسير على الأمة، بدعوى أن الناس قد يتهاونون، فيتجاوزن الحد المباح إلى الوقوع في المحرم، وهذا ليس من الفقه في شيء، واستحسان مخالف لمقاصد الشارع وقواعد الشرع. إن تعامل بعض الناس مع الخلاف يكشف لك أننا نعاني من أزمة حقيقية في التعامل مع الخلاف الفقهي، ونظن أن بالإمكان إلغاء الخلاف المحفوظ، وأننا بالقدر الذي نسفه فيه قول المخالف نردع الناس من الأخذ به وقبوله، ونعتقد بأن هذا الأسلوب يكفل لنا ترويج اختياراتنا الفقهية، ولذا إذا أتينا إلى أدلة المخالفين، نضع عنوانين تحكي نزعة الإلغاء والازدراء للقول الآخر، فيقول بعضهم: شبهات القائلين بالجواز، فنجعل أدلتهم مجرد شبهات، وليست أدلة قائمة، حتى ولو كان هذا القول هو قول الجمهور، وكأننا قد نزل علينا الوحي بأن قولنا هو الصواب، بينما المطلوب منا أن نتعامل مع تراث المسلمين الفقهي بشيء من الاحترام بصرف النظر عن الصواب والخطأ، وأن تكون عباراتنا بالترجيح تعكس مقدار الأدب الإسلامي المأمور به شرعاً، فنتجنب قدر المستطاع القطع في مسائل الخلاف، ونتجنب القول بأن هذا القول ساقط أو باطل، أو ليس عليه آثارة من علم، أو هذا القول سبب في رقة الدين، أو هذا قول شاذ، مع العلم أنه مذهب جماهير أهل العلم. إنني لا أدعو إلى اتباع قول الجمهور، لكونه كذلك، ومن قرأ البحوث السابقة تأكد له ذلك، ولكن مع وجوب اتباع ما يترجح يجب احترام قول الجمهور، بل وكل قول عالم من علماء هذه الأمة مع بيان الخطأ بالدليل الشرعي.

إن الوحي قد انقطع، والخلاف الفقهي في هذه الأمة قدر كوني وشرعي، وما زال الصحابة يختلفون في أمور الفقه، وما لم يعصم منه الصحابة فلن يعصم منه غيرهم، وإني لا يعجبني أبداً في أي بلد من المسلمين أن تقوم لجنة أو هيئة رسمية أو غير رسمية فتجعل من نفسها مرجعاً يجب الرد إليه عند التنازع في أمور فقهية قد حفظ فيها الخلاف، ولا ينبغي لها أن تتصدى بالرد على فلان أو فلان من طلبة العلم بسبب اختياره الفقهي ما دام داخلاً تحت الخلاف السائغ الذي قيل به من لدن السلف، ولا حجر عليها أن تذكر رأيها دون أن تتعرض لأحد باسمه، فمن شاء أن يأخذ بفتواها فله ذلك، ومن رأى أنه يسعه أن يأخذ برأي أحد من الأئمة فإن له ذلك أيضاً، ولا حجر عليه، وإذا أبت إلا الخوض في ذلك فلا بد أن يحفظ للطرف الأخر حقه بالرد عليهم، وبيان حجته فيما يطرحون، وأن يكون في مأمن من ظلمهم من منع كتابه من الطبع، فإن منع مثل ذلك يعتبر من الظلم والعدوان الذي لا يرضاه خلق ولا دين، ولم يكن من عمل السلف، فمن أعطى لنفسه حق الرد على الناس فليعط غيره حق الجواب على رده، ولا يسوغ أبداً أن يتكلم أحد في نيته أو في منهجه لمجرد أن رد على أحد من علماء عصره في مسألة يسوغ فيها الخلاف، وإذا كنا نعطي أنفسنا أن نخالف أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعائشة وابن عباس في مسائل فقهية وقع الخلاف بينهم فيها، وهم أجل قدراً وأوسع علماً، وقد زكاهم القرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمخالفة غيرهم من باب أولى، ولا يضيق بالخلاف من أوتى قدراً من العلم الشرعي، وعلم أن هذا سبيل المؤمنين، وليست المشكلة في الكلام النظري المجرد عن التطبيق، فإن كل واحد من

طلبة العلم يردد في مجالسه ودروسه المقولة المشهورة: كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن عند التطبيق تجد البون الشاسع بين ما يقال وبين ما يفعل، وليس هذا من صغار الطلبة، بل ممن ترأس وتصدر، فالله المستعان، وقد تركت ضرب الأمثلة من الواقع حتى لا أنكأ الجراح، وأزيد في سعة الخلاف، ولا أبرئ نفسي مما يقع فيه غيري، فإن طبيعة الإنسان الظلم والجهل إلا من وفقه الله سبحانه وتعالى.

المبحث الرابع: التيمم من خصائص الأمة المحمدية

المبحث الرابع: التيمم من خصائص الأمة المحمدية التيمم من الخصائص التي اختص الله بها هذه الأمة، وقد دل على ذلك السنة والإجماع. أما السنة، (1372 - 5) فقد روى البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديث (¬1). ورواه مسلم من طريق هشيم به، بلفظ: " وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً " (¬2). (1373 - 6) وروى مسلم في صحيحه من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (335). (¬2) مسلم (521). (¬3) مسلم (523).

(1374 - 7) وروى مسلم أيضاً من طريقين عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث (¬1): جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خصلة أخرى (¬2). قال ابن عبد البر - رحمه الله تعالى -: " وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: جعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً " في تعديد فضائله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه (¬3)، ¬

(¬1) اختلاف الأحاديث، ففي بعضها: أعطيت خمساً، وفي بعضها: ستاً، وفي بعضها: ثلاثاً، أجاب عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح تحت حديث (335)، فقال: " طريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولاً على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي. ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله ". اهـ قلت: الراجح أن العدد لا مفهوم له، وإنما هو طريقة من طرق الحفظ والتعليم. (¬2) مسلم (522). قال القاضي عياض في إكمال المعلم (2/ 437): " قوله: " فضلنا على الناس بثلاث: ظاهره أنه ذكر ثلاث خصال، وإنما هي اثنتان كما ذكر؛ لأن قضية الأرض كلها خصلة واحدة، والثالثة التي لم تذكر بينها النسائي من رواية أبي مالك بسنده هنا، وقال: وأتيت هذه الآيات من خواتم البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن أحد قبلي، ولا يعطهن أحد بعدي" اهـ. (¬3) حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رواه أحمد (1/ 98)، وابن أبي شيبة (6/ 304) رقم: 31647، والبزار (656) من طريق زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، =

وابن عباس (¬1)، وجابر (¬2)، وأبي هريرة (¬3)، وأبي موسى (¬4)، وحذيفة (¬5)، وهي آثار كلها صحاح ثابتة، كرهت ذكرها بأسانيدها خشية الإطالة، وقد ذكرها كلها أو أكثرها أبو بكر ابن أبي شيبة في أول كتاب الفضائل" (¬6). وأما الإجماع، فقد نقل الإجماع طائفة من أهل العلم. ¬

= وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم ". رجاله ثقات إلا ابن عقيل، فإن أكثر العلماء على ضعفه، وإنما يتقى من حديثه ما ينفرد به، وهذا الحديث له شواهد كثيرة، فأرجو أن يكون ابن عقيل قد حفظ هذا الحديث، والله أعلم. (¬1) سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى في آخر هذا الفصل. (¬2) تقدم تخريجه في أول الفصل، وأنه في الصحيحين. (¬3) تقدم تخريجه، وأنه في صحيح مسلم. (¬4) الحديث رواه إسرائيل، واختلف عليه فيه: فرواه حسين بن محمد المروذي كما في مسند أحمد (4/ 416) عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى موصولاً. وتابعه على وصله عبيد الله بن موسى في مصنف ابن أبي شيبة (6/ 304)، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل به. وخالفهما أبو أحمد الزبيري كما في مسند أحمد موصولاً بالرواية السابقة، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر معناه، ولم يسنده. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 258): " رواه أحمد متصلاً ومرسلاً، ورجاله رجال الصحيح ". (¬5) تقدم تخريجه، وهو في صحيح مسلم. (¬6) التمهيد (5/ 223).

قال في منح الجليل: " وهو من خصائص هذه الأمة إجماعاً " (¬1). وقال الصاوي: "وهو من خصائص هذه الأمة اتفاقاً، بل إجماعاً " (¬2). وقال الحطاب: " وانعقد الإجماع على مشروعيته، وعلى أنه من خصائص هذه الأمة لطفاً من الله بها، وإحساناً " (¬3). كما صرح جملة من العلماء على أن التيمم من خصائص هذه الأمة، وإن لم ينصوا على ذكر الإجماع، منهم: ابن الهمام في فتح القدير (¬4) وابن نجيم في البحر الرائق (¬5)، وابن عابدين في حاشيته (¬6)، وهؤلاء من الحنفية. ومن المالكية: الخرشي في شرحه لمختصر خليل (¬7)، والنفرواي في الفواكه الدواني (¬8)، والقرافي في الذخيرة (¬9). ومن الشافعية: العراقي في طرح التثريب (¬10)،، وقليوبي وعميرة في حاشيتهما (¬11). ¬

(¬1) منح الجليل (1/ 143). (¬2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 179). (¬3) مواهب الجليل (1/ 325). (¬4) شرح فتح القدير (1/ 137). (¬5) البحر الرائق (1/ 163). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 229). (¬7) الخرشي (1/ 184). (¬8) الفواكه الدواني (1/ 152). (¬9) الذخيرة (1/ 334). (¬10) طرح التثريب (2/ 111). (¬11) حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/ 88).

ومن الحنابلة: ابن مفلح في الفروع (¬1)،،، والبهوتي في كشاف القناع (¬2). وغيرهم خلق كثير من حملة العلم الشرعي تركتهم اقتصاراً واختصاراً. قال النفرواي: " وهو من خصائص هذه الأمة؛ لأن الأمم السابقة لا تصلي إلا بالوضوء، كما أنها كانت لا تصلي إلا في أماكن مخصوصة يعينونها للصلاة، ويسمونها بيعاً وكنائس وصوامع، ومن عدم منهم الماء، أو غاب عن محل صلاته يدع الصلاة حتى يجد الماء، أو يعود إلى مصلاه " (¬3). وذكر اللالكائي في كتابه اعتقاد أهل السنة: " جعلت له ولأمته الأرض مسجداً، وكان غيره من الأنبياء لا تجزئ صلاته إلا في كنائسهم وبيعهم" وقال أيضاً: " وجعل التراب له ولأمته طهوراً إذا عدم الماء " (¬4). ونقل الحافظ عن ابن التين قوله:: " المراد جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وجعلت لغيري مسجداً، ولم تجعل له طهوراً؛ لأن عيسى كان يسبح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، كذا قال وسبقه إلى ذلك الداودي " (¬5). وقال القاضي عياض: " وأما اختصاصه بكون الأرض له مسجداً وطهوراً، فيدل أن التيمم لم يشرع لغيره قبله، وأما كونها مسجداً فقيل: ¬

(¬1) الفروع (1/ 366)، (¬2) كشاف القناع (1/ 160). (¬3) الفواكه الدواني (1/ 152). (¬4) اعتقاد أهل السنة (4/ 782). (¬5) الفتح، تحت حديث رقم (335).

إن من كان قبله من الأنبياء كانوا لا يصلون إلا فيما أيقنوا طهارته من الأرض، وخص نبينا وأمته بجواز الصلاة على الأرض إلا ما تيقنت نجاسته منها" (¬1). قال الحافظ: " والأظهر ما قاله الخطابي: وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: " وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم " (¬2)، وهذا ¬

(¬1) إكمال المعلم (2/ 437). (¬2) هذا الحديث رواه أحمد في مسنده (2/ 222) من طريق ابن الهاد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام غزوة تبوك، قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى وانصرف إليهم، فقال لهم: لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي: أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعباً، وأحلت لي الغنائم أكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم، والخامسة، هي ما هي؟ قيل لي: سل، فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم، ولمن شهد أن لا إله إلا الله. وهذا الحديث إسناده حسن إن شاء الله تعالى، وله شواهد كثيرة في الصحيح وفي غيره، والله أعلم. قال ابن كثير في تفسيره (2/ 256): " إسناد جيد قوي، ولم يخرجوه ". وقال المنذري في الترغيب والترهيب (5498): رواه أحمد بإسناد صحيح. اهـ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 367): رواه أحمد، ورجاله ثقات. اهـ

نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية. ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس (¬1) بنحو حديث الباب فيه: "ولم يكن من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه " (¬2). ¬

(¬1) رواه البزار (2366) و (2441) والبخاري في التاريخ الكبير (4/ 114) والبيهقي في السنن (2/ 433)، وفي دلائل النبوة (5/ 473) من طريق عبيد الله بن موسى، عن سالم أبي حماد، عن السدي،، عن عكرمة، عن ابن عباس. وفي إسناده سالم أبو حماد، قال أبو حاتم: شيخ مجهول، لا أعلم روى عنه غير عبيد الله ابن موسى. الجرح والتعديل (4/ 192). وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 411). وقال الذهبي في المغني (1/ 365): مجهول. وقال في ميزان الاعتدال (2/ 111): حديث منكر. وسكت عليه الحافظ في الفتح، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 258): " رواه البزار، وفيه من لم أعرفهم ". كما أن في إسناده السدي، صدوق يهم. وقد جاء الحديث من مسند ابن عباس بإسناد أمثل من هذا، ولكن ليس فيه (لا يصلي حتى يبلغ محرابه)، انظر مسند أحمد (1/ 301)، ومصنف ابن أبي شيبة (6/ 303)، وابن أبي عاصم في السنة (803)، والبزار كما في كشف الأستار (3460). (¬2) الفتح، تحت حديث رقم (335).

المبحث الخامس: مشروعية التيمم على وفق القياس

المبحث الخامس: مشروعية التيمم على وفق القياس اختلف العلماء في كون التيمم مطهراً، هل هذا على وفق القياس، أو مخالف للقياس، مع أني أتحفظ على هذا الطرح، لولا أن هذا موجود في كتب الفقه؛ لأننا نرى أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس، إن كان المقصود بالقياس: هو النظر والحكمة؛ لأن أحكام الشرع لا تخالف المعقول، وإن كان شيء متهماً فهو في عجز العقول عن إدراك أسرار الأحكام، فأحكام الله من لدن حكيم خبير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ والبحث في العلة إنما هو في حدود الحاجة إلى تعدية النص من أصل منصوص عليه إلى فرع لعلة جامعة، فيلحق النظير بنظيره؛ لأن النصوص محدودة، والوقائع غير متناهية، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها، ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، وكأن السائلة رأت أن هذا مخالف للقياس، فإما أن يسقط القضاء عنهما، أو تكلف بقضاء كليهما، فقالت: كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة " (¬1)، فأرجعت الشأن إلى النص. فإذا علم هذا، فقد اختلف العلماء في التيمم، فذهب بعض أهل العلم إلى أن رفع الحدث بالتيمم على خلاف القياس (¬2). ¬

(¬1) صحيح مسلم (335)، البخاري (321). (¬2) إعلام الموقعين (1/ 300)، مجموع الفتاوى (20/ 504)، المستصفى (ص: 325)، البحر المحيط (7/ 119)، التقرير والتحبير (3/ 126)، شرح الكوكب المنير (ص: 483).

وذهب ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى إلى أن التيمم على وفق القياس، وأنه لا يوجد شيء في الشرع يخالف القياس الصحيح (¬1). حجة من قال: إن التيمم ليس جارياً على وفق القياس. استدلوا بدليلين: أحدهما: أن التراب ملوث، لا يزيل درناً ولا وسخاً، ولا يطهر البدن، كما لا يطهر الثوب. الثاني: أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها، وهذا خروج عن القياس الصحيح، ولذلك حين استعمل عمار القياس تمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة؛ ليعم بدنه كله بالتراب، كما يعم بدنه كله بالماء في غسل الجنابة. وأجاب ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله على ذلك، وذكرا كلاماً طويلاً في رد هذا القول، أورد إن شاء الله تعالى ما أحتاج إليه مختصراً ومقتصراً. لفظ القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح، والقياس الفاسد: فالقياس الصحيح: هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين: الأول: قياس الطرد. والثاني: قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق الحكم بها في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس ¬

(¬1) إعلام الموقعين (1/ 300)، مجموع الفتاوى (20/ 504).

لا تأتي الشريعة بخلافه قط، وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع، فمثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفارق به نظائره، فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواته لغيره، لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس، وقد لا يظهر، وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد، فمن رأى شيئاً من الشريعة مخالفاً للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفاً للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر (¬1). " فليس في الشريعة ما يخالف قياساً صحيحاً، لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده " (¬2). والحديث إذا خالف أصلاً عند المخالفين، فإن هذا الحديث هو أصل بنفسه، كما أن غيره أصل، فلا تضرب الأصول بعضها ببعض، بل يجب اتباعها كلها، فإنها كلها من عند الله (¬3). وقال ابن تيمية: " وبالجملة فما عرفت حديثاً صحيحاً إلا ويمكن تخرجه على الأصول الثابتة، وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع، فما رأيت قياساً صحيحاً يخالف حديثاً صحيحاً، كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياساً يخالف أثراً فلا بد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثير منه على أفاضل العلماء فضلاً ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 504). (¬2) المرجع السابق. (¬3) انظر مجموع الفتاوى (20/ 557).

عمن هو دونهم؛ فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها، ومعرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم، فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفاً للنصوص؛ لخفاء القياس الصحيح عليهم، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام" (¬1). وقال ابن القيم رحمه الله: التيمم على وفق القياس الصحيح؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل من الماء كل شيء حي، وخلقنا من التراب، فلنا مادتان: الماء والتراب، فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا، وبهما تطهرنا وتعبدنا، فالتراب أصل ما خلق منه الناس، والماء حياة كل شيء، وهما الأصل في الطبائع التي ركب الله عليهما هذا العالم، وجعل قوامه بهما، وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار: هو الماء في الأمر المعتاد، فلم يجز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه، وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره، وإن لوث ظاهراً فإنه يطهر باطناً، ثم يُقَوِّى طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال، وارتباط الظاهر بالباطن، وتأثر كل منهما بالآخر، وانفعاله عنه ". قلت: من يسلم أن التراب ملوث غير مطهر، فهذا الكلام يصادم النص المنقول، ويصادم الأمر المعقول. أما النص، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن ¬

(¬1) المرجع السابق (20/ 567).

لم يجد الماء عشر سنين " (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " (¬2). والطهور: ما يطهر غيره. وأما موافقته للمعقول، فإن طهارة الخبث إذا أمكن إزالتها بالتراب، وهي عين خبيثة، وطهارتها معقولة المعنى، كما في الاستجمار، وكما في طهارة النعل بدلكها بالتراب، وكما في تطهير الإناء من ولوغ الكلب ونحوها من النجاسات، فلأن يطهر التراب طهارة الحدث، والتي هي ليست عن نجاسة أصلاً من باب أولى، فما كان له قوة في إزالة النجاسة، كان له قوة في رفع الحدث بشرطه كالماء والتراب. وأما كونه في عضوين، يقول ابن القيم: " فهذا في غاية الموافقة للقياس، فإن وضع التراب على الرؤوس مكروه في العادات، وإنما يفعل عند المصائب والنوائب، والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع، والتعظيم لله، والذل له، والإنكسار لله ما هو من أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد، ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد، وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال: " ترب وجهك " وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين. وأيضاً فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر: وهو أن التيمم جعل في ¬

(¬1) سبق تخريجه في كتابي أحكام الطهارة، المياه والآنية، رقم (39)، وهو جزء من هذه السلسلة. (¬2) سبق تخريجه في المبحث السابق.

العضوين المغسولين، وسقط عن العضوين الممسوحين، فإن الرجلين تمسحان في الخف، والرأس في العمامة، فلما خفف عن المغسولين بالمسح، خفف عن الممسوحين بالعفو؛ إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب، فظهر أن الذي جاءت به الشرعية هو أعدل الأمور، وأكملها، وهو الميزان الصحيح " (¬1). وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى، والله أعلم. ¬

(¬1) إعلام الموقعين (1/ 300).

الباب الأول: في حكم التيمم

الباب الأول: في حكم التيمم الفصل الأول: في التيمم هل هو رخصة أو عزيمة؟ تعريف الرخصة: الرخصة في اللغة تطلق على التيسير والتسهيل، يقال: رخص الشرع في كذا: إذا يسره وسهله. والرخصة في الأمر: هو خلاف التشديد. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " (¬1). ويقال: رَخُص السعر: إذا تراجع وسهل الشراء. ويقال: رخَّص له في الأمر: إذا أذن له فيه وسهله بعد أن كان ممنوعاً. والرخصة: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه. وأما العزيمة: فالعزم عبارة عن القصد المؤكد، قال الله تعالى: {فنسي ¬

(¬1) رواه أحمد في المسند (2/ 108) من حديث ابن عمر، وهو حديث حسن، وسبق تخريجه بتمامه في كتاب أحكام المسح على الحائل، رقم (43).

ولم نجد له عزماً} (¬1)، أي: قصداً بليغاً، وسمي بعض الرسل أولي العزم، لتأكيد قصدهم في طلب الحق (¬2). وفي اصطلاح الفقهاء: الرخصة، قال الغزالي: عبارة عما وُسِّعَ للمكلف في فعله لعذر، وعجز عنه مع قيام السبب المحرم (¬3). وقال في شرح المجلة: هي الأحكام التي ثبتت مشروعيتها بناء على الأعذار مع قيام الدليل المحرم توسعاً في الضيق (¬4). وقيل: الرخصة ما شرع على وجه التسهيل والتخفيف (¬5). وقيل: حكم شرعي سهل، انتقل إليه من حكم شرعي صعب لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي (¬6). وأما العزيمة: فقيل: هو الحكم الأصلي السالم موجبه عن المعارض (¬7). وإذ عرفنا الرخصة والعزيمة، فقد اختلف العلماء في التيمم، هل هو رخصة أو عزيمة؟. ¬

(¬1) طه: 115. (¬2) لسان العرب (7/ 40) و (12/ 401) مختار الصحاح (ص: 101، 181). (¬3) المستصفى (ص:78). (¬4) درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 35). (¬5) الفواكه الدواني (1/ 161). (¬6) الخرشي (1/ 176). (¬7) البحر المحيط (2/ 29 - 30)، وكذا قال في شرح الكوكب المنير (ص: 149)، فقد عرف العزيمة بقوله: " حكم ثاب بدليل شرعي خال عن معارض راجح.

فقيل: رخصة، وهو مذهب الجمهور (¬1)، وأومأ إليه ابن القيم رحمه الله (¬2). وقيل: عزيمة، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: عزيمة عند عدم الماء، رخصة في حق المريض إذا تيمم مع وجود الماء، أو مع بُعْدِه، أو بيعه بأكثر من ثمنه، وهو قول في مذهب المالكية (¬5)، ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: تبيين الحقائق (1/ 37)، شرح فتح القدير (1/ 123)، البحر الرائق (1/ 146). وفي مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/ 325 - 326)، الفواكه الدواني (1/ 152)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 179). وفي مذهب الشافعية، قال النووي في المجموع (2/ 238): " وهو - يعني: التيمم - رخصة وفضيلة، اختصت بها هذه الأمة ". وانظر نهاية المحتاج (1/ 263). (¬2) قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 301): " وأما كون تيمم الجنب كتيمم المحدث، فلما سقط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث، سقط مسح البدن كله بالتراب بطريق الأولى؛ إذ في ذلك من المشقة والحرج والعسر ما يناقض رخصة التيمم ". (¬3) قال في المنثور في القواعد (2/ 165): " ومنه التيمم لفقد الماء أو للخوف من استعماله إذا جعلناه رخصة، وهو ما أورده الإمام والرافعي. والثاني: أنه عزيمة، وهو ما أورده البندنيجي. والثالث: التفصيل بين التيمم لعدم الماء فعزيمة، أو للمريض أو بعد الماء عنه، أو بيعه بأكثر من الثمن فرخصة، وهو ما أورده الغزالي في المستصفى ... ". (¬4) المغني (1/ 52)، شرح منتهى الإرادات (1/ 62). (¬5) مواهب الجليل (1/ 325 - 326)، الفواكه الدواني (1/ 152)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 179) ..

وقول في مذهب الشافعية (¬1). وسبب الخلاف في التيمم، هل هو عزيمة أو رخصة؟ أن بعض العلماء لا يرى أن الرخصة تكون في الواجبات، والتيمم واجب عند عدم الماء أو العجز عن استعماله، فلا يلحق بالرخص، وبعض العلماء لا يرى مانعاً من إلحاقه بالرخصة وإن كان واجباً، لأن الرخصة عنده تنقسم إلى واجب ومندوب ومباح (¬2). فإن قيل: كيف يكون الشيء واجباً ويكون رخصة؟ قيل: أكل الميتة للمضطر واجب لإنقاذ نفسه من الهلكة، فهو من حيث وجوب الأكل عزيمة، ومن حيث إسقاط العقاب والعفو عن الفعل هو رخصة (¬3). ¬

(¬1) انظر المنثور في القواعد (2/ 165). (¬2) البحر المحيط (2/ 34)، ومواهب الجليل (1/ 326) الأشباه والنظائر (ص: 82). (¬3) اختلف العلماء في أكل الميتة للمضطر: فمنهم من يرى أن أكل الميتة عزيمة لا رخصة؛ لوجوب الأكل، وذلك لأنه سبب لإحياء النفس، وما كان كذلك فهو واجب، ولقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] اختاره من الشافعية إلكيا الهراسي. ومنهم من يرى أن أكل الميتة من الرخص الواجبة، وهذا مذهب الشافعية، انظر المجموع (4/ 220)، والبحر المحيط (2/ 34)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 82)، شرح الكوكب المنير (ص: 150). ومنهم من يرى أن أكل الميتة للمضطر جائز، وليس بواجب، بناء على أن القول بالوجوب يتنافى مع الترخيص، فلا يأثم بالامتناع عن أكلها، مثله مثل لو أخذ بالعزيمة، وامتنع عن قول كلمة الكفر وإذا أكل، فقيل: ترتفع الحرمة في هذه الحال، فيصير أكلها مباحاً. =

دليل من قال: التيمم رخصة

ومثله دفع الغصة بالخمر إذا خاف على نفسه، فهو واجب ورخصة أيضاً (¬1). وذكر بعضهم ثمرة الخلاف في هذه المسألة، في تيمم العاصي بسفره، فعلى أنه عزيمة، يتيمم ولو كان عاصياً، وعلى أنه رخصة لا يتيمم (¬2). والحق أنه يتيمم مطلقاً، سواء كان عاصياً في سفره أو لا، وقد بحثت هذه المسألة فيما سبق وذكرت أدلة الأقوال مع بيان الراجح، مع أن التيمم ليس من الرخص الخاصة بالسفر على القول بأنه رخصة؛ لأن القائلين بمنع العاصي من الرخص في السفر خصوا ذلك بالرخص الخاصة بالسفر، كالقصر والفطر في رمضان، فإنها من رخص السفر خاصة، والله أعلم (¬3). دليل من قال: التيمم رخصة. الدليل الأول: (1375 - 8) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ¬

= وقيل: يبقى التحريم، ويرتفع الإثم فقط، لقوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه " [البقرة: 173] فنفى الإثم فقط، وإلى هذا ذهب أبو يوسف من الحنفية، انظر التقرير والتحرير (2/ 151)، والموسوعة الكويتية (22/ 155). (¬1) انظر المستصفى للغزالي (ص: 79). (¬2) مواهب الجليل (1/ 326)، وانظر الفتاوى الفقهية الكبرى للرملي (1/ 230). (¬3) قال في الشرح الكبير (1/ 143): " وضابط الراجح: أن كل رخصة جازت في الحضر كمسح خف، وتيمم، وأكل ميتة، فتفعل وإن من عاص بالسفر، وكل رخصة تختص بالسفر كقصر الصلاة وفطر رمضان فشرطه أن لا يكون عاصياً به ".

عن عمار بن ياسر أبي اليقظان، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضاء الفجر، فتغيظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليهم الرخصة في المسح بالصعدات، فدخل عليها أبو بكر، فقال: إنك لمباركة، لقد نزل علينا فيك رخصة، فضربنا بأيدينا لوجوهنا، وضربنا بأيدينا ضربة إلى المناكب والآباط [الحديث مطضرب الإسناد منكر المتن] (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " فنزلت عليهم الرخصة في المسح " وقول أبي بكر: " لقد نزل علينا فيك رخصة ". ويجاب عن ذلك: أولاً: الحديث إسناده منقطع على اختلاف فيه، كما أن متنه منكر، وقد اختلف فيه على الزهري (¬2). ¬

(¬1) المسند (4/ 320). (¬2) الحديث اختلف فيه على الزهري، فروي عنه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: الزهري، عن عبيد الله، عن عمار بن ياسر. رواه ابن أبي ذئب، واختلف عليه فيه: فرواه الطيالسي في مسنده (637) ومن طريقه رواه البيهقي (1/ 208)، وأبو يعلى في مسنده (1633). وحجاج بن محمد كما في مسند أحمد (4/ 320). كلاهما رواه عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله، عن عمار بذكر ضربتين للتيمم، والمسح إلى المناكب والآباط. وخالفهما يزيد بن هارون، فأخرجه الطحاوي (1/ 111)، والشاشي في مسنده =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (1040) من طريقه، عن ابن أبي ذئب به، ولم يذكر ضربتين، وفيه: " فقام المسلمون فضربوا بأيديهم إلى الأرض، فمسحوا بها وجوههم، وظاهر أيديهم إلى المناكب، وباطنها إلى الآباط". ورواه يونس بن يزيد كما في مسند أحمد (4/ 321)، وأبو داود (318،319)، وابن ماجه (571)، ومعمر كما في مصنف عبد الرزاق (827)، وأحمد (4/ 320)، وأبو يعلى (1632)، وابن المنذر في الأوسط (535)، عن الزهري به بذكر ضربتين للتيمم كما هي رواية ابن أبي ذئب، من طريق الطيالسي وحجاج بن محمد عنه. ومعمر قد اختلف عليه في الحديث، فرواه من غير طريق الزهري، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ورواه الليث بن سعد، كما في سنن ابن ماجه (565)، ومسند الشاشي (1041)، وذكره البيهقي في السنن (1/ 208) عن الزهري به ولم يذكر الضربتين، ولعله اختصره. كما رواه عقيل عن الزهري به ذكره ابن أبي حاتم في العلل (61). وعلى كل حال فهذا إسناد منقطع، عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يسمع من عمار، كما ذكره المزي في تحفة الأشراف (7/ 481). الوجه الثاني: الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار به، فزاد في الإسناد والد عبيد الله، رواه عن الزهري ثلاثة: الأول: مالك، كما في سنن النسائي الكبرى (301)، وفي المجتبى (315)، ومسند الشاشي (1042)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 110)، وابن حبان (1310)، والبيهقي في السنن (1/ 208). والثاني: عمرو بن دينار كما في شرح معاني الآثار (111)، والثالث: أبو أويس كما في مسند أبي يعلى الموصلي (1631)، ثلاثتهم رووه عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار، فجعلوا بين عبيد الله وبين عمار أبا عبيد الله. ولم يذكر الضربتين، وإنما فيه: " تيممنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتراب، فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب. الوجه الثالث: الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمار. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رواه محمد بن إسحاق، كما في مسند البرزا (1383، 1384)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 110) عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمار بذكر الضربتين للتيمم. وخالفه عبد الرحمن بن إسحاق كما في مسند أبي يعلى (1609، 1652). وصالح بن كيسان، كما في مسند أحمد (4/ 263 - 264)، وأبو داود (320)، والنسائي في المجتبى (314)، وفي الكبرى (300)، والمنتقى لابن الجارود (121)، وأبو يعلى في مسنده (1629)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 110، 111)، والشاشي في مسنده (1024)، وابن عبد البر في التمهيد (19/ 270) كلاهما (عبد الرحمن بن إسحاق، وصالح ابن كيسان) روياه عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمار، ولم يذكروا ضربتين للتيمم، وإنما ذكروا ضربة واحدة، قال في الحديث: " فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط ".وفي هذا الطريق أدخلوا ابن عباس واسطة بين عبيد الله وبين عمار. ورواه ابن عيينة، واختلف عليه فيه: فقيل: عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري أخرجه ابن ماجه (566) عن محمد بن أبي عمر العدني. والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 111) من طريق إبراهيم بن بشار، كلاهما، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، بلفظ: تيممنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب. وقد خالف ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ابن ماجه رحمه الله، فقد رواه (278) عن محمد بن أبي عمر العدني، عن سفيان، عن الزهري مباشرة بدون ذكر عمرو بن دينار. ورواه الحميدي (143) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (536) والبزار (1403) حدثنا محمد بن عمرو بن العباس الباهلي، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (278) من طريق أبي بكر بن خلاد وابن أبي عمر. والبيهقي في المعرفة (1561) من طريق الشافعي، خمستهم، عن ابن عيينة، عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار. وليس فيه عمرو بن دينار. قال البيهقي: هذا حديث قد رواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، ثم سمعه من الزهري، فرواه عنه، وكان يقول أحياناً: عن عمار، وأحياناً يقول: عن أبيه. قال علي بن المديني: قلت لسفيان: عن أبيه، عن عمار؟ قال: أشك في أبيه. قال علي: كان إذا حدثنا لم يجعل عن أبيه. وهذا خلاف آخر على سفيان. ولذلك ذهب أبو داود إلى أن ابن عيينة يضطرب في الحديث. قال أبو داود على إثر حديث (320): " شك فيه ابن عيينة، قال مرة: عن عبيد الله، عن أبيه، أو عن عبيد الله عن ابن عباس. ومرة قال: عن أبيه، ومرة قال: عن ابن عباس، اضطرب فيه ابن عيينة، وفي سماعه من الزهري". وقال ابن عبد البر في التمهيد (19/ 285): " واضطرب ابن عيينة، عن الزهري في هذا الحديث في إسناده ومتنه ". وروى الحديث معمر، واختلف عليه فيه: فقيل: عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمار بن ياسر، وسبق تخريجه في الوجه الأول. وأخرجه الشافعي في مسنده بترتيب السندي (128)، ومن طريقه البيهقي في معرفة السنن (1566)، والحازمي في الاعتبار (ص: 58) عن الثقة، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله عن أبيه، عن عمار. ورواه عبد الرزاق في المصنف (879) ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (23/ 49) رقم 130 عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه أو غيره، قال: سقط عقد لعائشة ... فذكر نحوه، فأرسله. ومعمر متكلم في روايته عن هشام. فهذه ثلاث اختلافات على معمر. هذا ما وقفت عليه من طرق الحديث، وهذا الاختلاف على الزهري لم يكن من صغار أصحابه، بل وقع هذا بين الطبقة الأولى من أصحاب الزهري، ولم يكن هذا الاختلاف قد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = انفرد به واحد دونهم فيحمل على الوهم، فهذا مالك وابن عيينة ومعمر وابن أبي ذئب ويونس وعقيل والليث قد اختلفوا فيما بينهم على الزهري، وهم من أخص أصحابه، ولم يقتصر الاختلاف على إسناد الحديث، بل اختلفوا حتى في متنه، فبعضهم يذكر ضربتين للتيمم، وبعضهم يذكر ضربة واحدة، كما أن ذكر المسح إلى الآباط مخالف لرواية الصحيحين من حديث عمار رضي الله عنه، فصفة التيمم في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وفي غيرهما ليس فيها ذكر ضربتين للتيمم، وليس فيها المسح إلى الآباط والمناكب، مما يزيد الحديث ضعفاً فأميل إلى أن الحديث مضطرب الإسناد، منكر المتن، وقد نقل الحميدي أن هذا الحديث مما ينكره الناس على الزهري. قال الحميدي في مسنده (143): حضرت سفيان، وسأله عنه يحيى بن سعيد القطان، فحدثه، وقال فيه: حدثنا الزهري، ثم قال: حضرت إسماعيل بن أمية أتى الزهري، فقال: يا أبا بكر إن الناس ينكرون عليك حديثين تحدث بهما، فقال: ما هما؟ قال: تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب، فقال الزهري: أخبرنا عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار. وذكر بقية الكلام. فقوله: إن الناس ينكرون عليك حديثين وذكر هذا من أحدهما دليل على أن غالب العلماء ممن أنكر هذا الحديث على الزهري رحمه الله تعالى. وقال ابن عبد البر في التمهيد (19/ 287): " أكثر الآثار المرفوعة في هذا الحديث إنما فيها ضربة واحدة للوجه واليدين، وكل ما يروى في هذا الباب عن عمار فمضطرب مختلف فيه". ومن الأئمة السابقين من سلك مسلك الترجيح، وقد اختلفوا في الترجيح: فقيل: الراجح: الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار. قال ابن أبي حاتم في العلل (61): سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه صالح بن كيسان وعبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم. فقالا: هذا خطأ، رواه مالك وابن عيينة عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار، وهو الصحيح، وهما أحفظ. =

الدليل الثاني

ثانياً: قد يكون المقصود بالرخصة هنا المعنى اللغوي، وهو التسهيل والتيسير، وليس المقصود به المعنى الاصطلاحي، والله أعلم. الدليل الثاني: (1376 - 9) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء، عن جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل ¬

_ = قلت: قد رواه يونس وعقيل وابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم أصحاب الكتب. فقالا: مالك صاحب كتاب، وصاحب حفظ. اهـ وقيل: كلاهما محفوظ: يعني: رواية عبيد الله عن ابن عباس، عن عمار. ورواية عبيد الله، عن أبيه، عن عمار، ذهب إلى هذا الإمام النسائي رحمه الله. قال النسائي في السنن الكبرى (1/ 133) بعد أن ذكر الطريقين: قال: " كلاهما محفوظ". ولم يذكر الإمام النسائي رحمه الله الطريق المنقطع: أعني طريق عبيد الله، عن عمار مباشرة بلا واسطة، والله أعلم بالصواب. انظر بعض طرق هذا الحديث في إتحاف المهرة (14938)، أطراف المسند (5/ 10)، تحفة الأشراف (10357).

الدليل الثالث

سائر جسده (¬1). [إسناده ضعيف، وزيادة ويعصر أو يعصب ثم يمسح عليها زيادة منكرة] (¬2). وجه الاستدلال: أنه سألهم: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فاعتبر التيمم رخصة، وقد أنكر عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - صنيعهم مما يدل على أن التيمم رخصة. وهذا الحديث لا حجة فيه كما قلت لضعفه، ولو صح فليس فيه دليل على كون التيمم رخصة بالمفهوم الاصطلاحي. الدليل الثالث: أن مسمى الرخصة الاصطلاحي ينطبق على التيمم، وذلك أن الحكم الأصلي، وهو وجوب الغسل، سقط هذا الحكم لحكم آخر أخف منه وذلك عند العجز عن الماء سواء كان العجز حسياً لفقد الماء، أو عجزاً شرعياً كما لو خاف على نفسه من الضرر من استعماله مع وجوده لمعارض راجح. دليل من قال: التيمم عزيمة، وليس برخصة. قالوا: التيمم عند فقد الماء لا يمكن تسميته رخصة، بخلاف المكره على الكفر، فإن للمكره أن يمتنع عن قول الكفر والأخذ بالعزيمة، وله الأخذ بالرخصة في إظهار الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، ومثله الفطر للمسافر في ¬

(¬1) سنن أبي داود (336). (¬2) سبق تخريجه في أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة، انظر رقم (171).

دليل من فرق بين التيمم لفقد الماء وبين التيمم لبيعه بأكثر من ثمنه

نهار رمضان، فإن له الأخذ بالعزيمة، وله الأخذ بالرخصة من الفطر، هذا هو حقيقة الرخصة، وأما التيمم فإنه لا يشرع مع القدرة على وجود الماء، ويجب عند فقد الماء، فهو بمنزلة الإطعام عند فقد الرقبة، وذلك ليس برخصة، بل وجبت الرقبة في حال، والإطعام في حال، فكذلك الوضوء وجب في حال، ووجب التيمم في حال أخرى، بخلاف المسح على الخفين، فله أن يمسح، وله أن يخلع الخف، ويغسل رجله، ولذلك قالوا في مسح الجبيرة عزيمة، وليس برخصة؛ لأنه لا مندوحة عنه، فيجب المسح عندهم عند العجز عن الغسل. دليل من فرق بين التيمم لفقد الماء وبين التيمم لبيعه بأكثر من ثمنه. قالوا: التيمم عند فقد الماء لا يمكن أن يقال له رخصة؛ لما سبق ذكره من أدلة القول السابق، ولكن التيمم عند بيع الماء بأكثر من ثمن المثل، فإنه يصح أن يقال له رخصة؛ لأن له شراء الماء والوضوء به (¬1)، ويباح له التيمم في هذه الحالة عند بعض أهل العلم، وسوف يأتي ذكر خلاف أهل العلم في هذه المسألة (¬2). الراجح من الخلاف: ما دمنا قد رجحنا أن العاصي بسفره وغيره سواء في الترخص لم يكن للخلاف في هذه المسألة ثمرة كبيرة، وإطلاق الرخصة على التيمم إن كان ذلك من قبيل الإطلاق اللغوي، وهو أن مشروعية التيمم من التيسير والتسهيل على المكلف فلا حرج، بل قد يطلق الترخيص على أمر لم يرد فيه منع، كما ¬

(¬1) المجموع (4/ 220). (¬2) انظر البحر المحيط (2/ 35).

أبيح لنا شحوم البقر والغنم، وكانت محرمة على غيرنا، فيجوز أن نقول: إن ذلك رخصة في حقنا، ومن رفع الحرج عن هذه الأمة، وإن لم يرد فيه منع أصلاً في شرعنا، وإن كان المقصود بالرخصة هو الاصطلاح الفقهي، فالذي أميل إليه أنه لا يسمى التيمم رخصة إلا في الحال الذي يكون التيمم مباحاً، وليس واجباً، كما لو كان الماء يبعد مسافة كبيرة، فله أن يتيمم، وله أن يؤخر الصلاة ويطلب الماء ما دام أنه يجده قبل خروج الوقت، وهذا المثال أفضل من مثال شراء الماء بأكثر من ثمن المثل، فإن في هذا خلافاً بين أهل العلم، هل يصح له التيمم، أو يجب عليه الشراء ما دام أن الثمن لا يضره، والله أعلم.

الفصل الثاني: هل التيمم يرفع الحدث أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث؟

الفصل الثاني: هل التيمم يرفع الحدث أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث؟ اختلف العلماء في التيمم، هل يقوم مقام الماء في رفع الحدث، فيكون الإنسان متطهراً به، أو أنه يبيح له فعل الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة مع قيام الحدث. فقيل: التيمم لا يرفع الحدث، وهو المشهور عن الإمام مالك رحمه الله (¬1)، والقول الجديد للشافعي (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: بل يرفع الحدث إلى حين وجود الماء، وهو مذهب الحنفية (¬4)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬5)، ورجحه ابن تيمية (¬6) من الحنابلة. ¬

(¬1) المنتقى للباجي (1/ 109)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 556)، مواهب الجليل (1/ 343)، الخرشي (1/ 191)، الذخيرة (1/ 365). (¬2) طرح التثريب (2/ 109)، والمهذب المطبوع مع المجموع (2/ 113) والمجموع (2/ 328)، وإحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 66)، (¬3) المغني (1/ 78،158)، كشاف القناع (1/ 175). (¬4) جاء في بدائع الصنائع (1/ 55): " قال أصحابنا: إن التيمم بدل مطلق، وليس ببدل ضروري، وعنوا به: أن الحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤادة، لا أنه يباح له الصلاة مع قيام الحدث، وقال الشافعي: التيمم بدل ضروري، وعنى به أن يباح له الصلاة مع قيام الحدث حقيقة للضرورة كطهارة المستحاضة ". (¬5) اختاره من المالكية ابن العربي والمازري والقرافي والقرطبي، انظر في هذا الذخيرة للقرافي (1/ 365) ومواهب الجليل (1/ 348)، الخرشي (1/ 191)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 155)، أنواع البروق في أنواع الفروق (1/ 143). (¬6) مجموع الفتاوى (21/ 352).

ثمرة الخلاف بين القولين: هناك خلاف بين القولين نظري، وعملي: أما النظري فخلافهم هل التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً إلى حين القدرة على استعمال الماء، أو الحدث قائم، ولكن تصح الصلاة مع وجود الحدث المانع؟. وأما الخلاف العملي، فقد اختلفوا بناء على اختلافهم في هذه المسألة في مسائل منها: هل يقوم التيمم مقام الماء، فيتيمم قبل الوقت، كما يتوضأ قبل الوقت، ويصلي به ما شاء من فروض ونوافل، كما يصلي بالماء؟. وهل خروج الوقت مبطل للتيمم، أو يكون بمنزلة الماء؟. وهل يصح وطء الحائض إذا طهرت من الحيض به؟. وهل يلبس الخفان بالتيمم؟. وهل تصح إمامة المتيمم بالمتوضئ؟. فهذه مسائل خمسة اختلف فيها الفقهاء بناء على اختلافهم في التيمم هل يرفع الحدث، أو يبيح فعل المأمور والحدث قائم (¬1). وإن كانت المسألة الأخيرة: أعني إمامة المتيمم للمتوضئ قال بها بعض الأئمة الذين يرون أن التيمم لا يرفع الحدث، وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة بخصوصها إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) الذخيرة للقرافي (1/ 367)، حاشية الدسوقي (1/ 155).

دليل من قال: التيمم لا يرفع الحدث

دليل من قال: التيمم لا يرفع الحدث. الدليل الأول: قالوا: إذا كان التيمم لا يرفع الحدث مع وجود الماء، لم يرفعه مع عدمه كسائر المائعات (¬1). الدليل الثاني: (1377 - 10) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [حديث حسن] (¬3). الدليل الثالث: (1378 - 11) ما رواه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وفيه: " فلما انفتل - صلى الله عليه وسلم - من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك. ¬

(¬1) المنتقى للباجي (1/ 109). (¬2) المصنف (913). (¬3) سبق تخريجه انظر حديث رقم (39) من أحكام الطهارة.

وفي آخر الحديث حين وجد عليه الصلاة والسلام الماء أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، وقال: " اذهب فأفرغه عليك " (¬1). وجه الاستدلال من الحديثين السابقين: لو كان الحدث يرتفع بالتيمم لما عاد إليه حدثه إذا وجد الماء، فلو كانت الجنابة قد ارتفعت بالتيمم كيف تعود الجنابة بوجود الماء، مع أنه لم يوجد ما يوجب تجدد الجنابة، ولذلك لما كان الماء رافعاً للحدث لم يرجع الحدث إلا بتجدد حدث آخر، وهذا دليل على أن الحدث أصلاً لم يرتفع، وإنما أبيح فعل المأمور مع بقاء الحدث. ويجاب: كون الحكم يكون ثابتاً إلى غاية أو غايات كثيرة غير ممنوع شرعاً، فالتيمم يرفع الحدث إلى غايات منها: طريان الحدث، ومنها وجود الماء، ألا ترى أن الأجنبية ممنوعة محرمة، والعقد عليها رافع لهذا المنع إلى غايات منها: الطلاق، وثانيها الحيض، وثالثها الصوم، ورابعها: الإحرام، وخامسها الظهار (¬2)، فما المانع أن يكون الحدث مرتفعاً إلى حين وجود الماء، خاصة أن التيمم بدل عن الماء فهو مطهر ما دام الماء مفقوداً، كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها، وكان ملك الملتقط ملكاً مؤقتاً إلى ظهور المالك، فإنه كان بدلاً عن المالك، فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها (¬3). ¬

(¬1) البخاري (344). (¬2) انظر أنواع البروق في أنواع الفروق (2/ 143). (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 437)

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1379 - 12) ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (¬1)، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً (¬2). [أعله أحمد بالانقطاع، وهذا الإسناد له علتان] (¬3). ¬

(¬1) النساء: 29. (¬2) المسند (4/ 203). (¬3) الأولى: ضعف ابن لهيعة، لكن تابعه على ذلك يحيى بن أيوب المصري، فقد أخرجه أبو داود (334) والدارقطني (1/ 178) والحاكم (1/ 177،178) من طريق يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب به. العلة الثانية: الانقطاع. قال أحمد بن حنبل رحمه الله كما في شرح ابن رجب للبخاري (2/ 279): " ليس إسناده بمتصل ". فالانقطاع بين عبد الرحمن بن جبير وعمرو بن العاص، وقد قال ابن حاتم في الجرح والتعديل (5/ 221) أدرك عمرو بن العاص، وسمع من عبد الله بن عمرو. اهـ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فهنا ابن أبي حاتم نص على إدراكه لعمرو، وخص السماع بعبد الله بن عمرو، خاصة أن الحديث قد روي بذكر واسطة بين عبد الرحمن بن جبير المصري، وبين عمرو بن العاص تارة بزيادة أبي قيس مولى عمرو بن العاص، وتارة بزيادة أبي فراس يزيد بن رباح، وتارة بإسقاط الواسطة، وتارة بالوصل وتارة بالإرسال، فحديث هذا شأنه لا شك في ضعفه، وسيأتي بيان ذلك بالتخريج. وذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض في باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم، قال البخاري: ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم، وتلا {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف. قال الحافظ في الفتح (1/ 454): " وإسناده قوي، لكن علقه بصيغة التمريض؛ لكونه اختصره. الخ كلامه. واختلف على ابن لهيعة، فرواه حسن بن موسى عنه كما سبق. ورواه زيد بن الحباب كما في فتوح مصر لابن عبد الحكم (ص: 249) عن ابن لهيعة، فزاد في إسناده بين عبد الرحمن بن جبير، وبين عمرو بن العاص أبا فراس يزيد بن رباح. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (878) عن ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أبي أمامة سهل بن حنيف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص أنه أصابته جنابة، وهو أمير الجيش، فترك الغسل من أجل آية، قال: إن اغتسلت مت، فصلى بمن معه جنباً، فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عرفه بما فعل، وأنبأه بعذره، فسكت. وأورده الهيثمي في المجمع (1/ 263)، وقال: رواه الطبراني في الكبير، وقال: وفيه أبو بكر بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، ولم أجد من ذكره. وقال ابن حجر تغليق التعليق (2/ 191): هذا إسناد جيد، لكني لم أعرف حال إبراهيم هذا. كما روي مرسلاً أيضاً وبزيادة أبي قيس في إسناده، فقد أخرجه أبو داود بإثر حديث رقم (335) وابن حبان (1315) من طريق عمرو بن الحارث، عن يزيد بن حبيب، عن عمران، عن عبد الرحمن ابن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص كان على سرية، فذكر الحديث، وذكر أنه غسل مغابنه، وتوضأ، وصلى، ولم يذكر أنه تيمم. =

وجه الاستدلال: قوله: " صليت بأصحابك وأنت جنب " فدل على أن التيمم لم يرفع الجنابة، ولو كان التيمم يرفع الجنابة لم يكن عمرو بن العاص رضي الله عنه صلى، وهو جنب، بل صلى وقد ارتفع حدثه. ويجاب: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال له ذلك قاله مستفهماً؛ لأنه معلوم أن من تيمم مع وجود الماء، وبلا عذر، فإن حدثه لا يرتفع إجماعاً، وأن التيمم إنما يرفع الحدث بشرطه، وهو عدم الماء، أو الخوف من استعماله لمرض ونحوه، وحين أخبره عمرو بن العاص رضي الله عنه بعذره، أقره عليه، وعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصل، وهو جنب، فكيف لا يكون إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد اطلاعه على عذره دليلاً على أن حدثه قد ارتفع. يقول ابن تيمية رحمه الله: " قوله: " أصليت بأصحابك وأنت جنب " استفهام، أي: هل فعلت ذلك؟ فأخبره عمرو رضي الله عنه أنه لم يفعله، بل تيمم لخوفه أن يقتله البرد، فسكت عنه، وضحك، ولم يقل شيئاً. ¬

_ = وفي هذه الرواية زيادة أبي قيس في إسناده، قال ابن رجب في شرح البخاري (2/ 279): وظاهرها الإرسال". وقال ابن رجب في شرح البخاري (2/ 279): " روى أبو إسحاق الفزاري في كتاب السير للأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثاً، وأمَّر عليهم عمرو بن العاص، فلما أقبلوا سألهم عنه، فأثنوا عليه خيراً إلا أنه صلى بنا جنباً .. وذكر نحو الحديث. قال ابن رجب: وهذا مرسل، وقد ذكره أبو داود في سننه تعليقاً مختصراً، وذكر فيه أنه تيمم ". انظر لمراجعة طرق الحديث: إتحاف المهرة (15956)، أطراف المسند (5/ 138)، تحفة الأشراف (10750).

دليل من قال: إن التيمم يرفع الحدث

فإن قيل: إن هذا إنكار عليه أنه صلى مع الجنابة، فإنه يدل على أن الصلاة مع الجنابة لا تجوز، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر ما هو منكر، فلما أخبره أنه صلى بالتيمم دل على أنه لم يصل وهو جنب. فالحديث حجة على من احتج به، وجعل المتيمم جنباً ومحدثاً، والله يقول: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} فلم يجز الله له الصلاة حتى يتطهر، والمتيمم قد تطهر بنص الكتاب والسنة، فكيف يكون جنباً غير متطهر؟ لكنها طهارة بدل، فإذا قدر على الماء بطلت هذه الطهارة، وتطهر بالماء حينئذ؛ لأن البول المتقدم جعله محدثاً، والصعيد جعله مطهراً إلى أن يجد الماء، فإن وجد الماء فهو محدث بالسبب المتقدم، لا أن الحدث كان مستمراً " (¬1). دليل من قال: إن التيمم يرفع الحدث. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬2). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى نص على أنه شرع لنا الوضوء والغسل والتيمم لغايتين: ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 404). (¬2) المائدة: 6.

الدليل الثاني

الأمر الأول: رفع الحرج عن هذه الأمة. والأمر الثاني: إرادة التطهير، فدل على أن التيمم مطهر لنا بنص الكتاب. الدليل الثاني: من السنة، (1380 - 13) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديث، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). وجه الاستدلال: فإذا كان الماء طهوراً يرفع الحدث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الماء طهور لا ينجسه شيء "، فكذلك التيمم يرفع الحدث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " فالطهور: هو ما يتطهر به. الدليل الثالث: (1381 - 14) ما رواه الترمذي من طريق أبي أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن ¬

(¬1) صحيح البخاري (335).

الدليل الرابع

لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير (¬1). [حديث حسن، وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال منه كالاستدلال من الحديث السابق، حيث حكم على الصعيد بأنه طهور المسلم، فكيف يكون الحدث قائماً، ولدى المسلم طهوره من الصعيد؟. الدليل الرابع: (1382 - 15) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري- واللفظ لسعيد- قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر. قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول، وكنت على البصرة (¬3). فالحديث نص على أن الصلاة لا تصح بدون طهور مطلقاً، لأن نفي القبول هنا نفي للصحة، وقد أطلق الطهور على الماء، كما أطلق على التيمم في حديث أبي ذر المتقدم، فإذا صحت الصلاة بالتيمم دل على أن التيمم طهور بشرطه. ¬

(¬1) سنن الترمذي (124). (¬2) انظر حديث رقم (39) من كتاب أحكام الطهارة. (¬3) مسلم (224).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: قولكم: إن التيمم لا يرفع الحدث، إن كان المراد لا يرفع الأسباب الموجبة له كالريح والوطء، فكذلك الوضوء؛ لأن رفع الأسباب محال وقد وقعت، وإن كان المقصود لا يرفع الحدث لا يرفع المنع الشرعي من الإقدام على العبادة، فإن المنع قد ارتفع بالضرورة، فإن الإباحة ثابتة بالإجماع، ومع الإباحة لا منع، فهذا بيان ضروري لا محيص عنه (¬1)، ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله: " من قال: إن التيمم مبيح لا رافع فإن نزاعه لفظي، فإنه إن قال: إنه يبيح الصلاة مع الجنابة والحدث، وإنه ليس بطهور فهو يخالف النصوص والجنابة مُحَرِّمة للصلاة، فيمتنع أن يجتمع المبيح والمُحَرِّم على سبيل التمام؛ فإن ذلك يقتضي اجتماع الضدين، والمتيمم غير ممنوع من الصلاة، فالمنع ارتفع بالاتفاق، وحكم الجنابة المنع، فإذا قبل بوجوده (يعني الحدث) دون مقتضاها - وهو المنع- فهو نزاع لفظي " (¬2). الراجح: بعد استعراض الأقوال نجد أن القول بأن التيمم يقوم مقام الماء في كل شيء عند فقده أقوى دليلاً، وذلك لأن البدل له حكم المبدل، إلا أن رفعه للحدث يكون إلى غاية وجود الأصل، وهو الماء، فإذا وجد الماء عاد إليه حدثه، ووجب عليه رفع الحدث بالماء، والله أعلم. ¬

(¬1) الذخيرة للقرافي (1/ 365). (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 405).

الفصل الثالث: في حكم إمامة المتيمم للمتوضئ

الفصل الثالث: في حكم إمامة المتيمم للمتوضئ اختلف أهل العلم في حكم إمامة المتيمم للمتوضئ: فقيل: يجوز من غير كراهة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ونص عليه الإمام أحمد وإسحاق (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، وابن تيمية (¬4). وقيل: يكره إمامة المتيمم للمتوضئ، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬5)، وصرح متأخروا الحنابلة بأن إمامة المتوضئ أولى (¬6). ¬

(¬1) العناية شرح الهداية (1/ 367)، البحر الرائق (1/ 385)، حاشية ابن عابدين (1/ 242، 588)، بدائع الصنائع (1/ 227)، الفتاوى الهندية (1/ 84). (¬2) جاء في كتاب المسائل للكوسج (87): " قلت: يؤم المتيمم المتوضئين؟ قال: نعم، أليس ابن عباس رضي الله عنهما أمهم؟ قال: إسحاق: كما قال: يعني: أحمد. اهـ وفي مسائل أبي داود (124): سمعت أحمد سئل عن المتيمم يؤم المتوضئين؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس، واحتج بفعل ابن عباس " وانظر: المحرر (1/ 105)، الإنصاف (1/ 276). (¬3) المحلى (1/ 366) مسألة: 248. (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 360). (¬5) المدونة (1/ 48)، مواهب الجليل (1/ 348)، الخرشي (1/ 191)، المعونة (1/ 151)، وجاء في الموطأ (1/ 55): " سئل مالك، عن رجل تيمم: أيؤم أصحابه وهم على وضوء؟ فقال: يؤمهم غيره أحب إلي، ولو أمهم هو لم أر بذلك بأساً ". (¬6) الإنصاف (2/ 251)، شرح منتهى الإرادات (1/ 272)، كشاف القناع (1/ 474)، مطالب أولي النهى (1/ 651).

وبالرغم من أن المالكية والحنابلة لا يرون التيمم رافعاً للحدث إلا أنهم صححوا إمامة المتيمم بالمتوضئ (¬1). وقيل: لا يجوز، وهو اختيار محمد بن الحسن من الحنفية (¬2). وقيل: إن كان المتيمم تلزمه إعادة الصلاة فلا يجوز الاقتداء به، كما لو تيمم في الحضر لعدم الماء، وإن كانت لا تلزمه الإعادة فيجوز الاقتداء به، وهو مذهب الشافعية (¬3). وقيل: لا يؤمهم إلا أن يكون الإمام أميراً، وهو قول الأوزاعي رحمه الله تعالى (¬4). ¬

(¬1) قال ابن رجب في شرح البخاري (2/ 266): " أكثر العلماء لم يبنوا جواز إمامته على رفع حدثه، ولهذا أجاز ذلك كثير ممن يقول: إن التيمم لا يرفع الحدث، كمالك والشافعي وأحمد، لكن الإمام أحمد ذكر أن ما فعله ابن عباس يستدل به على أن طهارة التيمم كطهارة الماء، يصلي بها ما لم يحدث، ولكن لا يختلف مذهبه في صحة ائتمام المتوضئ والمغتسل بالمتيمم، فإن المتيمم يصلي بطهارة شرعية، قائمة مقام الطهارة بالماء في الحكم، فهو كائتمام الغاسل لرجليه بالماسح لخفيه". اهـ (¬2) اختار محمد بن الحسن صحة إمامة المتيمم بالمتوضئ في صلاة الجنازة، وفسادها في غيرها من الصلوات، انظر البحر الرائق (1/ 385)، تبيين الحقائق (1/ 142) .. (¬3) قال النووي في المجموع (4/ 160): " قال أصحابنا: تجوز صلاة غاسل الرجل خلف ماسح الخف، وصلاة المتوضئ خلف متيمم لا يلزمه القضاء، بأن تيمم في السفر، أو في الحضر لمرض وجراحة ونحوها، وهذا بالاتفاق، فإن صلى خلف متيمم يلزمه القضاء كمتيمم في الحضر، ومن لم يجد ماء ولا تراباً ..... وقلنا: تجب عليهم الإعادة، أثم، ولزمه الإعادة لأن صلاة إمامه غير مجزئة، فهو كالمحدث، ولو صلى من لم يجد ماء ولا تراباً خلف مثله لزمه الإعادة على الصحيح". (¬4) الأوسط (2/ 69)، شرح ابن رجب للبخاري (2/ 265).

دليل من قال: تصح إمامة المتيمم بالمتوضئ

دليل من قال: تصح إمامة المتيمم بالمتوضئ. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فافسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى نص على أنه شرع لنا الوضوء والغسل والتيمم لغايتين: الأمر الأول: رفع الحرج عن هذه الأمة. والأمر الثاني: إرادة التطهير، فدل على أن التيمم مطهر لنا بنص الكتاب، وإذا كان مطهراً فلا فرق بين إمامة المتيمم وإمامة المتوضئ، فكل قد فعل ما أمر به شرعاً، وكل واحد منهما صلاته صحيحة، وإذا صحت صلاته صحت صلاة من خلفه. ومثل الآية الكريمة الأحاديث الواردة بأن التيمم جعله الله مطهراً لنا، كحديث جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديث، رواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬2). وما رواه الترمذي من حديث أبي ذر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) صحيح البخاري (335).

الدليل الثاني

الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير (¬1). [حديث حسن وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الثاني: (1383 - 16) ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} (¬3)، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً (¬4). [أعله الإمام أحمد بالانقطاع] (¬5). ¬

(¬1) سنن الترمذي (124). (¬2) انظر حديث رقم (39) من كتاب أحكام الطهارة. (¬3) النساء: 29. (¬4) المسند (4/ 203). (¬5) سبق تخريجه في مسألة: هل اليتمم يرفع الحدث أم لا؟ انظر رقم (1379).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1384 - 17) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: كان ابن عباس في سفر مع أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيهم عمار بن ياسر، فكانوا يقدمونه يصلي بهم لقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بهم ذات يوم، ثم التفت إليهم فضحك، فأخبرهم أنه أصاب جارية له رومية، وصلى بهم، وهو جنب، فتيمم (¬1). [حسن، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى] (¬2). دليل من قال: لا تجوز إمامة المتيمم للمتوضئ. الدليل الأول: (1385 - 18) ما رواه الدارقطني من طريق صالح بن بيان، عن محمد ابن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يؤم المتيمم المتوضئين (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). ¬

(¬1) المصنف (1/ 93) رقم: 1036. (¬2) انظر تخريجه في مبحث: وطء الرجل زوجه، وهو عادم للماء. وقد جاء في مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج (79): " قلت الرجل يجامع أهله في السفر، وليس معه ماء؟ قال: لا أكره ذلك، قد فعل ذلك ابن عباس. فهنا جزم الإمام أحمد رحمه الله تعالى بثبوت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الحافظ في الفتح: وصله ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما، وإسناده صحيح. (¬3) الدارقطني (1/ 185)، ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي في السنن (1/ 234)، وانظر إتحاف المهرة (3692). (¬4) في إسناده صالح بن بيان، قال الدارقطني: متروك. تاريخ بغداد (9/ 310). =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1386 - 19) ما رواه ابن المنذر من طريق زيد بن الحباب، أخبرني معاوية بن صالح، قاضي الأندلس، أخبرني العلاء بن الحارث الحضرمي، حدثني نافع، قال: صحبت ابن عمر في سفر، فأصابت ابن عمر جنابة، ولم يقدر على ماء، فتيمم، وأمرني أن أصلي بهم، وكان ماء معنا (¬1). [إسناده ضعيف، ولو صح فهو موقوف، وقد خالفه ابن عباس] (¬2). الدليل الثالث: (1387 - 20) ما رواه ابن المنذر من طريق مسدد، ثنا حفص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي أنه كره أن يصلي المتيمم بالمتوضئ (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). ¬

= وقال الخطيب: كان ضعيفاً، يروي المناكير عن الشيوخ الثقات. المرجع السابق. وقال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم، ويحدث بالمناكير عمن لم يحتمل. الضعفاء الكبير (2/ 200). وقال الذهبي: متروك. المهذب في اختصار السنن الكبير (1021). (¬1) الأوسط (2/ 68) ورواه البيهقي (1/ 234) من طريق ابن وهب، ثنا معاوية بن صالح به. (¬2) في إسناده العلاء بن الحارث، قد اختلط، ولم يتميز لي ما سمع منه قبل الاختلاط ممن سمع منه بعد، كما أن معاوية بن صالح صدوق له أوهام، وقد تفرد به عن العلاء، وقد ضعف الحافظ في التلخيص (1/ 117) حديثاً رواه أبو داود من طريق معاوية بن صالح، عن العلاء، عن حزام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري مرفوعاً في غسل الأنثيين من المذي، والله أعلم. (¬3) الأوسط (2/ 68). (¬4) في إسناده الحارث الأعور، وقد رمي بالكذب. =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: قالوا: إن المتيمم أقل من المتطهر بالماء، والإمام يجب أن يكون مساوياً للمأموم أو أعلى منه، ولا يصح أن يكون أقل منه، والتيمم نفسه لا يرفع الحدث، وطهارته طهارة ضرورة. ¬

_ = وفيه أبو إسحاق السبيعي: لم يسمع من الحارث إلا أربعة أحاديث، وهو مدلس. وقد اختلف فيه على مسدد، فقيل: محمد بن يحيى، عن مسدد، عن حفص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي كما هو إسناد ابن المنذر المتقدم. ورواه البيهقي (1/ 234) من طريق أبي المثنى، ثنا مسدد ثنا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن إبي إسحاق، عن الحارث، عن علي. فزاد في إسناده حجاج بن أرطأة بين حفص وبين أبي إسحاق. ورواه الدارقطني (1/ 185) من طريق يعقوب وحفص، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي. وبهذه الطرق يتبين أن حفص لم يروه عن أبي إسحاق، وإنما بينهما الحجاج بن أرطأة، وهو مشهور بأنه ضعيف. وقيل: مسدد، عن حفص، عن حجاج بن أرطأة قال: إن علياً رضي الله عنه كان يكره أن يؤم المتيمم المتوضئين. رواه مسدد في مسنده كما في المطالب العالية (437). فهنا رواه حفص عن حجاج، ودلسه حجاج، فلم يذكر أبا إسحاق، وهو مشهور بالتدليس على ضعفه، كما أسقط من إسناده الحارث أيضاً. ورواه الدارقطني (1/ 185) من طريق هشيم، نا حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي .... هذه بعض طرق الأثر التي وقفت عليها، وهي ضعيفة؛ لأن مدارها على الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف، والحارث أشد منه ضعفاً، ولم يسمع أبو إسحاق من الحارث إلا نزراً يسيراً، والله أعلم. وانظر إتحاف المهرة (14093).

الدليل الخامس

ويجاب: بأننا لا نسلم أن المتطهر بالتراب أقل من المتطهر بالماء، فكل قد قام بما هو مطهر له شرعاً، كما أن المكفر إذا لم يجد الرقبة، وكفر بالصيام لم تكن كفارته ناقصة، وقد قدمنا أن التيمم يرفع الحدث، وسقت الأدلة على ذلك، فأغنى عن إعادته هنا. الدليل الخامس: قالوا: القياس على ائتمام القارئ بالأمي الذي لا يقرأ الفاتحة إذا صلى بتسبيح وذكر، وبصلاة القائم خلف القاعد، فإن كلاً منهما أتى ببدل، لا يصح أن يأتم إلا من هو بمثله. ويجاب عن ذلك: بأن الأمي مخل بركن القيام الأعظم، وهو القراءة، والقرآن مقصود لذاته في الصلاة بخلاف الطهارة، فإنها لا تراد لذاتها بل لغيرها، وهو استباحة الصلاة بها، والتيمم يبيح الصلاة كطهارة الماء، وإما ائتمام القاعد بالقائم فقد أجازه جماعة من العلماء، وأجازه أحمد في صورة خاصة، فإن القاعد قد أتى ببدل القيام، وهو الجلوس، وأتى بركن القيام الأعظم، وهو القراءة (¬1). دليل من قال: يجوز إذا كان الإمام الأمير. ربما يرى الأوزاعي أن الأصل منع المتيمم من أن يكون إماماً إلا لمثله، إلا أن إمامة عمرو بن العاص في أصحابه، وهو جنب استثني لكونه أميراً للجند، وسبق لنا أن الحديث قد أعله أحمد بالانقطاع، وعلى فرض صحته، فإن هذا ¬

(¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 267).

الراجح من الخلاف

فرد من أفراد الحكم المطلق لا يقتضي اختصاص الحكم به، بل هو دليل على الجواز المطلق، ومن أين لنا القول بأن الأصل منع إمامة المتيمم إلا لمثله، فلم يأت نص من الشارع على المنع حتى يقال: إن إمامة عمرو بن العاص رضي الله عنه اغتفرت لكونه أميراً، والله أعلم. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بأن طهارة المتيمم وطهارة المتوضئ لا فرق بينهما؛ فلا مانع من أن يؤم المتيمم غيره من المتوضئين، وقد ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وأن التيمم يرفع الحدث كما أن الماء يرفعه، إلا أن التيمم يرفعه بشرطين: الأول: عدم الماء أو العجز عن استعماله، والثاني: استمرار فقد الماء أو العذر المبيح للتيمم، فإذا ارتفع الموجب للتيمم عاد إليه حدثه، ووجب عليه حينئذ أن يمس الماء، والله أعلم.

الفصل الرابع: إذا عدم الماء والصعيد

الفصل الرابع: إذا عدم الماء والصعيد اختلف أهل العلم في الرجل لا يجد صعيداً ولا ماء، كما لو كان محبوساً. فقيل: لا يصلى، ويقضي صلاته إذا قدر على الطهارة، وهو قول أبي حنيفة (¬1)، والثوري (¬2)، وقول في مذهب مالك (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: يصلي، ويعيد إذا قدر على الماء أو على الصعيد، وهو اختيار ابن القاسم (¬5)، والمشهور في مذهب الشافعية (¬6)، وقول في مذهب الحنابلة (¬7). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 50)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 535)، (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 222). (¬3) الاستذكار (1/ 305)، الذخيرة (1/ 350)، مواهب الجليل (1/ 360). (¬4) المجموع (2/ 321 - 322). (¬5) الاستذكار (1/ 304)، الذخيرة (1/ 350)، مواهب الجليل (1/ 360). (¬6) قال النووي في المجموع (2/ 321 - 322): " إذا لم يجد المكلف ماء ولا تراباً، بأن حبس في موضع نجس، أو كان في أرض ذات وحل، ولم يجد ماء يجففه به، أو ما أشبه ذلك، ففيه أربعة أقوال، حكاها أصحابنا الخرسانيون: أحدها: يجب عليه أن يصلي في الحال على حسب حاله، ويجب عليه الإعادة إذا وجد ماء أو تراباً في موضع يسقط الفرض فيه بالتيمم، وهذا القول هو الصحيح الذي قطع به كثيرون من الأصحاب أو أكثرهم، وصححه الباقون، وهو المنصوص في الكتب الجديدة ... ". وانظر المهذب (1/ 42)، حلية العلماء (1/ 256)، روضة الطالبين (1/ 121)، مغني المحتاج (1/ 106). (¬7) قال ابن رجب في شرح البخاري في معرض سرده للأقوال فيمن لم يجد ماء، ولا تراباً (2/ 222)، قال: " الثاني: يصلي، ويعيد، وهو قول مالك في رواية، والشافعي، وأحمد في =

دليل من قال: لا يصلي

وقيل: يصلي حسب حاله، ولا قضاء عليه، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يصلي، ولا يعيد، هو رواية عن مالك (¬2)، وقول بعض الظاهرية (¬3)، وحكاه بعضهم رواية عن أبي ثور (¬4). دليل من قال: لا يصلي: الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ..} وقال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬5). (1388 - 21) وروى مسلم في صحيحه من طريق سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن ابن عمر، وفيه: ¬

= رواية عنه، نقلها أكثر أصحابه ". وانظر الهداية لأبي الخطاب (1/ 21)، المبدع (1/ 218). الإنصاف (1/ 282). (¬1) المحرر (1/ 23)، الفروع (1/ 221 - 222)، الإنصاف (1/ 282 - 283)، المبدع (1/ 218 - 219)، الهداية لأبي الخطاب (1/ 21)، الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (1/ 83). (¬2) انظر الذخيرة للقرافي (1/ 350)، وقال خليل في مختصره (ص: 21): " وتسقط صلاة وقضاؤها بعدم ماء وصعيد ". وانظر حاشية الدسوقي (1/ 156)، الفواكه الدواني (1/ 242)، مواهب الجليل (1/ 360). (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 223). (¬4) المرجع السابق. (¬5) المائدة: 6.

قال عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول (¬1). ومن صلى بغير وضوء ولا تيمم فقد صلى بغير طهور، فلا يكون ذلك صلاة، فالطهارة شرط أهلية أداء الصلاة، كالحائض لا تجب عليها الصلاة لفقد شرط الأهلية: وهي الطهارة، فلا تجب الصلاة إلا على الطاهر. ويجاب عن هذا: بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور" أي مع القدرة على الطهور، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " أي مع القدرة على الوضوء؛ لأنه لا خلاف أنه لو عدم الماء، وصلى بالتيمم صحت صلاته (¬2). ومثله حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " (¬3)، ولو عجز عن الفاتحة لم تسقط عنه الصلاة مع قيام النفي بصحة الصلاة بدونها. ولو قلنا: الطهارة شرط في وجوب الصلاة، لكان لكل مكلف أن يقول: أنا لا تجب علي الصلاة حتى أتطهر، وأنا لا أتطهر فلا يجب عليّ شيء، لأن القاعدة: أن كل ماهو شرط في الوجوب كالحول مع الزكاة، والإقامة مع الجمعة لا يتحقق الوجوب حالة عدمه، ولا يجب على المكلف تحصيله، فالصحيح أن وجوب الصلاة ليس مشروطاً بالطهارة (¬4). ¬

(¬1) مسلم (224). (¬2) انظر شرح ابن رجب للبخاري (2/ 222 - 223). (¬3) البخاري (334)، ومسلم (367). (¬4) انظر الذخيرة للقرافي (1/ 351).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1389 - 22) استدلوا بما رواه البخاري من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء ..... وفيه: فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا ..... الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام حتى أصبح على غير ماء، وأنه لم يصل هو ولا من كان معه حتى أنزل الله آية التيمم، فإذا كان الطهور هو الماء وحده قبل نزول آية التيمم، وحين فقد الماء لم يصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من كان معه حتى أنزل الله آية التيمم، فكذلك يكون الحال فيمن فقد القدرة على التيمم لا يصلي حتى يتمكن من الفعل. أجاب عن ذلك ابن رجب رحمه الله: قال: " وأما توقفهم - يعني الصحابة - في التيمم حتى نزلت آية المائدة مع سبق نزول آية التيمم في سورة النساء، فالظاهر - والله أعلم - أنهم توقفوا في جواز التيمم في مثل هذه الواقعة؛ لأن فقدهم للماء إنما كان بسبب ¬

(¬1) المجموع (2/ 321 - 322).

إقامتهم لطلب عقد أو قلادة، وإرسالهم في طلبها من لا ماء معه، مع إمكان سيرهم جميعاً إلى مكان فيه ماء، فاعتقدوا أن في ذلك تقصيراً في طلب الماء، فلا يباح معه التيمم، فنزلت آية المائدة مبينة جواز التيمم في مثل هذه الحال، وأن هذه الصورة داخلة في عموم آية النساء، ولا يستبعد هذا، فقد كان طائفة من الصحابة يعتقدون أنه لا يجوز استباحة رخص السفر من الفطر والقصر إلا في سفر طاعة، دون الأسفار المباحة، ومنهم من خص ذلك بالسفر الواجب كالحج والجهاد، فلذلك توقفوا في جواز التيمم للاحتباس عن الماء لطلب شيء من الدنيا حتى بين لهم جوازه ودخوله في عموم قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1) (¬2). وقال أيضاً: " وزعم بعضهم أن رواية القاسم، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام حتى أصبح على غير ماء يدل على أنه لم يصل هو لا من معه. وهذا في غاية الضعف، وقد قررنا فيما تقدم أن آية سورة النساء التي فيها ذكر آية التيمم كان نزولها سابقاً لهذه القصة، وأن توقفهم في التيمم إنما كان لظنهم أن من فوت الماء لطلب مال لا رخصة له في التيمم، فنزلت الآية التي في سورة المائدة مبينة لجواز التيمم في مثل ذلك، والظاهر أن الجميع صلوا بالتيمم، ولكن حصل لهم شك في ذلك، فزال ذلك عنهم بنزول أية المائدة، والله أعلم (¬3). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 200). (¬3) المرجع السابق (2/ 221).

دليل من قال: يصلي ولا يعيد

دليل من قال: يصلي ولا يعيد: الدليل الأول: (1390 - 23) استدلوا بما رواه البخاري من طريق أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم ... الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). وقد استدل البخاري بهذا الحديث الذي رواه هشام عن أبيه، على أن من لم يجد ماء ولا تراباً أنه يصلي على حسب حاله، فإنهم صلوا بغير وضوء، ولم يكن شرع التيمم قبل ذلك، وشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يأمرهم بإعادة الصلاة، فإذا كان من فقد الماء قبل نزول التيمم صلى على حسب حاله، فكذلك من فقد الماء والصعيد صلى على حسب حاله، ولم يؤمر بالإعادة. الدليل الثاني: قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬2). (1391 - 24) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، ¬

(¬1) البخاري (3773)، ومسلم (367) (¬2) التغابن: 16.

الدليل الثالث

عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم (¬1). الدليل الثالث: أن الطهارة شرط، فإذا عجز عنها سقطت عنه كاستقبال القبلة وستر العورة ونحوهما، وكما لو عجز عن القيام بركن من أركان الصلاة كالقيام فإنه يصلي قاعداً، فإن لم يستطع فقاعداً، وهكذا. دليل من قال: يصلي ويعيد: هذان حكمان: الصلاة، ووجوب الإعادة، وكل واحد عليه دليل: أما الدليل على وجوب الصلاة عليهم في الحال، فاستدلوا بما سبق من حديث عائشة، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فإن هؤلاء الصحابة صلوا على حسب حالهم حين عدموا المطهر معتقدين وجوب ذلك، وأخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكر عليهم، ولا قال: ليست الصلاة واجبة في هذا الحال، ولو كانت غير واجبة لبين ذلك لهم، كما قال لعمار رضي الله عنه: " إنما كان يكفيك كذا وكذا " .. وأما الدليل على وجوب الإعادة فاحتجوا بما رواه مسلم من حديث ابن عمر المتقدم ذكره: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور ". ولأنه عذر نادر غير متصل، فلم تسقط الإعادة، كمن صلى محدثاً ناسياً أو جاهلاً حدثه (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (7288)، ومسلم (1337). (¬2) انظر المجموع (2/ 326).

دليل من قال: لا يصلي ولا يعيد

ويجاب عن هذا الدليل: أما استدلالكم على وجوب الصلاة عليه في الحال، فهو دليل صحيح، غير مدفوع. والاعتراض إنما هو على وجوب الإعادة، فإذا كانت هذه الصلاة لم تسقط عنه الصلاة، ولم تبرأ ذمته بهذا الفعل فما المصلحة من فعل صلاة لم يعتد بها، فأوجبتم عليه صلاة الظهر مرتين، وإنما أوجب الله عليه الظهر مرة واحدة. وأما استدلالكم على وجوب الإعادة بحديث " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " فهل قلتم: إن الصلاة غير المقبولة لاغية، وليست صحيحة، ولا يطلب من المكلف فعل عبادة لا يقبلها الله، ولكن الجواب عن الحديث ما تقدم: لا يقبل الله صلاة بغير طهور: أي مع القدرة عليه، مثله مثل حديث: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " أي مع القدرة عليه، فإن عجز تيمم، فإن عجز صلى على حسب حاله. والله أعلم. دليل من قال: لا يصلي ولا يعيد: قالوا: إن من عجز عن الطهارة فقد سقطت عنه الصلاة كالحائض، فأهلية أداء الصلاة أن يكون متطهراً إما بالماء أو بالتيمم عند فقده، فإذا لم يمكنه ذلك سقطت عنه الصلاة، ولم يقض كالحائض ليست أهلاً لأداء الصلاة، ولا يجب عليها القضاء. وأجيب: بأن الحائض مكلفة بترك الصلاة، لا سبيل لها إلى فعلها، ولو وجدت الطهور، بخلاف الرجل، والله أعلم. الراجح من الخلاف. القول بأنه يصلي ولا يعيد هو أقوى الأدلة وأسلمها من المعارضة، والله أعلم.

الفصل الخامس: في تأخير الصلاة لمن يرجو وجود الماء في آخر الوقت

الفصل الخامس: في تأخير الصلاة لمن يرجو وجود الماء في آخر الوقت اختلف الفقهاء هل الأفضل أن يصلي في أول الوقت بالتيمم، أو يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت إذا كان يرجو وجود الماء فيه: فقيل: تأخيرها إلى آخر الوقت أفضل، إن كان يغلب على ظنه وجود الماء، وهو مذهب الحنفية (¬1) والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يصلي في أول الوقت إلا إذا تيقن وجوده في آخر الوقت في منزله الذي هو فيه، فالتأخير أفضل، وهو مذهب الشافعية (¬3). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 54)، البحر الرائق (1/ 163)، الهداية شرح البداية (1/ 26). (¬2) رؤوس المسائل للعكبري (1/ 83)، الهداية (1/ 20)، المغني (1/ 153)، الإنصاف (1/ 300)، كشاف القناع (1/ 178). (¬3) الأم (1/ 46)، ذكر النووي في المجموع (2/ 301 - 302) أن عادم الماء له ثلاث حالات: أحدها: أن يتيقن وجود الماء في آخر الوقت، بحيث يمكنه الطهارة والصلاة في الوقت، فالأفضل أن يؤخر الصلاة. الحال الثاني: أن يكون على يأس من وجود الماء في آخر الوقت، فالأفضل تقديم التيمم والصلاة في أول الوقت بلا خلاف. الحال الثالثة: أن لا يتيقن وجود الماء ولا عدمه، وله صورتان: أحدهما: أن يكون راجياً ظاناً الوجود، ففيه قولان مشهوران في كتب الأصحاب، ونص عليهما مختصر المزني، أصحهما باتفاق الأصحاب أن تقديم الصلاة بالتيمم في أول الوقت أفضل، وهو نصه في الأم. والثاني: التأخير أفضل، وهو نصه في الإملاء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وأكثر العلماء. اهـ وانظر: المهذب (1/ 34).

تعليل من قال: يؤخر إلى آخر الوقت

وقيل: إذا لم يغلب على ظن المسافر الرجاء للماء، ولا اليأس منه، فالمستحب له أن يتيمم وسط الوقت. فإن غلب على ظنه إدراك الماء استحب له التأخير. وإن غلب على ظنه عدم وجود الماء، استحب له الصلاة في أول الوقت وهذا مذهب المالكية (¬1). تعليل من قال: يؤخر إلى آخر الوقت: في التأخير تحصيل شرط من شروط الصلاة، وهو الطهارة، بينما الصلاة في أول الوقت تحصيل فضيلة الوقت، وهو مستحب فقط، مراعاة الشرط أولى من مراعاة المستحب. تعليل من قال: يصلي في أول الوقت. الدليل الأول: (1392 - 25) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن سنان القزاز، نا عمرو ابن محمد بن أبي رزين، حدثنا هشام بن حسان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتيمم بموضع يقال له مربد النعم، وهو يرى بيوت المدينة (¬2). [إسناده ضعيف، والمحفوظ وقفه على ابن عمر] (¬3). ¬

(¬1) الشرح الكبير (1/ 224)، المقدمات الممهدات (1/ 121)، الإشراف (1/ 172)، المعونة (1/ 148)، الكافي (ص: 28). (¬2) سنن الدارقطني (1/ 186). (¬3) انظر تخريجه في حديث رقم (1429)

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1393 - 26) ما رواه الإمام أحمد، قال: ثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج، فيهريق الماء، فيتمسح بالتراب، فأقول: يا رسول الله، إن الماء منك قريب، فيقول: وما يدريني، لعلي لا أبلغه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 288). (¬2) علته ابن لهيعة، وهو ضعيف مطلقاً على الصحيح قبل احتراق كتبه، وبعد احتراقها، وسواء روى عنه العبادلة أم غيرهم، ولكن رواية غير العبادلة أشد ضعفاً من غيرها وقد رأى بعضهم تحسين حديثه إذا كان من طريق من روى عنه قبل أن تحترق كتبه. والراجح أنه ضعيف مطلقاً، لكن رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها كما قال الحافظ، وهذه العبارة لا تقتضي تحسين حديثه. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه؟ فقال: آخره وأوله سواء، إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه. الجرح والتعديل (5/ 145). فهذا نص على أنه ضعيف مطلقاً، وإن كان قد يتفاوت الضعف فرواية ابن المبارك أخف ضعفاً. وقال عمرو بن علي: عبد الله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل ابن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرى أصح من الذين كتبوا بعد ما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث. المرجع السابق. وهذا النص ليس فيه أن ما يرويه العبادلة صحيح مطلقاً، إنما كلمة أصح لا تعني الصحة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المطلقة كما هو معلوم، ولذلك قال: وهو ضعيف الحديث، هذا حاله قبل احتراق كتبه وبعدها. قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي إذا كان من يروى عن ابن لهيعة مثل ابن المبارك وابن وهب يحتج به؟ قال: لا. الجرح والتعديل (5/ 145). وقال ابن حبان: قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجوداً، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيراً، فرجعت إلى الاعتبار، فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، وعن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فالتزقت تلك الموضوعات به. قال عبد الرحمن بن مهدي: لا أحمل عن ابن لهيعة قليلاً ولا كثيراً كتب إلي ابن لهيعة كتاباً فيه: حدثنا عمرو بن شعيب، قال عبد الرحمن: فقرأته على ابن المبارك، فأخرجه إلي ابن المبارك من كتابه، عن ابن لهيعة قال حدثني: إسحاق بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب. ثم قال ابن حبان: وأما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكير كثيرة، وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قراءة، سواء كان ذلك من حديثه أو غير حديثه، فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه لما فيه مما ليس من حديثه. المجروحين (2/ 11). وهذا عين التحرير. أن رواية المتقدمين عنه فيها ما يدلسه عن الضعفاء، ورواية المتأخرين عنه فيها ما ليس من حديثه. وجاء في ضعفاء العقيلي (2/ 294): " حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا محمد بن على، قال سمعت: أبا عبد الله، وذكر ابن لهيعة، وقال: كان كتب عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وكان بعد يحدث بها عن عمرو بن شعيب نفسه. وهذا صريح بأن ابن لهيعة يدلس عن الضعفاء. وحديثنا هذا قد عنعنه ابن لهيعة وقد ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الخامسة، والمرتبة الخامسة قال فيها الحافظ: الخامسة: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس، فحديثهم مردود، إلا بما صرحوا فيه =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1394 - 27) ما رواه الدارقطني من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، ¬

_ = بالسماع إلا إن توبع من كان ضعفه منهم يسيراً كابن لهيعة. قلت: هذا الطريق بهذا الإسناد لا أعلم أحداً تابع فيه ابن لهيعة، فهو ضعيف، والله أعلم. وقد ضعفه بعض المشايخ من أهل عصرنا بحنش، معتقداً أن حنش هو: الحسين بن قيس الرحبي المتروك، وهذا لا يروي عن ابن عباس، كما لا يروي عنه عبد الله بن هبيرة، والصحيح أن حنش هذا هو ابن عبد الله السبائي، وهو ثقة، ومن رجال التهذيب، وثقة أبو زرعة ويعقوب بن سفيان وغيرهم. [تخريج الحديث]. الحديث رواه أحمد كما سبق في المتن، عن علي بن إسحاق، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس مرفوعاً. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (292) عن ابن لهيعة به، ومن طريق ابن المبارك أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 383). وأخرجه أحمد أيضاً (1/ 303) حدثنا يحيى بن إسحاق، وموسى بن داود، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة. قال: يحيى: عن الأعرج، ولم يقل موسى: عن الأعرج، عن حنش به. فهنا زاد يحيى بن إسحاق في الإسناد: الأعرج بين عبد الله بن هبيرة، وبين حنش الصنعاني وقد تفرد بهذه الزيادة يحيى مخالفاً عبد الله بن المبارك وموسى بن داود، فإن لم يكن زيادة الأعرج خطأ في الإسناد فإن هذا قد يكون من تخليط ابن لهيعة. وأخرجه الطبراني في الكبير (12/ 238) رقم: 12987، والبيهقي في الخلافيات (861) من طريق يحيى بن إسحاق وحده به. وأخرجه الحارث في مسنده كما في المطالب العالية (158). وانظر إتحاف المهرة (7314).

الدليل الرابع

عن علي، قال: إذا اجنب الرجل في السفر تلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم، وصلى (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1395 - 28) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن محمد ويحيى بن سعيد، عن نافع، أن ابن عمر تيمم، وصلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلان، ثم دخل المدينة، والشمس مرتفعة، فلم يعد (¬3). [إسناده صحيح، وسبق تخريجه] (¬4). وهذا أصح ما ورد في الباب، والله أعلم. الدليل الخامس: الصلاة أول الوقت من أفضل القربات، وفيه إبراء للذمة، ومسارعة لفعل الخيرات، قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} (¬5)، وقال تعالى: ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 186). (¬2) ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي في السنن (1/ 232)، وفي الخلافيات (862) كما أخرجه البيهقي في السنن أيضاً من غير طريق الدارقطني، فقد أخرجه (1/ 233) من طريق شريك وإبراهيم بن عمر، عن أبي إسحاق به. وعلته الحارث الأعور، متفق على ضعفه، والله أعلم. وانظر إتحاف المهرة (14094). (¬3) المصنف (884). (¬4) انظر تخريجه وافياً: في رقم (1429، 1430، 1431). (¬5) آل عمران: 133.

تعليل المالكية على تقسيم عادم الماء إلى ثلاثة

{فاستبقوا الخيرات} (¬1)، وآخر الوقت غيب علمه عند الله، والإنسان إنما هو مكلف في ساعته القائمة، ولذا يباح للمسافر القصر والجمع وإن كان قد شارف الوصول إلى بلده، ويمكنه أن يدرك الوقت حال الإقامة ليصلي تماماً وبدون جمع، ومع ذلك إذا صلى فإنه يصلى بحسب حاله وقت الأداء، فكذلك المتيمم يستحب له أن يبرئ ذمته في أداء الصلاة أول الوقت، إلا ما استحب له التأخير فيه كالعشاء والإبراد بالظهر زمن الحر، والله أعلم. تعليل المالكية على تقسيم عادم الماء إلى ثلاثة: قال في المعونة: " العادمون ثلاثة: منهم من يدخل عليه الوقت، وهو راج له، يغلب على ظنه وصوله إليه في الوقت، فيستحب له تأخير التيمم؛ ليجمع بين الوقت والطهارة الكاملة؛ لأن مراعاة كمال الطهارة أولى من مراعاة فضيلة أول الوقت. ومنهم من يغلب على ظنه أنه لا يجده حتى يخرج الوقت، فيستحب له أن يقدم التيمم؛ لأن في تأخيره فوات الأمرين - يعني: فضيلة الوقت، وفضيلة كمال الطهارة - ومنهم من هو بين الخوف والرجاء، لا يغلب على ظنه أحد الأمرين، فيتيمم وسط الوقت؛ لأنه لم تبلغ فيه قوة الرجاء أن يؤخره، ولا ضعفه أن يقدمه، فاستحب له الوسط " (¬2). الراجح: بعد استعراض أدلة كل قول أجد أن القول بالصلاة في أول الوقت أقوى ¬

(¬1) البقرة: 148. (¬2) المعونة (1/ 147).

من حيث التعليل، وذلك أن الإنسان إذا صلى بالتيمم فقد امتثل الأمر الشرعي، لا فرق بينه وبين المصلي بالماء؛ لأن كلاً من المتطهر بالماء والمتطهر بالتراب قد فعل ما أمر به شرعاً، والتيمم على ما ترجح مطهر، وليس مجرد رافع للمنع، فكيف يقال: إن مراعاة شرط الطهارة أولى من فضيلة الوقت، وكأن المتيمم لم يراع شرط الطهارة، فإذا كانت الطهارة في حق فاقد الماء، هو التيمم، فقد قام بحق الطهارة على أكمل وجه. قال الإمام مالك رحمه الله: " من قام إلى الصلاة، فلم يجد ماء، فعمل بما أمره الله به من التيمم، فقد أطاع الله، وليس الذي وجد الماء بأطهر منه، ولا أتم صلاة؛ لأنهما أُمِرا جميعاً، فكل عمل بما أمره الله به، وإنما العمل بما أمر الله به من الوضوء لمن وجد الماء، والتيمم لمن لم يجد الماء قبل أن يدخل في الصلاة" (¬1). وإذا كان التيمم هو طهارة فاقد الماء، فتكون المبادرة بفعل الصلوات في أول الوقت قد أدرك فضيلتين: فضيلة الطهارة، وهي في حقه التيمم، وفضيلة أول الوقت، بينما من أخر الصلاة إلى آخر الوقت قد أردك فضيلة واحدة، وهو فضيلة الطهارة بالماء، وإدراك فضيلتين أولى، ويكفي أنه فعل ابن عمر رضي الله عنه على ما عرف عنه من الحرص على السنة، والله أعلم. ¬

(¬1) الموطأ (1/ 55).

الفصل السادس: في وطء عادم الماء

الفصل السادس: في وطء عادم الماء إذا كان الإنسان على طهارة مائية، فهل يباح له نقض طهارته بالجماع ليتيمم بعد ذلك، أو يحافظ على طهارته المائية؟. ويتصور وقوع ذلك في صور كثيرة، منها: لو أن الإنسان خاف على نفسه الضرر من الاغتسال لوجود برد شديد ونحوه، ولا يخاف ذلك من الوضوء، فهل له أن يجامع زوجته، ويتيمم عن الغسل، أو ليس له ذلك ليحافظ على الطهارة المائية؟ ومثله: لو كان الإنسان معه ماء يكفي لوضوئه، وليس معه ما يكفي للغسل، فهل له أن يجامع ليتيمم بعد ذلك، أو يحافظ على الطهارة المائية؟ اختلف أهل العلم في ذلك، فقيل: لا بأس أن يجامع أهله، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختيار ابن حزم رحمه الله (¬4). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 117)، البحر الرائق (1/ 147)، وقال في الفتاوى الهندية (1/ 31): "وللمسافر أن يطأ زوجته، وإن علم أنه لا يجد الماء ". (¬2) قال الشافعي في الأم (1/ 61): " والرجل المسافر لا ماء معه، والمعزب في الإبل له أن يجامع أهله ويجزئه التيمم إذا غسل ما أصاب ذكره، وغسلت المرأة ما أصاب فرجها أبداً حتى يجد الماء، فإذا وجد الماء فعليهما أن يغتسلاً ". وانظر المجموع (2/ 241). (¬3) شرح العمدة (1/ 379)، المغني (1/ 171)، الإنصاف (1/ 263)، كشاف القناع (1/ 161). (¬4) المحلى (1/ 365) مسألة: 247.

وبه قال ابن عباس (¬1) وجابر بن زيد (¬2)، والحسن البصري وسعيد بن المسيب (¬3)، وقتادة وسفيان الثوري (¬4)، ورجحه ابن تيمية (¬5). وقيل: يكره الجماع إلا أن يخاف الضرر، وهو مذهب المالكية (¬6)، ¬

(¬1) سيأتي النص عنه مخرجاً ضمن أدلة الأقوال. (¬2) المصنف لابن أبي شيبة، قال: (1/ 93) رقم 1037، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد سئل عن الرجل يعزب، ومعه أهله، قال: يأتي أهله ويتيمم. وسنده صحيح. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 93) رقم1040: حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن، أنهما كانا لا يريان بأساً إذا كان الرجل في سفر، وليس معه ماء أن يصيب أهله ويتيمم. ورجاله ثقات إلا أن أحمد بن حنبل رحمه الله، قال: عباد بن العوام مضطرب الحديث عن سعيد بن أبي عروبة، كما أن رواية قتادة عن سعيد ابن المسيب فيها تدليس كثير، لكن رواه ابن أبي شيبة (1/ 93) رقم 1041 عن عباد بن العوام عن هشام، عن الحسن، وسنده صحيح. (¬4) المحلى (1/ 365). (¬5) تصحيح الفروع (1/ 209). (¬6) قال الباجي في المنتقى (1/ 109): " الأحداث على ضربين: ضرب يكون معتاداً، ولا يمكن الامتناع منه كالنوم والبول والغائط، فهذا يجوز فعله للمتوضئ مع عدم الماء. وضرب يمكن الاحتراز منه كالجماع والملامسة ومس الذكر، فلا يجوز فعله مع عدم الماء فيما يقرب ويطرأ من المشقة" اهـ وجاء في المدونة (1/ 31): " قال مالك: لا يطأ المسافر امرأته ولا جاريته إلا ومعه ماء". وظاهر هذه النصوص المنع، إلا أن العدوي قال في حاشيته على الخرشي (1/ 199): والمعتمد على أن المنع على الكراهة. وعبارة مختصر خليل قال: " ومنع مع عدم ماء تقبيل متوضئ وجماع مغتسل". قال في الشرح الكبير (1/ 161): " ومنع: أي كره على المعتمد مع عدم ماء تقبيل متوضئ" =

دليل من قال: له أن يطأ زوجته

ورواية عن أحمد (¬1). وقيل: ليس له أن يجامع أهله، وبه قال الزهري رحمه الله (¬2). وقيل: إن كان بينه وبين أهله أربع ليال فليصب أهله، وإن كان ثلاث فما دونها فلا يصبها، وهو قول عطاء، والأوزاعي (¬3). دليل من قال: له أن يطأ زوجته. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬4)، فأفادت الآية إباحة الجماع في حال عدم الماء، وقد قدمنا أن اللمس هنا المقصود به الجماع في خلاف أهل العلم في تيمم الجنب. الدليل الثاني: أباح الله سبحانه وتعالى للرجل أن يجامع زوجه وملك يمينه، فما أباح فهو على الإباحة، لا يجوز حظر ذلك، ولا المنع منه إلا بسنة أو إجماع، والممنوع منه: حال الحيض، والإحرام، والصيام، وحال المظاهر قبل أن يكفر، ¬

= وقال في حاشية الدسوقي (1/ 161): قوله: كره، على هذا حمل ابن رشد قول المدونة: يمنع وطء المسافر وتقبيله لعدم ماء يكفيهما ". انظر: الخرشي (1/ 198)، الفواكه الدواني (1/ 151)، مواهب الجليل (1/ 359). (¬1) المغني (1/ 171)، شرح العمدة (1/ 379). (¬2) جاء في المدونة (1/ 31): " قال ابن وهب: عن يونس، عن ابن شهاب أنه قال: لا يجامع الرجل امرأته بمفازة حتى يعلم أن معه ماء ". (¬3) المغني (1/ 171). (¬4) المائدة: 6.

الدليل الثالث

وما عدا ذلك فهو على الإباحة، قال تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} (¬1)، وما خص الله تعالى بذلك من حكمه الغسل أو الوضوء ممن حكمه التيمم، ولا فرق بين من صلى بوضوء عند وجود الماء، وبين من صلى بتيمم حيث لا يجد الماء، فكل واحد منهم قد أدى ما فرض عليه (¬2). الدليل الثالث: (1396 - 29) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬3). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬4). وجه الاستدلال من وجهين: الأول: الصعيد الطيب وضوء المسلم، وفي رواية طهور المسلم، وهذا عام لطهارته من الحدث ومن الجنابة، وإذا كان التيمم بهذه المثابة لم تكن طهارته ناقصة. الوجه الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله هل كان جنباً من جماع أو من ¬

(¬1) البقرة: 222. (¬2) انظر الأوسط لابن المنذر (2/ 17 - 18). (¬3) المصنف (913). (¬4) انظر أحكام الطهارة، رقم (39).

الدليل الرابع

احتلام، فدل على أنه لا فرق في الحكم، ولو كان هناك فرق لسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -، هل كانت جنابته من جماع، فينهاه عن ذلك، أو كانت من احتلام فيرشده إلى التيمم؟ فلما ترك الاستفصال في مقام الاحتمال، نزل ذلك منزلة العموم في المقال، مع أنه ورد في بعض طرق الحديث أن تيمم أبي ذر كان عن جماع، كما في مصنف عبد الرزاق (¬1)، وسنن أبي داود (¬2)، الله أعلم. الدليل الرابع: (1397 - 30) ما رواه أحمد، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، حدثنا الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، الرجل يغيب، لا يقدر على الماء، أيجامع أهله؟ قال: نعم (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المصنف (912). (¬2) برقم (333). (¬3) المسند (2/ 225)، وفي إتحاف المهرة (11863) لفظه: الرجل يجنب، ولا يقدر على الماء، أيجامع أهله؟ قال: نعم. (¬4) في إسناده حجاج بن أرطأة، وهو ضعيف، ومدلس. وقد أخرجه البيهقي في السنن (1/ 218) من طريق سعدان بن نصر. وابن المنذر في الأوسط (2/ 218) من طريق محمد بن الصباح، كلاهما عن معتمر بن سليمان به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 263): " رواه أحمد، وفيه الحجاج بن أرطأة، وفيه ضعف، ولا يتعمد الكذب ". وقال النووي في المجموع (2/ 242): " ضعيف؛ لأنه من رواية حجاج بن أرطاة، وهو ضعيف". اهـ

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1398 - 31) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: كنا مع ابن عباس في سفر، ومعه جارية له، فتخلف، فأصاب منها ثم أدركنا، فقال: معكم ماء؟ قلنا: لا؟ قال: أما إني قد علمت ذلك، فتيمم (¬1). [رواية الأعمش عن مجاهد فيها تدليس كثير، ومع ذلك فالأثر حسن لغيره إن شاء الله تعالى] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (1/ 94) رقم: 1046. (¬2) جاء في تهذيب التهذيب (4/ 225): " قال يعقوب بن شيبة في مسنده: ليس يصح للأعمش عن مجاهد إلا أحاديث يسيرة، قلت لعلي بن المديني: كم سمع الأعمش من مجاهد؟ قال: لا يثبت منها إلا ما قال: سمعت، وهي نحو من عشرة، وإنما أحاديث مجاهد عنده عن أبي يحيى القتات .... الخ كلامه رحمه الله تعالى. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 93) قال: حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: كان ابن عباس في سفر مع أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيهم عمار بن ياسر، فكانوا يقدمونه يصلي بهم لقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بهم ذات يوم، ثم التفت إليهم فضحك، فأخبرهم أنه أصاب جارية له رومية، وصلى بهم، وهو جنب، فتيمم. ومن طريق جرير أخرجه البيهقي في السنن (1/ 218). وجرير هذا هو: جرير بن عبد الحميد، ثقة. وأشعث هذا: هو أشعث بن إسحاق بن سعد بن مالك، قال فيه أحمد: صالح الحديث. وقال فيه يحيى بن معين كما في رواية ابن أبي خيثمة عنه: ثقة. وقال فيه النسائي في التمييز: ثقة. تهذيب التهذيب (1/ 352). وجعفر: هو ابن أبي المغيرة. =

دليل من قال بالمنع

دليل من قال بالمنع. قالوا: كما أن الإنسان لو كان معه ماء لا يجوز له أن يريقه ويتيمم، ولو فعل ذلك لكان عاصياً، وكذلك لو كان على طهارة مائية لا يجوز له أن يتعمد نقض طهارته بريح أو بول أو غائط ما لم يكن مضطراً إلى ذلك حتى ¬

_ = ذكره ابن حبان في الثقات (6/ 134). وقال الحافظ ابن حجر: نقل ابن حبان في الثقات عن أحمد توثيقه. تهذيب التهذيب (1/ 352)، ولم أقف عليه في ثقات ابن حبان، فلعله ذكره في غير مظانه من الثقات، والله أعلم. وقال ابن مندة: ليس بالقوي في سعيد بن جبير. تهذيب التهذيب (2/ 92). وفي التقريب: صدوق يهم. وذكر البخاري الأثر معلقاً بصيغة الجزم، قال البخاري في كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء. قال البخاري: أم ابن عباس، وهو متيمم. وقال الحافظ ابن حجر: وصله ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما، وإسناده صحيح. قلت: لعل ضعف رواية جعفر بن أبي المغيرة فيما يرويه عن سعيد بن جبير ينجبر في رواية مجاهد عن ابن عباس، وإن كان هذا الطريق الأخير لا يسلم من مقال أيضاً؛ لأنه من طريق الأعمش، عن مجاهد، وقد علمت ما فيها، والله أعلم. وروى ابن المنذر في الأوسط (2/ 17) قال: حدثونا عن إسحاق بن راهوية، أنا المعتمر ابن سليمان، سمعت ليثاً يحدث عن عطاء، عن ابن عباس في الرجل يكون مع أهله في السفر، وليس معهم ماء، فلم ير بأساً أن يغشى أهله، ويتيمم. وهذا إسناد ضعيف أيضاً، لأن الواسطة بين ابن المنذر وبين إسحاق مبهم، ولم يتبين لي من ليث هذا؛ وذلك لأن المعتمر يروي عن ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، ويروي عن ليث ابن سعد بن عبد الرحمن، وهو ثقة، وكل من الليثين يروي عن عطاء. وقد جاء في مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج (79): " قلت الرجل يجامع أهله في السفر، وليس معه ماء؟ قال: لا أكره ذلك، قد فعل ذلك ابن عباس. قال إسحاق: هو سنة مسنونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي ذر. اهـ فهذا يدل على أن فعل ابن عباس ثابت عنه عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

دليل من قال بالكراهة

لا ينتقل إلى التيمم مع قدرته على الطهارة المائية، فكذلك الجماع يمنع منه ما لم يتضرر من ذلك. دليل من قال بالكراهة: قالوا: إذا لم يكن هناك حاجة شديدة فيكره الجماع؛ لأن فيه انتقال من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية من غير حاجة، فيفوت على نفسه طهارة مائية يمكنه بقاؤها. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بإباحة الجماع قول قوي جداً، ولم يقدم المانعون أو القائلون بالكراهة دليلاً شرعياً على كراهية ذلك، والأصل الإباحة حتى يقوم دليل صحيح صريح ينقلنا عن هذا الأصل، والله أعلم.

الباب الثاني: في الأسباب الموجبة للتيمم

الباب الثاني: في الأسباب الموجبة للتيمم الأسباب الموجبة للتيمم ترجع إلى ثلاثة أسباب في الجملة: الأول: عدم الماء. الثاني: تعذر استعمال الماء. وتعذر الاستعمال تارة يكون لخوف المرض أو زيادته، أو لخوف عطش على نفسه أو على غيره من آدمي أو بهيمة، أو يخاف إن هو خرج إلى الماء لصوصاً أو سباعاً، أو يباع الماء بأكثر من ثمنه، أو يخشى فوات الوقت إن ذهب إلى الماء أو انتظره، وهل له أن يتيمم مع وجود شخص يتبرع له بالماء من غير مسألة، سوف نفصل الكلام إن شاء الله تعالى على جل هذه المسائل، وبعضها قد يؤجل بحثه ليبحث مع نظائره في فصول أخرى، والله وحده المستعان، والموفق إلى معرفة الصواب. السبب الثالث: إذا خشي فوات العبادة بخروج وقتها.

الفصل الأول: فقد الماء

الفصل الأول: فقد الماء إذا فقد المسلم وجود الماء فإن كان مسافراً فإنه يشرع له التيمم إجماعاً، نقل الإجماع على ذلك طائفة من أهل العلم. قال ابن عبد البر: وأجمع علماء الأمصار، بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب - فيما علمت - أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مريض أو مسافر ... " (¬1). ونقل الإجماع أيضاً العيني من الحنفية (¬2)، وابن رشد في بداية المجتهد من المالكية (¬3)، وابن تيمية (¬4)، وابن عبد الهادي (¬5) من الحنابلة، وابن حزم من الظاهرية (¬6). وإن كان حاضراً داخل المصر، فقد اختلف العلماء: فقيل: يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه، وهو أحد القولين في مذهب ¬

(¬1) التميهد (19/ 270)، الاستذكار (2/ 3). (¬2) عمدة القاري (4/ 7). (¬3) بداية المجتهد (2/ 115). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 350، 441). (¬5) مغني ذوي الأفهام (ص: 46). (¬6) مراتب الإجماع (ص: 18، 22)، وانظر للاستزادة إجماعات ابن عبد البر في العبادات (1/ 302).

الحنفية (¬1)، والمشهور في مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4)، وقيل: يتيمم، ويصلي، ويعيد إذا وجد الماء، وبه قال الليث، وهو المشهور في مذهب الشافعية. (¬5)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬6). وقيل: لا يصلي حتى يجد الماء، أو يسافر، وهو قول في مذهب الحنفية (¬7)، وأحد القولين عن الإمام مالك رحمه الله (¬8)، واختاره بعض ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 147) ورجحه ابن نجيم فيه، وانظر تبيين الحقائق (1/ 37)، وحاشية ابن عابدين (1/ 233). (¬2) قال في تنوير المقالة (1/ 557): " والمشهور أنه يتيمم كالمسافر " يعني الحاضر العادم للمياه. وانظر الذخيرة للقرافي (1/ 335)، التفريع لابن الجلاب (1/ 201). وقال في المعونة (1/ 143): " وأما في الحضر، فيجوز عندنا إذا عدم الوصول إليه خلافاً لأبي حنيفة حين منعه لغير المجوس والمريض، ثم قال: ولا إعادة عليه خلافاً للشافعي ". (¬3) المجموع (2/ 350). (¬4) المبدع (1/ 206)، الإنصاف (1/ 279)، الكافي (1/ 65)، المحرر (1/ 21). (¬5) قال النووي في المجموع (2/ 350): " قال: النووي: هذا هو الصحيح المشهور المقطوع به في أكثر كتب الشافعي وطرق الأصحاب ". (¬6) شرح البخاري لابن رجب (2/ 225). (¬7) المبسوط (1/ 68)، البحر الرائق (1/ 147)، الفتاوى الهندية (1/ 27)، وقال في الجوهرة النيرة (1/ 21): "وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز التيمم لعدم الماء في المصر سوى المواضع المستثناة، وهي ثلاثة: خوف فوت صلاة الجنازة، أو صلاة العيد، أو خوف الجنب من البرد، وعن السلمي جواز ذلك، والصحيح عدم الجواز؛ لأن المصر لا يخلو عن الماء ". قال ابن عبد البر في التمهيد (19/ 293): " قال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض، ولا لخوف خروج الوقت ". (¬8) قال في تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/ 557): " وظاهر كلامه أن الحاضر =

دليل من قال: يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه

الخرسانين من الشافعية (¬1)، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬2). دليل من قال: يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه. الدليل الأول: أن العلة في مشروعية التيمم هو فقد الماء نص عليه في آية التيمم، قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬3). الدليل الثاني: إذا كان التيمم للمريض المقيم يجوز بالإجماع مع وجود الماء (¬4)، فجوازه للمقيم عند فقد الماء جائز أيضاً، ولا فرق؛ لأن المرض هو عجز حكمي، ¬

= العادم للماء لا يتيمم، وإن خرج الوقت، وهو أحد قولي مالك ". وجاء في النوادر والزيادات (1/ 109): " قال ابن حبيب، عن ابن عبد الحكم، في حاضر لم يجد الماء، فتيمم، وصلى، ثم وجد الماء بعد الوقت، فعليه أن يعيد؛ لأن الله تبارك وتعالى إنما ذكر التيمم في المريض والمسافر ". وقال ابن رشد في المقدمات (1/ 113): أمر الله سبحانه وتعالى المسافر والمريض بالتيمم للصلاة عند عدم الماء، وأجمع أهل العلم على وجوب التيمم عليهما؛ لأن الأمر لهما بالتيمم عند عدم الماء نص في الآية، لا يحتمل التأويل، واختلفوا في الصحيح الحاضر العادم للماء .. اهـ (¬1) المجموع (2/ 350). (¬2) قال ابن رجب في شرح البخاري (2/ 202): وعن أحمد رواية باشتراط السفر للتيمم ". وقال أيضاً (2/ 226) وذهبت طائفة إلى أنه لا يصلي حتى يجد الماء أو يسافر، وهو رواية عن أبي حنيفة، وراية عن أحمد اختارها الخلال والخرقي وحكي عن زفر وداود ". (¬3) المائدة: 6. (¬4) قال ابن عبد البر: التيمم للمريض، والمسافر إذا لم يجد الماء بالكتاب والسنة والإجماع. اهـ انظر التمهيد (19/ 293)، الاستذكار (2/ 18).

الدليل الثالث

وفقد الماء عجز حسي، والعجز الحسي أولى بالمراعاة؛ لأنه يستحيل معه الفعل بخلاف العجز الحكمي، فقد يستعمل الماء إلا أنه قد يلحقه ضرر بذلك. الدليل الثالث: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تيمم لرد السلام في الحضر، مع أن الطهارة لرد السلام ليست شرطاً بل ولا واجباً، فكونه يتيمم لفعل الصلاة المفروضة، والقيام بالطهارة التي هي شرط لصحة الصلاة أولى فأولى. (1399 - 32) فقد روى البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (¬1). وقد استدل البخاري بهذا الحديث على جواز التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة (¬2). دليل من قال: السفر شرط في جواز التيمم. استدل بقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد ¬

(¬1) البخاري (337)، ومسلم (369). (¬2) قال البخاري في ترجمة هذا الحديث، باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء، وخاف فوت الصلاة، وبه قال عطاء ... الخ.

دليل من قال: يتيمم ويعيد

منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} فذكر شيئين مبيحين للتيمم: أحدهما: المرض، والثاني: السفر. وأجيب: بأن الله سبحانه وتعالى ذكر السفر لكونه مظنة عدم الماء، فإن فقد الماء في الحضر نادر وقليل، ومثله ذكر السفر في آية الرهن، قال تعالى: {وإن كنتم على سفر فلم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} (¬2)، وليس السفر بشرط للرهن، فإذا جاز الرهن في الحضر، جاز التيمم في الحضر أيضاً. دليل من قال: يتيمم ويعيد: علل النووي وجوب الإعادة إذا تيمم في الحضر، بأن هذا العذر نادر غير متصل، وقال: احترزنا بالنادر عن المريض والمسافر، وبغير المتصل من المستحاضة. ويجاب عنه بأمور: الأول: هذا التعليل عليل، وإنما شرع التيمم لرفع الحرج عن هذه الأمة كما في قوله تعالى بعد أن ذكر طهارة الماء والتيمم {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬3)، فأين التخفيف، وقد كلف ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) البقرة: 283. (¬3) المائدة: 6.

في فعل الصلوات مرتين، مرة في التيمم، ومرة إذا وجد الماء، وقد يطول ذلك فيجتمع عليه صلوات كثيرة، فأين التخفيف في ذلك، وهل ذلك إلا موجب للعنت والمشقة على الناس. ثانياً: إذا كان لا يعيد الصلاة إذا تيمم في السفر، فلا يعيد الصلاة إذا تيمم في الحضر، ولا فرق. ثالثاً: التكليف بالإعادة لا بد له من دليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقم دليل في تكليف المسلم بالإعادة، ولم يوجب الله فرض الظهر مرتين، فمن أوجب عليه الإعادة فقد أوجب عليه الفرض الواحد مرتين، وهذا خلاف المشروع. رابعاً: أن الذي أميل إليه أن الإنسان إذا اجتهد وأخطأ، وامتثل الأمر معتقداً أن هذا هو الواجب عليه، ثم تبين له أنه أخطأ لم يكلف الإعادة، فما بالك بمن نأمره أن يتيمم، ثم نطلب منه أن يعيد، فإن كان التيمم لا يسقط عنه الواجب فلماذا نأمره به، وإذا كان التيمم يقوم مقام الماء عند فقده فلماذا نأمره بالإعادة. فهذه المرأة التي كانت تستحاض، وكانت تعتقد أن ذلك حيض، وكانت تمتنع عن الصلاة والصيام قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " (¬1)، ولم يأمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلوات التي تركت ظناً منها أنه دم حيض. وهذا الرجل المسيء في صلاته مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له: " ارجع ¬

(¬1) البخاري (228)، ومسلم (333).

فصل فإنك لم تصل " (¬1)، لم يطلب منه إعادة الصلوات السابقة، مع أنه نفى عنه فعل الصلاة، وكلفه بإعادة الصلاة القائمة فقط، إما لأن الوقت ما زال قائماً، أو لأجل أن تشتد حاجته لمعرفة الصواب، ولذلك اغتفر تكراره مع الإساءة للصلاة لمصلحة التعليم، وإلا فالإنسان الذي لا يعلم أن يصلي قد لا يجوز أن نجعله يعبث في الصلاة على غير هدى، ونطلب منه أكثر من مرة أن يعيد الصلاة، وهو لا يحسن. وهذا عمار تمرغ كما تتمرغ الدابة، وصلى، ظنا منه رضي الله عنه أن هذه هي الصفة المطلوبة في تيمم الجنب، ولم يفعل الصفة المشروعة، ولم يكلفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، وإنما اكتفى بإخباره بالصفة المشروعة (¬2)، هذا عدي رضي الله عنه جعل تحت وساده عقالين: أبيض وأسود، وأخذ يأكل حتى تبين له العقال الأبيض من العقال الأسود، فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فضحك منه، وأخبره بالصواب، ولم يأمره بالإعادة (¬3)، وهكذا فالنصوص متظافرة على أن من اجتهد، ففعل ما يعتقد أنه يلزمه شرعاً، ثم تبين له خطأ فعله، لم يكلف بالإعادة، فما بال المتيمم الذي كلفناه بالتيمم، وأنه يجب عليه فعل الصلاة على هذه الصفة، فما بالنا نأمره بالإعادة، فهذا القول بعيد جداً عن الصواب، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (757)، ومسلم (397). (¬2) البخاري (338)، ومسلم (368). (¬3) البخاري (4509)، ومسلم (1090).

المبحث الأول: إذا وجد ماء لا يكفي للطهارة

المبحث الأول: إذا وجد ماء لا يكفي للطهارة ناقشنا في الفصل السابق، أن التيمم مشروع بشرط عدم الماء، فهل يختلف الحكم إذا وجد ماء لا يكفي لطهارته؟، وهل يستعمل الماء بدون تيمم؟، أو يتيمم ويدع الماء ما دام أنه لا يكفي لفعل الطهارة كاملة؟ أو يستعمل الماء، ويتيمم عن الباقي؟. في هذه المسألة اختلف أهل العلم: فقيل: يتيمم، ويدع الماء، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والقول القديم للشافعي (¬3)، واختاره المزني (¬4). وقيل: يستحب له استعمال الماء، ويتيمم عن الباقي، وبه قال جماعة من أهل العلم (¬5). وقيل: يجب عليه استعمال الماء، ثم يتيمم عن الباقي، وهذا هو القول ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 526)، المبسوط (1/ 113)، بدائع الصنائع (1/ 50)، البحر الرائق (1/ 146). (¬2) مختصر خليل (ص: 19)، التاج والإكليل (1/ 331)، الفواكه الدواني (1/ 153)، مواهب الجليل (1/ 331 - 332)، الذخيرة (1/ 339)، حاشية الدسوقي (1/ 149). (¬3) المهذب (1/ 34)، طرح التثريب (2/ 118). (¬4) طرح التثريب (2/ 118). (¬5) البيان في مذهب الشافعي (1/ 297).

دليل من قال: يتيمم، ويدع الماء

الجديد للشافعي (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم رحمه الله (¬3). وقيل: بالتفريق بين طهارة الوضوء وطهارة الغسل، فإذا وجد ماء يكفي بعض الغسل تيمم بعد استعماله، ولا يتوضأ بماء يكفي بعض الوضوء (¬4). وقيل: يتوضأ بذلك الماء ويصلي، فإن لم يكن معه من الماء إلا قدر ما يغسل به وجهه ويديه، فهو أولى من التيمم، وإن لم يجد إلا ما يغسل به وجهه غسله، ومسح كفيه بالتراب، وهو قول الحسن وعطاء (¬5). دليل من قال: يتيمم، ويدع الماء. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬6). فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين: إما الماء عند وجوده، أو التراب عند عدمه، فكوننا نوجب الماء والتراب معاً هذا خلاف نص الآية، فلما لم يكن هذا الماء كافياً في طهارته علمنا أن فرضه هو التيمم، ولو كان هذا الماء هو ¬

(¬1) المهذب (1/ 34)، البيان في مذهب الشافعي (1/ 297)، الوسيط (1/ 361)، حاشية البجيرمي (1/ 96)، الروضة (1/ 96 - 97) شرح زبد ابن رسلان (ص: 62) منهاج الطالبين (1/ 6)، وقال النووي في المجموع (2/ 309): "واتفق الأصحاب على أن الأصح وجوب استعماله". (¬2) المغني (1/ 150)، وقال في الإنصاف (1/ 273): " وهو المذهب، وعليه الأصحاب". (¬3) الإنصاف (1/ 273)، المغني (1/ 150). (¬4) المسائل الفقهية من كتاب الروايتن والوجهين (1/ 93). (¬5) المنتقى للباجي (1/ 115). (¬6) المائدة: 6.

الدليل الثاني

الماء الذي تقوم به طهارته لم تكن صلاته موقوفة على التيمم، فلما لم يرفع هذا الماء حدثه كان وجوده كعدمه كالماء النجس. الدليل الثاني: أن التيمم بدل عن الماء، فلا يجمع بين الأصل والبدل، فإما أن يستعمل الماء، أو يتيمم، وما دام أن الماء لا يرفع حدثه ينتقل إلى بدله، وهو التيمم ويكون وجوده كعدمه، وهذا له أمثلة في الشريعة، فلو وجبت عليه كفارة يمين، ولم يجد الكسوة والرقبة، ووجد ما يطعم به تسعة مساكين انتقل إلى الصيام، ولم يؤمر بإطعام التسعة، وهكذا. وكذلك من وجبت عليه رقبة، وكان عنده ثمن بعض الرقبة، انتقل إلى الإطعام كما لو عدم الرقبة أصلاً. واعترض على هذا الدليل: أما قولكم: إنه لا يجمع بين البدل والأصل، فغير مسلم، فقد جمع بين الأصل والبدل في الوضوء، فهذا مسح الخفين بدل عن طهارة الماء، وقد جمع بينهما في الوضوء، فإنه يغسل أعضاء الوضوء، ويمسح قدميه. كما أنه جمع بين الأصل والبدل في المسح على الجبيرة، فإن المسح بدل من الغسل، فلو كان في العضو جبيرة، فإنه يمسح عليها، ويغسل الباقي، وهو جمع بين الأصل والبدل. وأما قولكم بأنه لا عبرة بالقدرة على البعض إذا لم يقدر على الكل قياساً على القدرة على بعض الكفارة، فيقال: " ضابط الباب: أن ما لم يكن جزؤه عبادة مشروعة لا يلزمه الإتيان به، كإمساك بعض اليوم، وما كان جزؤه عبادة مشروعة لزمه الإتيان به، كتطهير الجنب بعض أعضائه، فإنه

يشرع عند النوم والأكل والمعاودة ... تخفيفاً للجنابة .... وإذا ثبت تخفيف الحدث الأكبر في بعض البدن، فكذلك الحدث الأصغر " (¬1). ويجاب: أما قولكم في المسح على الخفين بأنه جمع بين الأصل والبدل، فيقال: إن المسح على الخفين بدل عن غسل الرجل، وليس بدلاً عن الوضوء، حتى يقال: جمع بين البدل والمبدل منه، فقد سقط غسل القدم إلى بدله، وهو المسح، ولم يجمع بين الغسل والمسح، وكذلك يقال في الجبيرة، فمسح الجبيرة بدل عن غسل الجرح، ولم يجمع بين مسح الجرح وغسله، فتأمل. وأما قياسكم على تخفيف الحدث، في مشروعية غسل بعض الأعضاء، دون بعض، فكذلك غسلها في مسألتنا، فهذا الكلام ظاهره القوة، ولكن يعكر عليه ما يلي: أولاً: نحن نوجب أمراً قياساً على أمر مستحب، فإن كان الفرع له حكم الأصل، فالأصل غير واجب، فكيف يكون الفرع واجباً، فتخفيف الحدث في غسل الجنابة للأكل والوطء مستحب، وليس بواجب، فكذلك ما قيس عليه ينبغي أن يكون كذلك. ثانياً: لو سلم هذا الفعل في الحدث الأكبر، وأن الجنب إذا قدر على الوضوء، وعجز عن الغسل فله أن يتوضأ بالماء، ويتيمم عن الجنابة، وهي مسألة سوف نتعرض لها إن شاء الله تعالى، فأين الدليل من الشرع على جريانه بالحدث الأصغر، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عمد إلى تخفيف الحدث الأصغر بغسل بعض أعضائه، فلم يقع هذا منه - صلى الله عليه وسلم - لا في حديث صحيح، ولا في حديث ضعيف أنه خفف الحدث الأصغر، فكيف نوجب على الإنسان أن يستعمل الماء في الحدث الأصغر على بعض أعضائه، وأن ذلك من باب تخفيف الحدث، قياساً على تخفيف الحدث الأكبر، وهو أمر لم يحدث منه - صلى الله عليه وسلم - قط، فلو تعبد أحد بتخفيف الحدث الأصغر بغسل ¬

(¬1) بدائع الفوائد (4/ 30).

دليل من قال: يستعمل الماء، ثم يتيمم

بعض أعضاء الوضوء مع وجود الماء لقيل: إنه مبتدع (¬1). دليل من قال: يستعمل الماء، ثم يتيمم. الدليل الأول: قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء} (¬2). فاشترط للتيمم عدم الماء، وهذا واجد للماء، ومن جهة أخرى، فإن كلمة (ماء) نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، سواء كان قليلاً أو كثيراً، فلا يتيمم حتى يفرغ من استعمال الماء، فيكون تيممه عن الباقي من أعضائه مما لم يمسها الماء، لتحقق فقد الماء. وأجيب: بأن المقصود بكلمة " فلم تجدوا ماء " أي ماء يطهره، ألا ترى أن وجود الماء النجس لا يمنعه من التيمم؛ ولأنه معطوف على ما سبق، وقد سبق بيان ¬

(¬1) نعم ورد في حديث علي تخفيف الوضوء في تجديد الوضوء، وليس في تخفيف الحدث الأكبر، حيث مسح أعضاء الوضوء بالماء، وقال: هذا وضوء من لم يحدث، وقد تكلمنا على الحديث في باب الوضوء، فارجع إليه مشكوراً. (¬2) المائدة: 6.

الدليل الثاني

حكم الوضوء والاغتسال بالماء في أول الآية بقوله {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} إلى قوله: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1)، فأراد به جميع البدن، ثم قال: {فلم تجدوا ماء} أي يقوم بجميع ما ذكر، فإن آخر الكلام مرتبط بأوله، فإذا لم يوجد هذا الماء الذي يقوم بجميع ما ذكر فإنه غير واجد لذلك الماء (¬2). الدليل الثاني: قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬3). (1400 - 33) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، ورواه مسلم (¬4). فهذا مكلف قد أمر بالطهارة، واستطاع أن يأتي ببعضها، فهو مكلف بأن يأتي بما يستطيع، ويتيمم عن الباقي. ويجاب: بأن الحديث لم يسق في المسألة بخصوصها، ولو قيل: العبرة بعموم اللفظ ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) بدائع الصنائع (1/ 113). (¬3) التغابن: 16. (¬4) صحيح البخاري (6744)، ومسلم (2380).

دليل من فرق بين الوضوء والغسل

فنقول إن هذا العموم غير مراد هنا، بدليل أن هناك أموراً يكلف فيها الإنسان، ويكون المشروع إما أن يأتي بها كلها، أو يتركها كلها، فمن طلب منه صيام يوم، فلو استطاع أن يصوم بعضه لم يكلف به، لأن المطلوب هو صيام يوم كامل، وكذلك ما تقدم من الإطعام في الكفارة، فمن استطاع أن يطعم خمسة مساكين، والمطلوب إطعام العشرة لم يكلف بالإطعام، بل ينتقل إلى بدله، فكذلك في الطهارة، فالمطلوب أن يرتفع حدثه إما بالماء أو بالتيمم، وبعض الماء لا يرفع الحدث، فوجوده كعدمه، والتيمم كاف في رفع الحدث، فينتقل إليه. دليل من فرق بين الوضوء والغسل. قالوا: إذا وجد ماء يكفي بعض الوضوء فلا فائدة من استعماله، لأن الحدث لا يرتفع لعدم الموالاة، ويفارق هذا الغسل من الجنابة؛ لأن الحدث يرتفع عن قدر ما غسل؛ لأنه ليس من شرطها الموالاة (¬1). هذا ما وقفت عليه من أدلة القوم: سواء من قال: يتيمم، ومن قال: يستعمل الماء، ثم يتيمم، وأما قول عطاء، بأنه لو وجد من الماء ما يغسل به وجهه، غسل وجهه، ومسح كفيه بالتراب، فلا هو فعل صفة التيمم المطلوبة، فيرتفع حدثه بالتيمم، ولا هو قام برفع حدثه بالماء، فجاء بطهارة جديدة ملفقة من طهارتين مختلفتين، فهذا قول لا أعرف له وجهاً من الشرع، ولا وجهاً من اللغة، والله أعلم. الراجح من الخلاف: كنت فيما سبق أميل إلى القول بوجوب استعمال الماء، ثم التيمم ¬

(¬1) المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 93).

بعد استعماله، وكنت قد ذكرت ذلك في كتاب المسح على الحائل، عند الكلام على المسح على الجبيرة، ثم بعد كتابة هذا البحث، وبعد مزيد من التأمل وجدت أن مذهب الحنفية والمالكية القائلين بأن الواجب هو التيمم أقوى من مذهب الشافعية والحنابلة، وإن كان في كل من القولين قوة، والله أعلم.

المبحث الثاني: لو كان مع الجنب ماء يكفي للوضوء

المبحث الثاني: لو كان مع الجنب ماء يكفي للوضوء هذه المسألة سوف نبحثها وفقاً لمذهب الحنفية والمالكية، لأن مذهب الشافعية والحنابلة كما مر معنا في المسألة المتقدمة يوجبون استعمال الماء، مهما قَلَّ، فالمسألة مفروضة على مذهب من يشترط أن يكون الماء كافياً للطهارة، وإلا انتقل إلى التيمم، فهل يقولون يتيمم عن الجنابة، ويتوضأ عن الحدث الأصغر باعتباره مقدوراً عليه؟ أو يقولون: يتيمم، ويدع الوضوء؛ لأن التيمم قد رفع الحدث، فلا حاجة إلى استعمال الوضوء؟. فقيل: يتيمم، ولا يستعمل هذا الماء في الحدث الأكبر، فإن أحدث بعد تيممه حدثاً أصغر توضأ، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يتيمم، وإذا أحدث حدثاً أصغر تيمم أيضاً، ولا يستعمل الماء، وهذا مذهب المالكية (¬2). دليل الحنفية: بأن هذا الرجل قد ارتفع حدثه الأكبر بالتيمم، فلا يرجع إليه إلا بقدرته على الاغتسال، وقد قام به حدث أصغر، وهو قادر على الوضوء، فلا يرتفع هذا الحدث الأصغر إلا بالوضوء، فلزمه. ودليل المالكية: قالوا: الفرق بين الغسل للجنابة والتيمم للجنابة، في كون الوضوء شرع مع الغسل دون التيمم أمران: ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 526). (¬2) مواهب الجليل (1/ 332).

أحدهما: أن الوضوء من جنس الغسل، شرع بين يديه أهبة له، كالمضمضة والاستنشاق قبل الوضوء، والإقامة بين يدي الصلاة، والصدقة بين يدي النجوى، والوضوء ليس من جنس التيمم، فلا يشرع تهيؤ له. وثانيهما: أن أعضاء الوضوء أشرف الجسد لكونها موضع التقرب إلى الله، فكانت البداءة به أولى، والتيمم شرع في عضوين منها، فالوضوء يأتي عليهما وعلى غيرهما، فلا معنى للبداية بالوضوء" (¬1). قلت: هذا الكلام وجيه في عدم استحباب الوضوء في تيمم الجنب، لكن لو أحدث حدثاً أصغر، فما الدليل على أنه لا يشرع له الوضوء بالماء مع القدرة عليه؟ أجاب الحطاب في مواهب الجليل بقوله: " وإن تيمم الجنب، ثم أحدث، أو نام ثم وجد من الماء قدر الوضوء، لم يجزه الوضوء به؛ لأنه عاد جنباً، وكذلك يعود بدخول وقت صلاة ثانية " (¬2). قلت: يعود جنباً بوجود الماء الذي يكفي لرفع حدثه الأكبر، ولو قلنا: إنه يعود جنباً بوجود هذا الماء القليل لما صح تيممه الأول عن الجنابة مع وجود الماء القليل، فلما ألغينا اعتبار وجود الماء في التيمم الأول عن الجنابة، يجب أن نلغي عود الجنابة ببقاء هذا الماء إلا أن يجنب، فإذا أحدث حدثاً أصغر توضأ عنه لقدرته على الوضوء، والله أعلم. ¬

(¬1) الذخيرة (1/ 339). (¬2) مواهب الجليل (1/ 332).

المبحث الثالث: لو كان المحدث على بدنه نجاسة، ووجد ماء يكفي أحدهما

المبحث الثالث: لو كان المحدث على بدنه نجاسة، ووجد ماء يكفي أحدهما إذا كان المحدث على بدنه نجاسة، ووجد ماء يكفي إحدى الطهارتين، إما النجاسة أو رفع الحدث، فماذا يقدم؟ قيل: يقدم إزالة النجاسة؛ لأنه لا بدل له، بخلاف رفع الحدث، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يتوضأ به، ويصلي بالنجاسة، وهو قول أبي يوسف وحماد (¬4)، واختاره بعض المالكية. قال في مواهب الجليل: " قال ابن عبد السلام: وأظن أني وقفت لأبي عمران على أنه يتوضأ، ويصلي بالنجاسة، وكان بعض أشياخي ينقله عنه، ويحتج بأن طهارة الخبث مختلف في وجوبها، وذكر ابن هارون أنه اختلف في ذلك، فقيل: يصلي بالنجاسة، ويتوضأ، وقيل: يزيل به النجاسة، ويتيمم، وجزم ابن رشد في رسم سلف من سماع عيسى من ابن القاسم من كتاب الطهارة، بأنه يزيل النجاسة، ويتيمم، وكذلك ابن العربي وصاحب الطراز، ذكره في الكلام على سؤر ما لا يتوقى النجاسة. قال الحطاب: وهذا إذا لم يمكنه جمع الماء من أعضائه طهوراً، وأما إن ¬

(¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 57): " غسل به الثوب، وتيمم للحدث عند عامة العلماء ". (¬2) قواعد، قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 94) .. (¬3) كتاب المسائل (1/ 191). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 57).

أمكنه جمعه طهوراً من غير تغير فإنه يتوضأ به، ويجمعه، ويغسل به النجاسة؛ لأنه طهور على المشهور " (¬1). قلت: جمع الماء المتساقط ليس معروفاً عن السلف. وقال العز أيضاً: " إذا وجد المحرم ما يكفيه لطهارة الحدث، أو لغسل الطيب العالق به، فإن يغسل به الطيب تحصيلاً لمصلحة التنزه منه في حال الإحرام، ويتيمم عن الحدث تحصيلاً لمصلحة بدل طهارة الحدث، ولو عكس ذلك لفاتت إحدى المصلحتين " (¬2). وهذه أخف من السابقة، لأن الطيب لا يعتبر نجاسة، وإن كان من المحظورات. وعندي أن القيام بالوضوء أهم من القيام بغسل النجاسة أولاً: أن الوضوء فعل مأمور، وغسل النجاسة ترك محظور، وفعل المأمور لا يسقط بالنسيان، بخلاف المحظور، فلو صلى بدون طهارة لم تصح صلاته، وطلب منه إعادة الفعل بخلاف ما لو صلى ناسياً وجود النجاسة على بدنه، فإن صلاته صحيحة. ثانياً: أن طهارة الحدث شرط لصحة الصلاة بلا خلاف، بخلاف إزالة النجاسة فإنه مختلف فيها، هل التخلي عنها شرط أو واجب أو مستحب، وما اتفق على اعتباره أولى بالتقديم، والله أعلم. ثالثاً: من اهتمام الشارع بطهارة الحدث أنه جعل لها بديلاً عند عدم الماء، وهذا لأهميتها، بينما طهارة الخبث لم يجعل لها بدلاً. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 154). (¬2) المرجع السابق.

الفصل الثاني: في تعذر استعمال الماء

الفصل الثاني: في تعذر استعمال الماء المبحث الأول: في تيمم المريض اختلف أهل العلم في تيمم المريض: فقيل: المريض لا يتيمم أصلاً مع وجود الماء، حتى ولو خشي التلف، وهذا القول منسوب إلى الحسن وعطاء (¬1). واستدلا بأن الله أباح التيمم للمريض والمسافر بشرط عدم الماء، فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2). قال ابن عبد البر: " ولولا قول الجمهور، وما روي من الأثر (¬3)، كان قول عطاء صحيحاً، والله أعلم " (¬4). ¬

(¬1) الأوسط لابن المنذر (2/ 20 - 21)، التمهيد لابن عبد البر (19/ 294)، شرح البخاري لابن رجب (2/ 204)، المحلى لابن حزم (1/ 346) مسألة: 224، المجموع (2/ 321)، المغني (1/ 161). (¬2) المائدة: 6. (¬3) يقصد ابن عبد البر رحمه الله ما جاء في تيمم عمرو بن العاص عن الجنابة حين خشي التلف. (¬4) التمهيد (19/ 294).

وهذا القول ضعيف جداً؛ لأنه لو لم يجز التيمم إلا لفقد الماء لكان ذكر المرض لا فائدة له. ومن حيث المعنى، فإن فائدة وجود الماء: هو الاستعمال والانتفاع، وذلك بالقدرة على ذلك، فمعنى قوله: {فلم تجدوا ماء} أي: فلم تقدروا؛ ليتضمن ذلك الوجوه المتقدمة المذكورة: وهي المرض والسفر، فإن المريض واجد للماء صورة، ولكنه لما لم يتمكن من استعماله لضرر، صار معدماً حكماً؛ فالمعنى الذي يجمع نشر الكلام (فلم تقدروا على استعمال الماء) وهذا يعم المرض والصحة إذا خاف من أخذ الماء لصاً أو سبعاً، ويجمع الحضر والسفر، وهذا هو العلم الصريح، والفقه الصحيح، والأصوب بالتصحيح، ألا ترى أنه لو وجده زائداً عن قيمته جعله معدماً حكماً، وقيل له: تيمم، فتبين أن المراد: هو الوجود الحكمي، وليس الوجود الحسي (¬1). وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن المريض يباح له التيمم، قال السرخسي: " وأما إذا كان يخاف الهلاك باستعمال الماء، فالتيمم جائز له بالاتفاق " (¬2). وقال ابن عبد البر: أجمع علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب فيما علمت أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مريض أو مسافر ... " (¬3). وقال القاضي ابن رشد: " أمر الله سبحانه وتعالى المسافر والمريض ¬

(¬1) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 555). (¬2) المبسوط (1/ 112). (¬3) الاستذكار (2/ 3)، التمهيد (19/ 270).

بالتيمم للصلاة عند عدم الماء، وأجمع أهل العلم على وجوب التيمم عليهما" (¬1). وحكاية الإجماع مع خلاف الحسن وعطاء فيه نظر إلا أن ذلك مشروط بصحة نسبة هذا القول عنهما، إلا أن يقال: قد انعقد الإجماع بعدهما، والله أعلم، وقد شكك في صحة هذا القول عنهما ابن رجب في شرحه للبخاري، فقال: " وهذا بعيد الصحة عنهما " (¬2). ولم أقف على إسناد عنهما لأنظر في صحته، وإنما حكاه عنهم جماعة من أهل العلم منهم ابن المنذر والنووي وابن عبد البر وابن قدامة وابن حزم وغيرهم، وسبق العزو إليهم (¬3). ¬

(¬1) مقدمات ابن رشد (1/ 111). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 204). (¬3) فإن كان أخذ هذا القول عن الحسن لما رواه ابن أبي شيبة (1/ 161) حدثنا حفص، عن أشعث بن عبد الملك، عن الحسن، سئل عن الرجل اغتسل بالثلج، فأصابه البرد، فمات، فقال: يا لها من شهادة. إسناده صحيح. فالظاهر أنهم أخذوا مذهب الحسن من هذا النص، لأن ابن قدامة قال في المغني (1/ 161): ونحوه أي: نحو قول عطاء، عن الحسن في المجدور الجنب قال: لا بد من الغسل. وهذا الأثر عن الحسن إنما هو في اغتسال الصحيح، وليس في اغتسال المريض، وقد يغتسل الصحيح بالماء البارد فيمرض، وقد يغتسل ولا يحصل له شيء، فمن أين لنا أن هذا الرجل كان مريضاً، أو كان صحيحاً قد غلب على ظنه أنه لو استعمل الماء لخاف زيادة المرض، وأما ثناء الحسن على فعله، فكل ما يصيب الإنسان من نصب من جراء قيامه بالطاعات فهو له فيها أجر، على أن لا يتقصد العمل الشاق، إذا كان يمكنه أن يقوم بالعمل دون كلفة أو مشقة، لأن مقصود الشارع هو القيام بالعمل، وليس المقصود طلب المشقة، والله أعلم.

وقد ثبت عن الحسن مسنداً خلاف هذا القول (¬1). وقيل: يباح التيمم للمريض بالجملة، واختلفوا في المريض الذي يباح له التيمم: فقيل: يباح لكل مريض يجد أن في استعمال الماء حرجاً ومشقة، حتى ولو كان استعمال الماء لا يزيد في علته، ولا يؤخر البرء. وهذا منسوب إلى أهل الظاهر (¬2). وقيل: يباح التيمم إذا كان استعمال الماء يزيد في المرض أو يتسبب في تأخير البرء، وهو مذهب الجمهور (¬3)، وأحد القولين في مذهب الشافعي (¬4). وقيل: لا يباح التيمم إلا إذا كان يخشى التلف لنفسه أو عضوه من استعمال الماء، أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس، أو العضو، أو فوات منفعة العضو، حكي هذا القول عن مالك (¬5)، وهو أحد القولين في مذهب الشافعية (¬6)، ورواية عن أحمد (¬7). ¬

(¬1) فقد روى ابن أبي شيبة (1/ 96) حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن والشعبي، أنهم قالوا: في الذي به الجرح والمحصوب والمجدور يتيمم. وإسناده صحيح. (¬2) المحلى (1/ 346) مسألة: 224، المجموع (2/ 329). (¬3) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/ 147)، المبسوط (1/ 112). وانظر في مذهب المالكية: الذخيرة للقرافي (1/ 339)، مواهب الجليل (1/ 153)، الفواكه الدواني (1/ 153)، المنتقى للباجي (1/ 110). وانظر في مذهب الحنابلة: المبدع (1/ 208)، الإنصاف (1/ 265)، الكافي (1/ 65). (¬4) المجموع (2/ 320). (¬5) المنتقى للباجي (1/ 110). (¬6) المجموع (2/ 320). (¬7) الإنصاف (1/ 265)،

وألحق المالكية والحنابلة بالمريض الصحيح إذا خشي نزلة أو حمى (¬1). هذا ملخص الأقوال في المريض، رجعت إلى أربعة أقوال: الأول: لا يتيمم المريض مع وجود الماء، ولا يصح التيمم إلا مع فقد الماء، وهذا سبق ذكر دليله والرد عليه. الثاني: يتيمم المريض إذا كان في استعمال الماء حرج ومشقة، ولو لم يكن في استعمال الماء زيادة في المرض، أو تأخير للبرء. الثالث: يتيمم إذا خاف زيادة المرض، أو تأخير البرء. الرابع: لا يتيمم إلا أن يخاف التلف لنفسه، أو عضوه، أو فوات منفعة عضو من أعضائه. دليل من قال: يكفي للتيمم وجود الحرج والمشقة، ولا يشترط الضرر. استدل بقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} (¬2)، فذكر الأعذار المبيحة للتيمم، ثم قال: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬3). فوجود الحرج والمشقة زائداً عن المشقة المعتادة التي لا تنفك عن العبادة مع قيام المرض يبح له التيمم بنص الآية، لأن المقصد الشرعي من مشروعية ¬

(¬1) انظر في مذهب المالكية: الفواكه الدواني (1/ 153)، المنتقى للباجي (1/ 110)، مواهب الجليل (1/ 153). وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/ 265). (¬2) المائدة: 6. (¬3) المائدة: 6.

دليل من قال: يتيمم المريض إذا خاف زيادة المرض أو تأخر البرء

التيمم للمريض ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} فحرج: نكرة، في سياق النفي، فتعم نفي أي حرج ومشقة، ولم يوجد في الآية نص على اشتراط زيادة المرض باستعمال الماء، أو تأخير البرء، فهذان الشرطان زيادة على ما في الآية الكريمة، وإذا كنتم تشترطون الضرر باستعمال الماء، فإن وجود الحرج والمشقة نوع من الضرر المعتبر شرعاً، وإذا كنا نبيح للمريض الفطر إذا شق عليه الصيام بسبب المرض، ولا نشترط أن يكون الصيام سبباً في زيادة المرض أو تأخير العافية، فكذلك في التيمم. وقد يجاب عن ذلك: بأن الحرج والمشقة لا ضابط لهما، وأن الناس يتفاوتون في هذا، فمنهم من يرى أن مس الماء البارد في ليالي الشتاء الباردة فيه حرج ومشقة حتى ولو لم يكن مريضاً، ومنهم من لا يشعر بالمشقة الكبيرة خاصة إذا كان ذلك على سبيل القربة، فلا بد من ضابط يمكن طرده لجميع الناس، فلا يصح التيمم إلا مع خوف الضرر من استعمال الماء، أو زيادة المرض. ويرد على ذلك: بأن الناس كما هم متفاوتون في اعتبار الحرج والمشقة متفاوتون أيضاً في تقدير الضرر، والناس مؤتمنون على مثل ذلك، والخطأ في ذلك مغفور إذا عمل الإنسان بغلبة ظنه. دليل من قال: يتيمم المريض إذا خاف زيادة المرض أو تأخر البرء. يجب على الإنسان أن يحفظ بدنه من كل شيء يضره، وإذا أخبر طبيب حاذق بأن أكل المباح يلحق به ضرر في بدنه حرم عليه أكله، فكذلك الواجبات تسقط عن الإنسان إذا كان يترتب على القيام بها ضرر في بدنه أو

دليل من قال: يشترط خوف التلف

في ماله، وزيادة المرض أو تأخير البرء لا شك أنه ضرر يلحق بالإنسان، فيجب عليه دفعه، وقد قال سبحانه وتعالى: {وإن كنتم مرضى} فأباح التيمم للمريض، ومعلوم أن المرض الذي لا يتأثر من استعمال الماء كالصداع ووجع الضرس هو والصحيح سواء في استعمال الماء، وبالتالي لا يباح له التيمم، كما أن اشتراط خوف التلف لم يذكر في الآية. وإذا كان خوف التلف يبيح التيمم فكذلك خوف المرض؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور وإذا كان كثير من الفقهاء يقولون: إذا زاد الماء على قدر قيمته لم يلزمه شراؤه صيانة للمال، في الوقت الذي يلزمونه بالتيمم ولو كان ذلك سبباً في زيادة المرض وتأخير البرء، أليس حفظ البدن أولى من حفظ المال؟ (¬1). دليل من قال: يشترط خوف التلف: الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة} (¬2). وقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (¬3). الدليل الثاني: (1401 - 34) من السنة ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن ابن جبير، ¬

(¬1) انظر تفسير القرطبي (5/ 217). (¬2) البقرة: 195. (¬3) النساء: 29.

الدليل الثاني

عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (¬1)، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً. [هذا الإسناد له علتان وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الثاني: (1402 - 35) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء، عن جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر ¬

(¬1) النساء: 29. (¬2) انظر حديث رقم: 1379 من هذا الكتاب.

الدليل الثاني

أو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده (¬1). [إسناده ضعيف، وزيادة ويعصر أو يعصب ثم يمسح عليها زيادة منكرة] (¬2). وجه الاستدلال من الحديثين: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أنكر على عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يصلي بأصحابه، وهو جنب، وحين ذكر له أنه خشي على نفسه الهلكة أقره عليه الصلاة والسلام، ومثله إنكاره ترك التيمم في الحال الذي يخشى على نفسه من الهلكة، فلا يتيمم الإنسان إلا في مثل هذه الحالة. ويجاب: نحن لا ننكر أنه إذا خاف على نفسه الهلكة أنه يشرع له التيمم، ولكن أين الدليل على أنه لا يشرع التيمم إلا في مثل هذه الحالة، وكما سبق وذكرنا إذا كان خوف التلف محذوراً، فكذلك خوف المرض وطول مدته محذور أيضاً، وليس في كتاب الله إلا اشتراط المرض. الدليل الثاني: إن فرض الوضوء متيقن، وزيادة المرض أو تأخير البرء غير متحققة، فلا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك فيه. ¬

(¬1) سنن أبي داود (336). (¬2) سبق تخريجه انظر رقم (171) من كتابي أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.

الراجح من الخلاف

ويجاب عن ذلك: بأن مثل هذا القول قد يقال حتى في حال خوف التلف، فيقال: فرض الوضوء متيقن، وخوف التلف مشكوك فيه، ولا يترك اليقين للشك. الراجح من الخلاف. الذي أميل إليه هو ما اختاره ابن حزم، وأن المريض إذا كان يلحقه مشقة وحرج باستعمال الماء فإنه يشرع له التيمم ولو لم يترتب على استعمال الماء زيادة في مرضه أو في طول مدته، كما يقال للمريض الصائم إذا كان يشق عليه الصيام فله الفطر، ولا فرق، وهذا هو ما يحقق المقصود الشرعي من مشروعية التيمم، وهو نفي الحرج {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} (¬1). والمشاق في العبادة على قسمين: الأول: مشقة لا تنفك عن العبادة، كالوضوء والغسل في البرد، والصوم في نهار الصيف، والمخاطرة بالنفس بالجهاد، فمثل هذا لا يوجب تخفيفاً في العبادة؛ لأنها قررت معه. الثاني: تنفك عن العبادة، وهي ثلاثة أنواع: الأول: نوع في المرتبة العليا، كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع، فهذا يوجب التخفيف؛ لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة، فلو حصلنا هذه العبادة طلباً لثوابها لذهب أمثالها. ونوع في المرتبة الدنيا: كأذى وجع في أصبع، فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة، لشرف العبادة وخسة هذه المشقة. ¬

(¬1) المائدة: 6.

النوع الثالث: مشقة بين هذين النوعين، فما قرب من العليا أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا لم يوجب، وما توسط يختلف فيه لتجاذب الطرفين له (¬1)، فإذا وجدت مشقة في تحصيل القيام في الصلاة، وكان إدراك القيام سبباً في التأثير على الخشوع سقط القيام، وإن كان يمكنه أن يفعل، ولكن مع المشقة العظيمة، وإذا كان يشق على المريض الصيام بسبب المرض، ويجد من ذلك حرجاً ومشقة أبيح له الفطر، ولو كان يمكنه أن يقوم بالصيام ولكن مع المشقة الكبيرة، وهكذا نقول في التيمم، إذا كان يلحقه باستعمال الماء مشقة كبيرة، أبيح له التيمم بصرف النظر هل التيمم يزيد في مرضه أو يؤخر في برئه، والله أعلم. فإن قيل: ما ضابط المشقة المؤثرة في التخفيف من غيرها؟ ذكر القرافي في الذخيرة ما معناه: إذا سألنا الفقهاء عن ذلك، قالوا: يرجع إلى العرف، فيحيلون على غيرهم، ويقولون: لا نحد ذلك، فلم يبق بعد الفقهاء إلا العوام، والعوام لا يصح تقليدهم في الدين. جوابه: هذا السؤال له وقع عند المحققين، وإن كان سهلاً في بادي الرأي، ونحن نقول: ما لم يرد الشرع بتحديده يتعين تقريبه بقواعد الشرع؛ لأن التقريب خير من التعطيل لما اعتبره الشرع، فنقول: على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة فيحققه بنص أو إجماع أو استدلال، ثم ما ورد عليه بعد ذلك من المشاق مثل تلك المشقة أو أعلى، جعله مسقطاً، وإن كان أدنى لم يجعله، مثاله: التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بحديث كعب ¬

(¬1) الذخيرة للقرافي (1/ 340).

ابن عجرة، فأي مرض آذى مثله أو أعلى منه أباح، وإلا فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص، فيعتبر به غيره من المشاق، والعبادات مشتملة على مصالح المعاد، فلا يليق تفويتها بمسمى المشقة، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أجرك على قدر نصبك، فيحرص العبد على العبادة مع المشقة المحتملة، وإذا كانت المشقة كبيرة غير محتملة إلا بجهد ونصب؛ فإنه حينئذ له أن يترخص برخص الله سبحانه وتعالى، وإذا ترك العمل لعذر كتب له ما كان يعمل صحيحاً كما جاء في الحديث الصحيح، والله أعلم.

المبحث الثاني: في تيمم الصحيح إذا كان يحتاج الماء لشرب ونحوه

المبحث الثاني: في تيمم الصحيح إذا كان يحتاج الماء لشرب ونحوه الرجل إذا كان معه ماء، ويحتاج إليه لشرب ونحوه، كأن يخاف على نفسه العطش، أو يخاف على رفيقه، أو على ذي حياة محترم من ذمي، أو مستأمن، أو دابة، فإنه يجب عليه التيمم، ويحرم عليه الوضوء. وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، والثوري (¬2)، وإسحاق (¬3)، وحكى ابن المنذر الإجماع على هذا. قال ابن المنذر: " أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا خشي على نفسه العطش، ومعه مقدار ما يتطهر به من الماء، أنه يبقي ماءه للشرب، ويتيمم " (¬4). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/ 114)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 554)، شرح فتح القدير (1/ 134)، الجوهرة النيرة (1/ 21). وفي مذهب المالكية، جاء في المدونة (1/ 46): " قال مالك: من كان معه ماء، وهو يخاف العطش إن توضأ به، قال: يتيمم، ويبقي ماؤه ". وانظر القوانين الفقهية (ص: 29). وقال الشافعي في الأم (1/ 44): " إذا وجد الجنب ماء يغسله، وهو يخاف العطش، فهو كمن لم يجد ماء". وانظر المجموع (2/ 281). وفي مذهب الحنابلة: انظر مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله (1/ 128)، ومسائل أحمد رواية ابن هانئ (67)، المغني (1/ 165)، كشاف القناع (1/ 163)، شرح منتهى الإرادات (1/ 91). (¬2) الأوسط لابن المنذر (2/ 29). (¬3) المرجع السابق. (¬4) الأوسط (2/ 28)

ومستند هذا الإجماع قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (¬1). وقياساً على المريض، بجامع أن كلاً منهما خائف على نفسه. وقال النووي: وأما إذا كان الحيوان غير محترم، كالحربي، والمرتد، والخنزير، والكلب، وسائر الفواسق الخمس المذكورة في الحديث، وما في معناها فلا يجوز صرف الماء إلى سقيها بالاتفاق، بل يجب الوضوء به، فإن سقاها وتيمم أثم" (¬2). فإن كانت المسألة بالاتفاق كما قال النووي فالحجة ما حكاه من قيام الاتفاق، وإن لم يكن هناك اتفاق ففي كلام النووي نظر، (1403 - 36) فقد روى البخاري من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً، فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً. قال: في كل كبد رطبة أجر. ورواه مسلم أيضاً (¬3). فعموم: " في كل كبد رطبة أجر " يشمل كل ما استثناه النووي رحمه الله تعالى. (1404 - 37) وروى البخاري من طريق عوف، عن الحسن وابن سيرين، ¬

(¬1) النساء: 29. (¬2) المجموع (2/ 282). (¬3) البخاري (2363)، ومسلم (2244).

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنَزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك. ورواه مسلم بنحوه (¬1). وكون المرتد يجب قتله من قبل الحاكم هذا لا يوجب أبداً تركه يتعذب ويموت عطشاً، وربما رجع عن ردته قبل قتله، نعم في الحربي إذا خاف منه على نفسه أو على المسلمين إذا سقاه أن يتقوى على ذلك لا يجوز سقيه، دفعاً لضرره، وليس عقوبة له، وإن تمكن من قتله فهو أولى من تركه يموت عطشاً، وإن لم يخش على نفسه، ولا على المسلمين منه، وكان من بلد يتولى القتال فيها الجند، ولم يكن منهم لم يتركه يموت عطشاً، والله أعلم. وذهب بعض المالكية بأن الكلب غير المأذون فيه والخنزير إن قدر على قتلهما وإلا ترك الماء لهما، ولا يعذبان بالعطش (¬2). وهذا أقوى من كلام النووي رحمة الله عليهما جميعاً. والمالكية يقسمون الخوف من العطش تقسيماً جيداً، فيذكرون أن خوف العطش: تارة يخاف منه، ولم يتلبس به، وتارة يكون متلبساً به، فإن خاف العطش سواء كان الخوف متيقناً أو غلب على ظنه العطش، وخاف هلاكاً، أو أذى شديداً، فإنه يجب عليه التيمم، ويحبس الماء لدفع العطش. ¬

(¬1) البخاري (3331)، ومسلم (2245). (¬2) انظر حاشية العدوي على شرح الكفاية (1/ 223)، وقال الدسوقي في حاشيته (1/ 149): " ومثلهما - يعني مثل الكلب غير المأذون فيه والخنزير - الجاني إذا ثبت عند الحاكم جنايته، وحكم بقتله قصاصاً فلا يدفع إليه الماء، ويتيمم صاحبه، بل يعجل بقتله، فإن عجز عنه دفع الماء له ".

وإن غلب على ظنه أنه يلحقه أذى، وإن لم يكن شديداً، فإنه يجوز له التيمم، ولا يجب عليه. وإن شك في ذلك فلا يتيمم، ومن باب أولى إن توهم ذلك. وإن كان متلبساً بالعطش بالفعل، وخاف الضرر عليه فإنه يتيمم مطلقاً، تحقق الضرر أو ظنه أو شك فيه أو توهمه؛ لأن التلبس بالعطش مظنة الضرر (¬1). ويلحق بالخوف على نفسه من العطش، الخوف على نفسه من اللصوص، أو السباع إذا خرج إلى الماء، كما أنه لا فرق بين الخوف على نفسه، أو الخوف على غيره من رفيق ودابة ونحوهما. قيل للإمام أحمد كما في مسائل ابن هانئ: " الرجل معه إداوة من ماء لوضوئه، فيرى قوماً عطاشاً، أحب إليك أن يسقيهم، ويتيمم، أو يتوضأ؟ قال: يسقيهم، ثم ذكر عدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم تيمموا، وحبسوا الماء لسقياهم " (¬2). ونقل هذا ابن قدامة في المغني، وعارضه بقول أبي بكر والقاضي حيث قالا: لا يلزمه بذله؛ لأنه محتاج إليه. فتعقبه ابن قدامة بقوله: " إن حرمة الآدمي تقدم على الصلاة، بدليل ما لو رأى حريقاً أو غريقاً في الصلاة عند ضيق وقتها لزمه ترك الصلاة، والخروج لإنقاذه، فلأن يقدمها على الطهارة بالماء أولى " (¬3). ¬

(¬1) انظر حاشية العدوي على شرح الكافية (1/ 223). (¬2) مسائل ابن هانئ (67). (¬3) المغني (1/ 165).

وجاء في مسائل أبي داود: " قلت لأحمد: المرأة تكون في القرية، والماء عنده مجتمع الفساق، فتخاف أن تخرج، أتتيمم؟ قال: لا أدري " (¬1). ولعل الإمام أحمد رأى أن هذا الأمر قد يكون من المرأة من قبيل توهم الخوف الذي لا حقيقة له، وإلا فإن المرأة إذا خافت على عرضها حرم عليها الخروج؛ لأن المحافظة على العرض أولى من تحصيل الطهارة بالماء، وإذا كان يشرع له التيمم إذا خاف على ماله من اللصوص، فلأن يشرع له التيمم إذا خاف على عرضه من باب أولى فأولى. كما جاء في مسائل أحمد رحمه الله: " قلت لأحمد: الذي يخاف أن يأتي الماء أيتيمم؟ قال: مم يخاف؟ قلت: من لا شيء، خاف هو بالليل. قال: رجل يخاف السبع؟ قلت: ليس سبع. فقال أحمد: لا بد من أن يتوضأ " (¬2). قلت: الخوف من الليل هو نوع من المرض، والمرض يبيح التيمم، ومقصود الشرع من مشروعية التيمم رفع الحرج، وتكليف هذا الرجل بالوضوء مع مرضه هذا يلحقه أذى نفسي شديد، فلا أرى حرجاً من تيمم هذا الرجل، وأكثر من يخاف من الليل أصحاب الأمراض النفسية المسمى في عصرنا بالاكتئاب، ويصيب كبار السن أكثر من غيرهم، فتجدهم يخافون من الظلمة، وإذا سألتهم مم يخافون؟ قالوا: لا ندري، نسأل الله لنا ولهم السلامة والعافية. ¬

(¬1) مسائل أبي داود (121). (¬2) مسائل أحمد برواية أبي داود (122).

المبحث الثالث: في الماء يباع بأكثر من ثمنه هل يجب شراؤه أو يتيمم؟

المبحث الثالث: في الماء يباع بأكثر من ثمنه هل يجب شراؤه أو يتيمم؟ إذا وجد الرجل الماء يباع، فإما أن يباع بأكثر من ثمنه، أو يباع بثمنه بدون زيادة، فإن بيع بثمنه، وهو واجد للثمن، غير محتاج إليه لزمه شراؤه، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقال النووي: يلزمه شراؤه بلا خلاف (¬2). وقيل: ليس عليه شراؤه لا بما قل ولا بما كثر، فإن اشتراه لم يجز الوضوء به، ولا الغسل، وفرضه التيمم، وله أن يشتريه للشرب إن لم يعطه بلا ثمن. وهو اختيار ابن حزم رحمه الله (¬3). (1405 - 38) واستدل ابن حزم رحمه الله بما رواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء (¬4). ¬

(¬1) انظر: شرح العناية على الهداية (1/ 142)، بدائع الصنائع (1/ 48 - 49)، شرح فتح القدير لابن الهمام (1/ 142)، المدونة (1/ 46)، حاشية الدسوقي (1/ 53)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 188)، منح الجليل (1/ 148)، الخرشي (1/ 189)، المجموع (2/ 293)، الإنصاف (1/ 269)، الكافي (1/ 66)، كشاف القناع (1/ 165). (¬2) المجموع (2/ 292). (¬3) المحلى (1/ 360) مسألة: 241. (¬4) صحيح مسلم (1565).

(1406 - 39) وبما رواه ابن ماجه من طريق سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وإنما جعل الشرع الناس شركاء في الماء، والكلأ والنار؛ لأنها أسباب الحياة: حياة الإنسان، وحياة الحيوان، وما كان سبباً في حياة الناس فلا يجوز احتكاره كالهواء. وهذه المسألة: أعني بيع فضل الماء فيه خلاف بين الفقهاء، ومحل تحرير هذه المسألة في كتاب البيع، ويكفي الإشارة في ذلك إلى الأقوال الفقهية، وسوف تحرر هذه المسألة بإذن الله تعالى في مظانها من كتاب البيوع، بلغنا الله ذلك سريعاً بمنه وكرمه، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، فأقول: قال القرطبي في المفهم: " المسلمون مجمعون على أن الإنسان إذا أخذ الماء من النيل مثلاً فقد ملكه، وأن له بيعه، وأما ماء الأنهار والعيون وآبار الفيافي التي ليست بمملوكة فالاتفاق حاصل على أن ذلك لا يجوز منعه، ولا ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (2473). (¬2) قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 81): " هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، محمد بن عبد الله بن يزيد المقري أبو يحيى، وثقه النسائي، وابن أبي حاتم، ومسلمة الأندلسي، والخليلي، وغيرهم، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين ". وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (1304). وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 298): رواه ابن ماجه بإسناد جيد.

بيعه، ولا يشك في تناول أحاديث النهي لذلك، وأما فضل ماء في ملك فهذا هو محل الخلاف، فهل يجبر على بذل فضله، أو لا يجبر، وإذا أجبر فهل هو بالقيمة أم لا؟ وسبب الخلاف معارضة النهي عن بيع فضل الماء لأصل الملكية، وقياس الماء على الطعام إذا احتيج إليه ". فالماء إذا كان نابعاً في أرض مباحة فهو مشترك بين الناس، وإن كان نابعاً في ملك رجل، فهل يجوز بيعه، أو لايجوز، فيه خلاف، والخلاف مبني على مسألة أخرى: هل يملك أو لا يملك؟ ومذهب الجمهور على أن الإنسان إذا حاز الماء من البئر واستخرجه منه فقد ملكه، وجاز له بيعه، (1407 - 40) واستدلوا بما رواه البخاري في صحيحه، من حديث الزبير ابن العوام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لأن يأخذ أحدكم أحبلاً، فيأخذ حزمة من حطب، فيبيع، فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس، أعطي أم منع (¬1). فإذا أذن الشرع في بيع الحطب، مع أن الشرع جعل الناس شركاء في الكلأ، فيحمل ذلك على أن الأمر قبل احتطابه، فكذلك الماء، إذا استخرجه من البئر في الأرض المباحة جاز له بيعه، وإن كانت البئر في أرضه فهو أحق بالماء إذا كان محتاجاً إليه، وإن كان غير محتاج إليه وجب بذله، ولا يجوز بيعه، ما دام الماء نقعاً في البئر، والله أعلم (¬2). ¬

(¬1) البخاري (2373). (¬2) القول الذي ذكرناه هو قول الجمهور، وأنه لا يجوز بيع الماء ما دام في البئر، مستدلين بعموم الأحاديث السابقة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الماء. =

هذا فيما يتعلق بالخلاف في جواز شراء الماء للوضوء، وأن الراجح مذهب الجمهور، وهو جواز شراء الماء للوضوء، وصحة بيع الماء إذا حازه الإنسان من الآبار ونحوها. وحتى لو صححنا مذهب ابن حزم رحمه الله في عدم جواز بيع الماء للتيمم، فإن الإنسان إذا منع حقه، فاشتراه فإن له أن يتوضأ به، والإثم على من منع بذله إلا بالمال، مثله مثل ما إذا احتاج إلى كلب صيد، ولم يبذل له إلا بالمال فإن له أن يشتريه، والإثم على من منعه بذل هذا الكلب إلا بالبيع. ¬

_ = ولأن مياه الآبار في الأعم الأغلب متصلة بالمجرى العام للمياه، فهي تأتي إليه من غير أرضه إلى ملكه، فأشبه الماء الجاري في النهر يأتي إلى ملكه، فله حاجته منه، وما فضل يجب بذله، وهذا القول هو قول في مذهب الحنفية، ومذهب المالكية والحنابلة. انظر بدائع الصنائع (6/ 188)، الذخيرة (6/ 166)، التمهيد (13/ 128)، المغني لابن قدامة (4/ 71)، الكافي في فقه أحمد (2/ 445)، المبدع (5/ 253)، المحرر (1/ 368). وذهب الشافعية إلى أنه يجوز له أن يمنع الناس منه ما دام أن الماء قد نبع في ملكه، انظر روضة الطالبين (5/ 310)، المهذب (1/ 428). وقال النووي في شرح مسلم (1565): واعلم أن المذهب الصحيح أن من نبع في ملكه صار مملوكاً له، وحملوا حديث جابر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء، إما على أن النهي للتنزيه، أو يحمل حديث جابر على حديث أبي هريرة في مسلم (1566): " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ " فيكون معنى الحديث أن تكون لإنسان بئر مملوكة في أرض موات، لا مالك لها، وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه، فلا يمكن لأصحاب المواشي رعيه إلا إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله لها بلا عوض؛ لأنه إذا منع بذله امتنع الناس من رعي ذلك الكلأ خوفاً على مواشيهم من العطش، ويكون بمنعه الماء مانعاً من رعي الكلأ، وعليه قال الشافعي: يجب بذل الماء بالفلاة بشروط: الأول: أن لا يكون هناك ماء آخر يستغنى به. الثاني: أن يكون بذل الماء لحاجة الماشية، لا لسقي الزرع. الثالث: أن لا يكون مالكه محتاجاً إليه. ومذهب الجمهور أصح، والله أعلم.

هذا فيما يتعلق بالخلاف فيما إذا وجد الماء يباع من غير زيادة في ثمنه. وإن وجد الرجل الماء يباع بأكثر من ثمنه، فهل يجب عليه شراؤه، أو يتيمم؟ اختلف أهل العلم في هذا. فقيل: يلزمه الشراء، ولو كان بجميع ماله، ذهب إلى هذا الحسن البصري رحمه الله تعالى (¬1). وقيل: إذا زاد ثمن الماء عن قيمته، فإن كان الغبن يسيراً، وجب عليه شراؤه، وإن كان فاحشاً فله أن يتيمم، وهذا هو مذهب الحنفية (¬2)، والحنابلة (¬3). ونظر المالكية إلى اعتبار المشتري، فقالوا: إن كان قليل الدراهم تيمم، أي حتى ولو عرض الماء بثمن المثل، وإن كان يقدر على الشراء فليشتره ما لم يرفعوا عليه في الثمن (¬4). ¬

(¬1) ذكر هذا مذهباً للحسن البصري رحمه الله كل من صاحب المجموع (2/ 293)، وبدائع الصنائع (1/ 48)،. (¬2) واختلف الحنفية في تفسير الفاحش، ففي النوادر: جعله في تضعيف الثمن، وقال بعضهم: هو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين. انظر شرح العناية على الهداية (1/ 142)، بدائع الصنائع (1/ 48 - 49)، شرح فتح القدير لابن الهمام (1/ 142). (¬3) قال في الإنصاف (1/ 269): " يباح له التيمم إذا وجد الماء يباع بزيادة كثيرة على ثمن مثله، هذا المذهب. ثم قال: ومفهو قوله: " إلا بزيادة كثيرة، أن الزيادة لو كانت يسيرة يلزمه شراؤه، وهو الصحيح، وهذا المذهب، وعليه أكثر الأصحاب". اهـ وانظر شرح منتهى الإرادات (1/ 92). (¬4) جاء في المدونة (1/ 46): " وسألت مالكاً عن الجنب لا يجد الماء إلا بثمن؟ قال: إن كان قليل الدراهم، رأيت أن يتيمم، وإن كان موسعاً عليه يقدر، رأيت أن يشتري ما لم =

دليل الحسن على وجوب شراء الماء ولو بماله كله

وقيل: لا يلزمه الشراء إذا زاد عن ثمن المثل، ولو كان يسيراً، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إن كان ذا مال كثير، ولا تجحف به الزيادة لزمه الشراء، ولو كانت الزيادة كثيرة، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل الحسن على وجوب شراء الماء ولو بماله كله. هذا القول انفرد به الحسن عن بقية العلماء، ولعل دليله، أن الله سبحانه وتعالى شرط للتيمم عدم وجود الماء بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء ¬

= يكثر عليه في الثمن، فإن رفعوا في الثمن يتيمم ويصلي ". اهـ واختلف المالكية في المقدار الذي إذا رفع امتنع من الشراء، فقيل: إذا زيد عليه أكثر من الثلث، لم يلزمه، وإن كانت الزيادة من الثلث فأقل لزمه شراؤه، اختاره عبد الحق من المالكية. وقال اللخمي: محل الخلاف إذا كان الثمن له بال، أما لو كان بمحل لا بال لثمن ما يتوضأ به فيه، كما لو كان ثمنه فلساً فإنه يلزمه شراؤه، ولو زيد عليه في الثمن مثل ثلثيه اتفاقاً. انظر حاشية الدسوقي (1/ 53)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 188)، منح الجليل (1/ 148)، الخرشي (1/ 189). كما نص المالكية بأنه إذا كان الرجل ملياً في بلده، فعليه أن يشتري المال ولو بذمته، إن وجد من يقرضه. (¬1) قال النووي في المجموع (2/ 293): قال أصحابنا: " سواء كثرت الزيادة عن ثمن المثل أو قلت، لا يلزمه الشراء، هذا هو الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور في كل الطرق، ونص عليه الشافعي رحمه الله في الأم. وفيه وجه آخر أنه يجب شراؤه بزيادة يتغابن الناس بها، وبه قطع البغوي، وحكاه المتولي عن القاضي حسين بعد حكايته عن الأصحاب أنه لا فرق، وانظر: المنثور في القواعد (2/ 183)، البحر المحيط (2/ 35). (¬2) الإنصاف (1/ 269) (¬3) قال في الإنصاف (1/ 269): " وعنه إن كان ذا مال كثير لا تجحف به زيادة لزمه الشراء ". الخ كلامه رحمه الله.

دليل الجمهور على أن الزيادة إذا كانت فاحشة تيمم

فتيمموا} (¬1)، وهذا واجد للماء، ثم إن المال إذا ذهب لتحصيل شرط الصلاة لم يكن مبذراً ولا مسرفاً؛ وذلك لأنه صرفه في أعظم الأعمال بعد الشهادتين، وهو الصلاة. دليل الجمهور على أن الزيادة إذا كانت فاحشة تيمم: الدليل الأول: دلت النصوص القطعية على حرمة مال المسلم، وأن حرمة ماله كحرمة نفسه، والضرر في النفس مسقط، فكذلك الضرر في المال (¬2). الدليل الثاني: أن التفريق بين الغبن اليسير والغبن الفاحش مقرر في الشرع، وأن الناس قد يقع بينهم مثل ذلك في معاملاتهم، ولا يعدون ذلك موجباً لفسخ البيع، فالمصير إليه متعين في وجوب شراء الماء. والعجب أن الشافعية يوجبون التيمم، ولو كان ذلك يلحق بالبدن ضرراً كبيراً من زيادة في المرض أو تأخير في البرء، ولا يجيزون التيمم إلا مع خوف تلف النفس أو العضو، مع أن زيادة المرض نوع من الضرر يلحق بالبدن، ويجيزون التيمم إذا لحق المال ضرر يسير، مع أن الأولى مراعاة البدن على مراعاة المال. دليل المالكية على اعتبار الثلث. المالكية يجعلون الزيادة على الثلث في كثير من الأمور فرقاً بين القليل ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) انظر العناية شرح الهداية (1/ 142).

دليل من قال: يلزمه الشراء إذا كان ذا مال ولا تجحف به الزيادة

والكثير، ويستدلون بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، (1408 - 41) فقد روى البخاري من طريق عامر بن سعد، عن سعد، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني، وأنا مريض بمكة، فقلت: لي مال، أوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ... الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). ومع أن هناك فرقاً كبيراً بين أن يستثني الإنسان من ماله مقدار الثلث، وبين أن يأخذ الأجنبي من ماله الثلث فأكثر، كما أن هذا قيل في باب الوصية، فسحب هذا الحكم على كل شيء في أبواب الفقه، في العبادات والمعاوضات، فيجعل ما زاد على الثلث كثير في كل شيء فيه تكلف، وفيه قياس أمور على أخرى دون أن يكون هناك علة جامعة. دليل من قال: يلزمه الشراء إذا كان ذا مال ولا تجحف به الزيادة: أن الله سبحانه وتعالى شرع التيمم بشرط المرض، أو عدم الماء، فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} إلى قوله سبحانه: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2)، فكان المعتبر إما عدم الماء، أو دفع الضرر كما لو كان مريضاً، وإذا كان المعتبر مع وجود الماء هو دفع الضرر، فإن صاحب المال الكثير لن يضره بذل الماء، ولو زاد على ثمنه كثيراً، وبالتالي لا يشرع له التيمم، ما دام أن الضرر أو عدم الماء غير موجود، والله أعلم. ¬

(¬1) البخاري (5354)، ومسلم (1628). (¬2) المائدة: 6.

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال، وحجة كل قول نجد أن أضعف الأقوال هو قول الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى، وهو وجوب بذل المال كله في شراء الماء، حتى ولو كان ذلك يلحق الضرر به. كما أن مذهب الشافعية الذي يعتبرون أدنى زيادة في قيمة الماء تجيز للإنسان أن يتيمم، ولو كان ذا مال كثير، هو قول ضعيف أيضاً. بقي قول الجمهور بأن الغبن إذا كان فاحشاً فإن له أن يتيمم، وقول من قال: يشتريه ولو كان الغبن فاحشاً إذا كان ذا مال، وكانت الزيادة لا تضره، فهذا القولان لهما حظ من النظر، وأجد نفسي تميل إلى اعتبار الضرر بقيمة الماء، فإن كانت قيمة المال تضره لم يجب عليه الشراء، ولو كان الماء بثمن المثل، وإن كانت لا تضره فإنه يجب عليه الشراء، والله أعلم.

المبحث الرابع: إذا وهب للرجل الماء فهل يجب قبوله؟

المبحث الرابع: إذا وهب للرجل الماء فهل يجب قبوله؟ إذا وهب للرجل ماء ليتوضأ به، فهل يلزمه قبوله؟. قيل: يلزمه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والصحيح المنصوص في مذهب الشافعية (¬3)، وأصح الوجهين في مذهب الحنابلة (¬4)، وهو اختيار ابن حزم (¬5). وقيل: لا يلزمه، اختاره بعض المالكية (¬6)، حكاه بعضهم وجهاً في مذهب الشافعية (¬7). ومن أجاز رأى أن بذل الماء بين الناس ليس فيه منة، فأوجب قبول الهبة. ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 135)، الجوهرة النيرة (1/ 26). (¬2) التاج والإكليل (1/ 343)، الذخيرة للقرافي (1/ 344) أنواع البروق في أنواع الفروق (3/ 21 - 22). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 291): " إذا وهب له الماء لزمه قبوله، هذا هو الصحيح المنصوص، وبه قطع الأصحاب في الطرق". وانظر منهاج الطالبين (ص: 6)، الإقناع للشربيني (1/ 79)، قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 15)، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/ 93). (¬4) المبدع (1/ 212)، (¬5) المحلى (1/ 360) (¬6) الذخيرة للقرافي (1/ 344). (¬7) قال النووي في المجموع (2/ 291): " حكى صاحب التتمة والبيان وجهاً أنه لا يلزمه قبوله، كما لا يلزمه قبول الرقبة للكفارة، وهذا ليس بشيء ". اهـ

ومن منع رأى أن ذلك لا يسلم من منة، والمنة نوع من الحرج والأذى، وقد قال سبحانه وتعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬1). والحقيقة أن المنة لها تعلق بالآخذ وبالدافع، فإن كان يعرف من حال الدافع أنه يتبع هبته المن والأذى، لم يلزمه قبوله، فإن بعض الناس قد يمن بالشيء الحقير، وبعض الناس قد يرى أن أخذك لهديته نوع من الإحسان عليه، كما قال الشاعر: يا ذا الذي يعطي الكثير وعنده ... أني عليه بأخذه أتصدق كما أن بعض الناس لم يتعود أن يسأل الناس شيئاً، حتى ولو لم يكن في ذلك منة من الدافع، فقد تعود أن تكون يده دائماً عليا، واليد العليا خير من اليد السفلى. وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس على ألا يسألوا الناس شيئاً، كما في صحيح مسلم، قال الراوي: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه (¬2). ثم هناك فرق بين أن يعطى الماء دون مسألة، وبين أن يسأل الناس الماء، ففي الأول أقل مِنَّة من الثاني. وإذا غلب على ظنه أن يمنعه، أو يمن عليه ينبغي أن يقال: لا يجب عليه السؤال حتى على مذهب الجمهور القائلين بأنه إذا وهب له وجب عليه قبوله. جاء في النوادر والزيادات: " وإنما على المسافر أن يطلب الماء ممن يليه، أو ممن يرجو أن يعطيه، وليس عليه أن يطلب أربعين رجلاً " (¬3). ¬

(¬1) الحج: 78. (¬2) صحيح مسلم (1043). (¬3) النوادر (1/ 112).

فقوله: " ممن يرجو أن يعطيه " دليل على أنه إذا غلب على ظنه أن لا يبذل له الماء لم يجب عليه السؤال. وقال الغزالي في الوسيط: " وهل يجب عليه الابتداء بسؤال هذه الأمور؟ فيه وجهان: لأن السؤال أصعب على ذوي المرواءت، وإن هان قدر المسؤول" (¬1). وأما إذا وهب له ثمنه، فقد قال النووي: لم يلزمه قبوله بالاتفاق، ونقل إمام الحرمين الإجماع فيه (¬2). وينبغي أن يقيد ذلك بأن لا يكون الواهب ابناً أو أباً؛ وذلك لأنه لا منة من الأب على ابنه، فإن الأب هو سبب وجود الابن، فالمنة له قائمة على ولده، أخذ منه ثمن الماء أو لم يأخذ، كما أن الولد لا يمن على أبيه إذا أعطاه ثمن الماء، وذلك لأن الأب إذا احتاج إلى مال ولده فله أن يأخذ قدر كفايته منه، والله أعلم. ¬

(¬1) الوسيط (1/ 364). (¬2) المجموع (2/ 291).

الفصل الثالث: في التيمم خوفا من فوات العبادة

الفصل الثالث: في التيمم خوفاً من فوات العبادة ذكرنا فيما سبق سببين من أسباب التيمم، وهو فقد الماء، والثاني: التعذر عن استعماله، وسوف نتناول في هذا الفصل بحثاً آخر، وهو في الرجل بين يديه الماء، إن توضأ به فاتته العبادة، أو فاته وقت أدائها، فهل يتيمم ليدرك العبادة، أو يتوضأ، والمسائل التي يتكلم عليها الفقهاء في مثل هذه المسألة ثلاث: الأولى: إذا خشي خروج وقت الفريضة. الثانية: إذا خاف فوت صلاة العيد أو صلاة الجنازة. الثالثة: إذا خاف فوت الجمعة.

المبحث الأول: إذ خاف خروج وقت الفريضة

المبحث الأول: إذ خاف خروج وقت الفريضة إذا خشي خروج الوقت لو توضأ، فهل يتيمم ليدرك الوقت، أو يتوضأ ولو صلى خارج الوقت، في هذه المسألة وقع نزاع بين أهل العلم، فقيل: يتيمم، ويصلي بالوقت، وهو المشهور من مذهب مالك (¬1). ¬

(¬1) قال في مواهب الجليل (1/ 329): " الحاضر الصحيح إنما يتيمم للجنازة المتعينة كما تقدم، وللفرائض الخمس غير الجمعة كما نبه على ذلك على المشهور ". وانظر الخرشي (1/ 185)، وذكر الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 1/183) قولين: الأول: أنه يتيمم، قال: وهو القول الذي رواه الأبهري، واختاره التونسي، وصوبه ابن يونس، وشهره ابن الحاجب، وأقامه اللخمي وعياض من المدونة. الثاني: يستعمل الماء، ولو خرج الوقت، وهو الذي حكى عبد الحق عن بعض الشيوخ الاتفاق عليه، ولكن المعول عليه الأول؛ فلذا اقتصر عليه المصنف. والذي تجمع لي أن في مذهب المالكية أقوالاً كثيرة لكن القولان السابقان هما أشهر الأقوال وهما الذي سوف نقتصر عليهما في المتن: الأول: أنه يتيمم، ولا يعيد كما سبق أن نقلته عن الشرح الصغير وعن مواهب الجليل. الثاني: أنه يتيمم، ويعيد. الثالث: أنه يتيمم، ويعيد إن كان في الحضر، ولا يعيد إن كان مسافراً. الرابع: أنه يتوضأ، ولو خرج الوقت، وسبقت الإشارة إليه من كلام الصاوي على الشرح الصغير. الخامس: التفريق بين أن يكون الماء في البئر يحتاج إلى نزح، فيتيمم، وبين أن يكون الماء بين يديه، لكن يخشى إن استعمله أن يخرج الوقت، فإنه يتوضأ، ولو خرج الوقت. جاء في النوادر والزيادات (1/ 110): " ومن العتبية روى عيسى، عن ابن القاسم، في الحضري يخاف طلوع الشمس إن استقى الماء، فليتيمم. وقال: لا يتيمم. وقال في موضع آخر: قال مالك: يتيمم ويعيد الوضوء ". اهـ فهذه ثلاثة أقوال. =

وقيل: بالتفريق بين النائم والناسي وبين غيرهما، فإن كان نائماً، فاستيقظ من نومه، أو ناسياً فتذكر في آخر الوقت، فرأى إن اشتغل بتحصيل الطهارة بالماء خرج الوقت، وإن تيمم أدرك الوقت، أنه يتوضأ، وإن خرج الوقت، وإن لم يكن نائماً ولا ناسياً، فإنه يتيمم لإدراك الوقت، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬1). ¬

= ويراجع هذا الكتاب لزاماً فقد ذكر نصوصاً كثيرة في مذهب المالكية، يضيق شرط الكتاب عن تتبعها ونقلها. وجاء في المدونة (1/ 44): " سألنا مالكاً عن المسافر يأتي البئر في آخر الوقت، فهو يخاف إن نزل ينزع بالرشا، ويتوضأ، يذهب وقت تلك الصلاة؟ قال: فليتيمم، وليصل. فقلت لابن القاسم: أفيعيد الصلاة بعد ذلك إذا توضأ في قول مالك؟ قال: لا. قلت: فإن كان هذا الرجل في حضر، أتراه في قول مالك بهذه المنزلة في التيمم؟ قال: نعم. قال ابن القاسم: وقد كان مرة من قوله في الحضري أنه يعيد إذا توضأ ". اهـ فهنا حسب نص المدونة أنه يتيمم، وفي الإعادة قولان: أنه لا يعيد مطلقاً، وقول آخر: بأن الحضري يعيد دون المسافر. وهناك من المالكية من يفرق بين أن يكون الماء بالبئر يحتاج إلى نزع بالرشا، وبين أن يكون الماء بين يديه، لكن إن استعمله خرج الوقت، فقال ابن شاس: يستعمله عند المغاربة؛ لأنه واجد. وقال أبو محمد القاضي: أنه يتيمم، وحكاه الأبهري رواية. قال عبد الحق في النكت: والفرق بين النزع من البئر والاستعمال، أن المستعمل واجد، والنازح فاقد، وإنما هو يتسبب ليجد. قال ابن يونس: ولا فرق عندي بين تشاغله باستعماله أو باستخراجه من البئر، فإن المقصود الصلاة في الوقت، وكذلك قال ابن القصار والقاضي عبد الوهاب. انظر الذخيرة للقرافي (1/ 337)، ومواهب الجليل (1/ 329). (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 469)، الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 178).

دليل من قال: يتيمم ويصلي

وقيل: يتوضأ، ولو صلى خارج الوقت، اختاره المغاربة من المالكية (¬1)، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والحنابلة (¬3). دليل من قال: يتيمم ويصلي. الدليل الأول: قالوا: إن التيمم إنما شرع للحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت، ولولا مراعاة الشارع لهذه المصلحة لقيل: ينتظر إلى حين وجود الماء، فيصليها بالماء، فمشروعية التيمم دليل على اهتمام الشارع بالوقت، وأن المحافظة على الوقت بالتيمم، أولى من المحافظة على الطهارة المائية خارج الوقت. والدليل على عناية الشارع بالوقت أنه لم يجعل قتال العدو مبيحاً لتأخير ¬

(¬1) الذخيرة للقرافي (1/ 337)، الشرح الصغير (1/ 183). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 51)، البحر الرائق (1/ 167)، الدر المختار (1/ 246)، فالحنفية يقسمون العبادات إلى ثلاثة أقسام: الأول: نوع لا يخشى فواتها أصلاً لعدم توقيتها، كالنفل المطلق فهذا لا يصليها إلا مع وجود الماء. الثاني: نوع يخشى فواتها، وليس لها بدل عندهم، كصلاة الجنازة وصلاة العيد، فهذه يتيمم لها إذا خشي فواتها. الثالث: نوع يخشى فواتها، وتقضى بعد وقتها كالفرائض، أو يصلى بدلها كالجمعة إذا فاتت صلاها ظهراً، فهذه لا يتيمم لها، وإن خرج الوقت، بل ينتقل إلى بدلها، أو يقضيها. (¬3) قال عبد الله بن أحمد في مسائله (1/ 135): " سألت أبي عن رجل في مصر من الأمصار، فخاف إن هو ذهب يجئ بالماء ليتوضأ، أن تطلع عليه الشمس، يتيمم؟ قال: لا يكون هذا في مصر من الأمصار، إنما يتيمم في السفر، أو غير واجد للماء ". اهـ وانظر الإنصاف (1/ 303)، المستوعب (1/ 281 - 882)، المحرر (1/ 23).

الدليل الثاني

الصلاة عن وقتها، قال تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} (¬1). فرخص الله لعبيده في الصلاة حال الخوف رجالاً على الأقدام، أو ركباناً على الخيل والإبل ونحوهما، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه، وجوز ترك بعض الشروط كاستقبال القبلة، بل ومن الاكتفاء بالإيماء عن الركوع والسجود كل ذلك من أجل المحافظة على الوقت، مع أنه يمكنه أن يصلي خارج الوقت مع قيامه بشروط العبادة وأركانها، فالوقت أولى بالمراعاة من الطهارة المائية، والله أعلم. الدليل الثاني: القياس على المسافر، وذلك أن المسافر إذا علم أنه لا يجد الماء إلا بعد خروج الوقت كان فرضاً عليه أن يصلي بالتيمم باتفاق الأئمة، وليس له أن يؤخر الصلاة عن وقتها حتى يصل إلى الماء، بل إذا فعل ذلك كان عاصياً بالاتفاق (¬2)، فكذلك الحال هنا، يجب عليه أن يؤدي الصلاة بالتيمم، ولا يخرج العبادة عن وقتها طلباً للطهارة المائية. الدليل الثالث: (1409 - 42) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، ¬

(¬1) البقرة: 239. (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 472).

دليل من قال: يتوضأ، ولا يتيمم

فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما خشي فوات الرد على الرجل إن هو توضأ لرد السلام، تيمم في الحضر مع وجود الماء من أجل إدراك الرد على الرجل على طهارة، فكذلك إذا خشي فوات وقت الفريضة تيمم لإدراك الوقت، وإن كان الماء موجوداً. دليل من قال: يتوضأ، ولا يتيمم. (1410 - 42) ما رواه أبو ذر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - له: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك لهو خير (¬2). [حديث حسن] (¬3). فقوله: " فإذا وجد الماء فليمسه بشرته " مطلق، سواء خاف خروج الوقت أو لا، فالله سبحانه وتعالى إنما أجاز التيمم بشرطين: فقد الماء، أو العجز عن استعماله لمرض ونحوه، أما مع وجود الماء، والقدرة على استعماله فإنه يجب عليه استعماله، ولو خرج الوقت؛ وخروج الوقت معذور فيه؛ لأنه مشتغل بتحصيل شرط العبادة. ¬

(¬1) البخاري (337)، ومسلم (369). (¬2) مصنف عبد الرزاق (913). (¬3) سبق تخريجه، انظر رقم (39) من كتاب أحكام المياه.

دليل ابن تيمية على التفريق بين النائم والناسي وبين غيرهما

ويجاب: بأن من المسافر إذا علم أنه يدرك الماء بعد خروج الوقت لم يجز له تأخير الصلاة، ووجب عليه التيمم، ولم يكن اشتغاله بتحصيل شرط العبادة عذراً له في ترك التيمم، بل وجب عليه التيمم، فتبين أن هذا التعليل ليس بجيد. دليل ابن تيمية على التفريق بين النائم والناسي وبين غيرهما: قال: إن الوقت في حق النائم من حين الاستيقاظ، فلا تفوته الصلاة، (1411 - 43) وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى. الحديث قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة (¬1). فإذا كان النوم ليس فيه تفريط، وقد أمر النائم بإيقاع الصلاة إذا قام من النوم، فهذا هو وقتها بالنسبة إليه، لا فرق بين كون الصلاة في الوقت أو خارج الوقت. الراجح: بعد استعراض الأقوال، نجد أن مذهب الحنابلة والشافعية أضعف الأقوال القائلين بتقديم الطهارة على تحصيل الوقت، ويبقى الترجيح بين قول المالكية وبين اختيار ابن تيمية، وذلك في التفريق بين النائم وغيره، وهو محل اجتهاد لم يتبين لي الراجح فيه، وإن كنت أميل ميلاً طفيفاً إلى رأي المالكية، والله أعلم. ¬

(¬1) مسلم (681).

المبحث الثاني: إذا خاف فوت صلاة الجنازة والعيد، فهل يتيمم؟

المبحث الثاني: إذا خاف فوت صلاة الجنازة والعيد، فهل يتيمم؟ اختلف أهل العلم في الرجل يخشى فوات صلاة الجنازة وصلاة العيد، هل يتيمم؟. فقيل: يتيمم ويصلي، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2)، اختارها ابن تيمية (¬3). وقيل: لا يتيمم في الحضر لصلاة جنازة إلا إن تعينت عليه، ويتيمم لها المسافر والمريض مطلقاً تعينت عليه أم لا، وهذا مذهب المالكية (¬4). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 51)، شرح فتح القدير (1/ 138)، البحر الرائق (1/ 165). والعجب أن الحنفية رحمهم الله يجيزون التيمم لخوف فوت الجنازة مع أن الصلاة على الجنازة ليست واجبة، ومع أنه يمكن له أن يصلي على القبر، ولا يجيزون التيمم لخروج وقت الصلاة، مع أن إدراكه واجب، بل هو آكد شروط الصلاة على الإطلاق. (¬2) الروايتين والوجهين (1/ 94) المستوعب (1/ 282). (¬3) الاختيارات (ص: 20)، الفتاوى الكبرى (5/ 309). (¬4) المدونة (1/ 47)، الإشراف (1/ 171)، قال في مواهب الجليل (1/ 328): " يعني: أن الحاضر الذي ليس بمسافر، وهو صحيح إنما يتيمم للجنازة إذا تعينت: بأن لا يوجد متوضئ يصلي عليها، ولا يمكن تأخيرها حتى يحصل الماء، أو يصل إليه ..... ثم ذكر وإن لم تتعين: فيتيمم لها المسافر كما تقدم عن المدونة وكذا المريض، قال في التوضيح؛ لأن المريض يتيمم لما هو أدون منها .. ". وانظر الفواكه الدواني (1/ 153)، حاشية الدسوقي (1/ 149)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 184). وهذا الكلام مشى عليه المتأخرون من فقهاء المالكية، ويذهبون إلى أن الحاضر الصحيح لا يتيمم للصلوات التالية: =

وقيل: لا يتيمم مطلقاً للجنازة والعيد، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). ¬

= 1 - صلاة الجمعة. 2 - صلاة الجنازة إذا لم تتعين بأن وجد من يصلي عليها من المتوضئين. 3 - السنن والنوافل، فلا يتيمم لها استقلالاً، ويجوز أن يصليها متصلة بالفريضة. 4 - دخول المسجد، فلا يتيمم الحاضر الصحيح لدخول المسجد للصلاة أو للجلوس إلا أن يضطر إلى المبيت فيه، أو كان الماء بداخل المسجد، ولم يجد من يناوله إياه. انظر ما تقدم من المراجع، وهذا كله مخالف لظاهر الموطأ (1/ 55) فقد ذكر مالك جملة من الأحكام تدل على أنه لا فرق بين الوضوء والتيمم، ومن ذلك قول مالك: " من قام إلى الصلاة، فلم يجد ماء، فعمل بما أمره الله به من التيمم، فقد أطاع الله، وليس الذي وجد ماء بأطهر منه، ولا أتم صلاة ... وقال أيضاً في الرجل الجنب: إنه يتيمم ويقرأ حزبه من القرآن، ويتنفل، ما لم يجد ماء ". (¬1) قال الشافعي كما في مختصر المزني (ص: 100): " ولا يتيمم صحيح في مصر لمكتوبة ولا لجنازة، ولو جاز ما قال غيري: يتيمم للجنازة لخوف الفوت لزمه ذلك لفوت الجمعة والمكتوبة، فإذا لم يجز عنده لفوت الأوكد كان من يجوز فيما دونه أبعد، وروي عن ابن عمر أنه كان لا يصلي على جنازة إلا متوضئاً ". اهـ وانظر كتاب الأم أيضاً (1/ 52، 232)، والمجموع (2/ 280)، نهاية المحتاج (1/ 309). (¬2) قال القاضي أبو يعلى في كتاب المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 94): " واختلفت في الجنازة إذا حضرت، وخاف إن توضأ فاتته الصلاة عليها، هل يجوز له التيمم؟ على روايتين، نقلهما المروذي: إحداهما: لا يجوز، وهو أصح؛ لأن كل صلاة لم يجز التيمم لها إذا لم يخف فوتها لا يجوز وإن خاف فوتها، دليله صلاة الجمعة، وعكسه إذا عدم الماء. والثانية: يجوز؛ لأنه لما لم يصل إلى أداء فرضه باستعمال الماء جاز له أن يتيمم، دليله العادم للماء، وهذا التعليل لا يخرج على المذهب؛ لأن صلاة الجنازة لا تفوت عندنا". اهـ وانظر: المستوعب (1/ 282)، والمغني (1/ 166)، رؤوس المسائل الخلافية لأبي المواهب العكبري (1/ 82). =

دليل من قال: يتيمم لفوت الجنازة.

وقيل: يصلي عليها من غير وضوء ولا تيمم، وهو قول الشعبي (¬1)، ومحمد بن جرير الطبري (¬2). دليل من قال: يتيمم لفوت الجنازة. الدليل الأول: (1412 - 44) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عمر بن أيوب الموصلي، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا خفت أن تفوتك الجنازة، وأنت على غير وضوء، فتيمم، وصل (¬3). [المحفوظ وقفه على عطاء، وأنكر أحمد وابن معين والبيهقي إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنه] (¬4). ¬

= وقال في الإنصاف (1/ 304): " ظاهر كلام المصنف أن صلاة العيد لا تصلى بالتيمم مع وجود الماء خوفاً من فواتها قولاً واحداً، وهو الصحيح عند أكثر الأصحاب، قال ابن تميم: وألحق عبد العزيز صلاة العيد بصلاة الجنازة، وقطع غيره بعدم التيمم فيها، وقال في الرعايتين: وفي صلاة الجنازة، وقيل: والعيد إذا خاف الفوت: روايتان ... ". (¬1) الاستذكار (3/ 42)، المغني (1/ 166)، المجموع (5/ 181). (¬2) المجموع (5/ 181)، فتح الباري (3/ 192)، عمدة القارئ (2/ 245). (¬3) المصنف (2/ 497) رقم 11467. (¬4) والأثر رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 86) من طريق يحيى بن حسان، ثنا عمر بن أيوب به. ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 70)، والبيهقي في الخلافيات (855) من طريق المعافى ابن عمران، عن مغيرة بن زياد به. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1413 - 45) ما رواه ابن عدي من طريق يمان بن سعيد، حدثنا وكيع ابن الجراح، ثنا معافي بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، ¬

_ = واختلف على عطاء: فرواه مغيرة بن زياد، وهو صدوق له أوهام، عن عطاء، عن ابن عباس موقوفاً عليه، وضعفه الحافظ في الفتح (3/ 191). وخالفه من هو أوثق منه، خالفه ابن جريج، وهو من أصحاب عطاء الملازمين له، فأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 498) رقم 11471، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 86) من طريق ابن جريج، عن عطاء من قوله. وإسناده صحيح، وصححه الحافظ في الفتح. وقد روى ابن أبي شيبة (2/ 498) 11477 حدثنا يزيد بن هارون، عن عبد الملك، عن عطاء في الرجل يخاف يحضر الجنازة، فيخاف أن تفوته الصلاة عليها، قال: لا يتيمم. وإسناده صحيح، فصار لعطاء قولان في المسألة، أحدهما يتيمم، والأخر لا يتيمم. وقال عبد الله بن أحمد كما في العلل (3/ 35) سمعت أبي يقول: مغيرة بن زياد أحاديثه مناكير، روى عن عطاء، عن عائشة ... وذكر حديثاً منكراً، ثم قال: وحديث عطاء، عن ابن عباس، في الجنازة تمر، وهو غير متوضئ، قال: يتيمم. قال أبي: رواه عبد الملك وابن جريج، عن عطاء موقوفاً، لم يقولا: عن ابن عباس، خالفا مغيرة بن زياد. وانظر نحو هذا الكلام في الكتاب نفسه أيضاً (3/ 163) رقم 4729. قلت: (قوله: عبد الملك وابن جريج) لعل الصواب (عبد الملك بن جريج) فتأمل. ونقل البيهقي بسنده كلام الإمام أحمد في الخلافيات (2/ 515). كما أعله يحيى بن معين أيضاً، فساق البيهقي في المعرفة (2/ 45) وفي الخلافيات (857) بسنده عن يحيى بن معين، أنه أنكر على المغيرة بن زياد حديث التيمم على الجنازة، إنما هو عن عطاء، فبلغ به ابن عباس. اهـ وانظر إتحاف المهرة (8072).

الدليل الثالث

عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا فاجأتك جنازة، وأنت على غير وضوء، فتيمم (¬1). [وهذا أشد نكارة من الذي قبله] (¬2). الدليل الثالث: (1414 - 46) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن ¬

(¬1) الكامل (7/ 182)، ومن طريق البيهقي في الخلافيات (858)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (635). (¬2) وقد اختلف على المعافى بن عمران، فرواه يمان بن سعيد، عن وكيع بن الجراح، عن المعافى به مرفوعاً. وخالفه غيره فرواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 70) من طريق النصر بن تمار، والبيهقي في الخلافيات (855) من طريق هشام بن براهم، كلاهما عن المعافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس من قوله. وقد بينت في الأثر السابق بأن هذا الاختلاف من قبل المغيرة بن زياد، فإنه لم يضبطه، فتارة يوقفه على ابن عباس، وتارة يرفعه، وقد رواه الثقات عن عطاء من قوله، وهو الصواب. قال الإمام أحمد كما في الخلافيات للبيهقي (2/ 516): قال الإمام أحمد: وقد روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس بشيء. اهـ وقال أحمد أيضاً في كتاب المعرفة للبيهقي (2/ 45): وقد رواه يمان بن سعيد، عن وكيع، عن معافى بن عمران، عن مغيرة فارتقى به درجة أخرى، فبلغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واليمان بن سعيد ضعيف، ورفعه خطأ فاحش ". اهـ وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 379): قال أحمد: مغيرة بن زياد ضعيف الحديث، حدث بأحاديث مناكير، وكل حديث رفعه فهو منكر ". اهـ وقال ابن عدي في الكامل عقب روايته له: وهذا مرفوع غير محفوظ، والحديث موقوف على ابن عباس. اهـ قلت: بل موقوف على عطاء، كما بينت في الأثر السابق.

عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أنه لما تيمم بالمدينة مع جود الماء خوفاً من فوت السلام، كان تيممه خوفاً من فوات الجنازة وصلاة العيد من باب أولى، فكل ما يفوت لا إلى بدل يجوز أداؤه بالتيمم، بخلاف الجمعة فإنها تفوت إلى بدل، وهو الظهر، وبخلاف الصلوات الخمس، فإنها تفوت إلى بدل، وهو القضاء. ولأنه جعل التيمم في تلك الحالة طهوراً، لأنه حين تيمم تحقق له أنه ذكر الله على طهارة، فاقتضى أن يكون فعل الصلاة به جائزاً، ولأنها صلاة لا يقدر على فلعها إلا بالتيمم، فاقتضى أن يجزئه كالمريض والمسافر. ويجاب: قالوا: إن الطهارة ليست بشرط في رد السلام، فالتيمم لذلك أهون مما هو شرط فيها كالصلاة على الجنازة والعيد. وأما الصلاة على الجنازة فإنها لا تفوت، لأنه يمكنه الصلاة على القبر، قال النووي: " الجنازة لا تفوت، بل يصليها على القبر إلى ثلاثة أيام بالإجماع، ويجوز بعدها عندنا" (¬2). ¬

(¬1) البخاري (337)، ومسلم (369). (¬2) المجموع (2/ 281).

الدليل الرابع

ويرد على الجواب: بأن رد السلام ليس من شرطه الطهارة، هذا لا خلاف فيه، وإذا تحقق أن المتيمم لرد السلام قد ارتفع حدثه وأصبح طاهراً، فقد أذن لمن تطهر أن يصلي على الجنازة وأن يصلي صلاة العيد، لأن الحدث قد ارتفع. وأما قولهم بأن الجنازة لا تفوت بإمكان الصلاة على القبر، قلنا: المقصود بقولنا تفوت ما قاله المرداوي، في كتابه الإنصاف، قال: " مراد المصنف (ابن قدامة) وغيره بفوات الجنازة: فواتها مع الإمام، قاله القاضي وغيره. قال جماعة: ولو أمكنه أن يصلي على قبره لكثرة وقوعه، وعظم المشقة فيه ". قلت: والذي أذن بأن تقضى السنة الراتبة للفجر بعد الصلاة إذا فاتته مع أنه وقت نهي، مع إمكان أن يصليها ضحى في غير وقت النهي، لكن باعتبار أن ذلك قد يشق عليه، أذن له أن ينتهك وقت النهي، فهذا مثله، وقد يشق عليه اتباع الجنازة للمقبرة والصلاة على القبر، وإذا فرغ الإمام من الصلاة رفعت الجنازة. الدليل الرابع: (1415 - 47) ما رواه ابن المنذر من طريق محمد بن عمرو، ثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن مسلم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه أتي بجنازة، وهو على غير وضوء، فتيمم وصلى عليها (¬1). [وقفه على ابن عمر وهم، والصواب كون الأثر موقوفاً على عامر الشعبي] (¬2). ¬

(¬1) الأوسط (2/ 70). (¬2) ورواه البيهقي في المعرفة (2/ 44) من طريق محمد بن عمرو بن أبي مذعور، قال: حدثنا عبد الله بن نمير به. =

دليل من قال: لا يتيمم

دليل من قال: لا يتيمم. الدليل الأول: قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، وهذا واجد للماء مع القدرة على استعماله من غير خوف، ولا ضرر، فلا يعذر بالتيمم. الدليل الثاني: (1416 - 48) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر ¬

= قال البيهقي: وهذا لا أعلمه إلا من هذا الوجه، فإن كان محفوظاً فإنه يحتمل أن يكون ورد في سفر، وإن كان الظاهر بخلافه، فالكتاب، ثم السنة، ثم القياس يدل على وجوب الوضوء عند وجود الماء، وعدم المرض فيما لا يجوز للمحدث فعله، وقد رواه أحمد بن حنبل في التأريخ، عن عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا إسماعيل، عن رجل، عن عامر، قال: إذا فجأتك الجنازة وأنت على غير وضوء، فصل عليها ". قال البيهقي: هذا هو الحديث عن إسماعيل، أظنه ابن أبي خالد، عن رجل يقال: هو مطيع الغزال، عن عامر الشعبي، وحديث أبي مذعور يشبه أن يكون خطأ، والله أعلم. اهـ وقال البيهقي في الخلافيات (2/ 512): " قال الإمام أحمد: وقد وجدت لحديث ابن أبي مذعور عن عبد الله بن نمير علة واستدللت بها على خطأ روايته، ثم ساق البيهقي بإسناده إلى أحمد بن حنبل، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا إسماعيل، عن رجل، عن عامر ... وذكر الأثر السابق. قال أحمد: فعاد الحديث إلى قول عامر الشعبي، وليس له أصل من حديث عبد الله بن عمر، والله أعلم. (¬1) المائدة: 6.

الدليل الثالث

سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته " فأوجب مس الماء للبشرة إذا وجد الماء، وهذا واجد للماء، فكيف يتيمم مع وجوده. والجواب عن هذا الدليل والذي قبله: ما ذكرنا من مشروعية التيمم إذا خاف خروج الوقت مع وجود الماء، فالتيمم إنما شرع من أجل المحافظة على الوقت، فإنه يمكن لمن عدم الماء في السفر أن يؤخر الصلاة عن وقتها، ويصليها إذا وجد الماء، فإذا كان لا يجوز له ذلك، وإن كان يعلم أنه يجد الماء بعد خروج الوقت، فكذلك يشرع له التيمم إذا خاف فوت العبادة، لأن فوت العبادة أبلغ من فوت وقتها، والله أعلم. الدليل الثالث: (1417 - 49) ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر (¬2). إسناده صحيح. ويجاب عن هذا: بأن هذا الأثر رد على الشعبي والطبري ممن يجيز الصلاة على الجنازة بغير طهارة، وأما من اشترط لها التيمم، فقد صلاها بطهارة، لأن التيمم على ¬

(¬1) المصنف (913)، وسبق تخريجه، انظر حديث رقم (39) من كتاب المياه. (¬2) الموطأ (1/ 230).

دليل من قال: يصلى على الجنازة بالتيمم بشرط إن تعينت عليه

الصحيح مطهر، كما مر معنا في الأحاديث الصحيحة: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " وحديث " الصعيد الطيب طهور المسلم ". دليل من قال: يصلى على الجنازة بالتيمم بشرط إن تعينت عليه: تعليلهم في ذلك، بأن صلاة الجنازة إذا تعينت أصبحت فرض عين عليه، فصار معذوراً في التيمم لها، وأما إذا لم تتعين، بأن وجد من يصلي عليها من المتوضئين فإنها لا تجب عليه، لأنها لما كانت على الكفاية جرت مجرى السنن في حقه. وهذا التعليل عليل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - تيمم لرد السلام، والطهارة ليست شرطاً، بل ولا واجباً في رد السلام، وإنما رد السلام من ذكر الله، والطهارة للذكر سنة بالاتفاق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الخطاب في فرض الكفاية موجه إلى جميع الناس إلى أن تفعله طائفة منهم، وأن فعل الجميع يقع فرضاً، وليس من قبيل السنن. دليل الشعبي والطبري على جواز صلاة الجنازة بدون طهارة: حجتهم في ذلك بأن الصلاة على الميت دعاء له بالمغفرة والرحمة، وهذا الفعل لا تشترط له الطهارة. والصحيح أن الدعاء للميت صلاة، وليست مجرد دعاء له. قال ابن عبد البر: " وقد أجمعوا أنه لا يصلى عليها إلا إلى القبلة، ولو كانت دعاء كما زعم الشعبي لجازت إلى غير القبلة، ولما أجمعوا على التكبير فيها، واستقبال القبلة علم أنها صلاة، ولا صلاة إلا بوضوء" (¬1). ¬

(¬1) الاستذكار (3/ 52).

الراجح

قلت: ولو قال: ولا صلاة إلا بطهور لكان أعم، لأن الصلاة بالتيمم تجوز، وهي بلا وضوء. الراجح من أقوال أهل العلم. بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بجواز التيمم لمن خاف فوات الصلاة على الجنازة أو العيد، ويشق عليه أن يصلى على الجنازة بالمقبرة أو على القبر فإن ذلك سائغ إن شاء الله تعالى، والأصل في مشروعيته تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرد السلام، والله أعلم.

المبحث الثالث: التيمم لخوف فوات الجمعة

المبحث الثالث: التيمم لخوف فوات الجمعة اختلف العلماء فيما إذا خاف الرجل أن تفوته صلاة الجمعة، فهل يتيمم لها، أو يتوضأ ولو فاتته، بناء على أن الجمعة لها بدل، وهو صلاة الظهر، وصلاة الظهر يمكنه أن يصليها في وقتها؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقيل: لا يتيمم لها، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، ومذهب الحنابلة (¬4). وقيل: بل يتيمم لها، وهو قول في مذهب المالكية خلاف المشهور عند المتأخرين (¬5)، واختاره ابن تيمية (¬6). وقيل: يتيمم، ويصلي الجمعة، ثم يتوضأ، ويعيدها ظهراً، وهو قول في مذهب المالكية (¬7). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 43)، تحفة الفقهاء (1/ 39)، البحر الرائق (1/ 167)، الدر المختار (1/ 246)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 77). (¬2) التاج والإكليل (1/ 329)، مواهب الجليل (1/ 329)، الشرح الكبير مطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 148)، الفواكه الدواني (1/ 153). (¬3) مختصر المزني (1/ 100)، الأم (1/ 52،232)، والمجموع (2/ 280)، نهاية المحتاج (1/ 309). (¬4) الإنصاف (1/ 303)، المبدع (1/ 232) .. (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 148)، مواهب الجليل (1/ 329). (¬6) المبدع (1/ 323)، الاختيارات (ص: 20). (¬7) التاج والإكليل (1/ 329)، مواهب الجليل (1/ 329).

والأدلة في هذه المسألة هي الأدلة في المسألة السابقة، وهي إذا خشي فوات العيد، هل يتيمم، حتى يدرك الصلاة أو لا يتيمم في الحضر مع وجود الماء، إلا أن صلاة الجمعة قد رأى بعضهم إن هناك إجماعاً على عدم صلاتها بالتيمم؛ والإجماع لعله غير محفوظ. قال ابن المنذر: "قال أبو ثور: لا أعلم خلافاً أن رجلاً لو أحدث يوم الجمعة، وخاف فواتها أن ليس له أن يتيمم، ويصلي، فإذا كان هذا من القوم إجماعاً لوجود الماء، كان كل محدث في موضع يجد فيه الماء مثله " (¬1). والخلاف محفوظ عند المالكية كما تبين لك من خلال عرض الأقوال في المسألة، كما أنه رأي ابن تيمية. ¬

(¬1) الأوسط (2/ 71).

الباب الثالث: في شروط التيمم

الباب الثالث: في شروط التيمم الشرط الأول: النية الكلام في النية طويل ومتشعب، وكنت قد تطرقت إلى كثير من أحكامها في كتاب الوضوء، عند الكلام على شروط الوضوء، وسوف أتطرق إلى مباحث النية الخاصة بالتيمم، والتي لم نتطرق لها في أحكام الوضوء، وسوف أقسم الكلام على أحكام النية إلى ثلاثة فصول إن شاء الله تعالى، وأقسم هذه الفصول إلى مباحث، والمباحث إلى فروع، والفروع إلى مسائل، حتى آتي إن شاء الله تعالى على أكثر أحكامها، يسر الله ذلك بمنه وكرمه.

الفصل الأول: في اشتراط النية لطهارة التيمم

الفصل الأول: في اشتراط النية لطهارة التيمم اختلف العلماء في اشتراط النية في الطهارة عموماً، وقد سبق لنا أن ذكرنا خلاف العلماء في كتاب الوضوء، فقيل: النية شرط في طهارة الأحداث كلها، الأصغر والأكبر، لا فرق بين طهارة الماء، وبين طهارة التيمم، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: عكسه، أن النية ليست بشرط مطلقاً، وهذا القول منسوب لزفر من الحنفية (¬2)، وللأوزاعي رحمه الله تعالى (¬3)، وللحسن بن صالح (¬4). وقيل: كل طهارة بالماء تجوز بغير نية، ولا يجزئ التيمم إلا بنية، وهو ¬

(¬1) انظر في مذهب المالكية: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 568)، مواهب الجليل (1/ 234)، الخرشي (1/ 190). وفي مذهب الشافعية انظر: المجموع (1/ 355)، الروضة (1/ 47)، مغني المحتاج (1/ 47)، نهاية المحتاج (1/ 156)، الحاوي الكبير (187) وفي مذهب الحنابلة: انظر المغني (1/ 158)، الإنصاف (1/ 281)، إعلام الموقعين (1/ 219)، الفروع (1/ 224)، معونة أولي النهى شرح المنتهى (1277)، الممتع شرح المقنع (1/ 176)، المحرر (1/ 11)، كشاف القناع (1/ 85)، الكافي (1/ 23)، المبدع (1/ 116). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 52). (¬3) الأوسط لابن المنذر (1/ 370). (¬4) أحكام القرآن للجصاص (2/ 472).

دليل الجمهور على اشتراط النية في الطهارتين الماء والتيمم

مذهب الحنفية (¬1)، وبه قال سفيان الثوري (¬2). دليل الجمهور على اشتراط النية في الطهارتين الماء والتيمم: سبق لنا أن ذكرنا أدلتهم في كتاب الحيض والنفاس، فأغنى عن إعادته هنا. دليل الحنفية على التفريق بين طهارة الماء وطهارة التراب. أما دليل الحنفية على عدم اشتراط النية في طهارة الماء، فقد ذكرته، وأجبت عنه، في كتابي أحكام المسح على الحائل (¬3). وأما وجه التفريق بين طهارة الماء وطهارة التراب: ذكروا وجوهاً منها: الأول: أن التيمم في اللغة: القصد، وذلك يدل على اشتراط النية فيه، بخلاف الوضوء والغسل، فإن النية قدر زائد على مرور الماء على الأعضاء المغسولة، فإذا جرى الماء على أعضاء الوضوء، أو عم الماء جميع البدن فيصدق عليه أنه امتثل الأمر الشرعي بقوله: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬4). ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 472)، بدائع الصنائع (1/ 52)، المبسوط (1/ 116)، شرح فتح القدير (1/ 32)، البناية في شرح الهداية (1/ 173)، تبيين الحقائق (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 24)، مراقي الفلاح (ص:29). (¬2) الأوسط لابن المنذر (1/ 370). (¬3) انظر شروط المسح على الخفين: الشرط الرابع عشر (ص: 267). (¬4) المائدة: 6.

وقوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1). فهذا الأمر تحصيله لا يتوقف على النية. الثاني: الماء مطهر بنفسه، فلم يفتقر إلى قصد فإذا وجدت النظافة به على أي وجه كان فقد حصل المقصود، بخلاف التراب فإنه ملوث، وإنما جعل طهارة عند الحاجة، والحاجة إنما تعرف بالنية. ويجاب عن هذا بجوابين: الأول: أن يقال: وكذلك التراب ملوث بنفسه، فلم يفتقر إلى قصد فإذا وجد التلوث به على أي وجه كان فقد حصل المقصود. الوجه الثاني: لا نسلم أن التراب غير مطهر، فإنه قد ثبت أنه مطهر للحدث والخبث معاً، فالدليل على أنه مطهر من الأحداث قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬2). فنص على أن الغاية من مشروعية التيمم إرادة التطهير مع نفي الحرج عن هذه الأمة. ومن السنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديثَ، والحديث رواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬3). ¬

(¬1) النساء: 43. (¬2) المائدة: 6. (¬3) صحيح البخاري (335).

دليل من قال: التيمم يصح بدون نية

وفي حديث أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير (¬1). [حديث حسن وسبق تخريجه] (¬2). فحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن الصعيد طهور المسلم. فهذا دليل على أن التراب مطهر للحدث، وأما طهارة الخبث بالتراب فذلك مثل الاستجمار، ومثل طهارة النعل بالتراب، وطهارة ذيل المرأة بمروره على تراب طاهر، فالقول بأن التراب غير مطهر مخالف لنصوص الكتاب والسنة، والتفريق بين الوضوء والتيمم، فلا تجب النية في طهارة الوضوء، وتجب النية في طهارة التيمم تفريق بين ما جمع الله سبحانه وتعالى، فقد جمع بينهما في آية المائدة، ذاكراً سبحانه وتعالى الوضوء بقوله {إذا قمتم إلى الصلاة} إشارة إلى النية، وقال في التيمم {فتيمموا} إشارة إلى قصد الصعيد، فمن فرق بينهما فقد فرق بين ما جمع الله، وقوله في غاية الضعف. دليل من قال: التيمم يصح بدون نية: قالوا: إن التيمم بدل عن طهارة الماء، وإذا كانت طهارة الماء وهي الأصل تصح بلا نية، فكذلك طهارة البدل؛ لأن البدل يأخذ حكم المبدل. ¬

(¬1) سنن الترمذي (124). (¬2) انظر حديث رقم (39) من كتاب أحكام الطهارة.

الراجح من الخلاف

ويجاب: لا نسلم أن طهارة الماء تصح بلا نية، وما بني على قول ضعيف كان ضعيفاً، فالصحيح من أقوال أهل العلم أن الطهارة من الأحداث كلها تفتقر إلى نية، وقد قدمنا مجموعة من الأدلة على اشتراط النية في بحث سابق، فأغنى عن إعادته هنا (¬1)، والله أعلم. الراجح من الخلاف. بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القول بأن النية شرط في طهارة الحدث مطلقاً، سواء كانت الطهارة بالماء، أو بالتراب هو القول الراجح، لقوة أدلته، وضعف أدلة الأقوال الأخرى، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر شروط المسح على الخفين: الشرط الرابع عشر في كتابي أحكام المسح على الحائل.

الفصل الثاني: لو سفت الريح التراب على وجهه ونوى به التيمم

الفصل الثاني: لو سفت الريح التراب على وجهه ونوى به التيمم. اختلف أهل العلم فيما لو ألقت عليه الريح تراباً عمَّ وجهه ويديه، هل يصح تيممه؟. قال النووي: فإن لم يقصدها لم يجزه بلا خلاف (¬1). قلت: ينبغي أن يكون فيه خلاف، فإن من لم يشترط النية ربما صحح تيممه، كما أن من لم يشترط النية في غسل الجنابة، لو انغمس في نهر ارتفع حدثه، إلا أنني لم أقف على من صرح بصحة تيممه في مسألتنا هذه، فليتأمل. وأما إذا نوى به التيمم وصمد للريح، فقيل: لا يصح تيممه، وهو مذهب المالكية (¬2)، والمنصوص في مذهب الشافعية، وعليه أكثرهم (¬3)، ورجحه كثير من الحنابلة (¬4). ¬

(¬1) المجموع (2/ 271). (¬2) الذخيرة (1/ 356). (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 49): " وإن سفت عليه الريح تراباً عمه، فأمر ما على وجهه منه على وجهه لم يجزه؛ لأنه لم يأخذه لوجهه، ولو أخذ ما على رأسه لوجهه، فأمره عليه أجزأه، وكذلك لو أخذ ما على بعض بدنه غير وجهه وكفيه ". وقال النووي في المجموع (2/ 271): " وإن قصدها وصمد لها - يعني الريح - ففيه خلاف مشهور، حكاه الأصحاب وجهين، وحقيقته قولان: أحدهما: لا يصح، وهو الصحيح، نص عليه في الأم، وهو قول أكثر الأصحاب المتقدمين، وقطع به جماعات من المتأخرين، وصححه جمهور الباقين، ونقله إمام الحرمين عن الأئمة مطلقاً، قال: والوجه الآخر ليس معدوداً في المذهب. والثاني: يصح، وهو قول القاضي أبي حامد، واختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني .. ". وانظر حاشية الجمل (1/ 216).تحفة الحبيب على شرح الخطيب (1/ 285). (¬4) قال صاحب الإنصاف (1/ 288): " ولو نوى وصمد وجهه للريح، فعم =

تعليل من قال: لا يصح تيممه

وقيل: يصح تيممه، اختاره بعض الشافعية (¬1)، وبعض الحنابلة (¬2). وقيل: إن مسح أجزأ، وإلا فلا، اختاره ابن الصباغ من الشافعية (¬3)، والمتأخرون من الحنابلة، قال صاحب الإنصاف: وهذا الصحيح قياساً على مسح الرأس (¬4). تعليل من قال: لا يصح تيممه: قالوا: إن النقل شرط، ولم يوجد. ويجاب: أين الدليل على أن النقل شرط، فالقصد للشي: وهو النية كافية في المطلوب، وقصده لا يستلزم قصد النقل، وكما أن النقل ليس شرطاً في طهارة الماء، وهي أصل، كذلك لا تكون شرطاً في طهارة البدل، فلو نزل المطر على بدن الجنب ونوى به الغسل، حتى عمم به جميع بدنه ارتفع حدثه، فكذلك هنا. ¬

= التراب جميع وجهه، لم يصح على الصحيح من المذهب، اختاره المصنف (ابن قدامة) وابن عقيل، وقدمه في الكافي، وهو ظاهر كلام الخرقي". واختاره ابن مفلح في الفروع (1/ 225 - 226). (¬1) المجموع (2/ 271). (¬2) قال صاحب الإنصاف (2/ 288): " وقيل: يصح، اختاره القاضي، والشريف أبو جعفر، وصاحب المستوعب، والتلخيص والمجد والحاوي الكبير ومجمع البحرين، وقدمه في الرعاية الكبرى ... ". (¬3) البيان في مذهب الشافعي (1/ 283). (¬4) الإنصاف (1/ 288 - 289)، وعليه مشى صاحب كشاف القناع (1/ 174)، وصاحب مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 211).

دليل من قال: يصح تيممه

دليل من قال: يصح تيممه: قاله قياساً على ما ذكرنا من صحة الغسل لو جلس تحت المطر أو الميزاب، ونزل عليه الماء، فعمم جميع بدنه أن حدثه يرتفع، فكذلك هنا. دليل من قال: إن مسح أجزأ، وإلا فلا: الدليل الأول: استدل بقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} فطلب الشرع المسح، فإذا لم يمسح لم يمتثل للأمر. الدليل الثاني: ولأنه يتعذر وصول التراب إلى جميع وجهه من غير مسح. ويجاب عن هذين الدليلين: بأن المسح ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو آلة لتحقيق المطلوب، ولذلك لو يممه غيره مع قدرته صح تيممه، مع أنه لم يمسح هو، وإنما مسح غيره، فلا فرق بين أن يكون مرور التراب عن طريق يد غيره، وبين أن يكون مروره عن طريق الريح إذا قصد التيمم، فالغاية أن يمس التراب وجهه ويديه، وأما كون التعميم متعذراً، فالتعميم حتى باليد متعذر، فالمسح الأصل فيه التخفيف بخلاف الغسل، كالمسح على الخفين ومسح الرأس وغيرهما، فإذا أصاب أكثر التراب غالب وجهه أجزأه، والله أعلم. الدليل الثالث: قالوا اشترطنا المسح قياساً على ما ذكرناه في كتاب الوضوء فيما لو غسل رأسه بدلاً من مسحه، فمنهم من قال: لا يجزئ مطلقاً، ومنهم من قال:

يجزئ مطلقاً، ومنهم من قال: إن مسح أجزأ، ليتحقق امتثال الأمر، والكلام في تلك المسألة كالكلام في هذه، ولا فرق، وقد سبق تحريرها. وأجاب المانعون عن هذا الدليل: قالوا: هناك فرق بين ما لو غسل رأسه أجزأ عن مسحه، وبين هذه المسألة، فإن من غسل رأسه قد قام الدليل على صحته، لأنه إذا أجزأ غسل الرأس عن الجنابة، فلأن يجزئ ذلك عن الوضوء أولى بخلاف التيمم. والراجح أنه لا فرق. تنبيه: قال المسعودي: " وإن أدنى وجهه من الأرض أو تمعك في التراب، فحصل الغبار على أعضاء التيمم، فإن كان لعجز صح، وإن كان لا لعجز، فهل يصح؟ فيه وجهان " (¬1). قلت: ينبغي أن يصح مطلقاً، وبدون شرط الغبار. ¬

(¬1) البيان في مذهب الشافعي (1/ 284).

الفصل الثالث: في صفة النية

الفصل الثالث: في صفة النية سوف نخصص هذا الفصل في الكلام عن كيفية النية في التيمم، فلو نوى المتيمم نية التيمم فقط فهل يجزئ؟ أو لا بد من نية ما يتيمم له، وما يتيمم عنه، فأنوي مثلاً التيمم، للصلاة أو للطواف أو نحوهما، عن الحدث الأصغر، أو عن الحدث الأكبر، أو عن النجاسة على البدن كما في مذهب الحنابلة، فعندنا ثلاثة أشياء، الأولى: نية التيمم. الثانية: نية ما يتيمم له من الطاعات كالصلاة والطواف وقراءة القرآن، وهل إذا نوى الفرض منها يكفي عن نية النفل؟ الثالثة: نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، وسوف نتناول هذه المسائل واحدة واحدة، وما يتفرع منها.

المبحث الأول: لو نوى بفعله مطلق التيمم

المبحث الأول: لو نوى بفعله مطلق التيمم اختلف الفقهاء فيما لو نوى بتيممه فرض التيمم هل يصح تيممه؟ فقيل: يصح تيممه، وهو اختيار أبي بكر بن سعيد البلخي من الحنفية، ونسب إلى أبي حنيفة (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يصح، وهو مذهب الحنفية (¬5)، وأصح الوجهين في مذهب ¬

(¬1) نسب هذا مذهباً للبلخي ابن الهمام في شرح فتح القدير (1/ 130) كما ذكر أيضاً قوله: " روى في النوادر: لو مسح وجهه وذراعيه ينوي التيمم جاز به الصلاة، وعن أبي حنيفة فيمن تيمم لرد السلام يجوز، فعلى هاتين الروايتين تعتبر مجرد نية التيمم، لكنه غير الظاهر من المذهب ". اهـ وذكر نحو هذا الكلام الزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 40). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 154)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 193)، الفواكه الدواني (1/ 157)، الخلاصة الفقهية (ص: 42). (¬3) المجموع (2/ 260)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 101 - 102)، تحفة المحتاج (1/ 359). (¬4) الإنصاف (1/ 291)، الفروع (1/ 225). (¬5) قال ابن عابدين في حاشيته (1/ 247): وشرطها: أن ينوي عبادة مقصودة الخ أو الطهارة، أو استباحة الصلاة، أو رفع الحدث أو الجنابة، فلا تكفي نية التيمم على المذهب، ولا تشترط نية التمييز بين الحدث والجنابة خلافاً للجصاص. اهـ قال ابن عابدين (1/ 247): " وتقدم في الوضوء أنه تكفي نية الوضوء، فما الفرق بينه وبين نية التيمم تأمل، ولعل وجه الفرق أنه لما كان بدلاً عن الوضوء أو عن آلته على ما مر من الخلاف، ولم يكن مطهراً في نفسه إلا بطريق البدلية، لم يصح أن يجعل مقصوداً بخلاف =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الوضوء فإنه طهارة أصلية، والأقرب أن يقال: إن كل وضوء تستباح به الصلاة، بخلاف التيمم فإن منه ما لا يستباح به، فلا يكفي للصلاة التيمم المطلق، ويكفي الوضوء المطلق، هذا ما ظهر لي والله أعلم ". اهـ ومع أن الحنفية يرون أن التيمم يرفع الحدث إلا أنهم في النية لم يجعلوا حكم التيمم حكم الماء من كل وجه، فلا يشترط عندهم نية التيمم للحدث أو للجنابة، بل يشترط لصحة نية التيمم الذي تصح به الصلاة أن ينوي أحد أمور ثلاثة: 1 - نية الطهارة من الحدث. 2 - أو استباحة الصلاة 3 - أو نية عبادة مقصودة لا تصح بدون طهارة، ومعنى كونها عبادة مقصودة أي لا تجب في ضمن شيء آخر بطريق التبعية. فلو تيمم لدخول المسجد لم يصح أن يصلي به؛ سواء كان محدثاً حدثاً أكبر أو حدثاً أصغر؛ لأنه إن كان محدثاً حدثاً أصغر فلفوات الشرطين: فدخول المسجد ليس عبادة مقصودة لذاتها، ويصح بدون الطهارة من الحدث الأصغر، وإن كان محدثاً حدثاً أكبر، فهو وإن كان لا يحل بدون طهارة، فلفوات الشرط الثاني: وهو كونه عبادة مقصودة لذاتها. ولو تيمم لقراءة القرآن، فإن كان جنباً جاز له أن يصلي به الصلوات، لأن القراءة عبادة مقصودة، وهو لا يحل من الجنب بدون طهارة، فصحت صلاته، وإن كان محدثاً حدثاً أصغر لم يصل به؛ لأن الطهارة من الحدث الأصغر للقراءة يصح بدون طهارة. هذا ملخص مذهب الحنفية في التيمم الذي تصح به الصلاة، أما التيمم الذي يصح، ولا يصلي به فلا يشترط فيه هذه الشروط، فلو تيمم لدخول المسجد، أو تيمم لرد السلام أو تيمم للأذان ولذكر الله صح تيممه لهذا، ولكن لا يصلي به، هذا هو الفرق بين من تيمم للجنازة، فيصلي به سائر الصلوات، وبين من تيمم للذكر، فيصح لما تيمم له، ولكن لا يصلي به، والله أعلم. انظر مذهبهم في الكتب التالية: البحر الرائق (1/ 157 - 158)، شرح فتح القدير (1/ 131)، حاشية ابن عابدين (1/ 245). ويتضح ضعف مذهب الحنفية رحمهم الله تعالى أنه إن تيمم عنده لقراءة القرآن، فإن كان جنباً فله أن يصلي بهذا التيمم، وإن كان محدثاً حدثاً أصغر فليس له أن يصلي به، مع أن الحدث الأصغر أخف من الحدث الأكبر، والفعل واحد، فهذا مما يدل على =

وجه من قال بالصحة

الشافعية (¬1)، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬2). وجه من قال بالصحة: القياس على الوضوء، فكما أنه لو نوى فرض الوضوء صح الوضوء، فكذلك التيمم. وجه من قال: لا يصح: وأما دليل الحنفية فاستدلوا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} ثم قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬3)، فتضمنت الآية نية التيمم للصلاة، وليس مطلق النية (¬4). وأما تعليل إمام الحرمين من الشافعية: قال: لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح فعل الصلاة، فلا بد من تعيين ما يتيمم له كالصلاة والطواف، وما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، قالوا: ويفارق الوضوء، أن الوضوء مقصود لنفسه، ولهذا استحب تجديده بخلاف التيمم، وعلل السيوطي التفريق بين التيمم والوضوء بقوله: " إن التمييز لا يحصل بذلك - أي بنية الفرض - لأن التيمم عن الحدث والجنابة فرض، وصورته ¬

= ضعف القول. (¬1) المجموع (2/ 260)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 101 - 102)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 19)، تحفة المحتاج (1/ 359). (¬2) الإنصاف (1/ 291)، الفروع (1/ 225). (¬3) المائدة: 6. (¬4) انظر بتصرف البحر الرائق (1/ 159).

واحدة بخلاف الوضوء والغسل فإنما يتميزان بالصورة " (¬1). والراجح أنه لو تيمم بنية الفرض أو بنية رفع الحدث فإن حدثه يرتفع، ولا إشكال كما نبهت على أن هذه المسألة إنما بنيت على أصل ضعيف، وهو أن التيمم لا يرفع الحدث، وهو خلاف الكتاب والسنة كما بينت في مبحث مستقل. ¬

(¬1) الأشباه والنظائر (ص: 19).

المبحث الثاني: إذا نوى المتيمم بتيممه رفع الحدث

المبحث الثاني: إذا نوى المتيمم بتيممه رفع الحدث اختلف أهل العلم فيما إذا نوى المتيمم رفع الحدث، فقيل: يرتفع حدثه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يرتفع حدثه، وهو مذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). والقول في أدلة هذه المسألة راجع إلى مسألة سبق بحثها، وهي هل التيمم يرفع الحدث، أو يبيح فعل الصلاة فقط؟ فمن رأى أن التيمم يرفع الحدث كالحنفية لم يمنع التيمم بهذه النية، ومن رأى أن التيمم لا يرفع الحدث منع المتيمم أن يتيمم بهذه النية، وقد رجحت فيما سبق أن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً إلى حين وجود الماء، وقد ذكرنا أدلتهم فيما سبق، فأغنى عن إعادته هنا، ولا يختلف القول لو نوى الطهارة، فإن نية الطهارة راجع إلى مسألتنا، هل التيمم مطهر، أو مبيح فقط، والله أعلم. ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 130)، (¬2) البيان في مذهب الشافعي (1/ 277)، المجموع (2/ 254)، (¬3) الفروع (1/ 225). (¬4) المعونة (1/ 146)، الخرشي (1/ 190)، الفواكه الدواني (1/ 157)، حاشية الدسوقي (1/ 154) الإشراف (1/ 167)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 192). (¬5) المجموع (2/ 254)، مغني المحتاج (. . .)، البيان في مذهب الشافعي (1/ 276). (¬6) قال في المغني (1/ 158): " وينوي إستباحة الصلاة، فإن نوى رفع الحدث لم يصح؛ لأنه لا يرفع الحدث ". وانظر الإنصاف (1/ 290)، شرح منتهى الإرادات (1/ 98)، كشاف القناع (1/ 174).

المبحث الثالث: في اشتراط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر

المبحث الثالث: في اشتراط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر الفرع الأول: لو تيمم ولم ينو ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر عرفنا فيما سبق الخلاف فيما لو نوى التيمم فقط، وسوف نناقش في هذا المبحث حكم نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، فقيل: لا يشترط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، بل يكفي أن ينوي التيمم للصلاة مثلاً، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3). وقيل: إن كان التيمم من الحدث الأصغر لم يلزمه استحضاره حال ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 157 - 158)، شرح فتح القدير (1/ 131)، حاشية ابن عابدين (1/ 245)، وقد بينت مذهب الحنفية بأوضح من هذا في فصل: إذا نوى التيمم، وأطلق، فانظره مشكوراً إن كان هناك حاجة لبيان مزيد. (¬2) قال النووي في المجموع (2/ 254): " وأما صفة النية في التيمم فإن نوى استباحة الصلاة أو استباحة ما لا يباح إلا بالطهارة صح تيممه بلا خلاف؛ لأنه نوى مقتضاه". اهـ فلم يتعرض النووي إلى نية ما يتيمم عنه من حدث أو جنابة، فالشافعية عندهم يجب تعيين ما يتمم له من صلاة ونحوها، لا نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، ولذلك ذكر النووي بأنه لو تيمم عن الحدث الأصغر، ناسياً حدثه الأكبر ارتفع حدثه الأكبر، ودلل على ذلك بقوله في المجموع (2/ 260): إن الجنب ينوي بتيممه ما ينويه المحدث، وهو استباحة الصلاة، فلا فرق. اهـ فهذا صريح بأنه لا يشترط أن ينوي الجنابة بالتيمم. (¬3) مواهب الجليل (1/ 346).

التيمم، بل يكفي فيه استباحة الصلاة من غير ذكر المتعلق، وفي الأكبر لابد من استحضار المتعلق، فإن ترك ذلك أعاد أبداً. هذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬1). وقيل: يستحب له استحضار نية الحدث الأكبر، فإن ترك هذا مطلقاً عامداً أو ناسياً أعاد في الوقت، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). ¬

(¬1) انظر التاج والإكليل (1/ 345)، والثمر الداني شرح رسالة القيرواني (ص:76)، الخلاصة الفقهية (ص: 38)، الشرح الكبير (1/ 154)، الفواكه الدواني (1/ 157). وقال في مواهب الجليل (1/ 345 - 346): قال ابن عبد السلام: فإذا نوى استباحة الصلاة، فلا بد أن يتعرض مع ذلك إلى الحدث الأصغر أو الأكبر، فإن نسي، وهو جنب أن يتعرض لذلك لم يجزه خلافاً لابن وهب. انتهى. قال الحطاب: ويفهم منه أنه إذا نسي أن يتعرض لذلك، وهو غير جنب أجزأه تيممه، وصرح بذلك البساطي، قال: وحاصل كلامه: أن الحدث الأصغر لا يلزمه استحضاره حال التيمم، بل يكفي فيه استباحة الصلاة من غير ذكر المتعلق، وفي الأكبر لا بد من استحضار المتعلق، فإن ترك عامداً أعاد أبداً، أو ناسياً أعاد في الوقت، هذا هو المشهور، وقيل: يعيد في الوقت، وقيل: لا إعادة. انتهى. قال الحطاب: وما ذكره في نية الحدث الأصغر هو ظاهر كلامهم، وأما ما ذكره أنه هو المشهور في الإعادة خلاف المشهور، قال ابن الحاجب: فإن نسي الجنابة لم يجزه على المشهور، ويعيد أبداً. انتهى. قال ابن ناجي في شرح المدونة: وتعليله فيها بأن التيمم إنما كان للوضوء، لا للغسل يدل على أن الإعادة أبداً، وهو قول مالك في الواضحة. انتهى. وعزاه ابن عرفة للمدونة، واستظهره ابن رشد في سماع أبي زيد، والله أعلم. انتهى نقلاً من مواهب الجليل. (¬2) مواهب الجليل (1/ 346) وذكر فيه ثلاثة أقوال، منها أنه يعيد ما دام في الوقت، وما دام عُلِّقَت الإعادة في الوقت، فإنه على الاستحباب؛ لأن الواجب يعاد أبداً في الوقت وغيره.

وقيل: يشترط أن ينوي نية ما يتيمم له، وما يتيمم عنه، وهذا مذهب الحنابلة (¬1). والراجح أن التيمم يقوم مقام الماء، فإذا نوى فرض التيمم، فقد قام بما هو واجب عليه، وإذا نوى الصلاة بتيممه، ارتفع حدثه الأصغر والأكبر؛ لأنه يلزم من نية الصلاة ارتفاع الحدث، وإذا نوى ارتفاع الحدث الأصغر ارتفع الأصغر فقط، أو نوى ارتفاع الحدث الأكبر دخل فيه الحدث الأصغر تماماً كما هو في طهارة الماء، ولا فرق؛ لأن التيمم بدل عن طهارة الماء، والبدل يأخذ حكم المبدل، والله أعلم. ¬

(¬1) قال في الإنصاف (1/ 289): " ويجب تعيين النية لما يتمم له من حدث أو غيره". وقال في كشاف القناع (1/ 173): ويشترط النية لما يتيمم له من حدث أو خبث .. ". اهـ وانظر المبدع (1/ 222)، دليل الطالب (ص: 19).

الفرع الثاني: لو تيمم للحدث الأصغر فهل يرتفع حدثه الأكبر

الفرع الثاني: لو تيمم للحدث الأصغر فهل يرتفع حدثه الأكبر لو أن رجلاً تيمم للحدث الأصغر ناسياً حدثه الأكبر، فهل يصح تيممه عن الحدث الأكبر؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، فقيل: يصح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬3). وقيل: لا يصح، اختاره الجصاص وأبو بكر الرازي من الحنفية (¬4)، وهو مذهب المالكية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 52) تبيين الحقائق (1/ 40)، حاشية ابن عابدين (1/ 247، 248)، بل صرح الحنفية بأن الواجب نية التطهير، انظر شرح فتح القدير (1/ 130). (¬2) جاء في مختصر المزني (ص: 98): " ولو نسي الجنابة فتيمم للحدث أجزأه؛ لأنه لو ذكر الجنابة لم يكن عليه أكثر من التيمم ". وقال النووي في المجموع (2/ 260): " لو تيمم عن الحدث الأصغر، غالطاً ظاناً أن حدثه الأصغر، فكان جنباً أو عكسه صح تيممه بلا خلاف عندنا " (¬3) الذخيرة (1/ 367)، حاشية الدسوقي (1/ 154)، حاشية العدوي على شرح الخرشي (1/ 189). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 52)، المبسوط (1/ 117)، حاشية ابن عابدين (1/ 247)، تبيين الحقائق (1/ 40). (¬5) جاء في المدونة (1/ 48): " سألت مالكاً عن الرجل يكون في السفر، فتصيبه الجنابة، ولا يعلم بجنابته، وليس معه ماء، فتيمم يريد بتيممه الوضوء، ويصلي الصبح، ثم يعلم أنه كان جبناً قبل صلاة الصبح، أتجزئه صلاته بذلك التيمم؟ قال: لا، وعليه أن يتيمم، ويعيد الصبح؛ لأن تيممه ذلك كان للوضوء لا للغسل". وانظر المسائل الفقهية لابن قداح (ص: 119)، مواهب الجليل (1/ 346)، الفواكه الدواني (1/ 157). (¬6) قال في المغني (1/ 166): وإذا نسي الجنابة، وتيمم للحدث لم يجزه .. ". وانظر =

دليل من قال: يصح تيممه عن الحدث الأكبر

دليل من قال: يصح تيممه عن الحدث الأكبر: التعليل الأول: قالوا: لأنه لو كان ذاكراً للجنابة لم يكن عليه أكثر من التيمم، وقد فعل. التعليل الثاني: قالوا: إن التيمم طهارة، فلا يلزم نية أسبابها كما في الوضوء. وهذا التعليل جيد، لكنهم لا يقبلونه فيما لو نوى التيمم وأطلق، فلا بد عندهم من نية الطهارة، أو نية استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة بذاتها لا تصح بدون طهارة، وهذا سبق بيانه. التعليل الثالث: أن الجنب والمحدث نيتهما واحدة، فلم يشترط نية الحدث الأكبر، قال النووي: إن الجنب ينوي بتيممه ما ينويه المحدث، وهو استباحة الصلاة، فلا فرق (¬1). اهـ قلت: نية الصلاة تستلزم نية الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، فكذلك لو كان جنباً ونوى بغسله الصلاة ارتفع حدثه الأكبر، ولكن لو أن هذا الجنب انغمس في ماء، وخرج مرتباً على القول بوجوب الترتيب، ولم ينو إلا الحدث الأصغر لم يرتفع حدثه الأكبر، فلماذا في التيمم قلنا: إذا نوى حدثه الأصغر ارتفع حدثه الأكبر، فالواجب أن يكون التيمم حكمه حكم الماء. ¬

= الفروع (1/ 227)، كشاف القناع (1/ 175)، شرح العمدة (1/ 378)، رؤوس المسائل لأبي المواهب الحنبلي (1/ 67). (¬1) المجموع (2/ 260).

التعليل الرابع

التعليل الرابع: قالوا: التيمم عن الحدث الأصغر يجزئ عن الحدث الأكبر، لأن صفة التيمم فيهما واحدة. وقد جعل بعض أهل العلم هذا التعليل سبباً في وجوب تعيين النية كما سيأتي في أدلة القول الثاني. دليل من قال: لا يصح تيممه عن الحدث الأكبر: الدليل الأول: (1418 - 50) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬1). وجه الاستدلال: أن هذا لم ينو إلا الحدث الأصغر، فكيف يرتفع الحدث الأكبر، وإذا كان هذا ممنوعاً في طهارة الماء، وهي الأصل، فكيف يكون مسموحاً به في طهارة التيمم، وهي الفرع، أي البدل. ¬

(¬1) صحيح البخاري (6689) ومسلم (1907).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: ذكر الرازي من الحنفية أنه لا بد من نية التمييز، وهو أن ينوي الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لهما يقع على صفة واحدة، فلا بد من التمييز بالنية (¬1). وهذا القول هو الراجح، نظراً لقوة أدلته، والله أعلم. ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 52).

الفرع الثالث: في نية ما يتيمم له من صلاة ونحوها

الفرع الثالث: في نية ما يتيمم له من صلاة ونحوها المسألة الأولى: لو نوى بالتيمم الصلاة وأطلق فقيل: يصلي به النافلة والفريضة، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، واختيار إمام الحرمين والغزالي من الشافعية (¬2)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يصلي به إلا النافلة، وهو الصحيح من مذهب الشافعية (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬

(¬1) قال في الهداية على البداية المطبوع مع شرح فتح القدير (1/ 131): ثم إذا نوى الطهارة أو استباحة الصلاة أجزأه، ولا يشترط نية التيمم للحدث أو الجنابة ". وانظر البحر الرائق (1/ 157). (¬2) قال النووي في المجموع (2/ 256): " أما إذا لم ينو الفريضة بل نوى استباحة النافلة، أو نوى استباحة الصلاة، ولم يقصد فرضاً ولا نفلاً، ففيه ثلاثة طرق ... فذكرها، وقال: الثالث: إن نوى الصلاة فقط، استباح الفرض قولاً واحداً، وهذا الطريق اختيار إمام الحرمين والغزالي، قال الإمام: لأن الصلاة اسم جنس، تتناول الفرض والنفل، ويخالف ما لو نوى المصلي الصلاة، فإنها لا تنعقد إلا نفلاً؛ لأن الصلاة لا يمكن أن يجمع فيها بين فرض ونفل بنية واحدة، فحمل على الأقل، وهو النفل. وأما التيمم فيمكن الجمع في نيته بين فرض ونفل، فحملت الصلاة في نيته على الجنس. (¬3) المبدع (1/ 224)، واختاره ابن حامد انظر الإنصاف (1/ 291). (¬4) قال النووي في المجموع (2/ 256): " أما إذا لم ينو الفريضة بل نوى استباحة النافلة، أو نوى استباحة الصلاة، ولم يقصد فرضاً ولا نفلاً، ففيه ثلاثة طرق، الصحيح منها عند جمهور الأصحاب أنه لا يستبيح الفرض في الصورتين ... ". (¬5) المبدع (1/ 224)، الروض المربع (1/ 378).

تعليل الحنفية الشافعية

تعليل الحنفية الشافعية: تعليل الحنفية يختلف عن تعليل الشافعية، أما الحنفية فيرون أن التيمم يرفع الحدث، فإذا ارتفع الحدث كان له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، وهذا هو التعليل الصحيح لفروع هذه المسائل. وأما تعليل إمام الحرمين والغزالي من الشافعية، فقالوا: إن الصلاة اسم جنس، فيشمل الفرض والنفل، فيكون حكمه حكم ما لو نوى بتيممه الفريضة والنافلة معاً. تعليل الحنابلة: لما كان التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يستباح به الصلاة، فلا يستباح به الفرض حتى ينويه؛ ولهذا كان التعيين شرطاً في الفرض، ولما لم يوجد أبيح له التنفل؛ لأنه أقل ما يحمل عليه الإطلاق بخلاف الوضوء فإنه يرفع الحدث فاستباح به الجميع. والجواب عن هذا قد ذكرته في المسألة المتقدمة، وأن القول بأن التيمم لا يرفع الحدث قول ضعيف، وما بني على الضعيف فهو ضعيف.

المسألة الثانية: لو نوى أن يصلي نفلا فهل يصلي به فريضة

المسألة الثانية: لو نوى أن يصلي نفلاً فهل يصلي به فريضة إذا نوى بتيممه نافلة، فهل له أن يصلي بهذا التيمم فريضة، اختلف أهل العلم في هذا، فقيل: يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يجد الماء أو يحدث، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يجوز أن تصلى الفريضة بتيمم النافلة، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا تصلى النافلة بالتيمم أصلاً، وإنما يتيمم للمكتوبة (¬5). دليل من قال: يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل: الدليل الأول: (1419 - 51) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 55) , المبسوط (1/ 113)، فتح القدير (1/ 138). (¬2) قال ابن الجلاب في التفريع (1/ 203): " ولا يجوز أن تصلى الفريضة بتيمم النافلة، وصلها بها، أو قطعها عنها ". وانظر المنتقى للباجي (1/ 111)، التاج والإكليل (1/ 495 - 496)، مواهب الجليل (1/ 340). (¬3) المجموع (2/ 256)، المهذب (1/ 36)، الإقناع للماوردي (ص: 32)، (¬4) المغني (1/ 158 - 159)، شرح العمدة (1/ 445)، (¬5) المغني (1/ 169)، الذخيرة (1/ 357 - 358).

الدليل الثاني

وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... " الحديث، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). فإذا تيمم الرجل فهو على طهارته ما لم يجد الماء أو يحدث، ومن طلب منه إعادة التيمم فعليه الدليل من كتاب الله أو من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يوجد دليل يطلب لمن كان متطهراً إعادة الطهور. الدليل الثاني: (1420 - 52) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [حديث حسن] (¬3). فإذا كان التيمم يقوم مقام الوضوء، فإنه يأخذ حكمه، فإذا كان للمتوضئ أن يصلي بوضوئه ما شاء من الفرائض والنوافل، فكذلك الحكم في التيمم، له أن يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل. دليل من قال: إذا تيمم للنافلة لا يصلي بها الفريضة: هذه المسألة وأمثالها بنوها على مسألة سابقة، وهي هل التيمم يرفع ¬

(¬1) صحيح البخاري (335). (¬2) المصنف (913). (¬3) سبق تخريجه انظر حديث رقم (39) من أحكام الطهارة.

دليل من قال: لا يتيمم لنافلة

الحدث، أو يعتبر يبيح للمتيمم فعل المأمور؟ فحين ذهبوا إلى الاعتقاد بأن التيمم لا يرفع الحدث، لم يجعلوا حكمه حكم الوضوء، وبنوا على هذه المسألة من الشروط والأحكام ما كنا في غنية عنه لو تبنوا القول الراجح، وهو أن التيمم يرفع الحدث إلى وجود الماء، فمن ذلك اشترطوا في التيمم نية ما يتيمم له من صلاة أو طواف، ونية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، فلو تيمم، ونوى نفلاً لم يدخل الفرض؛ لأن الفرض أعلى من النفل، ولو نوى استباحة الصلاة وأطلق، فلم يعين فرضاً ولا نفلاً لم يصل به فرضاً (¬1)، وبعضهم ذهب إلى أنه لا يصلي فرضين بتيمم واحد كما سيأتي بيانه، وهكذا كل هذه الفروع بنيت على أصل ضعيف، وهو أن التيمم لا يرفع الحدث، وقد بينت فيما سبق من السنة أن التيمم يرفع الحدث إلى حين وجود الماء، وهو يقوم مقام الماء في كل شيء، فأغنى عن إعادته هنا. دليل من قال: لا يتيمم لنافلة. قال: إن التيمم لا يرفع الحدث، فلا يتيمم إلا للمكتوبة؛ لأنه محدث أجيزت له الفريضة للضرورة، فلا نتعداها. وهذا يعكر عليه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تيمم لرد السلام، والطهارة لرد السلام مستحب، وليس بواجب. (1421 - 53) فقد روى البخاري من طريق الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، ¬

(¬1) الروض المربع بتحقيق الدكتور خالد المشيقح وجماعة من طلبة العلم (1/ 377 - 378).

فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (¬1). فالقول الراجح: هو مذهب الحنفية، وأن التيمم يقوم مقام الماء فيرفع الحدث بشرطه، وهو عدم الماء، أو العجز عن استعماله، والله أعلم. ¬

(¬1) البخاري (337)، ومسلم (369).

المسألة الثالثة: لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة

المسألة الثالثة: لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة اختلف أهل العلم فيما لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة، فقيل: له أن يصلي به نافلة مطلقاً، سواء تقدمت النافلة على الفريضة، أو العكس، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: له أن يصلي به نافلة بشرط ألا تتقدم النافلة على الفريضة، وأن تكون النافلة موصولة بالفريضة، وهذا مذهب المالكية (¬4)، وقول في مذهب الشافعية (¬5). وجه قول الجمهور: أما الحنفية فتعليلهم هو ما سبق أن التيمم يرفع الحدث، فإذا ارتفع الحدث فله أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، وهذا هو التعليل الصحيح لهذه المسألة. وأما تعليل الشافعية، فقالوا: إن كل طهارة جاز له أن يتنفل بها بعد الفريضة، جاز له قبلها كالوضوء " (¬6). ¬

(¬1) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 29)، بدائع الصنائع (1/ 55)، تبيين الحقائق (1/ 40). (¬2) المجموع (2/ 346)، التنبيه (ص: 21)، البيان في مذهب الشافعي (1/ 278). (¬3) الكافي في فقه أحمد (1/ 67)، دليل الطالب (ص: 20)، منار السبيل (1/ 56). (¬4) مواهب الجليل (1/ 339). (¬5) البيان في مذهب الشافعي (1/ 278) المهذب (1/ 36) إلا أن الشافعية لم يشترطوا كالمالكية أن تكون موصولة بالفريضة. (¬6) المهذب (1/ 36).

تعليل المالكية

وهذا التعليل جيد، لكن لا يطردونه، فلا يجيزون له فعل الفريضة لو تيمم بنية النافلة، فيقال لهم: لما لا تقولون: كل طهارة جاز أن يصلي بها نافلة، فيجوز أن يصلي بها فريضة كالوضوء، ولا فرق. وأما تعليل الحنابلة، قالوا: إذا نوى استباحة الأعلى الذي هو الفرض جاز له استباحة الأدنى: الذي هو النفل، فنية الفريضة أعلى من نية النافلة، دون العكس. فيقال لهم القاعدة المشهورة: الصلاة جنس واحد، ما صح في النفل صح في الفرض، وكذلك العكس، فكل ما يبطل النافلة يبطل الفريضة، وكل شيء يبطل الفريضة يبطل النافلة إلا بدليل صحيح من السنة كاستقبال القبلة ونحوها، فما لم يأت دليل على أن هذا خاص بالنفل دون الفرض فالأصل فيه استواء الحكم، ولذلك لما ذكر الصحابي رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها، قال: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة (¬1)، فلولا هذا الاستثناء لانسحب الحكم حتى على الفريضة، فنحتاج إلى دليل من السنة على أن من تيمم للنفل لا يصلي به الفرض، ولا يوجد دليل، فلذلك فالقول الراجح أن الحدث إذا ارتفع يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل، سواء نوى ارتفاع الحدث، أو نوى صلاة مطلقة أو نوى نفلاً أو فرضاً. تعليل المالكية: التعليل الأول: قال في مواهب الجليل: " الأصل أن لا يصلي صلاتين بتيمم واحد نافلة ولا فريضة، وأن لا يجوز التيمم للصلاة عند عدم الماء إلا عند القيام إليها، ¬

(¬1) الحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر، وهذا لفظ مسلم (700)، وانظر البخاري (999).

فأجيز أن يصلي بتيمم واحد ما اتصل من النوافل، والنافلة إذا اتصلت بالفريضة استحساناً ومراعاة للخلاف لكونها لاتصالها بها كالصلاة الواحدة، فإذا طال ما بينهما سقطت مراعاة للخلاف، ورجعت المسألة إلى حكم الأصل في وجوب إعادة التيمم" (¬1). اهـ ويجاب: الظاهر من هذا التعليل أنهم بنوه على أصل ضعيف، وهو أنه لا يصلي صلاتين بتيمم واحد، وهذا لا دليل عليه، وأنه اغتفر ذلك في النافلة بشرط أن تكون بعد الفريضة، وبشرط أن تكون متصلة بها بدون فاصل، وحملهم على ذلك أن النافلة يتسامح فيها ما لا يتسامح في الفرض، ومراعاة للخلاف، وأنها إذا اتصلت كان حكمها حكم الصلاة الواحدة، وكل ذلك لا دليل عليه من السنة، وإنما هو قائم على نظر غير صحيح، وأن التيمم لا يرفع الحدث، ولو كانت النافلة إذا اتصلت بالفريضة كان حكمهما حكم الصلاة الواحدة، فلماذا لا تقولون هذا في الفريضة، وأنه يجوز أن يصلي فرضين بتيمم واحد بشرط اتصالها حتى يكونا كالصلاة الواحدة، ولو كان الحامل على ذلك مراعاة الخلاف، فإن الخلاف قائم حتى في صلاة فريضتين بتيمم واحد، فلماذا لم تقولوا بجواز ذلك مراعاة للخلاف، مع أن مراعاة الخلاف ليس من أدلة الشرع مطلقاً، لا المتفق عليها، ولا المختلف فيها، ولكن دائماً تجد القول الضعيف لا يَطَّرد، ويحمل تناقضه معه، بخلاف القول الصحيح، والله أعلم. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 339).

التعليل الثاني للمالكية

التعليل الثاني للمالكية: ذكر بعضهم تعليلاً آخر، وهو أن مالكاً إنما قال: تصلى النافلة بتيمم الفريضة، ولا تصلى الفريضة بتيمم النافلة، مع أن الكل صلاة؛ لأن الأصول مبنية على أن النوافل تبع للفرائض؛ لأن الفرائض أصول، فلما كان الأصل كذلك جاز أن تصلى النافلة بتيمم الفريضة؛ لأنها تبع لها، ولم يجز أن تصلى الفريضة بتيمم النافلة؛ لأن ذلك خلاف الأصول؛ إذ تصير الفريضة حينئذ تبعاً للنافلة. ويجاب: لو كان هذا الأصل صحيحاً لاطرد هذا الأصل في طهارة الماء، وكنا نمنع من صلاة الفريضة بعد النافلة حتى في الوضوء من أجل أن لا تكون الفريضة تبعاً للنافلة، فلما لم يراع مثل هذا في طهارة الماء لم يراع مثل ذلك في طهارة التيمم، والتيمم إنما هو بدل عن الوضوء، والبدل له حكم المبدل.

المسألة الرابعة: إذا تيمم للفريضة، فهل يصلي به أكثر من فريضة؟

المسألة الرابعة: إذا تيمم للفريضة، فهل يصلي به أكثر من فريضة؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقيل: إذا تيمم للفريضة فله أن يصلي به ما شاء من الفروض والنوافل، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: لا يصلي به إلا فريضة واحدة، وهذا مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، إلا أن المالكية في أحدى القولين عنهم استثنوا الصلوات الفائتة إذا صلاها متصلة بعضها ببعض (¬5). ¬

(¬1) الهداية شرح البداية (1/ 27)، بدائع الصنائع (1/ 55)، تحفة الفقهاء (1/ 46)، نور الإيضاح (ص: 27)، تبيين الحقائق (1/ 40)، المبسوط (1/ 113). (¬2) شرح العمدة (1/ 445)، عمدة الفقه (ص: 11)، مطالب أولي النهى (1/ 191)، الإنصاف (1/ 292). (¬3) انظر التمهيد (19/ 294 - 295)، المقدمات (1/ 117)، التهذيب في مختصر المدونة (1/ 214)، المعونة (1/ 149). (¬4) جاء في الأم (1/ 47): " وإن كان قد فاتته صلوات استأنف التيمم لكل صلاة منهما، كما وصفت، لا يجزيه غير ذلك، فإن صلى صلاتين بتيمم واحد، أعاد الآخرة منهما؛ لأن التيمم يجزيه للأولى، ولا يجزيه للآخرة ". وقال في كتاب البيان في مذهب الشافعي (1/ 316): " وإن كان عليه صلوات فوائت، وأراد أن يقضيها في وقت واحد، وهو عادم للماء، قال الشيخ أبو حامد: فإنه يطلب الماء للأولى، ويتمم، ويصليها، فإذا أراد أن يصلي الثانية أعاد الطلب لها، ثم يتيمم، وكذلك الثالثة والرابعة وإن كان في موضع واحد؛ لأن ذلك شرط في التيمم ". (¬5) المعونة (1/ 150)، الكافي في فق أهل المدينة (ص: 30)، ونص المدونة على أنه لا يصلي إلا صلاة واحدة، حتى في الفائتة، انظر المدونة (1/ 48).

دليل من قال: يصلي بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل

دليل من قال: يصلي بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل: الدليل الأول: (1422 - 54) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬1). فقوله: " الصعيد وضوء المسلم " أي يقوم مقام الوضوء، فإذا كان من توضأ له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، فكذلك التيمم، فمن تيمم فقد ارتفع حدثه بالتيمم، فجاز له أن يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يحدث أو يجد الماء، فما دام أنه لم يأت ما يبطل تيممه، ولم يشرع له تجديد التيمم، فيبقى على طهارته، هذا وجه استدلال الحنفية من الحديث القائلين بأن التيمم يرفع الحدث. وأما وجه استدلال الحنابلة القائلين بأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما هو مبيح، يرون أن التيمم إذا استباح به فعل الفريضة استباح به ما كان من جنسها، ولا فرق بين فريضة وأخرى، وأما إذا استباح به نافلة، فلا يستبيح به ما هو أعلى منها كالفريضة، فإذا تيمم للفريضة صلى به ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقت الصلاة، أو يجد الماء، أو يحدث، فليس الفراغ من الفريضة حدثاً يبطل التيمم حتى نوجب للفريضة الأخرى تيمماً آخر، والله أعلم. ¬

(¬1) المصنف (913).

دليل من قال: لا يصلي به أكثر من فريضة واحدة

دليل من قال: لا يصلي به أكثر من فريضة واحدة: الدليل الأول: (1423 - 55) ما رواه ابن المنذر من طريق الأزهر بن مروان، ثنا عبد الوارث، عن عامر الأحول، عن نافع، عن ابن عمر، قال: يتيمم لكل صلاة (¬1). [إسناده حسن إن سلم من خطأ عامر الأحول] (¬2). ¬

(¬1) الأوسط (2/ 57). (¬2) الأثر رواه الداقطني (1/ 184) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (809) من طريق إبراهيم بن الحجاج، ثنا عبد الوارث به، ورواه ابن المبارك، واختلف عليه فيه: فرواه الطبري في تفسيره (5/ 114) من طريق عبدان المروزي، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 221) من طريق الحسن بن عيسى، كلاهما عن ابن المبارك عن عبد الوراث به. ورواه البيهقي في الخلافيات (808) من طريق حبان، عن ابن المبارك، عن عامر الأحول. فأسقط حبان من إسناده عبد الوارث، والحديث إنما هو حديث عبد الوارث، عن عامر. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح. قلت: عامر الأحول، قال فيه أحمد بن حنبل: ليس حديثه بشيء، كما في رواية عبد الله عنه، وقال في رواية أبي طالب: ليس بقوي. وقال أبو داود: سمعت أحمد يضعفه. تهذيب الكمال (14/ 66). وذكره العقيلي في الضعفاء (3/ 310). وقال يحيى بن معين: ليس به بأس. المرجع السابق. وقال أبو حاتم الرازي: ثقة، لا بأس به، كما في الجرح والتعديل (6/ 326). وقال ابن حبان: من ثقات أهل البصرة ومتقنيهم. مشاهير علماء الأمصار (1224). =

وعلى فرض صحته، فإنه مخالف لما ثبت عن ابن عباس، فإذا اختلف الصحابة كان الاتباع لأقرب القولين إلى الشرع، وقول ابن عباس موافق للقياس الصحيح. (1424 - 56) فقد روى ابن المنذر من طريق إسرائيل، عن أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: يجزئ المتيمم أن يصلي الصلوات بتيمم واحد (¬1). ¬

= وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: شيخ. (5/ 193). وفي التقريب: صدوق يخطئ، فإن سلم هذا الأثر من خطئه، فأرجو أن يكون حسناً، وذلك أن ابن أبي شيبة (1/ 147) قد رواه من طريق همام، عن عامر الأحول، عن عمرو بن العاص به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الدارقطني في السنن (1/ 184)، والبيهقي في الخلافيات (805)، وهذا إسناد منقطع، عامر لم يسمع من عمرو بن العاص، فأخشى أن يكون وهم فيه عامر الأحول، فجعل ما يرويه عن عمرو بن العاص، جعله من طريق نافع، عن ابن عمر، فوصل إسناده، خاصة أن الإمام أحمد قد قال فيه ما علمت، وهو من أهل الجرح المعتدلين، والأئمة المعتبرين، فلا يكون كلامه في عامر إلا وقد رأى في روايته ما يحمله على هذا القول فيه، ولم يرو في الباب أثر أقوى منه مع غرابته، فأين أصحاب نافع المشهورين في أخذ الرواية عنه، مثل عبيد الله بن عمر، ونافع، أين هما عن مثل هذا الأثر لو كان صحيحاً؟ وليس لعامر في الكتب التسعة رواية عن نافع، مما يدل هذا على قلة روايته عنه، فإذا كان من نافع بهذه المنزلة، ثم تفرد بحديث أو أثر لم يتابعه عليه إلا متروك أو ضعيف، فكيف تطمئن النفس إلى صحة مثل هذا؟ ‍ وانظر إتحاف المهرة (10602). (¬1) الأوسط (2/ 58)، وإسرائيل يروي عن شيخين كل واحد منهما يقال له أبو عمر، الأول: عبد الملك بن عمير، والثاني: هلال بن أبي حميد، وقد ترجم لهما المزي، ولم أجد من شيوخهما عكرمة حتى أجزم بأحدهما، فقد يكون فات المزي ذكر ذلك، فإن كان عبد الملك فإنه ثقة، تغير حفظة بآخرة، وربما دلس، وإن يكن هلال بن أبي حميد فهو ثقة إن شاء الله تعالى، فأرجو أن يكون إسناده صحيحاً.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1425 - 57) ما رواه عبد الرزاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: (1426 - 58) ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة أن عمرو بن العاص قال: نحدث لكل صلاة تيمماً (¬3). [ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المصنف (830). (¬2) الأثر رواه عبد الرزاق كما في إسناد الباب، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/ 57)، والدارقطني في السنن (1/ 185)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 221). وفي إسناده الحسن بن عمارة، قال أحمد في رواية أبي طالب: الحسن بن عمارة متروك الحديث، أحاديثه موضوعة، لا يكتب حديثه. الجرح والتعديل (3/ 27). وفي التقريب: متروك. قال الدارقطني عقب روايته له: الحسن بن عمارة ضعيف. وقال الحافظ ابن حجر كما في الدراية (1/ 69) وعن ابن عباس: من السنة أن لا يصلي بالتيمم أكثر من صلاة واحدة، أخرجه الدارقطني بإسناد واهٍ. وقد رواه عبد الرزاق أيضاً (831) عن الثوري، عن رجل، عن ابن عباس بنحوه، وإسناده ضعيف؛ لأن فيه مبهماً. وانظر إتحاف المهرة (8786). (¬3) المصنف (833) (¬4) فيه علتان، الأولى: رواية معمر عن قتادة فيها ضعف، لأن سماعه منه كان وهو صغير. العلة الثانية: قتادة لم يسمع من عمرو بن العاص، ولم يسمع من صحابي غير أنس. =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1427 - 59) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: يتيمم لكل صلاة (¬1). [إسناده ضعيف، وفيه أكثر من علة] (¬2). ¬

= قال الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 155): فيه إرسال شديد بين قتادة وعمرو. اهـ وقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 147) حدثنا ابن مهدي، عن همام، عن عامر الأحول، عن عمرو بن العاص به. ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الدارقطني في السنن (1/ 184)، والبيهقي في الخلافيات (805)، وعامر الأحول لم يدرك صحابياً واحداً. والصحيح عن قتادة من قوله، فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 147) حدثنا أبو أسامة، عن سعيد، عن قتادة، قال: كان يعجبه أن يتيمم لكل صلاة. وإسناده صحيح. والعبارة لا تدل على الوجوب. وانظر إتحاف المهرة (15959) فقد حكم ابن حجر على طرقه بالانقطاع. (¬1) المصنف (1/ 147). (¬2) الحارث الأعور ضعيف، وحجاج بن أرطأة ضعيف ومدلس. والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف كما في إسناد الباب، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 221). وأخرجه الطبري في تفسيره (5/ 114) من طريق يعقوب ومن طريق ابن المبارك فرقهما. وأخرجه مسدد كما في المطالب العالية (159) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/ 57) والبيهقي في الخلافيات (804). وأخرجه الدارقطني (1/ 184) من طريق سعيد بن سليمان، أربعتهم عن هشيم به. وقد ضعفه جماعة من أهل العلم، منهم ابن المنذر في الأوسط وابن الجوزي في التحقيق (1/ 240)، وابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 221).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: الأصل أن الطهارة تجب لكل صلاة، بظاهر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ..} (¬1)، ولكن السنة خصت من ذلك الطهارة بالماء، حيث صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة صلوات بوضوء واحد، فبقي التيمم على أصله، إذ لم يرد فيه من التخصيص ما ورد في الوضوء. وأجيب: بأن قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (¬2). إن كان يدل على استحباب الوضوء لكل صلاة لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يدل على استحباب التيمم لكل صلاة، فضلاً أن يجب التيمم لكل صلاة، وذلك أن تجديد الوضوء قد وردت به السنة، ولم يرد في التيمم استحباب تجديده لكل صلاة، فكان الأولى أن يقال: إن السنة خصت التيمم، فلا يشرع التيمم لكل صلاة، والقول بأنه لولا ما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح لكان الوضوء واجباً لكل صلاة ليس بصواب، لما روى البخاري من حديث أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث (¬3). فهذا الحديث ظاهره أن الوضوء لكل صلاة من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصة، ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) المائدة: 6. (¬3) البخاري (214).

الراجح من الخلاف

وأن الصحابة لم يكن يصنعون ما يصنع عليه الصلاة والسلام، وأن هذا لم يتلق بعد فتح مكة، وإنما كان هذا شأن الصحابة رضي الله عنهم. وإن كان في الآية تقدير كما ذكر بعض أهل العلم، وأن معنى الآية، كما قال زيد بن أسلم رحمه الله: إذا قمتم إلى الصلاة: أي: من النوم .. فعلى هذا التقدير لا يكون فيه مستمسك لمن أوجب التيمم لكل صلاة، والله أعلم. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة نجد أن القول بأن المتيمم له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل أقوى من حيث الاستدلال، وذلك لأن القول بأنه ليس له أن يصلي إلا فريضة واحدة، وله أن يصلي ما شاء من النوافل خلاف القياس، فإن كان له أن يجمع من النوافل ما شاء، فله أن يصلي من الفرائض ما شاء، إذ ليس بين طهارته للمكتوبة وطهارته للنافلة فرق في شيء من الأحكام، وغير جائز أن نقول: إذا صليت النافلة فأنت متطهر، وإذا صليت المكتوبة فأنت غير متطهر، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن من تطهر بموجب الكتاب والسنة فهو على طهارته، ولا ينقضها إلا كتاب أو سنة أو إجماع، أو قول صاحب لا مخالف له، ولا يوجد في هذه المسألة شيء من هذه الأمور، والعجب في مذهب المالكية رحمهم الله تعالى كيف يصلي الرجل مجموعة من الفرائض بتيمم واحد إذا كانت مقضية، ولا يصليها إذا كانت أداء، فهل هذا إلا دليل على أن هذا القول بني على الرأي المحض، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، والله أعلم.

المسألة الخامسة: لو تيمم للنافلة فهل له أن يصلي به نوافل أخرى

المسألة الخامسة: لو تيمم للنافلة فهل له أن يصلي به نوافل أخرى لو تيمم الرجل ينوي بتيممه فعل نافلة من النوافل، فهل له أن يصلي بهذا التيمم نوافل أخرى، اختلف الفقهاء في ذلك، فقيل: له أن يصلي ما شاء من النوافل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: له أن يصلي نوافل أخرى بشرط أن تكون متصلة، فإن كان بينها فاصل طويل عرفاً أعاد تيممه، وهذا مذهب المالكية (¬4). وهذه المسألة وإن كانت متفرعة عن المسائل السابقة، من كون التيمم يرفع الحدث، أو لا يرفعه، وإنما يبيح فعل الصلاة، ومع ذلك فقد خفف الجمهور في مسألة النوافل، فأجازوا فيها صلاة أكثر من نافلة بتيمم واحد، ولم يجيزوا ذلك في الفرض، وهذا راجع إلى أن النوافل مبنية على التيسير، فهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي حيث توجهت به راحلته. ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 538)، المبسوط (1/ 113)، (¬2) قال النووي في المجموع (2/ 257): " فإذا نوى استباحة نافلة جاز أن يصلي من جنس النوافل ما شاء إلى أن يحدث ... ". (¬3) المغني (1/ 158)، الفروع (1/ 227). (¬4) التاج والإكليل (1/ 496)، مواهب الجليل (1/ 339)، الشرح الكبير (1/ 152).

المبحث الرابع: لو تيمم يريد به تعليم الغير

المبحث الرابع: لو تيمم يريد به تعليم الغير لو تيمم الرجل يريد تعليم الغير، فهل له أن يصلي بهذا التيمم؟ اختلف في ذلك. فقيل: يصلي به، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬1). وقيل: لا يصلي به، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬

(¬1) ذكر ذلك صاحب درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 30)، والزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 40)، وهو مخالف لما ذكره ابن الهمام في شرح فتح القدير، فإنه قال (1/ 130): "ولو تيمم يريد به تعليم الغير دون الصلاة لا يجوز عند الثلاثة ". يقصد بالثلاثة: أبا حنيفة وصاحبيه. كما أنه مخالف لما ذكره السعدي في النتف في الفتاوى (1/ 38)، وهو أيضاً مخالف لقواعد المذهب، فإن التيمم الذي تصح الصلاة يشترط له شرطان: الأول: كون المنوي عبادة مقصودة. والثاني: كونه لا يحل فعله إلا بطهارة، والتعليم يصح بدون طهارة، انظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 73)، حاشية ابن عابدين (1/ 245). (¬2) المبسوط (1/ 117)، شرح فتح القدير (1/ 130)، البحر الرائق (1/ 157). (¬3) المنتقى للباجي (1/ 34)، مواهب الجليل (1/ 237). (¬4) الأشباه والنظائر للسوطي (ص: 22). (¬5) قال في الإنصاف (1/ 147): " لو نوى رفع الحدث وإزالة النجاسة أو التبرد أو تعليم غيره: ارتفع حدثه على الصحيح من الذهب ". هذا الكلام في الوضوء، ولا يختلف الحكم عنه في التيمم، فلو نوى التيمم للصلاة من الحدث الأصغر، ونوى به تعليم غيره ارتفع حدثه، ولو نوى التعليم فقط لم يرتفع الحدث، لأن نية استباحة الصلاة من الحدث لم تنو، والمذهب يشترطون كما سبق لنا في التيمم نية التيمم للصلاة ونحوها من الحدث الأصغر أو الأكبر.

قال سفيان: من علم غيره الوضوء أجزأه، ومن علمه التيمم لم يجزه (¬1). والخلاف في هذا قائم على حكم النية في التيمم، فمن يرى أن النية ليست شرطاً في صحة التيمم رأى أن تيممه لتعليم الغير يمكن له أن يصلي به، ومن رأى أن النية شرط في صحة التيمم، اشترط أن يكون مع نية التعليم نية التيمم للصلاة، ونحوها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القاعدة: أن من نوى ما لا يصح إلا بطهارة كالصلاة صح تيممه، ومن نوى شيئاً لا يشترط فيه الطهارة كالتعليم لم يصح تيممه؛ لأن نية التعليم لا تتضمن نية الطهارة؛ لأنها ليست شرطاً فيها، والله أعلم، ومن نوى التعليم والصلاة صح تيممه، لأن التعليم عبادة مقصودة، وكذا الصلاة، وقد صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، وقال: إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي. متفق عليه (¬2). فإذا كانت نية التعليم لم تقدح في صحة الصلاة، فكذلك إذا نوى التيمم للصلاة، ونوى التعليم لم يقدح في صحة التيمم، والله أعلم. ¬

(¬1) جاء في المنتقى للباجي (1/ 34): " وروي عن سفيان الثوري أنه قال: من علم غيره الوضوء أجزأه، ومن علمه التيمم لم يجزه حتى ينويه لنفسه. قال الباجي: وهذا مبني على أن التيمم يفتقر إلى نية دون الوضوء ". (¬2) البخاري (917)، ومسلم (554).

الشرط الثاني: من شروط التيمم الإسلام

الشرط الثاني: من شروط التيمم الإسلام سبق لنا في الكلام على شروط الوضوء أن قدمنا خلاف العلماء في وضوء الكافر، وهل يصح وضوؤه أو لا يصح، وأن مذهب الجمهور على أن الإسلام شرط في صحة الوضوء، وخالف في ذلك الحنفية رحمه الله، فقالوا بصحة وضوء الكافر، وقد تم مناقشة الأدلة هناك، فأغنى عن إعادته هنا، وفي هذا البحث نتناول الخلاف في التيمم، وهل يصح التيمم من الكافر، أو يشترط أن يكون المتيمم مسلماً، في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقيل: الطهارة كلها من وضوء أو تيمم، بل وكل العبادات لا يصح فعلها من الكافر، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يصح الوضوء من الكافر ولا يصح منه التيمم، وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن (¬2). وقال أبو يوسف: إذا تيمم بنية الإسلام أو الطهر فهو صحيح، وإذا أسلم فله أن يصلي به، وإن تيمم بنية الصلاة لم يصح (¬3). أما الخلاف في صحة الوضوء فقد سبق تحريره في كتاب الوضوء، وأما ¬

(¬1) انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 132)، الفواكه الدواني (1/ 135)، نهاية المحتاج (1/ 154)، المجموع (2/ 372)، الأشباه والنظائر (1/ 429)، المقدمة الحضرمية (ص: 33)، المنهج القويم (ص: 51)، كشاف القناع (1/ 85). (¬2) المبسوط (1/ 116)، البحر الرائق (1/ 159)، (¬3) المبسوط (1/ 116)، البحر الرائق (1/ 159)، بدائع الصنائع (1/ 52).

سبب الخلاف في التيمم فيرجع إلى الكلام على اشتراط النية فيه، فمن ذهب إلى وجوب النية في التيمم اشترط أن يكون المتيمم مسلماً؛ لأن الكافر ليس من أهل النية، فكل عمل يفتقر إلى نية لا يصح فعله من الكافر؛ لأن النية تصير الفعل منتهضاً مسبباً للثواب، ولذلك لما كان أبو حنيفة رحمه الله يرى صحة الوضوء بلا نية صحح الوضوء من الكافر، ولم يصحح تيممه لاشتراطه النية عنده في التيمم، وأما الجمهور الذين يذهبون إلى أن النية شرط في الوضوء والتيمم والغسل يذهبون إلى أن الإسلام شرط في صحة هذه الأفعال، فلا يصح فعلها من الكافر، وهو الصحيح. وسبب تفريق أبي يوسف بأنه إن نوى الكافر بتيممه الإسلام صح، فإذا أسلم بعد صلى بتيممه، وإن نوى به الصلاة لم يصح؛ لأن الكافر من أهل نية الإسلام، والإسلام رأس العبادة، فيصح تيممه بخلاف ما إذا تيمم للصلاة، فإنه ليس من أهل الصلاة، فلا يصح تيممه بهذه النية. والراجح قول الجمهور، وهل تجب على الكافر الطهارة من وضوء وتيمم وغسل، فيه خلاف، وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أصولية، وهي هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ وقد حررت فيها الخلاف في كتاب الوضوء، في الكلام على شروط الوضوء، فارجع إليها غير مأمور.

الشرط الثالث: التكليف

الشرط الثالث: التكليف والمكلف: هو البالغ العاقل، فلا يجب ولا يصح تيمم المجنون، وأما المميز: فيصح منه التيمم، ولا يجب عليه (¬1). وتعريف التمييز: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب، ولا ينضبط بسن، بل يختلف باختلاف الناس (¬2). وقيل: هو من يصل إلى حالة بحيث يأكل وحده، ويشرب وحده، ويستنجي وحده، ولا يتقيد بسبع سنين (¬3). وهذا التعريف هو ما يدل عليه اشتقاق كلمة مميز. وقيل: هو من استكمل سبع سنين (¬4). وأما كون التيمم لا يصح من مجنون، وغير مميز؛ فلأن من شرط الوضوء النية على الصحيح، وهما ليس لهما نية صحيحة. ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 10)، حاشية ابن عابدين (1/ 86)، حاشية الدسوقي (1/ 84)، الفواكه الدواني (1/ 135)، المجموع (1/ 372)، شرح البهجة (1/ 77)، مغني المحتاج (1/ 47)، نهاية المحتاج (1/ 154)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 51)، حاشية البجيرمي على المنهج (1/ 64)، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 129)، المقدمة الحضرمية (ص:33) كشاف القناع (1/ 85)، شرح منتهى الإرادات (1/ 52). (¬2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 725)، وانظر مطالب أولي النهى (1/ 77). (¬3) شرح البهجة للأنصاري (4/ 406). (¬4) مطالب أولي النهى (1/ 77).

وأما كونه لا يجب عليهما؛ فلأن من شرط الوجوب التكليف، وهما غير مكلفين. وقد أجمع أهل العلم على أن الطفل غير المميز لا يصح منه التيمم، قال ابن تيمية: الأقوال في الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول، ويقصده، فأما المجنون والطفل الذي لا يميز فأقواله كلها لغو في الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود، ولا شيء من الأقوال باتفاق المسلمين (¬1). والكلام في هذا الشرط كالكلام فيه في باب الوضوء، فقد سبق لي أن ذكرت الأدلة على أن الوضوء لا يصح من غير المميز والمجنون، وأن البلوغ شرط لوجوب الوضوء، والتمييز شرط لصحته، والكلام في الباب هنا كالكلام في الباب هناك فارجع إليه غير مأمور إن أردت الوقوف على مزيد أدلة هذا الشرط، والله الموفق. ¬

(¬1) التفسير الكبير (3/ 80).

الشرط الرابع: انقطاع ما يوجب الحدث إلا في المعذور

الشرط الرابع: انقطاع ما يوجب الحدث إلا في المعذور إذا أراد التيمم لا بد أن ينقطع ما يوجب الحدث، وذلك كالحيض والنفاس، والبول والغائط، لأن خروج مثل هذه ينقض الطهارة، ويوجب الحدث، إلا في المعذور كالمستحاضة ومن به سلس بول ونحوهما فإنه يجوز له أن يتيمم، ولو لم ينقطع حدثه، بل إن خروج دم الاستحاضة، ومن به سلس بول، لا يعتبر حدثاً ناقضاً للوضوء أصلاً، وإنما يستحب منه الوضوء ومثله التيمم، ولا يجب، وهذا مذهب المالكية (¬1). وقد بحثت هذه المسألة بشيء من الاستفاضة في كتابي الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا (¬2). ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 291)، حاشية الدسوقي (1/ 116)، الخرشي (1/ 152)، القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 29)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 508)، الاستذكار (3/ 225 - 226). (¬2) انظر (3/ 1109) في خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة.

الشرط الخامس: طلب الماء قبل التيمم

الشرط الخامس: طلب الماء قبل التيمم سبق لنا أنه لا يصح التيمم إلا مع قيام العذر: وهو عدم الماء، أو العجز عن استعماله. وهل يجب عليه قبل التيمم طلب الماء، حتى يتحقق أن الماء معدوم، أو لا يجب عليه الطلب؟ اختلف في ذلك أهل العلم، فقيل: إذا لم يرجُ وجود الماء، ولم يخبره مخبر، فليس عليه الطلب، ويجزيه التيمم، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وراوية عن أحمد (¬2). وقيل: يجب عليه الطلب، فإن تيمم قبل الطلب لم يجزه، وهو مذهب الجمهور (¬3). دليل الجمهور على وجوب طلب الماء: الدليل الأول: استدلوا بقوله تعالى {فلم تجدوا ماء} فهذا دليل على وجوب طلب الماء؛ لأنه لا يصدق عليه أنه لم يجد الماء إلا بعد الطلب. ¬

(¬1) المبسوط (1/ 108)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 530). (¬2) المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 91) وذكر قولين: الأول: أنه شرط،. وهذا نقل صالح وابن منصور، واختيار الخرقي. والثاني: أنه مستحب، وهذا نقل الميموني. ورجح القاضي الأول. (¬3) انظر في مذهب المالكية: المقدمات (1/ 120)، الذخيرة للقرافي (1/ 335)، المعونة (1/ 149).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: من جهة القياس، فإن التيمم بدل عن طهارة الماء، ولا يصح فعل البدل إلا بالعجز عن المبدل، ولا يتحقق العجز إلا بعد البحث والطلب. دليل الحنفية على أن طلب الماء إذا لم يكن معه ماء غير واجب: استدلوا بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء}، فمن لم يكن معه ماء فهو غير واجد للماء، فإن قيل: لا يكون غير واجد إلا بعد الطلب، قيل: هذا خطأ؛ لأن الوجود لا يقتضي طلباً، قال تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} (¬1)، ومعناه: ليس في ملكه، ولا له قيمتها، لا أنه أوجب عليه أن يطلبها. وقال تعالى: {فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا قالوا نعم} (¬2)، فأطلق اسم الوجود على ما لم يطلبوه. وقال تعالى: {ووجدك عائلاً فأغنى} (¬3). ويقال: وجد فلان لقطة، وإن لم يطلب وجودها. فإذا كان الوجود قد يكون من غير طلب، فمن ليس بحضرته ماء، ولا هو عالم به، فهو غير واجد، وإذا تناوله إطلاق اللفظ لم يجزئنا أن نزيد عليه فيه فرض الطلب؛ لأن فيه إلحاق الزيادة بحكم الآية، وذلك غير جائز (¬4). ¬

(¬1) النساء: 92. (¬2) الأعراف: 44. (¬3) الضحى: 8. (¬4) أحكام القرآن للجصاص (2/ 530).

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف: بعد استعراض القولين وأدلتهما، يمكننا القول بأن من تحقق عدم الماء فإنه يتيمم من غير طلب؛ لأن طلب الماء حينئذ سيكون نوعاً من العبث، وأما من كان لا يتحقق عدم الماء، فإنه يلزمه طلب الماء؛ لأن الوضوء واجب إجماعاً، فيجب طلب الماء للقيام به؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن شرط صحة التيمم عدم وجود الماء، ويبطل إذا وجد الماء، فكيف يصح تيممه، والاحتمال قائم بأن الماء قد يكون موجوداً حوله. ويمكن لنا أن نقسم حال الإنسان إلى أقسام: الأول: أن يعلم أن الماء غير موجود، كما لو كان في مفازة من الرمال، ولا يوجد بها أثر من حياة، فهذا يتيمم، وليس عليه الطلب. والله أعلم. الثاني: أن يغلب على ظنه بناء على أمارات معينة، فيعمل بغلبة الظن، سواء غلب على ظنه عدم الماء، فلا يلزمه الطلب، أو غلب على ظنه وجود الماء، فيجب عليه الطلب حينئذ. الثالث: أن يشك في وجود الماء، فيجب عليه الطلب حتى يصل إلى اليقين أو إلى غلبة الظن، فيعمل بموجبها. الرابع: أن يتوهم الأمر، فيجب عليه الطلب، سواء كان الوهم في وجود الماء أو عدمه.

الفرع الأول: في تقدير المسافة التي تبيح التيمم ويسقط فيها طلب الماء

الفرع الأول: في تقدير المسافة التي تبيح التيمم ويسقط فيها طلب الماء من خلال الفصل السابق تم مناقشة، هل يجب عليه طلب الماء قبل التيمم، وفي هذا الفصل سوف نناقش الحدود التي إذا بعد الماء فيها عن صاحبه، شرع له التيمم. اختلف في ذلك أهل العلم، فقيل: يتيمم إذا كان الماء يبعد ميلاً فأكثر، فإن كان أقل من ميل لم يجز التيمم، وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية، ورجحه الكاساني في بدائع الصنائع (¬1). وقيل: إن كان الماء أمامه يعتبر ميلين، وإن كان يمنة أو يسرة يعتبر ميلاً واحداً، وهو اختيار الحسن بن زياد من الحنفية (¬2). وقيل: إن كان الماء بحيث لو ذهب إليه لا تنقطع عنه جلبة العير، ويحس أصواتهم وأصوات الدواب، فهو قريب، وإن كان يغيب عنه ذلك فهو بعيد، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬3). ¬

(¬1) قال في مراقي الفلاح (ص: 48): " العذر المبيح للتيمم كبعده ميلاً، ولو في المصر". وقال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 46): " أن يكون الماء بعيداً عنه، ولم يذكر حد البعد في ظاهر الرواية، وروى محمد أنه قدره بالميل، وهو أن يكون ميلاً فصاعداً، فإن كان أقل من ميل لم يجز التيمم " ثم قال: " وأقرب الأقاويل اعتبار الميل؛ لأن الجواز لدفع الحرج، وإليه وقعت الإشارة في أية التيمم، وهو قوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم} المائدة: 6. (¬2) بدائع الصنائع (1/ 46)، (¬3) بدائع الصنائع (1/ 47)، وهناك أقوال أخرى في مذهب الحنفية تركتها اقتصاراً.

وقيل: لا يحد فيه حداً، وإنما إذا شق عليه أو على أصحابه إن انتظروه، أو خاف فوات الرفقة تيمم. وهذا القول رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة (¬1)، والمشهور في مذهب المالكية (¬2). وقيل يطلب الماء في رحله، وما قرب منه عرفاً، بحيث ينظر أمامه، وخلفه، ويمينه، وشماله إن كان الذي حواليه لا يستتر عنه، وهذا مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ولم يرد دليل في الشرع على تقدير مسافة معينة، وكل ما لم يحد شرعاً فإن مرجعه إلى العرف، والحكمة من مشروعية التيمم هو رفع الحرج كما نصت عليه آية التيمم، فالطلب الذي يلحق صاحبه مشقة وعنت فهو مرفوع، ¬

(¬1) جاء في المبسوط (1/ 108): " قال أبو يوسف رحمه الله تعالى: سألت أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عن المسافر لا يجد الماء، أيطلبه عن يمين الطريق وعن يساره؟ قال: إن طمع في ذلك فليفعل، ولا يُبْعِد، فيضر بأصحابه إن انتظروه، أو بنفسه إن انقطع عنهم ". اهـ (¬2) جاء في المنتقى للباجي (1/ 102): " روى ابن القاسم عن مالك في المسافر يكون الماء حائداً عن طريقه أن ذلك على قدر قوة الرجل وضعفه، وبُعْد الموضع وقربه، فإن كان فيه مشقة أجزأه التيمم". اهـ وقال الباجي أيضاً (1/ 110): " وفي المبسوط من رواية ابن وهب عن مالك: أن كل ما يشق على المسافر طلبه والخروج إليه، وإن خرج إليه فاته أصحابه فإنه يتيمم، ولم يحد فيه حداً ". وعبارة خليل في متنه: " طلباً لا يشق به ". قال الخرشي في شرحه (1/ 189): " أي طلبه طلباً لا يشق به، فليس الرجل والضعيف كالمرأة والقوي ". (¬3) المجموع (2/ 288). (¬4) الإنصاف (1/ 274)، شرح منتهى الإرادت (1/ 94)، كشاف القناع (1/ 167 - 168).

وإذا خاف فوت الرفقة لم يجب عليه طلب الماء، حتى ولو لم يكن يتضرر بفوتهم، فيكفي أن يفقد الإنس والألفة معهم، ومن قدره بالميل كالحنفية فتقديره لم يكن عن توقيف من الشارع، وإنما نظروا إلى المشقة التي تلحق الرجل في عصرهم، وأما في عصرنا فقد يكون الحال مختلفاً، فالسيارة ليست كالراحلة، والراكب ليس كالماشي، ومذهب الشافعية والحنابلة أرى أنه أيسر على المكلف ما دام أن الأمر ليس فيه توقيف، فينظر في مكانه، وما قرب منه، ولا يلزمه أن يشد رحله في طلب الماء، ويكفي أن يسأل أهل الخبرة بالمكان الذي هو فيه إن أمكن، فإذا لم يقف على الماء تيمم، ولا حرج، (1428 - 60) فقد روى ابن المنذر من طريق صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت الأوزاعي، قلت: حضرت الصلاة، والماء حائز على الطريق، أيجب أن أعدل إليه؟ قال: حدثني موسى بن يسار، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر، والماء على غلوتين ونحو ذلك، فلا يعدل إليه (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬

(¬1) الأوسط (2/ 35). (¬2) في إسناده موسى بن يسار، قال عنه أبو حاتم الرازي: شيخ مستقيم الحديث. الجرح والتعديل (8/ 167). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 457). وقال الذهبي: لا بأس به. ميزان الاعتدال (4/ 226). وقال في المغني: صدوق. المغني في الضعفاء (2/ 689). واحتج به إسحاق، ففي كتاب المسائل (80): قال إسحاق: لا يلزمه الطلب إلا في موضعه، ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يعدل إلى الماء، وهو منه على غلوة أو غلوتين. والأثر رواه البيهقي (1/ 233) من طريق أبي عامر، ثنا الوليد بن مسلم به.

(1429 - 61) وأما ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن سنان القزاز، نا عمرو بن محمد بن أبي رزين، حدثنا هشام بن حسان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتيمم بموضع يقال له مربد النعم، وهو يرى بيوت المدينة (¬1). [إسناده ضعيف، والمحفوظ وقفه على ابن عمر] (¬2). ¬

(¬1) سنن الدارقطني (1/ 186). (¬2) في إسناده محمد بن سنان القزاز، جاء في ترجمته: قال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي بالبصرة، وكان متسوراً في ذلك الوقت. الجرح والتعديل (7/ 279). وقال أيضاً: سألت عنه عبد الرحمن بن خراش، فقال: هو كذاب، روى حديث (والان) عن روح بن عبادة، فذهب حديثه. المرجع السابق. وقال عبد الرحمن بن خراش: ليس عندي بثقة. تاريخ بغداد (5/ 345). وقال الآجري: سمعته - يعني: أبا دواد السجستاني - يتكلم في محمد بن سنان، يطلق فيه الكذب ". المرجع السابق. وقال الدارقطني: لا بأس به. سؤالات الحاكم (163). وذكره ابن حبان في الثقات (9/ 133). وقال الحافظ في التهذيب: إن كان عمدة من كذبه كونه ادعى سماع هذا الحديث - يعني: حديث والان العدوي - من ابن عبادة، فهو جرح لين، لعله استجاز روايته عنه بالوجادة ". تهذيب التهذيب (9/ 183). وقال مسلمة في الصلة: ثقة. المرجع السابق. وفي التقريب: ضعيف. فالحديث ضعيف على كل حال، سواء كان القزاز ضعيفاً أو ثقة، وذلك لأنه تفرد =

والموقوف كاف في الاحتجاج، لأن الصحابي أعلم من غيره متى يشرع له التيمم، ومتى لا يشرع. (1430 - 62) فقد روى مالك، عن نافع، أنه أقبل هو وعبد الله بن عمر من الجرف حتى إذا كانا بالمربد نزل ¬

_ = بروايته مرفوعاً، وخالف غيره من الثقات ممن رووه موقوفاً على ابن عمر. قال الدارقطني: " يرويه عبيد الله بن عمر، واختلف عنه، فرواه محمد بن سنان بن يزيد القزاز، عن عمرو بن محمد بن أبي رزين، عن هشام بن حسان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وغيره يرويه عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً، وكذلك رواه أيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي، عن نافع، عن ابن عمر، من فعله موقوفاً. تاريخ بغداد (5/ 344). وقال الخطيب: تفرد بروايته مرفوعاً محمد بن سنان بهذا الإسناد، وتابعه محمد بن يونس الكديمي، فرواه عن عمرو بن محمد بن أبي رزين كذلك ". قلت: لا يفرح بهذه المتابعة، وذلك لأن الكديمي رجل متروك. تخريج الحديث: الحديث رواه الحاكم في المستدرك (1/ 180)، والدارقطني في سننه (1/ 186)، والبيهقي في السنن (1/ 234) من طريق محمد بن سنان، عن عمرو بن محمد به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح تفرد به عمرو بن محمد بن أبي رزين، وهو صدوق، ولم يخرجاه، وقد أوقفه يحيى بن سعيد الأنصاري وغيره عن نافع، عن ابن عمر ". ولم يتعقبه الذهبي بشيء. وضعف إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وانظر تخريج ما بقي من طرق حديث ابن عمر في حديث رقم (1430، 1431، 1444) من هذا الكتاب. وانظر إتحاف المهرة (11130، 10902، 11322، 11461).

عبد الله، فتيمم صعيداً طيباً، فمسح وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم صلى (¬1). وإسناده في غاية الصحة. (1431 - 63) ورواه ابن المنذر من طريق أيوب، عن نافع به، بلفظ: عن ابن عمر أنه أقبل من أرضه بالجرف، حتى إذا كان مربد النعم، حضرت صلاة العصر، فتيمم، وإنه لينظر إلى بيوت المدينة (¬2). وهو أصح شيء ورد في الباب حسب علمي، والله أعلم. وقول محمد بن مسلمة من المالكية: " إنما تيمم عبد الله بالمربد، وهو بطرف المدينة؛ ولم ينتظر الماء؛ لأنه خاف فوات الوقت " (¬3)، فيشكل عليه ¬

(¬1) الموطأ (1/ 58)، ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق (883)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 114)، والدارقطني (1/ 181)، والبيهقي (1/ 207). وانظر إتحاف المهرة (11130). وانظر لاستكمال تخريج طرق الحديث رقم (1329، 1444) (¬2) الأوسط (2/ 34)، وهو في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 146) رقم 1673 عن ابن علية، عن أيوب به بنحوه. وإسناده صحيح. ورواه الشافعي في الأم (1/ 45) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (1/ 61) والبيهقي في الكبرى (1/ 224) عن ابن عيينة. ورواه الدارقطني (1/ 186) من طريق فضيل بن عياض، ورواه عبد الرزاق (884) عن الثوري، ثلاثتهم: (ابن عيينة وفضيل والثوري) عن ابن عجلان، عن نافع به، بنحوه. وإسناده حسن. ورواه عبد الرزاق (884) عن الثوري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع به. وسنده صحيح. وانظر مزيد بحث لهذا الأثر في حديث رقم (1429، 1444). (¬3) المنتقى للباجي (1/ 113).

أن نافعاً قال: دخل المدينة، والشمس مرتفعة. وأجاب الباجي في المنتقى على هذا الإشكال، فقال: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد بقوله: والشمس مرتفعة: أي أنها مرتفعة عن الأفق، لم تغب بعد، إلا أن الصفرة قد دخلتها، فخاف فوات وقت الصلاة المختار. الوجه الثاني: أن يكون عبد الله قد رأى أنه لا يدخل المدينة حتى يخرج الوقت، فتيمم على هذا الاجتهاد، وصلى، ثم تبين له أنه كان في فسحة من الوقت، فلم يعد " (¬1). قلت: هذا كله تأويل للأثر، ومن قبيل الحدس، ولا أظن أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه لا يدري أنه يدخل المدينة قبل خروج الوقت، خاصة وأنه ينظر إلى بيوت المدينة حين تيمم. (1432 - 64) أما ما رواه الطبراني من طريق المهيمن بن عباس، عن أبيه، عن جده، أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يأتون العالية، فيدركون المغرب عند مربد النعم، فيتيممون (¬2). [فإسناده ضعيف] (¬3). ¬

(¬1) انظر المرجع السابق. (¬2) المعجم الكبير (6/ 124) رقم: 5715. (¬3) في إسناده عبد المهيمن بن عباس بن سهل، جاء في ترجمته: قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (6/ 137). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (386). وقال أيضاً: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (6/ 383). وقال ابن حبان: ينفرد عن أبيه بأشياء مناكير، لا يتابع عليها من كثرة وهمه، فلما فحش ذلك في روايته بطل الاحتجاج به. المجروحين (2/ 149). وفي التقريب: ضعيف.

الفرع الثاني: لو تيمم ناسيا وجود الماء

الفرع الثاني: لو تيمم ناسياً وجود الماء إذا تيمم ناسياً وجود الماء، وبعد الصلاة تبين له أن الماء كان معه، فهل يلزمه إعادة الصلاة، أو يصح تيممه؟ فقيل: لا تلزمه الإعادة، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن (¬1)، ومالك في إحدى الروايتين عنه (¬2)، ورواه أبو ثور عن الإمام الشافعي (¬3)، واختاره ابن حزم رحمه الله (¬4)، وابن العربي من المالكية (¬5). وقيل: لا يصح تيممه، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬6)، وإحدى الروايتين عن مالك (¬7)، والصحيح من مذهب الشافعية (¬8)، والمنصوص عن ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (1/ 529)، المبسوط (1/ 121)، بدائع الصنائع (1/ 49)، تبيين الحقائق (1/ 233). (¬2) المدونة (1/ 43)، أسهل المدارك (1/ 134)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 566) (¬3) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 295)، وقال النووي في المجموع (2/ 306): لو كان في رحله ماء، فطلب الماء في رحله، فلم يجده، فتيمم وصلى، ثم وجده، فإن لم يمعن في الطلب، وجبت الإعادة، وإن أمعن حتى ظن العدم فوجهان، وقيل: قولان، وهما مخرجان من القولين في الخطأ في القِبْلَة، أصحهما: وجوب الإعادة ". (¬4) المحلى (1/ 350) مسألة: 232. (¬5) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 566). (¬6) المبسوط (1/ 121). (¬7) الذخيرة للقرافي (1/ 361)، حاشية الدسوقي (1/ 159). (¬8) البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 295)،

دليل من قال: لا تلزمه الإعادة، وتيممه صحيح

الإمام أحمد رحمه الله (¬1). دليل من قال: لا تلزمه الإعادة، وتيممه صحيح: النسيان: عذر شرعي يلحق الإنسان، ومعه يكون عاجزاً عن استعمال الماء، والشرع اعتبر العذر مبيحاً للتيمم، ولو كان الماء موجوداً، كما لو جاء الإنسان إلى بئر، ولم يكن معه دلو يستقي به، فإن هذا عذر له يبيح التيمم، وإن كان الماء موجوداً، فالنسيان عجز شرعي لا يمكن معه استعمال الماء، فصح تيممه كالعجز الحسي. الدليل الثاني: إذا جهل وجود الماء، وخشي خروج الوقت صار مطالباً شرعاً بالتيمم، وأن يؤدي الصلاة في وقتها، فلو ترك التيمم حتى خرج الوقت صار آثماً لتفريطه، وإذا كان التكليف في حقه أن يتيمم ويصلي، كان فعله التيمم بمقتضى الشرع، فكيف نطالبه بالإعادة، وقد امتثل الأمر. دليل من قال: تلزمه الإعادة. الدليل الأول: أن القواعد الشرعية تدل على أن النسيان والجهل يعذر بهما المرء في حق الله تعالى في باب المنهيات، دون المأمورات، والأصل فيه حديث معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة ولم يؤمر بالإعادة لجهله (¬2)، وصلاته - صلى الله عليه وسلم - في نعليه، ¬

(¬1) المستوعب (1/ 278)، الإنصاف (1/ 278)، الفروع (1/ 216)، وقال في المغني (1/ 153): " توقف أحمد رحمه الله في هذه المسألة، وقطع في موضع أنه لا يجزئه ". (¬2) حديث يعلى روه مسلم (537) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، =

وبهما آذى حتى أخبره جبريل بذلك، وهو في الصلاة، فنزعهما، وبنى على صلاته (¬1)، بخلاف فعل المأمور فإنه حين رأى رجلاً في قدمه لمعة لم يصبها الماء، قال: ارجع فأحسن وضوءك (¬2). والفرق بين المأمورات والمنهيات من حيث المعنى: أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها، وذلك لا يحصل إلا بفعلها، والمنهيات مزجور عنها بسبب مفاسدها، امتحاناً للمكلف بالانكفاف عنها، وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها، ومع النسيان والجهل لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي، فعذر ¬

= عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث. وجه الاستدلال: أنه لم يأمره بالإعادة مع ارتكابه المنهي عنه، وهو الكلام لجهله بالحكم. (¬1) الحديث رواه أحمد (3/ 20) من طريق حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله ? صَلَّى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما. والحديث إسناده صحيح، وسبق تخريجه انظر (397) من كتابي أحكام الطهارة. (¬2) مسلم (243).

الدليل الثاني

بالجهل فيه، وهذا ينطبق على من نسي الماء، وهو في رحله، وصلى بالتيمم، فإنه يطالب بفعله؛ لأنه من باب المأمورات، أرأيت لو أن الرجل نسي الطهارة، وصلى بدونها، لزمته إعادة الصلاة، فكذلك نسيان الماء، فإنه بمنزلة نسيان الطهارة الواجبة عليه. وهذا من أقوى أدلتهم (¬1). ويجاب: النزاع: هل يعتبر من نسي الماء، عاجزاً شرعاً عن استعماله، أو ليس بعاجز؟ فإن اعتبرناه عاجزاً عن استعمال الماء لم يكن تاركاً للمأمور، لأنه حينئذ لم يكن مأموراً بما عجز عنه شرعاً، وكان المأمور به في هذه الحال هو التيمم، وإن اعتبرناه في حالة النسيان ليس بعاجز شرعاً، صدق عليه أنه ترك ما هو مأمور فيه، فلا يعذر بالجهل والنسيان، ونحن نذهب إلى أن من نسي وجود الماء، وطلب الماء، وأمعن في طلبه، فلم يجده، أنه عاجز عن استعماله حالة نسيانه، وتيممه وصلاته إنما وقع في هذه الحالة، أعني حالة العجز، فلا يكون قد ترك المأمور، وفرق بين ترك الوضوء إلى غير بدل، وبين ترك الوضوء إلى بدل آخر، والله أعلم. الدليل الثاني: أن التيمم إنما يصح بشرطين: عدم الماء، أو عدم القدرة على استعماله، وهذا واجد للماء، وقادر على استعماله، إلا أنه جاهل بالوجود والقدرة، والجهل عذر في رفع الإثم، لا في إسقاط الواجب المأمور به، كما قلنا: في صلاته، ناسياً الحدث، فإنه يجب عليه أن يتطهر ويصلي، فكذلك هنا. ¬

(¬1) انظر المنثور في القواعد (2/ 19).

الدليل الثالث

ويجاب عن هذا. إذا عجز الإنسان عن استعمال الماء صح تيممه كالمريض، وهذا الناسي غير قادر على استعمال الماء، فإمكان وقوع التيمم يقف على القدرة، والقدرة إنما تتصور مع العلم بمكان المقدور عليه، فإذا لم يعلم اختل شرط القدرة، وإذا لم يقدر صار عاجزاً، وإذا عجز أبيح له التيمم، وإذا أبيح له ذلك لم يلزم بالإعادة، ويفارق من حاله هذا حال من صلى بدون طهارة؛ لأن من صلى بدون طهارة لم يأت بالمأمور أصلاً، بينما هذا كان المأمور في حقه التيمم بدليل أنه لو ترك التيمم حتى خرج وقت الصلاة أثم لتفريطه، فإذا كان التيمم هو الطهارة في حقه، فكيف يقاس من نسي الطهارة بالكلية على من قام بها. الدليل الثالث: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فلم تجدوا ماء} فاشترط عدم وجود الماء، ولم يشترط عدم العلم بوجود الماء، وبينهما فرق. الراجح: القولان فيهما قوة، وكل قول له وجه، والنفس تميل إلى القول بصحة تيممه، إلا أن ذلك ينبغي أن يكون مشروطاً بأن يكون الرجل قد قام بما يعتقد أنه يلزمه من البحث عن الماء حوله حتى غلب على ظنه عدم وجود الماء، فإن لم يقم بطلب الماء حوله، فإنه يكون بذلك قد قصر في القيام بما يجب عليه، ويكون القول بالإعادة في هذه الحالة فيه قوة واحتياط، والله أعلم.

الشرط السادس: في اشتراط دخول الوقت

الشرط السادس: في اشتراط دخول الوقت العبادات نوعان: عبادة مؤقتة بوقت، وذلك مثل الفرائض الخمس، والسنن الرواتب، والوتر ونحوها، وعبادة غير مؤقتة بوقت كالنفل المطلق. وقد اختلف العلماء هل يتشرط لصحة التيمم دخول وقت العبادة المؤقتة، أو يصح تيممه ولو تيمم قبل دخول وقتها، فقيل: لا يشترط، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1)، واختاره ابن شعبان من المالكية (¬2)، وابن حزم (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). وقيل: يشترط دخول وقتها، وهو مذهب المالكية (¬5)، والشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 536)، بدائع الصنائع (1/ 54)، المبسوط (1/ 109)، تبيين الحقائق (1/ 42). (¬2) المنتقى للباجي (1/ 111). (¬3) المحلى (1/ 92) مسألة: 112. (¬4) الفتاوى الكبرى (2/ 14)، مجموع الفتاوى (21/ 352). (¬5) المنتقى للباجي (1/ 109)، التاج والإكليل (1/ 520)، الخرشي (1/ 193)، المقدمات (1/ 118). (¬6) انظر الأم (1/ 46)، المهذب (1/ 34)، وقال النووي في المجموع (2/ 275): " اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن التيمم للمكتوبة لا يصح إلا بعد دخول وقتها ". (¬7) المغني (1/ 149)، المستوعب (1/ 296)، المبدع (1/ 206)، الفروع (1/ 231)، الإنصاف (1/ 263).

دليل من قال: لا يتيمم قبل دخول وقت العبادة

وسبب الخلاف اختلافهم في طهارة التيمم، هل هي طهارة ضرورة، والحدث فيها لا يرتفع، وإنما يستباح بها فعل المأمور، أو أنها طهارة بدل، تأخذ حكم المبدل من كل وجه إلى حين وجود الماء، فمن رأى أنه طهارة ضرورة، قال: لا يجوز التيمم إلا بعد دخول وقت الصلاة، ومن رأى أنها تقوم مقام الماء عند عدمه أو عند العجز عن استعماله، قال: بجواز أن يتيمم قبل الوقت، وأن يصلي بتيممه هذا فروضاً ونوافل إلى حين وجود الماء أو قيام حدث ناقض لهذه الطهارة. دليل من قال: لا يتيمم قبل دخول وقت العبادة: الدليل الأول: قالوا: من القرآن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} إلى قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1). وجه الاستدلال: أن القائم إلى الصلاة أمر بالوضوء، فإن لم يجده تيمم، وهذا يقتضي أن لا يفعله إلا بعد قيامه إليها، وعدم الماء، والوضوء إنما جاز قبل الوقت؛ لوجود دليل خاص على جواز وقوعه قبل الوقت، فبقي التيمم على المنع، ولكون الوضوء رافعاً للحدث، بخلاف التيمم، فإنه طهارة ضرورة كطهارة المستحاضة (¬2). ويجاب عن هذا: إذا كنا أمرنا بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولم يمنع ذلك من جواز تقدم الوضوء على الوقت، لم يمنع هذا أيضاً من صحة التيمم قبل الوقت، ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) انظر المبدع (1/ 206).

وهذا مقتضى القياس الصحيح. ولا يمكن لكم أن تخرجوا من هذا القياس الصحيح بقولكم إن الوضوء يرفع الحدث بخلاف التيمم؛ لأننا لا نسلم أن التيمم ليس رافعاً للحدث، وقد تم مناقشة هذه المسألة في مسألة مستقلة، وتبين لنا بدليل الكتاب والسنة أن التيمم جعله الله مطهراً لهذه الأمة كما في قوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" (¬1). وقوله أيضاً: الصعيد الطيب طهور المسلم (¬2)، وهذه الأحاديث صحيحة، سبق تخريجها في أول البحث، وكلها نص في موضع النزاع، وأن التيمم طهور المسلم، والطهور: هو ما يطهر غيره، ولو كان المراد طاهراً لم يكن فيه خصوصية، فإن التراب طاهر لنا ولغيرنا من الأمم، وإنما اختصت هذه الأمة بكون التيمم مطهر. كما أن القياس على طهارة المستحاضة، وأن طهارتها يشترط لها دخول الوقت، فهذه مسألة فيها نزاع أيضاً، ولا يوجد حديث صحيح يأمر المستحاضة بأنها لا تتوضأ إلا بعد دخول الوقت، ولا بأمرها بالوضوء لكل صلاة، وإنما صح هذا من قول عروة رضي الله عنه موقوفاً عليه، فالمستحاضة ومن به سلس بول إذا توضأ فهو على طهارته، يصلي به ما شاء من الفروض والنوافل، خرج الوقت أو لم يخرج، والحدث الدائم لا يؤثر في طهارته شيئاً؛ لأنه مغلوب عليه، فوجوده كعدمه، وهذا مذهب المالكية، وسبق بحث هذه المسألة في باب نواقض الوضوء، وإذا بطل المقيس عليه بطل المقيس. ¬

(¬1) صحيح البخاري (335)، ومسلم (521). (¬2) سبق تخريجه في كتابي أحكام الطهارة: كتاب المياه، رقم: (39).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1433 - 65) روى البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديث (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " أدركته الصلاة " أي أدركه وقت الصلاة، فهذا دليل على أن التيمم لا يكون إلا بعد دخول وقت الصلاة. ويجاب: أن الحديث إنما هو عن وجوب التيمم على العبد لوجوب الصلاة، فلا يجب التيمم على العبد إلا إذا أدركته الصلاة: أي وجب عليه فعلها، فالحديث في معنى الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} (¬2)، فإذا كانت هذه الآية لا تمنع من الوضوء قبل دخول وقت الصلاة، لم يمنع الحديث من التيمم قبل دخول الوقت. دليل من قال: يجوز التيمم قبل دخول الوقت. الدليل الأول: لا يوجد نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمنع من التيمم قبل الوقت، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل الصحيح الخالي من النزاع. ¬

(¬1) صحيح البخاري (335). (¬2) المائدة: 6.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: القياس الصحيح: أن التيمم بمنزلة الطهارة حتى يجد الماء، وإذا كان التيمم بدل عن الوضوء، فالبدل له حكم المبدل، فكما أن الوضوء يجوز قبل دخول الوقت فكذلك بدله الذي هو التيمم. الدليل الثالث: الصلاة في أول الوقت فضيلة في الجملة، قال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الأعمال الصلاة على وقتها " متفق عليه أي على أول وقتها. ولا يمكن أن تقع الصلاة في أول الوقت إلا بتقديم الطهارة على دخول الوقت، والطهارة شيئان: الماء عند وجوده، والتراب عند عدم الماء، فاقتضى ذلك جواز تقديم التيمم على الوقت (¬2). الدليل الرابع: حديث أبي ذر، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬3). [حديث حسن] ¬

(¬1) الإسراء: 78. (¬2) أحكام القرآن للجصاص (2/ 537). (¬3) المصنف (913).

الراجح من الخلاف

ولم يفرق بين كونه قبل الوقت أو بعده، وإنما علق جوازه بعدم الماء، لا بالوقت، وهذا معنى قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فأمر بالتيمم بعد الحدث إذا عدم الماء، ولم يفرق بين حاله قبل الوقت أو بعده. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بجواز التيمم قبل الوقت هو القول الصحيح لقوة أدلته، وضعف أدلة الجمهور، والله أعلم. ¬

(¬1) المائدة: 6.

الشرط السابع: في ذكر الشروط التي تتعلق بالأرض المتيمم عليها

الشرط السابع: في ذكر الشروط التي تتعلق بالأرض المتيمم عليها الفرع الأول: في التيمم بغير التراب. قال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز إلا من شذ منهم " (¬1). وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب جائز، واختلفوا فيما عداه من الأرض (¬2). وقال ابن رشد: " حصل الإجماع على إجازة التيمم على التراب، والاختلاف فيما سواه مما هو مشاكل للأرض " (¬3). واختلفوا بالتيمم بغير تراب مما هو من جنس الأرض، فقيل: التيمم جائز بكل ما صعد على الأرض من جنسها، من تراب، أوجص، أو نورة، أو رمل، أو غير ذلك، وهذا مذهب الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5). ¬

(¬1) الأوسط (2/ 37). (¬2) الاستذكار (1/ 309). (¬3) مقدمات ابن رشد (1/ 113). (¬4) أحكام القرآن للجصاص (2/ 554)، المبسوط (1/ 108)، شرح فتح القدير (1/ 112 - 113)، تبيين الحقائق (1/ 38 - 39)، البحر الرائق (1/)، بدائع الصنائع (1/ 53)، حاشية ابن عابدين (1/ 230). (¬5) مواهب الجليل (1/ 350)، التمهيد (19/ 281)، الاستذكار (3/ 157)، الشرح الصغير (1/ 195)، حاشية الدسوقي (1/ 155).

وقيل: لا يجوز التيمم إلا بتراب طهور له غبار، وهذا مذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2)، واختيار أبي يوسف من الحنفية (¬3). وقيل: يجوز التيمم بكل ما هو على وجه الأرض حتى الحشيش النابت على وجه الأرض والثلج إذا عم الأرض وحالا بينك وبينها، وهو قول في مذهب مالك (¬4). وقيل: لا يجوز التيمم إلا بالتراب أو بالرمل دون الحجارة ونحوها، وهو قول لأبي يوسف من الحنفية (¬5). وسبب الخلاف اختلافهم في تفسير قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬6)، ما هو الصعيد، وفي تفسيرها قولان: أحدهما: أن الصعيد يطلق على التراب الخالص. (1434 - 66) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (2/ 246): " مذهبنا أنه لا يصح التيمم إلا بتراب، هذا هو المعروف في المذهب، وبه قطع الأصحاب، وتظاهرت عليه نصوص الشافعي ". وانظر المهذب (1/ 32 - 33)، روضة الطالبين (1/ 108 - 109)، مغني المحتاج (1/ 96)، نهاية المحتاج (1/ 272)، الخلافيات للبيهقي (2/ 467). (¬2) المغني (1/ 155)، المحرر (1/ 22)، الإنصاف (1/ 284). (¬3) المبسوط (1/ 108). (¬4) المقدمات (1/ 112 - 113). (¬5) المبسوط (1/ 108). (¬6) المائدة: 6.

عن ابن عباس، قال: أطيب الصعيد الحرث، وأرض الحرث (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وليس فيه دليل على أن الصعيد يطلق على التراب، لأن قوله " أطيب الصعيد " اسم تفضيل، فهو يدل على أن غير أرض الحرث يسمى صعيداً، لكن أرض الحرث أطيب الصعيد. وقال الشافعي: لا يقع اسم صعيد إلا على تراب ذي غبار (¬3). وقال الأزهري: " مذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله سبحانه وتعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬4)، أنه التراب الطاهر الذي على وجه الأرض، أو خرج من باطنها" (¬5). واستدل بعضهم بقوله " طيباً " فالأرض الطيبة: هي القابلة للإنبات، ففيها إشارة إلى اعتبار التراب، بدليل قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً} (¬6). ولا يتعين الطيب بوصف الإنبات فقط، وليس لاعتبار الإنبات معنى يعود إلى التيمم، وإنما المقصود بالطيب هنا الطاهر الذي هو ضد النجس، قال ¬

(¬1) المصنف (1/ 148) رقم 1702. (¬2) في إسناده قابوس بن ظبيان، ضعيف، قال جرير بن عبد الحميد: أتينا قابوس بعد فساده. والأثر رواه البيهقي في سننه (1/ 214) من طريق جرير به. (¬3) الأم (1/ 50). (¬4) المائدة: 6. (¬5) المصباح المنير (ص: 340). (¬6) الأعراف: 58. انظر شرح ابن رجب للبخاري (2/ 210).

محمد بن مسلمة: يريد أن يكون طاهراً، ولم يرد كرم الأرض ولا لؤمها (¬1). فالطيب: ضده الخبيث، ولا نعرف خبيثاً يمكن أن يوصف به الصعيد إلا أن يكون نجساً. والقول الثاني: الصعيد هو وجه الأرض. قال في المصباح المنير: الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره، قال الزجاج: ولا أعلم اختلافاً بين أهل اللغة في ذلك (¬2). وقال الباجي: " الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو رملاً أو حجراً، قاله ابن الأعرابي وأبو إسحاق، والزجاج، قال أبو إسحاق: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة " (¬3). فهذان إمامان من أهل اللغة يحكيان الإجماع على أن الصعيد هو وجه الأرض، وينفيان وقوع اختلاف بين أهل اللغة في ذلك. قلت: ويدل عليه قوله تعالى: {فتصبح صعيداً زلقاً} (¬4). وقال سبحانه وتعالى: {صعيداً جرزاً} (¬5). والجرز: هي الأرض التي لا نبات عليها ولا زرع ولا غرس (¬6). ¬

(¬1) المنتقى للباجي (1/ 114) (¬2) المصباح المنير (ص: 340). (¬3) تفسير الطبري (15/ 196). (¬4) الكهف: 40. (¬5) الكهف: 8. (¬6) تفسير ابن كثير (3/ 73).

دليل من قال: يتيمم بكل ما هو من جنس الأرض

وقال ابن كثير: صعيداً جرزاً: أي لا ينبت ولا ينتفع به (¬1). وقال في المصباح المنير أيضاً: الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي على وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق، وتجمع هذه على صعد بضمتين وصعدات، مثل طريق وطرق وطرقات. فالخلاصة: أن الصعيد على هذا التفسير الأخير اسم مشترك يطلق على التراب، وعلى وجه الأرض، فمن استدل بالآية على أنها دليل على أنه لا يجوز التيمم إلا على التراب فقط فقد أخطأ؛ والذين يجوزون التيمم بكل ما هو على وجه الأرض لا يمنعون من التيمم بالتراب، وإنما ينكرون أن في الآية دليلاً على اختصاص التيمم بالتراب فقط. فإذا عرفنا منشأ الخلاف فهذا أوان ذكر أدلة كل قول. دليل من قال: يتيمم بكل ما هو من جنس الأرض: الدليل الأول: قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬2). وجه الاستدلال: قد قدمنا كلام أهل اللغة في معنى الصعيد، وأنه لفظ مشترك يطلق على التراب، وعلى وجه الأرض، ويجب استعمال المشترك في معنييه إلا أن يمنع من ذلك مانع، ولا مانع هنا. ¬

(¬1) انظر المرجع السابق. (¬2) المائدة: 6.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1435 - 67) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: فكل موضع جازت الصلاة فيه من الأرض جاز التيمم به. الدليل الثالث: أنه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك مر برمال كثيرة، ولم يكن يحمل معه التراب، ولم ينقل أنه كان يصلي بدون تيمم. الدليل الرابع: لو كان التيمم يختص بالتراب لجاءت النصوص صريحة واضحة بالنهي عن التيمم بالرمال والحجارة ونحوها؛ لأن الأمر يتعلق بالطهارة، والطهارة تتعلق بالركن الثاني للإسلام وهو الصلاة، فلما لم يأت نصوص تنهى عن التيمم بغير التراب، علم أن الأرض كلها يجوز التيمم عليها، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (335)، مسلم (521).

دليل من قال: التيمم خاص بالتراب ذي الغبار

دليل من قال: التيمم خاص بالتراب ذي الغبار: أما الدليل على اشتراط التراب، فاستدلوا بما يلي. الدليل الأول: استدلوا بقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬1)، قالوا: الصعيد: هو التراب. وسبق الجواب عن ذلك، بأن الصعيد كما يطلق على التراب يطلق على وجه الأرض، فهو لفظ مشترك، فمن قصر الصعيد على التراب فقد قصر اللفظ المشترك على أحد معنييه بدون قرينة تقضي تخصيص إحدى المعنيين. الدليل الثاني: (1436 - 68) استدلوا بما رواه مسلم في صحيحه من طريق أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خصلة أخرى. وجه الاستدلال: أن الحديث جعل الأرض كلها مسجداً، وخص الطهورية بالتربة، وأخرج ذلك في مقام الامتنان وبيان الاختصاص فلولا أن الطهورية لا تعم جميع أجزاء الأرض لكان ذكر التربة لا معنى له، بل كان زيادة في اللفظ، ونقصاً في المعنى، وهذا لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم (¬2). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 211).

وهذا أقوى دليل لمن اشترط التراب، وأجيب عنه بأجوبة منها: الأول: أن حديث جابر: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " منطوقه يدل على أن جميع الأرض طهور. وحديث حذيفة منطوقه يدل على أن التراب طهور، فمنطوقه موافق لمنطوق حديث جابر. ومفهوم حديث حذيفة: أن غير التراب ليس مطهراً، وإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته، ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته، فالمنطوق مقدم على المفهوم، لأن دلالة المفهوم دلالة ضعيفة، بخلاف المنطوق، ولا يمكن أن نخصص أو نقيد بالمفهوم (¬1). الجواب الثاني: إذا ذكر عموم أو مطلق بحكم، ثم ذكر فرد من أفراده بحكم يوافق حكم العام أو المطلق، فإن هذا الفرد لا يعتبر مخصصاً ولا مقيداً للعموم. مثال ذلك: إذا قلنا: أكرم طلبة العلم، فهذا لفظ يفيد عموم الطلبة، ثم قلنا: أكرم زيداً، وكان زيد من طلبة العلم، فإنه لا يفهم منه تخصيص الإكرام لزيد وحده. فحديث جابر: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " مطلق يشمل جميع الأرض. وحديث " وجعلت تربتها لنا طهوراً " التراب فرد من أفراد الأرض، ذكر بحكم يوافق حكم الأرض بكونها طهوراً، فلم يقتض ذلك تقييداً ولا تخصيصاً. ¬

(¬1) التخصيص بالمفهوم محل خلاف بين الأصوليين، وتحريرها في كتب الأصول.

الدليل الثالث

قال ابن المنذر في الأوسط للتدليل على هذه القاعدة: ونظير ذلك قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} الآية (¬1)، فأمر بالمحافظة على الصلوات، والصلوات داخلة في جملة قوله: {حافظوا على الصلوات} (¬2)، ثم خص الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، فقال: {والصلاة الوسطى} (¬3)، فلم تكن خصوصية الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مخرجاً سائر الصلوات من الأمر العام الذي أمر بالمحافظة على الصلوات " اهـ (¬4). فكأن ابن المنذر يقول مفهوم {والصلاة الوسطى} (¬5) الآية، لم يؤخذ ويعارض به منطوق حافظوا على الصلوات. الدليل الثالث: (1437 - 69) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا المثنى بن الصباح، أخبرني عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إني أكون في الرمل أربعة أشهر، أو خمسة أشهر، فيكون فينا النفساء والحائض والجنب، فما ترى؟ قال: عليك بالتراب (¬6). [إسناده ضعيف] (¬7). ¬

(¬1) البقرة: 238. (¬2) البقرة: 238. (¬3) نفس السورة، ونفس الآية. (¬4) الأوسط (1/ 270). (¬5) البقرة: 238. (¬6) المسند (2/ 278). (¬7) الحديث أخرجه عبد الرزاق في المصنف (911)، ومن طريقه أحمد كما في إسناد الباب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه أحمد (2/ 352) والبيهقي (1/ 216) من طريق الثوري، كلاهما (عبد الرزاق، والثوري) عن المثنى بن الصباح به. والمثنى ضعيف. وأخرجه أبو يعلى كما في مسنده (5870) وفي المطالب العالية (156) حدثنا كامل ابن طلحة، ثنا ابن لهيعة، ثنا عمرو بن شعيب به. وقال: عليكم بالأرض بدلاً من قوله: " عليكم بالتراب " وبينهما فرق. وهذا الإسناد ضعيف أيضاً؛ لأن فيه ابن لهيعة. وأخرجه الطبراني في الأوسط (2032) من طريق وكيع بن الجراح، عن إبراهيم بن يزيد، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن المسيب به، بلفظ: " أن أقواماً سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: إنا نغرب عن الماء الثلاثة أشهر، والخمسة، فلا نجد الماء، وفينا الحائض والجنب والنفساء، قال: عليكم بالأرض. قال الطبراني: لا نعلم لسليمان الأحول، عن سعيد بن المسيب غير هذا، ولم يروه إلا وكيع، عن إبراهيم بن يزيد، وقد روي عن سعيد بن المسيب من وجه آخر، ورواه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب، عن سعيد. أهـ وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه إبراهيم بن يزيد، وهو متروك. وأخرجه البيهقي (1/ 217) من طريق أبي الربيع السمان: أشعث بن سعيد، عن عمرو ابن دينار، عن سعيد بن المسيب به. وهذا إسناد ضعيف جداً أيضاً؛ لأن أبا الربيع متروك، وقد جعل بدلاً من عمرو بن شعيب عمرو بن دينار. قال البيهقي: أبو الربيع السمان ضعيف، ثم ساق بإسناده إلى ابن المديني أنه قال: قلت لسفيان: إن أبا الربيع روى عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة في الرجل يعزب عن إبله، فقال: سفيان: إنما جاء بهذا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وإنما قال: عمرو بن دينار: سمعت جابراً بن زيد يقوله. قال علي: قلت لسفيان: إن شعبة رواه هكذا عن جابر، فقال: إن شعبة كان من أهل الحفظ والصدق، ولم يكن ممن يريد الباطل. قال البيهقي: وقد روي عن ابن أبي عروبة، عن عمرو بن دينار، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، وابن أبي عروبة إنما سمعه من أبي الربيع، عن عمرو، كذلك رواه سعيد بن الصلت، عن ابن أبي عروبة. اهـ وأخرجه البيهقي (1/ 217) من طريق عبد الله بن سليمان الأفطس، عن الأعمش، عن =

الدليل على اشتراط الغبار

وأما الدليل على اشتراط الغبار: فلقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيدكم منه} (¬1). وجه الاستدلال: أن لفظة " منه " دالة على التبعيض، ولا يتحقق ذلك إلا بغبار يعلق باليد، ويمسح به الوجه واليدان. وأجيب: أولاً: أن كلمة " منه " في الآية ليست دالة على التبعيض، وإنما هي لابتداء الغاية، كما في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام} (¬2). ثانياً: أن آية التيمم في سورة النساء ليس فيها كلمة (منه) قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬3). ثالثاً: في حديث عمار رضي الله عنه الذي رواه البخاري وفيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح وجهه وكفيه " (¬4). والنفخ قد يزيل أثر التراب والغبار. ¬

= عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب. قال البيهقي: عبد الله بن سلمة الأفطس ضعيف. وانظر أطراف المسند (7/ 266)، إتحاف المهرة (18744). (¬1) المائدة: 6. (¬2) الإسراء: 1. (¬3) المائدة: 6. (¬4) صحيح البخاري (338)، ورواه مسلم (312).

دليل من خص التيمم بالتراب والرمل

رابعاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر في الأرض الرملية، ولم ينقل عنه ترك التيمم لعدم وجود الغبار، كل ذلك دليل على أن اشتراط الغبار قول ضعيف، والله أعلم. دليل من خص التيمم بالتراب والرمل: لعل صاحب هذا القول حمله على إدخال الرمل خاصة مع التراب، كونه رأى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك، قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وكان ماؤهم في غاية القلة، ولم يرو عنه أنه حمل التراب معه، ولا أمر بحمله، ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، فجعل الرمل ملحقاً بالتراب، والله أعلم.

الفرع الثاني: في طهارة ما يتيمم به

الفرع الثاني: في طهارة ما يتيمم به ذهب أكثر أهل العلم إلى اشتراط طهارة ما يتيمم به، فلا يصح التيمم على الأرض النجسة (¬1). وفي مذهب المالكية قولان فيمن تيمم على أرض نجسة: أحدهما: يعيد ما دام في الوقت. والثاني: يعيد أبداً (¬2). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/ 154)، مجمع الأنهر (1/ 39)، بدائع الصنائع (1/ 53)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 79). وانظر في مذهب الشافعية الإقناع للماوردي (ص: 31)، المهذب (1/ 33)، غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص: 62). وانظر في مذهب الحنابلة: الفروع (1/ 223)، مطالب أولي النهى (1/ 209)،. (¬2) انظر المدونة (1/ 39)، الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 161)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 29)، الذخيرة (1/ 349). قال ابن عبد البر في التمهيد (13/ 109): " اختلف قولهم فيمن تيمم على موضع نجس، فقال أكثرهم: يعيد في الوقت وبعده، لقول الله عز وجل {فتيمموا صعيداً طيباً} يعني: طاهراً، وقال بعضهم: لا يعيد إلا في الوقت، وهو قول أشهب قياساً على من صلى بثوب نجس ليستدرك فضل السنة في الوقت، فإذا خرج الوقت لم يستدرك بذلك ". وكان قد قال قبل (13/ 108): قال مالك: من تيمم عليها أو صلى (أي على الأرض النجسة) أعاد في الوقت، وقد قال: يعيد أبداً، وكذلك اختلف أصحابه، فمنهم من قال: يعيد أبداً من تيمم على موضع نجس، ومنهم من قال: يعيد في الوقت لا غير، هذا إنما هو في نجاسة لم تظهر في التراب، وفيما لم تغيره النجاسة، وأما من تيمم على نجاسة يراها أو توضأ بماء تغير أوصافه أو بعضها بنجاسة فإنه يعيد أبدا ... ". اهـ

دليل من اشترط الطهارة

وعلى القول بأنه يعيد ما دام في الوقت فإن الإعادة ليست واجبة؛ لأن الذمة لو كانت مشغولة في وجوب الإعادة لم يكن هناك فرق بين الوقت وبين خارج الوقت، وقد قال بعضهم عن أصحاب مالك: إن كل موضع يقول فيه مالك: إنه يعيد في الوقت هو استحباب ليس بإيجاب (¬1). وقد أثبت جماعة من أهل العلم الخلاف في التيمم بالتراب النجس، وأنه ليس من مسائل الإجماع، منهم ابن حزم (¬2)، وابن المنذر (¬3)، وسائر من نقلنا عنه من كتب المالكية ممن حرر الخلاف. دليل من اشترط الطهارة: قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬4)، والطيب ضد النجس (¬5). قال ابن قدامة: الطيب: الطاهر (¬6). (1438 - 70) ولما رواه ابن الجارود في المنتقى من طريق حماد، عن ثابت وحميد، ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (5/ 205). (¬2) قال ابن حزم في مراتب الإجماع (ص: 27) " واختلفوا أيمس المتيمم المصحف ويؤم المتوضئ أم لا؟ وهل يتيمم بتراب نجس أم لا؟ (¬3) قال ابن المنذر في الأوسط (2/ 40): " اختلف أهل العلم في التيمم بالتراب النجس، فقال كثير منهم: لا يجوز التيمم به ... ". (¬4) المائدة: 6. (¬5) وقيل: الطيب: هي الأرض القابلة للإنبات، كما في قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} الأعراف: 58. انظر شرح ابن رجب للبخاري (2/ 210). (¬6) المغني (1/ 155).

دليل من قال: يعيد ما دام في الوقت

عن أنس رضي الله عنه، قال: جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً " (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). دليل من قال: يعيد ما دام في الوقت: لقد ذكر ابن عبد البر: أن هذا الحكم إنما هو في أرض أصابتها نجاسة، ولم يظهر لها أثر في الأرض، وأما الأرض التي تُرَى فيها النجاسة، فإنه يعيد أبداً (¬3)، فإذا كان ذلك كذلك، فهل الأرض بذلك تكون نجسة، ولا بد من غسلها بالماء، أو يحكم بطهارتها ما دامت لم تظهر فيها النجاسة، الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في الماء القليل الذي وقعت فيه نجاسة فلم يظهر لها لون أو طعم أو رائحة، وفيه قولان لأهل العلم، فمنهم من يرى نجاسته، ومنهم من يرى أنه طاهر حتى يتأثر بالنجاسة، وقد حررت ذلك في كتاب المياه، وذكرت أدلة كل قول، ورجحت أن الماء لا يحكم له بالنجاسة حتى تكون ¬

(¬1) المنتقى لابن الجارود (124). (¬2) الحديث رواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 12) والمقدسي في الأحاديث المختارة (1653) من طريق حجاج بن منهال، قال: ثنا حماد بن سلمة به. واستدل به ابن المنذر في الأوسط (2/ 12) على اشتراط طهارة الأرض، فقال في ترجمته لهذا الحديث: الدليل على أن الأرض الذي جعل من الأرض طهوراً الطاهر منها دون النجس. وقال الحافظ في الفتح تحت حديث رقم (335): روى ابن المنذر وابن الجارود بإسناد صحيح عن أنس مرفوعاً. وقد نسبه الحافظ ابن حجر في إتحاف المهرة (482) إلى مسند أحمد، ولم أقف عليه في المسند، ولا في أطراف المسند، وقد صرح محقق الإتحاف أيضاً بأنه لم يقف عليه في المسند. (¬3) التمهيد (13/ 108) و (22/ 244) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 29).

النجاسة غالبة على الماء، وذلك بأن يظهر لها أثر في الماء من طعم أو لون أو رائحة، فإذا لم يظهر لها شيء من ذلك، واستهلكت في الماء، فإن الماء طهور، والحكم لا يختلف عنه في الأرض، فإن لم يكن للنجاسة وجود محسوس لم تكن الأرض نجسة، ولكن ما هو الدليل على استحباب الإعادة بالوقت، ذكروا وجوهاً للاستحباب منها: أن التيمم لا يجب فيه إيصال التراب إلى البشرة، إذ لو تيمم على الحجر الصلد أجزأه، وإنما الواجب قصد الأرض وضربها باليد، والمرتفع من التراب النجس إلى الأعضاء لم يحصل به خلل في طهارة الحدث، وإنما هو حامل لنجاسة لم يتعمدها، فيعيد في الوقت على قاعدة إزالة النجاسة. أو لأن الغبار ينتقل مع الريح الجارية على هذا المكان، والتيمم إنما يقع على أعلى المنتقل الطاهر (¬1). أو لأن الأمام طلب الإعادة بالوقت مراعاة للقائل من الأئمة بطهارة الأرض بالجفاف كمحمد بن الحنفية والحسن البصري (¬2). قلت: هذه مسألة أخرى سوف أتعرض لها في المسألة التالية لهذه. أو لأن الحكم عائد إلى حكم الصلاة بالثوب النجس، فإن في مذهب المالكية قولاً باستحباب التخلي عن النجاسة في الصلاة، وأن الطهارة من الخبث ليس شرطاً ولا واجباً من واجبات الصلاة، وأن من صلى في الثوب النجس يعيد ما دام في الوقت، ولا يعيد إذا خرج الوقت، فهذا مثله. وقد ناقشت أدلة هذه المسألة ولله الحمد في كتاب أحكام النجاسات، فانظرها مشكوراً. ¬

(¬1) الذخيرة (1/ 349). (¬2) الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 161).

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف: التيمم على النجاسة يختلف عن التيمم على التراب النجس، فالتميم على النجاسة لا يجوز، وأما على التراب المتنجس، فإن كانت الأرض لم تظهر عليها النجاسة، فإن الأرض طيبة، يجوز التيمم والصلاة عليها، وإن كانت النجاسة ترى على الأرض فإنه لا يتيمم عليها، ولكن أن يجعل ذلك شرطاً في صحة التيمم نحتاج إلى نص شرعي ينفي صحة التيمم، ولا يكفي كون الشيء واجباً أن يكون شرطاً، فإن الشرطية أخص من الوجوب، ولا بد في إثبات الشرطية أن نستند إلى نص ينفي صحة التيمم على الأرض النجسة، كما عبر عن الشرطية في الطهارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (¬1). ¬

(¬1) البخاري (6954)، مسلم (225).

الفرع الثالث: في التيمم على الأرض التي أصابتها نجاسة ثم جفت

الفرع الثالث: في التيمم على الأرض التي أصابتها نجاسة ثم جفت إذا أصابت الأرض نجاسة، ثم جفت، وذهب أثرها، فهل يتيمم بها؟ اختلف العلماء في هذا بناء على اختلافهم في طهارة الأرض المتنجسة بالجفاف، وهل يتعين الماء لإزالة النجاسة، أو تزال بأي مزيل، ومنه الجفاف؟ فقيل: يتيمم بها، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يصلي عليها، ولا يتيمم بها، وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (¬2). وقيل: لا يتيمم بها، وهو مذهب الجمهور. (¬3). دليل الحنفية في التفريق بين الصلاة والتيمم: قالوا: لا يصح التيمم بها، وإن صحت الصلاة عليها؛ لأن الأرض التي ¬

(¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 53): " ولو تيمم بأرض قد أصابتها نجاسة، فجفت، وذهب أثرها لم يجز في ظاهر الرواية. وروى ابن الكاسر النخعي عن أصحابنا أنه يجوز". وانظر المبسوط (1/ 191). (¬2) انظر المرجعين السابقين. (¬3) سبق لنا أن الأرض المتنجسة لا يجوز التيمم بها اتفاقاً في المسألة التي قبل هذه، كما أن الجمهور لا يرون الطهارة بالجفاف أو بالشمس، ويرون أن الأرض لا زالت نجسة، وإن ذهبت عين النجاسة حتى تغسل بالماء. وقد فصلت القول ولله الحمد في كتاب أحكام النجاسة وذكرت خلاف العلماء في الطهارة بالجفاف، ورجحت بالدليل أن الأرض إذا ذهبت عين النجاسة، فلم يبق لها أثر من لون أو رائحة، فإن حكم الأرض يعود كما كان قبل إصابتها بالنجاسة، فتصبح طاهرة مطهرة، والله أعلم.

دليل من قال: يتيمم بها

أصابتها نجاسة ثم جفت أصبحت طاهرة، غير مطهرة، وطهارتها كافية في الصلاة عليها، وأما التيمم فلا بد من طهورية الأرض، وبناء على هذا القول فهم يقسمون التراب إلى طهور وطاهر ونجس. وقد أجبنا على ضعف قول من ذهب إلى هذا التقسيم في المسألة السابقة. دليل من قال: يتيمم بها: ذهب إلى أن الطهارة تزال بأي مزيل، ولا يتعين ذهابها بالماء، فإذا ذهبت عين النجاسة فقد ذهب حكمها. دليل من قال: لا يتيمم بها: ذكرنا أدلتهم في مسألة سابقة، وسنذكرها في مسألة لاحقة، أما المسألة السابقة فقد ذكرنا أدلتهم في مسألة خلاف العلماء في وجوب تعيين الماء لإزالة النجاسة، فالجمهور يذهبون إلى أن النجاسة لا تذهب حتى تزال بالماء فإذا لم تغسل بالماء فما زال حكم النجاسة باقياً، ولو ذهبت عين النجاسة. وسنكمل أدلتهم في مسألة لاحقة ولله الحمد، وهي مسألة: هل الطهارة بالجفاف مطهر للنجاسات، أو لا؟ في كتاب أحكام النجاسات من هذه السلسلة، فانظره في الموضعين غير مأمور.

الفرع الرابع: في التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة

الفرع الرابع: في التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة واختلفوا في التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة. فقيل: يجوز التيمم به، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وأحد القولين في مذهب الشافعية (¬3)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). وقيل: لا يجوز التيمم به، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬6)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬7). دليل من قال: يجوز التيمم بالتراب المستعمل: الدليل الأول: لا يوجد دليل على تقسيم التراب إلى طهور وطاهر ونجس، بل التراب كالماء قسمان: إما طهور، وإما نجس. ¬

(¬1) جاء في تبيين الحقائق (1/ 38): " قال في الدراية: ويجوز التيمم بالتراب المستعمل عندنا ".وانظر شرح فتح القدير (1/ 136). (¬2) التاج والإكليل (1/ 518 - 519)، الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 42). (¬3) المجموع (2/ 251)، طرح التثريب (2/ 109). (¬4) المغني (1/ 160 - 161)، الإنصاف (1/ 286). (¬5) المحلى (1/ 186). (¬6) المجموع (2/ 251)، طرح التثريب (2/ 109). (¬7) المغني (1/ 160 - 161)، الإنصاف (1/ 286)، الفروع (1/ 223).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: كل الأدلة التي سيقت في الاستدلال على جواز الوضوء بالماء المستعمل في طهارة واجبة تصح دليلاً على صحة التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة، وقد سبق ذكرها في كتاب المياه. الدليل الثالث: قال - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " (¬1)، والاستدلال في الحديث من وجهين: الأول: أن الحديث قد نص على أن الأرض قد جعلها الله طهوراً، خرج من ذلك الأرض النجسة بالدليل الشرعي، بقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬2)، وبقي ما عداه على الطهورية. الوجه الثاني: أن كلمة " طهور " على وزن فعول، وهذا الصيغة تدل على التكرار، فدلت بالإشارة إلى جواز التيمم بالتراب المستعمل (¬3). الدليل الرابع: أن التيمم لا يمكن أن ينفك عن استعمال التراب المستعمل، خاصة إذا قلنا: إن التيمم ضربة واحدة كما هو الصحيح من أقوال أهل العلم، وسوف نعرض لها إن شاء لله تعالى في مبحث مستقل، فإذا مسح المتيمم وجهه، ثم عاد ومسح يديه بنفس الضربة، فقد مسحهما بالتراب المستعمل في مسح ¬

(¬1) صحيح البخاري (335)، ومسلم (521). (¬2) المائدة: 6. (¬3) طرح التثريب (2/ 109).

الدليل الخامس

الوجه، وهذا دليل على جواز استعمال التراب المستعمل في طهارة واجبة. الدليل الخامس: ذكر بعضهم: أن التيمم لا يرفع الحدث، فلا يصير التراب مستعملاً بخلاف الماء. والصحيح أن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً، ولا نحتاج إلى هذا الدليل في التفريق بين الماء المستعمل في طهارة واجبة، وبين التراب المستعمل في طهارة واجبة، بل الكل طهور. دليل من قال: لا يجوز التيمم بالتراب المستعمل: إذا كان الماء المستعمل في طهارة واجبة لا يرفع الحدث، فكذلك التراب المستعمل في طهارة واجبة. وقد بينا ضعف هذا القياس، وأن الصحيح أن الماء المستعمل في طهارة واجبة ماء طهور، وإذا كان الأصل ضعيفاً، فما بني على القول الضعيف فهو ضعيف. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة نجد أن القول الذي يقسم التراب أو الماء إلى طهور وطاهر قول ضعيف، وأن الصحيح أن التراب إما طهور، وإما نجس، ولا فرق بين الماء والتراب، وعلى التنزل بأن الماء المستعمل في طهارة واجبة ليس ماء مطلقاً، فهل التراب المستعمل أيضاً لا يقال له تراب مطلق، فالتيمم بالتراب لا يخرجه عن كونه تراباً، وهو باق على صفته التي خلقه الله عليها، فكيف يمنع من التيمم به، ونقول له: إذا لم يجد غيره صل بدون تيمم.

الفرع الخامس: في التيمم بالتراب المغصوب

الفرع الخامس: في التيمم بالتراب المغصوب اختلف العلماء في التيمم بالتراب المغصوب، فقيل: يصح التيمم به، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يصح، وهو مذهب الحنابلة (¬2). والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في الوضوء بالماء المغصوب، قال ابن مفلح: " وتراب مغصوب كالماء " (¬3).فالأدلة في المسألتين واحدة، وقد سبق بحث خلاف العلماء في الوضوء بالماء المغصوب، مع ذكر أدلة كل قول، وبينت أن الراجح صحة الوضوء، وأن التحريم والصحة منفكان، غير متلازمين، فقد يكون الشيء حراماً صحيحاً، وقد يكون الشيء حراماً فاسداً، باعتبارات تعود إلى المنهي عنه، فتارة يكون النهي عائداً إلى ذات الشيء المنهي عنه، وتارة يكون النهي لا يعود إليه، وإنما يعود لأمر خارج، فانظر أدلة كل فريق في كتاب أحكام الطهارة: (المياه والآنية). ¬

(¬1) المجموع (1/ 538)، نهاية المحتاج (1/ 263)، الموسوعة الفقهية الكويتية (14/ 262). (¬2) الفروع (1/ 223)، شرح منتهى الإرادات (1/ 97)، كشاف القناع (1/ 172)، الإنصاف (1/ 286). (¬3) الفروع (1/ 223).

الباب الرابع: فيما يتيمم عنه

الباب الرابع: فيما يتيمم عنه الفصل الأول: في التيمم عن الحدث أما التيمم عن الحدث الأصغر فإنه إجماع بين أهل العلم، قال النووي: " يجوز التيمم عن الحدث الأصغر بالكتاب والسنة والإجماع" (¬1). واختلفوا في التيمم عن الحدث الأكبر، فقيل: يتيمم عنه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬2). ¬

(¬1) المجموع (2/ 239). (¬2) انظر في مذهب الحنفية: أحكام القرآن للجصاص (4/ 11)، الفتاوى الهندية (1/ 31)، حاشية ابن عابدين (1/ 91)، البحر الرائق (1/ 147). وفي مذهب المالكية: انظر الذخيرة (1/ 344)، الاستذكار (1/ 303)، مواهب الجليل (1/ 330)، المنتقى للباجي (1/ 112)، التمهيد (19/ 271). وفي مذهب الشافعية: المهذب (1/ 32)، المجموع (2/ 239)، غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص: 61)، مغني المحتاج (1/ 87). وفي مذهب الحنابلة: المبدع (1/ 217)، المحرر (1/ 22)، شرح العمدة (1/ 379)، =

دليل من قال بمشروعية التيمم عن الجنابة

وقيل: لا يتيمم، وهو مذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما (¬1). دليل من قال بمشروعية التيمم عن الجنابة: استدلوا من كتاب الله بآية المائدة، سواء من قال: إن قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} (¬2)، المقصود به الجماع، أو من قال إن المقصود به الحدث الأصغر وهو مس بدن المرأة. لكن من قال: إن المقصود بقوله تعالى {أو لامستم النساء} الحدث الأصغر كان توجيه للاستدلال بالآية على النحو التالي، قال: إن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم .. إلى قوله سبحانه: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} ثم قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬3)، وهو عائد إلى المحدث والجنب جميعاً. وأما من قال: إن المراد بقوله تعالى {أو لا مستم النساء} هو الجماع، وهو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الموافق لبلاغة القرآن، فالآية نص في تيمم الجنب، وتوجيه الآية: أن الله سبحانه وتعالى ذكر طهارتين: الماء والتيمم، وذكر في وجوب طهارة الماء سببين: الحدث الأصغر والأكبر، فالأصغر في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيدكم إلى المرافق ..} والحدث الأكبر بقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا}. وفي طهارة التيمم كذلك: ذكر حدثين: الأصغر والأكبر، فالأصغر بقوله ¬

= شرح منتهى الإرادات (1/ 96)، مجموع الفتاوى (21/ 382)، كشاف القناع (1/ 161). (¬1) ستأتي الآثار عنهما مخرجة ضمن سياق أدلة القوم إن شاء الله تعالى. (¬2) صحيح البخاري (335). (¬3) صحيح البخاري (335).

تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} والأكبر بقوله تعالى: {أو لامستم النساء} أي جامعتم النساء، ولو حمل على اللمس باليد لكان معنى الآية هذا أن الآية كررت ذكر حدثين أصغرين، وأهملت الحدث الأكبر في طهارة التيمم، وهذا مناف للبلاغة المعهودة من كتاب الله سبحانه وتعالى، فكان مقتضى التقسيم في طهارة الماء من ذكر الحدث الأصغر والأكبر، أن يعاد التقسيم نفسه في طهارة التيمم، لا أن يكرر الحدث الأصغر، ويهمل الحدث الأكبر، وهذه القرينة كافية في حمل اللمس على الجماع في الآية الكريمة، وقد فسرها ابن عباس بالجماع، وهو ترجمان القرآن، (1439 - 71) فقد روى ابن أبي شيبة، من طريق عبد الملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبير، قال: اختلفت أنا وأناس من العرب في اللمس، فقلت: أنا وأناس من الموالي: اللمس ما دون الجماع، وقالت العرب: هو الجماع، فأتينا ابن عباس، فقال: غلبت العرب، هو الجماع. [وإسناده صحيح] (¬1). وقد احتج أبو موسى رضي الله عنه بآية المائدة على مشروعية التيمم عن الجنابة، وذلك حين ناظر ابن مسعود، وانقطع ابن مسعود عن الجواب عن الآية، واعتذر بذلك بأنه قال بالمنع سداً للذريعة: (1440 - 72) فقد روى البخاري من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهراً أما كان يتيمم ¬

(¬1) المصنف (1/ 153).

ويصلي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}؟ فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد، قلت: وإنما كرهتم هذا لذا، قال: نعم ... الحديث (¬1). وفي رواية للبخاري: " فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار، فكيف تصنع بهذه الآية، فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنا لو رخصنا لهم .... وذكر الكلام السابق (¬2). وجواب ابن مسعود لم يكن مطابقاً للسؤال؛ لأن السؤال عن رجل أجنب فلم يجد الماء شهراً، فهو عادم للماء، فقال: لا يصلي، واعتذر ابن مسعود بأنه لو رخص في هذا لتيمم الرجل الذي يجد الماء إذا برد عليه، وجواب ابن مسعود مشكل من الناحية الشرعية؛ لأن سد الذرائع يجب ألا يؤدي القول بها إلى إسقاط واجب أو ارتكاب محرم، وسوف أعلق عليه عند الكلام على مذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما. الدليل الثاني: (1441 - 73) ما رواه البخاري من طريق الحكم، عن ذر، عن سعيد ابن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر ¬

(¬1) صحيح البخاري (347). (¬2) البخاري (346).

أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت، فصليت، فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه، ورواه مسلم بنحوه (¬1). الدليل الثالث: (1442 - 74) ما رواه البخاري، قال: أخبرنا عبد الله، قال أخبرنا عوف، عن أبي رجاء، قال: حدثنا عمران بن حصين الخزاعي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا معتزلاً لم يصل في القوم، فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك (¬2). الدليل الرابع: (1443 - 75) ما رواه أبو داود من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر، قال: اجتمعت غنيمة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا أبا ذر ابد فيها، فبدوت إلى الربذة، فكانت تصيبني الجنابة، فأمكث الخمس والست، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو ذر: فسكت، فقال: ثكلتك أمك أبا ذر، لأمك الويل، فدعا لي بجارية سوداء، فجاءت بعس فيه ماء، فسترتني بثوب، واستترت بالراحلة، واغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلاً، فقال: ¬

(¬1) البخاري (338)، ومسلم (368). (¬2) البخاري (348).

دليل عمر وابن مسعود على أن الجنب لا يتيمم

الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك؛ فإن ذلك خير (¬1). [حديث حسن وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الخامس: من النظر، فإن التيمم إنما شرع من أجل استدارك مصلحة الوقت، لأن عادم الماء قد يستطيع أن يصلي خارج الوقت بالماء، فشرع لإدراك فضيلة الوقت، وهذا قدر مشترك بين الحدثين الأصغر والأكبر. دليل عمر وابن مسعود على أن الجنب لا يتيمم: الدليل الأول: عدم العلم بالدليل، وهو في حقهما كاف في الاستدلال؛ لأن الأصل في العبادات الحضر حتى يقوم دليل على المشروعية، إلا أن من لم يعلم بالدليل لا يكون قوله حجة على من علم، وقد حفظ غيرهما التيمم عن الجنابة من حديث عمران بن الحصين ومن حديث أبي ذر رضي الله عنه فضلاً عن حديث عمار المتفق على صحته. الدليل الثاني: قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬3). وجه الاستدلال: ¬

(¬1) سنن أبي داود (332) (¬2) انظر حديث رقم (39) من كتاب أحكام الطهارة. (¬3) النساء: 43.

أن الله سبحانه وتعالى نهى الجنب أن يقرب مصلى المسلمين إلا مجتازاً فيه حتى يغتسل، ولم يرخص له بالتيمم. قالوا: وتأويل قوله تعالى: {أولا مستم النساء} قالوا: اللمس قالوا: المقصود به: اللمس باليد دون الفرج ودون الجماع (¬1). وقد تكلمت في أدلة الجمهور على أن الراجح في معنى اللمس: هو الجماع خاصة، ولكن الله يكني بذكره كما قال تعالى: {فالآن باشروهن} (¬2)، وقال: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (¬3)، وهذا يراد به الجماع. وقد قال ابن عبد البر: " لم يتعلق بقول عمر وعبد الله أحد من فقهاء الأمصار من أهل الراي وحملة الآثار " (¬4). قلت: قد تبعهما على ذلك إبراهيم النخعي من فقهاء التابعين، فيما حكاه ابن المنذر (¬5). وقد حاول بعض أهل العلم أن ينسب إليهما الرجوع عن هذا القول، وعندي أن دعوى الرجوع تحتاج إلى إثباته عنهما بسند صحيح صريح، وكثير من الأقوال الضعيفة التي قال بها بعض الصحابة، كالقول بجواز المتعة، أو القول بجواز مسح القدم بلا خف، أو نفي القول بمشروعية المسح على الخفين ¬

(¬1) تفسير الطبري (5/ 113). (¬2) البقرة: 187. (¬3) البقرة: 237. (¬4) التمهيد (19/ 271). (¬5) الأوسط (2/ 15).

أو القول بجواز ربا الفضل ونحوها تجد من أهل العلم من يحاول أن يثبت أن الصحابي الذي قال بهذا القول بأنه قد رجع، ولا يكون له دليل على هذه الدعوى إلا أنه قد ينبل بالصحابي أن يقول بهذا القول الضعيف فيحمله هذا على دعوى الرجوع، وقد يكون له دليل غير صحيح، أو صحيح ولكنه غير صريح، فمن ذلك مسألتنا هذه، فقد رأى بعض أهل العلم أن عمر وابن مسعود قد رجعا عن قولهما. قال النووي: " التيمم عن الحدث الأكبر جائز، هذا مذهبنا، وبه قال العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلا عمر بن الخطاب وعبد الله ابن مسعود وإبراهيم النخعي التابعي، فإنهم منعوه، قال ابن الصباغ وغيره: قيل إن عمر وعبد الله رجعا " (¬1). فقد ساق الرجوع بصيغة التمريض، وحكاية قيل ليست جزماً برجوعهما. قال ابن عبد البر: " قال قائل: إن في بعض الأحاديث عن عمار، أن عمر لم يقنع بقول عمار، فالجواب: أن عمر كان يذهب إلى أن الجنب لا يجزيه إلا الغسل بالماء، فلما أخبره عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن التيمم يكفيه سكت عنه، ولم ينهه، فلما لم ينهه علمنا أنه قد وقع في قلبه تصديق عمار؛ لأن عماراً قال له: إن شئت لم أذكره، ولو وقع في قلبه تكذيب عمار لنهاه؛ لما كان الله قد جعل في قلبه تعظيم حرمات الله، ولا شيء أعظم من الصلاة، وغير متوهم على عمر أن يسكت على صلاة تصلى عنده بغير طهارة، وهو الخليفة المسؤول عن العامة، وكان أتقى الناس لربه، وأنصحهم لهم في دينهم في ذلك ¬

(¬1) المجموع (2/ 240).

الوقت رحمة الله عليه " (¬1). قلت: ليست القسمة أن يقع في قلب عمر تصديق عمار أو تكذيبه، بل هناك قسم ثالث، وهو أن يقع في قلبه خطأ عمار، وقد قال لعمار: نوليك ما توليت (¬2)، يعني: أنت تتحمل مسؤولية هذا البلاغ، وأنا برئ من هذا، فهو في أحسن أحواله لا يذكر شيئاً، ولذلك قال عمر لعمار: اتق الله يا عمار (¬3)، فهذا دليل على أنه لم يقنع بكلام عمار. وقال الباجي: " والذي يظهر لي من قولهما أنهما إنما منعا ذلك للذريعة، وذلك أن أبا وائل روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لو رخصنا لهم فيها لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتمم " (¬4). وهذا الكلام يمكن أن يصدق على ابن مسعود وحده، ولا يصدق هذا الكلام على عمر، وذلك لأن عمر قد وعظ عماراً حين ذكر له قصة التيمم، وقال له: اتق الله يا عمار، وأخبره بأنه لا يذكر شيئاً، وأما عن ابن مسعود فهو ثابت عنه، وفيه إشكال كبير، ولا بد من توجيهه، فالعمل في سد الذرائع سائغ بشرط ألا يؤدي ذلك إلى إسقاط واجب، أو ارتكاب محرم، فالجنب إذا منعناه من التيمم كان معنى ذلك إما أن يدع الصلاة إلى أن يجد الماء، أو يصلي بدون طهارة، وكلا الأمرين حرام، ثم لو صح كلام ابن مسعود في الجنب إذا تيمم مع وجود الماء ¬

(¬1) التمهيد (19/ 273). (¬2) مسلم (368). (¬3) مسلم (368). (¬4) المنتقى (1/ 112).

خوفاً من البرد، لم يصح كلامه في الجنب إذا تيمم لفقد الماء، وعمر وابن مسعود يمنعان الجنب من التيمم مطلقاً مع عدم الماء، ومع وجوده والخوف من استعماله، فلا بد من توجيه كلام ابن مسعود رضي الله عنه، خاصة أنه من كبار فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، فيقال: إن ابن مسعود ذكر سبباً واحداً من الأسباب التي حملته على القول بعدم تيمم الجنب، ولم يذكر كل الأسباب التي حملته على القول بالمنع، ولقد كان ابن مسعود رضي الله عنه شديد المتابعة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فحين رأى أن عمر لم يقنع بكلام عمار كما ذكر ابن مسعود ذلك في مناظرته لأبي موسى، ورأى أنه تعارض عنده كلام عمر وكلام عمار، وعمر أفقه من عمار رضي الله عنه، فاتبع ابن مسعود أفقه الرجلين، ولا بد من القول بذلك؛ لأن الاعتذار الذي ذكره ابن مسعود رضي الله عنه من كونه منع ذلك من باب سد الذرائع لا يجوز القول به، وهو يؤدي إلى ترك الواجبات، والوقوع في المحرمات، وإنما كان ذلك من جملة المرجحات، وليس المرجح الوحيد، والله أعلم. وأعتقد أن مذهب عمر وابن مسعود أصبح مهجوراً في هذا العصر، فليس له أتباع فيما أعلم، والعجب ليس من نسيان عمر رضي الله عنه ما حدث له مع عمار، فإن الإنسان مهما أوتي من حفظ فإنه معرض للنسيان، ولكن العجب كيف خفي على عمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنه الأحاديث الأخرى في تيمم الجنب، كحديث عمران بن الحصين، وقد كان وقع ذلك في الغزو بشهود عدد كثير من الصحابة، وكيف خفي عليهم حديث أبي ذر رضي الله عنه، فأبو موسى لم يحتج على ابن

مسعود إلا في حديث عمار، وآية المائدة مما يدل على أنه لا يعلم الأحاديث الأخرى، وفي ذلك تسلية لطالب علم الحديث، فإنه قد يحكم لإسناد ما بأنه ضعيف، وهناك طريق أخرى صحيحة لم يقف عليها، وهذا أمر لا يسلم منه أحد، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الفصل الثاني: في التيمم عن النجاسة

الفصل الثاني: في التيمم عن النجاسة تبين لنا فيما سبق أن التيمم عن الحدث الأصغر محل اتفاق بين العلماء، وأن التيمم عن الجنابة أيضاً هو مذهب الأئمة الأربعة، ولم يخالف في ذلك إلا عمر بن الخطاب وابن مسعود وإبراهيم النخعي، وسوف نبحث في هذه المسألة التيمم عن طهارة الخبث، فإن كانت النجاسة على ثيابه لم يتيمم لها قولاً واحداً (¬1)، وإن كانت النجاسة على بدنه، وليس عنده ما يزيلها، أو تضره إزالتها، فهل يتيمم لها؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، فقيل: لا يتيمم عن طهارة الخبث، وهو مذهب الجمهور (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). ¬

(¬1) الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 64). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 54)، الأم (1/ 42 - 43)، حلية العلماء (1/ 181)، حواشي الشرواني (1/ 325)، مغني المحتاج (1/ 87)، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (1/ 79). وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (4/ 57): " وأما إذا كان على بعض أعضاء المحدث نجاسة، فأراد التيمم بدلاً عنها، فمذهبنا، ومذهب جمهور العلماء أنه لا يجوز. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: يجوز أن يتيمم إذا كانت النجاسة على بدنه، ولم يجز إذا كانت على ثوبه". وقال ابن تيمية في الاختيارات (ص: 20): " ولا يتيمم للنجاسة على بدنه، وهو قول الثلاثة خلافاً لأشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله ". (¬3) الإنصاف (1/ 279)، كشاف القناع (1/ 170)، الكافي (1/ 64).

دليل من قال: لا يتيمم عن النجاسة

وقيل: بل يتيمم عنها، وبه قال الحسن البصري (¬1)، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: يمسح موضع النجاسة بالتراب، ويصلي، وبه قال الثوري والأوزاعي، وحكاه أبو ثور عن الشافعي (¬3). دليل من قال: لا يتيمم عن النجاسة: الدليل الأول: النص الشرعي ورد في التيمم عن الحدث، ولم يوجد دليل من الكتاب ولا من السنة على صحة التيمم عن النجاسة، والأصل في العبادات الحضر ¬

(¬1) المغني (1/ 169). (¬2) قال عبد الله بن أحمد في مسائله لأبيه (1/ 143): " قرأت على أبي، قلت:: رجل كان في سفر، أصاب جسده بول، وليس معه ماء، قال: هذا بمنزلة الجنب، يتيمم ". وقال ابن قدامة في المغني (1/ 169 - 170): " قال القاضي: يحتمل أن يكون معنى قول أحمد: إنه بمنزلة الجنب الذي يتيمم: أي أنه يصلي على حسب حاله كما يصلي الجنب الذي يتيمم، وهذا قول الأكثرين من الفقهاء؛ لأن الشرع إنما ورد بالتيمم للحدث، وغسل النجاسة ليس في معناه؛ لأنه إنما يؤتى به في محل النجاسة، فلا في غيره، ولأن مقصود الغسل: إزالة النجاسة، ولا يحصل ذلك بالتيمم ". اهـ وانظر: الإنصاف (1/ 279)، وقال: وهو من المفردات. المستوعب (1/ 289)، كشاف القناع (1/ 170)، شرح العمدة (1/ 379)، المغني (1/ 169)، شرح منتهى الإرادات (1/ 96) الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (1/ 84). (¬3) المجموع (2/ 242)، شرح النووي لصحيح مسلم (4/ 57)، قال ابن المنذر في الأوسط (2/ 75): " وحكى أبو ثور ذلك عن الشافعي - يعني: التيمم عن النجاسة - قال ابن المنذر: وقول الشافعي المعروف من قوله بمصر: أن التيمم لا يجزئ من نجاسة تكون على البدن، وعليه أن يعيد كل صلاة صلاها وعلى بدنه نجاسة. اهـ

الدليل الثاني

حتى يقوم دليل على المشروعية. الدليل الثاني: أن طهارة الحدث عبادة تعبدية، فإذا تعذر الماء تعفر بالتراب، وأما الطهارة من النجاسة فهي عبادة معقولة المعنى، وكان المطلوب من استعمال الماء في غسل النجاسة هو إزالتها فمتى زالت النجاسة عن البدن ولو بلا نية طهر المحل، وهذا لا يحصل بالتيمم، فالتيمم لا يزيل النجاسة ولا يخففها، فلهذا لم يشرع. الدليل الثالث: الطهارة من النجاسة إنما تكون في محل النجاسة حيث كانت دون غيره، فلو كان هناك مطهر من ماء ونحوه لم يغسل من البدن إلا ما أصابته النجاسة، وأما التيمم فمحل التطهير في الوجه والكفين، فكيف يكون التراب مطهراً للنجاسة في غير محل التطهير؟. دليل من قال: يصح التيمم عن النجاسة إذا كانت على البدن: أما اشتراط كون النجاسة على البدن، فلحديث أبي ذر: الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته " سبق تخريجه (¬1). فقوله: " فليمسه بشرته " دليل على تعلق التيمم بطهارة بالبدن دون طهارة الثوب والبقعة. ¬

(¬1) انظر كتاب أحكام الطهارة: المياه، رقم (39).

وقوله " طهور المسلم " مطلق، يشمل طهارته عن الحدث، وعن الخبث. ويجاب: بأن الحديث ورد جواباً على سؤال وقع من أبي ذر، وهو أنه تصيبه الجنابة الليالي لا يقدر علىالماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد الطيب طهور المسلم " أي طهوره من الجنابة، وليس من الخبث. الدليل الثاني: أن المكان النجس هو موضع من البدن يجب تطهيره بالماء مع القدرة عليه، فإذا عجز عن الماء وجب له التيمم بالتراب قياساً على طهارة الحدث. ويجاب: بأن قياس طهارة الخبث على طهارة الحدث قياس مع الفارق، وذلك أن طهارة الحدث تجب لها النية، وطهارة الخبث تصح بدون نية، فلو نزل المطر على ثوب نجس حتى ذهب بعين النجاسة طهر الثوب، ولو لم ينو صاحبه إزالة النجاسة. ومنها أن طهارة الحدث من قبيل فعل المأمور، وأما طهارة الخبث فهي من قبيل ترك المحضور، ولذلك لو صلى بدون طهارة الحدث وجب عليه إعادة الصلاة، بخلاف ما لو صلى ناسياً أن عليه نجاسة، فإن صلاته صحيحة، ولا تجب عليه الإعادة. ومنها أن طهارة الحدث تكون في أعضاء مخصوصة، بينما طهارة الخبث تتبع موضع النجاسة حيث كانت.

الراجح

ومنها أن طهارة الحدث تعبدية، فليست ناشئة عن نجاسة، ولا ينجس المؤمن بالحدث، بخلاف الخبث، فإنه عين مستقذرة شرعاً. فهذه بعض الفروق بين الطهارتين مما يجعل قياس طهارة الحدث على طهارة الخبث قياس مع الفارق، والله أعلم. الراجح: مذهب جماهير أهل العلم، وأن التيمم عن النجاسة غير مشروع، والله أعلم.

الباب الخامس: في فروض التيمم

الباب الخامس: في فروض التيمم الفرض الأول: مسح الوجه واليدين مع الاستيعاب. المبحث الأول: في ضرب اليدين في الأرض ليمسح بهما وجهه ويديه اختلف الفقهاء في كيفية الضرب والمسح، فقيل: يجب للتيمم ضربتان في الأرض، ضربة يمسح بهما وجهه، وضربة يمسح بهما يديه إلى المرفقين، هذا مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 45)، أحكام القرآن للجصاص (4/ 27)، البحر الرائق (1/ 145)، المبسوط (1/ 107)، حاشية ابن عابدين (1/ 230)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 78). (¬2) قال مالك في المدونة (1/ 42): "التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين يضرب الأرض بيديه جميعاً ضربة واحدة، فإن تعلق بهما شيء نفضهما نفضاَ خفيفاً، ثم مسح بهما وجهه، ثم يضرب ضربة أخرى بيديه، فيبدأ باليسرى على اليمنى، فيمرها من فوق الكف إلى المرفق .... ". اهـ وفي الموطأ (1/ 56): " وسئل مالك، كيف التيمم؟ فقال: يضرب ضربة للوجه، =

والشافعية (¬1). وقيل: التيمم ضربة واحدة، للوجه والكفين، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2)، وأشهر القولين عن الأوزاعي رحمه لله (¬3). وقيل: الضربة الأولى ومسح اليدين إلى الكوعين فرض، والضربة الثانية ومسح اليدين إلى المرفقين سنة، وهو المشهور عند المالكية (¬4)، ¬

= وضربة لليدين، ويمسحهما إلى المرفقين ". وقال في الإشراف (1/ 158): " اختلف أصحابنا في حد فرض اليدين في التيمم عند مالك، فمنهم من قال: إلى المرفقين، وهو قول ابن نافع ... ومنهم من قال: إلى الكوعين، وهو قول ابن حبيب ". اهـ وانظر المعونة (1/ 145). (¬1) الأم (1/ 49)، المجموع (2/ 243)، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (1/ 82)، المهذب (1/ 33)، حلية العلماء (1/ 181)، مغني المحتاج (1/ 60). (¬2) مسائل أحمد رواية ابنه عبد الله (1/ 127)، ومسائل أحمد رواية ابن هانئ (1/ 11)، ومسائل أحمد رواية أبي الفضل (2/ 121) و (3/ 24)، المغني (1/ 154)، الإنصاف (1/ 301) الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 62)، المبدع (1/ 229)، المحرر (1/ 21)، شرح العمدة (1/ 411)، شرح منتهى الإرادات (1/ 98)، تنقيح التحقيق (1/ 563)، مجموع الفتاوى (21/ 22) وقد نص بعض الحنابلة بأن التيمم يجزئ بضربة واحدة، وإن تيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر جاز. (¬3) الاستذكار (3/ 163). (¬4) التمهيد (19/ 282)، التاج والإكليل (1/ 356)، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (1/ 76 - 77)، الشرح الكبير (1/ 158)، الفواكه الدواني (1/ 157)، القوانين الفقهية (ص: 30)، حاشية الدسوقي (1/ 158)، الخرشي (1/ 194)، شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/ 165 - 166)، مواهب الجليل (1/ 356). وذكر صاحب الذخيرة (1/ 352) بأنه إذا اقتصر على ضربة واحدة، ففيها ثلاثة أقوال: =

واختاره القاضي من الحنابلة (¬1). وقيل: مسح اليدين إلى الآباط، وهو مذهب الزهري رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: اليتمم ضربتان، يمسح بكل ضربة وجهه وذراعيه ومرفقيه، وهذا قول ابن أبي ليلى، والحسن بن حي. قال ابن عبد البر: وما أعلم قال ذلك غيرهما (¬3). وقيل: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى الكوعين، وهذا أحد القولين عن الأوزاعي (¬4)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). وتقدم القول الأول عنه، أنه ضربة واحدة، للوجه واليدين إلى الكوعين. هذا تقريباً كل ما قيل من أقوال في المسألة (¬6)، والأقوال الشاذة لن نعنى بها، وبذكر أدلتها، وإنما الذي يهمنا في هذا الباب ذكر أدلة أشهر الأقوال، والله أعلم. ¬

= الأول: قال مالك في العتبية: يجزيه ضربة واحدة إذا اقتصر عليها، قال ابن القاسم: لا يعيد لا في وقت، ولا غيره. والثاني: يعيد في الوقت، ولا يعيد في غيره، وهو قول ابن حبيب. والثالث: يعيد مطلقاً، في الوقت وغيره، وهو قول ابن نافع. (¬1) شرح منتهى الإرادات (1/ 101). (¬2) الذخيرة (1/ 354)، الاستذكار (3/ 165)، أحكام القرآن للجصاص (4/ 27). (¬3) الاستذكار (3/ 165). (¬4) الاستذكار (3/ 165). (¬5) الإنصاف (1/ 301)، (¬6) ثم وقفت على قول لابن سيرين أيضاً يرى أن التيمم ثلاث ضربات، ذكره السرخسي عنه في المبسوط (1/ 107).

دليل من قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين

دليل من قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين: الدليل الأول: (1444 - 76) ما رواه أبو داود من طريق محمد بن ثابت العبدي، أخبرنا نافع، قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر (¬1). [المعروف أنه موقوف على ابن عمر، وقد أنكر رفعه أحمد بن حنبل والبخاري وأبو داود وأبو زرعة والبيهقي وغيرهم] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (330). (¬2) انفرد برفعه محمد بن ثابت العبدي، وقد جاء في ترجمته: قال يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال مرة: ضعيف. قال الدوري: قلت ليحيى بن معين: أليس قلت مرة: ليس به بأس؟ قال: ما قلت هذا قط. تاريخ ابن معين (2/ 507). قلت: قد نقل الدارمي عنه: ليس به بأس (809). قال البخاري: يخالف في بعض حديثه. التأريخ الكبير (1/ 50 - 51). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين (544). وقال أيضاً: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (9/ 85). وقال أبو حاتم الرازي: ليس هو بالمتين، يكتب حديثه. الجرح والتعديل (7/ 216). وقال ابن عدي: عامة أحاديثه لا يتابع عليه. مختصر الكامل لابن الملقن (1637). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أبو داود: ليس بشيء. تهذيب التهذيب (9/ 85). وفي التقريب: صدوق، لين الحديث. [تخريج الحديث]. الحديث رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 85)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 49)، والطبراني في المعجم الأوسط (7784) والدارقطني (1/ 177) والبيهقي (1/ 215)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 38)، والخطيب في تاريخ بغداد (13/ 135) من طريق محمد بن ثابت العبدي به. ورواه عبيد الله بن عمر، عن نافع، واختلف على عبيد الله: فرواه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 367) رقم 13366، وابن عدي في الكامل (5/ 188)، والدارقطني في سننه (1/ 180) والحاكم (1/ 1/179) من طريق علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين. قال الحاكم: ولا أعلم أحداً أسنده عن عبيد الله غير علي بن ظبيان، وهو صدوق، فتعقبه الذهبي في التلخيص، فقال: بل واه. قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة. اهـ وقال البخاري: علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر منكر الحديث. الضعفاء للعقيلي (3/ 234). وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (433)، والكامل (5/ 187). وقال أبو زرعة: واهي الحديث جداً. الضعفاء لأبي زرعة (2/ 429)، تنقيح التحقيق (1/ 568). وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث الجرح والتعديل (6/ 191). وقال يعقوب بن سفيان: لا يكتب حديثه. تهذيب الكمال (20/ 499). وتابع محمد بن سنان القزاز، علي بن ظبيان في رفعه، فرواه القزاز، عن عمرو بن محمد ابن أبي رزين، عن هشام بن حسان، عن عبيد الله بن عمر به، إلا أنه لم يذكر إلا مطلق التيمم، ولم يذكر الضربتين، ولا إلى المرفقين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 186)، والحاكم في المستدرك (1/ 180)، والبيهقي في السنن (1/ 224). ومحمد بن سنان القزاز ضعيف، قال الدارقطني: " يرويه عبيد الله بن عمر، واختلف عنه، فرواه محمد بن سنان بن يزيد القزاز، عن عمرو بن محمد بن أبي رزين، عن هشام بن حسان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وغيره يرويه عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً، وكذلك رواه أيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي، عن نافع، عن ابن عمر، من فعله موقوفاً. تاريخ بغداد (5/ 344). وسبق الكلام على هذا الطريق منفرداً في مبحث: تقدير المسافة التي تبيح التيمم، ويسقط فيها طلب الماء، فانظره مشكوراً. وقد خالف عليَّ بن ظبيان ومحمدَ بن سنان القزاز كلٌ من: 1 - سفيان الثوري كما في الأوسط لابن المنذر (2/ 48). 2 - وعلي بن معبد كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 114). 3 - يحيى بن سعيد القطان، 4 - وهشيم بن بشير كما في سنن الدارقطني (1/ 180)، وسنن البيهقي (1/ 207): أربعتهم (سفيان وعلي بن معبد ويحيى بن سعيد القطان وهشيم) رووه عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه، مخالفين في ذلك علي بن ظبيان ومحمد بن سنان. ورواه عن نافع مرفوعاً أيضاً سليمان بن أبي داود الحراني، أخرجه الدارقطني (1/ 181)، والحاكم (1/ 180) من طريقه، عن سالم ونافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين". كما أخرجه الدارقطني (1/ 181) وعلقه البيهقي في السنن (1/ 207) من طريق سليمان ابن أرقم، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربنا أيدينا على الصعيد، ثم نفضنا أيدينا، فمسحنا بها وجوهنا، ثم ضربنا ضربة أخرى الصعيد الطيب، ثم نفضنا أيدينا، فمسحنا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بأيدينا من المرافق إلى الأكف على منابت الشعر من ظاهر وباطن. وسليمان بن أبي داود الحراني ضعيف، وسليمان بن أرقم متروك. هؤلاء من رووا الحديث عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً، (محمد بن ثابت العبدي، وسليمان بن أبي داود الحراني، وعبيد الله بن عمر في رواية علي بن ظبيان عنه)، وثلاثتهم متكلم فيه: أعني العبدي والحراني وعلي بن ظبيان. وخالفهم الثقات من أصحاب نافع، فرووه عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه، الأول: أيوب كما في مصنف عبد الرزاق (818) وابن أبي شيبة في المصنف (1/ 146) رقم 1673، والطبري في تفسيره (5/ 111) وابن المنذر في الأوسط (2/ 34) إلا أن ابن المنذر ذكر مطلق التيمم، ولم يذكر صفته. الثاني: إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه كما في الموطأ (1/ 58) ومن طريقه عبد الرزاق (883)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 114)، والدارقطني في سننه (1/ 181)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 207). ولم يذكر مالك الضربتين، وذكر المسح إلى المرفقين. الثالث: يونس بن عبيد، كما في سنن الدارقطني (1/ 180)، والبيهقي (1/ 207). الرابع: عبد الله بن عمر كما في مصنف عبد الرزاق (819). الخامس: عبد الكربم الجزري كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 114). السادس: محمد بن عجلان، كما في مصنف عبد الرزاق (884)، والأوسط لابن المنذر (2/ 61)، والدارقطني (1/ 186)، وذكر مطلق التيمم، ولم يذكر صفته. السابع: يحيى بن سعيد الأنصاري، كما في مصنف عبد الرزاق (884)، والأوسط لابن المنذر (2/ 64)، والحاكم (1/ 181). كلهم رووه عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه، فتبين بهذا أن حديث ابن عمر رفعه منكر، وأن المعروف أنه موقوف عليه، وأنه لم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا رجل ضعيف، ولو رفعه ثقة مع هذه المخالفة من أصحاب نافع لكان رفعه شاذاً، فكيف وقد انفرد برفعه رجال مجروحون، وأخفهم جرجاً من يقال في حقه ضعيف، ومنهم المتروك. وتابع سالم نافعاً في روايته عن ابن عمر موقوفاً، فأخرجه عبد الرزاق (817) ومن =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1445 - 77) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن مخلد وإسماعيل ابن علي وعبد الباقي بن قانع، نا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا عثمان بن محمد الأنماطي، ثنا حرمي بن عمارة، عن عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين (¬1). [صوب الدارقطني وقفه] (¬2). ¬

= طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/ 48) من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه بنحوه. قال أبو زرعة: سألت أبا زرعة عن حديث رواه محمد بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم ضربتين، قال: خطأ، إنما هو موقوف. وقال البخاري في التاريخ الكبير (1/ 50) روى محمد عن نافع، عن ابن عمر مرفوع في التيمم، وخالفه أيوب وعبيد الله والناس، فقالوا: عن نافع، عن ابن عمر فعله. وقال أبو داود في سننه بعد روايته أن ساق الحديث (330): سمعت أحمد بن حنبل يقول: روى محمد بن ثابت حديثاً منكراً في التيمم. وقال ابن داسه: قال أبو داود: لم يتابع محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورووه فعل ابن عمر. اهـ قال ابن عبد البر في التمهيد (19/ 287): " وهذا لم يروه عن نافع أحد غير محمد بن ثابت هذا، به يعرف، ومن أجله يضعف، وهو عندهم حديث منكر، لا يعرفه أصحاب نافع". وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 506): " في إسناده محمد بن ثابت العبدي، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات، فوقفوه على ابن عمر ". وارجع إن شئت لمراجعة بعض طرق الحديث إتحاف المهرة بالأرقام التالية (11130، 11291، 10900، 11322، 11461). (¬1) سنن الدارقطني (1/ 181). (¬2) ورواه الحاكم (1/ 180) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 207) حدثنا علي بن حمشاذ العدل وأبو بكر بن بالويه، قالا: ثنا إبراهيم بن إسحاق به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الدارقطني بعد أن ساق الحديث المتقدم: رجاله كلهم ثقات، والصواب موقوف، ثم ساق الموقوف مسنداً، قال: حدثنا محمد بن مخلد، وإسماعيل بن علي، وعبد الباقي بن قانع، قالوا: إنا إبراهيم الحربي، نا أبو نعيم، نا عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: جاء رجل، فقال: أصابتني جنابة، وإني تمعكت في التراب، قال: اضرب، فضرب بيده، فمسح وجهه، ثم ضرب بيده الأخرى، فمسح بهما يديه إلى المرفقين. وأخرجه الحاكم (1/ 180) ومن طريقه البيهقي (1/ 207) ثنا علي بن حمشاذ العدل، وأبو بكر بن بالويه، قالا: أنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا أبو نعيم، ثنا عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر به، بلفظ الدارقطني. قال البيهقي: وإسناده صحيح إلا أنه لم يبين الآمر له بذلك. قلت: وبين الطريقين اختلاف في الإسناد، واختلاف في المتن، أما الإسناد: فالأول: يرويه إبراهيم الحربي عن عثمان بن محمد الأنماطي، عن حرمي بن عمارة، عن عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر. وأما الإسناد الثاني: فيرويه إبراهيم الحربي عن أبي نعيم، عن عزرة، عن أبي الزبير، عن جابر. وأما المتن فالطريق الأول صريح بأنه مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما المتن في الطريق الثاني فإنه لم يذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل كان الآمر هو النبي أو جابر، لا يمكن القطع، ولذلك قال الدارقطني: والصواب موقوف، ثم ساق الطريق الثاني، فهذا يفهم منه أن الدارقطني قد جزم بأن المتن الثاني موقوف، وليس مرفوعاً. وشيوخ الداقطني في كلا الطريقين محمد بن مخالد وإسماعيل بن علي وعبد الباقي بن قانع. وشيوخ الحاكم في كلا الطريقين هما علي بن حمشاذ العدل وأبو بكر بن بالويه، فهل هذا الاختلاف جاء من إبراهيم الحربي، لكونه تارة يحدث به عن أبي نعيم، عن عزرة، عن أبي الزبير، عن جابر. وتارة يحدث به عن عثمان بن محمد، عن حرمي بن عمارة، عن عزرة به. هذا محتمل، والله أعلم، إلا أن هذا الاختلاف يؤثر في صحة الأثر، فإذا احتجنا إلى الترجيح بينهما لا بد من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = طريق آخر غير هذين الطريقين؛ لأن هذين الإسنادين المرفوع منهما والموقوف طريقهما واحد من ابتداء الإسناد إلى منتهاه، فترجيح أحدهما على الآخر بدون قرينة تحكم، لذلك طلبنا مرجحاً آخر، فوجدنا الطحاوي قد روى هذا الأثر في شرح معاني الآثار (1/ 114) عن فهد، ثنا أبو نعيم، ثنا عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، صريحاً بالوقف. وذكره الحافظ في إتحاف المهرة (3535) وصرح الحافظ بأن طريق الطحاوي موقوف. كما رواه ابن أبي شيبة روى في مصنفه (1/ 147) رقم 1688، عن وكيع، عن ابن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر أنه ضرب بيديه الأرض ضربة، فمسح بها وجهه، ثم ضرب بهما الأرض ضربة أخرى، فمسح بهما ذراعيه إلى المرفقين. فهذا طريق آخر غير الطريقين الأولين يروي الحديث من طريق أبي الزبير عن جابر موقوفاً. كما رواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 49) قال: حدثونا عن الحسن بن عيسى، عن ابن المبارك، عن عزرة بن ثابت ... وذكره بنحوه موقوفاً. فترجحت رواية الوقف على الرفع. وحاول ابن الجوزي أن يعل الطريق المرفوع بسبب آخر غير الوقف، فقال في التحقيق: (1/ 567) " وأما حديث جابر فقد تُكِّلم في عثمان بن محمد ". فتعقبه ابن عبد الهادي، في التنقيح، فقال (1/ 571): " لم يذكر المؤلف من تكلم في عثمان بن محمد، وقد روى عنه أبو داود وأبو بكر بن أبي عاصم وغيرهما، وذكره ابن أبي حاتم في كتابه، ولم يذكر جرحاً، وقد روى الحديث البيهقي والدارقطني وقال: رواته كلهم ثقات، والصواب موقوف. ورواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح ". كما انتقد ابن دقيق العيد ابن الجوزي في تضعيفه بعثمان بن محمد، فقال كما في تلخيص الحبير (1/ 152): " لم يتكلم فيه أحد، نعم روايته شاذة؛ لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوف ". وهذه موافقة من ابن دقيق العيد للدارقطني بأن الطريق الثاني موقوف، وليس مرفوعاً، كما أن فيه موافقة أخرى، وهي إعلال المرفوع بالموقوف. وقد بحثت عن كلام ابن دقيق العيد في كتابه الإمام، وقد ذكر هذا الحديث، ونقل كلام ابن الجوزي (1/ 153) إلا أنه لم يتعقبه بشيء، فلعل الحافظ نقله عن ابن دقيق العيد من كتاب آخر له، والله أعلم.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1446 - 78) ما رواه الطحاوي من طريق أبي يوسف، عن الربيع بن بدر، حدثنا أبي، عن جدي، عن أسلع التميمي، قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال لي: يا أسلع قم، فارجل لنا. قلت: يا رسول الله أصابتني بعدك جنابة، فسكت حتى أتاه جبريل بآية التيمم، فقال لي: يا أسلع، قم فتيمم صعيداً طيباً: ضربتين، ضربة لوجهك، وضربة لذراعيك، ظاهرهما وباطنهما، فلما انتهينا إلى الماء، قال: يا أسلع قم، فاغتسل (¬1). [حديث منكر، وقصة نزول آية التيمم مشهورة في الصحيحين، حين كان الصحابة في سفر، وقد ضاع عقد لعائشة، فقاموا، وليس معهم ماء، وليسوا على ماء، فنزلت آية التيمم، ولم تنزل الآية لهذه الحادثة] (¬2). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 113). وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير (1/ 298) رقم 875 من طريق روح بن الفرج المصري وعمرو بن خالد الحراني، قالا: ثنا الربيع بن بدر به. كما رواه أيضاً (876) من طريق يحيى الحماني، ثنا الربيع بن بدر به. ورواه الدارقطني (1/ 179) من طريق سعيد بن سليمان ويحيى بن إسحاق، قالا: نا الربيع بن بدر به. ومن طريق الدارقطني أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 181). وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 208) من طريق آدم بن إياس، ثنا الربيع به. (¬2) في إسناده الربيع بن بدر، قال فيه أحمد بن حنبل: لا يساوي حديثه شيئاً. بحر الدم (289). وقال أبو حاتم الرازي: لا يشتغل به. الجرح والتعديل (3/ 455). =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1447 - 79) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن إسحاق، عن أبي صالح، حدثني الليث، حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عمير مولى بن عباس، أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهم: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلم عليه، فلم يرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه وذراعيه، ثم رد عليه السلام " (¬1). [ذكر الذراعين في الحديث ليس بمحفوظ، وقد اختلف على أبي صالح في ذكر هذه الزيادة، والحديث في صحيح البخاري، وليس فيه مسح الذراعين] (¬2). ¬

= وقال فيه النسائي: متروك الحديث، الضعفاء والمتروكين (200). وكذا قال الدارقطني في السنن (1/ 99). كما أن جده عمرو بن جراد، قال عنه الحافظ في التقريب مجهول، وقد ذكرنا في بدء مشروعية التيمم، قصة نزول آية التيمم في الصحيحين، وهي مخالفة لما تفرد به الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن أسلع. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 262): " رواه الطبراني في الكبير، وفيه الربيع بن بدر مجمع على ضعفه ". وقال الحافظ في التلخيص (1/ 153): " رواه الدارقطني والطبراني وفيه الربيع بن بدر، وهو ضعيف ". (¬1) سنن الدارقطني (1/ 177)، ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 205). (¬2) اختلف فيه على أبي صالح، فرواه محمد بن إسحاق الصغاني، وهو ثقة ثبت، عن أبي صالح به بذكر الذراعين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه ابن الجارود في المنتقى (127) حدثنا محمد بن يحيى، ثنا أبو صالح به، وليس فيه مسح الذراعين، وهو المحفوظ؛ لأنه موافق للفظ البخاري ومسلم. فقد رواه البخاري من طريق يحيى بن بكير، ثنا الليث به، وفيه: " فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه " ولم يقل: ذراعيه. وذكره مسلماً تعليقاً في صحيحه (369) قال مسلم: وروى الليث بن سعد، عن جعفر ابن ربيعة، فذكر إسناد البخاري ولفظه. ورواه أبو داود (329) وابن خزيمة (274) من طريق شعيب بن الليث، عن أبيه به، بلفظ البخاري. قال ابن الجوزي في التحقيق مع التنقيح (1/ 567): " وقد روي من حديث كاتب الليث، وهو مطعون فيه ". قلت: والذي يجعلنا نجعل الوهم من أبي صالح؛ لأن من روى عنه محمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن إسحاق كلاهما أوثق من أبي صالح، فكان الحمل عليه. ورواه الدارقطني (1/ 177) من طريق أبي معاذ، نا أبو عصمة، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي جهيم، قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بئر جمل، إما من غائط أو من بول، فسلمت عليه، فلم يرد علي السلام، فضرب الحائط بيده ضربة، فمسح بها وجهه، ثم ضرب أخرى، فمسح بها ذراعيه إلى المرفقين، ثم رد السلام. قال الدارقطني: قال أبو معاذ: وحدثني خارجة، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي جهيم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. قال ابن الجوزي في التحقيق (1/ 567) وأما حديث أبي جهم فإن أبا عصمة وخارجه متكلم فيهما. قال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 569): أبو عصمة في حديث أبي جهيم: هو نوح ابن أبي مريم متروك، وخارجه هو ابن مصعب، وقد ضعفوه، وقال محمد بن سعد: تركوه، والأعرج لم يسمع الحديث من أبي جهيم، بل بينهم عمير مولى ابن عباس كما تقدم " ورواه الشافعي في الأم (1/ 51) إبراهيم بن محمد، عن أبي الحويرث، عن الأعرج، عن =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1448 - 80) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسمعيل، حدثنا أبان، قال: سئل قتادة عن التيمم في السفر؟ فقال: حدثني محدث عن الشعبي، عن عبد الرحمن ابن أبزى، عن عمار بن ياسر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إلى المرفقين (¬1). [إسناده ضعيف، وهو مخالف لما رواه أبان عن قتادة، ومخالف لما كان يفتي به قتادة، ومخالف لما رواه الناس عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمار] (¬2). ¬

= ابن الصمة، قال: مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى قام إلى جدار، فحته بعصا كانت معه، ثم مسح يديه على الجدار، فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد علي. ورواه البيهقي (1/ 205) من طريق الشافعي به. قال البيهقي: هذا منقطع: عبد الرحمن الأعرج لم يسمعه من ابن الصمة، إنما سمعه من عمير مولى ابن عباس، عن ابن الصمة، وإبراهيم ابن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وأبو الحويرث: عبد الرحمن بن معاوية ... الخ كلامه ونقل ابن دقيق العيد في كتاب الإمام (2/ 155) كلام البيهقي، وقال: " قال الأثرم: وأما حديث أبي جهم، فإنما هو حديث إيراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك ". فالمحفوظ من حديث أبي جهم أنه ليس فيه ذكر للذراعين، وإنما المعروف من حديثه أنه مسح وجهه ويديه، والله أعلم. (¬1) سنن أبي داود (328)، وأخرجه الداقطني (1/ 182) من طريق إبراهيم بن هانئ، ثنا موسى ابن إسماعيل به، وزاد: قال أبو إسحاق يعني: ابن هانئ: فذكرته لأحمد بن حنبل، فعجب منه، وقال: ما أحسنه. وانظر إتحاف المهرة (11/ 725 - 726). (¬2) وهذا ضعيف؛ لأن الرواي عن الشعبي مبهم، قال ابن دقيق العيد في الإمام (3/ 142): " وهذا كالمنقطع لجهالة المحدث عن الشعبي، وقد تقدم في الصحيح رواية عبد الرحمن ابن أبزى، عن عمار إلى الكفين ". قلت: وفيه ثلاث مخالفات ذكرتها في حكمي المختصر على الحديث في المتن، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الأولى: أن هذا الحديث مخالف لما رواه أبان وغيره عن قتادة مسنداً. فقد روى أحمد في المسند (4/ 263) حدثنا عفان ويونس، قالا: حدثنا أبان، حدثنا قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. قال يونس: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التيمم؟ فقال: ضربة للكفين والوجه. وقال عفان: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في التيمم: ضربة للوجه والكفين. وإسناده صحيح، وقد أخرجه الدارمي (745)، والبزار في مسنده (1389)، وابن الجارود في المنتقى (126)، والطبراني في الأوسط (542) وابن المنذر في الأوسط (545)، والدارقطني في سننه (1/ 182 - 183) من طريق عفان به. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبان إلا عفان. قلت: قد رواه أحمد كما تقدم، عن يونس، عن أبان. كما رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بالاقتصار على الوجه والكفين، رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 147) رقم 1686، وابن خزيمة في صحيحه (267) من طريق ابن علية. ورواه وأبو داود في السنن (327)، والترمذي (144)، والبزار في مسنده (1387)، والنسائي في الكبرى (306)، وأبو يعلى في المسند (1608، 1638)، وابن حبان في صحيحه (1303،1308)، والدارقطني (1/ 182) من طريق يزيد بن زريع. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 112)، والبيهقي في السنن (1/ 210) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، ثلاثتهم (ابن علية ويزيد بن زريع وعبد الوهاب بن عطاء) عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار به بالاقتصار على الوجه والكفين. وإسناده صحيح، وابن زريع سمع من سعيد قبل تغيره. المخالفة الثانية: أن طريق أبي داود هذا مخالف لما ثبت عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمار. فقد روى البخاري (338) و (339) ومسلم (368) من طريق سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه، عن عمار، فذكر التيمم للوجه والكفين، ولم يذكر الذراعين. المخالفة الثالثة: أنه مخالف لما كان يفتي به قتادة، فقد ثبت عنه بسند صحيح أنه كان يفتي بأن التيمم ضربة للوجه والكفين، انظر صحيح ابن حبان (1303، 1308)، سنن البيهقي (1/ 210).

الدليل السادس

الدليل السادس: القياس على الوضوء، وذلك أن الفرض في الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين، فكذلك التيمم يجب أن يكون المسح فيه إلى المرفقين، ولما كان غسل الوجه بالماء غير غسل اليدين، فكذلك يجب أن تكون الضربة في التيمم للوجه غير الضربة لليدين (¬1). ويجاب: بأن هذا نظر في مقابل النص، فيكون فاسداً، وهل هذا النظر إلا مثل نظر عمار بن ياسر رضي الله عنه حين تمرغ في التراب قياساً على طهارة الماء، فطهارة المسح لا ينبغي أن تقاس على طهارة الغسل، فطهارة المسح المشروع فيها التخفيف. دليل من قال: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين: الدليل الأول: قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬2). فذكر " اليد " وأطلق فلم يقيدها بشيء كما فعل في الوضوء، في قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} (¬3)، واليد عند الإطلاق إنما يراد بها الكف، بدليل قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬4)، وقد أجمعوا ¬

(¬1) الاستذكار (3/ 165). (¬2) المائدة: 6. (¬3) المائدة: 6. (¬4) المائدة: 38.

الدليل الثاني

على أن القطع إلى الكوعين، نقل الإجماع ابن عبد البر (¬1)، فالمسح ينبغي أن يكون إلى الكوعين. قال ابن عبد البر: وحجة من رأى التيمم إلى الكوعين جائز، ولم ير بلوغ المرفقين واجباً: ظاهر قوله عز وجل: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (¬2)، ولم يقل: إلى المرفقين {وما كان ربك نسياً} (¬3)، فلم يجب بهذا الخطاب إلا أقل ما يقع عليه اسم يد؛ لأنه اليقين، وما عدا ذلك شك، والفرائض لا تجب إلا بيقين، وقد قال الله عز وجل: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬4)، وثبتت السنة المجتمع عليها أن الأيدي في ذلك أريد بها من الكوع، فكذلك التيمم، إذ لم يذكر فيه المرفقين، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر الآثار في التيمم أنه مسح وجهه وكفيه، وكفى بهذا حجة؛ لأنه لو كان ما زاد على ذلك واجباً لم يدعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). الدليل الثاني: (1449 - 81) ما رواه البخاري من طريق الحكم، عن ذر، عن سعيد ابن عبد الرحمن ابن أبزى، ¬

(¬1) الاستذكار (3/ 164). (¬2) المائدة: 6. (¬3) مريم: 64. (¬4) المائدة: 38. (¬5) التمهيد (19/ 282 - 283).

عن أبيه قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت، فصليت، فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه، ورواه مسلم معلقاً بنحوه (¬1). وهذا صريح أن المسح ضربة واحدة، وأنه في اليدين إلى الكفين، وقد أخرجه البخاري في صحيحه، فيجب المصير إليه، وظاهر آية المائدة تؤيده كما سقت ذلك في الدليل الأول. قال الحافظ ابن حجر: الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار، وما عداهما فضعيف، أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه، فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملاً (¬2)، وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين، وبذكر المرفقين في السنن، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط، فأما رواية المرفقين وكذا نصف الذراع ففيها مقال ... " (¬3). قلت: وكذلك رواية الآباط لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، وقد سبق ¬

(¬1) البخاري (338)، ومسلم (368). (¬2) حديث أبي جهم في البخاري (337)، هذا لفظه: " أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (369). (¬3) فتح الباري تحت حديث (339).

دليل من قال: التيمم إلى الآباط

تخريجها والتيمم إلى الآباط، قول لا يعرف إلا لابن شهاب رحمه الله تعالى (¬1). فلم يبق من روايات حديث عمار إلا ما ورد في الصحيحين، وأن التيمم للكفين فقط، والله أعلم. دليل من قال: التيمم إلى الآباط: (1450 - 82) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عمار بن ياسر أبي اليقظان، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضاء الفجر، فتغيظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليهم الرخصة في المسح بالصعدات، فدخل عليها أبو بكر، فقال: إنك لمباركة، لقد نزل علينا فيك رخصة، فضربنا بأيدينا لوجوهنا، وضربنا بأيدينا ضربة إلى المناكب والآباط (¬2). [الحديث فيه اضطراب كثير، وسبق تخريجه] (¬3). وقد حاول بعض العلماء الإجابة عنه، على احتمال ثبوته بأجوبة منها: الأول: أن يكون ذلك في أول الأمر، ثم نسخ. ذكر الشافعي رحمه الله تعالى وأبو بكر الأثرم وغيرهما من العلماء: أن التيمم إلى الآباط إن كان وقع ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكل تيمم صح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده، فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به. اهـ ¬

(¬1) قال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 165): " وقال ابن شهاب: يبلغ بالتيمم الآباط، ولم يقل ذلك غيره فيما علمت". اهـ (¬2) المسند (4/ 320). (¬3) في فصل: هل التيمم رخصة أو عزيمة، فانظره هناك مشكوراً.

ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار كان يفتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد " (¬1). الثاني: أن يكون ذلك وقع من الصحابة على وجه الاجتهاد قبل معرفتهم للصفة المشروعة من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبد البر: " يحتمل أن يكون من تيمم عند نزول الآية إلى المناكب أخذ بظاهر الكلام، وما تقتضيه اللغة من عموم لفظ الأيدي، ثم أحكمت الأمور بعدُ بفعل النبي عليه السلام، وأمره بالتيمم إلى المرفقين" (¬2). وقال ابن الجوزي: وحديث عمار: " تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب والآباط " ليس هو بمخالف لحديث الوجه والكفين؛ لأن عماراً لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالوجه والكفين، والدليل على ذلك ما أفتى به عمار بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم، أنه قال: الوجه والكفين. ففي هذا دلالة أنه انتهى إلى ما عَلَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬3). وقال ابن رجب: " وعلى تقدير صحته، ففي الجواب عنه وجهان: أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم أصحابه التيمم على هذه الصفة، وإنما فعلوه عند نزول الآية لظنهم أن اليد عند الإطلاق تشمل الكفين والذارعين والمنكبين والعضدين، ففعلوا ذلك احتياطاً كما تمعك عمار بالأرض للجنابة، وظن أن تيمم الجنب يعم البدن كله كالغسل، ثم بين ¬

(¬1) الفتح تحت حديث رقم (339)، شرح ابن رجب للبخاري (2/ 253). (¬2) الاستذكار (3/ 166). (¬3) تنقيح التحقيق (1/ 565).

النبي - صلى الله عليه وسلم - التيمم بفعله وقوله " التيمم للوجه والكفين " فرجع الصحابة كلهم إلى بيانه - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم عمار راوي الحديث، فإنه أفتى أن التيمم ضربة للوجه والكفين " (¬1). وهذا الجواب لا حاجة إليه مع تضعيف حديث عمار من طريق الزهري، لأنه يبعد كل البعد أن يكون التيمم نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم في السفر، ثم يتيمم أصحابه رضي الله عنهم دون أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفة التيمم، مع حرصهم على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدقيق والجليل، وإمكان الرجوع إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في معرفة تلك الصفة، وعلى فرض أن يكون بعضهم فعل ذلك اجتهاداً مع وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان سيعلم ذلك إما من الوحي لمخالفته الصفة المشروعة، وإما من الناس خاصة إذا شاهدوا تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخالفاً لما فعلوه، وهذا إنما نقوله في المناظرة، وإلا فهو بعيد جداً، ولم يكن الصحابة يجتهدون إلا حيث لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم، وأما إذا كان معهم فإنه يرجعون إليه، ويصدرون عنه، فالصواب أن حديث عمار من طريق الزهري حديث مضطرب، وقد بينت اختلاف أصحاب الزهري عليه في إسناده في أول كتاب التيمم، وهذا الذي دفع ابن عبد البر أن يقول: " أحاديث عمار في التيمم كثيرة الاضطراب، وإن كان رواتها ثقات " (¬2). ¬

(¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 252). (¬2) الاستذكار (3/ 165). قلت: ينبغي أن يستثني من حديث عمار ما كان منه في الصحيحين، وقد نص على أن التيمم في الوجه والكفين، وما خالف ذلك فإنه حديث ضعيف أو موقوف.

قال ابن رجب: " هذا حديث منكرجداً، لم يزل العلماء ينكرونه، وقد أنكره الزهري راويه، وقال: هو لا يعتبر به الناس، ذكره الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، وروي عن الزهري أنه امتنع أن يحدث به، وقال: لم أسمعه إلا من عبيد الله، وروي عنه أنه قال: لا أدري ما هو؟ وروي عن مكحول أنه كان يغضب إذا حدث الزهري بهذا الحديث، وعن ابن عيينة أنه امتنع أن يحدث به، وقال: ليس العمل عليه، وسئل الإمام أحمد عنه، فقال: ليس بشيء، وقال: أيضاً: اختلفوا في إسناده، وكان الزهري يهابه، وقال: ما أرى العمل عليه " (¬1). الدليل الثاني لمن قال: يمسح إلى الآباط: قالوا: إن اليد إذا أطلقت يتناول جميع اليد، من رؤوس الأصابع إلى الآباط. ويجاب. هذا يحتاج إلى دليل على أن اليد تطلق على جميع الجارحة، بل الدليل قام من القرآن على خلاف هذا، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو بلسان عربي مبين، قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬2)، فأطلق اليد، ولم يفهم منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا صحابته الكرام أن القطع يشمل جميع الجارحة من رؤوس الأصابع إلى الآباط، بل قام الإجماع على أن القطع للكف فقط، وقد نقلته عن ابن عبد البر في أدلة القول السابق. ¬

(¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 252). (¬2) المائدة: 38.

الراجح

الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بأن التيمم يقتصر على الوجه والكفين بضربة واحدة هو أقوى الأقوال دليلاً، وأسلمها من الاعتراض، فلم يثبت حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتيمم إلى المرفقين، وإنما صح ذلك موقوفاً على بعض الصحابة، وليس في قولهم حجة مع مخالفتهم لحديث عمار المرفوع في الصحيحين، كما لم يثبت حديث مرفوع في أن التيمم ضربتان، والمصير في صفة التيمم إلى آية المائدة، مع حديث عمار بن ياسر، وما خالفهما فهو إما موقوف أو ضعيف، والله أعلم.

المبحث الثاني: في استيعاب المسح للوجه واليدين

المبحث الثاني: في استيعاب المسح للوجه واليدين اختلف العلماء في حكم استيعاب المسح للوجه واليدين، فلو أن المتيمم ترك شيئاً يسيراً من مسح وجهه أو يديه، فهل يصح تيممه؟ فقيل: الاستيعاب فرض، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: الاستيعاب ليس بفرض، فمسح الأكثر يقوم مقام الكل، وهو ¬

(¬1) المبسوط (1/ 107)، وقال الجصاص في أحكام القرآن (2/ 550): ذكر أبو الحسن الكرخي عن أصحابنا أنه إن ترك المتيمم من مواضع التيمم شيئاً قليلاً أو كثيراً لم يجزه " وانظر بدائع الصنائع (1/ 46)، تبيين الحقائق (1/ 38)، البحر الرائق (1/ 145)، حاشية ابن عابدين (1/ 230). (¬2) الثمر الداني (1/ 76)، وقال في مواهب الجليل (1/ 349): " لزم المتيمم تعميم وجهه بالمسح، وتعميم كفيه إلى كوعيه .. " اهـ وقد نص خليل في متنه على نزع خاتمه، قال في مواهب الجليل (1/ 349): " قال في التوضيح: لا خلاف أنه مطلوب بنزع خاتمه ابتداء؛ لأن التراب لا يدخل تحته، فإن لم ينزعه فالمذهب أنه لا يجزئه ... ". وانظر شرح الخرشي (1/ 191)، حاشية الدسوقي (1/ 155)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 195). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 243): " فمذهبنا المشهور، أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين مع المرفقين، فإن حصل استيعاب الوجه واليدين بالضربتين، وإلا وجبت الزيادة حتى يحصل الاستيعاب .. ". وانظر إعانة الطالبين (1/ 56). (¬4) المغني (1/ 159)، كشاف القناع (1/ 174)، شرح العمدة (1/ 420)، المبدع (1/ 222).

رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬1)، واختيار ابن مسلمة من المالكية (¬2)، ورجحه ابن حزم رحمه الله (¬3). ولذلك أوجب الأئمة الأربعة نزع الخاتم من أجل القيام بفرض الاستيعاب (¬4). وأما تخليل الأصابع في التيمم: فمن ذهب منهم إلى جواز التيمم على الحجر ونحوه أوجب تخليل الأصابع، لكي يقوم بواجب الاستيعاب كالحنفية (¬5)، والمالكية على المشهور (¬6). ومن اشترط الغبار اشترط تفريج أصابعه إذا ضرب الأرض، حتى ¬

(¬1) المبسوط (1/ 107) أحكام القرآن للجصاص (2/ 550) بدائع الصنائع (1/ 46)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 78). (¬2) مواهب الجليل (1/ 349). (¬3) المحلى (1/ 376). (¬4) المبسوط (1/ 107)، حاشية ابن عابدين (1/ 232)، مواهب الجيل (1/ 349)، الفواكه الدواني (1/ 157)، مطالب أولي النهى (1/ 220)، كشاف القناع (1/ 178)، منار السبيل (1/ 56). (¬5) المبسوط (1/ 107)، بدائع الصنائع (1/ 46)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 550)، الفتاوى الهندية (1/ 26): وفي تبيين الحقائق (1/ 38): " ويجب تخليل الأصابع إن لم يدخل بينها غبار". (¬6) مواهب الجليل (1/ 349)، الفواكه الدواني (1/ 157)، الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 155)، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (1/ 77). وقال في حاشية الدسوقي (1/ 155): " قال أبو محمد: لم أر القول بلزوم تخليل الأصابع في التيمم لغير ابن شعبان، وذلك لأن التخليل لا يناسب المسح المبني على التخفيف ".

يتخللها الغبار كالشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (2/ 267): " ويخلل بين أصابعهما، فاتفق جمهور العراقيين على أنه سنة، ليس بواجب، ونقله ابن الصباغ عن الأصحاب مطلقاً، هذا إذا كان فرق أصابعه في الضربتين، أو في الثانية، أما إذا فرق في الأولى فقط، وقلنا: يجزيه، فيجب التخليل، وقال الخرسانيون والماوردي: في وجوب التخليل ومسح إحدى الراحتين بالأخرى وجهان". (¬2) نصت كتب الحنابلة في صفة التيمم على الضرب بيديه مفرجتي الأصابع، بعد نزع الخاتم، وعللوا ذلك لأجل دخول التراب بين أصابعه، ومقتضى التعليل أن التفريج واجب؛ لأن الاستيعاب واجب عندهم، وكذا نزع الخاتم، والعلة واحدة، في تفريج الأصابع وفي نزع الخاتم، وهي وجوب الاستيعاب، فكان مقتضى التعليل أن التفريج واجب، وقد حاولت أن أجد من صرح بأن تفريج الأصابع واجب، ولم أقف عليه فيما قرأت من المراجع، إلا أن شيخنا محمد ابن عثيمين رحمه الله رحمة واسعة في درسه لزاد المستقنع ذكر أن هذا واجب عند الحنابلة، قال شيخنا في الشرح الممتع (1/ 485): " قوله: " مفرجتي الأصابع " أي متباعدة؛ لأجل أن يدخل التراب بينها؛ ولأن الفقهاء يرون وجوب استيعاب الوجه والكفين هنا، ولذلك قالوا: مفرجتي الأصابع ". قال في الفروع (1/ 225): " ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع ". وقال في الإنصاف (1/ 301): " والسنة في التيمم أن ينوي، ويسمي، ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع على التراب ضربة واحدة ". وقال في شرح منتهى الإرادات (1/ 101): ويضرب التراب بيديه مفرجتي الأصابع؛ ليصل التراب إلى ما بينهما، وينزع نحو خاتم ". وقال في كشاف القناع (1/ 178): " ويضرب يديه مفرجتي الأصابع ليصل التراب إلى ما بينها ..... بعد نزع خاتم ونحوه ليصل التراب إلى ما تحته ". وقال مثله في مطالب أولى النهى (1/ 219 - 220). وقال في المبدع (1/ 229): " ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع ليدخل الغبار بينهما، وينزع خاتمه ". وانظر المحرر (1/ 21)، والمستوعب (1/ 298). وذكر العنقري في حاشيته على الروض وجوب نزع الخاتم، ولا يكفي تحريكه (1/ 95) =

وقيل: ليس عليه تخليل أصابعه ولا نزع خاتمه، وهو رواية الكرخي عن أبي حنيفة (¬1)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬2). ¬

= وابن تيمية اعتبر تفريج الأصابع عند الأصحاب تحصيل فضيلة، ويفهم منه أنه ليس بواجب، قال في شرح العمدة (1/ 414): " قال أصحابنا: والأفضل أن يضرب بيديه الصعيد مفرجتي الأصابع ... ". فتأمل. (¬1) بدائع الصنائع (1/ 46)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 550)، مراقي الفلاح (ص:49)، والذي وقفت عليه في مذهب الحنفية قولين: الأول: وجوب استيعاب الوجه واليدين بالمسح، والثاني: يكفي مسح أكثر الوجه واليدين. وقد ساق ابن رجب الحنبلي في شرحه للبخاري (2/ 245) روايات أخرى، فأذكرها، وليبحث عنها في كتب الحنفية، فإني لم أقف عليها: قال ابن رجب: " وعن أبي حنيفة روايات، إحداها: كقول الشافعي وأحمد - يعني: وجوب الاستيعاب - والثانية: إن ترك قدر الدرهم لم يجزئه، وإن ترك دونه أجزأه، والثالثة: إن ترك دون ربع الوجه أجزأه، وإلا فلا. والرابعة: إن مسح أكثره، وترك الأقل منه أو من الذارع أجزأه، وإلا فلا، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ". والذي أخشاه أن يكون الحافظ ابن رجب نقل ذلك عن النووي رحمه الله، ولم يحرره من كتب الحنفية، فقد قال العيني في البناية (1/ 500 - 501): " قال النووي: مذهب الشافعي رحمه الله أنه يجب إيصال التراب إلى جميع البشرة .... قال: وعن أبي حنيفة روايات، أحدها كمذهبنا ... والثانية: إن ترك قدر درهم لم يجزئه .. قال العيني متعقباً كلام النووي: هذه ليس لها أصل في الكتب الأمهات لأصحابنا مثل المبسوط والمحيط والذخيرة وشرخ مختصر الكرخي والبدائع والفوائد ونحوها ". والله أعلم. (¬2) قال ابن عطية في تفسيره (ص: 442) " واختلف المذهب في تحريك الخاتم، وتخليل الأصابع على قولين: يجب، ولا يجب ". اهـ ونسختي من تفسير ابن عطية طبع في مجلد واحد كبير، طبعة دار ابن حزم. وانظر مواهب الجليل (1/ 349).

دليل من قال: يجب الاستيعاب

دليل من قال: يجب الاستيعاب: قال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬1). (1451 - 83) وفي البخاري من حديث عمار بن ياسر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬2). فقوله: " ثم مسح بهما وجهه وكفيه " يقتضي أن يكون المسح لجميع الوجه واليدين، والحديث امتثال وبيان للآية الكريمة {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬3)، وهو يرفع ما قد يتوهم في الباء من تبعيض، وقد بينا في فرائض الوضوء من قوله تعالى {فامسحوا برؤوسكم} أن الباء لا تأتي للتبعيض، فهي كالباء في قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (¬4)، ولا يجوز بالإجماع الطواف ببعض البيت، والذين ذهبوا إلى جواز مسح بعض الرأس، مستدلين بأن الباء للتبعيض في قوله تعالى: {فامسحوا برؤوسكم} لم يقولوا هذا في آية التيمم {فامسحوا بوجوهكم} وهي واحدة في الآيتين، ومتعلقها واحد، وهو فعل الأمر (امسحوا) وهذا نوع من التناقض. الدليل الثاني: القياس على طهارة الماء، فكما أن غسل الوجه واليدين يجب أن يشمل جميع الوجه واليدين، فكذلك في طهارة التيمم يجب أن يشمل جميع الوجه واليدين، لأن البدل له حكم المبدل. ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) البخاري (338)، ومسلم (368). (¬3) المائدة: 6. (¬4) الحج: 29.

ويجاب: بأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه، ولهذا المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين (¬1). ثم إن هذا الدليل أنتم لا تأخذون به من كل وجه، فهل ترون أنه يجب أن يصل الماء إلى باطن الفم والأنف ليقوم مقام المضمضة والاستنشاق، أو إلى باطن الشعر الخفيف كشعر الحاجبين واللحية الخفيفة (¬2)، فإذا استثنيتم ذلك، بطل القياس على طهارة الماء. الدليل الثالث: حكى الإمام أحمد أن التعميم في مسح الوجه إجماع. قال ابن رجب: " قال الجوزجاني: ثنا إسماعيل بن سعيد الشالنجي، قال: سألت أحمد بن حنبل عمن ترك مسح بعض وجهه في التيمم، قال: يعيد الصلاة. فقلت له: فما بال الرأس يجزئ في المسح، ولم يجز أن يترك ذلك من الوجه في التيمم؟ فقال: لم يبلغنا أن أحداً ترك ذلك من تيممه " (¬3). فإن كان فُهِم من كلام الإمام أحمد أنه إجماع كما فهمه ابن رجب رحمه الله، فهو إجماع على حكاية فعل، وليس إجماعاً قولياً على وجوب التعميم، فهناك فرق بين النقل بأن أحداً لم يترك كذا، وبين القول بوجوب ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (1/ 278). (¬2) اختلف الفقهاء في وجوب إيصال التراب إلى باطن الشعر الخفيف، كشعر الحاجبين والعنفقة وشعر اللحية الخفيف إلى قولين سوف نتعرض لذكرهما إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة. (¬3) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 246).

دليل من قال: مسح الأكثر يقوم مقام الكل

التعميم؛ لأن الإجماع هنا قد يؤخذ منه على القول بثبوته على مشروعية التعميم، وليس على وجوبه؛ وذلك لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه أخل بالترتيب في الوضوء، ومع ذلك فالخلاف في وجوبه محفوظ، فما بالك بالنقل عن فعل السلف، وقد أثبتنا أن هناك قولاً في مذهب الحنفية أنه يجزئ مسح أكثر الوجه واليدين، وهذا اختيار ابن حزم، فهذا كاف في خرق الإجماع، والله أعلم. دليل من قال: مسح الأكثر يقوم مقام الكل: ذكر ابن حزم: أن الله سبحانه وتعالى قال: {بلسان عربي مبين} (¬1)، وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (¬2)، والمسح في اللغة لا يقتضي الاستيعاب، فوجب الوقوف عند ذلك، ولم يأت بالاستيعاب في التيمم قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب، نعم ولا قياس، فبطل القول به ... والعجب أن لفظة المسح لم تأت في الشريعة إلا في أربعة مواضع، ولا مزيد: مسح الرأس، ومسح الوجه واليدين في التيمم، ومسح على الخفين، والعمامة والخمار، ومسح الحجر الأسود في الطواف، ولم يختلف أحد من خصومنا المخالفين لنا في أن مسح الخفين ومسح الحجر الأسود لا يقتضي الاستيعاب، وكذلك من قال منهم بالمسح على العمامة والخمار، ثم نقضوا ذلك في التيمم، فأوجبوا فيه الاستيعاب تحكماً بلا برهان .. واضطربوا في الرأس .. ثم ذكر اختلافهم (¬3). ¬

(¬1) الشعراء: 195. (¬2) إبراهيم: 4. (¬3) المحلى (1/ 376).

الراجح من الخلاف

الدليل الثاني: أن طهارة المسح مبنية على التخفيف، بخلاف طهارة الغسل، فإيجاب الاستيعاب في طهارة المسح فيه عسر ومشقة. الدليل الثالث: إذا كان المتيمم يمسح وجهه مرة واحدة بكلتا يديه، فلا تكفي يداه لاستيعاب كل جزء في وجهه مهما قل، فلو كان الاستيعاب فرضاً لكان شرع تكرار المسح للوجه؛ ليحصل الاستيعاب، فلما لم يشرع تكرار المسح للوجه علم أن الاستيعاب ليس فرضاً. الراجح من الخلاف: المطلوب أن يمسح وجهه بكلتا يديه، ولا يكرر المسح، فما أتت يداه على وجهه بالمسح كاف في حصول المقصود، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح وجهه مرة واحدة بكلتا يديه، ويعلم أن مسح الوجه باليدين لا يمكن أن يمسح كل جزء من وجهه، فإنه إن جمع أصابعه ليعمم بالمسح كل جزء من وجهه بقي طرفا الوجه بدون مسح، وإن فرج أصابعه ليمسح أكبر قدر ممكن من وجهه فإن ما بين أصابعه لم يصبه المسح، فيكون بذلك قد فوت جزءاً، ولو يسيراً، وهذا دليل على أن مسح الغالب يقوم مقام الكل، وأما تخليل الأصابع فلم يقم دليل صحيح بل ولا ضعيف فيما أعلم على مشروعية تخليل الأصابع في التيمم، فضلاً أن يكون التخليل واجباً، والتعليل في أن التراب ليس له نفوذ الماء وسريانه، فيعتبر التخليل آكد منه في التيمم منه في الوضوء، فهذا القول ممكن أن يعكس، فيقال: طهارة المسح مبنية على التخفيف، بخلاف طهارة الماء، فيستحب التخليل في الوضوء، ولا يشرع التخليل في التيمم، ثم إننا

نقول: لسنا بحاجة إلى القياس بالعبادات، وخاصة إن التخليل إما أن يكون مشروعاً أو لا؟. فإن لم يكن مشروعاً فظاهر، وإن كان مشروعاً فلا بد أن يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو يرشد إليه، خاصة أنه تيمم عليه الصلاة والسلام، وفعله الصحابة في عهده، وبعد وفاته، فهل قدمتم دليلاً على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك، فإذا لم يوجد دليل كان هذا دليلاً على أن السنة تركه، فما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالسنة تركه، والله أعلم. قال سليمان بن داود الهاشمي: "يجزئه في التيمم إن لم يصب بعض وجهه، أو بعض كفيه؛ لأنه بمنزلة المسح على الرأس إذا ترك منه بعضاً أجزأه" (¬1). وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: المسح في التيمم كما يمسح الرأس، لا يتعمد لترك شيء من ذلك، فإن بقي شيء منه لم يعد، وليس هو عندي بمنزلة الوضوء (¬2). وقال الجوزجاني: لم نسمع أحداً يتبع ذلك من رأسه في المسح ولا بين أصابعه في التيمم، كما يتبعون في الوضوء بالتخليل (¬3). ونقل حرب، عن إسحاق أنه قال: تضرب بكفيك على الأرض، ثم تمسح بهما وجهك، وتمر بيديك على جميع الوجه واللحية، أصاب ما أصاب، وأخطأ ما أخطأ، ثم تضرب مرة أخرى بكفيك (¬4). ¬

(¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 246). (¬2) انظر المرجع السابق (¬3) انظر المرجع السابق. (¬4) انظر المرجع السابق.

المبحث الثالث: في مسح ما تحت الشعر الخفيف في التيمم

المبحث الثالث: في مسح ما تحت الشعر الخفيف في التيمم سبق لنا في طهارة الماء وجوب غسل ما تحت الشعر الخفيف، واختلف العلماء في طهارة التيمم، هل يجب مسح ما تحت الشعر الخفيف كالعنفقة وشعر الحاجبين، وشعر اللحية الخفيف، أو لا يجب؟. فقيل: يجب مسح ما تحت الشعر الخفيف، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وأحد الوجهين في مذهبي الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). ¬

(¬1) جاء في درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 31): " ويمسح تحت الحاجبين، وموق العينين، ومن وجهه ظاهر البشرة، والشعر على الصحيح، وفي السراج: لا يجب مسح اللحية ولا الجبيرة ". وجاء في الفتاوى الهندية (1/ 26): " استيعاب العضوين في التيمم واجب في ظاهر الرواية، كذا في محيط السرخسي، وهو المختار، كذا في المضمرات حتى لو لم يمسح تحت الحاجبين، وفوق العينين لا يجزيه، كذا في محيط السرخسي ". وقال في مجمع الأنهر (1/ 39): " والاستيعاب في الأصح، وهو ظاهر الرواية، وعليه الفتوى؛ لقيامه مقام الوضوء في العضوين المخصوصين حتى قالوا: لو لم يخلل الأصابع، أو لم ينزع الخاتم، أو لم يمسح تحت الحاجبين لم يجز تيممه، وبهذا تبين ضعف ما روي عنه أن مسح أكثر الوجه واليدين كاف ". وانظر شرح فتح القدير (1/ 126 - 127). (¬2) المهذب (1/ 33). (¬3) قال ابن رجب في شرح البخاري (2/ 245): " فأما الوجه، فمذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء أنه يجب عليه استيعاب بشرته بالمسح بالتراب، ومسح ظاهر الشعر الذي عليه، وسواء كان ذلك الشعر يجب إيصال الماء إلى ما تحته كالشعر الخفيف الذي يصف البشرة، أم لا، هذا هو الصحيح. وفي مذهبنا وفي مذهب الشافعي وجه آخر: أنه يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور التي يجب إيصال الماء إلى ما تحتها، ولا يجب عند أصحابنا إيصال الماء إلى باطن الفم والأنف، وإن وجب عندهم المضمضمة والاستنشاق في الوضوء ". اهـ

وقيل: لا يجب مسح ما تحت الشعر، اختاره أبو يوسف والطحاوي من الحنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وقيل: لا يجب عليه مسح اللحية في التيمم، وهو قول في مذهب الحنفية (¬5). ¬

(¬1) جاء في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 78): " وعن أبي يوسف: يمسح وجهه من غير تخليل اللحية ... ". وقال الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء (1/ 135): " التيمم واجب فيه مسح البشرة، ثم يسقط بعدها ". فهل قوله " ثم يسقط بعدها" هل يريد أنه يسقط إلى بدل، وهو مسح اللحية، أو يسقط إلى غير بدل، لم يصرح بشيء. (¬2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 195)، الخرشي (1/ 191)، مواهب الجليل (1/ 350). (¬3) قال في المهذب (1/ 33): ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الحاجبين والعذارين والعنفقة. ومن أصحابنا من قال: يجب ذلك كما يجب إيصال الماء إليه في الوضوء، والمذهب الأول". وقال في تحفة المحتاج (1/ 362): " (ولا يجب) بل يسن (إيصاله) أي التراب (منبت الشعر الخفيف) وفي وجه: أو يد ". واختار القاضي حسين بأنه لا يسن إيصال التراب إلى ما تحت الشعر، انظر كفاية الأخيار (1/ 60). وانظر نهاية الزين (ص: 37)، وفتح الوهاب بشرح منهج الطلاب (1/ 45)، (¬4) شرح منتهى الإرادات (1/ 98)، مطالب أولي النهى (1/ 211)، شرح البخاري لابن رجب (2/ 245). (¬5) جاء في السراج الوهاج كما نقله ابن نجيم في البحر الرائق (1/ 152): " ولا يجب عليه مسح اللحية في التيمم ". =

وسبب الخلاف اختلافهم في مسألتين: الأولى: وسبق بحثها، هل يجب استيعاب الوجه واليدين بالمسح في التيمم، وقد ترجح بأن الاستيعاب ليس بواجب، وأن عليه أن يمسح وجهه بكلتا يديه، ولا يتعمد ترك شيء منه، فإن بقي منه شيء لا يرجع إليه بالمسح. والثانية: قياس التيمم على الوضوء، فلما كان الوضوء يجب غسل ما تحت الشعر الخفيف، فهل يقاس عليه التيمم، فيقال بوجوب مسح ما تحت الشعر الخفيف؟ الصحيح أن قياس التيمم على الوضوء قياس مع الفارق؛ لأن المسح مبني على التخفيف، بخلاف طهارة الغسل، والله أعلم. ¬

_ = وقال في الجوهرة النيرة (1/ 22): " ولا يجب عليه مسح اللحية .. ". وهذا نص في نفي مسح اللحية وليس مجرد مسح ما تحت اللحية، ولكن قال الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 78): " الشعر الذي يجب غسله في الوضوء، هو المحاذي للبشرة لا المسترسل، وعليه يحمل قول صاحب السراج: لا يجب عليه مسح اللحية في التيمم. كذا في البحر. بقي الكلام في اللحية الخفيفة: هل يبالغ في المسح فيها حتى يصل إلى البشرة كأصله، أو يكفي مسح ظاهر الملاقي كالكثة؟ يراجع ". اهـ فتأمل تفسير الطحطاوي، فإن صح، فإن المسألة فيها قولان فقط، وإن لم يصح كانت المسألة فيها ثلاثة أقوال، والله أعلم.

المبحث الرابع: في صفة مسح الوجه واليدين عند الفقهاء

المبحث الرابع: في صفة مسح الوجه واليدين عند الفقهاء (¬1) اختلف العلماء في صفة المسح بالتيمم: فقيل: يضرب بيديه الصعيد، فيقبل بهما ويدبر (¬2)، ثم ينفضهما، ثم يمسح بهما وجهه، ثم يعود بكفيه على الصعيد مرة ثانية، فيقبل بهما ويدبر، ثم ينفضهما، ثم يمسح بذلك ظاهر الذراعين وباطنهما إلى المرفقين، وهذه الصفة رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة (¬3). وقيل: يمسح بباطن أربع أصابع يده اليسرى، ظاهر يده اليمنى، من رؤوس الأصابع إلى المرفق، ثم يمسح بكفه اليسرى دون الأصابع باطن يده ¬

(¬1) لقد أغرب كثير من الفقهاء في ذكر صفة مسح الوجه واليدين، وتكلفوا في ذكر صفات لا يدل عليها كتاب، ولا سنة، ولولا أن يؤخذ على الكتاب عدم ذكر هذا البحث لأعرضت عن ذكرها، مكتفياً بالقول الراجح؛ لأني يهمني - وأنا أحرر أي فصل من فصول هذا الكتاب - كيف يفهم القارئ وطالب العلم ما يدون هنا بيسر وسهولة؟ وسوف أحاول قدر الإمكان في تذليل هذا الفصل ما أمكن، فإن وفقت فمن الله سبحانه وتعالى، وإن لم أوفق فليلتمس لي طالب العلم العذر؛ فإن السبب هو ما تبناه الفقهاء من تفريعات ضعيفة، والله المستعان، (¬2) الإقبال والإدبار من سنن التيمم عند الحنفية، ومعنى ذلك: أي يحركهما بعد الضرب أماماً وخلفاً مبالغة في إيصال التراب إلى أثناء الأصابع، وإن كان الضرب أولى من الوضع .. انظر حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (1/ 38)، وحاشية ابن عابدين (1/ 231)، البحر الرائق (1/ 153). (¬3) أحكام القرآن- للجصاص (4/ 27)، بدائع الصنائع (1/ 46)، حاشية ابن عابدين (1/ 230)، تبيين الحقائق (1/ 38).

اليمنى من المرفق إلى الرسغ، ثم يمر بباطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه اليمنى، ثم يفعل باليد اليسرى كذلك. وهذه هي الصفة المختارة عند الحنفية (¬1). وذلك لأن مسح ظاهر اليد اليمنى بباطن الأصابع، ثم مسح باطن اليد اليمنى بباطن الكف دون الأصابع فيه احتراز من استعمال التراب المستعمل (¬2). ونحوها عند المالكية، إلا أنهم لم يجعلوا الأصابع تمسح ظاهر اليد، والكف يمسح باطن اليد، بل الكف بأصابعها تمسح ظاهر اليد وباطنها، فقالوا في صفة التيمم المستحبة ما يلي: " أن يضرب الأرض بيديه جميعاً ضربة واحدة، فإن تعلق بها شيء نفضه نفضاً خفيفاً، ومسح بهما وجهه، ثم يضرب أخرى لليدين ويضع اليسرى على اليمنى فيمرها من فوق الكف إلى المرفق، ومن باطن المرفق إلى الكوع، ويفعل باليسرى كذلك. وأجاز الشيخ أبو الحسن وعبد الحق مسح كف اليمنى قبل الشروع في اليسرى؛ لأن الأصل أن لا يشرع في عضو إلا بعد كمال ما قبله. وروى ابن حبيب تركها حتى يصل إلى كوع الأخرى، ويمسح الكوعين. ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 230)، بدائع الصنائع (1/ 46) البحر الرائق (1/ 153). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 230)، قال في بدائع الصنائع (1/ 46) عن هذه الصفة: وهذه أقرب إلى الاحتياط؛ لما فيه من الاحتِراز عن استعمال التراب المستعمل بالقدر الممكن وكذا ذكر في البحر الرائق (1/ 153). لكن ذكر في البناية وفي حاشية الطحطاوي بأن هذه الصفة لم ترد في شيء من الأحاديث، وإذا كانت كذلك كيف تكون الصفة المختارة، انظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 79)، والبناية على الهداية (1/ 498).

وجهه: أن كفه اليمنى كما تمسح ذراعه فكذلك ذراعه يمسح كفه، والتكرار في التيمم غير مطلوب، فلا يؤمر بمسح كفه بكفه، ولأنه يذهب بما في كفه اليمين من التراب (¬1). وذكر صاحب الرسالة أنه إذا وصل إلى الكوع مسح بباطن إبهام اليسرى ظاهر إبهامه اليمنى، وكذلك في اليسرى (¬2). وذكر الشافعية صفة التيمم المستحبة نحواً من ذلك، حيث قالوا: أن يضع بطون أصابع اليسرى سوى الإبهام على ظهور أصابع اليمنى سوى الإبهام، بحيث لا تخرج أنامل اليمنى عن مسبحة اليسرى، ولا مسبحة اليمنى عن أنامل اليسرى، ويمرها على ظهر كفه اليمنى، فإذا بلغ الكوع ضم أطراف أصابعه إلى حرف الذراع، ويمرها إلى المرفق، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، فيمرها عليه رافعاً إبهامه فإذا بلغ الكوع أمر إبهام اليسرى على إبهام اليمنى، ثم يفعل باليسرى كذلك، ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى (¬3). وذكر النووي بأن مسح إحدى الراحتين، سنة على قول جمهور العراقيين، ونقله ابن الصباغ عن الأصحاب مطلقاً إذا كان قد فرق بين أصابعه في الضربة الثانية. ¬

(¬1) الذخيرة للقرافي (1/ 352)، الفواكه الدواني (1/ 157 - 158)، المنتقى شرح الموطأ - للباجي (1/ 114). (¬2) تنوير المقالة بشرح ألفاظ الرسالة (1/ 577)، الذخيرة للقرافي (1/ 352). (¬3) نهاية المحتاج (1/ 303)، تحفة المحتاج (1/ 364)، المجموع (2/ 266)، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/ 105)،

وقال البغوي: إن قصد بإمرار الراحتين على الذراعين مسحهما حصل، وإلا فلا. قلت: كلام البغوي فيه نظر؛ لأن نية التيمم كافية، ولا تشترط نية عند كل فعل من أفعال التيمم، ومثله سائر العبادات، فالصلاة نية واحدة، والوضوء نية واحدة، والله أعلم. وصوب النووي طريقة العراقيين، قال: فإن قيل: إذا سقط فرض الراحتين صار التراب الذي عليهما مستعملاً، فكيف يجوز مسح الذراعين به؟ ولا يجوز نقل الماء الذي غسلت به إحدى اليدين إلى الأخرى؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن اليدين كعضو واحد، ولهذا جاز تقديم اليسار على اليمين، ولا يصير التراب مستعملاً إلا بانفصاله، والماء ينفصل عن اليد المغسولة، فيصير مستعملاً. الثاني: أنه يحتاج إلى هذا هاهنا، فإنه لا يمكنه أن يتم الذارع بكفها، بل يفتقر إلى الكف الأخرى، فصار كنقل الماء من بعض العضو إلى بعضه. ونقل صاحب البيان وجهاً أنه يجوز نقل الماء من يد إلى يد أخرى؛ لأنهما كيد، فعلى هذا يسقط السؤال (¬1). وأما صفة التيمم عند الحنابلة: فقالوا: يضرب بيديه مفرجتي الأصابع ضربة واحدة، يمسح وجهه بباطن أصابعه، وكفيه براحتيه (¬2). ¬

(¬1) المجموع (2/ 267)، وانظر البيان (1/ 281). (¬2) الفروع (1/ 225)، الإنصاف (1/ 301 - 302)، شرح منتهى الإرادات (1/ 101)، كشاف القناع (1/ 179).

وقال ابن قدامة: "ويستحب أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى، وليس بفرض؛ لأن فرض الراحتين قد سقط بإمرار كل واحدة على ظهر الكف" (¬1). ومع اعتراف بعض الفقهاء من كل مذهب بأن هذه الصفة التي استحبوها لم يأت عليها دليل من الشرع فقد ذكر العيني في البناية والطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح، وهما من الحنفية بأن هذه الصفة - أعني المسح بالأصابع ظاهر اليد اليمنى، والمسح بباطن الكف باطن اليد اليمنى، ثم اليسرى مثل ذلك - لم ترد في شيء من الأحاديث (¬2). وقال القرافي من المالكية: " وهذه الصفة وإن لم ترد - يعني في السنة- فليست تحكماً، بل لما علم الفقهاء أن الايعاب مطلوب، والصعيد ليس يعم بسيلانه كالماء اختاروا هذه الصفة؛ لإفضائها لمقصود الشارع، وفعل الوسائل لتحصيل المقاصد من قواعد الشرع وعادته " (¬3). فيقال: إذا اعترفتم بأن هذه الصفة لم ترد، فهل غاب إدراك هذه المصلحة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن صحابته الكرام، أو لا؟ فإن قلتم: هي معلومة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: فلماذا علمها ومع ذلك تركها، ألا يكون لكم في رسول الله أسوة حسنة. ألا يكون فعلكم نوعاً من الاستدراك على الشرع، وإحداث صفة لم تكن مشروعة، أليست صفة العبادة توقيفية، ¬

(¬1) المغني (1/ 159). (¬2) انظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 79)، والبناية على الهداية (1/ 498). (¬3) الذخيرة (1/ 352).

فكيف نستحسن شيئاً لم يرد في أحاديث التيمم، نعم القول بأن التيمم ضربتان ورد في بعض الأحاديث المرفوعة الضعيفة، وفي بعض الآثار الصحيحة الموقوفة، وقد ناقشت ذلك في فصل مستقل، كما ناقشت في فصل مستقل القول بأن التراب فيه ما هو مستعمل، فلا يتيمم به، ومنه ما هو غير مستعمل، فيختص التيمم به، قياساً على الماء، وبينت أن القول بأنه يوجد ماء أو تراب مستعمل لا يتطهر به، قول ضعيف، فأغنى الكلام هناك عن إعادته هنا، والله الموفق. قال النووي من الشافعية: " قال الرافعي: وزعم بعضهم أن هذه الكيفية منقولة عن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا بشيء، قال أصحابنا: كيف أوصل التراب إلى وجهه واليدين بضربتين فأكثر بيده أو خرقة أو خشبة جاز، ونص عليه في الأم" (¬1). وقال ابن رجب الحنبلي: " وهذا الذي قالوه في صفة التيمم لم ينقل عن الإمام أحمد، ولا قاله أحد من متقدمي أصحابه كالخرقي وأبي بكر وغيرهما" (¬2). فهذا كلام جملة من أصحاب المذاهب قد صرحوا بأن هذه الصفة لم يثبت فيها حديث، فإذا عرفنا هذا فيقال في صفة المسح ما دل عليه حديث عمار في الصحيحين: ¬

(¬1) المجموع (2/ 267). (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 297).

ضربة واحدة يمسح بها وجهه وكفيه، وكيف مسح فقد حصل المقصود. قال في تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة: " ولو مسح اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى كيف شاء وتيسر عليه، وأوعب المسح أجزأه؛ لأن الواجب التعميم على أي وجه وجد " (¬1). قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: أرني كيف التيمم؟ فضرب بيده باطن كفيه، ثم مسح وجهه وكفيه بعضهما على بعض ضربة واحدة، وقال: هكذا. قال ابن رجب تعليقاً: وهذا يدل على أنه مسح وجهه بيديه، ثم مسح يديه إحداهما بالأخرى من غير تخصيص للوجه بمسح باطن الأصابع، وهذا هو المتبادر إلى الفهم من الحديث المرفوع، ومن كلام من قال من السلف: إن التيمم ضربة للوجه والكفين. وما قاله المتأخرون من الأصحاب فإنما بنوه على أن التراب المستعمل لا يصح التيمم به كالماء المستعمل، وهذا ضعيف؛ لأن التراب المستعمل فيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: أنه يجوز التيمم به بخلاف الماء؛ لأن الماء المستعمل قد رفع حدثاً، وهذا لم يرفع حدثاً على ظاهر المذهب. وعلى الوجه الثاني: أنه لا يتيمم بالتراب المستعمل، فالمستعمل هو ما علق بالوجه، أو تناثر منه، فأما ما بقي على اليد الممسوح بها فهو ¬

(¬1) تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/ 580).

بمنزلة ما بقي في الإناء بعد الاستعمال منه، وليس هو بمستعمل، ويجوز التيمم به " (¬1). وقال ابن تيمية: " وصفة التيمم أن يضرب بيديه الأرض، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه لحديث عمار بن ياسر الذي في الصحيح " (¬2). وليس فيه دليل على استحباب - فضلاً عن وجوب - تفريج الأصابع، ولم يدل عليها سنة مرفوعة، ولا أعلم بها أثراً صحيحاً، والسنة لزوم ما ورد في السنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يستحسن شيء من الصفات إلا بتوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أحد من صحابته رضوان الله عليهم. ¬

(¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 297). (¬2) الاختيارات (ص: 20).

المبحث الخامس: لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب

المبحث الخامس: لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب هل يشترط في التيمم ضرب الأرض بيديه؟ أو يصح التيمم حتى لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب، اختلف العلماء في ذلك: فقيل: لا يشترط ضرب الأرض بيديه، فلو وضع كفيه على التراب أجزأه، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ودليلهم: أن الكتاب لم يعتبر ضرب الأرض من مسمى التيمم، فإن المأمور به في القرآن هو المسح فقط، قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬5). ¬

(¬1) قال في المبسوط (1/ 106): " ثم بين صفة التيمم، فقال: يضع يديه على الأرض ... ثم قال: فقد ذكر الوضع، والآثار جاءت بلفظ الضرب .... والوضع جائز، والضرب أبلغ ليتخلل التراب بين أصابعه "، وانظر درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 30)، شرح فتح القدير (1/ 126). (¬2) قال في الشرح الصغير (1/ 194): " قوله" وضع الكفين على الصعيد " إنما قال ذلك دفعاً لما يتوهم من لفظ الضرب أنه يكون بشدة، فأفاد أنه وضع الكفين على الصعيد، ومثل الكفين: أحدهما أو بعضهما، ولو بباطن إصبع واحد، وأما لو تيمم بظاهر كفه فلا يجزئ ". (¬3) الشافعية يشترطون أن يعلق بيده غبار كما سبق أن هذا عندهم من شروط التيمم، انظر: الأم (1/ 50)، وقال في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (ص: 82): " ولا يتعين الضرب، فلو وضع يديه على تراب ناعم، وعلق بهما غبار كفى". وانظر: السراج الوهاج (ص:28)، حلية العلماء (1/ 186)، مغني المحتاج (1/ 100)، المجموع (2/ 263)، كفاية الأخيار (1/ 60). (¬4) قال ابن تيمية في شرح العمدة (1/ 421): " ولو وضع يده على التراب، فعلق من غير ضرب جاز ".وانظر المبدع (1/ 229)، كشاف القناع (1/ 179). (¬5) المائدة: 6.

فالعبرة بمسح الوجه واليدين بالتراب بنية التيمم. وأما حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬1). فهو لا يدل على وجوب كل ما ذكر في الحديث، ومنه الضرب، بدليل أن النفخ ليس بواجب، وهو مذكور فيه، وبدليل أن آية التيمم ليس فيها ذكر الضرب، فقد يكون الحديث خرج مخرج الغالب، أو أنه أراد من الضرب: إرادة المسح بالأرض، والضرب أبلغ من وضع اليد بالأرض، والله أعلم. ويتفرع على هذه المسألة سؤال آخر: هل ضرب اليد بالأرض ركن بالتيمم، أو وسيلة يتوصل بها لمسح الوجه واليدين بالأرض، وينبني على الخلاف في هذه المسألة ما لو ضرب الأرض بيديه، ثم أحدث قبل مسح وجهه ويديه. فقال أبو شجاع من الحنفية: يعيد ضرب الأرض، كبطلان بعض الوضوء بالحدث. وفي الخلاصة: الأصح أنه لا يستعمل ذلك التراب، كذا اختاره شمس الأئمة السرخسي (¬2). قلت: وهذا هو مذهب الشافعية: " قال القاضي حسين البغوي: إذا أحدث المتيمم بعد أخذه التراب، وقبل المسح بطل ذلك الأخذ، وعليه الأخذ ثانياً، بخلاف ما لو أحدث بعد ¬

(¬1) البخاري (338)، ومسلم (368). (¬2) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 30)، شرح فتح القدير (1/ 126).

أخذ الماء وقبل غسل الوجه، فإنه لا يضره؛ لأن المطلوب في الوضوء الغسل لا نقل الماء، وهنا المطلوب نقل التراب" (¬1). والصحيح أن نقل التراب ليس هو العبادة في التيمم، وإنما العبادة هو مسح الوجه واليدين بعد ضرب الصعيد الطيب. " قال القاضي الإسبيجابي من الحنفية: " يجوز - يعني: إذا أحدث بعد ضرب الأرض - كمن ملأ كفيه ماء، فأحدث، ثم استعمله، والذي يقتضيه النظر عدم اعتبار ضربة الأرض من مسمى التيمم شرعاً؛ فإن المأمور به المسح ليس غير في الكتاب، قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬2) (¬3). هذا وقد عقدت فصلاً مستقلاً فيما لو ألقت الرياح التراب على وجه المتيمم وكفيه، فهل يجزئ ذلك عن ضرب الأرض، أو لا بد من ضرب الأرض بالتيمم، فتلك المسألة لها متعلق بهذه، وقد حكيت فيها ثلاثة أقوال: الإجزاء مطلقاً، والمنع مطلقاً، والإجزاء إن مسح بيديه على وجه وكفيه، فارجع إليها لزيادة البحث في هذه المسألة، والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع (2/ 272)، بل اشترط الشافعية أن يكون أخذ التراب بعد دخول الوقت، فلو أخذ التراب على يديه قبل الوقت، ومسح بهما وجهه في الوقت لم يصح. انظر المجموع (2/ 275) وقد بينت فيما سبق أن اشتراط دخول الوقت في التيمم لا دليل عليه. (¬2) المائدة: 6. (¬3) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 30)، شرح فتح القدير (1/ 126).

المبحث السادس: في مسح الوجه بيد واحدة أو أصبع واحد

المبحث السادس: في مسح الوجه بيد واحدة أو أصبع واحد اختلف العلماء، فقيل: لا يجوز المسح بأقل من ثلاثة أصابع، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجوز ولو بباطن إصبع واحد، وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يجزئه، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 38)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 30). (¬2) قال في مواهب الجليل (1/ 349): " لم يقيد المصنف تعميم وجهه بمسحه بيديه جميعاً، فلو مسحه بيد واحدة أجزأه، بل قال سند: لو مسح وجهه بأصبع واحدة أجزأه، كقول ابن القاسم في مسح الرأس. قال ابن ناجي في شرح المدونة: قال ابن عطية: هذا هو المشهور". اهـ شرح مختصر خليل للخرشي (1/ 191)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 194). (¬3) قال في المجموع (2/ 263): " ولا يشترط اليد، بل المطلوب نقل التراب، سواء حصل، بيد، أو خرقة، أو خشبة أو نحوها، ونص عليه الشافعي في الأم، قال في الأم: واستحب أن يضرب بيديه جميعاً ". وانظر كفاية الأخيار (1/ 60)، مغني المحتاج (1/ 99)، السراج الوهاج (ص: 28)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 104)، المنهج القويم شرح المقدمة الحضرمية (ص: 116). (¬4) قال في المغني (1/ 160): " وإن مسح محل الفرض بيد واحدة أو ببعض يده أجزأه". وانظر كشاف القناع (1/ 179). وقال في الإنصاف (1/ 302): " لو تيمم بيد واحدة، أو بعض يده أجزأه على الصحيح من المذهب. وانظر مطالب أولي النهى (1/ 221). (¬5) الإنصاف (1/ 302)، الفروع (1/ 226).

دليل من قال: يجزئ يد واحدة

دليل من قال: يجزئ يد واحدة: قالوا: إن الغرض إيصال التراب إلى محل الفرض، وقد حصل (¬1). ولأن المسح في الآية مطلق، فيتناول اليد وغيرها كما يتناول يد الغير (¬2). فآية التيمم ذكرت الممسوح، ولم تذكر آلة المسح، فكيف حصل المسح أجزأ. دليل من قال: لا يجزئه: الدليل الأول: (1452 - 84) استدلوا بما رواه البخاري من حديث عمار بن ياسر، وفيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه. ورواه مسلم (¬3). وهذا مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، نعم يدل على استحباب ضرب جميع الكفين بالأرض، والله أعلم. الراجح: جواز مسح الوجه واليدين بيد واحدة أو بعض يده، أو بخرقة ونحوها بعد ضربها بالتراب؛ كما لو يممه غيره بإذنه. ¬

(¬1) كشاف القناع (1/ 179). (¬2) شرح العمدة (1/ 203). (¬3) البخاري (338)، ومسلم (368).

الفرض الثاني: في حكم الترتيب

الفرض الثاني: في حكم الترتيب اختلف العلماء في حكم الترتيب في التيمم، بأن يمسح وجهه أولاً، ثم يديه، فقيل: الترتيب مسنون، وليس بواجب، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: الترتيب فرض، بأن يقدم وجهه، ثم يديه وهو مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬

(¬1) قال في المبسوط (1/ 121): " وإن بدأ بذارعيه في التيمم، أو مكث بعد تيمم وجهه ساعة، ثم تيمم على ذارعيه أجزأه، لأنه بدل عن الوضوء، وقد بينا أن الترتيب والموالاة في الوضوء مسنون، لا يمنع تركه الجواز، فكذلك في التيمم ". وانظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 48)، البحر الرائق (1/ 152). (¬2) مواهب الجليل (1/ 356)، الخرشي (1/ 194)، الخلاصة الفقهية (ص: 42)، التاج والإكليل (1/ 356). (¬3) قال في الإنصاف (1/ 287): " قال المجد في شرحه: قياس المذهب عندي أن الترتيب لا يجب في التيمم، وإن وجب في الوضوء؛ لأن بطون الأصابع لا يجب مسحها بعد الوجه في التيمم بالضربة الواحدة، بل يعتد بمسحها معه، واختاره في الفائق، قال ابن تميم: وهو أولى ". وانظر المبدع (1/ 222). (¬4) قال النووي في المجموع (2/ 268): " قال أصحابنا: أركان التيمم ستة متفق عليها، وهي النية، ومسح الوجه واليدين، وتقديم الوجه على اليدين، والقصد إلى الصعيد ونقله .. ". وانظر: مغني المحتاج (1/ 99)، كفاية الأخيار (1/ 60). (¬5) الإنصاف (1/ 287)، المبدع (1/ 222)،

دليل من قال: إن الترتيب مسنون

وقيل: إن تيمم بضربتين: وجب الترتيب، وإن تيمم بضربة واحدة لم يجب، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: يقدم في التيمم اليدان قبل الوجه، وهو قول الأعمش (¬2). دليل من قال: إن الترتيب مسنون: الدليل الأول: لا يوجد دليل على أن الترتيب واجب، والأصل عدم التكليف حتى يقوم دليل على الوجوب. الدليل الثاني: لو كان الترتيب واجباً لعبر الله عنه بـ (ثم) المفيدة للترتيب، ولقال سبحانه وتعالى: فامسحوا بوجوهكم ثم أيديكم، فلما قال سبحانه وتعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬3)، وطلب مسح الوجه والأيدي بالواو، والواو في اللغة لا تقتضي ترتيباً، وإنما تقتضي مطلق التشريك، مثله لو قلت لك: اشتر لي خبزاً ولحماً. فإذا اشتريت اللحم قبل الخبز فقد امتثلت الأمر. الدليل الثالث: (1453 - 85) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن سلام، قال: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال: ¬

(¬1) جاء في الإنصاف (1/ 287): " قال في الحاوي الكبير: إن تيمم بضربتين وجب الترتيب، وإن تيمم بضربة واحدة لم يجب، قال ابن عقيل: رأيت التيمم بضربة واحدة قد أسقط ترتيباً مستحقاً في الوضوء، وهو أنه يعتد بمسح باطن يديه قبل مسح وجهه". (¬2) المحلى (1/ 379) مسألة: 253. (¬3) المائدة: 6.

كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه ... الحديث وفيه مناظرة بين عبد الله ابن مسعود وبين أبي موسى (¬1). [قال أحمد: رواية أبي معاوية عن الأعمش في تقديم مسح الكفين على الوجه غلط] (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (347)، والحديث في مسلم بغير هذا اللفظ. (¬2) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 292)، رواه أبو معاوية، عن الأعمش، واختلف فيه على أبي معاوية. فرواه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كما في المسند (4/ 264). ومحمد بن سلام كما في صحيح البخاري (347)، ومحمد بن سليمان الأنباري كما في سنن أبي داود (321)، عن أبي معاوية، عن الأعمش به. بذكر تقديم مسح اليدين على الوجه. ورواه ابن أبي شيبة كما في المصنف (1/ 146) ومن طريقه مسلم (368). ويحيى بن يحيى وابن نمير كما في صحيح مسلم (368). وإسحاق بن راهوية كما في صحيح ابن حبان (1304)، وتغليق التعليق (2/ 192). ويوسف بن موسى كما في صحيح ابن خزيمة (270) ومحمد بن العلاء كما في سنن النسائي (320) ستتهم رووه عن أبي معاوية به، ولم يذكروا تقديم اليدين على الوجه. هذا بيان الاختلاف على أبي معاوية، وقد رواه غير أبي معاوية عن الأعمش، ولم يذكروا ما ذكره أبو معاوية، منهم: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الأول: شعبة بن الحجاج، كما في مسند أحمد (4/ 265) صحيح البخاري (345)، والبيهقي (1/ 215) من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة. إلا أنه لم يذكر صفة التيمم. الثاني: يعلى بن عبيد، كما في مسند أحمد (4/ 265)، وأبي عوانة (1/ 304 - 305)، ومسند الشاشي (1025)، وصحيح ابن حبان (1304، 1307)، وسنن البيهقي (1/ 211). الثالث: عبد الواحد بن زياد، كما في مسند أحمد (4/ 265)، وصحيح مسلم (368)، وأبي عوانة (1/ 304)، ومسند الشاشي (1026)، وابن حبان (1305). الرابع: حفص بن غياث، كما في صحيح البخاري (346). الخامس: الوليد بن قاسم الهمداني، كما في مسند أبي عوانة (1/ 303 - 304)، خمستهم رووه عن الأعمش به، ولم يذكروا تقديم اليدين على الوجه بلفظ (ثم). وأبو معاوية، وإن كان من أثبت أصحاب الأعمش، إلا أن الثقة قد يخطئ، خاصة أن أبا معاوية نفسه قد اختلف عليه، فتارة يرويه بلفظ (ثم) وتارة يرويه بالواو، ولهذا خطأ الإمام أحمد أبا معاوية في التعبير بثم، كما نقله ابن رجب، ونقلته عنه، والله أعلم. قال ابن رجب في شرحه للبخاري (2/ 291): " وفي حديث أبي معاوية الذي خرجه البخاري ها هنا شيئان أنكرا على أبي معاوية: أحدهما: ذكره مسح وجهه بعد مسح الكفين، فإنه قال: " ثم مسح وجهه ". وقد اختلف في هذه اللفظة على أبي معاوية، وليست هي في رواية مسلم، كما ذكرنا. وكذلك خرجه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية، ولفظ حديثه: " إنما كان يكفيك أن تقول: هكذا" وضرب بيده على الأرض ضربة، فمسح كفيه، ثم نفضهما، ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله، على كفيه ووجهه ". وخرجه أبو داود، عن محمد بن سليمان الأنباري، عن أبي معاوية، ولفظه: " إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بيده على الأرض، فنفضها، ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه ". واختلف على أبي معاوية في ذكر مسح الوجه، وعطفه هل هو بالواو، أو بلفظة (ثم)؟ وقد قال الإمام أحمد في رواية أحمد بن عبدة: رواية أبي معاوية، عن الأعمش في تقديم مسح الكفين على الوجه غلط. =

دليل من قال: يجب الترتيب

وإذا كان في هذا الدليل اعتراض، فإن الأدلة السابقة كافية في الاستدلال بعدم وجوب الترتيب، والله أعلم. دليل من قال: يجب الترتيب: استدلوا بقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬1)، فبدأ بالوجه. (1454 - 86) وقد روى النسائي رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا علي بن حجر، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف سبعاً، ورمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم قرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " فصلى سجدتين، وجعل المقام بينه وبين الكعبة، ثم استلم الركن، ثم خرج، فقال: إن الصفا والمروة من شعائر الله، فابدأوا بما بدأ الله به (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نبدأ بما بدأ الله به، والأصل في الأمر الوجوب، وقد بدأ الله بذكر الوجه قبل اليدين، فيكون الترتيب امتثالاً للأمر النبوي بتقديم ما قدمه الله، وتأخير ما أخره الله. ¬

= الثاني: أنه ذكر أن أبا موسى هو القائل لابن مسعود: إنما كرهتم هذا لهذا؟ فقال ابن مسعود: نعم. وقد صرح بهذا في رواية أبي داود، عن الأنباري المشار إليها. وإنما روى أصحاب الأعمش منهم حفص بن غياث، ويعلى بن عبيد، وعبد الواحد بن زياد أن السائل هو الأعمش، والمسئول هو شقيق أبو وائل ". اهـ (¬1) المائدة: 6. (¬2) سنن النسائي (2962).

دليل الأعمش على وجوب تقديم اليدين على الوجه

وأجيب: [بأن المحفوظ من لفظ الحديث أنه بلفظ الخبر: نبدأ بما بدأ الله به، فلا حجة فيه] (¬1). دليل الأعمش على وجوب تقديم اليدين على الوجه: إن ثبت هذا القول عن الأعمش، فربما أخذه مما رواه الأعمش عن أبي وائل. (1455 - 87) فقد روى البخاري من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه ... الحديث وفيه مناظرة بين عبد الله ابن مسعود وأبي موسى (¬2). ¬

(¬1) الحديث مداره على جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر. فرواه إسماعيل بن جعفر ابن أبي كثير، عن جعفر بن محمد بلفظ الأمر، وخالفه يحيى بن سعيد القطان ومالك بن أنس، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ووهيب بن خالد، وابن أبي حازم، وابن عيينة، والقاسم بن معن، كل هؤلاء رووه بلفظ الخبر: نبدأ بما بدأ الله به، والواقعة واحدة حيث لم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا حجة الوداع، وقد سبق تخريج كل هذه الطرق في كتاب الوضوء، في حكم الترتيب بين أعضاء الوضوء، فانظره هناك مشكوراً. (¬2) صحيح البخاري (347)، والحديث في مسلم بغير هذا اللفظ.

دليل من قال: إن تيمم بضربتين كان الترتيب واجبا، وإلا فلا

وقد بينا أن هذه اللفظة قد بين الإمام أحمد أنها غلط، وإن كان أبومعاوية من أثبت أصحاب الأعمش، وهو مقدم على غيره في حديث الأعمش يرجع إليه فيه عند اختلاف أصحابه، ولكن هذا مسلم لو أن أبا معاوية نفسه لم يختلف عليه في لفظه، فلما اختلف على أبي معاوية نفسه دل على أنه لم يضبط، والثقة قد يخطئ، ولو سلمت صحة رواية أبي معاوية على الأعمش، فإن الترتيب هذا في تقديم اليدين على الوجه مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب، وظاهر القرآن تقديم الوجه، وهو يدل على أنه إن قدم الوجه على اليدين عملاً بكتاب الله تعالى فحسن، وإن قدم اليدين على الوجه عمل بلفظ أبي معاوية عن الأعمش فحسن أيضاً، ولا يدل على وجوب تقديم اليدين على الوجه، وهو ظاهر، والله أعلم. دليل من قال: إن تيمم بضربتين كان الترتيب واجباً، وإلا فلا: استدل لقوله بأن بطون الأصابع لا يجب مسحها بعد مسح الوجه، فإذا وقع مسح باطن الأصابع مع مسح وجهه أخل بالترتيب. قال ابن عقيل: رأيت التيمم بضربة واحدة قد أسقط ترتيباً مستحقاً في الوضوء، وهو أنه يعتد بمسح باطن يديه قبل مسح وجهه (¬1). قلت: في هذا دليل على أن الترتيب ليس واجباً، وليس معناه أن نقول بوجوب الترتيب إن كان التيمم بضربتين، والله أعلم. ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 287)

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف. القول بعدم وجوب الترتيب أقوى من حيث النظر، كما أن الأثر لا يدل على وجوب الترتيب، والأصل عدم الوجوب، والله أعلم.

الفرض الثالث: في حكم الموالاة

الفرض الثالث: في حكم الموالاة اختلف العلماء في حكم الموالاة بين الوجه واليدين في طهارة التيمم، فقيل: سنة مطلقاً في التيمم من الحدث الأصغر والأكبر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وأصح الأقوال في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: فرض مطلقاً في الحدث الأصغر والأكبر، وهو مذهب المالكية (¬4). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 153)، حاشية ابن عابدين (1/ 231)، واعتبر الحنفية أن تفريق التيمم أو الوضوء أو الغسل مكروه بدون عذر، وأما إذا كان التفريق بعذر فلا بأس، انظر الفتاوى الهندية (1/ 8،30) (¬2) قال النووي في المجموع (2/ 269): وأما السنن كثيرة، إحداها: التسمية. الثانية: تقديم اليد اليمنى على اليسرى. الثالثة: الموالاة على المذهب. ... ". وانظر حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 105)، (¬3) الإنصاف (1/ 287). (¬4) وكما ذهب المالكية إلى وجوب الموالاة بين أجزاء التيمم، ذهبوا إلى أبعد من هذا، فأوجبوا الموالاة بين التيمم، وبين ما فعل له من صلاة ونحوها، فإن طال الفصل أعاد التيمم. انظر الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 198)، منح الجليل (1/ 147)، الفواكه الدواني (1/ 152)، حاشية الدسوقي (1/ 157). وجاء في المدونة (1/ 44): " قلت: أرأيت إن تيمم رجل، فيمم وجهه في موضع، ويمم يديه في موضع آخر؟ قال: إن تباعد ذلك فليبتدئ التيمم، وإن لم يتطاول ذلك، وإنما ضرب لوجهه في موضع، ثم قام إلى موضع آخر قريب من ذلك، فضرب ليديه أيضاً، وأتم تيممه، فإنه يجزئه".

وقيل: فرض في الحدث الأصغر دون الأكبر، وهو مذهب الحنابلة (¬1). والكلام في أدلة هذه المسألة مقيسة على مسألة حكم الموالاة في الوضوء والغسل، فما ذكرته من أدلة هناك، هي أدلة القائلين به في هذه المسألة، فذكره هناك أغنى عن إعادته هنا، ولله الحمد. وقد رجحت هناك أن الموالاة واجبة، وتسقط بالعذر كغيرها من الواجبات، لأن التيمم عبادة واحدة، فلا يفرق بين أفعالها، والله أعلم. ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 287)، الفروع (1/ 225)، كشاف القناع (1/ 175).

الباب السادس: في سنن التيمم

الباب السادس: في سنن التيمم الفصل الأول: في التسمية سبق لنا خلاف أهل العلم في حكم التسمية في الوضوء وفي الغسل، وسوف نعرض في هذا الفصل حكم التسمية في بدلهما: وهو التيمم، فقد اختلف العلماء فيها إلى أقوال. فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، اختارها ابن قدامة (¬4). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 36)، الجوهرة النيرة (1/ 22)، البحر الرائق (1/ 153)، الفتاوى الهندية (1/ 30). (¬2) المجموع (1/ 261)، نهاية المحتاج (1/ 301)، المقدمة الحضرمية (ص: 50). (¬3) قال ابن قدامة في المغني (1/ 73): " ظاهر مذهب أحمد رضي الله عنه أن التسمية مسنونة في طهارة الأحداث كلها، رواه عنه جماعة من أصحابه، وقال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه: أنه لا بأس به، يعني: إذا ترك التسمية " اهـ فقوله: في طهارة الأحداث كلها، يدخل فيه الوضوء والغسل والتيمم. (¬4) قال ابن قدامة في المغني (1/ 72): " التسمية في الوضوء غير واجبة في الصحيح " ثم قال أيضاً (1/ 160): " والحكم في التسمية - يعني في التيمم - كالحكم في الوضوء ".

وقيل: التسمية من فضائل الوضوء، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا تشرع التسمية في الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، ¬

(¬1) المدخل لابن الحاج (1/ 177)، (¬2) يقول البقوري في كتابه ترتيب الفروق واختصارها (1/ 368): " أفعال العباد إما قربات، وإما محرمات، وإما مكروهات، وإما مباحات: فالمباحات: جاءت البسملة في بعضها، كالأكل والشرب والجماع، والحث على ذلك في بعضها آكد من بعض، ولم يأت (أي الحث) في كل شيء من المباح، وأما لم يأت فيه فحسن للإنسان أن يستعمله ليجد بركة ذلك. وأما المحرمات والمكروهات فيكره له التسمية عند الشروع فيها، من حيث قصد البركة بها، وذلك لا يراد في الحرام والمكروه، بل المراد من الشرع عدمه وتركه. وأما القربات فقد جاء في بعضها وأكد فيه كالذبح، وجاء عند قراءة القرآن، واختلف فيه في بعضها، كالغسل والوضوء والتيمم .... الخ كلامه رحمه الله تعالى. فعلم من كلامه هذا أن التسمية مختلف في مشروعيتها في الغسل والوضوء والتيمم، وهو ما أريد أن يطلع عليه القارئ ليعلم أن إنكار التسمية في الوضوء والغسل والتيمم كان ثابتاً من لدن السلف. وجاء في حاشية العدوي (1/ 182): ولم ير بعض العلماء القول بالبداءة بالتسمية من الأمر المعروف عند السلف، بل رآه من الأمر المنكر. وقد نقل عن مالك ثلاث روايات: إحداها، وبها قال ابن حبيب: الاستحباب. الثانية: الإنكار، وقال: أهو يذبح؟ الثالثة: التخيير. اهـ بتصرف يسير. وفي الذخيرة (1/ 284): " قال صاحب الطراز: استحسنها مالك رحمه الله، وأنكرها مرة، وقال: أهو يذبح؟ ما علمت أحداً يفعل ذلك، ونقل ابن شاس عنه التخيير، وعن ابن زياد الكراهة ... ". وفي النوادر والزيادات (1/ 20): قال علي: قال مالك: ما أعرف التسمية في الوضوء، وأنكرها، واستحب ذلك علي بن زياد ... ". وإذا أنكرت التسمية في الوضوء كان إنكاره لسائر الأحداث من باب أولى؛ لأن الآثار الضعيفة في استحبابها إنما وردت في الوضوء، ولم =

دليل من قال: التسمية سنة

وهو الراجح. وقيل: تجب التسمية مع الذكر، وتسقط بالنسيان، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: تباح التسمية في الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). دليل من قال: التسمية سنة: الدليل الأول: (1456 - 88) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع (¬3). [إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب] (¬4). وقد قال القرافي في كتابه الفروق: " فأما ضابط ما تشرع فيه التسمية ¬

= ترد التسمية في الغسل أو في التيمم لا في حديث صحيح ولا في حديث ضعيف، وإنما من استحبها أو أوجبها في سائر الأحداث إنما كان ذلك قياساً على الوضوء، فإذا سقطت في الوضوء، سقطت مشروعيتها في سائر الطهارة، وانظر التاج والإكليل (1/ 266)، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (ص:45). واعتبر ابن ناجي التسمية في الطهارة من الأمر المنكر، انظر تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/ 478). (¬1) الإنصاف (1/ 288)، المحرر (1/ 22)، (¬2) تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة (1/ 478). (¬3) المسند (2/ 359). (¬4) سبق تخريجه، انظر كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم: 105.

الدليل الثاني

من القربات، وما لم تشرع فيه فقد وقع بحث مع جماعة من الفضلاء، وعسر تحرير ذلك وضبطه، ثم قال: والقصد من هذا الفرق بيان عسره والتنبيه على طلب البحث عن ذلك، فإن الإنسان قد يعتقد أن هذا لا إشكال فيه، فإذا نبه على الإشكال استفاده، وحثه ذلك على طلب جوابه " (¬1). الدليل الثاني: استحسان التسمية على كل شيء، قال في النوادر: " لا يأتي - يعني: ذكر التسمية - من طريق صحيح، والتسمية في كل شيء حسنة ". قلت: استحسان التسمية في كل شيء قول ليس بالصواب، بل المطلوب اتباع الشرع، فما تركت فيه التسمية كانت السنة تركه، وما فعلت فيه التسمية كانت السنة فعله، ثم ما ثبت فيه فعل التسمية ننظر فيه، فإن ورد فيه ما يدل على الشرطية كقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} (¬2)، اعتبرنا التسمية شرطاً في حلها، وما لم يرد ما يدل على الشرطية، فإن كان فيه ما يدل على الوجوب، اعتبرنا التسمية واجبة، وإلا بقيت على الاستحباب، وليس كل عبادة مشروعة تكون التسمية فيها مشروعة، فالتسمية في العبادات منها ما هو شرط كالذبح، ومنها ما هو مستحب كما في قراءة القرآن إذا افتتحت القراءة بأول السورة، بل قد تستحب في بعض المباحات كالأكل والشرب، ومنها ما هو بدعة، كالتسمية في الأذان وفي الإقامة وفي الصلاة وفي الحج والعمرة ونحوها، فليس كل فعل تشرع فيه التسمية. ¬

(¬1) أنواع البروق في أنواع الفروق (1/ 132). (¬2) الأنعام: 121.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: وردت أحاديث كثيرة في مشروعية التسمية في الوضوء، بلفظ: (لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ورد ذلك من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن زيد، وأنس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وإن كان في أسانيدها مقال، فإنها صالحة للحجة بالمجموع (¬1). فإذا ثبتت التسمية في طهارة الماء، كانت التسمية مشروعة في التيمم، لأنه بدل عن طهارة الماء (¬2). وأجيب: لا نسلم أن التسمية مشروعة في الطهارة المائية، وقد تقدم بحث التسمية في الطهارة المائية من وضوء وغسل، وتبين أن التسمية فيهما غير مشروعة، وإذا بطل الأصل بطل الفرع، ولو أخذنا بظاهر أحاديث " لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " لقلنا: إن التسمية شرط في صحة الوضوء، من تركها ولو سهواً لم يصح وضوؤه، وكان لزاماً عليهم القول بأن منزلة التسمية في الوضوء، كمنزلة الوضوء للصلاة، ولما لم تكن هذه الأحاديث بتلك الصحة لم يذهب الجمهور إلى أن التسمية شرط، بل لم يذهبوا إلى القول بالوجوب إلا رواية عن الإمام أحمد، وعليه فنقول لهم: لا تحتجوا علينا بأحاديث أنتم أنفسكم لا تقولون بمقتضاها، والله المستعان. ¬

(¬1) وقد تم تخريجها والكلام على أسانيدها في كتاب الوضوء، فأغنى عن إعادته هنا. (¬2) انظر بتصرف: المبدع (1/ 194).

دليل الحنابلة على وجوب التسمية مع الذكر

دليل الحنابلة على وجوب التسمية مع الذكر: لما كان الحنابلة يوجبون التسمية في الطهارة الصغرى، أوجبوها في بدلها، وهو التيمم، فإذا ثبتت التسمية في طهارة الأصل ثبتت في طهارة البدل؛ لأن البدل له حكم المبدل. ويجاب عن ذلك: أولاً: لم تثبت مشروعية التسمية في الوضوء حتى يثبت حكمها في التيمم هذا من جهة. ومن جهة أخرى على القول بثبوت التسمية في الوضوء، وهو قول ضعيف، فلا يلزم منه ثبوت التسمية في التيمم، قال شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى: " قد يعارض في هذا، فيقال: إن التيمم ليس له حكم المبدل في وجوب تطهير الأعضاء؛ لأن التيمم إنما يطهر فيه عضوان فقط: الوجه والكفان في الحدث الأصغر والأكبر، فلا يقال: ما وجب في طهارة الماء وجب في طهارة التيمم، لكن الاحتياط أولى، فيسمي عند التيمم أيضاً، والمتأمل لحديث عمار بن ياسر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا " يستفيد منه أن التسمية ليست واجبة " (¬1). قلت: ليس الاحتياط في قول التسمية في التيمم؛ لأن الاحتياط في العبادات عدم الفعل حتى تثبت المشروعية، وذلك لأن الأصل في العبادات الحضر حتى يقوم دليل على المشروعية، وإذا استفيد من حديث عمار عدم الوجوب، كان تارك التسمية لا يلام، بينما فاعل التسمية قد يقال عنه: إنه ¬

(¬1) الشرح الممتع (1/ 184).

دليل من قال: التسمية غير مشروعة في التيمم

مبتدع، لأنه لا يوجد في التيمم حديث صحيح ولا ضعيف يذكر التسمية، وإذا اختلف في عبادة، هل هي مستحبة أو غير مشروعة كان الاحتياط تركها حتى نتيقن مشروعيتها، ويكفي أن الإمام مالكاً يقول في التسمية في الوضوء: لم أسمع بها في شيء، أهو يريد أن يذبح؟ ونقلنا كلامه أثناء تحرير الأقوال. دليل من قال: التسمية غير مشروعة في التيمم: الدليل الأول: الأصل في العبادت الحضر، حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث التيمم ليس فيها ذكر التسمية، {وما كان ربك نسياً} (¬1). الدليل الثاني: أن آية التيمم في كتاب الله سبحانه وتعالى وأحاديث التيمم التي نقلت لنا في سنة المصطفى خلو من التسمية، فلو كانت مشروعة لذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، ولما أغفل الصحابة رضي الله عنهم عن ذكرها، ولو كانت التسمية مشروعة لحفظها الله لنا، قال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (¬2)، ولم يذكر التسمية. (1457 - 89) ومنها ما رواه البخاري من طريق سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه، قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، ¬

(¬1) مريم: 64. (¬2) المائدة: 6.

القول الراجح

فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬1). فقوله: " إنما كان يكفيك هكذا " ولم يذكر التسمية، فلو كانت التسمية واجبة لما كفاه هذا الفعل. القول الراجح: القول بعدم مشروعية التسمية هو القول الذي يتمشى مع الأدلة، والأصل عدم المشروعية حتى تثبت التسمية في حديث صحيح خال من النزاع، والله أعلم. ¬

(¬1) البخاري (338)، ومسلم (368).

الفصل الثاني: في تكرار المسح في التيمم

الفصل الثاني: في تكرار المسح في التيمم سبق لنا في الوضوء خلاف العلماء في استحباب الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، فهل يشرع تكرار المسح في التيمم مرتين وثلاثاً قياساً على الوضوء؟. فقيل: لا يشرع تكرار المسح للمتيمم، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬

(¬1) قال في أحكام القرآن للجصاص (1/ 546): " التيمم مسح، فليس تكراره بمسنون، كالمسح على الخفين ومسح الرأس .. ". وقال في الجوهرة النيرة (1/ 22): " ولا يشترط تكراره - يعني التيمم - إلى الثلاث كما في الوضوء؛ لأن التراب ملوث، وليس بطهارة في الحقيقة، وإنما عرف مطهراً شرعاً، فلا حاجة إلى كثرة التلويث إذا كان المراد قد حصل بمرة " وانظر بدائع الصنائع (1/ 45). (¬2) قال الباجي في المنتقى (1/ 39) للاستدلال على أن الرأس في الوضوء لا يشرع تكراره، قال: " ودليلنا من جهة القياس: أنه ممسوح في الطهارة، فلم يسن تكراره كالتيمم والمسح على الخفين ". (¬3) قال في المجموع (2/ 269): " الزيادة على مسحة للوجه ومسحة لليدين مكروهة، وحكى الرافعي وجهاً أنه يستحب تكرار المسح كالوضوء، وليس بشيء؛ لأن السنة فرقت بينهما ... ". وقال في الحاوي (1/ 249): " فأما تكرار المسح فلا يسن في التيمم؛ لما فيه من تقبيح الوجه بالغبار. وانظر مغني المحتاج (1/ 101)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 105). (¬4) المغني (1/ 88)، الكافي في فقه أحمد (1/ 30)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 277).

دليل من قال: لا يشرع التكرار

وقيل: يستحب تكرار المسح، حكاه الرافعي وجهاً في مذهب الشافعية، وضعفه النووي (¬1). دليل من قال: لا يشرع التكرار: الدليل الأول: الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل على الاستحباب، ولا يوجد دليل على استحباب تكرار التيمم، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بمسح الوجه واليدين، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار. الدليل الثاني: أن طهارة التيمم طهارة تقوم على المسح، فهي مبنية على التخفيف، بخلاف الطهارة المائية، ولذلك لم يشرع التكرار لما هو ممسوح بالماء، كمسح الرأس ومسح الخفين ومسح الجبيرة، فكيف لما هو ممسوح بالتراب. الدليل الثالث: (1458 - 90) ما رواه البخاري من حديث عمار، وفيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬2). وجه الاستدلال: فكونه ينفخ في يديه دليل على سقوط استحباب التكرار؛ لأن تكرار المسح يستلزم تخفيف التراب على يديه، فلا يحوجه إلى نفخ يديه، فلما نفخ ¬

(¬1) المجموع (2/ 269). (¬2) البخاري (338)، ومسلم (368).

دليل من قال: يشرع التكرار

كان ذلك دليلاً على سقوط استحباب التكرار، والله أعلم. دليل من قال: يشرع التكرار: لما كان الوضوء يشرع فيه التكرار، فثبت الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، والتيمم بدل عن الماء، فيأخذ حكمه؛ لأن البدل له حكم المبدل. وقد أجبنا على هذا التعليل فيما سبق، وقلنا: إن البدل له حكم المبدل، وليس له صفة المبدل، فالمسح على الخفين بدل عن غسل الرجل، ولا يأخذ صفته، والله أعلم. الراجح: أنه لا يشرع تكرار المسح لعدم الدليل.

الفصل الثالث: في نفخ الأيدي بعد ضربهما في الأرض

الفصل الثالث: في نفخ الأيدي بعد ضربهما في الأرض اختلف أهل العلم في حكم نفخ الأيدي بعد ضربهما في الأرض، فقيل: يستحب النفخ، والغرض منه إزالة ما علق في اليدين من التراب؛ لأنه لا يجب عليه تلطيخ التراب على عضو التيمم، وهو دليل على أنه لا يشترط في التيمم التراب، وإنما يشترط الضرب من غير زيادة، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). ¬

(¬1) يستبدل الحنفية نفخ الأيدي بنفضهما، وهو لإزالة التراب العالق باليد، انظر عمدة القارئ (4/ 16 - 17)، البحر الرائق (1/ 153)، أحكام القرآن للجصاص (4/ 27)، المبسوط (1/ 106 - 107). قال في الهداية (1/ 125): " وينفض يديه بقدر ما يتناثر التراب كي لا يصير مثلة ". قال في العناية شرح الهداية (1/ 125): " والمثلة: ما يمثل به من تبديل خلقته، وتغيير هيئته، سواء كان بقطع عضو أو تسويد وجه، أو تغييره ". قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 46): " ذكر في ظاهر الرواية أنه ينفضهما نفضة، وروي عن أبي يوسف أنه ينفضهما نفضتين. وقيل: إن هذا لا يوجب اختلافاً؛ لأن المقصود من النفض تناثر التراب صيانة عن التلوث الذي يشبه المثلة، إذ التعبد ورد بمسح كفٍ مسه التراب على العضوين، لا تلويثهما به، فلذلك ينفضهما، وهذا الغرض قد يحصل بالنفض مرة، وقد لا يحصل إلا بالنفض مرتين على قدر ما يلتصق باليدين من التراب، فإن حصل المقصود بنفضة واحدة اكتفى بها، وإن لم يحصل نفض نفضتين ". وذكره مثله في تبيين الحقائق (1/ 38)، وزاد عليه: " ولا يجب عليه تلطيخ التراب على عضو التيمم؛ لأن المقصود من النفض: تناثر التراب صيانة عن التلويث الذي يشبه المثلة ". (¬2) مواهب الجليل (1/ 356)، الفواكه الدواني (1/ 157)،

وقيل: يسن النفخ من أجل تخفيف التراب إن كان كثيراً بحيث يبقى بعد النفخ من التراب قدر الحاجة، وهذا لمن يشترط التراب في التيمم، وهو مذهب الشافعية، وبعضهم اعتبره قولاً قديماً للشافعي (¬1)، وبه قال إسحاق (¬2). ويفهم من القولين أنه إذا لم يكن تراب، فلا يسن النفض (¬3). وقال أحمد: لا يضره إن فعل أو لم يفعل (¬4). وقيل: يكره نفخ التراب، وهو رواية عن أحمد (¬5). ¬

(¬1) قال النووي في المجموع وهو يذكر سنن التيمم (2/ 269): " السابعة: أن يخفف التراب المأخوذ وينفخه إذا كان كثيراً، بحيث يبقى قدر الحاجة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفخ في يديه بعد أخذ التراب، ونص عليه الشافعي والأصحاب، وقال صاحب الحاوي: نص في القديم أنه يستحب، ولم يستحبه في الجديد، فقال أصحابنا: فيه قولان: القديم يستحب، والجديد لا يستحب. وقال آخرون: على حالين: إن كان كثيراً نفخ، وإلا فلا ". اهـ وقال في مغني المحتاج (1/ 100): " ويخفف الغبار من كفيه أو ما يقوم مقامهما إن كان كثيراً بالنفض أو النفخ بحيث يبقى قدر الحاجة لخبر عمار وغيره، ولئلا تتشوه به خلقته، وأما مسح التراب من أعضاء التيمم فالأحب أن لا يفعله حتى يفرغ من الصلاة، كما نص عليه في الأم ". ‍‍‍‍ (¬2) الأوسط (2/ 55). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 231). (¬4) جاء في مسائل أبي داود لأحمد (111): " قلت لأحمد: ينفض يديه إذا ضرب بهما الأرض في التيمم؟ قال: لا يضره إن فعل، أو لم يفعل ". اهـ وانظر الأوسط لابن المنذر (2/ 55). (¬5) جاء في كتاب المسائل الفقهية من كتاب (1/ 89): " واختلفت في التيمم إذا علق على يديه تراب كثير، هل يكره له نفخ التراب ليخف ما عليها؟ =

الدليل على استحباب النفخ: (1459 - 91) ما رواه البخاري من حديث عمار بن ياسر، وفيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬1). فثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه نفخ يديه بعد أن ضربهما الأرض، واختلف العلماء، هل هذا النفخ لكونه علق بيديه شيء، فخشي عليه الصلاة والسلام أن يصيب وجهه الكريم. أو علق بيده من التراب شيء له كثرة، فأراد تخفيفه لئلا يبقى له أثر في وجهه. ويحتمل أن يكون لبيان التشريع، فهذه ثلاثة أقوال لثلاثة احتمالات (¬2). وقد سقنا لك كل مذهب ومن قاله، والذي يظهر لي أن مذهب الحنفية هو أقوى المذاهب، وقد دللنا فيما سبق أن التراب ليس شرطاً في صحة التيمم، وأن المتيمم يصح تيممه إذا ضرب جنس الأرض، سواء كان تراباً أو غيره، فإذا ضرب الأرض وكان في يديه غبار يتقيه، فلينفخه، ولا حرج؛ لأن ¬

= فنقل الميموني كراهية ذلك. ونقل جعفر بن محمد نفي الكراهية، وهو أصح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفخ عن يديه التراب، ويمكن أن تحمل كراهيته لذلك إذا كان النفخ يذهب بجميع التراب، ولا يبقى له غبار يمسح به وجهه، فإنه لا يجوز ذلك ". وجاء في مطالب أولي النهى (1/ 220): فإن علق بيديه غبار كثير نفخه إن شاء، وإلا بأن كان خفيفاً كره نفخه؛ لئلا يذهب فيحتاج إلى إعادة الضرب، فإن ذهب ما على اليدين بنفخ، أعاد الضرب ". (¬1) البخاري (338)، ومسلم (368). (¬2) فتح الباري (1/ 44)، عمدة القارئ (1/ 16).

المطلوب هو ضرب الأرض باليدين ومسح الوجه واليدين بهما، وليس نقل التراب من الأرض. ونفخ اليدين ليس واجباً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكره في آية التيمم، قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬1)، وكان ابن عمر لا ينفخ يديه، (1460 - 92) فقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أنه كان إذا تيمم ضرب بيديه ضربة على التراب، ثم مسح وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، ثم مسح بهما يديه إلى المرفقين، ولا ينفض يديه من التراب. قال عبد الرزاق: وبه نأخذ (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) المصنف (817). (¬3) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 48)، والدارقطني في سننه (1/ 182). وروي مرفوعاً، وهو ضعيف جداً، انظر الدراقطني (1/ 181، 182)، والحاكم (1/ 179 - 180). وانظر إتحاف المهرة (9567).

الفصل الرابع: في استحباب تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى

الفصل الرابع: في استحباب تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى ذهب الفقهاء إلى استحباب التيامن في التيمم، وهو تقديم مسح اليد اليمنى على اليد اليسرى (¬1). واعتبر المالكية ذلك من فضائل التيمم (¬2). ومستند هذا الاستحباب: (1461 - 93) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. ورواه مسلم بنحوه (¬3). ¬

(¬1) قال ابن نجيم من الحنفية في البحر الرائق (1/ 153 - 154): " وسنن التيمم سبعة .. وهي التيامن كما في جامع الفتاوى والمجتبى ". وانظر في مذهب الشافعية: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (ص: 82)، غاية البيان في شرح ألفاظ ابن رسلان (ص: 64)، مغني المحتاج (1/ 100). قال في كفاية الأخيار (1/ 61): وسننه: ثلاثة أشياء: التسمية، وتقديم اليمنى على اليسرى، والموالاة .. ". وفي مذهب الحنابلة: قال في مطالب أولى النهى (1/ 220): وسنن تيمم: ترتيب ... وتقديم يد يمنى على يد يسرى في مسح، لا في ضرب ". وتقدم لنا الصفة المستحبة عند الحنابلة في مسح الكف، بأن يضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهر كفه الأيمن .. انظر المبدع (1/ 231). (¬2) الشرح الكبير (1/ 158)، الفواكه الدواني (1/ 152)، منح الجليل (1/ 155). (¬3) صحيح البخاري (168)، ومسلم (268).

فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستحب التيمن في الطهور، فقد جاء عن المصطفى أن التيمم طهور المسلم ما لم يجد الماء، فثبت استحباب تقديم اليمين فيه، والله أعلم. (1462 - 94) ومنه ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن شقيق، وفيه ذكر مناظرة بين أبي موسى وعبد الله بن مسعود، فكان منه أن قال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بيده على الأرض، فنفضها، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه؟ فقال له عبد الله: أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار (¬1). [حديث عمار صحيح بالجملة، وتقديم مسح اليدين على الوجه انفرد به أبو معاوية عن الأعمش، وليس بمحفوظ] (¬2). وقال النووي: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب تقديم اليمنى في كل ما هو من باب التكريم كالوضوء، والغسل ولبس الثوب، والنعل والخف، والسراويل، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس والسلام من الصلاة، والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، والأخذ والعطاء، وغير ذلك مما هو في معناه. ¬

(¬1) سنن أبي داود (321). (¬2) سبق تخريجه في حكم الترتيب بين أعضاء التيمم.

ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كالامتخاط والاستنجاء، ودخول الخلاء، والخروج من المسجد، وخلع الخف والسراويل والثوب والنعل، وفعل المستقذرات، وأشباه ذلك. وقال ابن تيمية: قد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة كالوضوء والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك، ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال والترجل، ودخول المسجد والمنزل، والخروج من الخلاء، ونحو ذلك. وتقدم اليسرى في ضد ذلك، كدخول الخلاء، وخلع النعل، والخروج من المسجد، والذي يختص بإحداهما إن كان بالكرامة كان باليمين، كالأكل والشرب والمصافحة، ومناولة الكتب، وتناولها، ونحو ذلك (¬1). وإن كان ضد ذلك كان باليسرى، كالاستجمار، ومس الذكر، والاستنثار، والامتخاط، ونحو ذلك. اهـ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 108).

الفصل الخامس: في تجديد التيمم

الفصل الخامس: في تجديد التيمم ذهب عامة الفقهاء إلى أنه لا يستحب تجديد التيمم (¬1)، وقيل: يستحب التجديد، وهو أضعف الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). دليل من قال: لا يستحب: استدلوا: بعدم الدليل على المشروعية، والأصل في العبادات المنع. واستدلوا أيضاً: بأن المقصود من تجديد الوضوء النظافة ورفع الحدث، والتيمم طهارة ضرورة، وهو ملوث. والتعليل الأول أصح. واستدل من استحب التجديد: بالقياس على الوضوء، ولأنه بدل عنه، والبدل له حكم المبدل. والصحيح الأول، ولم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فعله، ولا من قوله أن طلب تجديد التيمم، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للعبادة سنة كفعله لها. وهذه المسألة مما يخالف فيه التيمم الوضوء؛ مع أنه بدل عنه، وهذا يدلك على أن القاعدة التي تقول: البدل له حكم المبدل، ليست على إطلاقها. ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 8)، المغني (3/ 120)، المجموع (1/ 487)، وقال في كشاف القناع (1/ 89): " ولا يسن تجديد تيمم وغسل لعدم وروده ". (¬2) حلية العلماء (1/ 188 - 189)، روضة الطالبين (1/ 123)، قال النووي في شرح صحيح مسلم (3/ 178): " وفي استحباب تجديد التيمم وجهان، أشهرهما: لا يستحب، وصورته في الجريح والمريض ونحوهما ممن يتيمم مع وجود الماء، ويتصور في غيره، إذا قلنا: لا يجب الطلب لمن تيمم ثانياً في موضعه، والله أعلم ".

الفصل السادس: في استقبال القبلة حال التيمم

الفصل السادس: في استقبال القبلة حال التيمم اعتبر المالكية استقبال القبلة حال التيمم من الفضائل (¬1). واعتبره الشافعية من الآداب (¬2)، ولا فرق بين الفضائل والآداب. وقد سبق أن الأئمة الأربعة على استحباب استقبال القبلة حال الوضوء، ولم أجد أحداً حكى الإجماع على استحباب استقبال القبلة إلا أن ابن مفلح قال: ولا تصريح بخلافه، وهو متجه في كل طاعة إلا لدليل. اهـ وهذه العبارة ليست حكاية للإجماع والله أعلم، خاصة إذا علمنا أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتحرى القبلة عند فعل الوضوء، ولا أمر به من قوله - صلى الله عليه وسلم -، والاستحباب لا يثبت إلا بدليل من فعله أو قوله عليه الصلاة والسلام. والقياس في العبادات من أضعف القياسات، وإذا لم يثبت استحباب استقبال القبلة في الوضوء، فكذلك الشأن في التيمم، ولا أعلم لهم دليلاً من كتاب أو سنة على هذا الاستحباب، والاستحباب حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، فإذا لم يوجد لم يكن استحبابه جيداً، ولا أعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بقوله، أو كان من فعله أنه إذا أراد أن يتيمم استقبل القبلة. ¬

(¬1) قال في الشرح الكبير (1/ 158) " ثم شرع في فضائله بقوله: " وندب تسمية ... واستقبال قبلة .. ". وانظر الشرح الصغير (1/ 189). (¬2) قال النووي في المجموع (2/ 375): " والآداب ثلاثة: استقبال القبلة ... ، والابتداء بأعلى الوجه وبالكفين في اليدين .. ".

ولو كان هذا في الدعاء لقيل له دليل إيجابي على ذلك، فقد استقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكعبة حين دعا على الصفا وكذا حين دعا على المروة، كما استقبل القبلة بعد رميه الجمرة الأولى والوسطى من اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وأما استقبال القبلة حين الوضوء أو التميم فلا أعلم له أصلاً من الشرع، والله أعلم.

الفصل السابع: في إقبال اليدين وإدبارهما في التراب حال الضرب

الفصل السابع: في إقبال اليدين وإدبارهما في التراب حال الضرب ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى استحباب إقبال اليدين وإدبارهما حال الضرب، مبالغة في الاستيعاب، ومعنى ذلك: أن يحركهما بعد الضرب أماماً وخلفاً مبالغة في إيصال التراب إلى أثناء الأصابع (¬1). ولا أعلم دليلاً من الكتاب ولا من السنة على إستحباب هذه الصفة، وهذا التعليل غير كاف في استحباب صفة لم ينقل فعلها من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا من صحابته الكرام، ولو كانت هذه الصفة مشروعة لفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو فعلها لحفظت، ونقلت لنا. ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 36)، وحاشية ابن عابدين (1/ 231)، البحر الرائق (1/ 153).

الفصل الثامن: في البداءة بأعلى الوجه حين المسح

الفصل الثامن: في البداءة بأعلى الوجه حين المسح ظاهر الأحاديث في صفة التيمم أنه لا استحباب في البداءة بشيء من الوجه، فكيف مسح وجهه فقد امتثل الأمر، سواء بدأ بأعلى الوجه أو بأسفله أو بغير ذلك، وهذا هو الصحيح؛ لأن الاستحباب حكم شرعي، يقوم على دليل شرعي، ولم يوجد. وقد صرح جماعة من أصحاب الشافعية باستحباب البداءة بأعلى الوجه، منهم المحاملي في اللباب، والرافعي. وقال صاحب الحاوي: مذهب الشافعي أنه يبتدئ بأعلى الوجه كالوضوء. قال: ومن أصحابنا من قال: يبدأ بأسفل الوجه، ثم يستعلي؛ لأن الماء في الوضوء إذا استعلى به انحدر بطبعه، فعم جميع الوجه، والتراب لا يجري إلا بإمرار اليد، فيبدأ بأسفله ليقل ما يصير على أعلاه من الغبار؛ ليكون أجمل لوجهه، وأسلم لعينيه (¬1). ¬

(¬1) المجموع (2/ 265)، أسنى المطالب (1/ 87).

الفصل التاسع: في استحباب الصمت أثناء التيمم

الفصل التاسع: في استحباب الصمت أثناء التيمم سبق لنا أن الصمت عن كلام الناس من آداب الوضوء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، المالكية (¬2). وقيل: يكره الكلام أثناء الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وعد النووي من سنن الوضوء ترك الكلام من غير حاجة (¬5). وأما التيمم فلم أقف على استحباب الصمت فيه عند الحنفية والشافعية والحنابلة، ولم يذكروه من سنن التيمم أو من فضائله وآدابه. وذهب المالكية إلى اعتبار الصمت أثناء التيمم من فضائل التيمم (¬6)، ولا ¬

(¬1) قال الزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 6، 7): ومن آداب الوضوء استقبال القبلة وذكر أشياء، ثم قال: وأن لا يتكلم فيه بكلام الناس. الخ وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 126). (¬2) انظر التاج والإكليل (1/ 369، 370)، والخرشي (1/ 137) حيث اعتبروا ترك الكلام من فضائل الوضوء. (¬3) قال القاضي عياض في شرح صحيح مسلم أن العلماء كرهوا الكلام في الوضوء والغسل. (¬4) الآداب الشرعية (1/ 335)، الإنصاف (1/ 137)، وفسر ابن مفلح في الفروع (1/ 152) الكراهة بترك الأولى. (¬5) قال النووي في المجموع (1/ 489): سنن الوضوء ومستحباته منها، ثم ذكر: وأن لا يتكلم فيه لغير حاجة. اهـ وانظر حاشية الجمل (1/ 133). (¬6) الخرشي (1/ 195)، الفواكه الدواني (1/ 152).

أعلم له دليلاً من الكتاب أو السنة على هذا الاستحباب، ولا أعرف أحداً غير المالكية اعتبروا الصمت من فضائل التيمم، فإن كانوا قاسوه على الوضوء، فلم يثبت النهي عن الكلام في الوضوء حتى يثبت في التيمم، (1463 - 95) وقد روى البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالك بن أنس، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره، أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره قالت: فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد. الحديث. ورواه مسلم (¬1). فهذا في الكلام أثناء الغسل، والوضوء والتيمم مثله. ¬

(¬1) البخاري (357)، مسلم (336).

الباب السابع: في مبطلات التيمم

الباب السابع: في مبطلات التيمم الفصل الأول: يبطل التيمم ما يبطل الوضوء سبق لنا نواقض الوضوء المتفق عليها والمختلف فيها، فما أجمع عليه العلماء على أنه يبطل الوضوء فإنه يبطل التيمم بالإجماع، كالبول والغائط والريح. وما اختلف في نقضه للوضوء اختلف في نقضه للتيمم، والترجيح هناك لا يختلف عن الترجيح هنا، فما رجحنا أنه مبطل للوضوء فإنه مبطل للتيمم، وما ترجح لنا أنه لا يبطل الوضوء فلا يبطل التيمم. ويبطل التيمم عن الحدث الأكبر بما يوجب الغسل، وقد قدمنا في كتاب الغسل موجباته المتفق عليها والمختلف فيها. قال ابن حزم:» وكل حدث ينقض الوضوء فإنه ينقض التيمم، هذا مما لا خلاف فيه من أحد من أهل الإسلام «(¬1). وقال في بدائع الصنائع:» وأما بيان ما ينقض التيمم، فالذي ينقض ¬

(¬1) المحلى: مسألة: 233.

التيمم نوعان: عام، وخاص، أما العام: فكل ما ينقض الوضوء من الحدث الحقيقي والحكمي ينقض التيمم «(¬1). وقال المرداوي الحنبلي:» وأما مبطلات التيمم، فيبطل التيمم عن الحدث الأصغر بما يبطل الوضوء بلا نزاع، ويبطل التيمم عن الحدث الأكبر بما يوجب الغسل، وعن الحيض والنفاس بحدوثهما، فلو تيممت بعد طهرها من الحيض له، ثم أجنبت: جاز وطؤها لبقاء حكم تيمم الحيض، والوطء إنما يوجب حدث الجنابة على ما تقدم «(¬2). ولو تيمم للحدث الأصغر والأكبر معاً، ثم أحدث، فقيل: يبطل تيممه عن الحدث الأصغر، ويبقى تيممه عن الحدث الأكبر، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وقيل: يبطل تيممه كله، ويعود جنباً، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬6). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 56). (¬2) الإنصاف (1/ 297). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 255)، المبسوط (1/ 114)، وقال في الدر المختار (1/ 255): " فلو تيمم للجنابة، ثم أحدث صار محدثاً، لا جنباً ... ". (¬4) حواشي الشرواني (1/ 371)، (¬5) قال في كشاف القناع (1/ 176)» وإن تيمم للجنابة والحدث، ثم أحدث بطل تيممه للحدث، وبقي تيمم الجنابة «، وانظر الإنصاف (1/ 290)، ومطالب أولي النهى (1/ 213)، المغني (1/ 167). (¬6) الخرشي (1/ 195)، مواهب الجليل (1/ 357)، وقال في حاشية الدسوقي (1/ 158): "واعلم أن التيمم يبطل بكل ما أبطل الوضوء، ولو كان ذلك التيمم لحدث أكبر، =

تعليل الجمهور

تعليل الجمهور: أنه لو اغتسل من الجنابة بنية رفع الحدثين، ارتفعا، فإذا أحدث لم يعد إليه الحدث الأكبر، فكذلك التيمم. وتعليل المالكية: بأن التيمم مبيح لا رافع، فإذا تيمم للحدثين، ثم أحدث بطل تيممه، فإذا بطل تيممه رجع إلى حالته قبل التيمم، وهو كونه جنباً. والتعليل الأول أرجح، خاصة أننا رجحنا أن التيمم مطهر، وأنه بدل عن طهارة الماء، فيقوم البدل مقام المبدل إلا ما نص عليه الدليل. ¬

_ = فنواقض الوضوء وإن كانت لا تبطل الغسل، لكنها تبطل التيمم الواقع بدلاً عنه، ويعود جنباً على المشهور من أنه لا يرفع الحدث، وثمرته أنه ينوي التيمم بعد بذلك من الحدث الأكبر، ولو قلنا: إنه لا يعود جنباً ينوي التيمم من الحدث الأصغر، وثمرته أيضاً: أنه إن عاد جنباً لا يقرأ القرآن ظاهراً، وإن قلنا: لا يعود جنباً يقرؤه ظاهراً ".

الفصل الثاني: يبطل التيمم وجود الماء

الفصل الثاني: يبطل التيمم وجود الماء المبحث الأول: وجود الماء قبل الصلاة إذا تيمم الرجل، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة، فهل وجود الماء يبطل تيممه؟. قيل: إذا وجد الماء بطل تيممه، وهو قول عامة أهل العلم (¬1). وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن والشعبي: إذا فرغ من التيمم لا يبطل بوجود الماء (¬2). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: أحكام القرآن للجصاص (2/ 540)، المبسوط (1/ 111)، بدائع الصنائع (1/ 57). وانظر في مذهب المالكية: تفسير القرطبي (5/ 234)، التاج والإكليل (1/ 522)، الفواكه الدواني (1/ 159)، الخرشي (1/ 195)، مواهب الجليل (1/ 356 - 357). وفي مذهب الشافعية: الأم (1/ 48)، المجموع (2/ 349)، أسنى المطالب (1/ 88)، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/ 105). وفي مذهب الحنابلة: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 68، 69)، المبدع (1/ 227)، شرح العمدة (1/ 450). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 57)، المجموع (2/ 349)، الاستذكار (3/ 167)، مقدمات ابن رشد (1/ 116). قال ابن رجب في شرحه للبخاري (2/ 262): " وقد طرد أبو سلمة بن عبد الرحمن قوله في أنه يرفع الحدث، فقال: يصلي به، وإن وجد الماء قبل الصلاة، ولا ينتقض تيممه إلا =

دليل الجمهور

دليل الجمهور: الدليل الأول: قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فأوجب غسل هذه الأعضاء عند وجود الماء، ثم نقله إلى التراب عند عدمه، فمتى وجد الماء فهو مخاطب باستعماله بظاهر الآية (¬2). الدليل الثاني: الإجماع، قال ابن عبد البر:» أجمع العلماء أن من تيمم بعد أن طلب الماء فلم يجده، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة أن تيممه باطل، لا يجزيه أن يصلي، وأنه قد عاد بحاله قبل التيمم «(¬3). وقال القرطبي:» أجمعوا على أن من تيمم، ثم وجد الماء قبل الدخول ¬

= بحدث جديد، وكذا قال في الجنب إذا تيمم، ثم وجد الماء: لا غسل عليه. قال ابن رجب: وهذا شذوذ عن العلماء، ويرده قوله: فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، ومن العجب أن أبا سلمة ممن يقول: إن من صلى بالتيمم، ثم وجد الماء في الوقت أنه يعيد الصلاة، وهذا تناقض فاحش ". وقال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 168) بعد أن ذكر قولي أبي سلمة: " وهذا تناقض وقلة روية، ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة ". ثم ساق ابن عبد البر بإسناده إلى الزهري، قال: " كان أبو سلمة يماري ابن عباس، فحرم بذلك علماً كثيراً ". اهـ (¬1) المائدة: 6. (¬2) أحكام القرآن للجصاص (2/ 540). (¬3) الاستذكار (3/ 168).

الدليل الثالث

في الصلاة، بطل تيممه، عليه استعمال الماء «(¬1). وقال ابن المنذر: " أجمع عوام أهل العلم على أن من تيمم، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة أن طهارته تنقض، وعليه أن يتطهر، ويصلي، إلا حرف روي عن أبي سلمة فإنه فيما بلغني عنه أنه قال في الجنب، يتيمم، ثم يجد الماء، قال: لا يغتسل" (¬2). وجاء في حاشية قليبوبي وعميرة:» ومن تيمم لفقد ماء، فوجده، إن لم يكن في صلاة بطل تيممه بالإجماع «(¬3). الدليل الثالث: (1464 - 96) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬4). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬5). فقوله: " فإذا وجد الماء فليمسه بشرته " أمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوجوب مس الماء حين وجوده، وقد وجده قبل التلبس بالصلاة فوجب عليه مسه. ¬

(¬1) تفسير القرطبي (5/ 234). (¬2) الأوسط (2/ 65). (¬3) حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 105). (¬4) المصنف (913). (¬5) انظر حديث رقم (39) من كتابي أحكام الطهارة: المياه والآنية.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: أن التيمم بدل عن الماء، يراد لغيره، فإذا وجد المبدل قبل التلبس بالمقصود وجب الرجوع إليه. الدليل الخامس: سبق لنا في مبحث خاص أن التيمم مطهر إلى غاية وهو وجود الماء، ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها خلاف ما قبلها، فعند وجود الماء يصير محدثاً بالحدث السابق. دليل أبي سلمة على أنه لا يلزمه استعمال الماء. قال: إن التيمم طهارة صحيحة، ومتى صحت الطهارة فلا ينقضها إلا الحدث، وليس وجود الماء حدثاً حتى نقول ببطلان الطهارة. وأجيب بأمور منها: أولاً: القول بأن وجود الماء ليس بحدث مُسَلَّم به، ولا يصير المتيمم محدثاً بوجود الماء، وإنما الحدث السابق يظهر حكمه عند وجود الماء، وفرق بين أن يكون وجود الماء حدثاً، وبين قولنا: إنه عاد إليه حدثه السابق؛ لأن التيمم طهارة إلى حين وجود الماء، فإذا وجد الماء وجب عليه استعماله. ثانياً: أن هذا نظر في مقابل النص، فيعتبر نظراً فاسداً، لأن الدليل إذا قام على بطلان العبادة لم يعارض بالدليل النظري، (1465 - 97) فقد روى البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وفيه: " فلما انفتل - صلى الله عليه وسلم - من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم،

الراجح

قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم، قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك. ثم ذكر في الحديث قصة الماء الذي أحدثه الله تعالى آية لنبيه عليه السلام، قال: " وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، وقال: اذهب فأفرغه عليك " (¬1). وكذلك يشهد لذلك ما رواه عبد الرزاق من حديث أبي ذر، وقد سقنا لفظه في أدلة القول الأول، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [حديث حسن] (¬3). فهذه الأحاديث تشهد على أن الطهور بالتراب إنما يصح مع عدم الماء، فإذا وجد الماء فلا يصح التطهر بالتراب، وأن الحدث السابق قبل التيمم يعود إلى العبد، سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر. الراجح: القول الراجح الذي لا شك فيه أن المتيمم إذا وجد الماء قبل التلبس بالعبادة وجب عليه استعمال الماء لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ...} (¬4)، الآية فأمرت بالطهارة بالماء حين القيام إلى ¬

(¬1) البخاري (344). (¬2) المصنف (913). (¬3) سبق تخريجه انظر حديث رقم (39) من أحكام الطهارة. (¬4) المائدة: 6.

الصلاة، فإذا كان الماء موجوداً حال القيام إلى الصلاة، كان الفرض على العبد هو غسل أعضاء الوضوء في ذلك الماء، إلا أن ذلك مشروط بأن يدرك من الوقت ما يتسع لأن يتطهر بالماء، ويصلي قبل خروج الوقت، وأما إذا ضاق الوقت فإنه يصلي بالتيمم حتى ولو وجد الماء قبل الدخول في الصلاة، وقد بحثت في فصل مستقل فيما إذا خاف إن استعمل الماء أن يخرج الوقت، فهل يتيمم لإدراك فضيلة الوقت، أو يصلي الصلاة خارج الوقت لإدراك شرط الطهارة بالماء، وذكرنا أدلة كل فريق هناك، فأغنى بحثه السابق عن ذكر أدلته في هذا الفصل، والله أعلم.

المبحث الثاني: إذا وجد الماء أثناء الصلاة

المبحث الثاني: إذا وجد الماء أثناء الصلاة إذا قدر المتيمم على استعمال الماء، وهو في الصلاة، فهل يلزمه الخروج، أو يتم صلاته؟ في هذه المسألة اختلف أهل العلم، فقيل: تبطل صلاته، ويجب أن يتوضأ ويستأنف الصلاة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). وقيل: يتم صلاته، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬4)، ورواية عن ¬

(¬1) جاء في أحكام القرآن للجصاص (2/ 539): واختلف في المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: إذا وجد الماء في الصلاة بطلت صلاته، وتوضأ، واستقبل، وقال مالك والشافعي: يمضي فيها، وتجزئه ... ". وانظر: المبسوط (1/ 110)، الفروق للكرابيسي (1/ 38)، بدائع الصنائع (1/ 57)، شرح فتح القدير (1/ 385). (¬2) المستوعب (1/ 308)، الإنصاف (1/ 298)، كشاف القناع (1/ 177). (¬3) المحلى مسألة (234). (¬4) جاء في الموطأ (1/ 55): " قال مالك في رجل تيمم حين لم يجد ماء، فقام وكبر، ودخل في الصلاة، فطلع عليه إنسان معه ماء، قال: لا يقطع صلاته، بل يتمها بالتيمم، وليتوضأ لما يستقبل من الصلوات " وانظر: الإشراف (1/ 164)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 566)، وجاء في مواهب الجليل (1/ 357): " قال التلمساني: إذا قلنا: لا يجب عليه أن يقطع، فهل المذهب أنه لا يستحب له القطع، أو يستحب له القطع؟ قال ابن العربي: بل يحرم عليه ذلك، ويكون عاصياً إن فعل، وحكمه كحكمه إذا وجده بعد الصلاة، لا يستحب له أن يعيد. قال في الطراز: وهذا فيمن تيمم، وهو على إياس من الماء، وأما من تيمم، وهو يرتجي =

أحمد (¬1)،وقيل: إن أحمد رجع عن هذا القول فتكون المسألة عند الحنابلة رواية واحدة كقول الجمهور (¬2). وقيل: يتم صلاته إن كان تيممه يغنيه عن إعادة الصلاة، كما لو كان تيممه في السفر الطويل، وتبطل صلاته إن كان يجب عليه إعادة الصلاة، كما لو تيمم في الحضر، وهذا مذهب الشافعية (¬3). ¬

= الماء، فهذا لا يبعد أن يقال فيه يقطع؛ لأن الصلاة إنما أسندت إلى تخمين، وقد تبين فساده. اهـ (¬1) المستوعب (1/ 308)، الفورع (1/ 233). (¬2) جاء في المستوعب (1/ 309): " وقد نقل عنه المروذي أنه قال: كنت أقول يمضي في صلاته، ثم تدبرت الأحاديث، فإذا أكثرها أنه يخرج. قال صاحب المستوعب: وظاهر هذا أنه رجع عن قوله بالمضي، فتكون المسألة رواية واحدة في وجوب الخروج ". (¬3) قال صاحب البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 325): " وإن تيمم لعدم الماء، ودخل في الصلاة، ثم وجد الماء، فإن كان ذلك في الحضر، أو في سفر قصير، وقلنا: يلزمه الإعادة، بطلت صلاته؛ لأنه تلزمه الإعادة، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة، وإن كان في سفر طويل، أو في سفر قصير، وقلنا: لا تلزمه الإعادة، لم تبطل صلاته ". وقد ذكر صاحب البيان (1/ 322) قولين في مذهب الشافعي في وجوب الإعادة في السفر القصير، وهو السفر الذي لا يجوز فيه القصر والفطر. وقال النووي في الروضة (1/ 115): " إذا رأى الماء في الصلاة، فإن لم تكن مغنية له عن القضاء، كصلاة الحاضر بالتيمم، بطلت على الصحيح، وعلى الثاني: يتمها، ويعيد. وإن كانت مغنية كصلاة المسافر، فالمذهب المنصوص: أنه لا تبطل صلاته، ولا تيممه". وهذا التفصيل عائد إلى مذهب الشافعية في تيمم الرجل في الحضر إذا عدم الماء، وقد ذكر النووي في المجموع (2/ 352 - 353): أن مذهب الشافعية فيمن عدم الماء في الحضر أنه يصلي بالتيمم، وعليه الإعادة، وقد سبق لنا أن القول بالإعادة قول ضعيف. وقال الشافعي في الأم (1/ 48): " وإذا تيمم، فدخل في المكتوبة، ثم رأى الماء، لم يكن =

دليل من قال ببطلان الصلاة

وقيل: يتطهر، ويبني على صلاته، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال ببطلان الصلاة: الدليل الأول: (1466 - 98) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬3). فأوجب استعمال الماء إذا وجده، وهو يشمل ما إذا كان قبل الصلاة، أو في أثناء الصلاة، أو بعد الصلاة، فإذا عاد إليه حدثه السابق أثناء الصلاة بطلت صلاته. الدليل الثاني: (1467 - 99) ما رواه البخاري من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب ح وعن عباد ابن تميم، ¬

= عليه أن يقطع الصلاة، وكان له أن يتمها، فإذا أتمها توضأ لصلاة غيرها، ولم يكن له أن يتنقل بتيمم للمكتوبة إذا كان واجداً للماء بعد خروجه منها ". (¬1) الفروع (1/ 233). (¬2) المصنف (913). (¬3) انظر حديث رقم (39) من كتابي أحكام الطهارة، المياه والآنية، وهو جزء من هذه السلسلة.

الدليل الثالث

عن عمه أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. وأخرجه مسلم (¬1). احتج به البيهقي في الخلافيات، ولولا أنه ذكره لم أذكره، لأن الحديث ليس في مسألتنا. وجه الاستدلال: أن الاستثناء معيار العموم، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينصرف " نهي عن الإنصراف عن الصلاة. وقوله: "إلا أن يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " اسثناء من النهي، ولو كان له أن ينصرف لوجود الماء لذكره الحديث. والحديث إنما سيق في معرض طرح الشك، والأخذ باليقين، ونحن نقول بذلك: فلا ينصرف إذا شك في وجود الماء، أما إذا تيقن وجود الماء، فإن عليه الانصراف كما لو تيقن الحدث، ثم إن الحديث سيق جواباً على سؤال عن الشك في الحدث أثناء الصلاة، وليس في موضوع البحث. الدليل الثالث: إذا كان وجود الماء قبل الصلاة يبطل التيمم بالإجماع إلا ما روي عن أبي سلمة، فكذلك وجود الماء أثناء الصلاة يبطلها. دليل من قال: يتم صلاته. قالوا: جعل الله للطهارة وقتاً، وجعل للصلاة وقتاً غيره، فوقت الطهارة: هو وقت القيام إلى الصلاة قبل الدخول فيها، ووقت الصلاة: هو وقت ¬

(¬1) صحيح البخاري (177)، ومسلم (361).

الدليل الثاني

الدخول في أدائها، وهو حينئذ غير متعبد بفرض الطهارة، إذ لا يجوز له أن يدخل في الصلاة إلا بعد فراغه من طهارتها، فإذا تيمم كما أمر، فقد خرج عن فرض الطهارة، وإذا كبر فقد دخل في فرض الصلاة، ولا يجوز نقض طهارة قد مضى وقتها، وإبطال ما صلى من الصلاة، كما فرض عليه وأمر به إلا بحجة من كتاب أو سنة أو إجماع. ويجاب: بأن فرض الطهارة لا شك أنه قبل الدخول في الصلاة، ويلزمه استصحاب حكم الطهارة، فلو ورد ما ينقض طهارته أثناء الصلاة بطلت، كما لو خرج منه ريح، ووجود الماء في حق المتيمم سبب في رجوع حدثه السابق، وإذا رجع حدثه السابق إلى بدنه بطلت صلاته كما لو أحدث فيها. الدليل الثاني: إذا تلبس بمقصود البدل: وهو الصلاة لم يلزمه الخروج، كما لو أنه شرع في الصيام، ثم قدر على العتق لم يجب عليه الانتقال على الصحيح. ويجاب عن هذا بجوابين: الأول: هناك فرق بين المسألتين، فوجود الماء سبب في رجوع الحدث السابق، وهذا مبطل بحد ذاته للصلاة، فإن من شروط صحة الصلاة مطلقاً أن يكون متطهراً من الحدث، فإذا رجع إليه حدثه لوجود الماء بطلت صلاته، بخلاف وجود الرقبة فليس مبطلاً للصيام، فمفسدات الصيام: هي الأكل والشرب والجماع، وليس وجود الرقبة يخل بعبادة الصوم لا من قريب ولا من بعيد، فاعتبر تلبسه بالصيام قبل قدرته على العتق كاف في براءة ذمته. الجواب الثاني: ما ذكره ابن رجب في قواعده:

قال: من تلبس بعبادة، ثم وجد قبل فراغها ما لو كان واجداً له قبل الشروع لكان هو الواجب، دون ما تلبس به، هل يلزمه الانتقال إليه، أم يمضي ويجزيه؟. هذا على ضربين: أحدهما: أن يكون المتلبس به رخصة عامة، شرعت تيسيراً على المكلف، وتسهيلاً عليه، مع إمكان إتيانه بالأصل على ضرب من المشقة والتكلف، فهذا لا يجب عليه الانتقال منه بوجود الأصل كالمتمتع إذا عدم الهدي، فإنه رخص له في الصيام رخصة عامة، حتى لو قدر على الشراء بثمن في ذمته، وهو ميسور في بلده لم يلزمه. الضرب الثاني: أن يكون المتلبس به إنما شرع ضرورة للعجز عن الأصل وتعذره بالكلية، فهذا يلزمه الانتقال إلى الأصل عند القدرة عليه، ولو في أثناء التلبس كالعدة بالأشهر، فإنها لا تعتبر بحال مع القدرة على الاعتداد بالحيض، ولهذا تؤمر من ارتفع حيضها لعارض معلوم، أن تنتظر زواله، ولو طالت المدة، وإنما جوز لمن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه أن تعتد بالأشهر؛ لأن حيضها غير معلوم، ولا مظنون عوده، وسواء كانت هذه المعتدة مكلفة قبل هذا بالاعتداد بالحيض كمن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه أن تعتد بالأشهر، ثم حاضت في أثنائها أو لم تكن مكلفة به كالصغيرة إذا حاضت في أثناء العدة بالأشهر". قال ابن رجب: وهاهنا مسائل كثيرة مترددة بين الضربين، منها: المتيمم إذا شرع في الصلاة، ثم وجد الماء، ففي بطلانها روايتان؛ لأن التيمم من حيث كونه رخصة عامة، فهو كصيام المتمتع، ومن حيث كونه ضرورة يشبه العدة بالأشهر، وبيان الضرورة أنه تستباح معه الصلاة بالحدث فإنه غير رافع له على المذهب، فلا يجوز إتمام الصلاة محدثاً مع وجود الماء الرافع له" (¬1). ¬

(¬1) قواعد ابن رجب: القاعدة السابعة (ص: 9).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: أن هذا المتيمم قد دخل في الصلاة بإذن من الشارع، ولم تثبت سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - توجب قطع الصلاة بعد الدخول فيها بوجه مشروع. ويجاب: بأن قولكم قد دخل في الصلاة بوجه جائز مسلم، وأما قولكم بأنه لا توجد سنة توجب قطع الصلاة فإن هذا هو محل النزاع، وقد اتفقنا معكم أن الصعيد طهور المسلم بشرط عدم وجود الماء، وأن وجود الماء يوجب على المتيمم أن يمسه بشرته، فالنتيجة: أن المصلي بالتيمم قد صلى بالتيمم مع وجود الماء، ولم يمسه بشرته في عبادة من شرطها الطهارة بالماء مع وجوده، فكيف نصحح طهارة المتيمم مع وجود الماء والقدرة على استعماله، ولو سلمنا صحة بعض الصلاة قبل وجود الماء، فإننا لا يمكن أن نصحح القدر الباقي من الصلاة مع وجود الماء، وإذا تطرق الفساد إلى جزء من الصلاة فسدت كلها؛ لأن الصلاة يبنى آخرها على أولها. دليل الشافعية على التفريق بين الصلاة التي يلزمه إعادتها وبين غيرها. الشافعية بنوا تعليلهم على قول ضعيف، وهو أن الرجل إذا عدم الماء في الحضر تيمم وصلى، فإذا قدر على الماء وجب عليه إعادة الصلاة التي صلاها؛ لأن فقد الماء في الحضر عذر نادر، فألزموه أن يصلي الظهر مرتين: مرة بالتيمم، ومرة حين وجود الماء، فإذا كانت صلاته بالتيمم ليست مغنية له عن إعادة الصلاة، ولم تبرأ ذمته بذلك فلماذا الصلاة بالتيمم، وإن كان قد فعل ما أمر به، فقد برئت ذمته، فلماذا الإعادة، وسبق مناقشة هذا القول وبيان ضعفه، فإذا وجد الماء أثناء الصلاة، فإن كانت تلزمه إعادة الصلاة حسب

دليل من قال: يتطهر ويبني على صلاته

مذهبهم، بطلت صلاته؛ لأنه لما كانت الإعادة واجبة عليه، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة، وإن كانت لا تلزمه الإعادة، لم تبطل صلاته، ويمضي فيها ولو وجد الماء في أثنائها. وهذا التفصيل ضعيف؛ لأنه بني على قول ضعيف من وجوب الإعادة على المتيمم في الحضر، والله أعلم. دليل من قال: يتطهر ويبني على صلاته: لم أقف لهم على دليل من الكتاب أو السنة في هذه المسألة، ولم تذكر الكتب التي رجعت إليها في ذكر هذا القول دليلاً لهم، ولعلهم قاسوا ذلك على من خرج منه رعاف، وهو في الصلاة،، فقد ثبت عن بعض الصحابة القول بالخروج من الصلاة، والوضوء، ثم البناء على ما مضى، من ذلك، وقد روي مرفوعاً، ولا يصح، وأما الموقوف فمنه: (1468 - 100) ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، كان إذا رعف انصرف، فتوضأ، ثم رجع، فبنى، ولم يتكلم (¬1). [وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو موقوف على ابن عمر] (¬2). (1469 - 101) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن صالح وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: إذا وجد أحدكم في بطنه رزأً أو قيئاً أو رعافاً ¬

(¬1) الموطأ (1/ 38). (¬2) سبق تخريجه في كتاب نواقض الوضوء: في الكلام على خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين.

فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم (¬1). [إسناده حسن] (¬2). (1470 - 102) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم بن سعد أبي يحيى، عن سلمان، قال: إذا أحدث أحدكم في صلاته، فلينصرف غير راع لصنعه، فليتوضأ، ثم ليعد في آيته التي كان يقرأ (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). فهذه الآثار تبين أن الإنسان ممكن أن يبني على صلاته إذا وجد في أثنائها ما يقتضي الطهارة، وهو جار على خلاف القياس؛ لأن إيجاب الوضوء من الرعاف يعني: بطلان الطهارة، وبطلان الطهارة يلزم منه بطلان الصلاة كخروج البول والريح إذا خرجا من المصلي أثناء الصلاة، فإنه يجب استئناف الصلاة بعد إعادة الطهارة، فصحة الآثار عن الصحابة لا نقاش فيها، فإن ثبت الخلاف عن الصحابة كان الأمر واسعاً، وتقديم قول الصحابي الذي يوافق القياس أولى من غيره، وإن لم يثبت الخلاف بينهم، بحيث لا يعلم مخالف لقول من قال بالبناء، فإنا نقول به، ولو خالف القياس، لكن لا نتعداه إلى غيره، ولا ¬

(¬1) المصنف (1/ 13). (¬2) سبق تخريجه والكلام على طرقه في كتاب نواقض الوضوء: في الكلام على خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين. (¬3) المصنف (2/ 13) (¬4) سبق تخريجه والكلام عليه في كتاب نواقض الوضوء في الكلام على خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين.

الراجح من القولين

نقول به في وجود الماء أثناء الصلاة، وإنما يقتصر فقط على ما ورد عن الصحابة، والله أعلم. الراجح من القولين: بعد استعراض الأدلة نجد أن أقرب القولين إلى الصواب هو القول القائل بأنه يلزمه الخروج من الصلاة فإنه يعضده بعض النصوص المرفوعة كحديث أبي ذر رضي الله عنه، والله أعلم.

المبحث الثالث: إذا وجد المتيمم الماء بعد الفراغ من الصلاة

المبحث الثالث: إذا وجد المتيمم الماء بعد الفراغ من الصلاة إذا تيمم، ثم صلى، وبعد فراغه من الصلاة وجد الماء، فإن كان وجود الماء بعد خروج وقت الصلاة فلا إعادة عليه إجماعاً. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تيمم صعيداً طيباً كما أمر الله، وصلى، ثم وجد الماء بعد خروج وقت الصلاة، لا إعادة عليه" (¬1). وإن وجد الماء قبل خروج وقت الصلاة، فهل تجب عليه إعادة الصلاة، أو تجزئه صلاته؟. اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فقيل: لا يجب عليه أن يعيد صلاته، وهو مذهب الجمهور (¬2)، إلا أن المالكية استحبوا له الإعادة ما دام في الوقت، وحصل تقصير في طلب الماء (¬3). وقيل: يستحب له الإعادة مطلقاً، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4)، وقول الأوزاعي رحمه الله تعالى (¬5). ¬

(¬1) الأوسط (2/ 63). (¬2) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/ 110)، بدائع الصنائع (1/ 58). وفي مذهب المالكية جاء في المدونة (1/ 45): " قال مالك في الجنب، لا يجد الماء، فيتيمم، ويصلي، ثم يجد الماء بعد ذلك، قال: يغتسل لما يستقبل، وصلاته الأولى تامة ". وانظر في مذهب الحنابلة: الفروع (1/ 232)، كشاف القناع (1/ 177). (¬3) مواهب الجليل (1/ 357)، الخرشي (1/ 196)، مدونة الفقه المالكي وأدلته (1/ 220). (¬4) الفروع (1/ 232). (¬5) الأوسط (2/ 63)، تفسير القرطبي (5/ 234).

دليل من قال: لا يعيد صلاته

وقيل: إن رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة نُظِر: فإن كان في الحضر أعاد الصلاة، وإن كان في السفر نظر: فإن كان في سفر طويل لم يلزمه الإعادة، وإن كان في سفر قصير، ففيه قولان: أشهرهما أنه لا يلزمه الإعادة، وهذا مذهب الشافعية (¬1). وقيل: تجب عليه الإعادة، وبه قال عطاء وطاووس والقاسم بن محمد، ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة (¬2). دليل من قال: لا يعيد صلاته: الدليل الأول: (1471 - 103) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن محمد ويحيى بن سعيد، عن نافع، أن ابن عمر تيمم، وصلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلان، ثم دخل المدينة، والشمس مرتفعة، فلم يعد (¬3). [إسناده صحيح، وسبق تخريجه] (¬4). الدليل الثاني: أن من تيمم، وصلى، وفرغ من صلاته قبل وجود الماء فقد فعل ما أمر به شرعاً، ومن أوجب عليه الإعادة فإنه يطالب بحجة من كتاب الله، أو من ¬

(¬1) المهذب (1/ 36)، المجموع (2/ 350)، حلية العلماء (1/ 208)، مغني المحتاج (1/ 101)، منهاج الطالبين (ص:7)، السراج الوهاج (ص: 644). (¬2) انظر المجموع (2/ 354)، المغني (1/ 153)، الأوسط لابن المنذر (2/ 63). (¬3) المصنف (884). (¬4) سبق تخريجه وافياً، انظر رقم (1429، 1430، 1444).

الدليل الثالث

سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من إجماع الصحابة، ولا يوجد حجة على بطلان عبادة كان صاحبها ممتثلاً الأمر الشرعي فيما فعل. الدليل الثالث: (1472 - 104) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن إسحق المسيبي، أخبرنا عبد الله ابن نافع، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين (¬1). [رجح أبو داود أن الحديث مرسل، وأن ذكر أبي سعيد ليس بمحفوظ] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (338). (¬2) ومن طريق محمد بن إسحاق أخرجه الدارمي (744)، والطبراني في الأوسط (1842). قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الليث متصل الإسناد إلا عبد الله، تفرد به المسيبي. قلت لم يتفرد به المسيبي، فقد أخرجه النسائي في السنن (433) أخبرنا مسلم بن عمرو ابن مسلم. وأخرجه الطبراني نفسه في الأوسط (7922) من طريق يحيى بن المغيرة. وأخرجه الحاكم (632) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/ 231) من طريق عمير بن مرداس، ثلاثتهم عن عبد الله بن نافع به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد اختلف في إسناده على ثلاثة طرق: الطريق الأولى: قيل: عبد الله بن نافع، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، وسبق تخريج هذا الطريق. الطريق الثانية: قيل: الليث بن سعد، عن عميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. رواه النسائي في السنن (433) والدارقطني في سننه (1/ 189) من طريق عبد الله بن المبارك. والبيهقي في السنن (1/ 231) من طريق يحيى بن بكير، عن الليث به. فأدخلا بين الليث بن سعد وبكر بن سوادة عميرة بن أبي ناجية، وجعلاه مرسلاً. لكن رواه أبو علي بن السكن كما في كتاب الوهم والإيهام (2/ 434)، قال: حدثنا أبو بكر بن أحمد الواسطي، قال: حدثنا عباس بن محمد، قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: نبأني الليث بن سعد، عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد. اهـ قلت: هذه الرواية شاذة، والوهم قد يكون من أبي الوليد أو ممن دونه، وهي مخالفة لرواية الثقات عن الليث، كرواية يحيى بن بكير، وعبد الله بن المبارك. الطريق الثالثة: قيل: عن عبد الله بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد، عن عطاء بن يسار مرسلاً أيضاً. وهذا الطريق تفرد به ابن لهيعة، وهو ضعيف، وقد أدخل بين بكر بن سوادة وبين عطاء ابن يسار مولى إسماعيل بن عبيد. فهذه ثلاثة اختلافات في إسناده، وقد رجح أبو داود والدارقطني الرواية المرسلة على غيرها. قال الدارقطني في سننه (1/ 188): تفرد به عبد الله بن نافع، عن الليث بهذا الإسناد متصلاً، وخالفه ابن المبارك وغيره. قال أبو داود: وغير ابن نافع يرويه عن الليث، عن عميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سوادة، عن عطاء بن يسار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو داود: وذكر أبى سعيد الخدري في هذا الحديث ليس بمحفوظ وهو مرسل، حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة، عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد، عن عطاء بن يسار، أن رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعناه. اهـ قال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/ 433): " ففي هذا من كلام أبي داود بيان أمرين: الأول: أن ذكر أبي سعيد وهم، فهو إذن مرسل من مراسيل عطاء. والآخر: أن بين الليث وبين بكر بن سوادة عميرة بن أبي ناجية، فلم يذكر أبو محمد هذا الانقطاع الذي بين الليث وبين بكر. فإن قلت: هو قد قنع به مرسلاً، والمرسل متصل إلى عطاء بن يسار، بزيادة عميرة بن أبي ناجية، فلعله الذي أورد، وإياه قصد. فالجواب أن نقول: هو إذن قد ترك أن يبين أنه مرسل، في إسناده رجل مجهول، وذلك أن عميرة بن أبي ناجية مجهول الحال، فإذا لم يبين ذلك فقد أوهم أنه لا عيب له إلا الإرسال". والأظهر أنه لم يرد شيئاً من ذلك، ولا أعتقد فيه إلا أنه إذا سقط منه ذكر أبي سعيد، بقي من رواية الليث، عن بكر، عن عطاء مرسلاً على نحو ما رواه ابن المبارك، ذَكَرَ روايته الدارقطني " ثم ساق إسناد الدارقطني، ولم يتفطن إلا أن النسائي قد ذكر رواية ابن المبارك أيضاً في سننه كما سبق ذكره. ثم قال: " وإذا كان هذا هو الذي اعتقد، فلم يعتمد إلا منقطعاً فيما بين الليث وبكر، ولكنه لم يبينه، ولا أيضاً تبين له على نحو ينفعه، فإن المنقطع الذي اعتمد إنما وصله أبو داود عن رجل مجهول، وهو عميرة بن أبي ناجية، وأقول بعد هذا: إنه قد جاء من رواية أبي الوليد الطيالسي، قال: نبأني الليث بن سعد، عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية، عن بكر ابن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر الحديث، ذكره أبو علي بن السكن ... " وذكر ما نقلنا إسناده عنه قبل قليل. ثم قال: " فهذا اتصال ما بين الليث وبكر بعمرو بن الحارث، وهو ثقة، قرنه بعميرة، ووصله بذكر أبي سعيد. =

الدليل الرابع

وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بأن ترك الإعادة من إصابة السنة، فمن علم السنة لزمه الأخذ بها، وعدم مخالفتها، وأما من صلى مجتهداً لا يعلم السنة في هذا، فله أجران بمجوع الاجتهادين: أجر على صلاته بالتيمم، وأجر على إعادة صلاته بالماء. الدليل الرابع: القياس، فكما أن من صلى جالساً لعلة، ثم فرغ من صلاته، ثم قدر على القيام في الوقت لا يعيد صلاته، فكذلك من صلى بالتيمم في وقت لم يوجد فيه الماء، ولم يكن قادراً على استعماله فإنه لا يعيد، ولو قدر على ذلك بعد فراغه من الصلاة، وفي الوقت. دليل من فرق بين الحضر والسفر: الشافعية بنوا تعليلهم على قول ضعيف، وهو أن الرجل إذا عدم الماء في الحضر تيمم وصلى، فإذا قدر على الماء وجب عليه إعادة الصلاة التي صلاها؛ ¬

_ = فإن قيل: فكيف بما روى ابن لهيعة في هذا، عن بكر بن سوادة، عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد، عن عطاء بن يسار، أن رجلين، هكذا مرسلاً، أليس هذا يعطي انقطاعاً آخر فيما بين بكر وعطاء برجل مجهول، وهو أبو عبد الله مولى إسماعيل. قلنا: هذا لا يلتفت إليه؛ لضعف رواية ابن لهيعة. وقد تبين المقصود أن أبا محمد ذكر الإرسال، ولم يذكر الانقطاع فاعلمه ". اهـ وقال الحافظ في الدراية في تخريج أحاديث الهداية (1/ 70): " أخرجه أبو داود والحاكم، وأعل بالإرسال ".

دليل من قال: يستحب له الإعادة

لأن فقد الماء في الحضر عذر نادر، فألزموه أن يصلي الظهر مرتين: مرة بالتيمم، ومرة حين وجود الماء، فإذا كانت صلاته بالتيمم ليست مغنية له عن إعادة الصلاة، ولم تبرأ ذمته بذلك فلماذا الصلاة بالتيمم، وإن كان قد فعل ما أمر به، فقد برئت ذمته، فلماذا الإعادة، وسبق مناقشة هذا القول وبيان ضعفه، فإذا وجد الماء بعد الصلاة، فإن كانت تلزمه إعادة الصلاة حسب مذهبهم، بطلت صلاته؛ لأنه لما كانت الإعادة واجبة عليه، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة، وإن كانت لا تلزمه الإعادة، لم تبطل صلاته، ولم يجب عليه إعادتها. وهذا التفصيل ضعيف؛ لأنه بني على قول ضعيف من وجوب الإعادة على المتيمم في الحضر، والله أعلم. دليل من قال: يستحب له الإعادة: لعلهم استحبوا له الإعادة خروجاً من خلاف من أوجب عليه الإعادة، والحقيقة أن الخروج من الخلاف ليس من أدلة الشرع المتفق عليها، ولا المختلف فيها، والاستحباب حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي من كتاب الله، أو من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. دليل من قال: يجب عليه الإعادة: لم أقف على دليل لهذا القول في الكتب التي رجعت إليها، وكتب الخلاف التي وقفت عليها تذكر قولهم، ولا تسوق دليلهم، وهل يمكن أن يستدل له بحديث المسيء في صلاته، بقوله: " ارجع فصل فإنك لم تصل" (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (757) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة.

الراجح من الخلاف

وجه الاستدلال: أن المسيء في صلاته لم يكلفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إعادة تلك الصلوات التي لم يحسن صلاتها، وقد خرج وقتها، وخاطبه بإعادة الصلاة الحالية التي لم يزل وقتها قائماً، فهل يمكن أن يقال: يؤخذ من الحديث وجوب الإعادة ما دام الوقت قائماً. والحديث ليس فيه دليل؛ وذلك لأن المسيء في صلاته لم يمتثل الأمر الشرعي، بخلاف المتيمم الذي صلى بتيممه فقد كان ممتثلاً أمر ربه، بقوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فيكف يطالب بالإعادة، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين ردده ليعيد الصلاة ربما لم يكن لأجل الإعادة، فقد تكون الصلاة من قبيل النافلة، وكان بإمكانه تعليمه من أول مرة، وإنما ردده ليستشعر قدر حاجته إلى معرفة الصواب، وهذا الذي دفعه لأن يقول: "والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني " (¬2)، ولم ينقل أنه حين علمه الصواب رجع فصلى. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال والأدلة نجد أن القول بعدم إعادة الصلاة هو أقوى الأقوال، لقوة دليله وضعف أدلة المخالفين، والله أعلم. ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) سبق تخريجه، انظر العزو السابق.

الفصل الثالث: خروج الوقت

الفصل الثالث: خروج الوقت تكلمنا في شروط التيمم للصلاة اشتراط دخول وقت الصلاة عند الجمهور، وأنه لا يصح التيمم قبل دخول الوقت، والآن نتناول تأثير خروج وقت الصلاة على صحة التيمم، فإذا تيمم للصلاة، فهل يبطل التيمم بخروج الوقت، في هذا خلاف بين أهل العلم، فقيل: لا يبطل التيمم خروج الوقت، فإذا تيمم له أن يصلي ما لم يحدث أو يجد الماء، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يبطل التيمم بخروج الوقت، وهو المشهور مذهب الحنابلة (¬2). وأما مذهب المالكية والشافعية وإن لم ينصوا على أن خروج الوقت مبطل للتيمم إلا أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث منعوا صلاة فريضتين بتيمم واحد (¬3)، واشترط المالكية الموالاة بين التيمم والصلاة، فإن وجد فاصل ¬

(¬1) المبسوط (1/ 113)، الهداية (1/ 27)، بدائع الصنائع (1/ 55)، تحفة الفقهاء (1/ 46)، نور الإيضاح (ص: 27)، تبيين الحقائق (1/ 40). (¬2) قال ابن قدامة في عمدة الفقه (ص: 11): " وإن تيمم لفريضة، فله فعلها، وفعل ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقتها ". (¬3) انظر في مذهب المالكية: انظر التمهيد (19/ 294 - 295)، المقدمات (1/ 117)، التهذيب في مختصر المدونة (1/ 214)، المعونة (1/ 149). وفي مذهب الشافعية: جاء في الأم (1/ 47): " وإن كان قد فاتته صلوات استأنف التيمم لكل صلاة منهما، كما وصفت، لا يجزيه غير ذلك، فإن صلى صلاتين بتيمم واحد، أعاد الآخرة منهما؛ لأن التيمم يجزيه للأولى، ولا يجزيه للآخرة ". =

طويل بين التيمم والصلاة بطل تيممه، وهذا القول أبلغ من اعتبار خروج الوقت مبطلاً للتيمم (¬1). وسبب الخلاف بين الجمهور وبين الحنفية في المسألة اختلافهم في التيمم، هل هو رافع للحدث، أو مبيح لفعل المأمور مع قيام الحدث؟. يقول الكاساني الحنفي رحمه الله تعالى: "قال أصحابنا: إن التيمم بدل مطلق، وليس ببدل ضروري، وعنوا به أن الحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤادة، لا أنه يباح له الصلاة مع قيام الحدث، وقال الشافعي: التيمم بدل ضروري، وعنى به أن يباح له الصلاة مع قيام الحدث حقيقة للضرورة كطهارة المستحاضة «ثم قال:» وعلى هذا الأصل يبنى التيمم قبل دخول الوقت، أنه جائز عندنا، وعند الشافعي لا يجوز؛ لأنه بدل مطلق عند عدم الماء، فيجوز قبل دخول الوقت وبعده، وعنده بدل ضروري، فتتقدر بدليته بقدر الضرورة، ولا ضرورة قبل دخول الوقت، وعلى هذا يبنى أنه إذا تيمم في الوقت يجوز له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد الماء أو يحدث عندنا، وعنده لا يجوز له أن يؤدي به فرضاً آخر غير ما تيمم لأجله" (¬2). ¬

= وقال في كتاب البيان في مذهب الشافعي (1/ 316): " وإن كان عليه صلوات فوائت، وأراد أن يقضيها في وقت واحد، وهو عادم للماء، قال الشيخ أبو حامد: فإنه يطلب الماء للأولى، ويتمم، ويصليها، فإذا أراد أن يصلي الثانية أعاد الطلب لها، ثم يتيمم، وكذلك الثالثة والرابعة وإن كان في موضع واحد؛ لأن ذلك شرط في التيمم ". (¬1) قال في الشرح الصغير (1/ 199 - 200): " ومما يبطله - يعني التيمم - طول الفصل بينه وبين الصلاة، كما علم من الموالاة ". وانظر الخلاصة الفقهية (ص: 40). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 55).

وقد بنى الحنابلة دليلهم على أمرين: الأول: أن التيمم طهارته طهارة ضرورة، فتقدر بقدرها. وأنه يبيح فعل الصلاة، ولا يرفع الحدث. وقد ناقشت في مسألة مستقلة: هل التيمم يرفع الحدث، أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث في مسألة مستقلة، وذكرنا أدلة الخلاف، والراجح فيها، فأغنى عن إعادته هنا، كما ناقشت في مسألة مستقلة: فيما إذا تيمم للصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، هل له أن يصلي به فريضة أو نافلة أخرى، أو يجب أن يتيمم لكل صلاة؟ وذكرت أدلة الأقوال مع مناقشتها وبيان الراجح فأغنى عن إعادته هنا أيضاً. وقد تبين لنا من كل هذه المسائل أن التيمم بدل عن طهارة الماء، وأنه يرفع الحدث، وأن له أن يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل، سواء تيمم قبل الوقت، أو تيمم في الوقت وخرج عليه الوقت، وأن خروج الوقت ليس بناقض له. الأمر الثاني: القياس على طهارة المستحاضة، فكما أن المستحاضة طهارتها طهارة ضرورة، وقد أمرت أن تتوضأ لكل صلاة، فكذلك المتيمم يجب عليه أن يتطهر لوقت كل صلاة عند الحنابلة، أو لكل صلاة كما عند الشافعية والمالكية. ودليل المستحاضة عندهم: (1473 - 105) ما رواه البخاري من طريق أبي معاوية، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:

جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). [زيادة قال هشام: قال أبي، الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (¬2). ويجاب بأمور: الأول: أن أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة موقوف على عروة. ثانياً: أن المرفوع من الأحاديث بأمر المستحاضة لكل صلاة، لا يثبت منها شيء. ¬

(¬1) صحيح البخاري (228). (¬2) وقد حكم بضعف هذه الزيادة الإمام مسلم والنسائي والبيهقي، وأبو داود، وضعفه ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري قال (2/ 72): والصواب أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة: فقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة " اهـ كلام ابن رجب. وقال ابن رجب أيضاً (2/ 73): " أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة، وهي مضطربة ومعلله ". وقد خرجت طرق هذا الحديث، وبينت أن قول عروة: " توضئي لكل صلاة " من كلام عروة، وليس مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل من كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم 473، وكتابي آداب الخلاء، في الاستنجاء من الحدث الدائم، رقم: 414، وكتاب الوضوء: فرائض وسننه ونواقضه: في فصل: مسببات الحدث، المبحث الخامس: في خروج دم الاستحاضة، فأغنى عن إعادته هنا.

قال ابن رجب: " أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة، وهي مضطربة ومعللة " (¬1). ولهذا لم يذهب مالك بوجوب الوضوء على المستحاضة، قال ابن عبد البر: " والوضوء عليها - أي على المستحاضة - عند مالك على الاستحباب دون الوجوب، وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي " ولم يذكر وضوءاً، قال: " وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب ربيعة وعكرمة ومالك وأيوب وطائفة " (¬2). ثالثاً: لو أخذتم بالقياس على وجوب الوضوء على المستحاضة، للزم الحنابلة القول بوجوب الوضوء لكل صلاة، كما هو مذهب الشافعية والمالكية، وذلك لأن الآثار الواردة في ذلك توجب على المستحاضة الوضوء لكل صلاة، وليس الوضوء لوقت كل صلاة، وبينهما فرق (¬3). ¬

(¬1) شرح ابن رجب للبخاري (2/ 73). (¬2) المرجع السابق، والصفحة نفسها. (¬3) حمل الحنابلة على أن قوله: " توضئي لكل صلاة " بأن المراد بكل صلاة بوقت كل صلاة، قالوا: وإطلاق الصلاة على الوقت جاء الدليل على صحته من القرآن والسنة: الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} الإسراء:78. فقوله: {لدلوك الشمس} أي: لوقت دلوكها. الدليل الثاني: ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن سنان ـ هو العوقي ـ قال: حدثنا: هشيم (ح) قال: وحدثني سعيد بن النضر، قال: أخبرنا هشيم، قال أخبرنا سيار، قال حدثنا يزيد ـ هو ابن صهيب الفقير ـ قال: أخبرنا جابر بن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ". ورواه مسلم (521)، واللفظ للبخاري (335). وجه الاستدلال: قوله: " أدركته الصلاة " أي أدركه وقت الصلاة. الدليل الثالث: ما رواه أحمد (6/ 332)، قال: ثنا محمد بن فضيل، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس ". وجه الاستدلال: قوله: " إن للصلاة أولاً وآخراً ". أي إن لوقت الصلاة، فأطلقت الصلاة وأريد بها الوقت. والحديث ضعيف والمحفوظ أنه مرسل ووصله شاذ، وسبق بحثه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، انظر رقم: 479. وأما حمل الأمر بالوضوء لكل صلاة: أي لوقت كل صلاة، فيحتاج الأمر إلى دليل على أن المراد الوقت، وليس خروج الوقت حدثاً، ويكفي أن حملهم خلاف ظاهر اللفظ بلا مسوغ. والجواب عما قالوه رحمهم الله: إن إطلاق الصلاة قد يطلق ويراد بذلك الوقت إذا صح إنما يصح لقرينة تمنع من إرادة الصلاة نفسها، وإلا فالأصل في الكلام عدم الحذف وعدم التقدير، ولا قرينة هنا تمنع من إرادة الصلاة، أي فعلها، فوجب حمل اللفظ على ظاهره وهذا لو قلنا بصحة أحاديث وضوء المستحاضة لكل صلاة، ولكنها لم تصح كما قدمنا.

وإذا لم يجب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة، كان القول ببطلان التيمم بخروج الوقت قياساً على المستحاضة قياس غير صحيح، وبهذا يتبين أن القول ببطلان التيمم بخروج الوقت قول ضعيف، والله أعلم. وبهذه المسألة نكون قد أنيهنا مبطلات التيمم، وبه نكون قد أنهينا الكلام على التيمم، بل وعلى طهارة الحدث من وضوء وغسل وبدلهما، وهو التيمم، فلله الحمد أولاً وآخراً، اللهم كما يسرت هذا البحث بفضلك ومَنِّك وكرمك، من غير حول مني ولا قوة إلا بك سبحانك، فتقبله مني، واجعله خالصاً لوجهك، لا أبتغي به إلا رضاك، ودفع سخطك، اللهم كفر به زلاتي، وارفع به درجاتي، وصحح به نياتي، واستر به عيوبي، اللهم إني أعوذ بك أن أقصد به أو بغيره من أعمال الآخرة شيئاً من حظ الدنيا مما يحبط به عملي، ويوجب غضبك عليَّ، اللهم ارزقني شكر نعمتك التي أنعمت علي، وأن أعمل صالحاً ترضاه، اللهم علمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتني، واجعله حجة لي، ولا تجعله حجة علي، آمين آمين، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وسلم.

[النجاسة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،، لما وفق الله سبحانه وتعالى من إتمام البحث في طهارة الحدث، الأصغر والأكبر - فانتهيت من كتاب الوضوء: فرائضه وسننه ونواقضه والمسح على الحائل في ثلاثة مجلدات، وانتهيت من كتاب الغسل في مجلد كبير، ومن كتاب التيمم في مجلد مستقل، وكل هذه المباحث تعنى في طهارة الحدث، سواء بالماء، أو ببدله: التراب - ناسب أن أنتقل بحول الله وقوته إلى طهارة أخرى، وهي الطهارة من الخبث، (النجاسة) وهذا يستلزم أن نتعرف على الأعيان النجسة ونحرر خلاف العلماء فيها، ثم نتطرق إلى كيفية الطهارة الشرعية منها، ولا حاجة إلى ذكر منهج البحث، لأن هذا قد تم التنبيه عليه في الكتب السابقة، وستكون خطة البحث على النحو التالي إن شاء الله تعالى. خطة البحث: مقدمة الكتاب: وتشتمل على ثلاثة مباحث. المبحث الأول: في تعريف النجاسة. المبحث الثاني: الأصل في الأشياء الطهارة. المبحث الثالث: في أقسام النجاسات. في الأعيان النجسة: ويشتمل على أربعة أبواب. الباب الأول: فيما فيه حياة حيوانية الفصل الأول: في طهارة بني آدم.

المبحث الأول: في طهارة المسلم. المبحث الثاني: في طهارة المشرك. المبحث الثالث: في طهارة الميت من بني آدم. الفصل الثاني: في الحيوان حال الحياة. المبحث الأول: في حيوان مأكول اللحم. المبحث الثاني: في الجلالة. المبحث الثالث: في الحيوان محرم الأكل. الفرع الأول: فيما ليس له نفس سائلة. الفرع الثاني: في الحيوان الذي له نفس سائلة. المسألة الأولى: في الهر وما دونه في الخلقة. المسألة الثانية: في الحيوان المركوب كالحمار والبغل. المسألة الثالثة: في نجاسة الكلب. المسألة الرابعة: في نجاسة الخنزير. المسألة الخامسة: في نجاسة سباع البهائم والطير. الباب الثاني: في فضلات الحيوان الفصل الأول: في البول والغائط والروث المبحث الأول: في بول الآدمي وعذرته الفرع الأول: في بول الصبي. الفرع الثاني: ذكر العلة التي أوجبت التفريق بين بول الغلام والجارية.

الفرع الثالث: في البول والغائط من الآدمي الكبير. المبحث الثاني: في بول وروث الحيوان. الفرع الأول: في بول ورث الحيوان المأكول. الفرع الثاني: في بول وروث الحيوان غير المأكول. الفصل الثاني: من المني والمذي والودي من الحيوان. المبحث الأول: في مني الإنسان. الفرع الأول: في المني الخارج بعد الاستجمار. الفرع الثاني: في طهارة ماء المرأة. المبحث الثاني: في مني الحيوان. المبحث الثالث: في المذي. الفرع الأول: في مذي الإنسان. الفرع الثاني: في مذي الحيوان غير الآدمي. المبحث الرابع: في نجاسة الودي. الفصل الثالث: في حكم الدم. المبحث الأول: في نجاسة دم الحيض. المبحث الثاني: في نجاسة دم الإنسان من عرق ونحوه. المبحث الثالث: في دم الشهيد. المبحث الرابع: علقة الحيوان الطاهر. المبحث الخامس: في دم القلب واللحم والباقي في العروق بعد الذبح من الحيوان المأكول. المبحث السادس: في دم الكبد والطحال.

المبحث السابع: في دم السمك. الفصل الرابع: في القيء. الفصل الخامس: في حكم القلس. الفصل السادس: في رطوبة فرج المرأة. الفصل السابع: في اللبن. المبحث الأول: في طهارة لبن الآدمي الحي. المبحث الثاني: في طهارة لبن الآدمي الميت. المبحث الثالث: في لبن البهيمة المأكولة حال الحياة أو بعد التذكية الشرعية. المبحث الرابع: في لبن البهيمة المأكولة الميتة. الفصل الثامن: في القيح والصديد. الفصل التاسع: في بيض الحيوان. المبحث الأول: في بيض مأكول اللحم. المبحث الثاني: في بيض غير مأكول اللحم. المبحث الثالث: في البيض الفاسد. المبحث الرابع: سلق البيض بماء نجس. الباب الثالث: في الآسار. الفصل الأول: في سؤر الآدمي. الفصل الثاني: في طهارة سؤر الحيوان مأكول اللحم.

الفصل الثالث: في طهارة سؤر الحيوان غير مأكول اللحم. المبحث الأول: في سؤر الهرة وما دونها في الخلقة. المبحث الثاني: في طهارة سؤر البغل والحمار. المبحث الثالث: في سؤر سباع البهائم والطير. المبحث الرابع: في سؤر الخنزير. المبحث الخامس: في سؤر الكلب. الباب الرابع: في أحكام الميتة. الفصل الأول: في الميتة الطاهرة. المبحث الأول: في ميتة الآدمي. المبحث الثاني: في ميتة ما لا نفس له سائلة. المبحث الثالث: في ميتة البحر. الفصل الثاني: في الميتة النجسة. الفصل الثالث: في أجزاء الميتة. المبحث الأول: في عظم الميتة وقرنها وحافرها. المبحث الثاني: في شعر الميتة وريشها ووبرها. المبحث الثالث: في جلد الميتة. المبحث الرابع: في عصب الحيوان. المبحث الخامس: في لبن الميتة. الفرع الأول: في لبن الآدمي الميت. الفرع الثاني: في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم. المبحث السادس: في بيض الحيوان الميت. المبحث السابع: في أنفحة الميتة.

الباب الخامس: في الجمادات. الفصل الأول: في طهارة الخمر. الفصل الثاني: في حكم الطيب الموجود فيه كحول. الفصل الثالث: في الحشيشة المسكرة. الباب السادس: في حكم الطهارة من النجاسة. الفصل الأول: في حكم إزالة النجاسة. الفصل الثاني: في الصلاة مع التلبس بالنجاسة. الفصل الثالث: هل التطهر من النجاسة على الفور أم على التراخي. الفصل الرابع: في اشتراط النية في إزالة النجاسة. الفصل الخامس: فيما يعفى عنه من النجاسات. مبحث: المعفو عنه هل هو طاهر حقيقة أم حكماً. الفصل السادس: في مذاهب العلماء في العفو عن النجاسات. الفصل السابع: فيما يحرم استعماله في إزالة النجاسة. المبحث الأول: إزالة النجاسة بالكتب الشرعية. المبحث الثاني: في إزالة النجاسة بالأطعمة. المبحث الثالث: إزالة النجاسة بالعظام والروث. الباب السابع: في كيفية إزالة النجاسة. الفصل الأول: في إزالة النجاسة بالماء.

المبحث الأول: في مشروعية إزالة النجاسة بالماء. المبحث الثاني: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة. المبحث الثالث: هل يجب تكرار الغسل في إزالة النجاسة. المبحث الرابع: في بقاء لون أو رائحة النجاسة بعد التطهير. المبحث الخامس: إذا أمكن إزالة اللون أو الرائحة بإضافة مطهر مع الماء. المبحث السادس: في اشتراط عصر الثياب النجسة عند غسل النجاسة. المبحث السابع: في حكم الحت والقرص. المبحث الثامن: في كيفية تطهير نجاسة المذي. المبحث التاسع: في الكلام على غسالة النجاسة. الفصل الثاني: في كيفية التطهير بالنضح. المبحث الأول: في تطهير بول الذكر بالنضح. المبحث الثاني: في تطهير المذي يصيب الثوب. الفصل الثالث: في كيفية تطهير النجاسة بغير الماء. المبحث الأول: في كيفية التطهير بالمسح. الفرع الأول: تطهير الأشياء الصقيلة كالسيف والمرآة والسكين بالمسح. الفرع الثاني: في مسح البول والغائط بالحجارة. الفرع الثالث: في إزالة النجاسة بالمسح، هل هو مطهر حقيقة أو حكماً. الفرع الرابع: في وجوب تكرار المسح في إزالة النجاسة. المبحث الثاني: في التطهير بالدلك.

المبحث الثالث: في التطهير بالجفاف. المبحث الرابع: في التطهير بالاستحالة. الفصل الرابع: في كيفية تطهير المائع المتنجس. المبحث الأول: في كيفية تطهير الماء المتنجس. الفرع الأول: أن يزول تغير الماء الكثير بنفسه. الفرع الثاني: أن يزول تغير الماء بإضافة ماء آخر عليه. الفرع الثالث: أن يزول تغير الماء النجس بإضافة تراب أو طين. الفرع الرابع: أن يزول تغير الماء النجس عن طريق النزح. المبحث الثاني: في تطهير المائعات سوى الماء. الفصل الخامس: في كيفية تطهير الأرض المتنجسة. الفصل السادس: في كيفية تطهير بعض النجاسات المخصوصة. المبحث الأول: في كيفية التطهير من ولوغ الكلب. الفرع الأول: في عدد الغسلات من نجاسة الكلب الفرع الثاني: في وضع الصابون والأشنان بدلاً من التراب. الفرع الثالث: في تعفير الإناء بتراب نجس. الفرع الرابع: في كيفية الطهارة من بول الكلب ورجيعه. الفرع الخامس: هل تقوم الغسلة الثامنة مقام التراب. الفرع السادس: في صفة التطهير بالتراب. المبحث الثاني: في كيفية التطهير من نجاسة الخنزير.

هذا ما يسر الله سبحانه وتعالى دراسته من أحكام النجاسات، سائلاً المولى عز وجل بأسمائه وصفاته الحسنى كما تفضل علي بإنجازه، أن يمن علي بقبوله، وأن يجعله من عملي الصالح في حياتي وبعد موتي، وأن يرزق القبول من لدن طلبة العلم لينتفعوا به، وأن يجعل نيتي فيه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وحده، وخدمة ديني، وأن يرفع به الجهل عني، وعن إخواني من طلبة العلم، وأن يكون سبباً في التجاوز عن ذنوبي يوم العرض على الله سبحانه وتعالى، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وكتبه أبو عمر دبيان بن محمد الدبيان السعودية - القصيم - بريدة.

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب المبحث الأول تعريف النجاسة قدم الفقهاء عدة تعريفات للنجاسة، وهم في ذلك يعرفون النجاسة تارة، ويعرفون حكم النجاسة تارة أخرى بقولهم: النجاسة وصف يمنع من كذا وكذا، وهناك فرق بين تعريف عينها، وبين تعريف حكمها، وقد اخترت من كل مذهب تعريفاً وقمت بشرحه وبيان محترزاته، والله الموفق. تعريف الحنفية للنجاسة: قالوا: النجاسة: عين مستقذرة شرعاً (¬1). فقولهم: " عين " خرج به الوصف، فإنه معنى من المعاني. وقولهم: " مُستقذرة شرعاً " خرج به ما استقذر طبعاً، كالمخاط والبصاق، فإنهما مستقذران في عرف الناس وطبيعتهم، وإن كانا طاهرين شرعاً؛ وذلك لأن استقذارهم بالطبع والعرف، وليس بالشرع. تعريف المالكية للنجاسة: قالوا: صفة حكمية توجب لموصوفها منع جواز استباحة الصلاة به أو فيه (¬2). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 8)، حاشية ابن عابدين (1/ 58). (¬2) حدود ابن عرفة (ص: 27)، مواهب الجليل (1/ 43)، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/ 32). =

تعريف الشافعية

وهذا تعريف النجاسة بحكمها، وما سبق تعريف للنجس، وبعض الأصوليين يمنعون تعريف الشيء بحكمه، فكونها تمنع استباحة الصلاة به، إن كانت محمولة أو فيه إن كانت في المكان، هذا حكم النجاسة، وليس تعريفاً لماهية النجاسة. وقد قال بعضهم: وعندهم من جملة المردودِ ... أن تدخل الأحكام في الحدودِ ثم قد يعترض عليه باعتراض آخر: وهو الصلاة في الدار المغصوبة وكذلك الثوب المغصوب، فإنه قد قام به وصف يمنع من استباحة الصلاة فيه إن كان بالمكان، أو به، إن كان بالثوب، ولا يقال بنجاستهما، والله أعلم. تعريف الشافعية: قال المتولي: " حدها: كل عين حرم تناولها على الإطلاق مع إمكان التناول لا لحرمتها، زاد النووي: أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل، والله أعلم " (¬1). قال: وقولنا: (على الإطلاق) احتراز من السموم التي هي نبات, فإنها لا يحرم تناولها على الإطلاق, بل يباح القليل منها، وإنما يحرم الكثير الذي فيه ضرر. قال: وقولنا: (مع إمكان التناول) احتراز من الأشياء الصلبة; لأنه لا يمكن تناولها, وقولنا: (لا لحرمتها) احتراز من الآدمي. ¬

= وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 24): تعريف النجاسة: صفة حكمية يمتنع بها ما استبيح بطهارة الخبث. والطاهر: الموصوف بصفة حكمية يستباح بها ما منعه الحدث أو حكم الخبث. اهـ والتعريف قريب مما قدمناه في صلب الكتاب. (¬1) المجموع (2/ 565)، وانظر أسنى المطالب (1/ 9)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 78)، تحفة المحتاج (1/ 287).

تعريف الحنابلة

وما دفع النووي إلى هذه الزيادة قوله: وهذا الذي حدد به المتولي ليس محققاً فإنه يدخل فيه التراب والحشيش المسكر والمخاط والمني وكلها طاهرة مع أنها محرمة. وفي المني وجه أنه يحل أكله, فينبغي أن يضم إليها " لا لحرمتها أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل والله أعلم ". وقال الزركشي في المنثور: واعلم أن ذا حد للنجس لا للنجاسة؛ فإن النجاسة حكم شرعي فكيف تفسر بالأعيان, وقال صاحب الإقليد: رسموها بحكمها الذي لا يعرف إلا بعد معرفتها لكل عين حرمت لا لمضرتها ولا تعلق حق الغير بها أو كل ما يبطل بملاقاته الصلاة (¬1). وعرف النجاسة بعض الشافعية بأنها: مستقذر يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص (¬2). تعريف الحنابلة: قال المرداوي: " حد النجاسة كل عين حرم تناولها مع إمكانه , لا لحرمتها, ولا لاستقذارها , ولا لضرر بها في بدن أو عقل ". قاله في المطلع (¬3). قلت: هذا التعريف متفق مع التعريف الذي ارتضاه النووي من الشافعية. هذه تقريباً أفضل التعريفات التي قدمها الفقهاء، والمتأمل لها يجد أن الفقهاء جعلوا علة النجاسة: ¬

(¬1) المنثور في القواعد الفقهية (3/ 248). (¬2) مغني المحتاج (1/ 77). (¬3) الإنصاف (1/ 25).

العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي

إما راجعاً إلى الاستقذار شرعاً، كالتعريف المختار عند الحنفية. أو راجعاً إلى تحريم التناول، كالتعريف المختار عند الشافعية والحنابلة. والحق أن الحكم للشيء بأنه نجس هو حكم متلقى من الشارع، لا مكان للاجتهاد في عين هل هي نجسة أو طاهرة، وذلك أن النجاسة على الصحيح معدودة لا محدودة. العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي: هناك وجه شبه بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للنجس. فالنجس في لغة العرب: ضد النظافة والطهارة، فكل شيء يستقذر فهو نجس، وفي الشرع النجاسة: مستقذر مخصوص كالبول ونحوه. فالمخاط والبصاق مثلاً قذر لغة، وليس قذراً شرعاً، والبول قذر لغة وشرعاً. قال في المصباح المنير: نَجِسَ الشَّيْءُ نَجَسًا فَهُوَ نَجِسٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ إذَا كَانَ قَذِرًا غَيْرَ نَظِيفٍ. وَنَجَسَ يَنْجُسُ مِنْ بَابِ قَتَلَ لُغَةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنَجُسَ خِلاَفُ طَهُرَ، وَمَشَاهِيرُ الْكُتُبِ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقَذَرَ قَدْ يَكُونُ نَجَاسَةً فَهُوَ مُوَافِقٌ لِهَذَا وَالاسْمُ النَّجَاسَةُ وَثَوْبٌ نَجِسٌ بِالْكَسْرِ اسْمُ فَاعِلٍ وَبِالْفَتْحِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ، وَقَوْمٌ أَنْجَاسٌ، وَتَنَجَّسَ الشَّيْءُ، وَنَجَّسْتُهُ. وَالنَّجَاسَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: قَذَرٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ مَا يَمْنَعُ جِنْسُهُ الصَّلاةَ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ (¬1). ¬

(¬1) المصباح المنير (ص: 594).

المبحث الثاني الأصل في الأشياء الطهارة

المبحث الثاني الأصل في الأشياء الطهارة هذا أصل عظيم من أصول الشريعة، يحتاج إليه الفقيه في كثير من الأعيان المختلف في طهارتها. قال ابن حزم: " من ادعى نجاسة أو تحريماً لم يصدق إلا بدليل من نص قرآن أو سنة صحيحة" (¬1). وقد دل على هذا أدلة كثيرة منها: من الكتاب قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (¬2). قال الكاساني: أباح الانتفاع بالأشياء كلها, ولا يباح الانتفاع إلا بالطاهر (¬3). وقال في مغني المحتاج: " اعلم أن الأعيان جماد وحيوان, فالجماد كله طاهر; لأنه خلق لمنافع العباد, ولو من بعض الوجوه. قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} وإنما يحصل الانتفاع أو يكمل بالطهارة إلا ما نص الشارع على نجاسته " (¬4). وقال تعالى: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} (¬5). ¬

(¬1) المحلى (مسألة: 394). (¬2) البقرة: 29. (¬3) بدائع الصنائع (1/ 65). (¬4) مغني المحتاج (1/ 77)، وانظر أسنى المطالب (1/ 9)، حاشية البجيرمي (1/ 103). (¬5) الأنعام: 119.

وجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى بين لنا أنه قد فصل لنا ما حرم علينا: والتفصيل: هو التبيين، ومعنى هذا أنه بيَّن المحرمات، فما لم يبيِّن تحريمه فليس بمحرم، وما ليس بمحرم فهو حلال، وكل حلال لنا فهو طاهر. وقد ذكر ابن تيمية: أن الطاهر ما حل ملابسته ومباشرته وحمله في الصلاة، والنجس بخلافه (¬1). وقال القرافي: والطهارة ترجع للإباحة (¬2). (1473 - 1) وأما الآثار، فمنها ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن داود بن صبيح، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا محمد يعني ابن شريك المكي، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو وتلا {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} (¬3)، إلى آخر الآية (¬4). [إسناده صحيح] (¬5). ¬

(¬1) بتصرف مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 536، 541). (¬2) الفروق (2/ 35). (¬3) الأنعام: 145. (¬4) سنن أبي داود (3800). (¬5) وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1404) رقم: 8000، والطحاوي في شرح مشكل الآثار على إثر حديث (754)، والحاكم (4/ 115) والمقدسي في الأحاديث المختارة (504) من طريق الفضل بن دكين به. =

وأما الإجماع، فقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: " الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسات محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر، كما يقولون فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل، وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك " (¬1). ¬

= وأخرجه ابن حزم في المحلى (7/ 436) من طريق أحمد بن الهيثم، نا محمد بن شريك به. وأخرجه البيهقي (9/ 330) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار به. وفيه قصة. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/ 259) عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن ابن عباس. وانظر إتحاف المهرة (7252)، وتحفة الأشراف (5368). وله شاهد من حديث أبي الدرداء، ومن حديث سلمان رضي الله عنهما، أما حديث أبي الدرداء فقد أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2102)، قال: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة، ثنا أبي، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته {وما كان ربك نسياً}. وأخرجه البزار كما في كشف الأستار (123) من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا إسماعيل بن عياش به. قال البزار: إسناده صالح. وأخرجه الدارقطني في السنن (2/ 137)، والبيهقي في السنن (10/ 12) من طريق أبي نعيم، ثنا عاصم بن رجاء به. وهذه متابعة لإسماعيل بن عياش. وعلة هذا الحديث الانقطاع؛ فإن رجاء بن حيوة لم يسمع من أبي الدرداء. انظر تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل (259)، وجامع التحصيل (ص: 175). وله شاهد من حديث سلمان رضي الله عنه، أخرجته في الكلام على إنفحة الميتة، حديث رقم (1629). (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 542، 591).

وقال أيضاً: " الأصل الجامع: طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر " (¬1). وأما البراءة الأصلية: قال الشوكاني: حق استصحاب البراءة الأصلية، وأصالة الطهارة أن يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل، فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك، وإن عجز عنه، أو جاء بما لا تقوم به الحجة، فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة" (¬2). وقال الشوكاني: " الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم، والأصل البراءة من ذلك، ولا سيما في الأمور التي تعم بها البلوى" (¬3). وبناء على هذه القاعدة الجليلة المهمة التي سنحتاج إليها كثيراً في بحثنا هذا، وذلك أنه إذا وقع نزاع في شيء، هل هو طاهر أو نجس؟ نطالب من قال بالنجاسة بالدليل من الكتاب، أو من السنة، أو من الإجماع، أو من القياس الصحيح، أو من قول صحابي لم يخالف، فإن أثبت لنا حجته، وإلا حكم للشيء بالطهارة، ولا نحتاج إلى دليل على طهارة هذه العين، والله أعلم. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 536). (¬2) السيل الجرار (1/ 31). (¬3) الدراري المضية (1/ 27).

المبحث الثالث أقسام النجاسات

المبحث الثالث أقسام النجاسات لما كان الكلام على تقسيم النجاسة إنما هو اصطلاح فقهي، فقد اختلفت المذاهب في تقسيم النجاسات، فالحنفية: يقسمون النجاسة: إلى حقيقية وحكمية. فالحقيقية: هي نجاسة الخبث، ويقسمونها إلى مرئية كالدم، وغير مرئية كالبول إذا جف مثلاً. والحكمية: هي نجاسة الحدث. وهذا بناء على مذهبهم في الحدث وأنه نوع من النجاسة، ولذلك فالماء المستعمل في رفع الحدث نجس عندهم على قول في مذهبهم كما بيناه سابقاً (¬1). كما يقسم الحنفية النجاسة إلى مغلظة ومخففة: فالمغلظة عند أبي حنيفة: ما ورد فيها نص لم يعارض بنص آخر، فإن عورض بنص آخر فمخففة. مثاله: دم الحيض نجس مغلظ لورود النص على نجاسته، ولم يعارض بنص آخر. بينما بول ما يؤكل لحمه نجس مخفف؛ لأن حديث " استنزهوا من البول" (¬2)، يدل على نجاسته، وحديث العرنيين، حيث أذن لهم بشرب أبوال ¬

(¬1) ذكرنا أدلتهم والجواب عليها في كتاب أحكام الطهارة (المياه والآنية) في بحث الماء المستعمل في رفع الحدث. (¬2) سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى في ذكر خلاف أهل العلم في نجاسة أبوال ما يؤكل لحمها.

الإبل يدل على طهارته، فلما عورض بنص آخر دل على أن نجاسته مخففة. وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن النجاسة المغلظة ما أجمع على نجاسته، والمخففة ما اختلف الأئمة في نجاسته. فروث ما يؤكل لحمه مغلظة عند أبي حنيفة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إنها ركس" (¬1)، ولم يعارض بنص آخر. والروث عند صاحبيه مخفف لقول مالك وأحمد بطهارته (¬2). وذهب الشافعية والحنابلة إلى تقسيم النجاسة باعتبار كيفية تطهيرها إلى ثلاثة أقسام: أ - مغلظة: وهي نجاسة الكلب والخنزير وما تولد منهما، فتحتاج إلى التسبيع والتتريب، بخلاف غيرها من النجاسات. ب ـ مخففة: وهي طهارة بول الرضيع الذكر، ويكفي في طهارتها النضح. جـ - متوسطة: وهي سائر النجاسات. كما قسم الشافعية والحنابلة النجاسة إلى قسمين: نجس العين: وهي النجاسة التي لا تطهر بحال إلا الخمر، فتطهر بالتخلل. ونجاسة حكمية: وهي النجاسة الطارئة على محل نجس (وهو ما يسمى بالمتنجس). وعلى هذا فتكون النجاسة إما نجساً أو متنجساً، فالنجس لا يطهر بحال، والمتنجس ما يمكن تطهيره (¬3). ¬

(¬1) سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى، انظر خلاف أهل العلم في نجاسة بول ما يؤكل لحمه. (¬2) انظر حاشية ابن عابدين (1/ 318)، البحر الرائق (1/ 240). (¬3) مغني المحتاج (1/ 83)، روضة الطالبين (1/ 27)، كشاف القناع (1/ 58).

وقال النووي: الحكمية: هي التي تيقن وجودها ولا تحس كالبول إذا جف على المحل، ولم يوجد له رائحة ولا أثر، فيكفي إجراء الماء على المحل مرة. وأما العينية: فلا بد من محاولة إزالة ما وجد منها من طعم ولون وريح (¬1). وهذه التقاسم هي تقاسيم اصطلاحية كما سبق، تارة ترجع إلى ذات النجاسة، وتارة ترجع إلى كيفية تطهيرها، ولا مشاحة في الاصطلاح، والله أعلم. ¬

(¬1) روضة الطالبين (1/ 28).

الباب الأول فيما فيه حياة حيوانية

الباب الأول فيما فيه حياة حيوانية الفصل الأول في طهارة بني آدم المبحث الأول في طهارة المسلم المحدث المسلم إذا كان متطهراً من الحدث الأصغر والأكبر فهو طاهر بلا خلاف بين أهل العلم (¬1). وإن كان محدثاً، سواء كان محدثاً حدثاً أكبر: كالجنب والحائض، أو حدثاً أصغر كما لو نام أو بال أو تغوط ونحوها، فقد اختلف فيه أهل العلم: فقيل: هو طاهر، وهو مذهب الجمهور (¬2)، وقول في مذهب الحنفية (¬3). ¬

(¬1) شرح النووي لصحيح مسلم (3/ 267)، وسيأتي نقل كلامه بتمامه في أثناء ذكر الأدلة، وانظر الفتاوى الكبرى (1/ 226). (¬2) المفهم (1/ 559)، شرح النووي لصحيح مسلم (3/ 267)، فتح الباري تحت حديث رقم (299)، الإجماع لابن المنذر (ص: 36). (¬3) تبيين الحقائق (1/ 88).

دليل الجمهور

وقيل: إنه نجس نجاسة حكمية، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب اعتزال الحائض، روي هذا عن ابن عباس (¬2)، ولا يثبت عنه، وروي عن عبيدة السلماني (¬3)، وهو قول شاذ. دليل الجمهور: الدليل الأول: لو كان المحدث نجساً لما صح حمله في الصلاة، وقد جاء في حديث أبي قتادة في الصحيحين: " أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب " (¬4). الدليل الثاني: (1474 - 2) ما رواه البخاري من طريق حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا جنب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له: فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس (¬5). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 70)، تبيين الحقائق (1/ 88). (¬2) انظر المصنف لعبد الرزاق (1234)، ومسند أحمد (6/ 332) وسيأتي تخريجه قريباً إن شاء الله تعالى. (¬3) سيأتي قوله منسوباً ومخرجاً إن شاء الله تعالى. (¬4) البخاري (516)، ومسلم (41 - 543). (¬5) البخاري (285)، ومسلم (371).

الدليل الثالث

وقوله: إن المؤمن لا ينجس: يحتمل معنيين: الأول: إن المؤمن لا ينجس بهذا - أي بالحدث - وذلك أن أبا هريرة إنما كره جلوسه مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكونه جنباً، فقال له: إن المؤمن لا ينجس أي بهذا، وإن كان المؤمن قد تلحقه النجاسة الطارئة كغيره، فإذا أصاب بدنه نجاسة تنجس. فيكون الحديث دليلاً على طهارة بدن الجنب. المعنى الثاني: إن المؤمن لا ينجس أي طاهر بإيمانه، وهي طهارة معنوية، خاصة أن الحكم كان على وصف الإيمان، فيكون الإيمان مؤثراً في الحكم، فيكون المعنى: المؤمن طاهر بإيمانه. كقوله - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف (¬1). أي المؤمن القوي في إيمانه خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف في إيمانه، وليس المراد ما يستدل به أهل الرياضة على قوة الأبدان، فإن قوة البدن لا يتعلق بها مدح ولا ذم إلا حيث استعملت في طاعة الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان ابن مسعود دقيق الساق، وهو من أفضل الصحابة. وحديث أبي هريرة في طهارة الجنب، وهو حدث أكبر، وأما طهارة الحائض فنذكره في الأدلة التالية. الدليل الثالث: (1475 - 3) ما رواه مسلم، من طريق ثابت بن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) صحيح مسلم (2664).

الدليل الرابع

ناوليني الخمرة من المسجد. قالت: فقلت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك (¬1). ففي هذا الحديث دلالة على أنه لا ينجس من الحائض إلا موضع الأذى، فكما أن حيضتها ليست في يدها، فهي ليست في شيء من جسمها إلا موضع خروج الأذى، وهكذا سائر الأحداث. والله أعلم الدليل الرابع: (1476 - 4) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلي رأسه من المسجد، وهو مجاور، فأغسله وأنا حائض. ورواه البخاري أيضاً (¬2). قال الحافظ: وهو دال على أن ذات الحائض طاهرة، وعلى أن حيضها لا يمنع ملامستها (¬3). والحيض حدث، فدل على أن المسلم المحدث طاهر. الدليل الخامس: (1477 - 5) ما رواه مسلم، من طريق المقدام بن شريح عن أبيه، عن عائشة، قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيِّ فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي ¬

(¬1) صحيح مسلم (298). (¬2) البخاري (299)، ومسلم (297). (¬3) الفتح في شرحه لحديث (299)

الدليل السادس

- صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيّ. ولم يذكر زهير فيشرب (¬1). قال القرطبي: قولها: " أتعرق العرْق ": أي العظم الذي عليه اللحم، وجمعه عراق، وأتعرقه: آكل ما عليه من اللحم، وهذه الأحاديث متفقة الدلالة على أن الحائض لا ينجس منها شيء، ولا يجتنب إلا موضع الأذى فحسب" (¬2). الدليل السادس: (1478 - 6) ما رواه مسلم، قال حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} (¬3)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا كل شيء إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما (¬4). ¬

(¬1) صحيح مسلم (300). (¬2) المفهم (1/ 559). (¬3) البقرة، آية: 222. (¬4) صحيح مسلم (302)

الدليل السابع

الدليل السابع: الإجماع: قال ابن المنذر رحمه الله: "وأجمعوا على أن عرق الجنب طاهر وكذلك الحائض " (¬1). وإذا كان عرقهما طاهرين، وهو خارج من جسدهما، كان جسدهما طاهراً. وقال النووي: قال العلماء: لا تكره مضاجعة الحائض، ولا قبلتها، ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة وتحت الركبة، ولا يكره وضع يدها في شيء من المائعات، ولا يكره غسلها رأس زوجها، أو غيره من محارمها، وترجيله، ولا يكره طبخها وعجنها، وغير ذلك من الصنائع، وسؤرها وعرقها طاهران. وكل هذا متفق عليه، وقد نقل الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري في كتابه في مذاهب العلماء إجماع المسلمين على هذا كله ودلائله من السنة ظاهرة مشهورة (¬2). وقال ابن تيمية: " وأبدان الجنب من الرجال والنساء طاهرة"، ثم قال: وهذا متفق عليه بين الأئمة أن بدن الجنب طاهر, وعرقه طاهر, والثوب الذي يكون فيه عرقه طاهر, ولو سقط الجنب في دهن أو مائع لم ينجسه, بلا نزاع بين الأئمة (¬3). وإذا ثبتت طهارة المحدث حدثاً أكبر، كان المحدث حدثاً أصغر طاهراً من باب أولى. ¬

(¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 36). (¬2) شرح النووي لصيحيح مسلم (3/ 267). (¬3) الفتاوى الكبرى (1/ 226).

دليل من قال: المحدث نجس نجاسة حكمية

دليل من قال: المحدث نجس نجاسة حكمية: الدليل الأول: قالوا: إن استعمال الماء لرفع الحدث يسمى طهارة، قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1). والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة؛ إذ تطهير الطاهر لا يعقل (¬2). ويجاب عنه: أولاً: سمي طهارة؛ لأنه يطهر العبد من الذنوب، لا أنه طهره من نجاسة حلت فيه، ولذلك لما اعتبر أبو هريرة حدثه نجاسة بين له - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " إن المؤمن لا ينجس ". متفق عليه، وقد يقال: سمي طهارة باعتبار اللغة، فإن الطهارة في اللغة النظافة وإزالة ما يستقذر وهذا الفعل متضمن لذلك. ثانياً: تجديد الوضوء يسمى طهارة شرعية مع أنه متطهر. الدليل الثاني: (1479 - 7) ما رواه مسلم، من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً (¬3). ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) البناية بتصرف (1/ 350،351). (¬3) مسلم (283).

دليل من قال: يجب اعتزال الحائض حال الحيض

فلولا أن الجنب يؤثر في طهورية الماء لما نهى عنه، فهذا دليل على أن بدنه نجس. وأجيب: بأنه لم يتعرض رسول - صلى الله عليه وسلم - لحكم الماء، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: إنه أصبح نجساً بمجرد الاغتسال فيه، فالحديث ليس فيه إلا النهي عن الاغتسال في الماء الدائم، حالة كون المغتسل جنباً، فإن قيل: ما الحكمة من النهي عن الاغتسال في الماء الدائم؟ يقال: إن الطباع مجبولة على كراهة استعمال الماء الدائم الذي يغتسل فيه من الجنابة، وقد يكون في بدنه شيء من المذي فيستقذر. دليل من قال: يجب اعتزال الحائض حال الحيض: الدليل الأول: قوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (¬1). واعتزال النساء: اعتزال لجميع بدنها. ومن باشرها لا يصدق عليه أنه اعتزلها. وأجيب: بأن الذي يوضح القرآن هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد بعثه الله سبحانه وتعالى ليبين للناس ما نزل إليهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس عند مسلم (¬2)، وقد ذكرته بطوله: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ". ¬

(¬1) البقرة، آية: 222. (¬2) صحيح مسلم (302).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1480 - 8) أخرج عبد الرزاق (¬1)، وأحمد (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4)، وابن جرير الطبري (¬5)، والبيهقي (¬6)، واللفظ للبيهقي، رووه كلهم من طريق الزهري، عن حبيب مولى عروة بن الزبير، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته، أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس في رسالة، فدخلت عليه فإذا فراشه معزول عن فراش امرأته، فرجعت إلى ميمونة فبلغتها رسالتها، ثم ذكرت ذلك. فقالت لها ميمونة: ارجعي إلى امرأته فسليها عن ذلك، فرجعت إليها، فسألتها عن ذلك، فأخبرتها أنها إذا طمثت عزل فراشه عبد الله عنها، فأرسلت ميمونة إلى عبد الله بن عباس، فتغيظت عليه، وقالت: أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوالله إن كانت المرأة من أزواجه لتأتزر بالثوب ما يبلغ أنصاف فخذيها، ثم يباشرها بسائر جسده. [إسناده ضعيف] (¬7). وعلى فرض صحته فإنه لا يتوقع من ابن عباس رضي الله عنهما أن تبلغه ¬

(¬1) المصنف (1234). (¬2) المسند (6/ 332، 336). (¬3) السنن (267). (¬4) سنن النسائي (1/ 189). (¬5) في التفسير (4243). (¬6) السنن الكبرى (1/ 313) (¬7) سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (93).

سنة المصطفى ثم يبقى على رأيه المخالف لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل والمخالف لقوله. فكونه لم يعترض على ميمونة دليل منه على التسليم والقبول لما أخبرته، وإذا رجحنا رجوعه عنه لم يبق قولاً له. والله أعلم. وممن رأى هذا الرأي عبيدة السلماني: (1481 - 9) فقد أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره: من طريقين، عن محمد ابن سيرين، قال: قلت لعبيدة السلماني: ما يحل لي من امرأتي إذا كانت حائضاً، قال: الفراش واحد، واللحاف شتى (¬1). [إسناده صحيح]. وهذا موقوف عليه، ولا حجة في قول أحد مع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وقول عبيدة لا يخرق الإجماع المؤيد بالسنة الصحيحة الصريحة ما دام أن الأمر لم يثبت عن ابن عباس. بل الثابت عن ابن عباس خلافه. (1482 - 10) فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره: من طريق محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال: قال ابن عباس: إذا جعلت الحائضُ ثوباً أو ما يكف الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدها زوجها (¬2). [إسناده حسن لغيره] (¬3). ¬

(¬1) تفسير الطبري (4242، 4244). (¬2) تفسير الطبري (4252). (¬3) سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (94).

قال النووي: " وأما ما حكي عن عبيدة السلماني وغيره، من أنه لا يباشر شيئاً منها بشيء منه فشاذ منكر غير معروف، ولا مقبول، ولو صح عنه لكان مردوداً بالأحاديث الصحيحة المشهورة، المذكورة في الصحيحين وغيرها من مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق الإزار، وإذنه في ذلك بإجماع المسلمين قبل المخالف وبعده " اهـ (¬1). وقال الشوكاني: " وأما ما يروى عن ابن عباس، وعبيدة السلماني، أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش امرأته إذا حاضت فليس بشيء " (¬2). فالراجح: طهارة المسلم سواء كان محدثاً أو غير محدث، وسواء كان حدثه أكبر أم أصغر، وأما طهارته حال الممات فإننا سوف نتعرض له في باب مستقل عند الكلام على الميتة. ¬

(¬1) شرح مسلم (3/ 204) (¬2) تفسير فتح القدير (1/ 226).

المبحث الثاني في طهارة المشرك

المبحث الثاني في طهارة المشرك اختلف الفقهاء في بدن المشرك، هل هو طاهر أو نجس؟ فقيل: بدنه طاهر، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: بدنه نجس مطلقاً، وهو قول في مذهب المالكية (¬5)، وإليه ذهب ابن حزم رحمه الله تعالى (¬6). وقيل: المشرك طاهر حياً، ونجس ميتاً، وهو قول في مذهب المالكية (¬7). ¬

(¬1) قال السرخسي في المبسوط (1/ 47): أنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد ثقيف في المسجد، وكانوا مشركين، ولو كان عين المشرك نجساً لما أنزلهم في المسجد. اهـ وانظر بدائع الصنائع (1/ 64). وهذا القول ينبغي أن ينزل على الرواية الثانية في مذهب الحنفية، والتي تقول بطهارة بدن المحدث، وأما على القول بنجاسة بدن المحدث، فإنه ينبغي أن يكون المشرك نجساً إلا أن يكون متطهراً، وهم يصححون الوضوء من المشرك؛ لأن النية ليست شرطاً عندهم. (¬2) ذهب المالكية في الراجح عندهم إلى طهارة كل حي مطلقاً حتى الكلب، انظر منح الجليل (1/ 47)، التاج والإكليل (1/ 227)، مواهب الجليل (1/ 99)، حاشية الدسوقي (1/ 50). (¬3) المجموع (1/ 320)، (¬4) كشاف القناع (1/ 93)، مطالب أولي النهى (1/ 233). (¬5) القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 47). (¬6) المحلى مسألة: 134 (1/ 137). (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 53).

دليل من قال: إن بدن المشرك طاهر

دليل من قال: إن بدن المشرك طاهر: الدليل الأول: قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} (¬1). وجه الاستدلال: يلزم من حل طعامهم لنا مع مباشرتهم لها طهارة أبدانهم، كما أباح لنا نكاح نسائهم، ويلزم من المعاشرة الزوجية مباشرة كل واحد من الزوجين للآخر، وفي هذا لا يسلم من إصابة عرقهن وريقهن، فدل على طهارة أجسادهن. اعتراض على الاستدلال: اعترض ابن حزم على هذا الاستدلال بقوله: فإن قيل: قد أبيح لنا نكاح الكتابيات ووطؤهن, قلنا نعم, فأي دليل في هذا على أن لعابها وعرقها ودمعها طاهر؟ فإن قيل: إنه لا يقدر على التحفظ من ذلك. قلنا: هذا خطأ, بل يفعل فيما مسه من لعابها وعرقها مثل الذي يفعل إذا مسه بولها أو دمها أو مائية فرجها ولا فرق, ولا حرج في ذلك, ثم هب أنه لو صح لهم ذلك في نساء أهل الكتاب, من أين لهم طهارة رجالهم أو طهارة النساء والرجال من غير أهل الكتاب؟ فإن قالوا: قلنا ذلك قياسا على أهل الكتاب. قلنا: القياس كله باطل, ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل, لأن أول بطلانه أن علتهم في طهارة الكتابيات جواز نكاحهن, وهذه العلة معدومة بإقرارهم في غير الكتابيات. والقياس عندهم لا يجوز إلا بعلة جامعة بين الحكمين, وهذه ¬

(¬1) المائدة: 5.

الدليل الثاني

علة مفرقة لا جامعة وبالله تعالى التوفيق. جواب على الاعتراض: يمكن الرد على ابن حزم رحمه الله بأنه إذا كانت المرأة من أهل الكتاب طاهرة، كان الرجل طاهراً ولا فرق، ولو سلم اعتراض ابن حزم على هذا الدليل فما جوابه عن أكل طعام أهل الكتاب، فإنهم يباشرونه بأيديهم، ويطبخونه بمياههم، وفي آنيتهم، ومن غير فرق بين طعام الرجل وطعام المرأة. (1483 - 11) فقد أخرج البخاري بسنده من حديث أبي هريرة في قصة وضع السم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم؟ قالوا: نعم. قال: هل وضعتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك (¬1). (1484 - 12) وروى مسلم بإسناده من طريق عبد الله بن مغفل، قال: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر قال: فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال: فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسماً، ورواه البخاري واللفظ لمسلم (¬2). الدليل الثاني: (1485 - 13) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلا قبل نجد ¬

(¬1) البخاري (3169). (¬2) مسلم (1772)، البخاري (5508).

الدليل الثالث

فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد. الحديث قطعة من حديث طويل. ورواه مسلم أيضاً (¬1). وجه الاستدلال: لو كان الكافر نجس العين لما ربط ثمامة في المسجد وهو مشرك، فدل على طهارة بدن المشرك. اعتراض وجواب: اعترض على هذا الحديث بأنه كان قبل النهي عن دخول المشركين المسجد في قوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (¬2)، فتكون الآية ناسخة للحكم الوارد في الحديث. ويجاب: بأن النهي عن دخول المسجد الحرام لا يشمل النهي عن دخول غيره من المساجد، وهذا النهي ليس خاصاً في مسجد الكعبة، بل ينهى عن دخول الحرم كله، وإن كان باقي الحرم قد يتبول فيه الإنسان ويتغوط، فهذا نهي خاص عن الحرم كله لا عن المسجد، فلا يقاس عليه غيره من البقاع إلا ما ورد الدليل بذلك. الدليل الثالث: (2486 - 14) ما أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وقد جاء فيه: ¬

(¬1) صحيحي البخاري (4372)، ومسلم (1764). (¬2) التوبة: 28.

الدليل الرابع

أن النبي وأصحابه شربوا من مزادة امرأة مشركة، وأن أحد الصحابة كان مجنباً فاغتسل من ذلك الماء. والحديث في صحيح مسلم دون قصة اغتسال الجنب (¬1). الدليل الرابع: (1487 - 15) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم. الحديث (¬2). [اختلف في سماع الحسن من عثمان، كما اختلف في وصله وإرساله، والراجح إرساله] (¬3). ¬

(¬1) البخاري (3571)، صحيح مسلم (682). (¬2) المسند (4/ 218). (¬3) رجاله ثقات، واختلف في سماع الحسن من عثمان بن أبي العاص. فقال علي بن المديني: سمع الحسن من عثمان بن أبي العاص. انظر علل ابن المديني (4). وذكر البخاري في التأريخ الكبير (6/ 212) عن الحسن قوله: كنا ندخل على عثمان ابن أبي العاص. وكذلك أثبت البزار سماع الحسن من عثمان بن أبي العاص، انظر نصب الراية (1/ 9). وقال المزي: قيل: لم يسمع منه. وهذه الصيغة على سبيل التمريض، فلم يجزم المزي بعدم السماع. وجزم الحافظ في التهذيب بعدم السماع منه. [تخريج الحديث] وأخرجه ابن خزيمة (1328) من طريق عفان به. أخرجه الطيالسي (939)، وأبو داود (3026)، وابن الجاورد (373) وابن خزيمة =

الدليل الخامس

وجه الاستدلال به، كالاستدلال بحديث ثمامة. الدليل الخامس: لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه توقي الكفار، وقد كانوا معهم في مكة قبل الهجرة، كما لم ينقل توقيهم لأهل الكتاب في المدينة، ولو كانوا أنجاساً لنقل توقيهم لهم، وغسل ما أصابهم منهم. دليل من قال بنجاسة المشرك. الدليل الأول: قوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (¬1). ¬

= (1328)، والطبراني (9/ 54) رقم 8372 والبيهقي (2/ 444)، من طريق أبي الوليد. وأخرجه في الآحاد والمثاني (1520) والطبراني (9/ 54) رقم 8372 عن هدبة بن خالد، كلهم عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص مرفوعاً. واختلف على الحسن: فرواه حميد موصولاً كما سبق. وأخرجه أبو داود في المراسيل (17)، وفي الآحاد والمثاني (1521) من طريق أشعث، عن الحسن مرسلاً. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1620) وابن أبي شيبة (2/ 260) من طريق سفيان، وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 260) عن ابن علية، كلاهما عن يونس، عن الحسن مرسلاً. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 13) من طريق أبي عقيل الدورقي، عن الحسن مرسلاً. فهؤلاء ثلاثة يروونه عن الحسن مرسلاً، ويونس من أصحاب الحسن، مقدم على غيره، والله أعلم. (¬1) التوبة: 28.

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: نهى الله سبحانه وتعالى عن دخول المشركين المسجد الحرام، وذكر العلة في ذلك، وهو أنهم نجس، فدل على نجاستهم نجاسة عينية، وإذا ورد لفظ نجس في الشرع حمل ذلك على الحقيقة الشرعية. وأجيب: بأن الحكم معلق على وصف، وهو الشرك، والشرك نجاسة معنوية، كما أن الإيمان طهارة معنوية في قوله: " إن المؤمن لا ينجس " (¬1)، وحمل المعنى على الحقيقة الشرعية هو الأصل، لكن إذا وردت قرينة تمنع من إرادة الحقيقة الشرعية لم يحمل عليها، فلما أذن في نكاح نساء أهل الكتاب، وأباح لنا طعامهم، علم أن الحقيقة الشرعية غير مرداة، فحملنا الآية على النجاسة المعنوية، والله أعلم. الدليل الثاني: (1488 - 16) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، قال: أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت ¬

(¬1) سبق تخريجه.

اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن باستعمالها إلا بعد غسلها، فدل ذلك على نجاستها، وإذا كانت آنيتهم نجسة فمن باب أولى أن تكون أبدانهم نجسة كذلك. وأجيب بجوابين: الأول: لو كانت العلة النجاسة لأمر بغسلها مباشرة، فالنهي عن استعمالها مع وجود غيرها مطلق، سواء تيقنا طهارتها أم لا، والأصل في النهي المنع، لكن لما قال سبحانه وتعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (¬2)، ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم وأوانيهم، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - طعام أهل الكتاب في أحاديث صحيحة، فدل على أن الغسل من باب الاحتياط والاستحباب. الجواب الثاني: أن حديث أبي ثعلبة الخشني في قوم كانوا يأكلون في آنيتهم الميتة والخنزير، ويشربون فيها الخمر، ولذا أمر بغسلها إن لم يوجد غيرها، أما من يعلم أنهم لا يأكلون فيها الميتة ولا يشربون فيها الخمر فآنيتهم كآنية المسلمين. (1489 - 17) ويدل على هذا ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، ¬

(¬1) صحيح البخاري (5478)، ومسلم (1930). (¬2) المائدة: 5.

الدليل الثالث

أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إنى بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبنه قال: واشربوا (¬1). [أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، واختلف في ذكر زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬2). الدليل الثالث: (1490 - 18) ما رواه البخاري من طريق حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا جنب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هر؟ فقلت له، فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس (¬3). مفهومه: إن المشرك نجس. قلت: لا حاجة إلى الاستدلال بمفهوم الحديث، وعندنا منطوق الآية الكريمة: " إنما المشركون نجس " وقد أجبت عن الآية، وما كان جواباً عن الآية كان جواباً عن مفهوم حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ¬

(¬1) سنن أبي داود الطيالسي (1014). (¬2) سبق تخريجه في كتابي (أحكام الطهارة) كتاب المياه والآنية برقم: 129. (¬3) البخاري (285) مسلم (371).

دليل من قال: إن المشرك ينجس بالموت

دليل من قال: إن المشرك ينجس بالموت: لقد عقد فصل مستقل في حكم ميتة الآدمي، وذكر فيه أدلة كل قول، كما سيأتي في الباب الثالث إن شاء الله تعالى. والراجح أن بدن المشرك طاهر، وأن نجاسته نجاسة معنوية، وذلك لما يلي: أ - قوة أدلة هذا القول في مقابل ضعف أدلة القولين الآخرين. ب - سلامة أدلة هذا القول من المناقشة، وما نوقش منها فقد أمكن الجواب عنه، بينما نوقشت أدلة القولين الآخرين مناقشات مؤثرة دون إمكان الجواب المقنع عن ذلك، والله أعلم.

المبحث الثالث في الميت من بني آدم

المبحث الثالث في الميت من بني آدم اختلف العلماء في ميتة الآدمي، فقيل: نجس مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول عند الشافعية (¬2)، وقول عند المالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: طاهر مطلقاً، وهو الراجح في مذهب الشافعية (¬5)، والمالكية (¬6)، والمشهور عند الحنابلة (¬7). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 243)، وقد حكم الحنفية بنجاسة البئر إذا مات فيه آدمي انظر الاختيار لتعليل المختار (1/ 17) المبسوط (1/ 58)، بدائع الصنائع (1/ 75)، الهداية شرح البداية، مطبوع مع شرح فتح القدير (1/ 104)، ومذهبهم هذا متسق مع مذهبهم القائل بنجاسة المحدث، وذلك لأن الميت يجب غسله، لأن فيه معنى الحدث. والصحيح أن الحدث لا يعتبر نجاسة، وكونه سمي رفع الحدث الأصغر أو الأكبر طهارة لا يعتبر ذلك من النجاسة، وقد بحثنا هذه المسألة بحثاً مستقلاً، وأجبنا عن أدلة الحنفية رحمهم الله تعالى. (¬2) المجموع (2/ 579، 580). (¬3) مواهب الجليل (1/ 99). (¬4) المغني (1/ 42)، الإنصاف (1/ 337). (¬5) قال النووي في المجموع (2/ 579، 580): "وأما الآدمي هل ينجس بالموت أم لا؟ فيه هذان القولان، الصحيح منهما: أنه لا ينجس، اتفق الأصحاب على تصحيحه، ودليله الأحاديث السابقة والمعنى الذي ذكره. اهـ وانظر أسنى المطالب (1/ 10)، نهاية المحتاج (1/ 238، 239). (¬6) مواهب الجليل (1/ 99) الخرشي (1/ 88، 89). (¬7) المغني (1/ 42)، كشاف القناع (1/ 193)، مطالب أولي النهى (1/ 233).

وقيل: المسلم الميت طاهر، والكافر الميت نجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول عند الحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). وقد ذكر أدلة كل قول في باب مستقل في حكم الميتة، فانظر الباب الرابع من هذا الكتاب، ورجحنا طهارة الميت مطلقاً، سواء كان مسلماً أم كافراً، والله أعلم. ¬

(¬1) قال في مواهب الجليل (1/ 99): وذهب بعض أشياخنا إلى التفرقة بين المسلم والكافر، ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين فرق بينهما. اهـ (¬2) ساقه ابن قدامة احتمالاً، قال في المغني (1/ 42): لم يفرق أصحابنا بين المسلم والكافر; لاستوائهما في الآدمية, وفي حال الحياة, ويحتمل أن ينجس الكافر بموته; لأن الخبر إنما ورد في المسلم, ولا يصح قياس الكافر عليه; لأنه لا يصلى عليه, وليس له حرمة كحرمة المسلم. اهـ وقال في الإنصاف (1/ 337): وقيل: ينجس الكافر, دون المسلم, وهو احتمال في المغني. قال المجد في شرحه, وتابعه في مجمع البحرين: ينجس الكافر بموته على كلا المذهبين في المسلم ولا يطهر بالغسل أبداً كالشاة. وخص الشيخ تقي الدين في شرح العمدة الخلاف بالمسلم. وأطلقهما ابن تميم في الكافر. اهـ (¬3) يأخذ ابن حزم رحمه الله بظاهر حديث " إن المؤمن لا ينجس " فمنطوقه: أن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً، ومفهومه: أن الكافر نجس، حياً وميتاً، ويؤيد هذا المفهوم منطوق الآية عنده: " إنما المشركون نجس " وبالتالي يحكم على نجاسة لعاب الكافر وعرقه ولبنه وسائر أجزائه في الحياة والموت، انظر المحلى (مسألة: 134، 139، 603، 2018).

الفصل الثاني في الحيوان حال الحياة

الفصل الثاني في الحيوان حال الحياة المبحث الأول في حيوان مأكول اللحم. الحيوان مأكول اللحم، إما أن يكون حياًّ، أو فارقته الحياة عن طريق التذكية الشرعية، وإما أن يكون ميتة، فإن كان حياً فهو طاهر بالإجماع. قال ابن حزم: وكل ما يؤكل لحمه فلا خلاف فيه أنه طاهر، قال تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} (¬1)، فكل حلال طيب، والطيب لا يكون نجساً بل هو طاهر (¬2). وإن كان الحيوان ميتة، وكان من حيوان البر، وكان له نفس سائلة، فإنه نجس بالإجماع أيضاً. وسيأتي تفصيل ذلك في باب مستقل عن الميتة وأنواعها إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) الأعراف: 157. (¬2) المحلى: مسألة: 133 (1/ 137).

المبحث الثاني في الجلالة

المبحث الثاني في الجلالة الفرع الأول: في تعريف الجلالة اختلف أهل العلم في تعريف الجلالة على أقوال: فقيل: ما كان علفها النجاسة، ولم يخلط بغيره، وأنتن لحمها من ذلك. قال السرخسي: تفسير الجلالة التي تعتاد أكل الجيف ولا تخلط، فيتغير لحمها, ويكون لحمها منتناً، فحرم الأكل; لأنه من الخبائث, والعمل عليها لتأذي الناس بنتنها, وأما ما يخلط فيتناول الجيف وغير الجيف على وجه لا يظهر أثر ذلك من لحمه, فلا بأس بأكله, والعمل عليه، حتى ذكر في النوادر: لو أن جدياً غذي بلبن خنزير فلا بأس بأكله; لأنه لم يتغير لحمه، وما غذي به صار مستهلكاً، ولم يبق له أثر, وعلى هذا نقول: لا بأس بأكل الدجاجة، وإن كانت تقع على الجيف; لأنها تخلط, ولا يتغير لحمها ولا ينتن (¬1). وقيل: الجلالة ما كان أغلب علفها النجاسة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، وهو مذهب الحنابلة (¬4). ¬

(¬1) المبسوط (11/ 255). (¬2) بدائع الصنائع (5/ 39). (¬3) المجموع (9/ 30). (¬4) قال ابن قدامة في المغني (9/ 329): قال أحمد: أكره لحوم الجلالة وألبانها. قال القاضي في " المجرد ": هي التي تأكل القذر, فإذا كان أكثر علفها النجاسة, حرم لحمها ولبنها. =

وقال الكاساني من الحنفية: يكره أكل لحوم الإبل الجلالة، وهي التي الأغلب من أكلها النجاسة (¬1). وقيل: الجلالة: ما ظهر فيها أثر النجاسة من ريح ونتن، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3). وهذا القول هو أقرب الأقوال؛ لأن النجاسة إذا لم يظهر لها أثر، وقد استحالت إلى مادة أخرى، فإن الاستحالة مؤثرة، فتعطى حكم ما استحالت إليه، إلا أنه في الحالة التي يظهر فيها أثر للنجاسة فإن هذا دليل على التغير بالنجاسة، فإذا كان الماء الذي خلق طهوراً، ويدفع النجاسة عن غيره فإذا تغير بالنجاسة حكمنا له بالنجاسة، فما بالك بغير الماء، والله أعلم. ¬

= وفي بيضها روايتان. وإن كان أكثر علفها الطاهر, لم يحرم أكلها ولا لبنها. وتحديد الجلالة بكون أكثر علفها النجاسة, لم نسمعه عن أحمد, ولا هو ظاهر كلامه, لكن يمكن تحديده بما يكون كثيراً في مأكولها, ويعفى عن اليسير. اهـ (¬1) بدائع الصنائع (5/ 39). (¬2) قال في بدائع الصنائع (5/ 40): ولا يكره أكل الدجاج المخلى، وإن كان يتناول النجاسة; لأنه لا يغلب عليه أكل النجاسة، بل يخلطها بغيرها وهو الحب فيأكل ذا وذا. وقيل: إنما لا يكره; لأنه لا ينتن كما ينتن الإبل، والحكم متعلق بالنتن; ولهذا قال أصحابنا: في جدي ارتضع بلبن خنزير حتى كبر: إنه لا يكره أكله; لأن لحمه لا يتغير ولا ينتن فهذا يدل على أن الكراهة في الجلالة لمكان التغير والنتن، لا لتناول النجاسة، ولهذا إذا خلطت لا يكره وإن وجد تناول النجاسة; لأنها لا تنتن فدل أن العبرة للنتن، لا لتناول النجاسة. (¬3) قال النووي في المجموع (9/ 30): الصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا اعتبار بالكثرة, وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن، فإن وجد في عرفها وغيره ريح النجاسة فجلالة, وإلا فلا. اهـ وقال البيهقي في الشعب (5/ 19): وما روي عنه من النهي عن الجلالة وما قال فيها أهل العلم من أن المراد بها إذا ظهر ريح القذر في لحمها. اهـ

الفرع الثاني: في حكم لحم الجلالة وركوبها وشرب لبنها

الفرع الثاني: في حكم لحم الجلالة وركوبها وشرب لبنها اختلف أهل العلم على أقوال، فقيل: يكره كراهة تنزيه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والصحيح من قولي الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا بأس بذلك، وهو مذهب المالكية (¬4)، وإليه ذهب الحسن البصري (¬5). وقيل: يحرم، وهو قول في مذهب الشافعي (¬6)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬7)، واختاره ابن حزم (¬8). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 223)، الفتاوى الهندية (5/ 289)، بدائع الصنائع (5/ 40)، الجوهرة النيرة (2/ 185)، المبسوط (11/ 255). (¬2) مغني المحتاج (4/ 304)، أسنى المطالب (1/ 568)، تحفة المحتاج (9/ 386)، نهاية المحتاج (8/ 156). (¬3) الإنصاف (10/ 356). (¬4) المدونة (1/ 542)، والتاج والإكليل (4/ 346)، مواهب الجليل (3/ 230). (¬5) انظر المغني (9/ 329). (¬6) المجموع (9/ 30). (¬7) المغني (9/ 329)، الإنصاف (10/ 356)، شرح منتهى الإرادات (3/ 411)، كشاف القناع (6/ 193، 194). (¬8) المحلى (7/ 410).

دليل من قال بالكراهة أو التحريم

دليل من قال بالكراهة أو التحريم: الدليل الأول: (1491 - 19) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، حدثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبن شاة الجلالة، وعن المجثمة، وعن الشرب من في السقاء (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 226). (¬2) أخرجه أحمد كما في إسناد الباب (1/ 226، 293، 321)، وأبو داود (3786)، والترمذي (1825)، والنسائي في المجتبى (448) وفي الكبرى (4537)، وابن الجارود في المنتقى (887)، والدارمي (2001)، والطبراني (11/ 307)، والبيهقي (9/ 333) من طريق هشام الدستوائي. وأخرجه أحمد (1/ 339) من طريق شعبة، عن قتادة به. وقد ذكر الأستاذ الفاضل شعيب الأرنؤوط في تخريجه للمسند أن ذكر شعبة خطأ، وأن الصواب سعيد عن قتادة، وذكر أنها تحرفت في أكثر الأصول. وهذا ربما يكون بعيداً: وهو أن تكون أكثر الأصول على الخطأ، وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد (15/ 183) أن شعبة قد رواه عن قتادة، مما يدل على أن ذكر شعبة على الصواب، كما ذكر الحافظ في إتحاف المهرة (7/ 615) أن أحمد أخرجه عن محمد بن جعفر وعن عبد الصمد، وعن أبي عبد الصمد ثلاثتهم عن شعبة به. وأخرجه أحمد (1/ 339) والترمذي (1825) والحاكم (2247)، وابن حبان (539)، والبيهقي (9/ 334) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. وأخرجه أبو داود (3719) وابن خزيمة (2552)، والحاكم (1628)، والطبراني (11819)، والبيهقي (5/ 254) من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة به. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 349) من طريق خالد الحذاء، عن عكرمة به. =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1492 - 20) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا سهل بن بكار حدثنا وهيب عن ابن طاوس عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة عن ركوبها وأكل لحمها (¬1). [رواه وهيب عن ابن طاووس، فوصله، ورواه معمر عن ابن طاووس معضلاً، وهو المحفوظ] (¬2). ¬

= وأخرجه الطبراني (11/ 267) من طريق بسام الصيرفي، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشاة الجلالة، وعن ثمن الكلب وعسب الفحل وكسب الحجام. وأخرجه البيهقي (9/ 333) من طريق ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن طاووس، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الجلالة وألبانها. وانفرد ابن لهيعة بهذا الإسناد، وهو ضعيف. وأخرجه الدارمي (1975،) والطحاوي (4/ 276) ببعضه، ولم يذكر فيه الجلالة. انظر أطراف المسند (3/ 222)، إتحاف المهرة (8597)، تحفة الأشراف (6190، 6191). (¬1) سنن أبي داود (3811). (¬2) وأخرجه النسائي في المجتبى (4447) من طريق سهل بن بكار به، وفيه: عن محمد ابن عبد الله بن عمرو، قال مرة: عن أبيه، وقال مرة: عن جده. ولا أظن أن مثل هذا يضر وذلك لأن الجد أب، ثم لو ثبت فلا فرق أيضاً بين أن يكون الحديث من مسند عبد الله بن عمرو، أو مسند عمرو بن العاص، فكلاهما صحابيان، فعلى أيهما دار الحديث فقد دار على من تقبل روايته، وثبتت عدالته بتعديل الشارع لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجرح أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا مجروح في بدعة، ومن جرحهم فقد أبطل الشرع؛ فإن الشرع =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1493 - 21) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن أبي سريج، أخبرني عبد الله بن جهم، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن أيوب السختياني، عن نافع، ¬

_ = لم يصل لنا إلا من طريقهم، جمعنا الله بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأماتنا على محبتهم، واقتفاء أثرهم. وقد رواه أحمد، وهو أعلى من سنن أبي داود إلا أن في إسناد أحمد مؤمل بن إسماعيل، وهو سيء الحفظ، فنزلت إلى أبي داود لقوة إسناده. فقد رواه أحمد (2/ 219) حدثنا مؤمل، ورواه الحاكم (2498)، والبيهقي (9/ 33) من طريق أحمد بن إسحاق الحضرمي. ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (2809) من طريق إبراهيم بن الحجاج السامي، ثلاثتهم عن وهيب به. وقال الحافظ في الفتح (9/ 648) ولأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص، ... وذكر الحديث، فقال: وسنده حسن ". اهـ وقد اختلف فيه على ابن طاووس. فرواه وهيب بن خالد، عن ابن طاووس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وخالفه معمر بن راشد، فرواه عبد الرزاق (8712) عن معمر، عن ابن طاووس، قال: أخبرني عمرو بن شعيب، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الإبل الجلالة وألبانها، وكان يكره أن يحج عليها. وهذا معضل. ومعمر مقدم على وهيب، خاصة في أهل اليمن، فمعمر وشيخه ابن طاووس يمنيان. وأخرجه الدارقطني (4/ 283)، والحاكم (2269)، وعنه البيهقي (9/ 333) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو بنحوه. وصحح إسناده الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: إسماعيل وأبوه ضعيفان. اهـ انظر إتحاف المهرة (11799)، تحفة الأشراف (8726)، أطراف المسند (4/ 53) ألحقه المحقق وفقه الله مستدركاً على ابن حجر عدم ذكره.

عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها (¬1). [إسناده حسن وعمرو بن أبي قيس قد توبع في أيوب] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (3787). (¬2) وأخرجه الحاكم في المستدرك (2249) من طريق أحمد بن أبي سريج به. وأخرجه البيهقي (5/ 254) من طريق عبد الوارث، عن أيوب به، بلفظ: نهى عن ركوب الجلالة. وأخرجه الترمذي (1824)، والحاكم في المستدرك (2248) والبيهقي (9/ 332) من طريق محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عمر به. واختلف فيه على ابن أبي نجيح، فرواه محمد بن إسحاق، عنه، عن مجاهد، عن ابن عمر. وخالفه الثوري، قال الترمذي: روى الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. قلت رواية الثوري رواها عبد الرزاق في المصنف (8718). وابن أبي شيبة (5/ 148) رقم 24610، حدثنا وكيع، كلاهما (عبد الرزاق ووكيع) عن سفيان به، فالراجح من رواية مجاهد أنها مرسلة. قال الترمذي في علله (ص: 304) بعد أن ذكر رواية محمد بن إسحاق لابن أبي نجيح موصولة، قال: سألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: روى سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الجلالة مرسل. اهـ كما رواه عبد الرزاق في المصنف (8713)، وابن أبي شيبة أيضاً (5/ 148) من طريق الثوري، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد مرسلاً أيضاً. كما خالفهم شريك، عن ليث بن أبي سليم، فرواه البيهقي (9/ 332) عن شريك، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس. وهذا الإسناد منكر، تفرد به شريك، وهو سيء الحفظ، عن ليث وهو ضعيف. انظر إتحاف المهرة (10130)، تحفة (7589).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1494 - 22) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا شبابة، حدثنا مغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة أن يؤكل لحمها، أو يشرب لبنها (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله] (¬2). دليل من قال: لا بأس بالجلالة ركوباً وحلباً ولحماً. الدليل الأول: إذا اعتبرنا أن الاستحالة مؤثرة في تحول العين النجسة إلى طاهر، كالخمرة تتحول إلى خل ونحوها، فكذلك هذه النجاسة التي أكلتها الدابة قد تحولت إلى عين طاهرة، فلا يبقى لها حكم، والله أعلم. الدليل الثاني: أن النجاسة في مقرها لا حكم لها، فهذا البول والغائط من الإنسان ما دام في جوفه لا يحكم لمن يحمله بالنجاسة، فكذلك النجاسة التي أكلتها هذه الدابة لا يحكم لها بالنجاسة ما دامت في معدنها، وبالتالي لا يمكن أن تتنجس الدابة الطاهرة بعذرة في جوفها. ¬

(¬1) المصنف (5/ 147) رقم 24604. (¬2) مغيرة بن مسلم هو السراج، صدوق الحديث، وكذا أبو الزبير وباقي رجاله ثقات، وقد حسن إسناده الحافظ في الفتح (9/ 648).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: تنجس الدابة لما تحمل في معدتها من نجاسة إنما هو تنجس بالمجاورة، والماء إذا تروح بريح نجسة حكمنا له بالطهارة كما حكي ذلك إجماعاً (¬1)، فكذلك تنجس الدابة إنما هو عن مجاورة النجاسة، فلا يحكم لها بالنجاسة. الدليل الرابع: قالوا: إن المسلم قد يبتلى بشرب الخمر، والكافر يشربه ويأكل الخنزير، ولا يكون ظاهرهما نجساً؛ إذ لو تنجسا ما طهرهما الاغتسال، ويلزم من قولهم: إن الجلالة نجسة أن تكون نجسة قبل أكل النجاسة؛ لأنها متولدة من المني، والمني من الدم، والدم عندهم نجس. الدليل الخامس: استدل بعضهم بقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} (¬2). ولم تذكر الجلالة، وهذا الاستدلال فيه نظر؛ لأن ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكمه حكم ما نهى عنه الله سبحانه وتعالى، وقد تكون الآية خرجت على سبب فيما كان يحرمه أهل الجاهلية مما حكاه الله عنهم، وقد حرم الله أيضاً المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وحرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وهو زيادة على آية {قل لا أجد فيما ¬

(¬1) قدمت بحثاً في الماء المتغير بالمجاورة في كتاب المياه في مسألة مستقلة. (¬2) الأنعام: 145.

الراجح من الخلاف

أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه} (¬1). الراجح من الخلاف. بعض أدلة المالكية فيه قوة، ولكن لا مجال للنظر وفي المسألة أثر صحيح، خاصة حديث ابن عباس فإن رجاله رجال الصحيح، لكن يقال: قوة أدلة المالكية تجعل الباحث يحمل الأحاديث على الكراهة بدلا من حملها على التحريم، فنقول: يكره أكل لحوم الجلالة ما دامت النجاسة لها أثر في لحمها ونتنها؛ لأن النهي من الشارع مشترك بين التحريم والكراهة، والأصل فيه التحريم إلا لقرينة، ومن القرائن أن يكون النهي من أجل الآداب لا من أجل العبادة، والطعام له أثر على الإنسان والحيوان، فإن الإنسان إذا أكل بعض الأكل وجد ريحه في عرقه كالحلبة والثوم، فما بالك إذا أنتن من أكل النجاسة، وكذلك الدابة تأكل الطعام الطيب فيظهر في لبنها، ويخلط لها الأكل الرديء فيظهر أيضاً في جودة لبنها، ومع ذلك لا يمكن أن يقال: إن لبن الحيوان نجس إذا ظهر فيه ريح النجاسة، لكن الكراهة لها وجه قوي جداً. ومتى يحل أكل الجلالة؟ يحل أكلها إذا ذهب عنها ريح النجاسة، وبعضهم لم يقيده بمدة معينة، وإنما علقه على ذهاب النتن والقذر. وبعضهم قدره بثلاثة أيام، وقد روي في ذلك أثر صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه. (1495 - 23) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ¬

(¬1) انظر الحاشية السابقة.

عمرو بن ميمون، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) المصنف (5/ 148) رقم 24608. (¬2) ورواه عبد الرزاق في المصنف (8717) عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة ثلاثاً إذا أراد أن يأكل بيضها. وهذا إسناد صالح في المتابعات، وعبد الله العمري في حفظه شيء، لكنه قد توبع من عمرو بن ميمون، كما روى ابن أبي شيبة أيضاً (5/ 148) من طريق ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان عنده إبل جلالة، فأصدرها إلى الحمى، ثم ردها، فحمل عليها الرواحل إلى مكة. وهو في مصنف عبد الرزاق (8710). وفي إسناده عبد العزيز بن أبي رواد، جاء في ترجمته: قال ابن عدي: في بعض رواياته ما لا يتابع عليه. الكامل (5/ 290). وقال النسائي: لا بأس به. تهذيب الكمال (18/ 136). وقال أحمد بن حنبل: رجل صالح الحديث، وكان مرجئا وليس هو في التثبت مثل غيره. المرجع السابق. وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. المرجع السابق. وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (2/ 96). وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه التقشف حتى كان لا يدري ما يحدث به، فروى عن نافع أشياء لا يشك من الحديث صناعته إذا سمعها أنها موضوعة، كان يحدث بها توهماً لا تعمداً، ومن حدث على الحسبان وروى على التوهم حتى كثر ذلك منه سقط الاحتجاج به وإن كان فاضلا في نفسه، وكيف يكون التقي في نفسه من كان شديد الصلابة في الإرجاء، كثير البغض لمن انتحل السنن، ثم قال ابن حبان: روى عبد العزيز، عن نافع، عن ابن عمر نسخة موضوعة، لا يحل ذكرها إلا على سبيل الاعتبار منها. المجروحين (2/ 136). =

وهذا أحسن ما ورد في حبس الجلالة. وقال في بدائع الصنائع: والأفضل أن تحبس الدجاج حتى يذهب ما في بطنها من النجاسة لما روي " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحبس الدجاج ثلاثة أيام ثم يأكله " وذلك على طريق التنزه وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة عليهما الرحمة أنها تحبس ثلاثة أيام كأنه ذهب إلى ذلك للخبر ولما ذكرنا أن ما في جوفها من النجاسة يزول في هذه المدة ظاهرا أوغالباً (¬1). وقال الحافظ: وأخرج البيهقي بسند فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا أنها لا تؤكل حتى تعلف أربعين يوماً. وبعضهم حرمها مطلقاً إذا تغذت على النجاسة، ولو علفت بعد ذلك بالحلال، كابن حزم رحمه الله، قال: ولا يحل أكل لحوم الجلالة , ولا شرب ألبانها , ولا ما تصرف منها; لأنه منها وبعضها, ولا يحل ركوبها (¬2). ثم قال: روينا عن ابن عمر أنه كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا حتى يطيب بطنها. قال أبو محمد: هذا لا يلزم لأنه إن كان حبسها من أجل ما في قانصتها مما أكلت فالذي في القانصة لا يحل أكله جملة؛ لأنه رجيع , وإن كان ¬

= وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 6). وقال الحافظ في التقريب: صدوق عابد ربما وهم، ورمي بالإرجاء. ومع متابعة عمرو بن ميمون عن نافع في حبس الجلالة يتقوى ما روى عبد العزيز بن أبي رواد، والله أعلم. وروى عبد الرزاق أيضاً (8711) عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كره أن تركب الجلالة، أو أن يحج عليها. (¬1) بدائع الصنائع (5/ 40). (¬2) المحلى (6/ 85).

من أجل استحالة المحرمات التي أكلت فلا يستحيل لحمها في ثلاثة أيام, ولا في ثلاثة أشهر بل قد صار ما تغذت به من ذلك لحما من لحمها, ولو حرم من ذلك لحرم من الثمار والزرع ما ينبت على الزبل - وهذا خطأ. وقد قدمنا أن الحرام إذا استحالت صفاته واسمه بطل حكمه الذي علق على ذلك الاسم وبالله تعالى التوفيق (¬1). فكأن ابن حزم لا يرى علة في تحريم الجلالة إلا الاتباع فقط، وهو لا يرى الاستدلال بقول الصحابي رضي الله عنه، وهي مسألة خلافية، والجمهور على الاستدلال به، وهو الحق. فعلى هذا يكون القول الراجح أن الجلالة يكره أكل لحمها ما دام النتن قد ظهر في لحمها، فإذا ذهب النتن جاز أكلها، والثلاثة أيام غالباً ما يكون كافياً في إزالة النتن منها إذا حبست وعلفت طعاماً طيباً، والله أعلم. ¬

(¬1) المحلى (6/ 110).

المبحث الثالث في الحيوان محرم الأكل

المبحث الثالث في الحيوان محرم الأكل الفرع الأول: فيما ليس له نفس سائلة تعريف الحيوان الذي لا نفس له سائلة (النفس): هو الدم، فما لا نفس له: أي لا دم له. جاء في المصباح المنير: " النفس: وهو الدم، ومنه قولهم: " لا نفس له سائلة: أي: لادم له يجري، وسمي الدم نفساً؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان، قوامها بالدم. والنفساء من هذا " اهـ (¬1). (1496 - 24) روى البخاري، قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن زينب بنت أم سلمة حدثته، أن أم سلمة حدثتها، قالت: بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة إذ حِضْتُ، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، قال: أنفست؟ قلت: نعم. فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. ورواه مسلم (¬2). قال في الفتح: قال الخطابي: أصل هذه الكلمة من النفس وهو الدم (¬3). قال ابن عبد البر: قوله: " نفست " لعلك أصبت بالدم، يعني الحيضة، ¬

(¬1) المصباح المنير (ص: 317). (¬2) صحيح البخاري (298) ومسلم (296). (¬3) فتح الباري (1/ 536).

والنفس: الدم. ألا ترى إلى قول إبراهيم النخعي، وهو عربي فصيح، كل ما لا نفس له سائلة يموت في الماء لا يفسده. يعني: دماً سائلاً (¬1). وقيل: ما ليس فيه عظم. (1497 - 25) روى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، في الجعل والزنبور وأشباهه إذا سقط في الماء أو وقع في الطعام والشراب: قال يؤكل ويشرب ويتوضأ منه وما يكون في الماء مما ليس فيه عظم فلا بأس به (¬2). والأول أصح من حيث اللغة والشرع. ¬

(¬1) انظر: التمهيد كما في فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (3/ 456) وانظر في أسماء الحيض اللسان (4/ 142) (5/ 126)، وتاج العروس (10/ 44)، والحاوي الكبير (1/ 378) والمجموع (2/ 378)، وعارضة الأحوذي لابن العربي (1/ 203، 204). (¬2) المصنف (296)

خلاف العلماء في الحيوان الذي لا دم له يجري

خلاف العلماء في الحيوان الذي لا دم له يجري قيل: هو طاهر مطلقاً، سواء تولد من شيء طاهر أو من شيء نجس، وسواء مات فيما تولد منه، أو مات في غيره، وسواء كان الميت مأكولاً أو غير مأكول. وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: هو نجس، لكن إن تولد من شيء طاهر، ومات فيما تولد منه، لم ينجسه، كدود التمر والتين والجبن يموت فيها، وإن أخرج ومات في غيره، نجسه، وهو قول في مذهب الشافعية (¬5). وقيل: إن تولد من شيء طاهر، فهو طاهر مطلقاً، سواء مات فيما تولد منه أم لا، وإن تولد من شيء نجس، كصراصير الكنف، فهو نجس، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (3/ 34)، المبسوط (1/ 51)، بدائع الصنائع (1/ 62). (¬2) المدونة (1/ 115). (¬3) الأم (1/ 5). (¬4) المغني (1/ 41). (¬5) قال الشافعي في الأم (1/ 5): " أحب إلي أن كل ما كان حراماً أن يؤكل، فوقع في ماء، فلم يمت حتى أخرج منه لم ينجسه، وإن مات فيه نجسه, وذلك مثل الخنفساء والجعل والذباب والبرغوث, والقملة وما كان في هذا المعنى". (¬6) الإنصاف (1/ 338)، الكافي لابن قدامة (1/ 16)، الهداية (1/ 22)، بلغة الساغب (ص: 37)، غاية المطلب في معرفة المذهب (ص: 35).

دليل من قال بطهارة ما لا نفس له سائلة مطلقا

دليل من قال بطهارة ما لا نفس له سائلة مطلقاً. الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى إنما حرم الدم المسفوح في قوله تعالى {أو دماً مسفوحاً} (¬1)، وما لا نفس له سائلة ليس له دم مسفوح، فيكون طاهر الدم، فلا ينجس بالموت. الدليل الثاني: قوله تعالى عن النحل {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} (¬2). قال الجصاص: فيه بيان طهارة العسل ومعلوم أنه لا يخلو من النحل الميت وفراخه فيه, وحكم الله تعالى مع ذلك بطهارته فأخبر عما فيه من الشفاء للناس, فدل ذلك على أن ما لا دم له لا يفسد ما يموت فيه (¬3). الدليل الثالث: (1498 - 26) ما رواه البخاري، من طريق عتبة بن مسلم مولى بني تيم، عن عبيد بن حنين مولى بني زريق، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء (¬4). ¬

(¬1) الأنعام: 145. (¬2) النحل: 69. (¬3) أحكام القرآن للجصاص (3/ 273). (¬4) صحيح البخاري (5782).

وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، (1499 - 27) رواه أحمد رحمه الله من طريق ابن أبي ذئب، قال: حدثني سعيد بن خالد، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فامقلوه (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: قال ابن القيم: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقله: وهو غمسه في الطعام، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولاسيما إذا كان الطعام حاراً، فلو كان ينجسه لكان أمراً ¬

(¬1) المسند (3/ 24). (¬2) في إسناده سعيد بن خالد، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 16) ولم يذكر فيه شيئاً. وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 357). وقال الدارقطني: مدني يحتج به. تهذيب التهذيب (4/ 18). وقال الذهبي: صدوق، ضعفه النسائي المغني في الضعفاء (2371). وفي التهذيب: ضعفه النسائي، لكن قال الحافظ: وقال النسائي في الجرح والتعديل: ثقة، فينظر أين قال: إنه ضعيف. اهـ وفي التقريب: صدوق. [تخريج الحديث]. الحديث رواه أبو داود الطيالسي (2188)، وعبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (884)، والنسائي في المجتبى (4262)، وأبو يعلى (986)، وابن حبان في الصحيح (1247)، وفي الثقات (6/ 358) والبيهقي (1/ 253) من طريق ابن أبي ذئب به. انظر إتحاف المهرة (5823)، أطراف المسند (6/ 333)، تحفة الأشراف (4426).

الدليل الرابع

بإفساد الطعام، وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بإصلاحه، ثم عدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنملة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتفي بانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقوداً في ما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجس لانتفاء علته (¬1). الدليل الرابع: لو حكمنا بنجاسة الماء الذي يقع فيه الذباب أو نحوه من الحشرات التي لا نفس لها سائلة لوقع الناس في الحرج؛ لأنه يتعذر صون الأواني عنها، والحرج مرفوع عن هذه الأمة، {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬2). الدليل الخامس: (1500 - 28) ما رواه الدارقطني، من طريق بقية، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن بشر ابن منصور، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم، فماتت فيه، فهو حلال أكله وشربه ووضوءه. قال الدارقطني: لم يروه غير بقية، عن سعيد الزبيدي، وهو ضعيف (¬3). ¬

(¬1) زاد المعاد (3/ 210). (¬2) الحج: 78. (¬3) سنن الدراقطني (1/ 37)، ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 65) رقم 45. وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 405)، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 253)، من طريق بقية به. =

الدليل السادس

الدليل السادس: (1501 - 29) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن منبوذ، عن أمه، أنها كانت تسافر مع ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فكنا نأتي الغدير فيه الجعلان أمواتاً، فنأخذ منه الماء. يعني: فيشربونه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= قال الحافظ في التلخيص (1/ 28): وفيه بقية بن الوليد، وقد تفرد به، وحاله معروف، وشيخه سعيد بن أبي سعيد الزبيدي مجهول. وقد اتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين واهية، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف أيضاً. وقال الحاكم أبو أحمد: هذا محفوظ. وساقه ابن عدي من منكرات سعيد بن أبي سعيد، وقال: وهذه الأحاديث يرويها سعيد الزبيدي، عمن يرويه عنهم، وليس هو بكثير الحديث، وعامتها ليست بمحفوظة. الكامل (2/ 405). وأورده الذهبي في الميزان (3/ 140)، وقال: أحاديثه ساقطة. انظر إتحاف المهرة (5912). (¬1) المصنف (297). (¬2) في الإسناد: منبوذ، قال عنه الحافظ في التقريب: مقبول. فلم يصب. قال ابن معين: ثقة. الجرح والتعديل (8/ 418)، وتهذيب التهذيب (10/ 213). وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (7/ 524). وقال الذهبي: ثقة. الكاشف (5624). ومثل هذا لايقال له مقبول: أي لين الحديث إذا انفرد، لكن علة الإسناد أم منبوذ، حيث لم يرو عنها إلا ابنها منبوذ، ولم يوثقها أحد فهي مجهولة. والأثر رواه ابن أبي شيبة (1510) حدثنا ابن عيينة به، بلفظ: فتمر بالغدير فيه الجعلان والبعر، فيستقى لها منه، فتتوضأ وتشرب. ورواه إسحاق بن راهوية في مسنده (4/ 221) رقم 21. ورواه البيهقي في السنن (1/ 259) من طريق الحميدي، ثنا سفيان به. وذكر الحافظ في التلخيص (1/ 28) أنه رواه أبو عبيد في كتابه الطهور من طريق سفيان به. والله أعلم.

دليل من قال: بنجاسة ما لا نفس له سائلة

دليل من قال: بنجاسة ما لا نفس له سائلة. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬1)، وهذا ميتة. وقال تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} (¬2). وهذا عام يشمل كل ميتة، سواء كان له نفس سائلة أم لا. وأجيب: أنتم لا تأخذون بعموم هذا اللفظ، فهذا شعر الميتة إذا جز حال الحياة لا تقولون بنجاسته، وهو جزء من الميتة، وهذا جلد الميتة يطهره الدباغ، وهو جزء من الميتة، فكونه يخرج من هذا العموم الذباب ونحوه مما لا دم له ليس بمستنكر، فيكون قد خص من هذا العموم ما لا دم له، كما خص غيره من الجلود إذا دبغت ونحوها. الدليل الثاني: (1502 - 30) من السنة، ما رواه البخاري من طريق الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يحدثه عن ميمونة، أن فأرة وقعت في سمن فماتت فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال: ألقوها وما حولها وكلوه (¬3). ¬

(¬1) المائدة: 3. (¬2) الأنعام: 145. (¬3) صحيح البخاري (5538).

وجه الاستدلال: أنه تنجس ما حول الفأرة حين ماتت، وهذا دليل على نجاسة الميتة، وهو عام في كل ميتة، ولا يخرج منه شيء إلا بدليل. قال ابن حزم: العجب من تفريق أبي حنيفة ومالك بين ما لا دم له يموت في الماء وفي المائعات، وبين ما له دم يموت فيها، وهذا فرق لم يأت به قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة, ولا قول صاحب، ولا قياس ولا معقول, والعجب من تحديدهم ذلك بما له دم، وبالعيان ندري أن البرغوث له دم والذباب له دم. فإن قالوا: أردنا ما له دم سائل, قيل: وهذا زائد في العجب ومن أين لكم هذا التقسيم بين الدماء في الميتات؟ وأنتم مجمعون معنا ومع جميع أهل الإسلام على أن كل ميتة فهي حرام, وبذلك جاء القرآن, والبرغوث الميت والذباب الميت والعقرب الميت والخنفساء الميت حرام بلا خلاف من أحد, فمن أين وقع لكم هذا التفريق بين أصناف الميتات المحرمات؟ فقال بعضهم: قد أجمع المسلمون على أكل الباقلاء المطبوخ وفيه الدقش الميت, وعلى أكل العسل وفيه النحل الميت وعلى أكل الخل وفيه الدود الميت, وعلى أكل الجبن والتين كذلك, وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقل الذباب في الطعام. قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إن كان الإجماع صح بذلك كما ادعيتم, وكان في الحديث المذكور دليل على جواز أكل الطعام يموت فيه الذباب كما زعمتم, فإن وجه العمل في ذلك أحد وجهين: إما أن تقتصروا على ما صح به الإجماع من ذلك وجاء به الخبر خاصة. ويكون ما عدا ذلك بخلافه, إذ أصلكم أن ما لاقى الطاهرات من الأنجاس فإنه ينجسها, وما خرج عن أصله عندكم فإنكم لا

ترون القياس عليه سائغا أو تقيسوا على الذباب كل طائر, وعلى الدقش كل حيوان ذي أرجل, وعلى الدود كل منساب. ومن أين وقع لكم أن تقيسوا على ذلك ما لا دم له؟ فأخطأتم مرتين: إحداهما أن الذباب له دم, والثانية اقتصاركم بالقياس على ما لا دم له, دون أن تقيسوا على الذباب كل ذي جناحين أو كل ذي روح. فإن قالوا: قسنا ما عدا ذلك على حديث الفأر في السمن. قيل لهم: ومن أين لكم عموم القياس على ذلك الخبر؟ فهلا قستم على الفأر كل ذي ذنب طويل, أو كل حشرة من غير السباع وهذا ما لا انفصال لهم منه أصلاً، والعجب كله من حكمهم: أن ما كان له دم سائل فهو النجس, فيقال لهم: فأي فرق بين تحريم الله تعالى الميتة وبين تحريم الله تعالى الدم؟ فمن أين جعلتم النجاسة للدم دون الميتة؟ وأغرب ذلك أن الميتة لا دم لها بعد الموت فظهر فساد قولهم بكل وجه (¬1). والجواب على ما أثاره ابن حزم، أن يقال: أولاً: ليس كل دم حرام، وإنما النص جاء في الدم المسفوح، فقال تعالى: {أو دماً مسفوحاً}. (1503 - 31) ثانياً: لا شك أن تحريم الميتة كان من أسبابها انحباس الدم، ولذلك روى البخاري في صحيحه من طريق سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، عن جده أنه قال: يا رسول الله ليس لنا مدى فقال ما أنهر الدم وذكر ¬

(¬1) المحلى (1/ 152) وما بعدها.

اسم الله فكل ليس الظفر والسن أما الظفر فمدى الحبشة وأما السن فعظم. فقوله: ما أنهر الدم، دليل على أن انحباس الدم وعدم إنهاره مؤثر في حل الذبيحة. ثالثاً: جاء في حديث ابن عباس في مسلم: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (¬1). فالإهاب لما كان متصلاً برطوبة النجاسة ودمها كان نجساً، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهراً، فما بالك بالحيوان الذي ليس فيه دم أصلاً. وقد ذكر ابن تيمية أن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، فما لا نفس له سائلة، ليس فيه دم سائل، فإذا مات لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فلا ينجس، فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجس من هذا، فإن العظم ليس فيه دم سائل، ولا كان متحركاً بالإرادة إلا على وجه التبع، فإذا كان الحيوان الكامل الإحساس، المتحرك بالإرادة، لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل. والذي يوضح هذا أكثر أن الله سبحانه وتعالى حرم علينا الدم المسفوح، قال سبحانه وتعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} الآية (¬2). وعفا عن غير الدم المسفوح، مع أنه من جنس الدم، والله سبحانه وتعالى حرم ما مات حتف أنفه، أو بسبب غير جارح محدد، فحرم المنخنقة والموقوذة ¬

(¬1) مسلم (366). (¬2) الأنعام: 145.

دليل من قال: يشترط أن يكون متولدا من طاهر

والمتردية والنطيحة، والفرق بينهما إنما هو في سفح الدم، فدل على أن سبب التنجس هو احتقان الدم واحتباسه، ثم قال: ولا يعارض هذا بتحريم تذكية المرتد والمجوسي، ولو سفح الدم؛ لأن التحريم تارة يكون لاحتقان الدم، كما هو الحال في المتردية والنطيحة، وما صيد بعرض المعراض، وتارة تكون لفساد التذكية، كذكاة المجوسي والمشرك (¬1). دليل من قال: يشترط أن يكون متولداً من طاهر. هذا المذهب يرى أن الاستحالة لا تطهر إلا ما ورد فيه النص، كالخمر تنقلب خلاً، فإذا تولد من نجس، كان أصله نجساً، وما كان أصله نجساً فهو نجس، فيعطى المستحيل حكم ما استحال منه. فإذا احترقت النجاسة وصارت رماداً، أو وقع الخنزير في الملاحة، وصار ملحاً، أو تكثف البخار المتصاعد من ماء نجس، فتحول إلى رطوبة، فإن كل هذا لا يحول الأعيان النجسة إلى طاهرة، فكذلك إذا تولد ما لا نفس له سائلة من النجاسات صارت عينه نجسة. والصحيح أن الاستحالة مؤثرة، فالاستحالة تقلب الطيب إلى خبيث، كالغذاء ينقلب إلى عذرة، وتقلب الخبيث إلى طيب، كاللبن من دم الحيض، وعلى القول بنجاسة الخمر فإنها إذا انقلبت خلاً بنفسها حكمتم بطهارتها وهكذا. قال ابن حزم: وإذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رماداً أو تراباً, فكل ذلك طاهر, ويتيمم بذلك التراب, برهان ذلك أن الأحكام إنما ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوى (21/ 99 - 100) بتصرف يسير.

الراجح

هي على ما حكم الله تعالى بها فيه مما يقع عليه ذلك الاسم الذي به خاطبنا الله عز وجل, فإذا سقط ذلك الاسم فقد سقط ذلك الحكم, وأنه غير الذي حكم الله تعالى فيه. والعذرة غير التراب وغير الرماد, وكذلك الخمر غير الخل, والإنسان غير الدم الذي منه خلق, والميتة غير التراب (¬1). الراجح: الراجح قول من قال بطهارة ما لا دم له سائل، لأن الاستدلال بنجاسته بناء على أنه ميتة غير مستقيم، لأن هناك من أجزاء الميتة ما هو طاهر مطلقاً كالشعر، وهناك ما هو طاهر بالدباغ كالجلد، وحديث غمس الذباب ظاهر في الطهارة، وما كان مثل الذباب كان في حكمه، لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين، وأثر الدم في نجاسة الميتة وطهارتها ظاهر، حيث اشترط في حل الذبيحة أن تكون الآلة مما تنهر الدم، وحرمت الموقوذة والمتردية لانحباس الدم فيها، والله أعلم. ¬

(¬1) المحلى (مسألة: 132).

الفرع الثاني في لحيوان الذي له نفس سائلة

الفرع الثاني في لحيوان الذي له نفس سائلة المسألة الأولى: في الهرة اختلف العلماء في حكم الهرة من حيث الطهارة والنجاسة،. فقيل: إن الهرة عينها نجسة، ولكن سقطت نجاسة سؤرها لعلة التطواف علينا، وبقيت الكراهة لإمكان التحرز منه، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: هي طاهرة، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 65)، المبسوط (1/ 51)، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب (1/ 58). (¬2) بل ذهب المالكية إلى جواز أكل لحم الهر مع الكراهة، انظر حاشية الدسوقي (1/ 49)، الخرشي (5/ 16)، وقال في المدونة (4/ 104): قلت: ما قول مالك في اللحم بالهر والثعلب والضبع وما أشبه هذه الأشياء؟ قال: سمعت مالكاً يكره أكل الهر والثعلب والضبع ويقول: إن قتلها مُحْرِمٌ وداها, وإنما كرهها على وجه الكراهية من غير تحريم قال: ولم أره جعل هذه الأشياء في الكراهية بمنزلة البغل والحمار والبرذون لأنه قال: تودى إذا قتلها المحرم. قال ابن القاسم: وأكره اللحم بالضبع والهر والثعلب لما رأيت من قول مالك في كراهية هذه الأشياء لأنها ليست عنده كالحرام البين، ولما أجازه بعض أهل العلم من أكلها من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا أكرهه ولا يعجبني. اهـ وقال الباجي في المنتقى (1/ 62): الهرة عند مالك طاهرة العين. (¬3) قال الشافعي في الأم (1/ 6): ولا نجاسة في شيء من الأحياء ماسَّت ماء قليلاً، بأن شربت منه، أو أدخلت فيه شيئاً من أعضائها إلا الكلب والخنزير, وإنما النجاسة في الموتى. اهـ وانظر المهذب مع المجموع (2/ 585). (¬4) اعتبر الحنابلة أن الهرة وما دونها في الخلقة طاهر، انظر الفروع (1/ 246)، الإنصاف (1/ 343)، كشاف القناع (1/ 57).

دليل الحنفية

دليل الحنفية: الدليل الأول: (1504 - 32) ما رواه الترمذي في سننه، قال: حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب يحدث، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولم يذكر فيه إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة (¬1). [المحفوظ أن غسل الإناء من ولوغ الهر موقوف على أبي هريرة، فلا حجة فيه فيما عارض المرفوع من حديث أبي قتادة] (¬2). ¬

(¬1) سنن الترمذي (91). (¬2) هذا الحديث رجاله ثقات إلا أنه معلول، فقد اختلف فيه على معتمر بن سليمان، فرواه سوار بن عبد الله العنبري كما في سنن الترمذي، وفي شرح مشكل الآثار للطحاوي (2650)، عن المعتمر بن سليمان به مرفوعاً. وخالفه مسدد، وهو أوثق منه، فقد أخرجه أبو داود (72) حدثنا مسدد، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان به موقوفاً. قال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 60): علة الحديث أن مسدداً رواه عن معتمر فوقفه، رواه عنه أبو داود. اهـ وقد رواه غير المعتمر بن سليمان، عن أيوب، فوقفه أيضاً: فرواه ابن أبي شيبة (1/ 37) حدثنا عبد الوهاب الثقفي. =

الحديث الثاني

الحديث الثاني: (1505 - 33) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، قال: ثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين. قرة شك (¬1). [أخطأ فيه أبو عاصم في رفعه، والمحفوظ في رواية قرة كونه موقوفاً على أبي هريرة] (¬2). ¬

= ورواه ابن المنذر في الأوسط (217)، والدراقطني (1/ 67) من طريق عبد الرزاق، نا معمر، كلاهما (معمر والثقفي) عن أيوب، عن ابن سيرين به موقوفاً. وهذه تؤيد صحة رواية مسدد الموقوفة، وخطأ سوار بن عبد الله العنبري في رفعه عليهم رحمة الله جميعاً. انظر موضع الحديث من الأطراف في تحفة الأشراف (14451). (¬1) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 19). (¬2) الحديث اختلف فيه على قرة بن خالد: فرواه أبو عاصم (الضحاك بن مخلد) وهو ثقة، عن قرة به مرفوعاً. ورواه غيره عن قرة به موقوفاً على أبي هريرة، وهو المحفوظ: فقد رواه مسلم بن إبراهيم كما في الأوسط لابن المنذر (216)، وسنن الدارقطني (1/ 98)، والحاكم (1/ 161)، والبيهقي (1/ 247، 248) عن قرة به موقوفاً على أبي هريرة. ورواه نصر الجهضمي، عن قرة موقوفاً كذلك. قال الحاكم: وقد شفى علي بن نصر الجهضمي، عن قرة في بيان هذه اللفظة، فأخرجه الحاكم (1/ 161)، والبيهقي (1/ 247) الحديث من طريق نصر بن علي الجهضمي، ثنا أبي، ثنا قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات، أولاهن بالتراب، ثم ذكر أبو هريرة الهر، لا أدري قال: مرة أو مرتين. قال نصر بن علي: وجدته في كتاب أبي في موضع آخر، عن قرة، =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1506 - 34) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عيسى بن المسيب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الهر سبع (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= عن ابن سيرين عن أبي هريرة في الكلب مسنداً، وفي الهر موقوفاً. اهـ ورواه أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/ 20) عن أبي نعيم، عن قرة موقوفاً كذلك، فهؤلاء ثلاثة يروونه عن قرة، موقوفاً مخالفين في ذلك رواية أبي عاصم عن قرة. فتبين من هذا أن أبا عاصم أدرج الموقوف من كلام أبي هريرة بالمرفوع، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/ 20): كذا رواه أبو عاصم، وأخطأ فيه، ثم روى عن أبي نعيم، عن قرة، عن محمد موقوفاً عليه. وروى الدارقطني (1/ 67) عن شيخه الحافظ أبي بكر النيسابوري قوله: كذا رواه أبو عاصم مرفوعاً، ورواه غيره عن قرة ولوغ الكلب مرفوعاً، وولوغ الهر موقوفاً. وقال البيهقي (1/ 247): وأبو عاصم الضحاك بن مخلد ثقة إلا أنه أخطأ في إدراج قول أبي هريرة في الهرة في الحديث المرفوع في الكلب. ومما يرجح رواية من رواه عن قرة، عن ابن سيرين موقوفاً، أنه قد رواه غير قرة موقوفاً، فقد رواه أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة موقوفاً، وخرجناها في الحديث الذي قبل هذا. كما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 20)، والدارقطني (67) من طريق وهب ابن جرير، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين به موقوفاً كذلك، وهشام بن حسان من أثبت أصحاب ابن سيرين، وهو مقدم على غيره في ابن سيرين، والله أعلم. انظر إتحاف المهرة (19808). (¬1) المسند (2/ 442). (¬2) ومن طريق وكيع أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 37) رقم 343، وإسحاق بن راهوية (178)، وأبو يعلى في مسنده (6090) والدارقطني (1/ 63)، والحاكم (650). =

دليل الجمهور

دليل الجمهور: (1507 - 35) ما رواه مالك، عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها: أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب ¬

_ = ورواه أحمد (2/ 327)، والدارقطني (1/ 63) والحاكم (649)، والبيهقي (1/ 249، 251) من طريق أبي النظر هاشم بن القاسم، نا عيسى بن المسيب به، وفيه قصة، وقال: السنور سبع بدلاً من قوله: الهر. وأخرجه ابن عدي (5/ 252) من طريق مسكين الحذاء، عن عيسى به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، وعيسى بن المسيب تفرد به عن أبي زرعة، إلا أنه صدوق، ولم يجرح قط. اهـ قلت: روى الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: عيسى بن المسيب ضعيف الحديث، ليس بشيء. الجرح والتعديل (6/ 288). وقال أبو حاتم الرازي: محله الصدق ليس بالقوي، قيل: هو أحب إليك أم بكير بن عامر؟ قال: بكير أثبت عندي. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: شيخ ليس بالقوي. المرجع السابق. قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين للنسائي (424). وقال الدارقطني: ضعيف. لسان الميزان (4/ 405)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/ 242). وقال أبو داود: هو قاضي الكوفة ضعيف. لسان الميزان (4/ 405). وذكره العقيلي في الضعفاء (3/ 386)، وقال: لا يتابعه إلا من هو مثله أو دونه. وفي العلل لابن أبي حاتم (1/ 44): قال أبو زرعة: لم يرفعه أبو نعيم، وهو أصح، وعيسى ليس بالقوي. اهـ أطراف المسند (8/ 127)، إتحاف المهرة (20337، 20338).

منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬

(¬1) الموطأ (1/ 44). (¬2) في إسناده حميدة بنت عبيد بن رفاعة، روى عنها زوجها إسحاق بن عبد الله وابنها يحيى بن إسحاق، وذكرها ابن حبان في الثقات (6/ 250). وفي التقريب: مقبولة أي إن توبعت وإلا فلينة الحديث. وكبشة بنت كعب بن مالك، لم يرو عنها إلا حميدة، وذكرها ابن حبان في الثقات (5/ 344). على أن كبشة قد ذكر ابن حبان في ثقاته ونقله أبو موسى المديني عن جعفر أنها صحابية، انظر الثقات (3/ 357)، و (5/ 344)، كما ذكر ذلك ابن سعد أيضاً في طبقاته (8/ 351). وقد صحح الحديث جمع من أئمة هذا الفن منهم: البخاري، فقد جاء في سنن البيهقي (1/ 245): قال أبو عيسى سألت محمداً يعني: ابن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: جود مالك بن أنس هذا الحديث، وروايته أصح من رواية غيره. وصححه أيضاً الترمذي، قال في السنن (1/ 153): هذا حديث حسن صحيح، وهذا أحسن شيء روي في هذا الباب، وقد جود مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ولم يأت أحد أتم من مالك. اهـ وقال العقيلي في الضعفاء (2/ 142): إسناده ثابت صحيح. وقال الدارقطني في العلل (6/ 163) بعد أن ساق الاختلاف في إسناده: " ورفعه صحيح، ثم قال: وأحسنها إسناداً ما رواه مالك عن إسحاق، عن امرأته، عن أمها، عن أبي قتادة، وحفظ أسماء النسوة وأنسابهن، وجود ذلك ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ وصححه ابن خزيمة وابن حبان حيث ذكراه في صحيحيهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كما صححه ابن عبد البر في التمهيد (1/ 324). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه على ما أصلاه في تركه، غير أنهما قد شهدا جميعاً لمالك بن أنس أنه الحكم في حديث المدنيين، وهذا الحديث مما صححه مالك، واحتج به في الموطأ، وأقره الذهبي. وقال البيهقي: إسناده صحيح كما في تلخيص الحبير (1/ 54)، وصححه النووي في المجموع (1/ 168،225)، وابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (21/ 42). وأعله ابن منده، قال ابن دقيق العيد في الإمام (1/ 234): " وأما أبو عبد الله بن منده فإنه أخرج هذا الحديث من رواية مالك في الموطأ، ثم ذكر اختلاف رواياته، وقال: أم يحيى اسمها حميدة، وخالتها كبشة، ولا يعرف لهما رواية إلا في هذا الحديث، ومحلها محل الجهالة، ولا يثبت هذا الخبر من وجه من الوجوه، وسبيله سبيل المعلول". ا. هـ فتعقبه ابن دقيق العيد بقوله: " إذا لم تعرف لهما رواية إلا في هذا الحديث، فلعل طريق من صححه أن يكون اعتمد على إخراج مالك لروايتهما مع شهرته بالتشدد، نقلت من خط الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي وروايته من سؤالات أبي زرعة، قال: سمعت أحمد ابن حنبل يقول: إذا روى مالك عن رجل لا يعرف، فهو حجة". ا. هـ قال ابن دقيق العيد: فإن سلكت هذا الطريق في تصحيح هذا الحديث (أعني: الاعتماد على تخريج مالك له) وإلا فالقول ما قال ابن منده، وقد ترك الشيخان إخراجه في صحيحيهما" انظر البدر المنير (2/ 342 - 343). ورد ابن الملقن كلام ابن منده، قال في خلاصة البدر المنير (1/ 20): " والعجب من الشيخ تقي الدين كيف تابعه في الإمام - يعني: تابع ابن مندة- على هذه المقولة؟ " ا. هـ وقال ابن الملقن في البدر المنير: " قال شيخنا الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري: بقي على ابن مندة أن يقول: ولم يعرف حالهما من جارح، فكثير من رواة الأحاديث مقبولون" قال ابن الملقن في البدر المنير (2/ 342 - 346): هذا لا بد منه، وأنا استبعد كل البعد توارد الأئمة المتقدمين على تصحيح هذا الحديث مع جهالتهم بحال حميدة وكبشة، فإن الإقدام على التصحيح - والحالة هذه - لا يحل بإجماع المسلمين، فلعهم اطلعوا على حالهما، وخفي علينا" اهـ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: بل هذا يفصح عن منهج الأئمة، وأن مجهول الحال ليس مردوداً مطلقاً. قال الذهبي في ميزان الاعتدال (ترجمة: 2112) في ترجمة حفص بن بغيل: قال ابن القطان: لا يعرف له حال، ولا يعرف. فتعقبه الذهبي بقوله: لم أذكر هذا النوع في كتابي هذا؛ فإن ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته، وهذا شيء كثير ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون، ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل". اهـ وقال في ترجمة مالك بن الخير: قال ابن القطان: هو ممن لم تثبت عدالته، فتعقبه الذهبي بقوله: يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة، وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم، والجمهور على أن من كان من المشايخ، قد روى عنه جماعة، ولم يأت بما ينكر عليه، أن حديثه صحيح. اهـ قلت: فإذا أضيف إلى ذلك تصحيح هؤلاء الأئمة لحديث حميدة وكبشة، فكيف يضعف الحديث بهما. وقال ابن سعد كما في الطبقات (8/ 351): أسلمت كبشة، وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه مالك في الموطأ كما علمت من إسناد الباب، ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق في المصنف (353)، والشافعي في المسند (ص: 9)، وفي الأم (1/ 6)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 36) رقم 325، و (7/ 308) رقم 36348، وأحمد في مسنده (5/ 303)، وأبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68، 340)، وابن ماجه (367)، والدارمي (736)، وابن الجارود (60)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 18 - 19)، وفي شرح مشكل الآثار (3/ 370)، وابن خزيمة (104)، وابن حبان (1299)، والدارقطني (1/ 70)، والحاكم (567)، والبيهقي (1/ 245). وقد توبع فيه مالك، تابعه حسين المعلم وهمام بن يحيى، فقد أخرجه البيهقي (1/ 245) من طريق حسين المعلم، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أم يحيى، عن خالتها بنت كعب، قالت: دخل علينا أبو قتادة .. فذكرت الحديث. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال البيهقي: أم يحيى هي حميدة، وابنة كعب: هي كبشة بنت كعب. وقال مثله أبو زرعة وأبو حاتم، انظر علل ابن أبي حاتم (1/ 52). وأخرجه البيهقي أيضاً (1/ 245) من طريقين عن همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال: حدثتني أم يحيى به. وأخرجه عبد الرزاق (351) عن ابن عيينة، عن إسحاق بن عبد الله، عن امرأة، عن أمها، وكانت ..... يكمل من المصنف. وأخرجه الحميدي (430) ثنا سفيان قال حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: سمعت امرأة أظنها امرأة عبد الله بن أبي قتادة - يشك سفيان - أن أبا قتادة كان يأتيهم فيتوضأ عندهم فيصغي الإناء للهر، فيشرب، فسألناه عن سؤرها فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا أنها ليست بنجس، فقال: إنها من الطوافين والطوافات عليكم. وأخرجه عبد الرزاق (352) من طريق هشام بن عروة، عن إسحاق، عن امرأة، عن أمها، وكانت تحت أبي قتادة أن أمها أخبرتها أن أبا قتادة زارهم، وذكر نحو حديث مالك. وقوله: عن أمها: تطلق الأم أحياناً على الخالة. وقال الدارقطني في العلل (6/ 160): يرويه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة واختلف عنه: فرواه مالك بن أنس، عن إسحاق، فحفظ إسناده فقال: عن حميد بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت ابن أبي قتادة، عن أبي قتادة. ورواه يونس بن عبيد وحسين المعلم، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أم يحيى، وهي حميدة بنت عبيد، وهي امرأة إسحاق بن عبد الله، عن خالتها ابنة كعب، عن أبي قتادة. وكذلك رواه همام بن يحيى وإبراهيم بن أبي يحيى. ورواه هشام بن عروة عن إسحاق واختلف عنه: فرواه ابن جريح، عن هشام، عن إسحاق، عن امرأته، عن أمها، عن أبي قتادة وهذه الرواية موافقة لرواية مالك ومن تابعه. ورواه ابن نمير، عن هشام نحو هذا، وقال أبو معاوية: عن هشام، عن إسحاق من بني زريق، عن أبي قتادة، فنقص من الإسناد حميدة امرأة إسحاق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه عبد الله بن إدريس وعبد الله بن داود الخريبي، عن هشام، عن إسحاق، عن أبي قتادة، لم يذكر بينهما أحداً. ورواه وكيع، عن هشام. وعلي بن المبارك، عن إسحاق، عن امرأة عبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة، وافق أبا معاوية في روايته عن هشام، ونقص من الإسناد امرأة إسحاق. ورواه ابن عيينة، عن إسحاق، عن امرأة أبي قتادة، نقص من الإسناد امرأة. وقال نصر بن علي: عن ابن عيينة، عن إسحاق، عن امرأة أبي قتادة، أو عن امرأة عن امرأة أبي قتادة عن أبي قتادة فإن كان ضبط هذا عن ابن عيينة فقد أتى الصواب. وروى عبد الله بن عمر العمري، عن إسحاق، عن أنس، عن أبي قتادة ووهم في ذكر أنس. ورواه حماد بن سلمة، عن إسحاق، عن أبي قتادة مرسلاً. وروه عبد الله بن عمر، عن إسحاق، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قاله إسماعيل بن عياش عنه ووهم في ذكر أبي سعيد. وكل هؤلاء رفعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه عكرمة وعبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة موقوفاً، ورفعه صحيح، ولعل من وقفه لم يسأل أبا قتادة هل عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أثر أم لا؟ لأنهم حكوا فعل أبي قتادة فحسب، وأحسنها إسناداً ما رواه مالك، عن، إسحاق، عن امرأته، عن أمها، عن أبي قتادة، وحفظ أسماء النسوة وأنسابهن وجود ذلك ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ من الدارقطني نقلته بطوله. انظر إتحاف المهرة (4098) و (4066)، تحفة الأشراف (12141)، أطراف المسند (7/ 49 - 50). وللحديث شواهد كثيرة: الأول: حديث عائشة. أخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده (2/ 436،458) ح460، قال: أخبرنا عبد العزيز ابن محمد، نا داود بن صالح التمار، عن أمه، عن عائشة أنها قالت في الهرة: إنما هي من الطوافين عليكم، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي إسناده أم داود بن صالح، لم يرو عنها إلا ابنها، ولم يوثقها أحد، فهي مجهولة العين. ومع ذلك فقد اختلف في وقفه ورفعه: قال الدارقطني في السنن (1/ 70): رفعه الدراوردي، عن داود بن صالح، ورواه عنه هشام بن عروة، ووقفه على عائشة. اهـ قال ابن الملقن في البدر المنير (2/ 360) بعد أن نقل كلام الدارقطني: " قلت: قال أحمد في داود بن صالح: لا أعلم به بأساً، فإذا لا يضر تفرده، لكن أمه مجهولة لا يعلم لها حال، ولهذا قال البزار: لا يثبت من جهة النقل، وقال الدارقطني في علله: اختلف في هذا الحديث فرفعه قوم، ووقفه آخرون، واقتضى كلامه أن وقفه هو الصحيح" انتهى وقال الطحاوي في شرح مشكل الآثار (7/ 74): " تأملنا هذا الحديث فوجدناه يرجع إلى أم داود بن صالح، وليست من أهل الرواية التي يؤخذ مثل هذا عنها، ولا هي معروفة عند أهل العلم. اهـ [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه أبو داود (76)، وأبو عبيد في كتاب الطهور (207)، والطحاوي في مشكل الآثار (2654، 2653)، والطبراني في الأوسط (364)، والدارقطني (1/ 70)، والبيهقي في السنن (1/ 246)، وفي الخلافيات (3/ 99)، من طرق كثيرة عن عبد العزيز بن محمد به. ورواه الدارقطني من طريق عبد ربه بن سعيد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر به الهر، فيصغي لها الإناء، فتشرب، ثم يتوضأ بفضلها. قال الدارقطني: عبد ربه: هو عبد الله بن سعيد المقبري، وهو ضعيف. ا. هـ وأخرجه البزار في المسند كما في كشف الأستار (275)،، وابن شاهين في الناسخ والمنسوخ (141)، وابن عدي في الكامل (7/)، والخطيب في الموضح (2/ 192) من طريق عبد الله بن سعيد المقبري به. وعبد الله بن سعيد المقبري ضعيف جداً، قال أحمد: منكر الحديث متروك. وقال البخاري: تركوه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال يحيى بن سعيد: جلست إليه مجلساً فعرفت فيه، يعني الكذب. وقال النسائي: ليس بثقة. وانظر تنقيح التحقيق (1/ 271). ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 19) من طريق صالح بن حسان، ثنا عروة، به مرفوعاً. وهذا ضعيف جداً، فيه صالح بن حسان، قال أحمد وابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وأخرجه ابن خزيمة (102)، والحاكم (1/ 160)، والدارقطني (1/ 69)، والبيهقي (1/ 246) من طريق سليمان بن مسافع، عن منصور بن صفية، عن أمه، عن عائشة مرفوعاً: إنها ليست بنجس، هي كبعض أهل البيت. وصححه الحاكم، وأقره الذهبي في التلخيص، وقد ضعفه الذهبي في الميزان في ترجمة سليمان بن مسافع، وقال: لا يعرف، أتى بخبر منكر. وتعقبه الحافظ في اللسان، فقال: وليس فيه نكارة كما زعم المصنف. اهـ والحق مع الذهبي والنكارة ليست في متنه، وإنما في رفعه، فقد أورده العقيلي في الضعفاء الكبير من طريق عبد الملك بن مسافع، عن منصور، عن أمه، عن عائشة موقوفاً عليها، ورجح العقيلي وقفه. وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (1/ 269): سليمان بن مسافع لا يعرف، ولم يذكره ابن أبي حاتم في كتابه، وقد ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء، ورواه في ترجمته، وقال: لا يتابع عليه. اهـ ورواه إسحاق بن راهوية في المسند (459)، وابن ماجه (368)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 19)، والدارقطني في السنن (1/ 52، 69)، من طرق عن حارثة، عن عمرة، عن عائشة مرفوعاً. قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 55): هذا إسناد ضعيف، لضعف حارثة بن أبي الرجال. وبه أعله ابن دقيق العيد في الإمام (1/ 236)، والحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 55). فالخلاصة حديث عائشة رضي الله عنها لا يصح مرفوعاً، وإنما هو موقوف عليها. =

فاشتمل الحديث على حكمين: الأول: طهارة عينها، بقوله: إنها ليست بنجس. الثاني: طهارة سؤرها. ولا يلزم من طهارة الثاني طهارة الأول، لأنه قد يقال: إنه عفي عن السؤر لعلة التطواف، لكن لما قال: إنها ليست بنجس علمنا طهارة عينها، والله أعلم. إلا أن الحنابلة أخذوا من طهارة الهرة أن ما كان مثلها فما دون في الخلقة فهو طاهر، وكأن الحكم علق في حجم الحيوان، وليس لعلة التطواف، والحديث صريح بأنها أعطيت الهرة حكم الطهارة لمشقة التطواف لا غير، ولم ينظر إلى حجم الهرة، فقد يقاس على الهرة كل حيوان محرم الأكل يشق التحرز منه، سواء كان في حجم الهرة أو أكبر أو أصغر، لأن الحجم لا يؤثر ¬

_ = الشاهد الثاني: حديث أنس. رواه الطبراني في المعجم الصغير (1/ 227)، وأبو نعيم كما في أخبار أصبهان (2/ 71) من طريق عمر بن حفص المكي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أنس بن مالك، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض بالمدينة يقال لها: بطحان، فقال: يا أنس اسكب لي وضوءاً، فسكبت له، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجته، أقبل إلى الإناء، وقد أتى هر، فولغ في الإناء، فوقف له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقفة حتى شرب، ثم توضأ، فذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الهر، فقال: يا أنس إن الهر من متاع البيت، لن يقذر شيئاً، ولن ينجسه. قال الطبراني عقبه: لم يروه عن جعفر إلا عمر بن حفص، ولا روى علي بن الحسين عن أنس حديثاً غيره. اهـ وفيه عمر بن حفص، قال الذهبي في الميزان: لا يدرى من ذا (3/ 190). وضعفه الحافظ ابن حجر في الدراية (1/ 62).

في الطهارة والنجاسة، وقد يحكم على حيوان أصغر حجماً من الهرة بأنه نجس، إذا كان محرم الأكل، ولم يشق التحرز منه. فتعليق الحكم بحجم الحيوان فيه محذوران: الأول: إهمال العلة التي نص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -: وهي علة التطواف. الثاني: إعمال علة لم ينص عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو حجم الهرة. وعليه فالمشقة هي علة الحكم لا غير، والله أعلم.

المسألة الثانية: في الحيوان المركوب كالحمار والبغل

المسألة الثانية: في الحيوان المركوب كالحمار والبغل اختلف العلماء في الحمار والبغل: فتوقف الحنفية فيهما (¬1). وقيل: إنهما طاهران، وإليه ذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4)، اختارها ابن قدامة رحمه الله (¬5). وقيل: الحمار والبغل نجسان، وهو المشهور في مذهب الحنابلة (¬6). دليل الجمهور: الدليل الأول: الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يحكم بنجاسة شيء إلا بدليل صحيح صريح، ولا دليل هنا. الدليل الثاني: قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} (¬7). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 140)، البناية (1/ 454)، المبسوط (1/ 50)، مرقاة المفاتيح (2/ 62). (¬2) التاج والإكليل (1/ 91)، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (1/ 50). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 590): وأما الحيوان فكله طاهر إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما. اهـ وانظر الأوسط (1/ 308). (¬4) المستوعب (1/ 321)، الإنصاف (1/ 342). (¬5) قال ابن قدامة في المغني (1/ 44): والصحيح عندي طهارة البغل والحمار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يركبها في زمنه، وفي عصر الصحابة، فلو كان نجساً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأنهما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما، فأشبه السنور، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها رجس، أراد أنها محرمة. اهـ (¬6) شرح الزركشي (1/ 142)، الدرر السنية (4/ 188). (¬7) النحل: 8.

الدليل الثالث

فذكر الله سبحانه وتعالى هذه الحيوانات في مقام الامتنان على عباده، في حل ركوبها واتخاذها زينة، ولو كانت نجسة لما أباحها لهم. الدليل الثالث: أن الحمار والبغل كانت تركب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بد أن يصيب الراكبَ شيء من عرقها ولعابها، ولو كانت نجسة لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولنقل توقي الصحابة لذلك. الدليل الرابع: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكم بطهارة الهرة لكونها من الطوافين علينا كما تقدم ذكر الدليل وتخريجه، والحمار والبغل يشتركان في هذه العلة، خاصة قبل ظهور السيارات وانتشارها، فقد كانت مركوب عامة الناس، ولا زالت مركوب كثير من الناس في المجتمعات الإسلامية الفقيرة، ويستعملها الرعاة في بواديهم، وإذا وجدت العلة وجد الحكم. دليل من قال بنجاسة الحمار والبغل: الدليل الأول: (1508 - 36) ما رواه البخاري من طريق محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال صبحنا خيبر بكرة، وفيه: فأصبنا من لحوم الحمر فنادى منادي النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (4198)، ورواه مسلم (1940).

الدليل الثاني

وأجيب: بأن الخلاف ليس في لحوم الحمر الأهلية وإنما في أبدانها حال الحياة، الضمير في قوله: " فإنها رجس " عائد إلى اللحوم، وليس إلى الحمر، ونجاسة اللحوم لا يستلزم نجاسة الحيوان حال الحياة، لأن الحمار لا تحله التذكية، فإذا ذبح كان ميتة، ونجاسة الميتة معلوم من الشرع بالضرروة. ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قال لما قيل له: يا رسول الله أكلت الحمر، ولذلك أكفئت القدور بعد أن طبخت. ويحتمل أن قوله: إنها رجس: أي حرام، فلم يتعرض الحديث للنجاسة، كما في قوله تعالى في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام إنها رجس، أي حرام، وإلا فالميسر لا يقال: إنه نجس، وكذلك الأنصاب والأزلام، والجواب الأول أقوى؛ لأن الغالب في إطلاق لفظة " ركس " على الحيوان إنما يراد بها أنه نجس، وإن كانت تطلق على غير المأكول والمشروب ويراد بها الحرام أحياناً، والله أعلم. الدليل الثاني: قالوا: إنه حيوان حرم أكله لا لحرمته، مع إمكان التحرز منه غالباً أشبه الكلب في النجاسة. وأجيب: بأن الكلب ورد فيه نص على نجاسة سؤره، ووجوب غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وحرم اقتناؤه إلا لحاجة، بخلاف الحمار فإنه يجوز اقتناؤه للزينة، ولم يرد نص في غسل الإناء من ولوغه، ولم نؤمر بغسل ما أصاب ثيابنا من عرقه ولعابه، فأين وجه الشبه بين المقيس والمقيس عليه.

وأما القول بأنه يمكن التحرز منه في الغالب ففيه نظر، إذ لا يمكن لراكبه التحرز من عرقه فبدنه يلامس بدن الراكب، فيعرق بدن الحمار خاصة في البلاد الحارة، فيصيب ثياب الراكب وبدنه ولا بد. ذكر ما أوجب للحنفية التوقف في البغل والحمار: حيث كان التوقف في المسألة لا يعتبر دليلاً، لم أقدم ذكر أدلة الحنفية كالعادة حين ذكر الأدلة؛ لأن التوقف ليس من أدلة الشرع، والمتوقف هو ملتبس عليه الأمر، فلم يحرر في المسألة قولاً فضلاً أن يحرر دليلاً، وما أوجب لهم التوقف هو تعارض الأدلة عندهم في طهارة سؤره، وفي حكم لحمه، فجاء عندهم ما يقتضي نجاسة سؤره، وما يقتضي طهارته، وجاء عندهم ما يقتضي تحريم لحمه، وما يقتضي إباحة أكلها، فلما تعارضت الأدلة توقفوا، وجعلوا سؤرهما مشكوكاً فيه: يقول السرخسي: " أما سؤر الحمار فطاهر عند الشافعي رحمه الله تعالى, وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه كان يقول الحمار يعلف القت والتبن، فسؤره طاهر. وعندنا مشكوك فيه غير متيقن بطهارته, ولا بنجاسته؛ فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: إنه رجس، فيتعارض قوله وقول ابن عباس رضي الله عنهما, وكذلك الأخبار تعارضت في أكل لحمه فروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر " وروي أن أبجر بن غالب رضي الله عنه قال: لم يبق لي من مالي إلا حميرات فقال عليه الصلاة والسلام " كل من سمين مالك " (¬1)، وكذلك اعتبار سؤره بعرقه يدل على طهارته, واعتباره بلبنه يدل على نجاسته, ولأن الأصل ¬

(¬1) سيأتي تخريجه قريباً إن شاء الله تعالى.

الذي أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهرة موجود في الحمار; لأنه يخالط الناس لكنه دون ما في الهرة فإنه لا يدخل المضايق فلوجود أصل البلوى لا نقول بنجاسته, ولكون البلوى فيه متقاعداً لا نقول بطهارته فيبقى مشكوكاً فيه, وأدلة الشرع أمارات لا يجوز أن تتعارض, والحكم فيها الوقف (¬1). وهذه الأدلة التي ساقها السرخسي ليست متكافئة، حتى يقال: بالتعارض، فأثر ابن عباس لم يعارض الحديث المرفوع في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، فإننا نقول بطهارة سؤرها، وتحريم لحمها، ولا تعارض. وأما الأحاديث التي ساقها، فيقال: الحديث الضعيف لا يعارض به الحديث المتفق على صحته، فالنهي عن لحوم الحمر الأهلية ثابت في حديث متفق على صحته، كما خرجته في أدلة القول الأول. وحديث " كل من سمين مالك " حديث مضطرب، لا يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1509 - 37) فقد رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن عبيد بن الحسن، قال: سمعت عبد الله بن معقل يحدث عن عبد الله بن بسر، عن ناس من مزينة الظاهرة، أن أبجر - أو ابن أبجر - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله لم يبق لي مال إلا حمري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أطعم أهلك من سمين مالك، فإنما كرهت لهم جوال (¬2) القرية (¬3). [الحديث فيه اضطراب كثير] (¬4). ¬

(¬1) المبسوط (1/ 49). (¬2) الجوال: جمع جالة، والجلالة من الحيوان هي التي تأكل العذرة. (¬3) مسند أبي داود الطيالسي (1305). (¬4) في إسناده اختلاف كثير، فمن ذلك إسناد أبي داود الطيالسي، اختلف فيه على شعبة: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فرواه أبو داود الطيالسي كما في إسناد الباب، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 203)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1134) عن شعبة، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، عن عبد الله بن بسر، عن ناس من مزينة أن أبجر أو ابن أبجر. وقوله (ناس من مزينة) مبهمون لا يعرف من هم. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 203) من طريق روح بن عبادة، ثنا شعبة به، وفيه: أن ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مزينة حدثوا، عن سيد مزينة الأبجر أو ابن الأبجر، فإن كان محفوظاً فإبهامهم لا يضر إذا ثبتت صحبتهم. ورواه ابن أبي شيبة (5/ 123) رقم: 24340، وعنه ابن أبي عاصم (1131) عن وكيع، عن شعبة، عن عبيد بن الحسن، عن ابن معقل، عن أناس من مزينة، عن غالب بن أبجر. ولم يذكر عبد الله بن بسر. ورواه مسعر بن كدام، واختلف عليه فيه أيضاً: فرواه أبو داود (3810)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 203)، والطبراني (18/ 266) رقم 666 من طريق أبي نعيم، عن مسعر، عن عبيد، عن ابن معقل، عن رجلين من مزينة، أحدهما عن الآخر: أحدهما عبد الله بن عمرو بن عويم، والآخر غالب بن الأبجر. قال مسعر: أرى غالباً الذي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (8728) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1133) عن سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، أن رجلين من مزينة أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وذكر الحديث. وأخرجه الطبراني في الكبير (18/ 267) من طريق سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن رجل، عن رجلين من مزينة أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه الطبراني (18/ 266) رقم 665 من طريق وكيع، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن ابن معقل، عن أناس من مزينة الظاهرة، عن غالب بن الأبجر. وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 123) رقم 24338، وابن أبي عاصم (1132)، والطبراني في الكبير (18/ 267) رقم 670، من طريق شريك، عن منصور، عن عبيد بن الحسن، عن غالب. =

وذكر الطحاوي عن بعضهم جواباً عن هذا الحديث، فقال: ¬

_ = وهذا الإسناد يرويه عبيد بن الحسن عن غالب دون واسطة. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (18/ 265) من طريق حفص بن غياث، عن أبي عميس، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، عن غالب بن أبجر. قال أبو زرعة: الصحيح حديث شعبة، انظر العلل (2/ 7). قال الزيلعي في نصب الراية (4/ 197): وفي إسناده اختلاف كثير: فمنهم من يقول: عن عبيد أبي الحسن. ومنهم من يقول: عبيد بن الحسن. ومنهم من يقول: عن عبد الله بن معقل. ومنهم من يقول: عبد الرحمن بن معقل. ومنهم من يقول: عن ابن معقل وغالب بن أبجر ويقال أبجر بن غالب. ومنهم من يقول: غالب بن ذريح. ومنهم من يقول: غالب بن ذيخ ومنهم من يقول: عن أناس من مزينة عن غالب بن أبجر. ومنهم من يقول: عن أناس من مزينة أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنهم من يقول: إن رجلين سألا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الاختلافات بعضها في معجم الطبراني، وبعضها في مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، وبعضها في مسند البزار وقال البزار: ولا يعلم لغالب بن أبجر إلا هذا الحديث وقد اختلف فيه، ثم ذكر الاختلاف على ما تقدم. ثم قال: قال البيهقي في المعرفة: حديث غالب بن أبجر إسناده مضطرب وإن صح فإنما رخص له ثم الضرورة حيث تباح الميتة كما في لفظه انتهى. وذكر ابن حزم هذا الحديث وقال: هذا كله باطل؛ لأنها من طريق عبد الرحمن بن بشر وهو مجهول، والآخر من طريق عبد الرحمن بن عمرو بن لويم، وهو مجهول، أو من طريق شريك وهو ضعيف، عن أبي الحسن ولا يدرى من هو، عن غالب بن ديج ولا يدرى من هو، ومن طريق سلمى بنت النضر الخضرية ولا يدرى من هي. اهـ انظر تحفة الأشراف (11018)، إتحاف المهرة (4، 16241)، وقد نسبه الحافظ فيه إلى المسند، وقد قال محققه: ولم أجده في مسند أحمد مع شدة تتبعي له، وفحصي فيه خاصة، ولا في ترتيبه (الفتح الرباني) ولم يذكره المصنف في أطراف المسند، لا في أبجر بن غالب، ولا غالب بن أبجر، ولا ابن أبجر، ولا عزاه إلى المسند في ترجمته لأبجر في الإصابة أو التهذيب ... وعزاه ابن كثير في جامع السنن والمسانيد إلى المسند، فالله أعلم.

قد يجوز أن يكون الحمر التي أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - أكلها في هذا الحديث كانت وحشية، ويكون قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإنما كرهت لكم جوال القرية على الأهلية (¬1). وجواباً آخر: أنه جاء في الحديث قيل للنبي: - صلى الله عليه وسلم -: إنه قد أصابتنا سنة، وإن سمين مالنا في الحمير، فقال: كلوا من سمين مالكم، فأخبر أن ما كان أباح لهم من ذلك كان في عام سنة فيكون إنما أباحه لهم في حال الضرورة وقد تحل في حال الضرورة الميتة، فليس في هذا الحديث دليل على حكم لحوم الحمر الأهلية في غير حال الضرورة، وقد جاءت الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجيئا متواترا في نهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية (¬2). وهذا جواب قوي لو كان حديث ابن الأبجر صحيحاً، أما إذا كان ضعفه بيناً فلا حاجة لتلمس الجواب عن دليل لا يقوم بنفسه لضعفه، والله أعلم. ¬

(¬1) وهذا جواب ضعيف، حيث إن ذكر الحمر جاء في الحديث المذكور مطلقاً، فينصرف غالباً إلى الحمر الأهلية المعتادة، ولو أراد الوحشية لقيده، كما هو المعروف عن الشارع أنه متى أراد غير المعهود قيده بوصفه، والله أعلم. (¬2) شرح معاني الآثار (4/ 203) بتصرف يسير جداً.

المسألة الثالثة: في نجاسة الكلب

المسألة الثالثة: في نجاسة الكلب اختلف الفقهاء في نجاسة عين الكلب، وسيأتي الكلام على سؤره في باب مستقل إن شاء الله تعالى. فقيل: إن الكلب طاهر العين، وهو قول أبي حنيفة (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، وقول الزهري (¬3)، واختاره داود الظاهري (¬4). وقيل: إن الكلب نجس العين، معلمه وغير معلمه، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬5)، والمعتمد في مذهب الشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). ¬

(¬1) لا خلاف عند الحنفية في نجاسة لحم الكلب، ولا في نجاسة سؤره، وإنما الخلاف عندهم في نجاسة عينه، فالقول بطهارة عينه هو قول أبي حنيفة، والقول بنجاستها هو قول أبي يوسف ومحمد، وتظهر ثمرة الخلاف فيما لو وقع الكلب في بئر وأخرج حياً، فعند أبي حنيفة الماء طاهر، وعند صاحبيه الماء نجس. وكذلك فيما لو انتفض الكلب المبتل بالماء، فأصاب رشاشه ثوب أحد أو بدنه فعلى رواية أبي حنيفة الثوب والبدن طاهران، وعلى رواية صاحبيه أنهما نجسان، وهكذا، انظر البناية (1/ 367، 435)، فتح القدير (1/ 93 - 102)، البحر الرائق (1/ 106 - 108)، حاشية ابن عابدين (1/ 208)، بدائع الصنائع (1/ 63). (¬2) المدونة (1/ 5، 6)، الاستذكار (1/ 208، 211)، والتمهيد (18/ 271، 272)، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/ 50)، الجامع لأحكام القرآن (13/ 45). (¬3) المجموع (2/ 585). (¬4) المجموع (2/ 585)، الاستذكار (1/ 211)، حلية العلماء (1/ 313). (¬5) انظر الإحالة على مذهب الحنفية في القول الأول. (¬6) الأم (1/ 5، 6)، الوسيط (1/ 309، 338)، المجموع (2/ 585)، روضة الطالبين (1/ 31)، مغني المحتاج (1/ 78). (¬7) الفروع (1/ 235)، الكافي لابن قدامة (1/ 89)، المحرر (1/ 87)، الإنصاف (1/ 310)، رؤوس المسائل (1/ 89).

دليل من قال بطهارة عين الكلب

دليل من قال بطهارة عين الكلب. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (¬1). وجه الاستدلال: أباح الله سبحانه وتعالى الأكل مما أمسكت الكلاب، ولم يأمرنا بغسل المكان الذي أمسكته معه، مع أنه لا يخلو من التلوث بريق الكلب، ولو كان نجساً لأمرنا بغسله، ولنقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم غسله. وأجيب: بأن الحنابلة يوجبون غسل ما أصاب فم الكلب من الصيد، قال البهوتي: ويجب غسل ما أصاب فم الكلب؛ لأنه موضع أصابته نجاسة، فوجب غسله كغيره من الثياب والأواني " (¬2). وقال النووي في المجموع: لنا خلاف معروف في وجوب غسل ما أصاب الكلب، فإن لم نوجبه فهو معفو عنه للحاجة والمشقة في غسله بخلاف الإناء (¬3). وبناء عليه فهناك قول في مذهب الشافعية وهو المشهور من مذهب الحنابلة بوجوب غسل ما أصابه فم الكلب، وإذا قلنا بالوجوب فلا طريق إلى إلزامنا بعدم الغسل. ¬

(¬1) المائدة: 4. (¬2) كشاف القناع (6/ 224). (¬3) المجموع (2/ 585).

الدليل الثاني

ورد عليهم: بأن اعتراض المالكية والحنفية بعدم وجود أمر من الشارع بغسل ما أصاب فم الكلب، وهذا حق، فليس هناك أمر، أما كونه يوجد قول بوجوب الغسل فهذا لم نتعرض له، ولم ندع أن المسألة إجماع، إلا أن يقال: عدم الأمر اكتفاء بعموم أدلة تطهير المتنجس. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الآية دليل عام على جواز أكل صيد الكلب المعلم للحاجة إلى ذلك، وليس في الآية ما يدل على طهارة الكلب، بل قد وردت أدلة أخرى بينت نجاسة الكلب، كحديث: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم ... " وغيره من الأحاديث، فهذا دليل خاص تحمل عليه الأدلة العامة، كالآية ونحوها، والله أعلم. الدليل الثاني: (1510 - 38) ما رواه البخاري في صحيحه: قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬1). وأجيب بعدة أجوبة: الأول: أن هذا كان في بداية الإسلام، وقبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب. ¬

(¬1) صحيح البخاري (174)، قال الحافظ في الفتح: زاد أبو نعيم والبيهقي في روايتهما لهذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب المذكور موصولاً بصريح التحديث.

جواب ثالث

وهذا الجواب قائم على الظن، ولا يعلم التاريخ حقيقة، بل إن الأمر بقتل الكلاب كان متقدماً ثم نسخ، فلو عكس قائل المسألة وقال: إن التغليظ في نجاسة الكلب كان ذلك حين كان المسلم مأموراً بقتلها، فلما نسخ القتل خفف الأمر، لو قيل به كان أوجه من هذه الدعوى. الثاني: أن بول الكلاب لا خلاف في نجاسته، فكيف تستدلون على طهارتها بما قام الإجماع على نجاسته. وأجيب: بأن حكاية الإجماع فيه نظر، فقد ذكر الحافظ في الفتح أن ابن وهب يرى أن جميع الأبوال طاهرة عدا بول الآدمي، كما أن هناك قولاً بجواز أكل لحم الكلاب، ويرى أن بول ما يؤكل لحمه طاهر، وهذا القول يخرق دعوى الإجماع (¬1). جواب ثالث: أن النجاسة كونها لم تغسل؛ لأن النجاسة قد تطهرها الشمس، وهو ما يسمى عند بعض الفقهاء التطهير بالاستحالة، خاصة أن بلاد الحجاز بلاد حارة، فإذا أذهبت الحرارة لون النجاسة وريحها وطعمها طهر المحل. وهذا الجواب أقواها في نظري، والله أعلم. وهناك أدلة أخرى استدلوا بها على طهارة الكلاب، منها أدلتهم في طهارة سؤر السباع، وسوف نذكرها في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى، فانظرها غير مأمور. ¬

(¬1) فتح الباري (1/ 278).

دليل من قال بنجاسة الكلاب

دليل من قال بنجاسة الكلاب. الدليل الأول: (1511 - 39) قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (¬1). فقوله: " طهور إناء أحدكم " والطهور لا يكون إلا من حدث أو نجاسة، ولا يتصور وجود الحدث على الإناء، فدل على نجاسته. (1512 - 40) وروى مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار (¬2). وأجيب: بأن الأمر بغسكمل الإناء من ولوغ الكلب إنما هو للتعبد، وليس للنجاسة، يؤيد ذلك أمور: الأول: أمر بغسل الإناء مع أن الماء لم يتغير، وإنما ينجس الماء بالتغير بالنجاسة، فإذا وقعت نجاسة في الماء ولم تغيره لم ينجس على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهذا دليل على أن الأمر بغسلها إنما هو للتعبد. ¬

(¬1) صحيح مسلم (279). (¬2) صحيح مسلم (279).

ثانياً: اعتبار العدد في غسل نجاسة الكلب، مع أن دم الحيض أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله بدون عدد كما في حديث أسماء المتفق عليه، فالأصل في النجاسة أن تغسل حتى تذهب عين النجاسة، فإذا ذهبت ذهب حكمها، فلما اعتبر العدد في غسل نجاسة الكلب، دل على أن الغسل للتعبد. ثالثاً: استعمال التراب مع الماء على خلاف القياس في سائر النجاسات، كل هذا يدل على أن الأمر بغسلها إنما هو تعبدي. رابعاً: أن قوله: " طهور إناء أحدكم " لا يدل على أن الإناء تنجس، قال ابن العربي: فإن قيل: " روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعاً، والطهارة تقابل النجاسة، قلنا: لا يصح ما ذكرتم، بل يرد على المحل النجس وعلى الطاهر، قال الله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور" (¬2). وليس هناك نجاسة، وقال في السواك في الفم: " السواك مطهرة للفم " وقال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (¬3)، وحقيقة المسألة أن لفظ النجاسة يقتضي الطهارة، وأما لفظ الطهارة فلا يقتضي النجاسة (¬4). وأجيب: أولاً: أن قوله "طهور إناء أحدكم " دليل على ثبوت النجاسة؛ إذ الطاهر ليس بحاجة إلى تطهير. ¬

(¬1) النساء: 43. (¬2) مسلم (224). (¬3) التوبة: 103. (¬4) عارضة الأحوذي (1/ 134 - 135).

ثانياً: أن قوله: " فليرقه " دليل على أن الماء تنجس، وإلا لما أمر بإفساد الماء وإراقته، وإذا ثبتت نجاسة لعابه، فعرقه وبوله ومنيه وسائر بدنه نجس من باب أولى؛ لأن فم الكلب أطهر ما فيه.، والحق أن زيادة فليرقه في الحديث لا يثبتها أهل الحديث، ويرونها لفظة شاذة (¬1)، ولكن يكفي قوله: " طهور إناء أحدكم " لإثبات نجاسة لعابه، فكذلك عرقه وبوله ومنيه وسائر بدنه. ¬

(¬1) قال النسائي في السنن (1/ 53): لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله: فليرقه. وقال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 273): وأما هذا اللفظ من حديث الأعمش "فليهرقه " فلم يذكره أصحاب الأعمش الثقات الحفاظ مثل شعبة وغيره وقال ابن مندة كما في فتح الباري (1/ 331)، وتلخيص الحبير (1/ 23): لا تعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه إلا من روايته. وقال حمزة الكناني كما في فتح الباري (1/ 330): إنها غير محفوظة. وعليه فقد تفرد علي بن مسهر بهذه اللفظة عن الأعمش، وقد رواه تسعة رواة عن الأعمش، ولم يذكروا ما ذكره علي بن مسهر، على رأسهم شعبة، وأبو معاوية وهو من أخص أصحاب الأعمش. وقد قال أبو معاوية عن نفسه: البصراء كانوا عليَّ عيالاً عند الأعمش، قال هذا لأنه ضرير. كما رواه عشرة رواة عن أبي هريرة، من غير طريق الأعمش، وليس فيه ذكر هذه الزيادة، على رأسهم الأعرج ومحمد بن سيرين، وهم من أخص أصحاب أبي هريرة. فلا شك أن تفرد علي بن مسهر دون هؤلاء يوجب شذوذ هذه اللفظة؛ لأن علي بن مسهر قال فيه الحافظ في التقريب (4800) ثقة له غرائب بعد أن أضر " اهـ. وقد خرجت الطرق التسعة عشر هذه في بحث سابق فأغناني عن إعادته هنا، انظر كتابي أحكام الطهارة (المياه والآنية) ص: 363.

الدليل الثاني

ثالثاً: أما الجواب عن القول بأن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فنقول: هذه مسألة خلافية، وإن كنا نعتقد أن الصحيح أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وإذا حكمنا بنجاسة الماء في ولوغ الكلب لم يلزم منه أن نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها التسبيع، ومنها التتريب، فلا يقاس الأخف على الأغلظ. على أنه قد يقال: لا نسلم عدم التغير؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء فتظهر على شيء منه، فيكون هذا نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة، فينجس والله أعلم. وأما قول ابن العربي رحمه الله تعالى: إن لفظ الطهارة لا يقتضي النجاسة فليس بصواب، لأننا نقول: الطهارة إما أن تكون عن حدث وإما أن تكون عن نجاسة، والأمر بتطهير الجنب إنما هو عن حدث، وأما غسل الإناء فلا يمكن أن يحمل على طهارة الحدث، فيكون المقصود به طهارة الخبث، وأما حديث " السواك مطهرة " فالمقصود به الطهارة اللغوية: وهي النظافة، وآية الصدقة المقصود بها الطهارة من الذنوب، فهي طهارة معنوية. الدليل الثاني: (1513 - 41) ما رواه أحمد، من طريق عيسى يعني: ابن المسيب، حدثني أبو زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي دار قوم من الأنصار، ودونهم دار قال: فشق ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله سبحان الله تأتي دار فلان،

الدليل الثالث

ولا تأتي دارنا قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأن في داركم كلباً، قالوا: فإن في دارهم سنوراً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن السنور سبع (¬1). [إسناده ضعيف وسبق تخريجه في طهارة الهر] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الهر والكلب، فدل على نجاسة الكلب كما دل على طهارة الهر. وأجيب بأن الحديث ضعيف، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أن الهر طاهر حتى يقال بالمفهوم، فيقال: " مفهومه أن الكلب نجس) وإنما قال: الهر سبع، والسبع قد يكون طاهراً وقد يكون نجساً، وهذه مسألة سوف أبحثها في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: (1514 - 42) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن شهاب، عن ابن السباق، أن عبد الله بن عباس، قال: أخبرتني ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبح يوما واجماً، فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أما والله ما أخلفني قال: فظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومه ذلك على ذلك ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة، قال: أجل، ولكنا ¬

(¬1) المسند (2/ 327). (¬2) انظر حديث رقم (1506) من هذا الكتاب.

لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ، فأمر بقتل الكلاب حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير. وجه الاستدلال: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نضح مكان الكلب، ولو كان محله طاهراً لما نضحه؛ لأن فيه إضاعة للمال. والنضح هنا المقصود به الغسل. قال ابن الأثير: قد يرد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (¬1). قال السيوطي في شرحه للحديث: ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (¬2). وقال الطحاوي: فقد يجوز أن يكون أراد بالنضح الغسل؛ لأن النضح قد يسمى غسلاً. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف مدينة ينضح البحر بجانبها يعني يضرب البحر بجانبها. (¬3) اهـ. ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث (5/ 70). قلت: الحديث قد رواه مسلم (1972)، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع ومحمد بن بشر، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، فهو ينضح الدم عن جبينه. وهو في الصحيحين إلا أنه بلفظ: وهو يمسح الدم عن وجهه. (¬2) الديباج (4/ 402). (¬3) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 53). وهذا الحديث الذي ذكره الطحاوي. قد رواه أحمد (1/ 44)، قال: ثنا يزيد، أخبرنا جرير، أنبأنا الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد قال: =

الراجح

وأجيب: لو سلم أن النضح مكان الكلب المقصود به الغسل، لكان ذلك مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. ويرد عليه: بأن جبريل لا يخلف وعده وهو واجب عليه من أجل أمر مستحب، بل لأجل أمر واجب. وقد يقال: سلمنا أن خروج الكلب من البيت كان واجباً لدخول الملائكة، ولذلك من اقتنى كلباً من غير حاجة نقص من أجره كل يوم قيراط، لكن النضح لم يدل الحديث على وجوبه، فربما كان خروج الكلب كافياً، ولكن الرسول إنما نضحه طلباً للكمال، وطلب الكمال ليس فيه إضاعة للمال، فتأمل. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بنجاسة الكلب قول قوي ¬

_ = خرج رجل من طاحية مهاجراً يقال له بيرح بن أسد، فقدم المدينة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأيام فرآه عمر رضي الله تعالى عنه فعلم أنه غريب، فقال له: من أنت؟ قال من أهل عمان. قال: نعم قال: فأخذ بيده، فأدخله على أبي بكر رضي الله تعالى عنه. فقال: هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنى لأعلم أرضاً يقال لها عمان، ينضح بناحيتها البحر، بها حي من العرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر. وإسناده ضعيف، أبو لبيد لم يدرك عمر فضلاً عن أبي بكر. وهذا الحديث سبق لي تخريجه في كتابي من هذه السلسلة (الحيض والنفاس رواية ودراية) رقم: 202، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم.

جداً، ونجاسة لسان الكلب ظاهرة في السنة الصحيحة، ولا يوجد فرق بين لسان الكلب وبين سائر أعضائه، بل إن لسان الكلب قد يكون أطهر من سائر أعضائه، فإذا حكمنا بنجاسة فم الكلب حكمنا بنجاسة سائر الأعضاء ولا بد، والله أعلم.

المسألة الرابعة: في نجاسة الخنزير

المسألة الرابعة: في نجاسة الخنزير اختلف العلماء في نجاسة الخنزير، فقيل: الخنزير نجس نجاسة عينية، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: إن عينه طاهر، بناء على أن كل حيوان حي، فهو طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬5)، ورجحه الشوكاني (¬6). دليل من قال بنجاسة الخنزير. الدليل الأول: قال تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} (¬7). والرجس: يأتي بمعنى النجس. ¬

(¬1) البناية على الهداية (1/ 360)، بدائع الصنائع (1/ 63)، شرح فتح القدير (1/ 94 - 110)، حاشية ابن عابدين (1/ 206). (¬2) التمهيد (1/ 320). (¬3) مغني المحتاج (1/ 78)، الأم (1/ 5، 6)، الوسيط (1/ 309)، 338، 339)، المجموع (2/ 585)، روضة الطالبين (1/ 31). (¬4) الفروع (1/ 235)، الكافي لابن قدامة (1/ 89)، المحرر (1/ 87)، الإنصاف (1/ 310)، رؤوس المسائل (1/ 89). (¬5) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/ 50)، المدونة (1/ 5، 6)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 80)، الخرشي (1/ 85). (¬6) السيل الجرار (1/ 38). (¬7) الأنعام: 145.

قال الجصاص: واللحم وإن كان مخصوصاً بالذكر فإن المراد جميع أجزائه, وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه أعظم منفعته وما يبتغى منه, كما نص على تحريم قتل الصيد على المحرم والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد, وخص القتل بالذكر؛ لأنه أعظم ما يقصد به الصيد. وكقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (¬1) فخص البيع بالنهي; لأنه كان أعظم ما يبتغون من منافعهم، والمعني جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة. وإنما نص على البيع تأكيدا للنهي عن الاشتغال عن الصلاة, كذلك خص لحم الخنزير بالنهي تأكيداً لحكم تحريمه وحظراً لسائر أجزائه , فدل على أن المراد بذلك جميع أجزائه وإن كان النص خاصا في لحمه (¬2). اعتراض وجواب: حمل الشوكاني رحمه الله تعالى قوله " فإنه رجس " على الحرام، وتحريم أكل لحم الخنزير إجماع لا خلاف فيه. وأجيب: بأن حمله على الحرام فيه بعدٌ؛ لأنه يؤدي إلى التكرار وينافي البلاغة القرآنية، فيكون تقدير الآية: قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه حرام " فيبعد أن يكون صدر الآية وآخرها على تكرار التحريم، بل قوله تعالى: " فإنه رجس" تعليل للتحريم، وليس تكراراً له. ¬

(¬1) الجمعة: 9. (¬2) أحكام القرآن للجصاص (1/ 174).

الدليل الثاني

والصحيح أن قوله " رجس " دليل على النجاسة، لكن هل هو دليل على نجاسة الخنزير أو على نجاسة لحمه عند إرادة أكله، فالهر لحمه رجس، وكذا الحمار لحمه رجس كما جاء في الحديث (¬1)، وذلك لا يتضمن حال الحياة، لأن الخنزير إذا فارقته الحياة فهو ميتة، سواء مات حتف أنفه، أو مات عن طريق التذكية؛ لأن التذكية لا تعمل فيه الحل، وهو محرم الأكل، ولو قال: " أو خنزير فإنه رجس " لكان في الآية دليل على نجاسة عين الخنزير، والله أعلم. الدليل الثاني: (1515 - 43) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إني بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبه قال: واشربوا (¬2). [أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، واختلف في ذكر زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬3). وجه الاستدلال: أنه أمر بغسلها في الماء حين كان أهلها يطبخون في آنيتهم الخنزير، وهذا شأن النجاسات. ¬

(¬1) سبق ذكر الأدلة على تحريم الحمر الأهلية في مسألة مستقلة. (¬2) سنن أبي داود الطيالسي (1014). (¬3) سبق تخريجه.

الدليل الثالث

اعتراض: قال الشوكاني: إن غسل الآنية المراد منه إزالة أثر الحرام لا أثر النجاسة. ولا أرى حاجة إلى تأويل الشوكاني، ولو ذهب إلى طهارة عين الخنزير، لأن نجاسة لحم الخنزير لا تعني نجاسة الخنزير حال الحياة، وبينهما فرق. الدليل الثالث: قال النووي: نقل ابن المنذر في كتاب الإجماع إجماع العلماء على نجاسة الخنزير، وهو أولى ما يحتج به لو ثبت الإجماع, ولكن مذهب مالك طهارة الخنزير ما دام حياً (¬1). الدليل الرابع: الخنزير أولى بالنجاسة من الكلب؛ لأنه يحرم اقتناؤه بخلاف الكلاب فإنه مباح للحاجة، ويجب قتله من غير ضرر، ومنصوص على تحريمه. وقولنا: من غير ضرر: احتراز من العقرب، فإنه يباح قتلها، وهي طاهرة، ولكن من أجل دفع ضررها (¬2). وأجيب: بأنه لا يلزم من تحريم الأكل والاقتناء لزوم النجاسة، فالتحريم أعم من النجاسة، فقد يكون الشيء محرم الأكل وهو طاهر، كالسم ونحوه، كما أنه قد يحرم الاقتناء مع الطهارة كالتماثيل والأزلام ونحوها. ¬

(¬1) المجموع (2/ 586)، ولم أقف عليه في كتاب الإجماع لابن المنذر، فليتأمل. (¬2) المهذب مع المجموع (2/ 586).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1516 - 44) ما رواه مسلم، من طريق سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه (¬1). فشبه اللعب بها بغمس اليد في هذه النجاسات. لكن قد يجاب عنه بما قاله النووي في شرحه لصحيح مسلم، قال: ومعنى "صبغ يده في لحم الخنزير ودمه في حال أكله منهما" وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما. والله أعلم. يعني: وليس لمجرد تلوث اليد بهذه القاذروات، وتحريم الأكل مجمع عليه، والنزاع في طهارة عينه حال الحياة، والله أعلم. الدليل الثالث: كل حيوان محرم الأكل الأصل فيه النجاسة مطلقاً حال الحياة وحال الممات، ولكن استثني ما يشق التحرز منه لعلة التطواف، وبقي ما عداه على النجاسة، أرأيت إلى الهر، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين حكم بطهارتها، لم يقل: إنه لا يوجد دليل يقتضي النجاسة، ولم ير كونها حية كافياً في كونها طاهرة، بل إن التعليل يفهم منه الحكم بالنجاسة لولا وجود هذه العلة، فإنه قال: إنها من الطوافين عليكم، يعني: رفع الحكم بنجاسته دفعاً للحرج والمشقة علينا، لوجود علة التطواف، ومشقة التحرز منها، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلو ¬

(¬1) صحيح مسلم (2260).

دليل من قال بالطهارة

كان جنس الهر لا يطوف علينا، وتوحش لكان مقتضى التعليل أن يعود الحكم عليها بالنجاسة، والله أعلم. وهذا أقوى دليل في نظري على الحكم بنجاسة كل حيوان محرم الأكل. وقد يجاب عنه: بأن يقال: إن قوله: " إنها من الطوافين عليكم " تعليل لكون الله سبحانه وتعالى خلقها طاهرة، أي كيف تكون نجسة، وهي من الطوافين عليكم؟ فلأجل ذلك لم يخلقها الله تعالى نجسة، ولا يستفاد من ذلك العكس، أن ما لم يكن طوافاً كان نجساً؛ لأن هذا يقتضي أن الأصل هو النجاسة، ومعلوم أن النجاسة حكم شرعي ناقل عن الأصل: الذي هو الطهارة. دليل من قال بالطهارة. الدليل الأول: قالوا: الأصل في الأشياء الطهارة، ولا نحكم بنجاسة عين إلا لدليل صحيح صريح يقتضي النجاسة، ولا دليل هنا. قال النووي رحمه الله مع أنه يتبنى مذهب الشافعية، قال: ليس لنا دليل واضح على نجاسة الخنزير في حياته (¬1). وهذا من تمام عدله وإنصافه. الدليل الثاني: إن تحريم أكل لحم الخنزير لا يقتضي نجاسته حال الحياة، فالحمار والبغل والهر محرمة الأكل، ومع ذلك هي طاهرة على الصحيح. ¬

(¬1) المجموع (2/ 586).

الراجح بين القولين

الراجح بين القولين: أرى أن القول بالنجاسة أقوى من حيث الدليل والتعليل، وتوجيه طهارة الهر واضح في أن كل حيوان محرم الأكل فهو نجس إلا ما يشق التحرز منه فإنه طاهر حال الحياة، والله أعلم.

المسألة الخامسة: في نجاسة سباع البهائم والطير

المسألة الخامسة: في نجاسة سباع البهائم والطير اختلف الفقهاء في نجاسة سباع البهائم والطير، فقيل: إنها نجسة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: إنها طاهرة، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4). دليل من قال بالنجاسة: الدليل الأول: (1517 - 45) ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص: لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب ¬

(¬1) وإن كان الحنفية يفرقون بين سؤر سباع البهائم، وسؤر سباع الطير على ما سيأتي ذكره عند الكلام على الأسآر إن شاء الله تعالى. انظر بدائع الصنائع (1/ 64)، المبسوط (1/ 48)، حاشية ابن عابدين (1/ 223)، البناية على الهداية (1/ 439)، شرح فتح القدير (1/ 111). (¬2) يرى الحنابلة نجاسة سباع البهائم والطير إلا الهر وما دونه في الخلقة فإنه طاهر عندهم، وقد سبق مناقشة تعليلهم النجاسة بالخلقة قياساً على الهر عند الكلام على حكم الهر. انظر الإنصاف (1/ 342)، رؤوس المسائل الخلافية (1/ 93)، الهداية (1/ 22)، المبدع (1/ 431)، مطالب أولي النهى (1/ 232). (¬3) بناء على أصلهم في أن الحياة علة الطهارة، فكل حي طاهر عندهم. انظر: الاستذكار (2/ 121)، الإشراف (1/ 43)، الخرشي (1/ 84). (¬4) بناء على أصلهم: في أن كل الحيوانات طاهرة خلا الكلب والخنزير، انظر روضة الطالبين (1/ 13)، كفاية الأخيار (1/ 43)، حاشيتا القليوبي وعميرة (1/ 69)، مغني المحتاج (1/ 80).

الحوض، لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا (¬1). [رجاله ثقات إلا أن إسناده منقطع] (¬2). وجه الاستدلال: لولا أنه كان إذا أخبر بورود السباع يتعذر عليهم استعماله لما نهاه عن ذلك. وأجيب: بأن الأثر ضعيف أولاً. وثانياً: ليس فيه دلالة، فإن قول عمر: فإنا نرد على السباع وترد علينا صريح أنه لا يؤثر ورود السباع على الماء حتى مع العلم بورودها، ولو قال: لا تخبره، فإنا لم نكلف السؤال، عملاً بالأصل لكان الاستدلال له وجه. ¬

(¬1) الموطأ (1/ 23)، ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق في المصنف (250). وأخرجه الدارقطني (1/ 32) من طريق حماد بن زيد، ثنا يحيى بن سعيد به. وانظر إتحاف المهرة (15834). (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 226): هذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن، لكنه مرسل منقطع؛ فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب، قال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل، وكذا قاله غير ابن معين. الخ كلامه رحمه الله. وقال ابن أبي حاتم وابن حبان مثل قول ابن معين بأنه ولد في خلافة عثمان. الجرح والتعديل (9/ 165)، الثقات (5/ 523)، وانظر جامع التحصيل (ص: 298).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1518 - 46) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1). [إسناده صحيح إن شاء الله] (¬2). وجه الاستدلال: لو لم يكن ولوغ السباع مؤثراً في طهارة الماء لما قال: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فإن مفهومه إذا كان الماء دون القلتين فقد يحمل الخبث من ولوغ السباع والدواب، والله أعلم. وأجيب: بأن السباع والدواب منها ما هو نجس كالكلب، فالكلب داخل في لفظ السباع كما أنه داخل في لفظ الدواب، ومنها ما هو طاهر، فلا يدل على نجاسة كل السباع، وإذا كان الكلب من جملة ما ينوب الماء لم يكن الحديث دالاً على نجاسة كل سبع، وإنما يدل على نجاسة السباع النجاسة التي من جملتها الكلب. ثانياً: ورد في بعض ألفاظ الحديث: وما ينوبه من الكلاب والدواب. ¬

(¬1) المصنف (1/ 133) رقم 1526. (¬2) سبق تخريجه في أحكام الطهارة (المياه والآنية) رقم 88.

الدليل الثالث

ثالثاً: أن كلمة ينوبه لا تعني فقط الاقتصار على الولوغ، فقد تبول فيه أيضاً، وبولها غير ريقها، والله أعلم. الدليل الثالث: (1519 - 47) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، ورواه مسلم (¬1). الدليل الرابع: (1520 - 48) ما ورواه مسلم، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير (¬2). وجه الاستدلال: أن الحديث دال على أن هذه السباع من البهائم والطير محرمة الأكل، وكل ما كان محرم الأكل لا لحرمتها، وأمكن التحرز منها كانت نجسة. الدليل الخامس: ما قلناه سابقاً في نجاسة الخنزير، نعيده هنا: فالهر، حين حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطهارتها، لم يقل: إنه لا يوجد دليل يقتضي النجاسة، ولم ير في كونها ¬

(¬1) البخاري (5530)، ومسلم (1932). (¬2) مسلم (1934).

دليل من قال بطهارة سباع البهائم والطير

حية كافياً لاعتبارها طاهرة، بل إن التعليل يفهم منه الحكم بالنجاسة لولا وجود هذه العلة، فإنه قال: إنها من الطوافين عليكم. يعني: رفع الحكم بنجاسته دفعاً للحرج والمشقة علينا، لوجود علة التطواف، ومشقة التحرز منها، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلو كان جنس الهر لا يطوف علينا، وتوحش لكان مقتضى التعليل أن يعود الحكم عليها بالنجاسة، وإذا كانت هذه السباع يمكن التحرز منها كانت نجسة ولا بد. دليل من قال بطهارة سباع البهائم والطير. الدليل الأول: الأصل في الأشياء الطهارة، ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح. وأجيب: بأننا سقنا الأدلة على نجاستها، وهذا يكفي في النقل عن أصل الإباحة. الدليل الثاني: (1521 - 49) ما رواه ابن ماجه، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة منها فقال: لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (519). (¬2) الحديث أخرجه ابن ماجه كما تقدم، والبيهقي (1/ 258)، من طريق عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1522 - 50) ما وراه الداقطني من طريق أيوب بن خالد الحراني، حدثنا محمد بن علوان، عن نافع، عن ابن عمر، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فسار ليلاً، فمروا على رجل جالس عند مقراة له، فقال عمر: ياصاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا صاحب ¬

_ = ورواه والدارقطني (1/ 31) ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 66) من طريق ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي هريرة. فجعله من مسند أبي هريرة. وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، جاء في ترجمته: قال البخاري: ضعفه علي جداً - يعني ابن المديني - التأريخ الكبير (5/ 284). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين للنسائي (360). وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. الكامل لابن عدي (4/ 269). وقال علي بن المديني: ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة. المرجع السابق. وقال ابن عدي: له أحاديث حسان، وهو ممن احتمله الناس وصدقه بعضهم، وهو ممن يكتب حديثه. المرجع السابق. وجاء في الضعفاء للعقيلي (2/ 331): عامة أهل المدينة لا تريد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، إنه كان لا يدري ما يقول. قال الشافعي: ذكر رجل لمالك حديثا منقطعا فقال: أذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح. تهذيب التهذيب (6/ 161). وقال البوصيري: هذا إسناد ضعيف، عبد الرحمن بن زيد، قال الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. مصباح الزجاجة (1/ 75). انظر تحفة الأشراف (4186)، إتحاف المهرة (19574).

الدليل الرابع

المقراة لا تخبره، هذا متكلف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب طهور (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1523 - 51) ما رواه الشافعي في الأم عن إبراهيم بن محمد. ورواه عن سعيد بن سالم عن ابن أبي حبيبة أو أبي حبيبة (شك الربيع)، كلاهما (إبراهيم وابن أبي حبيبة) عن داود بن الحصين، عن أبيه، ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 26)، ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 66). وانظر إتحاف المهرة (11336). (¬2) في إسناده أيوب بن خالد، قال ابن عدي: حدث عن الأوزاعي بالمناكير، ثم قال: ولأيوب بن خالد غير ما ذكرت من الأخبار قل ما يتابعه عليها أحد. الكامل (1/ 358). وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في أكثر أحاديثه. التنقيح (1/ 49). وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 125). وقال القاسم بن زكريا المطرز عن إبراهيم بن هانئ، ثنا أيوب بن خالد الحراني وكان ثقة. المرجع السابق. وفي إسناده أيضاً محمد بن علوان، قال ابن الجوزي: متروك الحديث، نقله الذهبي في المغني في الضعفاء (5832). وقال الأزدي: متروك. انظر ميزان الاعتدال (3/ 651). وهناك رجل اسمه محمد بن علوان يروي عن علي مرسلاً، قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (8/ 49): مجهول. قال الحافظ في اللسان: أظنهما واحداً. (5/ 289). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 49): هذا حديث منكر، ومحمد بن علوان ضعيف. اهـ

عن جابر، قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: وبما أفضلت السباع كلها (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) الأم (1/ 6)، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 249). (¬2) في إسناده إبراهيم بن محمد، جاء في ترجمته: قال فيه أحمد: كان قدرياً معتزلياً، جهمياً، كل بلاء فيه. وقال بشر بن المفضل: سألت فقهاء المدينة عنه كلهم يقولون: كذاب، أو نحو هذا. وقال يحيى بن معين: كان فيه ثلاث خصال: كان كذاباً، وكان قدرياً، وكان رافضياً. تهذيب الكمال (2/ 184). ولا عبرة بتوثيق الشافعي رحمه الله؛ لأن الجرح إذا كان مفسراً كان مقدماً على التعديل، ولو كان من إمام واحد إذا لم يعرف أنه متشدد في الجرح، فكيف إذا اتفق الأئمة المعتبرون على تركه كالإمام أحمد والبخاري ويحيى بن معين ويحيى بن سعيد القطان والإمام مالك. وفي إسناده أيضاً حصين والد داود، جاء في ترجمته: قال البخاري: حديث ليس بالقائم. الضعفاء الكبير (1/ 315)، وعبارة البخاري في التاريخ الكبير (3/ 7): حديثه ليس في وجه صحيح. وفي التقريب: لين الحديث. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره، حتى كان لا يدري ما يحدث به، واختلط حديثه القديم بحديثه الأخير فاستحق الترك. التنقيح (1/ 50). وقال أبو حاتم: ليس حديثه بالقائم ضعيف. تهذيب الكمال (6/ 551). وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة: وثقه الإمام أحمد. وقال عثمان بن سعيد عن يحيى: صالح، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن عدي: هو صالح في باب الرواية، ويكتب حديثه مع ضعفه. تنقيح التحقيق (1/ 50).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1524 - 52) ما رواه أبو عبيد في كتاب الطهور (¬1)، ومن طريقه ابن المنذر (¬2)، عن ابن أبي عدي، عن حبيب بن شهاب، عن أبيه، قال: قلت لأبي هريرة: أرأيت السؤر في الحوض يصدر عنها الإبل، فتردها السباع وتلغ فيها الكلاب ويشرب منها الحمار، هل أتطهر منه؟ فقال: لا يحرم الماء شيء. [إسناده صحيح]. وجه الاستدلال: طهارة سؤرها دليل على طهارة عينها. وأجيب: الحديث ليس في مسألتنا، بل يتحدث عن تأثير النجاسة تقع في الماء الكثير هل تضره أم لا؟ ولم يقل أبو هريرة: إن هذه الأشياء طاهرة، وإنما قال: لا يحرم الماء شيء. بل إن السؤال دليل على أنها نجسة، وإنما لم تؤثر في الماء لكثرته، ولعدم تغيره بها، والاستدلال بها على طهارتها كالاستدلال به على طهارة الميتة والكلاب والحيضة حين سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء، فإذا كان الحديث لا يدل على طهارة هذه الأشياء الواقعة في بئر بضاعة، فلا يدل أثر أبي هريرة على طهارة سؤر السباع، والله أعلم. ¬

(¬1) الطهور (238). (¬2) الأوسط (1/ 310).

الدليل السادس

الدليل السادس: أن السباع كالأسد والصقر ونحوها حيوانات يجوز بيعها والانتفاع بها من غير ضرورة، فكانت طاهراً كالشاة (¬1). وأجيب: أن اشتراط الطهارة في المبيع شرط مختلف فيه بين الفقهاء بعد اتفاقهم على تحريم بيع الميتة، واختلفوا في العلة هل هي النجاسة، فيحرم بيع كل نجس؟ أو لأن الميتة ليست مالاً، وما يجوز بيعه يشترط أن يكون مالاً، فهذا القرد والحمار يجيز الحنابلة بيعه مع أنه نجس عندهم، فليس كل ما جاز بيعه حكمنا بطهارته. الراجح والله أعلم: نجاسة هذه الحيوانات إلا ما كان يشق التحرز منها فهو طاهر لعلة التطواف، بصرف النظر عن حجمه هل هو أكبر من الهر خلقة أو مثله أو دونه؟ والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع (1/ 174)، المغني (1/ 49).

الباب الثاني في فضلات الحيوان

الباب الثاني في فضلات الحيوان الفصل الأول في البول والغائط والروث المبحث الأول في بول الآدمي وعذرته الفرع الأول في بول الصبي والجارية اختلف العلماء هل بول الصبي الذي لم يأكل الطعام طاهر أو نجس؟. فقيل: نجس، وهو قول العامة (¬1). وقيل: طاهر، وهو مذهب داود الظاهري (¬2)، واختاره بعض الحنابلة (¬3)، ¬

(¬1) سبق أن ذكرنا في تطهيره أقوال الأئمة الأربعة، هل يجب النضح أم الغسل، وكلهم يرون نجاسته، انظر العزو إليهم في المسألة التي قبل هذه. (¬2) طرح التثريب (2/ 140). (¬3) الإنصاف (1/ 323).

ونصره الشوكاني (¬1). وأما الاختلاف في كيفية تطهيره فسوف يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب كيفية إزالة النجاسة. دليل من قال بطهارته: الدليل الأول: (1525 - 53) ما وراه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه، ولم يغسله. ورواه مسلم أيضاً (¬2). الدليل الثاني: (1526 - 54) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيدعو لهم، فأتي بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه ولم يغسله. ورواه مسلم (¬3). فهذان الحديثان دليلان على أنه يكفي في بول الصبي النضح، وأن الغسل غير واجب لقوله في الحديث: ولم يغسله. ¬

(¬1) للشوكاني قولان في هذه المسألة، الطهارة والنجاسة، انظر الدراري المضيئة (1/ 22)، والسيل الجرار (1/ 31، 35). (¬2) صحيح البخاري (323)، ومسلم (287). (¬3) صحيح البخاري (6355)، ومسلم (286).

وهذا النضح خاص في بول الصبي، وأما الجارية فيجب غسله، (1527 - 55) لما رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي حدثني يحيى بن الوليد، حدثني محل بن خليفة، حدثني أبو السمح، قال: كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك، فأوليه قفاي، فأستره به، فأتي بحسن أو حسين رضي الله عنهما، فبال على صدره، فجئت أغسله فقال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام (¬1). [إسناده حسن] (¬2). فأخذوا من الاكتفاء بنضح بول الصبي أن بوله طاهر، إذ لو كان نجساً لوجب غسله كبول الجارية، بل وكغيره من النجاسات. والصحيح أنه نجس، فالأمر بنضحه وبإتباع الماء إياه دليل على نجاسته، ولو كان البول طاهراً لم يكن هناك حاجة إلى تطهيره؛ إذ الطاهر لا يطهر. قال القرطبي في " المفهم ": والعجب ممن يستدل برش بول الصبي، أو بالأمر بنضحه على طهارته، وليس فيه ما يدل على ذلك؛ وغاية دلالته على التخفيف في نوع طهارته، إذ قد رخص في نضحه ورشه وعفا عن غسله تخفيفاً خص هذا التخفيف الذكر دون الأنثى لملازمتهم حمل الذكران لفرط فرحهم بهم لمحبتهم لهم - واللَّه أعلم - (¬3). ¬

(¬1) سنن أبي داود (376). (¬2) وسوف يأتي تخريجه في كيفية التطهير بالنضح، وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب، وحديث أم الفضل وأم كرز الخزاعية وغيرهم، وقد خرجناها كاملة في كيفية التطهير بالنضح فأغنى عن إعادتها هنا. (¬3) المفهم (2/ 644).

ولو أخذنا بقاعدة، أن كل ما ثبت التخفيف في طهارته كان طاهراً لقلنا: بطهارة النعل الذي تصيبه النجاسة، فإن طهارته الدلك بالتراب، ومع ذلك هو نجس قبل الدلك، ولا يجب غسل النعل منها. ولقلنا بطهارة ذيل المرأة إذا أصابته نجاسة، فإن تطهيره بأن يمر على مكان طاهر، فيطهره ما بعده، ولا يجب غسله، وهو نجس قبل أن يمر على مكان طاهر، وهكذا، فليس التخفيف في طهارة بعض الأماكن دليلا على طهارتها، بل هي نجسة، وإن خفف الشارع في تطهيرها، وهذا هو الراجح، والله أعلم.

الفرع الثاني ذكر العلة التي أوجبت التفريق بين بول الغلام والجارية

الفرع الثاني ذكر العلة التي أوجبت التفريق بين بول الغلام والجارية من المقطوع به أن الشارع لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، فإذا فرق الشارع بين متشابهين فإن هناك علة أوجبت مثل ذلك، وقد تعلم العلة، وقد لا تعلم، والعقول قاصرة عن إدراك علل جميع الأحكام، فالله سبحانه وتعالى حكيم، ولا يأمر ولا ينهى إلا لحكمة، وإن كان طلب العلة ينبغي أن يكون مقصوراً على ما يفيد من تعدي الحكم إلى غيره مما يلحقه القياس، وإلا فالتسليم للنص الشرعي هو طريق المؤمنين {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة} (¬1)، {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا} (¬2). ولا يعارض المؤمن النص بعقله فيهلك، ويكون حاله كحال إبليس الذي قال معترضاً على أمر ربه {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} (¬3). وقد اختلف العلماء في تلمس تلك العلة فمنهم من أرجع ذلك إلى طبيعة بول الأنثى، وأنه يختلف عن بول الذكر فيرى بعضهم أن بول الأنثى أنتن رائحة وأثقل من بول الذكر، ولذلك أمر بغسله دون بول الغلام. ¬

(¬1) الأحزاب: 36. (¬2) النور: 51. (¬3) ص: 76.

(1528 - 56) ومما يدخل في هذا ما ذكره أبو الحسن بن سلمة قال: حدثنا أحمد بن موسى بن معقل، حدثنا أبو اليمان المصري قال: سألت الشافعي عن حديث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية، والماءان جميعاً واحد؟ قال: لأن بول الغلام من الماء والطين، وبول الجارية من اللحم والدم، ثم قال لي: فهمت؟ أو قال: لقنتَ؟ قال: قلت: لا، قال: إن اللَّه تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير، فصار بول الغلام من الماء والطين، وصار بول الجارية من اللحم والدم، قال: قال لي: فهمت؟ قلت: نعم. قال: نفعك اللَّه به. رواه أبو الحسن بن سلمة في زوائده على ابن ماجه، كما في " سنن ابن ماجه " (¬1). - ومنهم من أرجع ذلك إلى طريقة خروج البول فبول الغلام يخرج بقوة فينتشر فيشق غسله ولذلك تسومح فيه، أما بول الأنثى فيكون مجتمعاً فيسهل غسله. ومنهم من أرجع ذلك إلى أن نفوس الناس تميل إلى الغلمان، فتحمله أكثر من غيره، فيكثر منهم التبول، ويشق عليهم غسله. والأخيران قريبان؛ لأن العلة فيهما المشقة، وهي معتبرة شرعاً في تخفيف النجاسة، بل وفي العفو عنها كلياً، كما سيأتي أمثلة ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على النجاسة المعفو عنها. ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (1/ 175).

الفرع الثالث في البول والغائط من الآدمي الكبير

الفرع الثالث في البول والغائط من الآدمي الكبير أجمع المسلمون على نجاسة بول وغائط الآدمي الكبير، ونقل الإجماع خلق من أهل العلم. قال الطحاوي: " فنظرنا في ذلك، فإذا لحوم بني آدم كل قد أجمع على أنها لحوم طاهرة، وأن أبوالهم حرام نجسة .... (¬1) اهـ وقال العيني: بول الآدمي الكبير فحكمه أنه نجس مغلظ بإجماع المسلمين من أهل الحل والعقد (¬2). وقال ابن رشد: " وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة، ثم ذكر منها: وعلى بول ابن آدم ورجيعه" (¬3). وقال ابن جزي: " وأما الأبوال والرجيع فذلك من ابن آدم نجس إجماعاً" وقال أيضاً: النجاسات المجمع عليها في المذاهب، ثم ذكر منها: بول ابن آدم ورجيعه" (¬4). وقال النووي: وأما بول الآدمي الكبير فنجس بإجماع المسلمين، نقل الإجماع فيها ابن المنذر وأصحابنا وغيرهم (¬5). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 109). (¬2) البناية (1/ 387، 400). (¬3) بداية المجتهد (2/ 175، 192). (¬4) القوانين الفقهية (ص: 35، 36). (¬5) المجموع (2/ 567).

وقال العراقي: فيه نجاسة بول الآدمي, وهو إجماع من العلماء إلا ما حكي عن داود في بول الصبي الذي لم يطعم أنه ليس بنجس للحديث الصحيح فنضحه ولم يغسله, وهو مردود بالإجماع فقد حكى بعض أصحابنا الإجماع أيضا في نجاسة بول الصبي (¬1). وقال ابن المنذر: أجمعوا على إثبات نجاسة البول (¬2). ونقل الإجماع كذلك في كتابه العظيم الأوسط (¬3). وقال الزركشي: " نجس بلا نزاع، وهو البول والغائط " (¬4). وقال الصنعاني في سبل السلام: والحديث فيه دلالة على نجاسة بول الآدمي، وهو إجماع (¬5). وقال الشوكاني: واستدل بحديث الباب على نجاسة بول الآدمي، وهو مجمع عليه (¬6). وانظر للاستزادة كتاب إجماعات ابن عبد البر في العبادات (¬7). ¬

(¬1) طرح التثريب (2/ 140). (¬2) الإجماع (ص: 34). (¬3) الأوسط (2/ 138). (¬4) شرح الزركشي (2/ 39، 40). (¬5) سبل السلام (1/ 34). (¬6) نيل الأوطار (1/ 61). (¬7) (1/ 314).

المبحث الثاني في بول وروث الحيوان

المبحث الثاني في بول وروث الحيوان الفرع الأول في بول وروث الحيوان المأكول اختلف العلماء في بول الحيوان المأكول وروثه، فقيل: هو طاهر مطلقاً، وهو مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: نجس مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: إن بول الحيوان نجس، وأما بول الطير، فإن كان يذرق في الهواء كالعصافير والحمام والخفافيش فهو طاهر، وإن كان لا يذرق في الهواء كالدجاج والبط فهو نجس. وهذا مذهب الحنفية (¬5). وقيل: بطهارة الأبوال كلها عدا بول الآدمي، وهو مذهب داود الظاهري (¬6). ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 94)، الخرشي (1/ 85 - 86)، القوانين الفقهية (ص: 27). (¬2) مسائل أحمد رواية عبد الله (1/ 31)، ومسائل ابن هانئ (131)، والمستوعب (1/ 314)، المبدع (1/ 338)، الإنصاف (1/ 339)، الفروع (1/ 248 - 249). (¬3) المجموع (2/ 547)، مغني المحتاج (1/ 79)، نهاية المحتاج (1/ 224). (¬4) المستوعب (1/ 315). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 61 - 62)، البحر الرائق (1/ 239)، حاشية ابن عابدين (1/ 210). (¬6) المحلى (2/ 169).

دليل من قال بالطهارة

دليل من قال بالطهارة. الدليل الأول: الأصل في الأشياء الطهارة حتى يأتي دليل من القرآن أو من السنة أو من الإجماع على نجاستها، ومن ادعى النجاسة فعليه الدليل، خاصة ونحن نعلم أن الصحابة كانوا أصحاب إبل وغنم فالحاجة داعية إلى بيان حكمها لو كانت نجسة، وليست البلوى في ولوغ الكلب في الأواني أكثر من البلوى في أبوال المواشى وروثها، فلما لم يأت بيان بأنها نجسة علم أنها طاهرة. قال ابن تيمية رحمه الله: وبول ما أكل لحمه وروثه طاهر, لم يذهب أحد من الصحابة إلى تنجسه، بل القول بنجاسته قول محدث لا سلف له من الصحابة (¬1). الدليل الثاني: (1529 - 57) ما رواه مسلم من طريق جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا. وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في الصلاة في مرابض الغنم، ومرابض الغنم لا تخلو من البول والروث، فدل على طهارتها. ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 313).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1530 - 58) ما رواه البخاري، حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها. الحديث والحديث رواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالشرب من أبوال الإبل، ولم يأمرهم بغسل الأواني منها، ولو كانت نجسة ما أذن لهم بالشرب، ولأمرهم بغسل الأواني منها. وهذا نص صريح في محل النزاع. الدليل الرابع: (1531 - 59) ما رواه البخاري قال: حدثنا أحمد بن صالح ويحيى بن سليمان، قالا: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: إدخال البعير المسجد، والطواف عليه دليل على طهارة بوله، حيث لا ¬

(¬1) صحيح البخاري (233)، ومسلم (1671). (¬2) صحيح البخاري (1608)، ومسلم (1272).

الدليل الخامس

يؤمن بول البعير في أثناء الطواف، ولو كان نجساً لم يعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد للنجاسة. الدليل الخامس: (1532 - 60) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نستنجي بالروث؛ لأنه علف دواب إخواننا من الجن، ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك لئلا ننجسه عليهم، فلو كان البعر في نفسه نجساً لم يكن الاستنجاء به ينجسه، ولم يكن هناك فرق بين البعر ¬

(¬1) صحيح مسلم (450).

الدليل السادس

والمستنجى به، ثم إن البعر لو كان نجساً لم يصلح أن يكون علفاً لقوم مؤمنين، فإنها تصير بذلك جلالة، ولو جاز أن تصير جلالة لجاز أن تعلف رجيع الإنس ورجيع الدواب، فلا فرق حينئذ، وكونه شَرَطَ في طعام الجن طهارة العظم، بقوله: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، فكذلك لا بد أن يَشْرِط في علف دوابهم نحو ذلك من الطهارة (¬1). الدليل السادس: (1533 - 61) ما رواه ابن خزيمة في صحيحه، قال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا من شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل ينحر بعيره، فيعصر فرثه، فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيراً، فادع لنا فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يده فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فأظلمت، ثم سكبت فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جازت العسكر (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

(¬1) بتصرف مجموع الفتاوى (21/ 577). (¬2) صحيح ابن خزيمة (101). (¬3) ومن طريق يونس أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 55). ورواه ابن حبان في صحيحه (1383)، والبزار في مسنده (1841)، والحاكم في =

الدليل السابع

وجه الاستدلال: قال ابن خزيمة: لو كان ماء الفرث إذا عصر نجساً لم يجز للمرء أن يجعله على كبده، فينجس بعض بدنه، وهو غير واجد لماء طاهر يغسل موضع النجس منه، فأما شرب الماء النجس عند خوف التلف إن لم يشرب ذلك الماء فجائز إحياء للنفس بشرب ماء نجس، إذ الله عز وجل قد أباح عند الاضطرار إحياء النفس بأكل الميتة والدم ولحم الخنزير إذا خيف التلف إن لم يأكل ذلك. والميتة والدم ولحم الخنزير نجس محرم على المستغني عنه، مباح للمضطر إليه لإحياء النفس بأكله، فكذلك جائز للمضطر إلى الماء النجس أن يحيي نفسه بشرب ماء نجس إذا خاف التلف على نفسه بترك شربه، فأما أن يجعل ماء نجسا على بعض بدنه، والعلم محيط أنه إن لم يجعل ذلك الماء النجس على بدنه لم يخف التلف على نفسه، ولا كان في إمساس ذلك الماء النجس بعض بدنه إحياء نفسه بذلك، ولا عنده ماء طاهر يغسل ما نجس من بدنه بذلك الماء، فهذا غير جائز ولا واسع لأحد فعله (¬1). الدليل السابع: كان الحَبُّ في عهد الصحابة ومن بعدهم يداس في البيادر عن طريق الدواب، ولا بد أن يصيب الحبوب شيء من أبوالها وأرواثها، ولم ينقل عن ¬

= المستدرك (566)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 231) من طريق حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب به. وهذه متابعة من حرملة ليونس بن عبد الأعلى. كما أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 55) من طريق يعقوب بن محمد، ثنا عبد الله بن وهب به. وهذه متابعة أخرى. ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (3292) من طريق ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة به. انظر إتحاف المهرة (15473). (¬1) صحيح ابن خزيمة (1/ 53 - 54).

الدليل الثامن

النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته، ولا عن غيرهم أنهم كانوا يغسلون الحب بعد الفراغ من دياسها، فلو كانت نجسة لوجب غسلها، ولنقل الأمر بذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما لم يأمر بغسلها علم أن أبوالها طاهرة. قال ابن تيمية حاكياً عن عهد الصحابة: " فإنا نتيقن أن الأرض كانت تزرع، ونتيقن أن الحب لا يداس إلا بالدواب، ونتيقن أنه لا بد أن تبول على البيدر الذي يبقى أياماً ويطول دياسها له، فهذه كلها مقدمات يقينية (¬1). الدليل الثامن: إجماع المسلمين على اتخاذ الحمام في المسجد الحرام من غير نكير، فهذا دليل على طهارتها؛ خاصة أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بتطهير المسجد بقوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (¬2). الدليل التاسع: (1534 - 62) ما رواه الدارقطني في سننه، من طريق سوار بن مصعب، عن مطرف بن طريف، عن أبي الجهم، عن البراء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس ببول ما أكل لحمه (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 584). (¬2) الحج: 26. (¬3) سنن الدارقطني (1/ 128). (¬4) ومن طريق سوار بن مصعب أخرجه البيهقي في السنن (1/ 252)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 101). قال أحمد ويحيى بن معين والنسائي والدارقطني: سوار بن مصعب متروك. انظر سنن =

دليل من قال بالنجاسة

دليل من قال بالنجاسة: الدليل الأول: (1535 - 63) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مر بقبرين يعذبان فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول. الحديث والحديث رواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " لا يستتر من البول " فـ" أل " في البول عام لجميع الأبوال، سواء جعلنا أل للجنس أو للاستغراق. وعلى فرض الاختصاص ببول الإنسان فإن سائر الأبوال تلحق به قياساً. قال الخطابي: " في الحديث دلالة على أن الأبوال كلها نجسة مجتنبة من مأكول اللحم وغير مأكوله، لورود اللفظ به مطلقاً على سبيل العموم. ¬

= الدارقطني (1/ 128)، والتحقيق (1/ 101). قال الدارقطني: خالفه يحيى بن العلاء، ثم ساق الدراقطني إسناده (1/ 128) من طريق عمرو بن الحصين، نا يحيى بن العلاء، عن مطرف، عن محارب بن دثار، عن جابر. وعمرو بن الحصين ويحيى بن العلاء متروكان. قال الدارقطني: لا يثبت، عمرو بن الحصين ويحيى بن العلاء ضعيفان. قال ابن الجوزي: قال أحمد: يحيى بن العلاء كذاب يضع الحديث. التحقيق (1/ 102). وعمرو بن الحصين: قال أبو حاتم الرازي: ليس بشيء. وقال الدارقطني: متروك. وانظر إتحاف المهرة (2210). (¬1) صحيح البخاري (1361)، ومسلم (292).

الدليل الثاني

وأجيب: بأن اللام في كلمة (البول) للعهد الذهني، أي بول نفسه، وقد نص أهل المعرفة باللسان أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود، فإن كان هناك شيء معهود لم يحمل على الجنس، والدليل على أن المقصود به بوله هو عدة أدلة: الأول: ما جاء في الصحيحين في رواية أخرى للحديث " أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله" الثاني أن الحديث قد أخرجه النسائي من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس بلفظ: " لا يستبرئ من بوله" (¬1). وإسناده في غاية الصحة. والاستبراء: طلب البراءة من البول، وهو أن يستفرغ بقية البول، وينقي موضعه ومجراه، حتى يبرئهما منه: أي يبينه عنهما كما يبرأ من الدين والمرض، والاستبراء استنقاء الذكر عن البول (¬2). الدليل الثاني: (1536 - 64) ما رواه عبد بن حميد، قال: خبرنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، ¬

(¬1) النسائي (2069). (¬2) اللسان (1/ 33)، التوقيف على مهمات التعريف (ص: 54)، النهاية في غريب الحديث (1/ 112).

الدليل الثالث

عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عامة عذاب القبر في البول فتنزهوا من البول (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (1537 - 65) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، ¬

(¬1) المنتخب من مسند عبد بن حميد (642)، وأخرجه الدارقطني (1/ 128) والحاكم (653) من طريق إسحاق بن منصور، عن إسرائيل به. قال الدارقطني: لا بأس به. وانظر إتحاف المهرة (8779). (¬2) في إسناده أبو يحيى القتات، جاء في ترجمته: قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل- أبو يحيى القتات؟ قال: روى عنه إسرائيل أحاديث كثيرة مناكير جداً. الجرح والتعديل (3/ 432). قلت: وهذا منها، فإن حديث ابن عباس في الصحيحين بغير هذا اللفظ. وقال الدوري عن يحيى بن معين: أبو يحيى القتات في حديثه ضعف. المرجع السابق. وروى الدارمي عن ابن معين أنه قال: ثقة. تهذيب التهذيب (12/ 303). وقال أحمد: كان شريك يضعف أبا يحيى القتات. الجرح والتعديل (3/ 432). وقال النسائي: ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكين له (672). وذكره العقيلي في الضعفاء (2/ 229، 230). وقال علي بن المديني: قيل ليحيى بن سعيد: إن إسرائيل روى عن أبي يحيى القتات ثلاثمائة، وعن إبراهيم بن مهاجر ثلاثمائة، فقال: لم يؤت منه، أتي منهما جميعاً. يعني من أبي يحيى ومن إبراهيم. وقال ابن سعد: أبو يحيى القتات فيه ضعف. المرجع السابق.

عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أكثر عذاب القبر من البول (¬1). [رجاله ثقات ورجح أبو حاتم الرازي والدراقطني وقفه، وهو مما لا يدرك بالرأي] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 326). (¬2) اختلف فيه على الأعمش، فرواه أبو عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً. ورواه ابن فضيل عن الأعمش به موقوفاً على أبي هريرة. وسئل عنه الدارقطني في علله (8/ 208)، فقال: يرويه الأعمش، واختلف عنه، فأسنده أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وخالفه ابن فضيل، فوقفه، ويشبه أن يكون الموقوف أصح. اهـ وفي علل ابن أبي حاتم (1/ 366): سألت أبي عن حديث رواه عفان، عن أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أكثر عذاب القبر من البول. قال أبي: هذا حديث باطل. يعني: مرفوع. اهـ ونقله الحافظ في التلخيص وأقره، فقال (1/ 106): أعله أبو حاتم، فقال: إن رفعه باطل. اهـ وقال الحافظ في إتحاف المهرة (14/ 486) ذكر الترمذي في العلل المفرد أنه سأل البخاري عنه، فقال: هو صحيح. [تخريج الحديث]. الحديث أخرجه ابن المنذر في الأوسط (689)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (5192)، والبيهقي (2/ 412) من طريق يحيى بن حماد به. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 115)، وأحمد (2/ 388، 389)، وابن ماجه (348)، والدارقطني (1/ 128)، والحاكم في المستدرك (653) عن عفان، ثنا أبو عوانة، به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه. ورواه الدارقطني (1/ 128) من طريق محمد السمان البصري، نا أزهر بن سعد السمان، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه. =

الدليل الرابع

وجه الاستدلال: استنزهوا من البول عام في كل بول، وكما قلنا في توجيه حديث ابن عباس نقوله هنا. الجواب عن هذا الاستدلال: أولاً: الأحاديث ضعيفة، وهذا الحكم يريحنا من الجواب عنها. ثانياً: أن المقصود به بول الإنسان، كما قدمنا في حديث ابن عباس. ثالثاً: أن البول الذي يصيب الإنسان، ويكون عامة عذاب القبر منه إنما هو بوله هو، وهو الذي يتعرض له كثيراً في كل يوم، بل ربما في اليوم عدة مرات، وأما بول غيره فيندر أن يصيب أحداً من الناس، فكيف يكون عامة عذاب القبر من شيء لا يكاد يصيب أحداً من الناس، فتعين حمله على بول نفسه، والله أعلم. الدليل الرابع: (1538 - 66) ما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). ¬

= قال الدارقطني: الصواب مرسل. قال الذهبي في المغني (2/ 593): محمد بن صباح السمان البصري، عن أزهر السمان لا يعرف، وخبره منكر. وانظر لسان الميزان (5/ 203). وانظر إتحاف المهرة (18059)، أطراف المسند (7/ 198)، تحفة الأشراف (12501). (¬1) صحيح البخاري (156).

الدليل الخامس

فإن قيل: ليس في الحديث دليل على النجاسة، وإنما فيه ترك الاستنجاء بالروث، ولا يلزم من ذلك النجاسة، كما لم يلزم من ترك الاستنجاء بالعظم والمحترمات كونها نجسة. فالجواب: أن الاعتماد على نجاستها ليس لترك الاستنجاء فيها، ولكن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها ركس. والركس له معنيان: أحدهما: الركس بمعنى الرجيع. والمعنى الآخر: الركس: بمعنى النجس. ولا ينبغي أن يحمل على أنه مجرد إخبار بأن الروث رجيع، فإن ذلك إخبار بالمعلوم، فيؤدي إلى الحمل عليه خلو الكلام من الفائدة، فوجب حمله على ما ذكرنا بأن معنى الركس: النجس. وأجيب: بأن النهي عن الاستنجاء بالروث مركب من علتين، تنزل كل علة على محل: فالروث إن كان نجساً فإنه لا يستنجى به؛ لأنه نجس، ونحن لا نقول: إن كل روث طاهر. وعليه يحمل كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إنها ركس. وإن كان الروث طاهراً كما هو الحال هنا، فإنه لا يستنجى به؛ لا لأنه لا يطهر، ولكن لأنه طعام دواب إخواننا من الجن كما جاء في الحديث، وذكرناه في أدلة القول الأول. الدليل الخامس: قال تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (¬1). ¬

(¬1) الأعراف: 157.

الدليل السادس

ومعلوم أن الطباع الكريمة تستخبثه، وتحريم الشيء لا لكرامته واحترامه تنجيس له شرعاً. وتعقب: أولاً: الحكم على الشيء بأن هذا طيب أو خبيث ليس مرده إلى الطباع، وإنما مرده إلى الشرع؛ لأن الطباع قد تستقبح ما هو طيب، وتستطيب ما هو خبيث، والشرع عندنا لم يحكم على هذا بأنه خبيث، بدليل أنه أذن في شربها، والصلاة في مرابض الغنم، وهي لا تخلو من بولها وروثها. ثم إن كراهة الشيء طبعاً لا تقتضي نجاسته، فهذه النخامة مستقذرة طبعاً، وهي طاهرة. ثانياً: قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (¬1)، فكل ما هو محرم، فهو خبيث، وليس كل محرم نجساً، فالخبث والنجاسة غير متلازمتين، قال تعالى عن المال الردئ {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (¬2)، والخبث هنا في الشيء الطاهر. وقال تعالى: {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة} (¬3)، والكلام ليس فيه ما هو نجس بالمعنى الاصطلاحي. الدليل السادس: القياس على بول الآدمي ورجيعه، فإذا كان بول الآدمي نجساً بالإجماع فكذلك بول الحيوان بجامع أن كلاً منهما قد استحال إلى فساد ونتن. ¬

(¬1) الأعراف: 157. (¬2) البقرة: 267. (¬3) إبراهيم: 24.

الدليل السابع

وأجيب: بأن هذا قياس مع الفارق، حيث أذن الشارع في شرب أبوال الإبل دون بول الآدمي، وأذن بالصلاة في مرابض الغنم، ولم يأذن في الصلاة في موضع فيها بول آدمي أو رجيعه، وقياس بول ما يؤكل لحمه على بول ما لا يؤكل قياس مع الفارق، وهو قياس مصادم للنص فلا عبرة به. الدليل السابع: القياس على نجاسة القيء بجامع أن كلاً منهما قد استحال إلى نتن وفساد في الباطن. وأجيب: لا نسلم لكم بنجاسة القيء، ولا يوجد دليل على نجاسته، وإذا لم يسلم لكم الأصل لم يسلم لكم الفرع، وسوف يعقد إن شاء الله تعالى فصل خاص في حكم القيء. الدليل الثامن: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في معاطن الإبل، وهذا يدل على نجاستها. وقد ذكر نص الحديث في أدلة القول الأول. وأجيب: أولاً: بأنه لو كان النهي عن الصلاة في معاطن الإبل من أجل النجاسة ما صلى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان يصلي النافلة على بعيره. (1539 - 67) فقد روى الشيخان من طريق مالك، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب،

عن سعيد بن يسار، أنه قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة، فقال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، ثم لحقته، فقال عبد الله بن عمر: أين كنت؟ فقلت: خشيت الصبح، فنزلت، فأوترت، فقال عبد الله: أليس لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة؟ فقلت: بلى والله. قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على البعير (¬1). ثانياً: يقابل النهي هذا بإذنه في الصلاة في مرابض الغنم، فيقال: إن العلة ليست النجاسة، ولو كانت العلة هي النجاسة لم يكن هناك فرق بين بول الإبل والغنم، ولكن العلة شيء آخر: فقيل: إن الحكم تعبدي، فتكون علته مخفية عنا. وقيل: إنه يخشى إنْ صلى في مباركها أن تأوي إلى هذه المبارك، وهو يصلي، فتشوش عليه صلاته؛ لأنها كبيرة الجسم، ولأن من طبعها النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي، ولذلك ورد في الحديث أن الإبل خلقت من الشياطين. (1540 - 68) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خلقت من الشياطين (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (999)، ومسلم (700). (¬2) المصنف (1/ 337) رقم 3877. (¬3) الحديث رواه ابن أبي شيبة كما في إسناد الباب، ومن طريقه أخرجه ابن حبان في صحيحه (1702). =

قال ابن حبان في صحيحه: لو كان الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل ¬

_ = ورواه البيهقي في سننه (2/ 449) من طريق هشيم به. ورواه أحمد في مسنده (4/ 85) حدثنا إسماعيل بن علية، قال: أخبرنا يونس به. وزاد عليه قتل الكلب الأسود، وإباحة اتخاذ الكلب في الصيد والماشية. ورواه أحمد أيضاً (5/ 56، 57) حدثنا عبد الأعلى، عن يونس به. ورواه الرواياني في مسنده (898) من طريق سفيان، عن يونس به. ورواه ابن ماجه (769) من طريق أبي نعيم، عن يونس به. ورواه ابن حبان في صحيحه (5657) من طريق يزيد بن زريع، قال: حدثنا يونس به. فهؤلاء ستة حفاظ رووه عن يونس بن عبيد: وهم هشيم وابن علية وعبد الأعلى وسفيان ويزيد بن زريع وأبو نعيم. كما تابع أبو سفيان بن العلاء ومبارك بن فضالة يونسَ بن عبيد. فقد أخرجه أحمد (5/ 54) ومن طريقه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 317) حدثنا وكيع، عن أبي سفيان بن العلاء، عن الحسن به. وأبو سفيان بن العلاء لم أقف على أحد وثقه، لكن قال فيه يحيى بن سعيد القطان: كنت أشتهي أن أسمع من أبى سفيان حديث الحسن، عن عبد الله بن مغفل، كان يقول فيه: حدثني ابن مغفل. الجرح والتعديل (9/ 381)، كما أنه قد توبع في هذا الحديث، فإذا روى حديثاً لم ينكر عليه، بل قد تابعه عليه الثقات، ولم نقف له على جرح كان هذا مما يقوي أمره، والله أعلم. وأخرجه أبو داود الطيالسي (913) وأحمد (4/ 86) وعلي بن الجعد (3180) وابن عدي في الكامل (6/ 320) من طريق مبارك بن فضالة، عن الحسن به. قال ابن عبد البر (22/ 333): حديث عبد الله بن مغفل رواه نحو خمسة عشر رجلاً عن الحسن، وسماع الحسن من عبد الله بن مغفل صحيح. اهـ وقد خرجت من هذه الطرق ما نص فيها على أن الإبل خلقت من الشياطين، وتركت غيرها مما لم يرد فيه موضع الشاهد، والله أعلم. وانظر إتحاف المهرة (13415)، أطراف المسند (4/ 241)، تحفة الأشراف (9651).

الدليل التاسع

لأجل أنها خلقت من الشياطين لم يصل - صلى الله عليه وسلم - على البعير؛ إذ محال أن لا تجوز الصلاة في المواضع التي قد يكون فيها الشيطان ثم تجوز الصلاة على الشيطان نفسه، بل معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين على سبيل المجاورة والقرب (¬1). وقال ابن حبان في موضع آخر من صحيحه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين، وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله؛ فإنه شيطان، ثم قال في خبر صدقة بن يسار، عن ابن عمر: فليقاتله؛ فإن معه القرين (¬2). وقيل: معناه أن من طبعها الشيطنة، وليس معناه أن مادة خلقها الشيطنة، فهو كقوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} (¬3)، يعني: طبيعته هكذا، فهي لا تكاد تهدأ، ولا تقر في العطن، بل تثور، فربما قطعت على المصلي صلاته، وشوشت عليه خشوعه، وهذه هي الشيطنة المذكورة في الحديث. ولذلك لما صلى عليها أمن من شرها، بخلاف الصلاة في مباركها، فقد تأتي إليه مجتمعة في حالة من النفار فتفسد عليه صلاته. وعلى كل حال فليس في نهيه عن الصلاة في معاطن الإبل دليل على نجاسة بولها وروثها. الدليل التاسع: (1541 - 69) ما رواه أبو يعلى، من طريق ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، ¬

(¬1) صحيح ابن حبان (4/ 603). (¬2) صحيح ابن حبان (4/ 601). (¬3) الأنبياء: 37.

دليل الحنفية في التفريق بين ما يذرق في الهواء وبين غيره

عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). فقوله: " إنما تغسل ثوبك من البول " مطلق، فيشمل كل بول. والحديث ضعيف، فلا داعي للجواب عنه، ولو صح لم يسلم لهم الاستدلال به، كما قدمناه في حديث ابن عباس " أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ". دليل الحنفية في التفريق بين ما يذرق في الهواء وبين غيره. الحنفية ذهبوا إلى ما ذهب إليه الشافعية في نجاسة الأبوال كلها من الحيوان، إلا أنهم خالفوهم في بعض الطيور، فقسموا الطيور إلى قسمين: طير يذرق في الهواء كالعصافير والحمام فذرقه طاهر. وطير لا يذرق في الهواء كالدجاج والبط، فذرقه نجس. واستدلوا بطهارة ما يذرق في الهواء بوجود الحمام في المسجد الحرام، مع الأمر بتطهير المساجد من البول والقذر: قال تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (¬3). ¬

(¬1) مسند أبي يعلى (1611). (¬2) سبق تخريجه، انظر كتابي آداب الخلاء، وهو جزء من هذه السلسلة، رقم (402). (¬3) الحج: 26.

دليل داود على طهارة الأبوال كلها عدا بول الآدمي

(1542 - 70) وروى مسلم في صحيحه من طريق عكرمة بن عمار، حدثنا إسحق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك وهو عم إسحق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولأن فضلات ما يطير في الهواء لا رائحة له، بخلاف ذرق الدجاج ونحوها مما لا يطير فإنه منتن. ولأن الذي يذرق في الهواء يشق التحرز منه، فلا يمكن صيانة الثياب عنه، فيكون طاهراً دفعاً للحرج والمشقة. دليل داود على طهارة الأبوال كلها عدا بول الآدمي. الدليل الأول: الأصل في الأشياء الطهارة، ولا نعدل عنه إلا بدليل من نص أو إجماع، ولا يوجد ما يدل على نجاسة الأبوال، فتبقى طاهرة. ونوزع في هذا: أما الأصل فصحيح، وأما دعوى أنه لا يوجد دليل على نجاسة بعض الأبوال فغير مسلم، بل هناك أدلة كثيرة تدل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، منها ما ذكرنا في قوله عن الروث: إنها ركس. ¬

(¬1) صحيح مسلم (285).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1543 - 71) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبان، عن أنس، قال: لا بأس ببول ذات الكرش (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الراجح من الخلاف: القول بطهارة بول ما يؤكل لحمه هو أقوى الأقوال، وأوسطها، بين قول من يرى طهارة جميع الأبوال عدا بول الآدمي، وقول من يرى نجاسة كل الأبوال. ولا يمكن أن يباح لحمه، ثم يكون بوله نجساً. ولا يمكن أن يكون الكلب والخنزير أطهر بولاً من الإنسان، وأن يكون ريق الكلب نجساً، وبوله طاهراً، وبوله أخبث من ريقه، لذا أجد مذهب المالكية والحنابلة أقوى الأقوال في هذه المسألة، والله أعلم. ¬

(¬1) المصنف (1483). (¬2) في إسناده أبان بن أبي عياش، وهو ضعيف.

الفرع الثاني في بول وروث الحيوان غير المأكول

الفرع الثاني في بول وروث الحيوان غير المأكول اختلف العلماء في بول وروث الحيوان غير المأكول عدا الآدمي، فقيل: نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: طاهر، وهو مذهب داود الظاهري (¬2)، والشعبي (¬3)، والبخاري (¬4)، رحمهم الله جميعاً. دليل من قال بنجاسة البول والروث. الدليل الأول: قالوا: إن لحم هذا الحيوان خبيث، فكذلك بوله (¬5). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/ 60)، الفتاوى الهندية (1/ 46)، شرح فتح القدير (1/ 202)، وحاشية ابن عابدين1/ 319)، والبحر الرائق (1/ 241). وانظر في مذهب المالكية المدونة (1/ 116)، الخرشي (1/ 94)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 58) والشرح الصغير 1/ 54). وانظر في مذهب الشافعية: وانظر في مذهب الحنابلة الفروع (1/ 256)، الإنصاف (1/ 340)، كشاف القناع (1/ 193)، المستوعب (1/ 321)، مطالب أولي النهى (1/ 234). (¬2) الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي (ص: 171). (¬3) رواه ابن أبي شيبة (1/ 109) رقم 1244، قال: حدثنا ابن فضيل، عن ابن شبرمة، قال: كنت مع الشعبي في السوق، فبال بغل، فتنحيت عنه، فقال: ما عليك لو أصابك. وسنده حسن. (¬4) صحيح البخاري مع فتح الباري (1/ 335،278)، والمحلى (1/ 196) (¬5) مجموع الفتاوى (21/ 586،585).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: إذا كان الحيوان الطاهر الحلال الأكل إذا أكل العذرة حبس كما في الجلالة، فما بالك بحيوان قد خبث لحمه بنفسه، وليس عن طريق أكل العذرة المستحيلة إلى شيء آخر، ألا يكون نجساً من باب أولى. الدليل الثالث: إذا كان ريق الكلب نجساً، ويغسل منه الإناء سبعاً، فما بالك ببوله الذي هو أخبث وأنتن من ريقه، وقد سبقت هذه الأحاديث في نجاسة الكلب. الدليل الرابع: (1544 - 72) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1). [إسناده صحيح إن شاء الله، وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قضى بهذا الحديث الصحيح أن الماء الكثير لا يتأثر بسؤر السباع والدواب، ومفهومه أن الماء القليل قد يتأثر بسؤر السباع والدواب، وإذا كان هذا في سؤرها: أي بقية شرابها، فما بالك ببولها وروثها، فإنه أشد خبثاً ونتناً من ريقها. ¬

(¬1) المصنف (1/ 133) رقم 1526. (¬2) انظر تخريجه مطولاً في كتابي أحكام الطهارة: كتاب المياه، رقم (88).

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1545 - 72) ما رواه مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها: أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (¬1). [إسناده صحيح، وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: لما علل طهارة الهرة بأنها من الطوافين علينا، علم أن المقتضي لنجاستها قائم، وهو كونها محرمة، لكن عارضه مشقة التحرز منها، فطهرت لذلك دفعاً للحرج، ومعنى ذلك أن الهرة لو لم تكن طوافة علينا لكان سؤرها نجساً، وإذا كان هذا في سؤرها، فما بالك في بولها، فإنه أشد نجاسة من سؤرها. الدليل السادس: قد ثبت عندنا أن الروث نوعان: روث ما يؤكل لحمه، وهذا طاهر، لأدلة كثيرة ذكرناها في مسألة (بول مأكول اللحم)، وروث نجس، وهو روث ما لا يؤكل لحمه، ¬

(¬1) الموطأ (1/ 44). (¬2) انظر حديث رقم (1507) من هذا الكتاب.

دليل من قال بالطهارة

(1546 - 74) لما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). دليل من قال بالطهارة. الدليل الأول: الأصل في الأشياء الطهارة حتى يأتي نص من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا نص ولا إجماع في تنجيس غير بول الآدمي. وأجيب: قد قدمنا الأدلة على نجاسة سؤر الكلب، وعلى نجاسة سؤر الهرة لولا علة التطواف، وقدمنا أن الماء القليل قد يتأثر بسؤر الدواب والسباع، مع أن ريقها أطهر من بولها، وكل هذه الأدلة صحيحة ظاهرة في نجاسة بول هذه الحيوانات، والله أعلم. الدليل الثاني: (1547 - 75) ما رواه البخاري في صحيحه: قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، ¬

(¬1) صحيح البخاري (156).

الدليل الثالث

عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬1). وأجيب: بأن بوله لن يكون أطهر من ريقه، وقد حكمنا على ريقه بالنجاسة كما في الحديث المتفق على صحته في غسل الإناء من ولوغ الكلب، ولكن عدم تطهير المكان من بول الكلب إما لكون الشمس حارة في بلاد الحجاز، فكانت تطهر الأرض بالاستحالة، فإذا أذهبت الشمس النجاسة لوناً وطعماً وريحاً فقد طهر المكان، وربما كان مرور الكلاب ليس في موضع مصلى المسلمين، بل في مؤخرة المسجد، فكان الأمر لا يتطلب المبادرة إلى تطهيره بالماء، بل يترك حتى تطهره الشمس. وقد يقال: إن هذا الأمر كان في أول الإسلام، خاصة أن في بعض ألفاظه أن ابن عمر كان شاباً عزباً، وكان ينام في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تزوج ابن عمر في حياته - صلى الله عليه وسلم - كما في قصة طلاق ابن عمر للمرأة الحائض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحديث في الصحيحين. الدليل الثالث: (1548 - 76) روى البخاري تعليقاً، قال: صلى أبو موسى في دار البريد والسرقين والبرية إلى جنبه فقال هاهنا وثم سواء (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (174)، قال الحافظ في الفتح: زاد أبو نعيم والبيهقي في روايتهما لهذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب المذكور موصولاً بصريح التحديث. (¬2) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، في كتاب الوضوء، في باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها. =

وجه الاستدلال: أن أبا موسى صلى على السرقين في دار البريد، وكانت تربط فيها الدواب ذوات الحوافر من خيل وبغال وحمير، ولو كان نجساً لما صلى عليه. وأجيب: أولاً: أن هذه الدواب التي ترد إلى البريد طاهرة، لأنها إما خيل وإبل فأكلها حلال، فكذلك بولها، وإما بغال وحمر فهي طاهرة لمشقة التحرز منها ¬

_ = قال الحافظ في الفتح (1/ 336): وهذا الأثر وصله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له، قال: حدثنا الأعمش، عن مالك بن الحارث هو السلمي الكوفي، عن أبيه، قال: صلى بنا أبو موسى في دار البريد، وهناك سرقين الدواب والبرية على الباب، فقالوا: لو صليت على الباب فذكره. اهـ قلت: بل أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1606). وقال في تغليق التعليق (2/ 141): ذكره البخاري في تاريخه عن أبي نعيم، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع، عن الأعمش نحوه. وقال أيضا: حدثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن أبيه قال: كنا مع أبي موسى بعين التمر في دار البريد، فأذن وأقام، فقلنا له: لو خرجت إلى البرية، فقال: ذاك وذا سواء. ومالك بن الحارث هو السلمي روى له مسلم من حديث الأعمش عنه، ووثقه يحيى بن معين، وأبوه ذكره ابن حبان في الثقات. قلت روايتا ابن أبي شيبة التي أشار إليها الحافظ رحمه الله تعالى هي في المصنف، فأما روايته عن محمد بن عبيد فهي في (1/ 198)، رقم 2268، وقد ذكر الحافظ لفظها. وأما رواية ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن الأعمش به، فهي في (2/ 169) بلفظ: كنا مع أبي موسى في دار البريد، فحضرت الصلاة، فصلى بنا على روث ونتن، فقلنا: تصلي بنا هنا، والبرية إلى جنبك، فقال: البرية وهاهنا سواء. اهـ وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1606) عن الثوري، عن الأعمش به. ورواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 196) من طريق شريك، عن الأعمش به.

الترجيح

كما قدمنا بحثه في مسألة مستقلة. ثانياً: قد يكون أبو موسى صلى بحائل. وهذا الاحتمال الأصل عدمه، ثم ظاهر اللفظ يأباه بقوله: صَلَّى على سرقين، ظاهره أنه مباشر له. ثالثاً: على فرض أن يكون صلى على سرجين نجس، فهو فعل صاحبي قد خالفه غيره من الصحابة كابن عمر وغيره فلا يكون حجة، وقد قدمنا أدلة مرفوعة على نجاسة هذه الأبوال، وإنما يصار إلى الاستدلال برأي الصحابي بشرطين: الأول: ألا يخالف نصاً من كتاب أو سنة مرفوعة. الثاني: ألا يخالفه غيره من الصحابة، فإن خالفه غيره ذهبنا إلى الترجيح بينهما بحسب ما تقتضيه الأدلة والقواعد الشرعية. رابعاً: قال بعضهم: لعل أبا موسى كان لا يرى الطهارة من النجاسة شرطاً أو واجباً في صحة الصلاة، وهو قول في مذهب المالكية. الترجيح: الراجح والله أعلم بالصواب، مذهب القائلين بنجاسة أبوال البهائم الحية غير المأكولة، وذلك لقوة أدلتهم وسلامتها من الاعتراضات القادحة.

الفصل الثاني في المني والمذي والودي من الحيوان

الفصل الثاني في المني والمذي والودي من الحيوان المبحث الأول في مني الإنسان اختلف العلماء في مني الإنسان هل هو طاهر أم نجس، فقيل: المني نجس، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 85)، المبسوط (1/ 81)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 32)، شرح معاني الآثار (1/ 53)، البحر الرائق (1/ 235،236). (¬2) قال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 113): ولا يجزئ عند مالك وأصحابه في المني ولا في سائر النجاسات إلا الغسل بالماء، ولا يجزئ فيه عنده الفرك، وأنكره، ولم يعرفه. اهـ وقال في القوانين الفقهية (ص: 51): لا يجوز الاستجمار -يعني: بالحجارة- من المني ولا من المذي، ولا إن تعدت النجاسة المخرجين أو ما قرب منهما. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/ 111)، مواهب الجليل (1/ 285)، مختصر خليل (ص: 15)، التاج والإكليل (1/ 285،285)، المفهم للقرطبي (1/ 558)، والمدونة (1/ 128)، المنتقى شرح الموطا (1/ 103). (¬3) المجموع (2/ 572). (¬4) المغني (1/ 516)، الإنصاف (1/ 350،351)، وعن أحمد ثلاث روايات في المني: الأولى: أنه طاهر، قال في المغني: وهو المشهور. الثانية: أنه نجس كالدم، ويعفي عن يسيره. =

وقيل: المني طاهر، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، ورجحه ابن حزم (¬3)، وابن تيمية (¬4). وسبب اختلاف العلماء في هذه المسألة اختلافهم في تفسير ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا من غسل المني رطباً، وفركه يابساً. فأخذ الحنابلة والشافعية من الاكتفاء بفركه يابساً دليلاً على طهارته، إذ لو كان نجساً لوجب غسله خاصة أن المني سائل ثخين، ويتشرب جزء منه الثوب، ولو كان المني نجساً لجاء الأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، خاصة أن ¬

= الثالثة: أنه لا يعفى عن يسيره، ويجزئ فرك يابسه من الرجل والمرأة. وقيل: من الرجل دون المرأة (¬1) المجموع (1/ 156)، (2/ 553)، مغني المحتاج (1/ 80). (¬2) انظر مسائل أحمد رواية أبي داود (1/ 32) رقم 158، 159، 150. وقال أحمد في مسائله رواية صالح (3/ 56): قلت لأبي الفراش يصيبه المني، يبسط عليه؟ فقال: المني شيء آخر، وسهل في المني جداً، وقال: أين المني من البول، البول شديد، والمني يفرك، وقد جاء أنه بمنزلة المخاط، يقوله ابن عباس. اهـ وانظر مسائل أحمد رواية ابن هانئ (1/ 25)، ورواية عبد الله (1/ 59) رقم 52. ومسائل أحمد وإسحاق (1/ 157،192،257). وعن أحمد ثلاث روايات في المني: الأولى: أنه طاهر، قال في المغني: وهو المشهور. الثانية: أنه نجس كالدم، ويعفي عن يسيره. الثالثة: أنه لا يعفى عن يسيره، ويجزئ فرك يابسه من الرجل والمرأة. وقيل: من الرجل دون المرأة. انظر المغني (1/ 516)، الإنصاف (1/ 350،351). (¬3) قال في المحلى (1/ 135) مسألة: 131: المني طاهر في الماء كان أو في الجسد أو الثوب لا تجب إزالته، والبصاق مثله ولا فرق. اهـ (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 588).

دليل من قال: إن المني نجس

البلوى فيه شديدة في الأبدان والثياب والفرش وغيرها، فلما لم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بغسل ما أصابهم، وكان الثابت عنه مجرد فعل، وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجردة لا تدل على الوجوب بل تدل على الاستحباب، علم أن المني طاهر. وأخذ الحنفية من فركه يابساً وغسله رطباً دليلاً على نجاسته، فإن النجاسة قد تزول بالفرك كما تطهر النعلين بدلكهما في التراب، وذيل المرأة بمروره بتراب طاهر بعده، وهكذا. ورجح المالكية أحاديث الغسل على أحاديث الفرك، ولم يروا أن النجاسة تزال بالفرك، بل لا بد من غسلها بالماء، وإليك أدلة كل فريق. دليل من قال: إن المني نجس. الدليل الأول: (1549 - 77) ما رواه أبو يعلى من طريق ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬

(¬1) مسند أبي يعلى (1611). (¬2) سبق تخريجه برقم (502) من كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء).

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: قوله: " إنما يغسل الثوب من كذا وكذا "، وذكر منها المني، وهذا دليل على نجاسته، وقد ساقه مساق الحصر. وأجيب: بأن الحديث ضعيف جداً، والضعيف لا يثبت به حكم شرعي، ثم إنه مخالف لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يفركه يابساً من ثوبه، كما ثبت في الحديث الصحيح وسوف يأتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: (1550 - 78) ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريباً من بعض المياه، فاحتلم عمر، وقد كاد أن يصبح فلم يجد مع الركب ماء، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال عمر: واعجباً لك يا عمرو بن العاصي، لئن كنت تجد ثياباً أفكل الناس يجد ثياباً، والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر (¬1). [إسناده منقطع] (¬2). ¬

(¬1) الموطأ (1/ 50). (¬2) قال النووي في المجموع (1/ 226): يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب، قال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل، وكذا قاله غير ابن معين. الخ كلامه رحمه الله.

وجه الاستدلال: قال الباجي: قوله " فجعل يغسل ما رأى من الاحتلام حتى أسفر" يريد أنه تتبع ما كان في ثوبه من المني حتى أسفر الصبح، ورأى أن تطهير ثوبه الذي هو فرض، أولى من مبادرة أول الوقت الذي هو أفضل، وهذا يدل على نجاسة المني؛ لأن اشتغاله به وتتبعه له حتى ذهب أكثر الوقت وخيف عليه من ضيقه، وأنكر عليه عمرو بن العاص التأخير، وأمره باستبدال الثوب دليل على نجاسة الثوب عندهم، ولو لم يكن نجساً عندهم لما اشتغل عمر بغسله، ولو اشتغل به لقيل له: تشتغل عن الصلاة بإزالة ما لم تلزم إزالته (¬1). وأجيب: أولاً: أن قوله " فاحتلم عمر وقد كاد أن يصبح " ظاهر أن عمر قد رأى ذلك منه قبل أن يصبح، ثم إن قوله: " حتى أسفر " ليس فيه دليل على تأخير الصلاة كثيراً، وكون أمير المؤمنين رضي الله عنه حريصاً أن ينظف ثوبه من المني غير مستغرب، فإن المني مستقذر طبعاً، لا سيما في الثوب الذي يبدو به أمام الناس، فليس فيه دليل على أن عمر يرى نجاسة المني. ثانياً: كونه يغسل أثر الاحتلام ليس نصاً في أنه يغسل المني فقط، فأثر الاحتلام قد يكون منياً مصحوباً بمذي، والمذي نجس. ثالثاً: على فرض أن يكون عمر بن الخطاب يرى نجاسته، وهذا من باب التنزل، فإنه قد خالفه غيره من الصحابة ممن لا يرى وجوب غسله، كعائشة رضي الله عنها، وابن عباس كما سيأتي عنه قريباً إن شاء الله تعالى، فإذا ¬

(¬1) المنتقى (1/ 103).

الدليل الثالث

اختلف الصحابة رجعنا إلى السنة، لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فروده إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (¬1)، فوجدنا أن السنة لم تحكم عليه بالنجاسة، كما سيأتي ذكر أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: استدل فقهاء الحنفية بما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعائشة: إذا وجدت المني رطباً فاغسليه، وإذا وجدته يابساً فحتيه. [لا أصل له] (¬2). الدليل الرابع: (1551 - 79) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا عمرو بن ميمون الجزري، عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه. ورواه مسلم بنحوه (¬3). وجه الاستدلال: قالوا: إن غسل المني دليل على نجاسته، لأن الطاهر لا يطهر، ولا يقال: ¬

(¬1) النساء: 59. (¬2) لم أقف عليه مسنداً في كتب السنة، وقد قال ابن الجوزي في التحقيق (1/ 107): هذا الحديث لا يعرف، وإنما المنقول أنها هي كانت تفعل ذلك من غير أن يكون أمرها. وقال الحافظ في الدراية في تخريج أحاديث الهداية (1/ 91): لم أجده بهذه السياقة. اهـ وقال في التلخيص (1/ 33): وأما الأمر بغسله فلا أصله له. (¬3) البخاري (229)، ومسلم (288).

الدليل الخامس

إن غسله للنظافة؛ لأن الأصل في الغسل أنه للنجاسة، إذ هي المأمور بغسلها، ولأن في غسله إتلافاً للماء، وإتعاباً للغاسل من غير ضرورة. وتعقب هذا من وجوه: الأول: أن عائشة رضي الله عنها كانت تفركه يابساً، ولا تغسله، فلو كان نجساً لما اكتفت بفركه، ولوجب غسله كالمذي. ثانياً: هذا الأمر مجرد فعل من عائشة، وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجرد لا يدل على الوجوب، فكيف بفعل غيره. ثالثاً: إن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق وكل ما يستقذر، ولا يكون هذا كافياً في الدلالة على نجاسته، وقد حث الإسلام على النظافة، فقد يتلف الماء في إزالة ما هو طاهر كغسل الثوب لإزالة الأوساخ ونحوها، وكما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إزالة النخامة من المسجد وتطييب محلها (¬1). الدليل الخامس: (1552 - 80) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا خالد ابن عبد الله، عن خالد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، أن رجلاً نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً فيصلي فيه. وجه الاستدلال: قال القرطبي: وهذا من عائشة يدل على أن المني نجس، وأنه لا يجزئ فيه إلا غسله، فإنها قالت: إنما: وهي من حروف الحصر، ويؤيد هذا ويوضحه ¬

(¬1) صحيح مسلم (3008).

قولها: فإن لم تر نضحت حوله، فإن النضح إنما مشروعيته حيث تحققت النجاسة، وشك في الإصابة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث أصبح يغسل جنابة من ثوبه، فقال: أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر (¬1). فإن قيل: ألم تقل: ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، فيصلي فيه، ألا يدل هذا على طهارته؟ قيل: لا يدل؛ لأن النجاسة تزال بأي مزيل، والفرك في حق النجاسة اليابسة كاف في تطهيرها، كما كانت طهارة النعل بدلكه في الأرض، وسنذكره إن شاء الله في أدلة القول الثاني. فالجواب: أن المني سائل ثخين، ويتشرب جزء منه الثوب كالبول والمذي بخلاف النعل إذا علق به سرجين يابس فدلك زالت النجاسة بالكلية، فلو كان نجساً لما اقتصر على فركه، ولذلك فإن فالمالكية (¬2)، وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬3)، ¬

(¬1) المفهم (1/ 558). (¬2) قال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 113): ولا يجزئ عند مالك وأصحابه في المني ولا في سائر النجاسات إلا الغسل بالماء، ولا يجزئ فيه عنده الفرك، وأنكره، ولم يعرفه. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/ 111)، مواهب الجليل (1/ 285)، مختصر خليل (ص: 15)، التاج والإكليل (1/ 285،285)، المفهم للقرطبي (1/ 558)، والمدونة (1/ 128)، المنتقى شرح الموطا (1/ 103). (¬3) قال في بدائع الصنائع (1/ 85): وإن جف -يعني: المني- فهل يطهر بالحت؟ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يطهر. وذكر الكرخي أنه يطهر. وجه رواية الحسن أن القياس أن لا يطهر في الثوب إلا بالغسل، وإنما عرفناه بالحديث. وأنه ورد في الثوب بالفرك، فبقي البدن مع أنه لا يحتمل الفرك على أصل القياس. =

الدليل السادس

واختارها أبو يوسف (¬1) لا يرون إزالته بالفرك، بل يوجبون الماء في تطهيره. الدليل السادس: قالوا: إن المني فضلة مستحيلة عن الغذاء، يخرج من مخرج البول، فكانت نجسة كالبول، ولا يرد علينا البصاق والمخاط والدمع والعرق؛ لأنها لا تخرج ¬

= وجه قول الكرخي: أن النص الوارد في الثوب يكون وارداً في البدن من طريق الأولى؛ لأن البدن أقل تشرباً من الثوب، والحت في البدن يعمل عمل الفرك في الثوب في إزالة العين. انظر المبسوط (1/ 81)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 32)، شرح معاني الآثار (1/ 53)، البحر الرائق (1/ 235،236). وقال في الدر المختار (1/ 312): ويطهر مني يابس بفرك إن طهر رأس حشفة كأن كان مستنجياً بماء. اهـ قال ابن عابدين في حاشيته شرحاً لهذا النص: " قوله: إن طهر رأس حشفة. قيل: هو مقيد أيضاً بما إذا لم يسبقه مذي، فإن سبقه فلا يطهر إلا بالغسل. وعن هذا قال شمس الأئمة الحلواني: مسألة المني مشكلة؛ لأن كل فحل يمذي ثم يمني إلا أن يقال: إنه مغلوب بالمني، مستهلك فيه، فيجعل تبعاً. وهذا ظاهر، فإنه إذا كان كل فحل كذلك، وقد طهره الشرع بالفرك يابساً يلزم أنه اعتبر مستهلكاً للضرورة، بخلاف ما إذا بال فلم يستنج حتى أمنى لعدم الملجئ. ثم قال: وقوله: كأن كان مستنجياً بماء: أي بعد البول، واحترز عن الاستنجاء بالحجر؛ لأنه مقلل للنجاسة لا قالع لها. اهـ وعليه فمذهب الحنفية يكفي فرك المني من رأس الحشفة بشرط أن يكون قد استنجى بماء، فإن كان استنجاؤه بحجر، فيجب غسل المني. والله أعلم. (¬1) قال في تبيين الحقائق (1/ 70): وعن أبي يوسف أنه لا يجوز تطهير البدن إلا بالماء؛ لأنها نجاسة يجب إزالتها فلا يجوز بغير الماء كالحدث. اهـ وقال في بدائع الصنائع (1/ 83): وروي عن أبي يوسف أنه فرق بين الثوب والبدن، فقال في الثوب تحصل - يعني: الطهارة بكل مائع مزيل- وقال في البدن: لا تحصل إلا بالماء. اهـ وفيه قول ثان عن أبي يوسف كقول أبي حنيفة، والله أعلم.

الدليل السابع

من مخرج البول (¬1). ألا ترى أن الفضلات الخارجة من أعالي البدن ليست نجسة، وفي أسافله تكون نجسة. وأجيب: بأن حكمك بالنجاسة إما أن يكون للاستحالة عن الغذاء، أو للخروج من مخرج البول، أو لمجموع الأمرين: فالأول باطل؛ إذ مجرد استحالة الفضله عن الغذاء لا يوجب الحكم بنجاستها، كالدمع والمخاط والبصاق. وإن كان لخروجه من مخرج البول، فهذا إنما يفيدك أنه متنجس لنجاسة مجراه، لا أنه نجس العين وهذا فاسد أيضاً؛ فإن المجرى والمقر الباطن لا يحكم عليه بالنجاسة، وإنما يحكم بالنجاسة بعد الخروج والانفصال، ويحكم بنجاسة المنفصل لخبث عينه لا لمجراه ومقره، وقد علم بهذا بطلان الاستناد إلى مجموع الأمرين (¬2). ثم إن قياسه على جميع الخارجات بجامع إشتراكهن في المخرج ليس دليلا شرعياً، وهو منقوض بالدبر، فإنه مخرج الريح الطاهر، ومخرج الغائط النجس، وبالفم فانه مخرج النخامة والبصاق الطاهرين، ومخرج القيء النجس على قول. الدليل السابع: قالوا: إن المني خارج من البدن يجب الاغتسال بخروجه، فكان نجساً كدم الحيض، ولأن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة كالبول والغائط والمذي. ¬

(¬1) بدائع الفوائد (3/ 650). (¬2) المرجع السابق.

الدليل الثامن

وأجيب: لا نسلم أن الأحداث الموجبة للطهارة كلها نجسة، فالريح طاهرة، ومع ذلك هي حدث إجماعاً، ولم يوجب كونها حدثاً أن يستنجى منها، ولا أن تغسل الثياب والأبدان بسببها. ولو غيب ذكره في الفرج الحلال دون إنزال وجب عليه الغسل بينما لو غيب ذكره في دم خنزير أو عذرة، لم يجب عليه غسل. فدل على إن إيجاب الغسل ليس معناه نجاسة المني، وإلا لوجب الغسل من البول والغائط، للإجماع على نجاستهما. الدليل الثامن: قياس المني على المذي، قال الباجي: دليلنا من جهة القياس أنه مائع تثيره الشهوة، فوجب أن يكون نجساً كالمذي (¬1). وأجيب: بأن المني غير المذي، فالأول يتكون منه الولد الذي هو أصل الإنسان، والمذي بخلافه. وكون الجامع بين المني والمذي هو الشهوة قياس لا يصح؛ وذلك لأن الشهوة ليست هي مناط التنجيس حتى تكون علة في إلحاق الفرع بالأصل. الدليل التاسع: قال ابن تيمية: الاستنجاء من المني فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على الدوام، ولا أعلم إخلالهم به بحال (¬2). اهـ ¬

(¬1) المنتقى (1/ 103). (¬2) شرح العمدة (1/ 162)، وقال أيضاً في مجموع الفتاوى (21/ 595): الاستنجاء منه مستحب كما يستحب إماطته من الثوب والبدن، وقد قيل: هو واجب، كما قد قيل: =

(1553 - 81) والدليل على الاستنجاء من المني ما رواه البخاري، من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري ومسلم واللفظ للأول (¬1). ويجاب عنه: أن الاستنجاء من المني ليس كالاستنجاء من البول، وذلك أن المني يوجب غسل البشرة كلها، ومن ذلك رأس الذكر، فإن أخر غسل الذكر إلى آخر الغسل ربما أوجب هذا مس ذكره، فانتقض وضوءه، فكان غسله في بداية غسله للجنابة ليس غسلاً من نجاسة، وإنما هو رفع للحدث عن ذلك الموضع من البدن، والدليل أن الاستنجاء منه ليس كالاستنجاء من البول أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتحرز منه، فربما تلوث ثوبه به، وربما صلى بذلك الثوب، ورأته عائشة ففركته، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وسوف نذكر ذلك إن شاء الله ¬

= يجب غسل الأنثيين من المذي، وكما يجب غسل أعضاء الوضوء إذا خرج الخارج من الفرج، فهذا كله طهارة وجبت لخارج، وإن لم يكن المقصود بها إماطته وتنجيسه بل سبب آخر، كما يغسل منه سائر البدن، فالحاصل أن سبب الاستنجاء منه ليس هو النجاسة بل سبب آخر، فقولهم: يوجب طهارة الخبث وصف ممنوع في الفرع، فليس غسله من الفرج للخبث، وليست الطهارات منحصرة في ذلك كغسل اليد عن القيام من نوم الليل، وغسل الميت والأغسال المستحبة، وغسل الأنثيين، وغير ذلك فهذه الطهارة إن قيل بوجوبها، فهي من القسم الثالث، فيبطل قياسه على البول؛ لفساد الوصف الجامع. اهـ (¬1) صحيح البخاري (260)، ومسلم (317).

دليل من قال بطهارة المني

تعالى ونخرجه في أدلة القول الثاني. دليل من قال بطهارة المني. الدليل الأول: الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يقال بنجاسة شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح سالم من المعارضة، ولا دليل على نجاسة المني. الدليل الثاني: قالوا: لو كان المني نجساً لجاء الأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، خاصة أن البلوى فيه شديدة في الأبدان والثياب والفرش وغيرها، فلما لم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بغسل ما أصابهم علم أن المني طاهر، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من دم الحيض، مع أن البلوى في المني أكثر وأشد، وأمر بغسل المذي أيضاً، ولم يأمر بغسل المني، فعلم أن غسله ليس واجباً، وأن عينه ليست نجسة. الدليل الثالث: (1554 - 82) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أحمد بن جواس الحنفي أبو عاصم، حدثنا أبو الأحوص، عن شبيب بن غرقدة، عن عبد الله بن شهاب الخولاني، قال: كنت نازلاً على عائشة، فاحتلمت في ثوبي، فغمستهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة، فأخبرتها، فبعثت إلي عائشة، فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه. قالت: هل رأيت فيهما شيئاً؟ قلت: لا. قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - يابساً بظفري. وجه الاستدلال: أن عائشة كانت تفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، وهذا دليل على طهارته؛ إذ لو كان نجساً لوجب غسله كسائر النجاسات. وأجيب عنه: أولاً: ثبت في طهارة النعل الدلك بالتراب، وكان ذلك طهارة له (¬1). فإذا كان الدلك في النعل لم يدل على طهارة الأذى الذي في النعل، لم يكن دلك المني دليلاً على طهارة المني. نعم يصح الاستدلال على طهارة المني لو أن عائشة تركت المني على ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تغسله رطباً، ولم تفركه يابساً، أو اكتفت بفركه، وهو رطب، أما ما دامت تغسله رطباً، ¬

(¬1) فقد روى أحمد في مسنده (3/ 20، 92)، قال: يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما. والحديث إسناده صحيح، وسبق تخريجه في كتابي آداب الخلاء، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أبي داود (385): " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور " إلا أنه حديث ضعيف قد اضطرب إسناده على الأوزاعي، وكذلك حكم عليه ابن عبد البر بالاضطراب، وقد سبق تخريجه تبعاً للحديث السابق في نفس الكتاب المذكور. فيكفي الاحتجاج بحديث أبي سعيد.

الدليل الرابع

وتفركه يابساً فليس فيه دليل على طهارته، والله أعلم. ورد هذا: بأن المني سائل، وليس جامداً كالعذرة اليابسة، فدلك العذرة طهارة للنعل، لأنه لن يترك أثراً من تلك النجاسة، ولكن سلت المني من الثوب، حالة كونه رطباً، أو فركه حالة كونه يابساً لن يطهر الثوب من المني تماماً وهذا شأن الأعيان الطاهرة، وليست النجسة، وقد قدمنا مثل هذا الكلام. ثانياً: قولكم: إن الفرك خاص بمنيه - صلى الله عليه وسلم -، ومنيه طاهر كسائر فضلاته عليه الصلاة والسلام. يقال: لا نسلم أنه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفضلاته - صلى الله عليه وسلم - كسائر المسلمين، ولا يقدح هذا في ذاته الشريفة، فهو بشر كسائر البشر إلا أنه يوحى إليه {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} (¬1)، وكان يستنجي من البول والغائط، فنص على بشريته - صلى الله عليه وسلم -، وأكدها بقوله: " مثلكم " والفرق بينه وبين غيره ما ذكره تعالى بقوله: "يوحى إلي ". وعلى تقدير كونه من الخصائص، فإن منيه كان من جماع، فيخالط مني المرأة، فلو كان نجساً لم يكتف فيه بالفرك (¬2). الدليل الرابع: بأنه ورد أن النبي كان يسلت المني من ثوبه، وهو رطب، من غير غسل، ¬

(¬1) الكهف: 110. (¬2) اختلف الفقهاء في فضلاته - صلى الله عليه وسلم -، فالجمهور، وهو قول للشافعية على أن فضلاته طاهرة. وقيل: فضلاته كفضلات غيره من سائر المسلمين، وهو قول للشافعية، وهو الصواب. انظر حاشية ابن عابدين (1/ 318)، حاشية الدسوقي (1/ 55)، الشرح الصغير (1/ 75)، مغني المحتاج (1/ 78، 79)، مطالب أولي النهى (1/ 71).

الدليل الخامس

وهذا يدل على طهارته؛ لأن سلت الرطب لا يزيل العين بالكلية، بخلاف ما قد يقال في فرك اليابس. (1555 - 83) فقد روى أحمد من طريق عكرمة بن عمار، عن عبد الله ابن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه. [إسناده حسن إن شاء الله] (¬1). الدليل الخامس: ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما صلى، وهو في ثوبه، فتحته عائشة من ثوبه، وهو في الصلاة، وهذا فيه إشارة إلى أن إزالته من باب الاستقذار، لأنه لم يكن يتفقد ثوبه قبل صلاته. (1556 - 84) فقد روى ابن خزيمة، قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا إسحاق، يعني: الأزرق، قال: حدثنا محمد بن قيس، عن محارب بن دثار، عن عائشة، أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي (¬2). [رجاله ثقات]. الدليل السادس: قالوا: كل ما لا يمكن الاحتراز عن ملابسته معفو عنه، ومعلوم أن المني ¬

(¬1) سبق تخريجه انظر رقم (511) من كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء). (¬2) صحيح ابن خزيمة (290)، وانظر إتحاف المهرة (22719).

الدليل السابع

يصيب أبدان الناس وثيابهم وفرشهم بغير اختيارهم أكثر مما يلغ الهر في آنيتهم، فهو طواف الفضلات، بل قد يتمكن الإنسان من الاحتراز من البصاق والمخاط المصيب ثيابه، ولا يقدر على الاحتراز من مني الاحتلام والجماع، وهذه المشقة الظاهرة توجب طهارته لو كان المقتضي للتنجيس قائماً، ألا ترى أن الشارع خفف في النجاسة المعتادة فاجتزأ فيها بالجامد مع أن إيجاب الاستنجاء عند وجود الماء أهون من إيجاب غسل الثياب من المني لا سيما في الشتاء في حق الفقير، ومن ليس له إلا ثوب واحد (¬1). الدليل السابع: (1557 - 85) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار وابن جريج، كلاهما يخبر عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال في المني يصيب الثوب: أمطه عنك. قال أحدهما: بعود أو إذخرة، وإنما هو بمنزلة البصاق أو المخاط (¬2). [إسناده صحيح، وروي مرفوعاً ولم يصح] (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 592). (¬2) الأم (1/ 56). (¬3) وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 159) من طريق عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني عطاء به. وأخرجه الطحاوي (1/ 53) من طريق عبد الرحمن: هو ابن زياد، ثنا شعبة، عن عمرو ان دينار به، موقوفاً. وأخرجه الطبراني في الكبير (11/ 158) رقم 11321، والدارقطني (1/ 124) والبيهقي في السنن (2/ 418) من طريق إسحاق الأزرق، نا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، عن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً. وابن جريج وعمرو بن دينار أثبت من طريق ابن أبي ليلى، فإنه من رواية شريك عن =

الدليل الثامن

الدليل الثامن: قال الشافعي في الأم: بدأ الله جل وعز خلق آدم من ماء وطين، وجعلهما معاً طهارة، وبدأ خلق ولده من ماء دافق، فكان في ابتدائه خلق آدم من الطهارتين اللتين هما الطهارة دلالة أن لا يبدأ خلق غيره إلا من طاهر لا من نجس. وأجيب: بأن قولكم إن المنى مبدأ خلق البشر، فكان طاهراً كالتراب غريب، فالتراب وضع طهوراً ومساعداً للطهور في الولوغ، ويرفع الحدث أو حكمه، فأين ما يتطهر به إلى ما يتطهر منه؟ على أن الاستحالات تعمل عملها، فأين الثواني من المبادىء، وهل الخمر إلا ابنة العنب، والمني إلا المتولد من الأغذية ¬

_ = ابن أبي ليلى، وكلاهما في حفظه شيء. على أن الخطأ قد لا يكون من قبل ابن أبي ليلى، فقد رواه الدارقطني (1/ 125) من طريق وكيع، ثنا ابن أبي ليلى به موقوفاً. قال الدارقطني (1/ 124): " لم يرفعه غير إسحاق الأزرق، عن شريك، عن محمد بن عبد الرحمن: هو ابن أبي ليلى، ثقة في حفظه شيء ". قال البيهقي في السنن (2/ 418): ورواه وكيع، عن ابن أبي ليلى موقوفاً على ابن عباس، وهو الصحيح. وقال أيضاً (2/ 518): هذا صحيح عن ابن عباس من قوله، وقد روي مرفوعاً ولا يصح رفعه. وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 590): وأما رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنكر باطل لا أصل له. وقال أيضاً (21/ 591): أهل نقد الحديث والمعرفة به ليسوا يشكون في أن هذه الرواية وهم. وانظر في مراجعة طرق الحديث: إتحاف المهرة (8068).

الراجح من الخلاف

في المعدة ذات الإحالة لها إلى النجاسة، ثم إلى الدم، ثم إلى المني (¬1). ورد هذا الجواب: أما كون المني يتطهر منه، فقد أجبنا على هذا، وأن هذا لا يقتضي تنجيسه. وأما اعتبار الإحالة، فهذا صحيح، وهو حجة عليكم، فالاستحالة تقلب الطيب إلى خبيث، كالغذاء ينقلب إلى عذرة، وتقلب الخبيث إلى طيب، كاللبن من دم الحيض، فلو اعتبرنا الإحالة لحكمنا بطهارة المني، فإن كان المني قد استحال من الدم، فالدم على الصحيح طاهر، وسوف نذكر الخلاف فيه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وإن كان قد استحال من البول والغائط، فأين الغائط النتن من المني ذو الرائحة الطيبة، فلو أعطينا الاستحالة حكمها لحكمنا بطهارة المني، والله أعلم. الراجح من الخلاف. القول بطهارة المني قول قوي جداً، ويكفي حجة لهذا القول أن الشارع لم يأت منه أمر بغسله، ولو كان نجساً لجاء الأمر بغسله، والتوقي منه كما جاء الأمر بالاستتار من البول، وغسل دم الحيض، وغسل المذي، وغيرها من سائر النجاسات، ولا مع من قال بنجاسته إلا مجرد أن عائشة كانت تغسله من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفركه إذا كان يابساً، ولو كان الفاعل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ذلك حجة على نجاسة المني؛ لأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - المجردة لا تقتضي الوجوب، والله أعلم. ¬

(¬1) بدائع الفوائد (3/ 639).

الفرع الأول في المني الخارج بعد الاستجمار

الفرع الأول في المني الخارج بعد الاستجمار إذا خرج المني، وقد سبقه استجمار، فاختلف العلماء القائلون بطهارة المني هل يبقى المني طاهراً أم يتنجس؛ لاختلاطه بأثر البول المتبقي بعد الاستجمار؟. فقيل: يتنجس، وإليه ذهب الشافعية (¬1). وقيل: لا يؤثر ذلك، ويبقى المني طاهراً، وهو مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال بنجاسته: هذا القول مركب من مقدمة ونتيجة. المقدمة: أن الاستجمار لا يطهر المحل، وإنما يخفف النجاسة، فأثر النجاسة الباقية على المحل معفو عنها. النتيجة: إذا اختلط أثر البول بالمني الخارج تنجس المني، ولو كان الالتقاء في الباطن لم يضر، أما في الخارج فإنه يُنَجِس المني. وحتى القائلون بنجاسة المني كالحنفية يرون أن طهارته بالفرك إذا كان يابساً، فإذا سبقه استجمار تعين الماء في تطهيره، ولا يجزئ الفرك، ولو كان يابساً للعلة نفسها. وقال في الدر المختار: ويطهر مني يابس بفرك إن طهر رأس حشفة كأن كان مستنجياً بماء (¬3). اهـ ¬

(¬1) مغني المحتاج (1/ 80). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 606)، مطالب أولى النهى (1/ 235). (¬3) الدر المختار (1/ 312).

دليل الحنابلة

قال ابن عابدين في حاشيته شرحاً لهذا النص: " قوله: إن طهر رأس حشفة. قيل: هو مقيد أيضاً بما إذا لم يسبقه مذي، فإن سبقه فلا يطهر إلا بالغسل. وعن هذا قال شمس الأئمة الحلواني: مسألة المني مشكلة؛ لأن كل فحل يمذي ثم يمني إلا أن يقال: إنه مغلوب بالمني، مستهلك فيه، فيجعل تبعاً. وهذا ظاهر، فإنه إذا كان كل فحل كذلك، وقد طهره الشرع بالفرك يابساً يلزم أنه اعتبر مستهلكاً للضرورة، بخلاف ما إذا بال فلم يستنج حتى أمنى لعدم الملجئ. ثم قال: وقوله: كأن كان مستنجياً بماء: أي بعد البول، واحترز عن الاستنجاء بالحجر؛ لأنه مقلل للنجاسة لا قالع لها. (¬1) اهـ وعليه فمذهب الحنفية يكفي فرك المني من رأس الحشفة بشرط أن يكون قد استنجى بماء، فإن كان استنجاؤه بحجر، فيجب غسل المني. والله أعلم. والعجيب: أن الحنفية لا يرون الاستنجاء واجباً إذا لم يتجاوز الخارج موضعه المعتاد، فكيف أوجبوا غسل المني من رأس الحشفة إذا كان قد استجمر!! دليل الحنابلة: أن غالب الصحابة كانوا يستجمرون بالحجارة، حتى إن بعضهم أنكر استعمال الماء في إزالة النجاسة، وقد قدمنا ذلك في كتاب الاستنجاء، ومع ذلك لم يأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسل المني، ولو كان غسله واجباً لبينه - صلى الله عليه وسلم - لأمته. كما أن الصحيح أن الاستجمار مطهر، وأما أثر الاستنجاء، ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 312).

الراجح من الخلاف

فقيل: نجس، معفو عن يسيره. وقيل: طاهر (¬1). وحكي الإجماع على أنه معفو عنه. قال ابن قدامة: وقد عفي عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع: أحدها: محل الاستنجاء، فعفي فيه عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه. واختلف أصحابنا في طهارته، فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، ولو كان نجساً لنجسه. ثم قال: وقال أصحابنا المتأخرون: لا يطهر المحل، بل هو نجس. اهـ أي نجس معفو عنه (¬2). وقال البهوتي: وأثر الاستجمار نجس؛ لأنه بقية الخارج من السبيل، يعفى عن يسيره بعد الإنقاء واستيفاء العدد، بغير خلاف نعلمه (¬3). وقد ذكرنا الأدلة على أن الاستجمار مطهر على الصحيح في كتاب الاستنجاء. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين نرى أن ما ذهب إليه الحنابلة من أن المني طاهر، ولو اختلط في أثر الاستجمار أقوى حجة، والله أعلم. ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 109)، المغني (1/ 511). (¬2) المغني (1/ 511). (¬3) كشاف القناع (1/ 192).

الفرع الثاني في طهارة ماء المرأة

الفرع الثاني في طهارة ماء المرأة اختلف العلماء القائلون بطهارة مني الرجل، اختلفوا في حكم مني المرأة. فقيل: إن ماءها طاهر كالرجل، وهو الراجح في مذهب الشافعية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). والأدلة على طهارته هي الأدلة على طهارة مني الرجل وقد سبق ذكرها في المسألة السابقة. وقيل: إن ماءها نجس، وهو قول في مذهب الشافعية والحنابلة (¬3)؛ لأن رطوبة فرجها نجسة. والصواب الأول، وسوف يأتي الكلام على رطوبة فرج المرأة، ولو قدر أن رطوبة فرج المرأة نجسة فإن اختلاط الماء في الباطن لا يضر. ¬

(¬1) المجموع (2/ 572). (¬2) المغني (1/ 517). (¬3) المجموع (2/ 572)، الإنصاف (1/ 351)، المغني (1/ 517) ولم نتعرض لمذهب الحنفية والمالكية؛ لأنهم يرون نجاسة المني مطلقاً من الرجل والمرأة، وقد ذكرنا الإحالة على مذهبهم في المسألة التي قبل هذه، والله أعلم.

المبحث الثاني في مني الحيوان

المبحث الثاني في مني الحيوان اختلف العلماء في مني الحيوان فقيل: نجس مطلقاً من غير فرق بين مأكوله وغير مأكوله، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والقول المعتمد في مذهب المالكية (¬2)، وقول للشافعية (¬3). وقيل: بنجاسة مني الكلب والخنزير أو فرع أحدهما، وطهارته من سائر الحيوانات مطلقاً، وهو الأصح عند الشافعية (¬4). وقيل: إن كان المني من مأكول اللحم فهو طاهر، وإن كان من محرم الأكل فهو نجس. وهذا قول في مذهب المالكية (¬5)، وقول في مذهب الشافعية (¬6)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬7). ¬

(¬1) البناية على الهداية (1/ 720)، حاشية ابن عابدين (1/ 315)، بدائع الصنائع (1/ 60 - 61). (¬2) المدونة (1/ 23)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 55، 55)، منح الجليل (1/ 53)، حاشية الدسوقي (1/ 56)، الخرشي (1/ 92). (¬3) روضة الطالبين (1/ 17). (¬4) مغني المحتاج (1/ 79، 80)، نهاية المحتاج (1/ 225)، روضة الطالبين (1/ 17). (¬5) الخرشي (1/ 92)، وعلل الطهارة بطهارة بول ما يؤكل لحمه، فإذا كان بوله طاهراً كان منيه كذلك. (¬6) روضة الطالبين (1/ 17). (¬7) بلغة الساغب (ص: 37)، الإنصاف (1/ 339)، المستوعب (1/ 315)، المبدع (1/ 338)، الفروع (1/ 257) الإقناع (1/ 63).

دليل من قال بنجاسة مني الحيوان مطلقا

دليل من قال بنجاسة مني الحيوان مطلقاً. الدليل الأول: كل دليل استدلوا به على نجاسة مني الآدمي استدلوا به على نجاسة مني الحيوان، وقد سبقت أدلة الحنفية والمالكية على نجاسة مني الآدمي في مسألة مستقلة. الدليل الثاني: أن هذا المني نجس لأنه يجري مجرى البول. وقد أجبنا على هذا الدليل في مسألة مني الآدمي. الدليل الثالث: أن أصله من الدم، والدم نجس، فيكون نجساً تبعاً لأصله. وقد أجيب عن هذا في الأدلة السابقة. دليل من قال بطهارة مني كل حيوان عدا الكلب والخنزير: لما كان مذهب الشافعية طهارة كل حيوان عدا الكلب والخنزير جعلوا منيه تبعاً لبدنه، فما كان من حيوان طاهر عندهم كان منيه كذلك، وما كان من حيوان نجس عندهم كان منيه نجساً. والشافعية لم يجعلوا حكم المني حكم البول؛ لأنهم يقولون بنجاسة البول مطلقاً من كل حيوان وطير، وإنما جعلوا العبرة لبدن الحيوان. دليل من فرق بين مني الحيوان المأكول وغير المأكول. الدليل الأول: قالوا: إن الحيوان المأكول بوله طاهر فكذلك منيه.

الدليل الثاني

لكن يشكل على هذا أنهم حكموا على بول الآدمي بالنجاسة، وحكموا على منيه بأنه طاهر، فإن كان المني تبعاً للبول فلماذا قالوا بطهارة مني الآدمي. الدليل الثاني: القياس على لبن الحيوان، فمادام أن لبن الحيوان المأكول طاهر، فكذلك منيه. الذي يظهر لي أن المني تبعاً لحكم الحيوان، فإذا كان الحيوان طاهراً في الحياة فإن منيه طاهر، لأن المني فضلة كسائر فضلاته، فإذا حكمنا بالطهارة لعرق الحيوان وريقه فكذلك منيه لا يخرج عن سائر فضلاته. وإن حكمنا لعرقه وريقه بالنجاسة كان منيه أولى بهذا الحكم. ولأن كل حيوان منيه أصل له، فإذا كان طاهراً حال حياته، فيلزم أن يكون منيه كذلك، والله أعلم. وقد حكمنا بالطهارة لكل حيوان حلال الأكل. كما حكمنا بالطهارة لكل حيوان يشق التحرز منه كالبغل والحمار والهر ونحوها. وقد حكمنا بالنجاسة لكل حيوان محرم الأكل كالكلب والخنزير وسباع البهائم والطير، والله أعلم.

المبحث الثالث في المذي

المبحث الثالث في المذي اختلف أهل العلم في نجاسة المذي، فقيل: نجس، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة. وقيل: المذي طاهر، وهو رواية عن أحمد (¬4). دليل من قال: إن المذي نجس. الدليل الأول: (1558 - 86) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى -ويكنى أبا يعلى- عن ابن الحنفية، عن علي قال كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال يغسل ذكره ويتوضأ، ورواه البخاري بنحوه (¬5). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 58)، شرح فتح القدير (1/ 72)، المبسوط (1/ 67). (¬2) مواهب الجليل (1/ 285)، الخرشي (1/ 159)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323). (¬3) المجموع (2/ 165)، روضة الطالبين (1/ 67)، مغني المحتاج (1/ 79). (¬4) في المبدع شرح المقنع (1/ 159): وعن أحمد أن المذي طاهر كالمني، اختاره أبو الخطاب في خلافه؛ لأنه خارج بسبب الشهوة. اهـ وانظر المغني (1/ 513)، والإنصاف (1/ 351). (¬5) صحيح مسلم (303)، وصحيح البخاري (269).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1559 - 87) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبيه، عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة، فكنت أكثر الاغتسال منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: إنما يجزئك منه الوضوء. فقلت: كيف بما يصيب ثوبي؟ فقال يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتمسح بها من ثوبك حيث ترى أنه أصاب (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬

(¬1) المسند (3/ 585). (¬2) رجاله ثقات غير محمد بن إسحاق، فإنه صدوق، فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى. الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 88) 972، وأبو داود (210)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1913)، والطبراني في الكبير (5595)، وابن خزيمة (291)، وابن حبان كما في الموارد (250) عن إسماعيل بن علية به. وأخرجه ابن أبي شيبة (7/ 320)، والدارمي (1/ 185) والطبراني (5595) من طريق يزيد بن هارون. وأخرجه الترمذي (115)، وابن ماجه (506) من طريق عبدة بن سليمان. وأخرجه ابن ماجه (506) والطبراني في الكبير (5595) من طريق عبد الله بن المبارك. وأخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب (568) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 57) والطبراني في الكبير (5593) من طريق حماد بن زيد. وأخرجه ابن خزيمة (291) من طريق محمد بن أبي عدي. وأخرجه الطبراني في الأوسط (5196) من طريق العلاء بن هارون، كلهم عن محمد ابن إسحاق به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ولا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1560 - 88) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حزام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: ذلك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وإنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= في المذي مثل هذا، وقد اختلف اهل العلم في المذي يصيب الثوب، فقال بعضهم: لا يجزئ إلا الغسل، وهو قول الشافعي وإسحاق. وقال إسحاق: يجزئه النضح، وقال أحمد: أرجو أن يجزئه النضح بالماء. انظر لمراجعة طرق الحديث: أطراف المسند (2/ 543)، تحفة الأشراف (4664)، إتحاف المهرة (6163). (¬1) سنن أبي داود (211). (¬2) في إسناده العلاء بن الحارث، قد اختلط، ولم يتميز لي ما سمع منه قبل الاختلاط ممن سمع منه بعد، كما أن معاوية بن صالح صدوق له أوهام، وقد تفرد به عن العلاء، وقد ضعفه الحافظ في التلخيص (1/ 117). والحديث أخرجه ابن الجارود (7)، والخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/ 111)، والطبراني في الكبير (3/ 158) رقم: 1989، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 511)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (9/ 512) وابن عساكر في تاريخ دمشق (29/ 50) من طريق معاوية بن صالح به. وأخرجه أحمد (4/ 342)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (865)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (29/ 49) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح به. بطوله وذلك بذكر السؤال عما يوجب الغسل، وعن الصلاة في المسجد، وعن مؤاكلة الحائض. =

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1561 - 89) ما رواه ابن ماجه، من طريق مصعب بن شيبة، عن أبي حبيب بن يعلى ابن منية، عن ابن عباس أنه أتى أبي بن كعب ومعه عمر، فخرج عليهما، فقال: إني وجدت مذياً، فغسلت ذكري، وتوضأت، فقال عمر: أو يجزئ ذلك؟ قال: نعم قال: أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= وأخرجه ابن ماجه (651) من طريق عبد الرحمن بن مهدي به، مقتصراً على مؤاكلة الحائض. وأخرجه ابن ماجه أيضاً (1378) وابن خزيمة (1202) من طريق ابن مهدي به، بالاقتصار على الصلاة في المسجد. وأخرجه أبو داود (212)، والدارمي (1075) من طريق الهيثم بن حميد، حدثنا العلاء ابن الحارث به، بالسؤال عن مباشرة الحائض ومؤاكلتها فقط، واقتصر الدارمي على مؤاكلة الحائض. وانظر مراجعة بعض طرق الحديث في إتحاف المهرة (7175، 7176)، أطراف المسند (3/ 27)، تحفة الأشراف (5328، 5326). (¬1) سنن ابن ماجه (507). (¬2) أبو حبيب بن يعلى، ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/ 359). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 575). وقال الذهبي في الميزان: تفرد عنه مصعب بن شيبة. وقال الحافظ في التقريب، وفي اللسان (7/ 558): مجهول. ومصعب بن شيبة، فيه كلام، فقد جاء في ترجمته: =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1562 - 90) روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال في المذي والودي والمني: من المني الغسل، ومن المذي والودي الوضوء، يغسل حشفته ويتوضأ (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل السادس: حكى الإجماع على نجاسته، وعلى وجوب الوضوء. قال ابن عبد البر: وأما المذي المعهود المتعارف عليه، وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما يجده من اللذة، أو لطول عزبة، فعلى هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي هذا، وعليه وقع الجواب، وهو موضع إجماع لا ¬

= قال أبو حاتم الرازي: لا يحمدونه، وليس بالقوي. الجرح والتعديل (8/ 305). وقال أحمد: روى أحاديث مناكير. المرجع السابق. وقال يحيى بن معين: ثقة. المرجع السابق. وقال النسائي: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (10/ 157). وقال في موضع آخر: في حديثه شيء. المرجع السابق. وقال الدارقطني: ليس بالقوي ولا بالحافظ. المرجع السابق. والحديث في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 87) رقم 969. (¬1) المصنف (608). (¬2) ورواه ابن أبي شيبة (1/ 89) رقم 985، حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان به. وانظر زيادة تخريج لهذا الأثر في رقم (392) من كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء).

دليل من قال بطهارته

خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه، وإيجاب غسله لنجاسته (¬1). وقال النووي: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي (¬2). وسبق لنا أن الإمام أحمد في رواية عنه يرى أن المذي طاهر، فالخلاف محفوظ. دليل من قال بطهارته: الدليل الأول: قالوا: إن المذي خارج بسبب الشهوة، فيكون طاهراً (¬3). وكأن هذا القول قاسه على المني، ولو صح القياس لوجب فيه الغسل، فلما لم يجب فيه الغسل علم أن قياسه على المني لا وجه له. الدليل الثاني: (1563 - 91) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، عن عمر، قال: إني لأجد المذي على فخذي ينحدر وأنا على المنبر ما أبالي بذلك (¬4). [إسناده منقطع] (¬5) ¬

(¬1) الاستذكار (1/ 199). (¬2) المجموع (2/ 571). (¬3) المبدع (1/ 159). (¬4) المصنف (613). (¬5) في سماع ابن المسيب من عمر خلاف بين أهل العلم. وقد روى مالك في الموطأ (1/ 51) عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: ربما يؤخذ من كونه ورد في بعض الأحاديث النضح في طهارته ربما يفهم بعضهم منه أن ذلك دليل على طهارته، كما قالوه في بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، وليس في ذلك ما يدل على طهارته؛ لأنه لو كان طاهراً لما وجب في حقه النضح، مع أن النضح مختلف فيه، هل المقصود به الغسل، أو مجرد الرش، وهل ذلك على البدن أم في الثياب خاصة، وسوف يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في كيفية تطهير النجاسات في باب مستقل بلغنا الله إياه بمنه وكرمه ورحمته. ¬

_ = قال: إني لأجد ينحدر مني مثل الخزيزة، فإذا وجد أحدكم، فليغسل ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة، يعني: المذي. وهذا إسناد صحيح، وهو أصح من الإسناد السابق.

المبحث الرابع في نجاسة الودي

المبحث الرابع في نجاسة الودي اختلف العلماء في حكم الودي، فقيل: الودي نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: طاهر، وهي رواية عن أحمد (¬2). الدليل على نجاسة الودي: الدليل الأول: (1564 - 92) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركين، عن حصين بن قبيصة الفزاري، ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 60)، في مذهب المالكية: جاء في المدونة (1/ 121): قال مالك: المذي عندنا أشد من الودي؛ لأن الفرج يغسل عندنا من المذي، والودي عندنا بمنزلة البول. اهـ واختلف أصحاب مالك في فهم عبارة إمامهم: فقيل: يحتمل قول مالك المذي أشد من الودي، أنه يجب غسل الذكر كله، بخلاف الودي، فيغسل رأس الحشفة منه. وقال بعضهم: معنى المذي أشد من الودي؛ لأن الودي يستنجى منه بالأحجار، والمذي لا بد من غسله. انظر التمهيد لابن عبد البر (21/ 205)، الخرشي (1/ 159)، الفواكه الدواني، حاشية العدوي (1/ 133)، وفي مواهب الجليل (1/ 105) أن شاس نقل الإجماع على نجاسة الودي. اهـ وحاشية الدسوقي (1/ 56). وقال الشافعي في الأم (1/ 72): كل ما خرج من ذكر من رطوبة بول، أو مذي، أو ودي، أو ما لا يعرف، أو يعرف، فهو نجس كله ما خلا المني. اهـ بل قال النووي في المجموع (2/ 571): أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي. اهـ وانظر الفروع (1/ 258)، الإنصاف (1/ 351)، كشاف القناع (1/ 193). (¬2) المبدع (1/ 259)، الإنصاف (1/ 351).

الدليل الثاني

عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكانت تحتي بنت رسول الله صلىالله عليه وسلم، فكنت أستحي أن أسأله، فأمرت رجلاً فسأله فقال: إذا رأيت المذي فتوضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت الودي فضخ الماء فاغتسل (¬1). [رجاله ثقات إلا أن ذكر الودي فيه غير محفوظ] (¬2). الدليل الثاني: (1565 - 93) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: المني والودي والمذي، فأما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما الوضوء، ويغسل ذكره (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). دليل من قال: إن الودي طاهر. قالوا: لا نعلم في الكتاب، ولا في السنة المرفوعة نصاً بأن الودي نجس، وإذا كان كذلك فالأصل طهارته، ولا يكفي في كونه يخرج من مخرج البول ¬

(¬1) المصنف (1/ 89). (¬2) وأخشى أن تكون لفظة الودي تحرفت عن المني، فتكون العبارة وإذا رأيت المني فضخ الماء فاغتسل، خاصة أن الودي مجمع على أنه لا يوجب الغسل، ولا يوجب الغسل شيء سوى المني، وقد وقفت على رواية أبي بكر بن أبي شيبة من رواية ابن بشكوال في غوامض الأسماء المبهمة (2/ 513) فقد روى الحديث من طريق ابن أبي شيبة، وقال: وإذا رأيت نضح الماء فاغتسل. وهذا أرجح. وانظر تخريج الحديث برقم (399) من كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 89) رقم 985. (¬4) وسبق تخريجه، انظر كتابي آداب الخلاء، رقم (392).

حتى يعطى حكمه، فهذا المني يخرج من نفس المخرج، ومع ذلك فهو طاهر، وإذا كان يخرج عقب البول، كان الاستنجاء منه بسبب البول، لا بسببه. قلت: لا شك أن أكثر الأقوال على أن الودي يخرج عقب البول، لكن قال بعض الفقهاء: إن خروج الودي بعد البول غالب لا دائم، فقد يخرج بعد حمل شيء ثقيل، وقد يخرج وحده بلا سبب (¬1). ¬

(¬1) قال في حاشية ابن عابدين (1/ 165): الودي ماء ثخين أبيض كدر، يخرج عقب البول. وقال في الفتاوى الهندية (1/ 10): الودي بول غليظ. وقيل: ماء يخرج بعد الاغتسال من الجماع وبعد البول. كذا في التبيين. اهـ وقال في شرح خليل (1/ 152): واعلم أن ودي المرأة يخرج أيضا بأثر البول إلا أنه حينئذ لا حكم له، نعم يكون ناقضاً فيما إذا خرج بأثر سلس بول، أو خرج عند حمل شيء ثقيل. اهـ

فرع مذي الحيوان غير الآدمي

فرع مذي الحيوان غير الآدمي المذي تبع للبول، فماكان بوله نجساً كان مذيه نجساً، وما كان بوله طاهراً فإن مذيه لن يكون أخبث من بوله، فحكمهما واحد. فالإنسان حين كان بوله نجساً بالإجماع كان مذيه نجساً، وكذلك الودي منه. وينبغي أن يكون حكم المذي من الحيوان حكم البول، وقد فصلنا مسألة بول الحيوان في مسألة مستقلة.

الفصل الثالث في حكم الدم

الفصل الثالث في حكم الدم المبحث الأول في نجاسة دم الحيض نقل الإجماع على نجاسة دم الحيض بعض الفقهاء، وإليك النقول عن بعضهم. قال النووي بعد أن ساق حديث أسماء في الأمر بغسل دم الحيض، قال: " والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، لكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم ... الخ كلامه رحمه الله (¬1). قال الشوكاني: "واعلم أن دم الحيض نجس بإجماع المسلمين كما قال النووي" (¬2). مستند الإجماع على نجاسة دم الحيض. مستند الإجماع أدلة كثيرة، نسوق منها ما يلي: الدليل الأول: (1566 - 94) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت ¬

(¬1) المجموع (2/ 576). (¬2) نيل الأوطار (1/ 58).

امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬1). قال الحافظ رحمه الله: (تحته): أي تحكه. كذا رواه ابن خزيمة، والمراد بذلك إزالة عينه. (ثم تقرصه): أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها، ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه. (وتنضحه) قال الخطابي: أي تغسله. وقال القرطبي: المراد به الرش؛ لأن غسل الدم استفيد من قوله: " تقرصه بالماء ". وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب. قال الحافظ: فعلى هذا فالضمير في قوله: تنضحه يعود على الثوب، بخلاف تحته. فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل. ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئاً؛ لأنه إن كان طاهراً فلا حاجة إليه، وإن كان متنجساً لم يطهر بذلك. فالأحسن ما قاله الخطابي (¬2). قلت: النضح يأتي في اللغة بمعنى الغسل، كما يأتي بمعنى الرش. قال ابن الأثير: قد يرد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (¬3). (1567 - 95) قلت: الحديث قد رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع ومحمد بن بشر، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ¬

(¬1) البخاري (227)، ومسلم (291). (¬2) الفتح بتصرف يسير (1/ 539). (¬3) النهاية في غريب الحديث (5/ 70).

الدليل الثاني

كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، فهو ينضح الدم عن جبينه (¬1). قال السيوطي في شرحه للحديث ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (¬2). وقال الطحاوي: فقد يجوز أن يكون أراد بالنضح الغسل؛ لأن النضح قد يسمى غسلاً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف مدينة ينضح البحر بجانبها يعني يضرب البحر بجانبها. (¬3) اهـ. الدليل الثاني: (1568 - 96) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬4). وجه الاستدلال من الحديث: قوله: " فاغسلي عنك الدم " أمر، والأصل فيه الوجوب إلا لقرينة صارفة، ولا قرينة هنا. ¬

(¬1) رواه مسلم (1972)، وهو في الصحيحين إلا أنه بلفظ: " وهو يمسح الدم عن وجه ". (¬2) الديباج (5/ 502). (¬3) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 53)، وقد سبق تخريجه، وإسناده ضعيف. (¬4) رواه البخاري (228)، ورواه مسلم (333) دون قوله وقال أبي ... الخ

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1569 - 97) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، حدثه عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا تحيض، ثم تقترص الدم من ثوبها عند طهرها فتغسله، وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه (¬1). الدليل الرابع: (1570 - 98) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدي بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع (¬2) واغسليه بالماء والند وسدر. ¬

(¬1) البخاري (308). (¬2) قال ابن حجر في التلخيص (1/ 56): " قوله بصلع ضبطه ابن دقيق العيد بفتح الصاد المهملة وإسكان اللام ثم عين مهملة، وهو: الحجر، ووقع في بعض المواضع بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام، ولعله تصحيف؛ لأنه لا معنى يقضي تخصيص الضلع بذلك، كذا قال، لكن قال الصاغاني في العباب في مادة ضلع بالمعجمة: وفي الحديث حتيه بضلع، قال ابن الأعرابي: الضلع ههنا العود الذي فيه اعوجاج، وكذا ذكره الأزهري في المادة المذكورة وزاد عن الليث، قال: الأصل فيه ضلع الحيوان، فسمي به العود الذي يشبهه. قوله ثم اقرصيه وقع في حديث عائشة في الصحيحين فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء وقوله فلتقرصه بفتح التاء وضم الراء ويجوز كسرها وروي بفتح القاف وتشديد الراء أي فلتقطعه بالماء ومنه تقريص العجين، قاله أبو عبيد، وسئل الأخفش عنه فضم بإصبعيه الإبهام والسبابة وأخذ شيئا من ثوبه بهما وقال هكذا يفعل بالماء في موضع الدم ".

الدليل الخامس

[إسناده صحيح] (¬1). قال السندي: حكيه بضلع بكسر معجمة وفتح لام: أي بعود وفي الأصل واحد أضلاع الحيوان أريد به العود لشبهه به، وقد تسكن اللام تخفيفا. قال الخطابي: وإنما أمر بحكه لينقلع المتجسد منه، اللاصق بالثوب، ثم يتبعه الماء ليزيل الأثر، وزيادة السدر للمبالغة، وإلا فالماء يكفي، وذكر الماء لأنه المعتاد ولا يلزم منه أن غيره من المائعات لا تجزى كيف ولو كان لبيان اللازم لوجب السدر أيضاً، ولا قائل به (¬2). الدليل الخامس: (1571 - 99) ما رواه أحمد، قال: ثنا حسن، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمن الحبلي حدثه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها طرقتها الحيضة من الليل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فأشارت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب، وفيه دم فأشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة اغسليه، فغسلت موضع الدم ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الثوب فصلى فيه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) المسند (6/ 355)، وقد سبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم: 205. (¬2) حاشية السندي على النسائي (1/ 155). (¬3) المسند (6/ 66). (¬4) الإسناد فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، إلا أنه صالح في الشواهد. وفيه حيي بن عبد الله، مختلف فيه. فقال أحمد: حيي أحاديثه مناكير. تهذيب الكمال (6/ 588). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال البخاري: فيه نظر انظر التاريخ الكبير (3/ 76). وقال النسائي: ليس بالقوي. انظر الضعفاء والمتروكين له (162). وقال أبو أحمد ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة. انظر الكامل في الضعفاء (2/ 559) وتهذيب الكمال (6/ 588). وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 235). وفي التقريب: صدوق يهم. وشيخ أحمد هو الحسن بن موسى الأشيب، ثقة. انظر ترجمته في الجرح والتعديل (3/ 37)، والثقات (8/ 170)، والتهذيب (2/ 323). وانظر موضع الحديث من إتحاف المهرة (22981)، أطراف المسند (9/ 286).

المبحث الثاني في نجاسة دم الإنسان من عرق ونحوه

المبحث الثاني في نجاسة دم الإنسان من عرق ونحوه اختلف العلماء في نجاسة الدم، فقيل: إنه نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، إلا أنهم يرون العفو عن يسيره، على خلاف بينهم في مقدار اليسير: فقيل: المرجع في تقدير القليل والكثير إلى العرف، فما اعتبره الناس كثيراً فهو كثير، وما عده الناس قليلاً فهو قليل، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). ¬

(¬1) قال مالك في المدونة (1/ 20): " في الرجل يصلي وفي ثوبه دم يسير من دم حيضة أو غيره، فيراه وهو في الصلاة، قال: يمضي على صلاته ولا يبالي ألا ينزعه، ولو نزعه لم أر به بأساً، وإن كان دماً كثيراً كان دم حيضة أو غيره نزعه، واستأنف الصلاة من أولها بإقامة، ولا يبني على شيء مما صلى .... الخ آخر كلامه رحمه الله. وقال الشافعي في الأم (1/ 67): وفي هذا دليل على أن دم الحيض نجس، وكذا كل دم غيره". وقال ابن تيمية: لما سئل أحمد الدم والقيح عندك سواء، قال: الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه". اهـ أنظر شرح العمدة (1/ 105)، إغاثة اللهفان (1/ 151). وانظر الأوسط لابن المنذر (2/ 153)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 51)، الاجماع لابن حزم، والمحلى (7/ 389). (¬2) جاء في بدائع الصنائع (1/ 80): " روي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أبا حنيفة عن الكثير الفاحش، فكره أن يحد له حداً، وقال: الكثير الفاحش ما يستفحشه الناس، ويستكثرونه ". (¬3) الإنصاف (1/ 336).

وقيل: القليل: ما دون الدرهم، والكثير ما زاد عنه، وحقيقة الدرهم عند الحنفية هو الدرهم المالي (¬1)، وعند المالكية الدرهم البغلي (¬2). وقيل: كل شخص بحسبه، فما فحش بنفسه فهو كثير، والقليل: ما لم يفحش، فيكون التقدير راجعاً إلى الشخص نفسه، وهذا هو الأصل المروي عن أبي حنيفة (¬3)، ونص عليه الإمام أحمد (¬4). وفيه أقوال أخرى في تقدير القليل والكثير لا دليل عليها، سنتعرض لها إن شاء الله تعالى في باب العفو عن النجاسات. وقيل: دم العرق من الإنسان طاهر، اختاره بعض المتكلمين (¬5)، ورحجه الشوكاني (¬6). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 80)، البناية على الهداية (1/ 733)، وقد قدروا الدرهم بمقدار عرض الكف، وقيل الدرهم مقداره مثقال، ومنهم من جمع بين القولين، فقال: إن التقدير بالوزن بالنسبة للنجاسة الجامدة، وبالعرض والمساحة بالنسبة للنجاسة المائعة. (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 72)، المنتقى للباجي (1/ 55)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 76). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 221) (¬4) جاء في مسائل أحمد رواية عبد الله (1/ 75): قرأت على أبي: كل ما خرج من السبيلين ففي قليله وكثيره الوضوء، وإذا كان من الجسد، فإذا كان فاحشاً أعاد، وإن لم يكن فاحشاً لم يعد. قلت: ما الفاحش عندك؟ قال: ما يفحش عند الرجل، ما أحده بأكثر من هذا. اهـ وقال ابن عبد البر في التمهيد (22/ 230): وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس، إلا أن المسفوح وإن كان أصله الجاري في اللغة، فإن المعنى فيه في الشريعة الكثير، إذ القليل لا يكون مسفوحاً، فإذا سقطت من الدم الجاري نقطة في ثوب أو بدن لم يكن حكمها حكم المسفوح الكثير، وكان حكمها حكم القليل، ولم يلتفت إلى أصلها في اللغة" أهـ (¬5) المجموع (2/ 576). (¬6) الدراري المضية (1/ 26)، وتبعه صديق خان في الروضة الندية (1/ 81).

دليل من قال بنجاسة الدم المسفوح

دليل من قال بنجاسة الدم المسفوح. الدليل الأول: الإجماع على نجاسة دم الآدمي حكاه جماعة منهم الإمام أحمد وابن عبد البر كما في التمهيد، والنووي في المجموع وغيرهم. قال أحمد لما سئل عن الدم: الدم والقيح عندك سواء؟ قال: الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه" (¬1). وقال ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع: واتفقوا على أن الكثير من أي دم كان حاشا دم السمك، وما لا يسيل دمه نجس" (¬2). قال النووي: والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين، إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين، أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع. الخ كلامه رحمه الله (¬3). وقال القرطبي: اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس (¬4). اهـ وقال ابن حجر: والدم نجس اتفاقاً (¬5). اهـ الدليل الثاني: قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا ¬

(¬1) شرح العمدة لابن تيمية (1/ 105). (¬2) مراتب الإجماع (ص: 19). (¬3) المجموع (2/ 511). (¬4) تفسير القرطبي (2/ 222). (¬5) فتح الباري (1/ 352).

الدليل الثالث

أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به} (¬1). وأجيب: أولاً: تحريم الأكل لا يستلزم النجاسة، لأن الآية نصت على تحريم الأكل بقوله: على طاعم يطعمه. ثانياً: الرجس، قد يراد به النجاسة المعنوية، قال تعالى: {إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت} (¬2). وقال تعالى عن المنافقين {فأعرضوا عنهم إنهم رجس} (¬3). الدليل الثالث: (1572 - 100) ما رواه البخاري في صحيحه، من طريق هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه وتصلي فيه، ورواه مسلم (¬4). فهذا صريح في نجاسة دم الحيض، وتدخل سائر الدماء قياساً عليه. ¬

(¬1) الأنعام: 155. (¬2) الأحزاب: 33. (¬3) التوبة: 95. (¬4) البخاري (227)، ومسلم (291).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1573 - 101) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي، ورواه مسلم (¬1). فقوله: (فاغسلي عنك الدم) فيه الأمر بغسله، ولو لم يكن نجساً لم يجب غسله. وأجيب: بأن الغسل بمثابة الاستنجاء من الدم الذي حكم له بأنه حيض حال إقباله وإدباره، فلم يتوجه الأمر بغسل دم الاستحاضة، والله أعلم. أدلة من قال: إن الدم طاهر. استدلوا بأدلة كثيرة، منها: الدليل الأول: أن الصحابة أهل جهاد، والمجاهدون تكثر فيهم الجراح، فلم يوجد أمر من الشارع لهم بغسله، ولو كان نجساً لجاء الدليل الصريح على وجوب غسله، فلما لم يأت دليل صحيح صريح على وجوب غسله علم من ذلك طهارته. ¬

(¬1) البخاري (228)، ومسلم (333).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: أن الشهيد يدفن بدمه، ولا يغسل، ولو كان نجساً لوجب غسله، وقولهم: إن العلة أنه يبعث يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك، أو قولهم: إنه أثر عبادة كل ذلك ليس كافياً في ترك النجاسة على بدن المسلم، فالدم يوم القيامة ليس هو الدم الذي يدفن على ثيابه، لأن الله ينشئه نشأة أخرى، وأثر العبادة لا يجعلنا نترك الميت متضمخاً بالنجاسة، وإذا ثبتت طهارة دم الشهيد فغيره من الدماء طاهر قياس عليه. الدليل الثالث: أن الرسول لم ينزه المسجد من أن يجلس فيه الجريح والمستحاضة، وهما أصحاب جرح ينزف، وهذا مظنة تلويث المسجد بالدم، فلو كان نجساً لجاء الأمر بالنهي عن دخول المسجد، كما منعت الحائض، بل منع من هو أقل من هذا مما يؤذي، كما منع من دخول المسجد من أكل كراثاً أو بصلاً، مع الإجماع على طهارتهما. (1574 - 102) فقد روى البخاري في صحيحه، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دماً فمات فيها، ورواه مسلم بنحوه (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (563)، ومسلم (1769).

الدليل الرابع

(1575 - 103) وروى البخاري من طريق خالد، عن عكرمة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف معه بعض نسائه، وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم، وزعم أن عائشة رأت ماء العصفر فقالت: كأن هذا شيء كانت فلانة تجده (¬1). وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فإذا كان القذر لا يصلح للمسجد، وأقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المكلوم والمستحاضة في دخول المسجد مع أن الدم منهما قد ينزف، لم يكن هذا من المستخبث شرعاً. الدليل الرابع: جواز وطء المستحاضة ودمها ينزل، فلو كان الدم نجساً لحرم الجماع كما حرم حال الحيض في قوله تعالى: {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} فدم الاستحاضة ليس أذى، فلا يمنع من الجماع، ولا من التلطخ به. الدليل الخامس: أن الآدمي ميتته طاهرة، فيكون دمه طاهراً كالسمك. قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: إن المؤمن لا ينجس. ¬

(¬1) صحيح البخاري (309). (¬2) صحيح مسلم (285).

الدليل السادس

الدليل السادس: (1576 - 104) ما رواه أحمد، من طريق محمد بن إسحاق، حدثني صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع، فأصيبت امرأة من المشركين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً، وجاء زوجها وكان غائبا، فحلف أن لا ينتهي حتى يهريق دماً في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلاً، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله. قال: فكونوا بفم الشعب، قال: وكانوا نزلوا إلى شعب من الوادي، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل أحب إليك أن أكفيكه أوله أو آخره؟ قال: اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم، فوضعه فيه فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم رماه بسهم آخر، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم عاد له بثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس فقد أوتيت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذروا به، فهرب فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله ألا أهببتني؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع الرمي ركعت، فأريتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغراً

الدليل السابع

أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها (¬1). [الحديث ضعيف الإسناد منكر المتن] (¬2). الدليل السابع: من الآثار (1577 - 105) ما رواه ابن أبي شيبة، ومن طريقه أخرجه البيهقي، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن التيمي، ¬

(¬1) المسند (3/ 353). (¬2) أما ضعف الإسناد فلأن عقيلا الراوي مجهول. وأما نكارة المتن فإن الإنسان مأمور بحفظ نفسه، فلا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للهلاك، من أجل نافلة لا يضره لو قطع القراءة من غير سبب، فكيف إذا كان ذلك سبيلاً لحفظ نفسه وحفظ أصحابه من المؤمنين الذين قد وكلوا له أمر حفظهم وحراستهم. [تخريج الحديث] الحديث أخرجه أحمد أيضاً في موضع ثان من المسند (3/ 359)، والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 53)، وأبو داود (198)، وابن خزيمة في صحيحه (36)، والدارقطني (1/ 223 - 225)، وابن حبان (1096)، والحاكم (1/ 156 - 157) وصححه، والبيهقي (1/ 150) من طريق ابن إسحاق به. وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند الدارقطني والحاكم. وعلقه البخاري في صيغة التمريض، في كتاب الوضوء، قال: ويذكر عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة ذات الرقاع، فرمي بسهم، فنزف الدم، فركع، وسجد، ومضى في صلاته. اهـ وله شاهد ضعيف، أخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 378، 379) من طريق عبد الله بن عمر، عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه خوات ابن جبير الأنصاري، بنحوه. وإسناده ضعيف، لضعف العمري (عبد الله بن عمر) المكبر. انظر طرق الحديث من: إتحاف المهرة (3006) تحفة الأشراف (2497)، أطراف المسند (2/ 68).

عن بكر، قال: رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه، فخرج شيء من دمه، فحكه بين أصبعيه، ثم صلى ولم يتوضأ (¬1). [وسنده صحيح]. (1578 - 106) ومنها ما رواه عبد الرزاق (¬2)، وابن المنذر (¬3)، من طريق الثوري وابن عيينة، عن عطاء بن السائب، قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى بزق دماً ثم قام فصلى. [سنده حسن]. وعطاء لا يضر اختلاطه لأن الراوي عنه الثوري، وهو ممن سمع منه قبل اختلاطه. (1579 - 107) ومنها ما رواه عبد الرزاق (¬4)، ومن طريقه ابن المنذر (¬5)، من طريق جعفر بن رقان، عن ميمون بن مهران قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه أدخل أصبعه في أنفه، فخرج فيها دم، ففته بأصبعه، ثم صلى ولم يتوضأ. والراجح فيه أن إسناده منقطع، فقد رواه ابن أبي شيبة (¬6)، من طريق شعبة، عن غيلان بن جامع، عن ميمون بن مهران قال: أنبأني من رأى أبا هريرة فذكره. ¬

(¬1) البيهقي في السنن (1/ 151). (¬2) المصنف (1/ 158). (¬3) المصنف (1/ 182). (¬4) المصنف (1/ 155). (¬5) الأوسط (1/ 173). (¬6) المصنف (1/ 128).

والقول بأن هذه الآثار كان الدم فيها يسيراً فعفي عنه، هي في الحقيقة دعوى في محل النزاع، فلا فرق بين قليل الدم وكثيره في النجاسة، كما لا فرق بين قليل البول وكثيره في الحدث. (1580 - 108) ويعارض هذا ما رواه ابن أبي شيبة من طريق خالد ومنصور، عن ابن سيرين، عن يحيى ابن الجزار، أن ابن مسعود صلى وعلى بطنه فرث ودم، قال: فلم يعد الصلاة. [وسنده صحيح] (¬1). هذا فيما يتعلق بالخلاف في طهارة الدم، والذي نفسي تميل إليه رجحان طهارة الدم من الإنسان، للأدلة الكثيرة الصحيحة على طهارته، وما نقل من إجماع يعتذر لهم بأن المراد إجماع أهل المذهب الذين نقل عنهم هذا الرأي، أو يقال: إن بعض من ينقل الإجماع يتابع بعضهم بعضاً، وعلى كل فالذي لا شك فيه أن القول بالنجاسة هو قول عامة أهل العلم، إلا أن الصواب لا يدرك بكثرة الرجال، وإنما حسب قربه أو بعده من الأدلة الشرعية، والله أعلم. ¬

(¬1) ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 156) من طريق أبي شهاب، أنبأ هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين به، بلفظ: أن ابن مسعود نحر جزوراً فأصابه من فرثها ودمها، فصلى ولم يغسله. وقد تصحفت في المطبوع كلمة (فرثها) إلى كلمة (قرشها). وهذه متابعة لخالد ومنصور من هشام بن حسان، وهو من أثبت أصحاب ابن سيرين. ورواه عبد الرزاق في المصنف (559) عن معمر، عن قتادة، عن ابن سيرين به. واختلف على ابن سيرين، فرواه خالد ومنصور وقتادة وهشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن يحيى ابن الجزار، عن ابن مسعود. ورواه عبد الرزاق (560) عن الثوري، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود، فأسقط عاصم من إسناده يحيى ابن الجزار، ورواية الجماعة أولى.

المبحث الثالث في دم الشهيد

المبحث الثالث في دم الشهيد اختلف الفقهاء في دم الشهيد إذا لم ينفصل عن صاحبه، فقيل بطهارته، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: إنه نجس، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). دليل من قال بطهارته: الدليل الأول: (1581 - 109) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 29)، البحر الرائق (1/ 127)، حاشية ابن عابدين (1/ 211). (¬2) الإنصاف (1/ 328)، الفروع (1/ 252)، شرح منتهى الإرادات (1/ 108)، كشاف القناع (1/ 191). (¬3) كتب المالكية تذكر من الدم النجس الدم المسفوح، ولا تستثني دم الشهيد، فظاهر كلامهم أنه نجس، حتى جاء في مواهب الجليل ذِكْرٌ للدم النجس والطاهر، فقال (1/ 96): قال اللخمي: الدم على ضربين: نجس ومختلف فيه: فالأول دم الإنسان، ودم ما لا يجوز أكله، ودم ما يجوز أكله إذا خرج في حال الحياة، أو حين الذبح؛ لأنه مسفوح، واختلف فيما بقي في الجسم بعد الذكاة، وفي دم ما ليس له نفس سائلة، وفي دم الحوت. اهـ فهذا هو الدم النجس المتفق عليه عندهم والمختلف فيه، وبعموم الدم المسفوح يدخل دم الشهيد وأنه نجس. ولم أقف على نص عندهم يستثني دم الشهيد من الدم النجس، والله أعلم. (¬4) حاشية الجمل (1/ 194)، حاشية البجيرمي على المنهج (1/ 488)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 397). (¬5) الإنصاف (1/ 328).

الدليل الثاني

عن جابر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ادفنوهم في دمائهم يعني يوم أحد ولم يغسلهم (¬1). وجه الاستدلال: أنه لو كان الدم نجساً لأمر بإزالته عن بدن الميت، فلما أمر بدفنهم بدمائهم دل ذلك على طهارته. قلت: هذا دليل على طهارة الدم مطلقاً، دم الشهيد وغيره سواء؛ لأن الحكم بالنجاسة هو حكم وضعي، أكثر من كونه حكماً تكليفياً، فلو كان الدم نجساً لكان نجساً على الشهيد وعلى غيره، فالخبيث لا يمكن أن يكون طيباً إلا إذا تغيرت عينه باستحالة ونحوها، فلما لم يأمر بغسلها دل على طهارة دم الإنسان مطلقاً. الدليل الثاني: (1582 - 110) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك. وأخرجه مسلم بنحوه (¬2). وجه الاستدلال: حيث شبه لون ريح دم الشهيد بريح المسك، والمسك طاهر، فالدم إذاً على الشهيد طاهر أيضاً. ¬

(¬1) صحيح البخاري (1346). (¬2) صحيح البخاري (2803)، ومسلم (3486).

دليل من قال بنجاسته

وأجيب: بأن هذا الحكم يوم القيامة، وأحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا، والدم الذي رائحته ريح المسك ليس هو الدم الذي على الميت، فهو دم آخر، فقد جاء في رواية مسلم " إلا جاء يوم القيامة، وجرحه يثعب، اللون لون الدم، والريح ريح المسك ". نعم يؤخذ من الحديث فضل المطعون في سبيل الله. دليل من قال بنجاسته: قالوا: إنه دم مسفوح، فيكون نجساً كسائر الدماء، وعدم غسله من الشهيد لا لكونه طاهراً، وإنما عدم غسله للنص، ولأنه أثر ناتج عن عبادة، وأثر العبادة له فضل، كما جاء في خلوف فم الصائم ونحوه. (1583 - 111) ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا، معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. والحديث في مسلم (¬1). ¬

(¬1) وهذا لفظ البخاري. وأخرجه البخاري (1904) ومسلم (1151)، من طريق ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن أبي صالح الزيات، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله =

الراجح

الراجح: سبق أن رجحنا طهارة دم الإنسان مطلقاً إلا دم الحيض، وعدم غسل دم الشهيد دليل على صحة هذا الاختيار، لا أنه مستثنى كما رأى بعض الفقهاء رحمهم الله جميعاً؛ إذ أن دم الشهيد في الدنيا كسائر الدماء من حيث الحكم، وإنما يفارق غيره من الدماء يوم القيامة فقط، والله أعلم. ¬

_ = زاد مسلم: يوم القيامة ـ من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه.

المبحث الرابع في علقة الحيوان الطاهر

المبحث الرابع في علقة الحيوان الطاهر اختلف العلماء في العلقة تخرج من الحيوان الطاهر، فقيل: إنها نجسة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل بطهارتها، وهو وجه في مذهب الشافعية صححه النووي (¬4)، واختاره بعض الحنابلة (¬5). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 239)، حاشية ابن عابدين (1/ 327)، المبسوط (1/ 81)، شرح فتح القدير (1/ 201)، تبيين الحقائق (1/ 71). (¬2) المجموع (2/ 578). (¬3) كشاف القناع (1/ 191). وقال ابن قدامة في المغني (1/ 417): أما العلقة, فقال ابن عقيل: فيها روايتان, كالمني; لأنها بدء خلق آدمي. والصحيح نجاستها; لأنها دم, ولم يرد من الشرع فيها طهارة, وقياسها على المني ممتنع, لكونها دما خارجا من الفرج, فأشبهت دم الحيض. اهـ وانظر الفروع (1/ 251)، مطالب أولي النهى (1/ 233). (¬4) قال الشيرازي في المهذب (2/ 578): وأما العلقة ففيها وجهان, قال أبو إسحاق: هي نجسة; لأنه دم خارج من الرحم فهو كالحيض, وقال أبو بكر الصيرفي: هي طاهرة; لأنه دم غير مسفوح, فهو كالكبد والطحال. قال النووي في شرحه لهذه العبارة: هذان الوجهان في العلقة مشهوران , ودليلهما ما ذكره المصنف ; أصحهما الطهارة , ونقله الشيخ أبو حامد عن الصيرفي وعامة الأصحاب , وصرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد والمحاملي والرافعي في المحرر وآخرون. اهـ وانظر مغني المحتاج (1/ 81). (¬5) المغني (1/ 417).

دليل من قال بالنجاسة

دليل من قال بالنجاسة: القياس على دم الحيض، بجامع أن كلاً منهما دم خارج من الفرج. وأجيب: بأن القياس على دم الحيض قياس مع الفارق، حيث إن الحيض يتعلق به أحكام من ترك الصلاة والصيام، بخلاف العلقة. دليل من قال بالطهارة: الدليل الأول: لا يوجد دليل على نجاسة العلقة، والأصل في الأعيان الطهارة. الدليل الثاني: أن العلقة أصلها مني، وهو طاهر على الصحيح كما قدمنا. وإن كان هذا الدليل يمكن مناقشته، بأن المني قد تحول إلى دم، فالعين الثانية صارت غير الأولى. الدليل الثالث: العلقة وإن كانت دماً، إلا أنها ليست دماً مسفوحاً، فهي تشبه دم الكبد والطحال ونحوها، فتكون طاهرة.

المبحث الخامس في دم القلب واللحم والدم الباقي في العروق من الحيوان المأكول بعد الذبح

المبحث الخامس في دم القلب واللحم والدم الباقي في العروق من الحيوان المأكول بعد الذبح اختلف العلماء في هذا الدم، فقيل: طاهر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: نجس، ولكنه معفو عنه، وهو مذهب الشافعية (¬4). ولا فرق كبير بين القولين، سواء قلنا: إنه طاهر أصلاً، أو قلنا: إنه نجس عفي عنه، لأن المحصلة النهائية أنه لا حكم له من حيث وجوب غسله. ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 241)، حاشية ابن عابدين (1/ 319، 320). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 52)، الخرشي (1/ 87)، مواهب الجليل (1/ 96)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 48). (¬3) قال في الإنصاف (1/ 327): دم عروق المأكول طاهر على الصحيح من المذهب. ولو ظهرت حمرته نص عليه, وهو الصحيح من المذهب, وهو من المفردات؛ لأن العروق لا تنفك عنه. فيسقط حكمه; لأنه ضرورة. وظاهر كلام القاضي في الخلاف: نجاسته. قال ابن الجوزي: المحرم هو الدم المسفوح. ثم قال القاضي: فأما الدم الذي يبقى في خلال اللحم بعد الذبح, وما يبقى في العروق فمباح. قال في الفروع: ولم يذكر جماعة إلا دم العروق. وقال الشيخ تقي الدين فيه: لا أعلم خلافاً في العفو عنه, وأنه لا ينجس المرق, بل يؤكل معها. انتهى قلت: وممن قال بطهارة بقية الدم الذي في اللحم غير دم العروق, وإن ظهرت حمرته: المجد في شرحه, والناظم, وابن عبيدان, وصاحب الفائق, والرعايتين, ونهاية ابن رزين, ونظمها وغيرهم. وانظر مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (2/ 234)، والفروع (1/ 254). (¬4) تحفة المحتاج (1/ 293، 294)، نهاية المحتاج (1/ 240)، مغني المحتاج (1/ 78).

الدليل الأول

الدليل على طهارة دم العروق: الدليل الأول: قوله تعالى {أو دماً مسفوحاً فإنه رجس} (¬1)، فنصت الآية على تحريم الدم المسفوح، وهذا غير مسفوح. الدليل الثاني: الإجماع، قال ابن تيمية: وقد ثبت أنهم يضعون اللحم بالقدر، فيبقى الدم في الماء مخلوطاً، وهذا لا أعلم بين العلماء خلافاً في العفو عنه (¬2). ومن قال بالعفو عنه، هل كان يرى العفو بسبب كونه دماً يسيراً، فلو كان كثيراً فإنه لا يعفى عنه؟ أو كان يرى العفو لمشقة التحرز، فيكون طاهراً سواء كان الدم يسيراً أم لا؟ محل تأمل. قال ابن العربي: قال الإمام الحافظ: الصحيح أن الدم إذا كان مفرداً حرم منه كل شيء, وإن خالط اللحم جاز; لأنه لا يمكن الاحتراز منه, وإنما حرم الدم بالقصد إليه (¬3). وقال في الجوهرة النيرة: أما الذي يبقى في اللحم بعد الذكاة فهو طاهر، وعن أبي يوسف أنه معفو عنه في الأكل, ولو احمرت منه القدر, وليس بمعفو عنه في الثياب والأبدان; لأنه لا يمكن الاحتراز منه في الأكل، ويمكن في غيره (¬4). ¬

(¬1) الأنعام: 145. (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 542). (¬3) الجامع لأحكام القرآن (2/ 291). (¬4) الجوهرة النيرة (1/ 38).

والظاهر من التعليلات المذكورة ضمن كلام العلماء المنقول آنفاً: أن الدم المخالط لغيره من اللحم والعروق طاهر لمشقة التحرز منه، وبناء على ذلك يكون طاهراً قليله وكثيره عند من أطلق، ولم يقيده بقليل ولا كثير كابن العربي ومن نحا نحوه، والله أعلم.

المبحث السادس دم الكبد والطحال

المبحث السادس دم الكبد والطحال الكبد والطحال من الحيوان الطاهر طاهران بالإجماع، نقل الإجماع النووي وغيره (¬1). وقال المرداوي: الكبد والطحال، وهما دمان، ولا خلاف في طهارتهما، وقداختلف العلماء في الدم المتحلب من الكبد والطحال. فقيل: إنه دم طاهر، وإليه ذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4)، والشافعية في أحد الوجهين (¬5). وقيل: إنه دم نجس، وإليه ذهب الشافعية في القول الراجح عندهم (¬6). دليل الجمهور: (1584 - 112) أن الكبد والطحال مأكولان، كما جاء في أثر ابن ¬

(¬1) المجموع (2/ 578) و (9/ 77، 78). (¬2) أحكام القرآن للجصاص (2/ 429)، وقال في الجوهرة النيرة (1/ 38): وكذلك دم الكبد والطحال طاهر حتى لو طلي به الخف لا يمنع الصلاة. اهـ (¬3) الجامع لأحكام القرآن (2/ 290). (¬4) مطالب أولي النهى (1/ 234). (¬5) انظر العزو التالي عن النووي. (¬6) قال النووي في المجموع (2/ 576): وأما الوجهان في دم السمك فمشهوران ونقلهما الأصحاب أيضا في دم الجراد، ونقلهما الرافعي أيضا في الدم المتحلب من الكبد والطحال, والأصح في الجميع النجاسة.

عمر، رواه الشافعي في مسنده (¬1)، وأحمد (¬2)، وعبد بن حميد في المنتخب (¬3)، وابن ماجه (¬4)، وابن حبان في المجروحين (¬5)، والدارقطني (¬6)، والبيهقي (¬7)، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال. [الراجح وقفه على ابن عمر، وقول الصحابي أحل لنا كذا في حكم المرفوع] (¬8). ¬

(¬1) (2/ 173). (¬2) المسند (2/ 97). (¬3) (820). (¬4) (3218). (¬5) (3/ 58). (¬6) في السنن (4/ 271). (¬7) في السنن (1/ 254). (¬8) الحديث أخرجه الدارقطني في السنن (4/ 271 - 272) من طريق عبد الله بن زيد ابن أسلم، وأخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 388)، وذكره البيهقي في السنن (9/ 275) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن عبد الرحمن وعبد الله وأسامة أبناء زيد بن أسلم، عن أبيهم به. وقد اختلف الرواة فيه على زيد بن أسلم: فرواه أبناء زيد بن أسلم: عبد الله وعبد الرحمن وأسامة، عن أبيهم عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق. =

دليل الشافعية على النجاسة

وإذا كانت الكبد والطحال حلال الأكل، مع أنهما دمان، دل ذلك على طهارتهما، إذ لا يؤكل إلا ما كان طاهراً، فكذلك ما تحلب منهما لا بد أن يكون طاهراً. الدليل الثاني: أن المحرم هو الدم المسفوح، ودم الكبد والطحال ليس مسفوحاً، فيكون طاهراً. دليل الشافعية على النجاسة: أن الدم المتحلب من الكبد والطحال دم مسفوح، فحقه أن يكون نجساً، لكن عفا عنه الشرع. ¬

_ = وأبناء زيد هؤلاء كلهم ضعفاء، وأمثلهم عبد الله وثقه أحمد وعلي بن المديني، وضعفه علي بن المديني في رواية، وقال النسائي: ليس بالقوي، وضعفه ابن عدي وأبو زرعة ويحيى بن معين وغيرهم. ورواه سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر موقوفاً عليه، من قوله كما في البيهقي (1/ 254)، وسليمان بن بلال مقدم على أولاد زيد بن أسلم. قال البيهقي عقب روايته: هذا إسناد صحيح، وهو في معنى المسند، وقد رفعه أولاد زيد عن أبيهم، ثم ساق روايتهم، ثم قال: والصحيح من هذا الحديث هو الأول. وكذلك رجح الدارقطني في علله أن الصواب الموقوف كما في نصب الراية (4/ 202). أنظر أطراف المسند (3/ 354 - 355)، إتحاف المهرة (9473)، التحفة (6738).

المبحث السابع في دم السمك

المبحث السابع في دم السمك اختلف القائلون بنجاسة الدم المسفوح، في حكم دم السمك، فقيل: إنه طاهر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3)، ووجه في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: نجس، اختاره أبو يوسف من الحنفية (¬5)، وهو قول في مذهب المالكية (¬6)، والوجه المعتمد في مذهب الشافعية (¬7)، واختيار ابن حزم (¬8). ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (1/ 174)، تبيين الحقائق (1/ 75)، فتح القدير (1/ 84) وقال في بدائع الصنائع (1/ 61): وأما دم السمك فقد روي عن أبي يوسف أنه نجس، وبه أخذ الشافعي اعتبارا بسائر الدماء , وعند أبي حنيفة ومحمد طاهر؛ لإجماع الأمة على إباحة تناوله مع دمه, ولو كان نجسا لما أبيح؛ لأنه ليس بدم حقيقة، بل هو ماء تلون بلون الدم ; لأن الدموي لا يعيش في الماء , والدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح طاهر ; لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله مع اللحم، وروي عن أبي يوسف أنه معفو في الأكل غير معفو في الثياب؛ لتعذر الاحتراز عنه في الأكل وإمكانه في الثوب. اهـ ولو عكس أبو يوسف لكان أقرب، فالعفو في باب الملبوسات أولى من العفو في باب المطعومات، لأن أكل النجاسات قد يؤثر في البدن، بخلاف لبس النجس، فالعفو عنه في الأكل سبب في العفو عنه في الثياب من باب أولى، هذا لو قيل بنجاسة دم السمك. (¬2) الإنصاف (1/ 327)، المبدع (1/ 328)، المغني (1/ 410)، الفروع (1/ 250). (¬3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 53). (¬4) المجموع (2/ 576)، الأشباه والنظائر (ص: 431). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 61)، تبيين الحقائق (1/ 75). (¬6) المدونة (1/ 128) الخرشي (1/ 93) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 53). (¬7) قال النووي في المجموع (2/ 576): وأما الوجهان في دم السمك فمشهوران ونقلهما الأصحاب أيضا في دم الجراد، ونقلهما الرافعي أيضا في الدم المتحلب من الكبد والطحال, والأصح في الجميع النجاسة. وانظر الأشباه والنظائر (ص: 431). (¬8) المحلى (مسألة: 124) (1/ 116).

دليل من قال بطهارته

دليل من قال بطهارته: (1585 - 113) حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال. [سبق تخريجه والراجح وقفه، وله حكم الرفع] (¬1). وجه الاستدلال: قال أبو بكر الجصاص: لما أباح السمك بما فيه من الدم من غير إراقة دمه, وقد تلقى المسلمون هذا الخبر بالقبول في إباحة السمك من غير إراقة دمه, وجب تخصيص الآية (يعني: قوله تعالى: أو دماً مسفوحاً) في إباحة دم السمك; إذ لو كان محظوراً لما حل دون إراقة دمه كالشاة وسائر الحيوان ذوات الدماء, والله أعلم (¬2). الدليل الثاني: قالوا: إن دم السمك ليس بدم في الحقيقة، وذلك لأن الدم يسود إذا شمس، ودم السمك يَبْيَضَّ، ولأن طبع الدم حار، وطبع الماء بارد، فلو كان للسمك دم لم يدم سكونه في الماء (¬3). ¬

(¬1) انظر رقم (1584). (¬2) أحكام القرآن للجصاص (1/ 174). (¬3) البناية (1/ 748).

دليل من قال بنجاسته

دليل من قال بنجاسته: الدليل الأول: قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} (¬1)، وهذا عام في كل دم، ومنه دم السمك. الدليل الثاني: قالوا: إن دم السمك داخل في عموم قوله تعالى: {أو دماً مسفوحاً فإنه رجس} (¬2). الدليل الثالث: من جهة القياس، أن دم السمك دم سائل، فوجب أن يكون نجساً كسائر الدماء. وأجيب: بأن الاستدلال بالعام أو المطلق غير صحيح؛ لأن الخاص مقدم على العام، وقد دل الدليل على جواز أكل ميتة السمك، مع أن الدم منحبس فيها، وقد أجاز الشافعية أكل السمك الميت، فكيف يكون الدم طاهراً إذا كان محبوساً في ميتته، ويكون نجساً إذا خرج منها؟ فهذا دليل على ضعف قولهم. ¬

(¬1) المائدة: 3. (¬2) الأنعام: 145.

الفصل الرابع في حكم القيء

الفصل الرابع في حكم القيء إذا خرج القيء إلى الفم، ففيه أقوال: فقيل: نجس مطلقاً، تغير أو لم يتغير، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمعتمد عند الشافعية (¬2). وعبر ابن حزم بالتحريم، بدلاً من النجاسة، فقال: القيء حرام يجب اجتنابه من كل مسلم وكافر (¬3). وقيل: طاهر مطلقاً تغير أو لم يتغير، وهو قول الشوكاني (¬4). وقيل: إن خرج غير متغير فهو طاهر، وإن تغير ولو بحموضة فهو نجس، ولو لم يشبه أوصاف العذرة، وهذا اختيار الحسن من الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، ¬

(¬1) قال في بدائع الصنائع (1/ 26): " لا فرق بين أن يكون القيء مرة صفراء أو سوداء, وبين أن يكون طعاما أو ماء صافيا؛ لأن الحدث اسم لخروج النجس, والطعام أو الماء نجس لاختلاطه بنجاسات المعدة ". وانظر تبيين الحقائق (1/ 9)، البناية (1/ 215). (¬2) المجموع (2/ 570)، نهاية المحتاج (1/ 240)، مغني المحتاج (1/ 79)، (¬3) المحلى (مسألة: 143). (¬4) السيل الجرار (1/ 43). (¬5) قال في تبيين الحقائق (1/ 9): ولا فرق بين أنواع القيء; لأنها نجسة، خلافا للحسن في الماء والطعام إذا لم يتغيرا. اهـ وانظر حاشية ابن عابدين (1/ 309)، البحر الرائق (1/ 37). (¬6) قال في الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 51): ومن الطاهر قيء: وهو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة، إلا المتغير منه بنفسه عن حالة الطعام فنجس، ولو لم يشابه أحد أوصاف العذرة. الخ كلامه رحمه الله. =

دليل من قال بنجاسته مطلقا

وقول في مذهب الشافعية (¬1). وقيل: لا ينجس القيء إلا إذا أشبه أحد أوصاف العذرة، اختاره من المالكية ابن رشد، والقاضي عياض (¬2). وقيل: قيء ما يؤكل لحمه طاهر، وأما غيره فنجس مطلقاً، وهو مذهب الحنابلة (¬3). هذا مجمل الخلاف في مسألة القيء. دليل من قال بنجاسته مطلقاً: الدليل الأول: (1586 - 114) ما رواه أبو يعلى من طريق ثابت بن حماد أبي زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، ¬

= وقال في مواهب الجليل (1/ 94): كلام المصنف أن المتغير نجس كيفما كان التغير، وعلى ذلك حملها سند والباجي وابن بشير وابن شاس وابن الحاجب. وقال اللخمي: يريد إذا تغير إلى أحد أوصاف العذرة، وتبعه عياض. وقال أبو إسحاق التونسي وابن رشد: إن شابه أحد أوصاف العذرة , أو قاربها، فتحصل أن القيء على ثلاثة أقسام: - ما شابه أحد أوصاف العذرة , أو قاربها فنجس اتفاقاً. - وما كان على هيئة الطعام لم يتغير فطاهر اتفاقاً، لكن ألزم ابن عرفة من يقول بنجاسة الصفراء والبلغم أن يقول بنجاسة القيء مطلقاً. - وما تغير عن هيئة الطعام ولم يقارب أحد أوصاف العذرة، قال ابن فرحون: بأن يستحيل عن هيئة الطعام ويستعد للهضم. وقال البساطي: بأن تظهر فيه حموضة، فإذا كان كذلك فهو نجس على المشهور، خلافا للخمي وأبي إسحاق وابن بشير وعياض. (¬1) المجموع (2/ 570). (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 51). (¬3) قال في شرح منتهى الإرادات (1/ 107): والقيء مما لا يؤكل نجس. اهـ

الدليل الثاني

عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (¬1). [إسناده ضعيف جداً، وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الثاني: أنه طعام مستخبث مستقذر لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه، فكان نجساً كالبول. وأجيب: بأن الاستقذار الشرعي دليل على النجاسة، ولا يوجد هنا، وأما استقذار الطبائع فلا يكفي للتنجيس، فإن الناس قد يستقذرون أشياء كثيرة، وهي طاهرة كالبصاق والنخامة ونحوهما. الدليل الثالث: قالوا: إن القيء ينقض الوضوء، وهذا دليل على نجاسته كالبول والغائط. والدليل على أن فيه الوضوء، (1587 - 115) ما رواه البيهقي في الخلافيات، من طريق سهل بن عفان السجزي، ثنا الجارود بن يزيد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، ¬

(¬1) مسند أبي يعلى (1611). (¬2) سبق تخريجه، انظر كتابي آداب الخلاء، رقم (392).أحكام الوضوء، رقم حديث (1014).

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعاد الوضوء من إقطار البول، والدم السائل، والقيء، ومن دسعة يملأ بها الفم، والنوم المضطجع، وقهقهة الرجل في الصلاة، ومن خروج الدم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). (1588 - 116) ومنها ما رواه الدارقطني من طريق سوار بن مصعب، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القلس حدث (¬3). قال الدارقطني: سوار متروك، ولم يروه عن زيد غيره. (1589 - 117) ومنها ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل، أنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد بن هشام، عن معدان أو معدان، عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاء، فأفطر قال: فلقيت ثوبان في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك فقال: أنا صببت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه. [سبق تخريجه في كتاب الوضوء] (¬4). (1590 - 118) ومنها ما رواه ابن ماجه، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا الهيثم بن خارجة، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، ¬

(¬1) الخلافيات للبيهقي (658). (¬2) قال البيهقي: سهل بن عفان مجهول، والجارود بن يزيد ضعيف في الحديث، ولا يصح هذا. اهـ (¬3) سنن الدارقطني (1/ 155). (¬4) انظر كتابي أحكام الوضوء، رقم (1014).

عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) سنن ابن ماجه (1221). (¬2) الحديث ضعيف، أولاً: لأن في إسناده إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين فيها كلام، وهذا منها. ثانياً: أن إسماعيل بن عياش قد خالف أصحاب ابن جريج، فقد رووه عن ابن جريج مرسلاً، فقد رواه الدارقطني (1/ 155)، والبيهقي (1/ 142) من طريق أبي عاصم، ومحمد بن عبد الله الأنصاري وعبد الرزاق وعبد الوهاب، كلهم رووه عن ابن جريج، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قاء أحدكم أو قلس أو وجد مذياً وهو في الصلاة فلينصرف، فليتوضأ، وليرجع، فليبن على صلاته ما لم يتكلم. وهذا هو الصحيح من حديث ابن جريج. قال الدارقطني: أصحاب ابن جريج الحفاظ عنه يروونه عن ابن جريج، عن أبيه مرسلاً. ورجح أبو حاتم الرازي إرساله، كما في العلل لابنه (1/ 31). [تخريج الحديث]. الحديث رواه الطبراني في المعجم الأوسط (5429)، والدارقطني (1/ 153،ط 154)، ومن طريقه البيهقي (2/ 255) من طريق داود بن رشيد، عن إسماعيل بن عياش، حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن أبيه، وعن عبد الله بن أبي مليكة به. ورواه البيهقي (1/ 143) من طريق هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش به. وتابع سليمان بن أرقم إسماعيل بن عياش، فقد رواه الدارقطني (1/ 155) من طريق سليمان بن أرقم، حدثني ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به. وسليمان بن أرقم متروك. ورواه الدارقطني (1/ 154) من طريق إسماعيل بن عياش، عن عباد بن كثير وعطاء بن عجلان، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به. =

وهناك آثار عن بعض الصحابة في الوضوء من القيء والقلس ذكرناها في كتاب الوضوء، فارجع إليها إن شئت. وجه الشاهد من هذه الأحاديث: أن الخارج من البدن من غير السبيلين لا ينقض الوضوء إلا إذا كان نجساً، فحين توضأ من القيء، كان ذلك دليلاً على نجاسته. وأجيب: بأن القيء مختلف في نقضه للوضوء، وقد سبق بيان القول الراجح فيه في كتاب الوضوء، وعلى التسليم بأنه ينقض الوضوء، فهل ثبت أنه لا ينقض الوضوء إلا الشيء النجس، فهذه الريح تنقض الوضوء إجماعاً، وهي طاهرة. وأما الجواب عن حديث ثوبان، وقوله رضي الله عنه: أنا صببت عليه وضوءه، فمن وجهين: ¬

_ = ومع كون عباد بن كثير وعطاء بن عجلان ضعيفين فإن هذا الاختلاف ربما يكون ناتجاً عن تخليط إسماعيل بن عياش، فمرة يرويه مرسلاً، ومرة موصولاً، ومرة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة. ومرة عن عباد وعطاء، عن ابن أبي مليكة. قال البيهقي في السنن (2/ 255): وهذا الحديث أحد ما أنكر على إسماعيل بن عياش، والمحفوظ ما رواه الجماعة عن ابن جريج، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، كذلك رواه محمد بن عبد الله الأنصاري، وأبو عاصم النبيل، وعبد الرزاق، وعبد الوهاب بن عطاء وغيرهم، عن ابن جريج، وأما حديث ابن أبي مليكة، عن عائشة، فإنما يرويه إسماعيل بن عياش وسليمان بن أرقم، عن ابن جريج، وسليمان بن أرقم متروك، وما يرويه إسماعيل بن عياش عن غير أهل الشام ضعيف لا يوثق به، وروي عن إسماعيل بن عياش، عن عباد بن كثير وعطاء بن عجلان، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها، وعباد وعطاء هذان ضعيفان، والله تعالى أعلم. اهـ كلام البيهقي رحمه الله تعالى. انظر إتحاف المهرة (21834)، تحفة الأشراف (16252).

دليل من قال بطهارته مطلقا

الأول: أن الوضوء مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، أقصى ما يدل عليه الفعل إذا كان على وجه التعبد أن يكون ذلك مستحباً، ولذلك لما تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرد السلام لم يقل أحد بوجوب التيمم لرد السلام. الثاني: أن الوضوء قد يكون بعد القيء من أجل النظافة، وإزالة القذر الذي يبقى في الفم، أو في البدن وربما في الأنف، لا من أجل كون القيء ناقضاً للوضوء، فلا نستطيع أن نحكم على من تطهر بموجب الكتاب والسنة أن نحكم عليه بفساد عبادته إلا بدليل صريح على أن عبادته أصبحت باطلة، فما صح بموجب الكتاب والسنة لا يبطل إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، أو قول صحابي لا مخالف له من الصحابة. دليل من قال بطهارته مطلقاً: الدليل الأول: الأصل في الأشياء الطهارة، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل شرعي صحيح، وحديث عمار لا تقوم به حجة، وهو ضعيف جداً، كما سبق بيانه عند تخريج الحديث. الدليل الثاني: أن هذا القيء مما تبتلى به الأمهات، ويكثر من الأطفال، فلو كان نجساً لقامت الحاجة إلى بيانه بدليل صحيح صريح، لأننا نعلم أن كل حكم شرعي تحتاج إليه الأمة، ويكثر وقوعه وتكراره لا بد أن تأتي فيه الأدلة صحيحة صريحة بما تقوم به الحجة على الخلق، ويحفظ به الشرع عن رب العالمين، فلا يمكن أن يكون القيء نجساً، وهو لا تكاد تسلم أم من التلوث به، ثم مع ذلك لا يأتي في نجاسته إلا حديث ضعيف جداً، فهذا مما يجعل الباحث يجزم بطهارته.

دليل من قال: ينجس إن تغير وإلا فطاهر

دليل من قال: ينجس إن تغير وإلا فطاهر: اعتبر الطعام عيناً طاهرة تغير بنجاسة، وكل شيء طاهر تغير بشيء نجس، تنجس حكماً، وإن لم يتغير وخرج على هيئة الطعام، فالطعام ما زال طاهراً حيث لم يتغير بالنجاسة. ويجاب عنه: بأن تغير الطعام إنما هو بسائل المعدة، والتي تسهله للهضم، وهذا السائل ليس بنجس حتى يحكم عليه بالنجاسة إذا غير أوصاف الطعام، فالصحيح أن الطعام طاهر، تغير بشيء طاهر، فلا يخرجه عن حكمه. دليل من قال: ينجس إن أشبه العذرة وإلا فطاهر: هذا القول يختلف عن القول الذي قبله، لأن القول الذي قبله يرى أن الطعام طاهر تغير بنجس فتنجس. وهذا القول يعتبر الطعام نفسه نجساً، لأنه استحال إلى ما يشبه العذرة، والاستحالة لها حكمها، فكما أن الخبيث إذا استحال إلى طاهر أصبح طاهراً كما في الخمرة تتحول إلى خل، فكذلك الطيب إذا استحال إلى خبيث أخذ حكم الخبيث، كالطعام يتحول إلى عذرة. دليل من قال: ينجس إن كان من حيوان لا يؤكل لحمه: رأى أن القيء من الحيوان المأكول لا يمكن أن يكون أخبث من بوله، فإذا كان من حيوان بوله طاهر، كان طاهراً، وإن كان من حيوان ذاته نجس، أُعْطِي حكم بول هذا الحيوان.

الراجح

الراجح: الذي أطمئن له أن قيء الحيوان ليس تبعاً لبوله، وإنما هو تبع لذاته، فإن كان من حيوان طاهر كالإنسان والحمار والبغل والهر فهو طاهر، وإن كان من حيوان نجس كالكلب، والخنزير ونحوهما فهو نجس؛ لاختلاطه بالنجاسة، فإن ريق الكلب نجس، فما بالك بسائل معدته، وبناء على ذلك يكون القول بنجاسة القيء مطلقاً قول ضعيف، وذلك لعدم الدليل المعتمد على نجاسته، فيبقى طاهراً على الأصل، والله أعلم.

الفصل الخامس حكم القلس

الفصل الخامس حكم القلس اختلف العلماء في القلس، هل هو طاهر أم نجس. فقيل: إن القلس نجس، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: القلس حكمه حكم القيء في التفصيل، وهذا مذهب المالكية (¬3). وقيل: القلس طاهر مطلقاً، اختاره ابن رشد من المالكية (¬4). ¬

(¬1) الحنفية يرون القلس نجساً، وذلك لأنهم قد ذكروا في نواقض الوضوء كما في بدائع الصنائع (1/ 26) وغيره: أن الحدث اسم لخروج النجس. اهـ وقد اعتبروا أن القلس ينقض الوضوء بشرط أن يكون ملء الفم كالقيء عندهم، فهذا منهم ذهاب إلى نجاسة القيء، وإلا فخروج الطاهر عندهم لا ينقض الوضوء. وانظر المبسوط (1/ 74، 75). (¬2) قال في كشاف القناع (2/ 329): (وإن تنجس فمه ولو بخروج قيء ونحوه) كقلس. اهـ وهذا نص منهم على تنجس الفم بالقلس. (¬3) قال في الشرح الكبير (1/ 51): والقلس كالقيء في التفصيل. وقد قدمنا مذهب المالكية في القيء في المسألة التي قبل هذه، وأنهم يقسمونه ثلاثة أقسام: 1 ـ إذا لم يتغير، فهو طاهر بالاتفاق. 2 ـ إذا تغير تغيراً يشبه العذرة، فهو نجس بالاتفاق. 3 ـ إذا تغير، ولم يشبه العذرة، ففيه قولان: المشهور أنه نجس، وقيل: طاهر. وانظر مواهب الجليل (1/ 95). واختار بعضهم طهارة القلس مطلقاً. (¬4) مواهب الجليل (1/ 94، 95، 496).

وقيل: القلس تبع لذات صاحبه، فإن كان من حيوان طاهر، فهو طاهر، وإن كان من نجس، فهو نجس، وهذا اختيار ابن حزم (¬1). والأدلة في القلس هي الأدلة نفسها المذكورة في حكم القيء سواء بسواء، فارجع إليها إن شئت. وما رجح هناك فهو الراجح هنا، وهو أن القلس من الحيوان الطاهر طاهر، ومن الحيوان النجس نجس تبعاً لذاته، وللأدلة والتعليلات ذاتها؛ لأن القلس قيء أو فرع عنه، وبالتالي فإنه يأخذ حكمه تماماً، والله أعلم. ¬

(¬1) المحلى (مسألة: 139).

الفصل السادس في رطوبة الفرج

الفصل السادس في رطوبة الفرج إن كانت رطوبة الفرج من حيوان نجس، فهي نجسة تبعاً لذات الحيوان. وإن كانت رطوبة الفرج من حيوان طاهر، فهي قسمان: أن تكون الرطوبة من ظاهر الفرج، فهي طاهرة. وقد نقل الإجماع على طهارتها ابن عابدين في حاشيته، فقال: وأما رطوبة الفرج الخارج، فطاهرة اتفاقاً (¬1). وقال أيضاً: " مطلب في رطوبة الفرج، قوله: الفرج: أي الداخل، أما الخارج فرطوبته طاهرة اتفاقاً (¬2). ولأن رطوبة الفرج الظاهرة بمنزلة رطوبة الأنف والفم والعرق الخارج من البدن. وإن كانت من باطن الفرج ففيها خلاف بين أهل العلم، فقيل: إن رطوبة الفرج طاهرة، وهو مذهب أبي حنيفة (¬3)، وقول في مذهب الشافعية، رجحه النووي وغيره (¬4)، والمشهور من مذهب ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 313). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 166). (¬3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (1/ 64)، الدر المختار (1/ 349). (¬4) قال في روضة الطالبين (1/ 18): وليست رطوبة فرج المرأة بنجس في الأصح. اهـ وقال في المجموع (2/ 588، 589): رطوبة الفرج ماء أبيض متردد بين المذي والعرق, فلهذا اختلف فيها، ثم إن المصنف رحمه الله رجح هنا وفي التنبيه النجاسة, ورجحه أيضا البندنيجي =

الحنابلة (¬1)، رحجه ابن قدامة (¬2). وقيل: إن رطوبة الفرج نجسة، اختاره أبو يوسف ومحمد من الحنفية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: إن رطوبة الفرج إن كانت من مباح الأكل فطاهرة، وإن كانت من غيره كالآدمي فنجسة، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬6). ¬

= وقال البغوي والرافعي وغيرهما: الأصح: الطهارة, وقال صاحب الحاوي في باب ما يوجب الغسل: نص الشافعي رحمه الله في بعض كتبه على طهارة رطوبة الفرج, وحكي التنجيس عن ابن سريج فحصل في المسألة قولان منصوصان للشافعي, أحدهما ما نقله المصنف, والآخر نقله صاحب الحاوي, والأصح طهارتهما. اهـ وقال في شرح صحيح مسلم (3/ 198): وقد استدل جماعة من العلماء بهذا الحديث على طهارة رطوبة فرج المرأة، وفيها خلاف مشهور عندنا وعند غيرنا، والأظهر طهارتها. اهـ (¬1) المبدع (1/ 255)، وقال في الإنصاف (1/ 341): وهو الصحيح من المذهب مطلقاً. اهـ وانظر الكافي في فقه أحمد (1/ 87)، كشاف القناع (1/ 195). (¬2) المغني (1/ 414)، المبدع (1/ 255). (¬3) قال في الدر المختار المطبوع مع حاشية الدر المحتار (1/ 349): رطوبة فرج المرأة طاهرة، خلافاً لهما. اهـ (¬4) قال الشيرازي في المهذب (1/ 48): وأما رطوبة فرج المرأة، فالمنصوص أنها نجسة؛ لأنها رطوبة متولدة في محل النجاسة، فكانت نجسة. ومن أصحابنا من قال: هي طاهرة كسائر رطوبات البدن. اهـ (¬5) المغني (1/ 414)، الإنصاف (1/ 341). (¬6) قال في الشرح الكبير في معرض كلامه على عدد النجاسات (1/ 57): (ورطوبة فرج) من غير مباح الأكل، أما منه فطاهرة إلا المتغذي بنجس. واشترط الدسوقي شرطين للقول بطهارة رطوبة فرج المرأة من مباح الأكل: =

دليل من قال بطهارة رطوبة الفرج

وقيل: ما أصاب منه في حال الجماع فهو نجس، وإلا فطاهر، اختاره القاضي من الحنابلة (¬1). دليل من قال بطهارة رطوبة الفرج: الدليل الأول: عدم الدليل المقتضي للنجاسة، والأصل في الأشياء الطهارة، ولو كانت رطوبة الفرج نجسة لنقل إلينا تحرز الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إصابة الرطوبة لثيابه، ولنقل إلينا غسله ما أصابه منها، ولجاء الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته بالتحرز منها، والتطهر منها إذا لحق الثوب شيء من ذلك، فلما لم يأت شيء من هذا علم أن الرطوبة طاهرة. الدليل الثاني: قال ابن مفلح الصغير: كانت عائشة تفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كان من جماع؛ لأن الأنبياء لا يحتلمون (¬2)، وهو يصيب الرطوبة، فلو حكمنا بنجاسته لحكمنا بنجاسة منيها؛ لأنه يلاقي رطوبته بخروجه منه (¬3). وقال ابن قدامة: لو حكمنا بنجاسة فرج المرأة لحكمنا بنجاسة منيها؛ لأنه يخرج من فرجها، فيتنجس برطوبته (¬4). ¬

= ألا يتغذى بالنجاسات، وأن يكون الحيوان ممن لا يحيض. وقال في مواهب الجليل (1/ 105): يستثنى من رطوبة فرج رطوبة ما بوله طاهر. اهـ (¬1) المغني (1/ 414). (¬2) الأنبياء كغيرهم في هذا، ولم يثبت حديث صحيح في نفي الاحتلام عنه - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) المبدع (1/ 451). (¬4) المغني (1/ 414).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: القول بنجاسة رطوبة فرج المرأة فيه حرج شديد، لأن في التحرز منه مشقة كبيرة، أكثر من المشقة في التحرز من ولوغ الهرة ونحوها، فلو كانت الرطوبة نجسة العين لخفف ذلك من أجل المشقة، فكيف والأدلة على نجاستها ليست صريحة في الباب. دليل من قال: رطوبة الفرج نجسة: الدليل الأول: (1591 - 119) مارواه البخاري من طريق هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني أبو أيوب، قال أخبرني: أبي بن كعب، أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل. قال: يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي. قال ابن حجر: قوله: " يغسل ما مس المرأة منه " أي يغسل الرجل العضو الذي مس فرج المرأة من أعضائه، وهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم؛ لأن المراد رطوبة فرجها. ورواه مسلم بنحوه (¬1). الدليل الثاني: (1592 - 120) ما رواه البخاري من طريق يحيى، عن أبي سلمة، أن عطاء بن يسار أخبره، أن زيد بن خالد أخبره، ¬

(¬1) البخاري (284)، ومسلم (522).

أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه قلت: أرأيت إذا جامع فلم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره. قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علياً والزبير وطلحة وأبي بن كعب رضي الله عنهم فأمروه بذلك (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي: هذان الحديثان (يعني: حديث أبي بن كعب وعثمان) في جواز الصلاة بالوضوء بلا غسل منسوخان كما سبق في باب ما يوجب الغسل. وأما الأمر بغسل الذكر وما أصابه منها فثابت غير منسوخ، وهو ظاهر في الحكم بنجاسة رطوبة الفرج. واعترض على هذا التوجيه بجوابين: الأول: قالوا: إن غسل الذكر من الجماع مستحب، وليس بواجب. الثاني: قالوا: إن الوضوء وغسل الذكر عند الإكسال منسوخان بأحاديث إيجاب الغسل (¬2)، فالحكم الشرعي الأول في أول الإسلام كان في الإيلاج واجبان: الوضوء، وغسل الذكر. والحكم المتأخر: هو إيحاب غسل البدن، فنسخ الحكم الأول برمته، واستقر الحكم الثاني. والحقيقة أن كلام النووي عندي أقوى، وعند التأمل ليس فيه نسخ للحكم الأول، بل زيادة عليه. ¬

(¬1) صحيح البخاري (173)، ومسلم (524). (¬2) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ (ص: 30 - 36).

الدليل الثالث

فمن وجب عليه غسل بدنه كله فقد غسل في ذلك ذكره ضمناً من باب أولى، فلم ينسخ الحكم بغسل العضو. ومن وجب عليه الغسل دخل في ذلك الوضوء، فالوضوء وغسل الذكر دخلا تبعاً لوجوب الغسل. لكن لفظ مسلم " يغسل ما أصابه من المرأة " ولفظ البخاري " يغسل ما مس المرأةَ منه " فالمغسول في اللفظ الأول يختلف عن المغسول في اللفظ الثاني، فالمغسول في قوله: "يغسل ما أصابه من المرأة " هو رطوبة فرج المرأة، سواء على العضو أو على البدن أو عليهما. والمغسول في لفظ البخاري " يغسل ما مس المرأة منه " هو ذكره؛ لأنه هو الذي مس المرأة منه. فإن أخذنا بلفظ البخاري: وهو غسل الذكر " فلم ينسخ، لأنه داخل في وجوب غسل البدن. وإن أخذنا لفظ مسلم " يغسل ما أصابه من المرأة " فهل نسخ هذا الحكم أم لا؟ الأولى والله أعلم حمل لفظ مسلم على لفظ البخاري، وأن المقصود من اللفظين غسل الذكر، لا سيما أنه ورد في الصحيحين اللفظ الصريح في ذلك، قال: " في الرجل يأتي أهله ثم لا ينزل، قال: يغسل ذكره ويتوضأ. الدليل الثالث: أن هذه الرطوبة في الفرج، ولا يخلق منه الولد فأشبه المذي (¬1). ¬

(¬1) المغني (1/ 414).

الدليل الرابع

وأجيب: بأنه ليس كل شيء في الفرج لا يخلق منه الولد فهو يشبه المذي، لأن الفرج يطلق على القبل والدبر كما هو معلوم، ومع ذلك هذه الريح في الفرج، ولا يخلق منها الولد، وهي طاهرة. الدليل الرابع: قالوا: إنه عرق متولد من مكان النجاسة (¬1). اعتراض عليه: لا نسلم أن فرجها نجس، لأنه لو كان نجسا لحكمنا بنجاسة منيها لخروجه من الفرج. دليل من قال بطهارتها إن كانت من مباحة الأكل: قاس رطوبة فرجها على بولها، فإذا كان بول ما يؤكل لحمه طاهراً -كما قدمنا في مسألة مستقلة- فرطوبة فرجها تأخذ حكمه، إلا المتغذي على النجاسة فهو في حكم الجلالة عنده، والجلالة بولها نجس عندهم، وقد نوقشت في مسألة مستقلة، أو كان ذلك بعد الحيض، فإنه يتنجس بدم الحيض. دليل من قال: ما أصاب منه في حال الجماع فنجس: لأن حال الجماع مظنة تلوثه بالمذي، فيتنجس لمخالطته النجاسة. والراجح القول بالطهارة من الحيوان الطاهر، لأنه بمنزلة العرق، خاصة من الإنسان ومن الحيوان حلال الأكل، أما الأول فلعدم الدليل المقتضي ¬

(¬1) مغني المحتاج (1/ 81).

للنجاسة كما قدمنا، وأما الثاني فلأن بوله طاهر على الصحيح، فكذلك رطوبة فرجه من باب أولى، ولأن من قال بالنجاسة ليس له دليل يعتمد عليه، والله أعلم.

الفصل السابع في اللبن

الفصل السابع في اللبن المبحث الأول في طهارة لبن الآدمي الحي إن كان لبن المرأة من امرأة مسلمة حال الحياة فهو طاهر بالإجماع، لأن ما جاز تناوله كان ذلك دليلاً على طهارته. وإن كان من امرأة كافرة كان الخلاف فيه مبنياً على طهارة الكافر، فمن رآى أن الكافر طاهر، كان لبن المرأة الكافرة طاهراً، ومن رأى أنه نجس، كان لبن المرأة نجساً، تبعاً لعينه كرأي ابن حزم (¬1)، وقد تقدم الخلاف في عين الكافر، هل هو طاهر أم نجس؟ ورجحنا طهارة عينه، وأن نجاسته نجاسة معنوية. ¬

(¬1) المحلى (مسألة: 139).

المبحث الثاني في طهارة لبن الآدمي الميت

المبحث الثاني في طهارة لبن الآدمي الميت اختلف العلماء في لبن المرأة الميتة، فقيل: إنه نجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: لبنها طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬3)، والمذهب عند الشافعية (¬4). وقد ذكرت أدلة هذه المسألة في باب أحكام الميتة (¬5). ¬

(¬1) الخرشي (1/ 85)، حاشية الدسوقي (1/ 51)، وقال القرطبي في تفسيره (10/ 126): فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان طاهر حياً وميتاً، فهو طاهر، ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. الخ كلامه رحمه الله. (¬2) المجموع (1/ 299، 300). (¬3) قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 182): وأما لبن الآدمي فطاهر مباح مطلقاً، خرج في الحياة أو بعد الموت على المعتمد. اهـ وانظر منح الجليل (1/ 48). (¬4) قال النووي في المجموع (1/ 299، 300): إذا ماتت امرأة وفي ثديها لبن - فإن قلنا ينجس الآدمي بالموت - فاللبن نجس كما في الشاة. وإن قلنا بالمذهب: إن الآدمي لا ينجس بالموت فهذا اللبن طاهر; لأنه في إناء طاهر. اهـ (¬5) في المبحث الخامس من الباب الرابع.

المبحث الثالث في لبن البهيمة المأكولة حال الحياة أو بعد التذكية الشرعية

المبحث الثالث في لبن البهيمة المأكولة حال الحياة أو بعد التذكية الشرعية لا خلاف بين العلماء في طهارة لبنها. قال النووي: الألبان أربعة أقسام: أحدها: لبن مأكول اللحم كالإبل والبقر والغنم والخيل والظباء وغيرها من الصيود وغيرها , وهذا طاهر بنص القرآن والأحاديث الصحيحة والإجماع. اهـ فأما القرآن فلقوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ممن بين فرث ودم لبنا خالصا سائغاً للشاربين} (¬1). قال الكاساني: خرجت الآية مخرج الامتنان، والمنة في موضع النعمة تدل على الطهارة (¬2). (1593 - 121) وقد روى البخاري، من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن. قال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك (¬3). قال الشيرازي: إذا ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذبح شيء من أجزائه, ويجوز الانتفاع بجلده وشعره وعظمه ما لم يكن عليها نجاسة; لأنه جزء طاهر ¬

(¬1) النحل: 66. (¬2) بدائع الصنائع (1/ 63). (¬3) صحيح البخاري (4709)، ومسلم (168).

من حيوان طاهر مأكول، فجاز الانتفاع به بعد الذكاة كاللحم. قال النووي في شرح هذه العبارة: هذا الذي ذكره متفق عليه , وقوله: "من حيوان مأكول " احتراز من أجزاء غير المأكول، فإنه لا يجوز الانتفاع بها بمجرد الذكاة (¬1). قلت: ومن ذلك اللبن، فإنه طاهر بعد التذكية، كما أنه طاهر قبلها. والله أعلم. ¬

(¬1) المجموع (1/ 301).

المبحث الرابع في لبن البهيمة المأكولة الميتة

المبحث الرابع في لبن البهيمة المأكولة الميتة اختلف أهل العلم في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم، فقيل: إنه طاهر، وهذا قول أبي حنيفة (¬1)، ورواية عن الإمام أحمد (¬2)، واختيار داود الظاهري (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). وقيل: نجس، اختاره أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬5)، وهو مذهب المالكية (¬6)، والشافعية (¬7)،والمشهور من مذهب الحنابلة (¬8). وانظر أدلة كل قول في الباب الرابع في أحكام الميتة (¬9). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 96)، و (3/ 455)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 168)، المبسوط (24/ 27)، تبيين الحقائق (1/ 26). (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 102، 103). (¬3) المغني (1/ 57)، الفروع (1/ 107)، الإنصاف (1/ 92). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 103)، الفتاوى الكبرى (1/ 171). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 63)، شرح فتح القدير (1/ 96، 97). (¬6) قال ابن عبد البر في الكافي (ص: 188): " ولا تؤكل بيضة أخرجت من دجاجة ميتة، وكذلك لبن الميتة؛ لأنه في ظرف نجس؛ لأنه يموت بموت الشاة. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/ 50)، (¬7) قال الشيرازي (1/ 299، 300): وأما اللبن في ضرع الشاة الميتة فهو نجس ; لأنه ملاق للنجاسة فهو كاللبن في إناء نجس. اهـ قال النووي شارحاً هذه العبارة: أما مسألة اللبن فهو نجس عندنا بلا خلاف, هذا حكم لبن الشاة وغيرها من الحيوان الذي ينجس بالموت. اهـ (¬8) الفروع (1/ 107)، المغني (1/ 57)، الإنصاف (1/ 92)، الإقناع. (¬9) المبحث الخامس: الفرع الثاني.

الفصل الثامن في القيح والصديد

الفصل الثامن في القيح والصديد إن خرج القيح والصديد من الحيوان حالة كونه نجساً فهي نجسة، سواء كان نجساً حياً وميتاً، أو كان نجساً ميتاً، وخرجت منه في هذه الحالة. وإن خرج القيح والصديد من حيوان حال طهارته، فهل تكون هذه الأشياء طاهرة بناء على طهارة الحيوان، أو تكون نجسة؟ هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم. فقيل: إنها نجسة، وهو رأي الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: إنها طاهرة، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2)، رجحه ابن حزم (¬3)، واختاره الشوكاني (¬4). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 60)، المبسوط (1/ 76)، العناية شرح الهداية (1/ 38، 39). وفي مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/ 105)، القوانين الفقهية (ص: 27). وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/ 577)، روضة الطالبين (1/ 18). وفي مذهب الحنابلة: الفتاوى الكبرى (5/ 313)، الفروع (1/ 253)، الإنصاف (1/ 328). (¬2) الفروع (1/ 253)، الإنصاف (1/ 328). (¬3) المحلى مسألة: 139 (1/ 181). (¬4) السيل الجرار (1/ 43).

دليل الجمهور على نجاسة القيح والصديد

دليل الجمهور على نجاسة القيح والصديد: هذا القول مبني على القول بنجاسة الدم، وأن القيح والصديد أصلهما دمان استحالا إلى نتن وفساد، فيكون لهما حكم أصلهما. وقد ساق النووي الإجماع على نجاسة القيح، فقال: القيح نجس بلا خلاف، وكذا ماء القروح المتغير نجس بالاتفاق (¬1). والخلاف محفوظ كما قدمنا في عرض الأقوال في طهارة القيح، وأنه قول في مذهب الحنابلة، رجحه ابن حزم. دليل من قال بطهارة القيح والصديد: الدليل الأول: الأصل في الأعيان الطهارة، ولا نحكم بنجاسة شيء حتى يقوم دليل من الشرع صحيح صريح على النجاسة، ولا يوجد دليل على نجاسة القيح والصديد. الدليل الثاني: إذا كان الحيوان طاهراً، كان بعضه طاهراً كذلك، ومنه القيح والصديد، الدليل الثالث: القياس على نجاسة الدم أو لكونه استحال إلى نتن وفساد غير مسلم من ثلاثة وجوه: الأول: أن الدم طاهر على الصحيح، وإذا كان الأصل طاهراً كان الفرع طاهراً كذلك. ¬

(¬1) المجموع (2/ 577).

الوجه الثاني: أن القيح والصديد ليسا بمنزلة الدم حتى عند القائلين بالنجاسة، قال ابن قدامة: القيح والصديد كالدم فيما ذكرناه، وأسهل وأخف منه حكماً عند أبي عبد الله لوقوع الاختلاف فيه، فإنه روي عن ابن عمر والحسن أنهم لم يروا القيح والصديد كالدم، وقال أبو مجلز في الصديد لا شيء فيه، إنما ذكر الله الدم المسفوح (¬1). الوجه الثالث: القول بأنهما استحالا إلى نتن وفساد غير كاف للحكم بالنجاسة، فهذا الطعام واللحم إذا ترك قد يلحقه نتن وفساد، ولا يحكم عليه بالنجاسة. الراجح القول بطهارة القيح والصديد، لعدم وجود دليل صحيح يقتضي نجاسة هذه الأشياء، فتبقى على الأصل، وهو الطهارة حتى يثبت الدليل على نجاستها، والله أعلم. ¬

(¬1) المغني (1/ 120). وأثر أبي مجلز رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 110) رقم 1252، عن وكيع، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز أنه كان لا يرى القيح شيئاً، قال: إنما ذكر الله الدم. وسنده صحيح.

الفصل التاسع في بيض الحيوان

الفصل التاسع في بيض الحيوان المبحث الأول في بيض مأكول اللحم إن خرج البيض من حيوان مأكول في حال حياته, أو بعد تذكيته شرعاً, أو بعد موته, وهو مما لا يحتاج إلى التذكية كالسمك, فبيضه طاهر مأكول إجماعاً, إلا إذا فسد، وسوف يأتي معنى الفساد في البيض في بحث مستقل إن شاء الله تعالى. نقل الإجماع على ذلك النووي رحمه الله تعالى، حيث قال: البيض من مأكول اللحم طاهر بالإجماع (¬1). وإذا انفصلت البيضة من حيوان مأكول بعد موته دون تذكية شرعية، وهو مما يحتاج إلى التذكية، وكانت البيضة لم تتغير، فاختلف العلماء فيها: فقيل: إنها طاهرة مطلقاً، سواء صلب قشرها أم لا، وهو مذهب الحنفية (¬2)، واختاره بعض الشافعية (¬3)، وابن عقيل من الحنابلة (¬4). ¬

(¬1) المجموع (2/ 574). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 76، 77)، تبيين الحقائق (1/ 26، 27)، (¬3) المجموع (1/ 300). (¬4) الإنصاف (1/ 94)، وقال في المستوعب (1/ 333): وما جمد، ولم يصلب قشره =

وقيل: إنها نجسة مطلقاً سواء صلب قشرها أم لا، وهذا مذهب المالكية (¬1). وقيل: إن صلب قشرها فهي طاهرة، وإلا كانت نجسة، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره ابن حزم (¬4). وانظر أدلة كل قول في الباب الرابع من أحكام الميتة (¬5). ¬

= في طهارته وجهان. اهـ (¬1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 50)، مواهب الجليل (1/ 93)، التاج والإكليل (1/ 132)، الخرشي (1/ 85). (¬2) المجموع (1/ 300). (¬3) قال في المستوعب (1/ 333): وما صلب قشره من بيضها طاهر قولاً واحداً. اهـ وقال في الإنصاف (1/ 94): إذا صلب قشر بيضة الميتة من الطير المأكول, فباطنها طاهر بلا نزاع ونص عليه, وإن لم يصلب فهو نجس على الصحيح من المذهب. وعليه أكثر الأصحاب. اهـ وانظر المغني (1/ 57، 58)، شرح منتهى الإرادات (1/ 32). (¬4) المحلى، مسألة: 1010 (6/ 95). (¬5) الباب الرابع: المبحث السادس: في بيض الحيوان الميت.

المبحث الثاني بيض غير مأكول اللحم

المبحث الثاني بيض غير مأكول اللحم اختلف العلماء في البيض غير مأكول اللحم، فقيل: إنه طاهر، وهو مذهب المالكية (¬1)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: إنه نجس، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: إن بيضه تبع لأصله، فإن كان أصله طاهراً كان بيضه طاهراً، وإن كان أصله نجساً كان بيضه كذلك (¬5). ¬

(¬1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 43)، مواهب الجليل (1/ 93)، وقد أشار إلى خلاف في المذهب، فقد اختار بعضهم أن بيض الطير طاهر، وبيض السباع والحشرات تبع للحومها، ورجح المصنف الطهارة مطلقاً. (¬2) قال النووي في المجموع (2/ 574): البيض من مأكول اللحم طاهر بالإجماع , ومن غيره فيه وجهان كمنيه، والأصح الطهارة. اهـ وانظر الأشباه والنظائر (ص: 448)، مغني المحتاج (4/ 306). (¬3) مغني المحتاج (4/ 306)، إعانة الطالبين (2/ 352). (¬4) كشاف القناع (1/ 195). (¬5) استفدت هذا من كلام ابن قدامة في حكم بيع بيض ما لا يؤكل لحمه، حيث يقول في المغني (4/ 175): أما بيض ما لا يؤكل لحمه من الطير, فإن كان مما لا نفع فيه, لم يجز بيعه , طاهراً كان أو نجساً. وإن كان ينتفع به, بأن يصير فرخاً, وكان طاهراً, جاز بيعه; لأنه طاهر منتفع به; أشبه أصله, وإن كان نجساً, كبيض البازي, والصقر, ونحوه, فحكمه حكم فرخه. وقال القاضي: لا يجوز بيعه; لأنه نجس, لا ينتفع به في الحال. وهذا ملغى بفرخه, وبالجحش الصغير. اهـ

دليل من قال بالطهارة

دليل من قال بالطهارة: ذهب إلى عدم الدليل المقتضي للنجاسة، والأصل في الأعيان الطهارة، وفرق بين الطهارة وبين إباحة الأكل، فليس كل محرم الأكل يكون نجساً، وإن كان كل نجس محرم الأكل، ومن ادعى نجاسة شيء فعليه الدليل. دليل من قال بالنجاسة: قال: ما دام أن لحمه محرم الأكل، فكذلك ما نتج منه، كاللبن والبيض ونحوهما، وتحريم الأكل من غير ضرر أو تكريم دليل على النجاسة. دليل من قال: إن البيض تبع لأصله: هذا القول قاس البيض على الحيوان، فإن كانت من حيوان نجس، كان بيضه نجساً، وإن كانت من حيوان طاهر كان بيضه طاهراً قياساً على أصله. والذي يبدو أن القول بقياس البيض على أصله قول فيه قوة، جرياً على قاعدة: التابع تابع، ولأن البيض مستخلص من الحيوان، فهو جزء منه، فيكون حكمه تبعاً لأصله، والله أعلم.

المبحث الثالث في البيض الفاسد

المبحث الثالث في البيض الفاسد البيض تارة يتغير بعفن، وتارة يصير دماً. فإن تغير بعفن، فقيل: إنه طاهر، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: نجس، وهو مذهب المالكية (¬2). وإن تغير بأن صارت البيضة دماً، فقيل: إنها نجسة، وهو مذهب الجمهور (¬3). وقيل: إنها طاهرة، إذا قال أهل المعرفة: إنها صالحة للتخلق، وهذا مذهب الشافعية (¬4)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬5). ¬

(¬1) مغني المحتاج (4/ 305)، حواشي الشرواني (9/ 388)، المجموع (2/ 575)، الفروع (1/ 79، 218)، الإنصاف (1/ 328)، كشاف القناع (1/ 191)، الموسوعة الكويتية (8/ 267). (¬2) منح الجليل (1/ 47)، مواهب الجليل (1/ 93)، الشرح الصغير (1/ 44)، حاشية الدسوقي (1/ 50). (¬3) انظر في مذهب الحنفية: العناية شرح الهداية (1/ 84)، وفي مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/ 93)، الشرح الصغير (1/ 44). وفي مذهب الحنابلة: الفروع (1/ 218)، الإنصاف (1/ 328)، كشاف القناع (1/ 191)، شرح العمدة (1/ 130). (¬4) قال في إعانة الطالبين (1/ 84): ولو استحالت البيضة دماً، وصلح للتخلق فطاهرة، وإلا فلا. وقال أيضاً: ولو استحالت البيضة دماً فهي طاهرة على ما صححه المصنف في تنقيحه، وصحح في شروط الصلاة منه، وفي التحقيق وغيره أنها نجسة. اهـ وانظر الإقناع للشربيني (1/ 89)، حواشي الشرواني (1/ 298)، مغني المحتاج (1/ 80)، تحفة المحتاج (1/ 298). (¬5) الفروع مع تصحيح الفروع (1/ 218)، الإنصاف (1/ 328)، وهذا الوجه عند الحنابلة لم يشترطوا فيه صلاحيتها للتخلق كما شرطه الشافعية.

دليل الجمهور

دليل الجمهور: أن الدم المسفوح نجس، وهذا منه، ولذلك نص المالكية لو أن الدم مجرد نقطة لم تنجس البيضة؛ لأن النقطة ليس من الدم المسفوح، فيفهم منه: أنه إذا كان أكثر من ذلك كان نجساً. ودليل من قال بالطهارة: قال: إن هذا التغير من جنس اللحم إذا تغيرت رائحته، فلا يحكم له بالنجاسة، وهذا أقرب القولين، والله أعلم.

المبحث الرابع سلق البيض بماء نجس

المبحث الرابع سلق البيض بماء نجس إذا سلق البيض بماء نجس، فقيل: لا يضره، وهذا مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يحل أكله، وهو مذهب المالكية (¬2). دليل الجمهور: قالوا: إذا سلق البيض بالماء النجس، فإنه بمنزلة الماء المسخن بالنجاسة، فإذا كان ذلك لا يضر الماء، فكذلك لا يضر البيض. ودليل المالكية: إن البيض يتأثر بالماء، ويتعذر تطهيره منه، لسريان الماء النجس في مسامه. الراجح من القولين: ينبني على ما إذا كان لقشرة البيض مسام أو لا، فإن ثبت أن لها مساماً فلا شك في نجاسة البيض حينئذ، لمخالطة ما بداخلها للنجاسة، وإن لم يثبت لها مسام كما هو الظاهر فليست نجسة، وذلك لأن السائل الذي بداخلها قد تجمد بفعل الحرارة، فلم تصل إليه النجاسة، والله أعلم. ¬

(¬1) روضة الطالبين (3/ 279)، مغني المحتاج (4/ 305)، المجموع (9/ 32)، شرح العمدة (1/ 130). (¬2) التاج والإكليل (1/ 113)، مواهب الجليل (1/ 115)، الدسوقي (1/ 60).

الباب الثالث: في الآسار

الباب الثالث: في الآسار الفصل الأول في سؤر الآدمي ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم إلى طهارة سؤر الآدمي مطلقاً، سواء كان محدثاً أم غير محدث، وسواء كان رجلاً أم امرأة، واستثنى بعضهم سؤر الآدمي حال شرب الخمر، أما لو مكث قدر ما يغسل فمه بلعابه، فلا بأس بسؤره (¬1)، واشترط ابن حزم في طهارة سؤر الآدمي الكافر عدم ظهور أثر لعاب ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (1/ 108)، المبسوط (1/ 47)، الهداية شرح البداية (1/ 23)، تبيين الحقائق (1/ 31)، بدائع الصنائع (1/ 63)، البحر الرائق (1/ 133). وانظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/ 45)، وقال في التاج والإكليل (1/ 52): ولا بأس بسؤر الحائض والجنب، وما فضل عنهما من وضوء أو غسل، لا بأس بشربه وبالوضوء منه. اهـ وانظر الشرح الكبير (1/ 34، 35)، مواهب الجليل (1/ 52). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/ 225) وقد ذهب إلى طهارة سؤر جميع الحيوانات المأكول منها وغير المأكول عدا الكلب والخنزير وما تولد منهما. وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/ 245)، الكافي (1/ 13)، الفروع (1/ 264)، كشاف القناع (1/ 193).

الأدلة على طهارة سؤر الآدمي

الكافر فيه، فإن ظهر تنجس السؤر؛ لأنه يرى نجاسة بدن الكافر وقد ذكرنا أدلته في مسألة مستقلة. الأدلة على طهارة سؤر الآدمي: الدليل الأول: عدم الدليل على نجاسة سؤر الآدمي، والأصل في الأشياء الطهارة. الدليل الثاني: إذا كان بدن الآدمي طاهراً، فكذلك سؤره؛ لأن سوره متحلب من بدنه، وقد تقدم ذكر الأدلة على أن بدن الآدمي طاهر في فصل مستقل. الدليل الثالث: (1594 - 122) ما رواه البخاري، من طريق الزهري، قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه، أنها حُلِبَت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاةٌ داجن، وهي في دار أنس بن مالك، وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدح، فشرب منه حتى إذا نزع القدح من فيه، وعلى يساره أبو بكر وعن يمينه أعرابي فقال عمر - وخاف أن يعطيه الأعرابي- أعط أبا بكر يا رسول الله عندك، فأعطاه الأعرابي الذي على يمينه ثم قال: الأيمن فالأيمن. ورواه مسلم بنحوه (¬1). فإن قيل: هذا سؤر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس سؤره كسؤر غيره، قيل: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: الأيمن فالأيمن دليل على طهارة السؤر، ولو من غيره - صلى الله عليه وسلم -، ثم إن الأصل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كغيره في الطهارة والنجاسة على الصحيح. ¬

(¬1) صحيح البخاري (2352)، ومسلم (3783).

وأصرح منه ما رواه البخاري، قال: حدثني أبو نعيم بنحو من نصف هذا الحديث، حدثنا عمر بن ذر، حدثنا مجاهد، أن أبا هريرة كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: الحق، ومضى، فتبعته فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة. قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم، فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي

الدليل على طهارة سؤر المحدث

القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح، فوضعه على يده فنظر إلي، فتبسم، فقال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت. قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد، فاشرب، فقعدت، فشربت فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً. قال: فأرني فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى، وشرب الفضلة (¬1). وجه الشاهد من الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم شرب بعضهم من سؤر بعض، ولو كان سؤر الآدمي نجساً لم يتناوله، ولم يشرب منه - صلى الله عليه وسلم -. وأما الدليل على طهارة سؤر المحدث: (1595 - 123) فهو ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير ابن حرب، قالا: حدثنا وكيع، عن مسعر وسفيان، عن المقدام بن شريح عن أبيه، عن عائشة، قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيِّ فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيّ. ولم يذكر زهير فيشرب (¬2). قال القرطبي: قولها: " أتعرق العرْق ": أي العظم الذي عليه اللحم، ¬

(¬1) صحيح البخاري (6451). (¬2) صحيح مسلم (300).

وجمعه عراق، وأتعرقه: آكل ما عليه من اللحم، وهذه الأحاديث متفقة الدلالة على أن الحائض لا ينجس منها شيء، ولا يجتنب إلا موضع الأذى منها فحسب" (¬1). وأما طهارة سؤر الكافر، فقد أباح الله لنا نكاح نساء أهل الكتاب، ومعاشرة الرجل للمرأة يقتضي منه أن يخالط ريقه ريقها، وأن يمس بدنه بدنها، وكذلك أباح الله لنا طعام أهل الكتاب، وقد ذبحوه في أيديهم، وطبخوه في آنيتهم، فإذا كانت أبدانهم طاهرة فكذلك سؤرهم، وقد سبق في فصل مستقل طهارة أبدان الكفار في أول الكتاب. ¬

(¬1) المفهم (1/ 559).

الفصل الثاني في طهارة سؤر الحيوان المأكول اللحم

الفصل الثاني في طهارة سؤر الحيوان المأكول اللحم ذهب الأئمة الأربعة إلى طهارة سؤر ما يؤكل لحمه (¬1). واستدلوا: الدليل الأول: الإجماع، فقد أجمع الفقهاء على طهارة سؤر ما يؤكل لحمه (¬2). الدليل الثاني: أن لعاب الحيوان متحلب من لحمه، ولحمه طاهر فيكون سؤره طاهراً أيضاً، لأن ملاقاة الطاهر للطاهر لا توجب تنجيسه. ¬

(¬1) المبسوط (1/ 47، 48)، تبيين الحقائق (1/ 31)، شرح فتح القدير (1/ 108)، مواهب الجليل (1/ 51،52)، الخرشي (1/ 65)، المجموع (1/ 225)، المغني (1/ 45)، المحلى، مسألة: 133 (1/ 136). (¬2) المغني (1/ 45).

الفصل الثالث في طهارة سؤر الحيوان غير مأكول اللحم

الفصل الثالث في طهارة سؤر الحيوان غير مأكول اللحم اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافاً كثيراً، ولم يطردوا القول في الحيوانات غير المأكولة لاختلافهم في طهارتها، وذلك لأن الحيوانات غير المأكولة منها ما هو طاهر في الحياة، ومنها ما هو نجس متفق على نجاسته، ومنها ما هو مختلف في نجاسته، ولذلك سوف نعرض لذكر هذه الحيوانات على سبيل التفصيل، ويمكن لنا أن نقسم الحيوانات غير المأكولة إلى أقسام عدة، منها: - سؤر الهرة. وسؤر الحمار والبغل. وسؤر سباع البهائم والطير. وسؤر الخنزير. وسؤر الكلب، هذه أهم التقسيمات للحيوانات غير المأكولة.

المبحث الأول في سؤر الهرة وما دونها في الخلقة

المبحث الأول في سؤر الهرة وما دونها في الخلقة. ذهب الحنفية إلى أن سؤر الهرة وحشرات البيوت كالفأرة والحية طهور مكروه (¬1). وذهب الأئمة الثلاثة إلى طهارة سؤرها بلا كراهة (¬2). وقيل: يغسل الإناء من ولوغ الهرة، قال به أبو هريرة (¬3)، وسعيد بن ¬

(¬1) قال في المبسوط (1/ 50): فأما سؤر حشرات البيت كالفأرة, والحية, ونحوهما في القياس فنجس; لأنها تشرب بلسانها, ولسانها رطب من لعابها, ولعابها يتحلب من لحمها, ولحمها حرام, ولكنه استحسن فقال: طاهر مكروه; لأن البلوى التي وقعت الإشارة إليها في الهرة موجودة هنا، فإنها تسكن البيوت, ولا يمكن صون الأواني عنها. اهـ وانظر البناية (1/ 444) شرح معاني الآثار (1/ 19)، إعلاء السنن للتهانوي (1/ 288)، مرقاة المفاتيح (2/ 61) شرح المشكاة للطيبي (2/ 108). (¬2) انظر في مذهب المالكية: الاستذكار (2/ 112)، البيان والتحصيل (1/ 44)، التمهيد (3/ 18)، عارضة الأحوذي لابن العربي (1/ 137). وانظر في مذهب الشافعية: الوسيط للغزالي (1/ 341)، الأوسط (1/ 277)، روضة الطالبين (1/ 143). وانظر في مذهب الحنابلة: المبدع (1/ 257)، الإنصاف (1/ 243)، تنقيح التحقيق (1/ 267)، شرح الزركشي (1/ 139). (¬3) رواه أبو داود (72) عنه بسند صحيح. وقد جاء عن أبي هريرة خلافه، فعلى هذا يكون لأبي هريرة قولان في المسألة. فقد أخرجه أبو عبيد في الطهور (222) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (1/ 302) قال: نا علي بن معبد، عن أبي المليح: الحسن بن عمرو الفزاري، عن ميمون بن مهران، أنه سئل عن سؤر السنور؟ فقال: إن أبا هريرة كان لا يرى بأساً، وربما كفى له الإناء، وقال: إنما هو من أهل البيت. وهذا سند صحيح أيضاً.

دليل من قال: يكره سؤر الهرة

المسيب (¬1)، ومحمد بن سيرين (¬2)، وعطاء (¬3)، وقتادة (¬4)، والحسن (¬5) رضي الله عنهم جميعاً. دليل من قال: يكره سؤر الهرة: يرى الحنفية أن الهرة عينها نجسة، لكن سقطت نجاسة سؤرها لعلة التطواف، وبقيت الكراهة لإمكان التحرز منه. دليل من قال بطهارة سؤرها: (1596 - 124) ما وراه مالك، عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها: ¬

(¬1) روى ابن أبي شيبة (1/ 38) رقم 344 من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: يغسل مرتين. وروى عبد الرزاق (345) عن معمر، عن قتادة، قال: سألت ابن المسيب عن الهر يلغ في الإناء؟ قال: يغسل مرة أو مرتين. (¬2) روى ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 38) رقم: 340 من طريق أيوب، عن محمد في الإناء يلغ فيه الهر، قال: يغسل مرة. وسنده صحيح. (¬3) روى عبد الرزاق في المصنف (342) عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: الهر؟ قال: هو بمنزلة الكلب، أو شر منه. وسنده صحيح. وروى ابن أبي شيبة (1/ 38) رقم: 342 عن الحسن بن علي، قال: سمعت عطاء يقول في الهر يلغ في الإناء: يغسله سبع مرات. (¬4) روى ابن أبي شيبة (1/ 38) رقم 345 حدثنا غندر، عن هشام، عن قتادة، قال: يغسل مرتين أو ثلاثاً. وسنده صحيح. (¬5) روى ابن أبي شيبة (1/ 38) رقم: 341 حدثنا معتمر، عن يونس، عن الحسن أنه سئل عن الإناء يلغ فيه السنور، قال: يغسل.

دليل من قال: يغسل الإناء من ولوغ الهر

أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثاني: (1597 - 125) ما رواه إسحاق بن راهوية في مسنده (¬3)، قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، نا داود بن صالح التمار، عن أمه، عن عائشة أنها قالت في الهرة: إنما هي من الطوافين عليكم، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها. [إسناده ضعيف، واختلف في وقفه ورفعه] (¬4). دليل من قال: يغسل الإناء من ولوغ الهر: (1598 - 126) ما رواه الترمذي في سننه، قال: حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب يحدث، عن محمد ابن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتراب وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة. ¬

(¬1) الموطأ (1/ 44). (¬2) سبق تخريجه، انظر رقم: 1507 من هذا الكتاب. (¬3) المسند (2/ 458، 436) ح 460. (¬4) سبق تخريجه، انظر رقم (1507) فقد ذكرت تخريجه ضمن شواهده.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولم يذكر فيه إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة (¬1). [المحفوظ أن الأمر بغسل الإناء من ولوغ الهر موقوف على أبي هريرة] (¬2). الدليل الثاني: (1599 - 127) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، قال: ثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين. قرة شك (¬3). [أخطأ فيه أبو عاصم في رفعه، والمحفوظ في رواية قرة كونه موقوفاً على أبي هريرة] (¬4) الدليل الثالث: (1600 - 128) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عيسى ابن المسيب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الهر سبع (¬5). [إسناده ضعيف] (¬6). ¬

(¬1) سنن الترمذي (91). (¬2) سبق تخريجه، انظر رقم: 1504. (¬3) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 19). (¬4) سبق تخريجه، انظر رقم: 1505. (¬5) المسند (2/ 442). (¬6) سبق تخريجه انظر رقم: 1506.

الراجح

وإذا كان الهر سبعاً، فإن غسل الإناء منه واجب. الراجح: إذا كنا قد رجحنا طهارة عين الهرة، كما في الكلام على ذوات الحيوان، فإننا نطهر سؤره كذلك، وحديث أبي قتادة نص في الموضوع في المسألتين: في طهارة عينه، وفي طهارة سؤره، حيث قال: إنها ليست بنجس، فنفى النجاسة عن ذاتها وجعله ذلك علة في الوضوء من سؤرها.

المبحث الثاني في طهارة سؤر البغل والحمار

المبحث الثاني في طهارة سؤر البغل والحمار اختلف العلماء في طهارة سؤر الحمار والبغل، فقيل: مشكوك فيه، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وبناء عليه يكون استعمال سؤرهما مكروهاً. وقيل: سؤرهما طاهر، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: نجس، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). وهذه الأقوال مبنية على اختلاف الفقهاء في ذواتهما، فمن ذهب إلى نجاسة عين الحمار والبغل ذهب إلى نجاسة سؤره، ومن رأى طهارتهما في حال الحياة ذهب إلى طهارة سؤرهما، ومن توقف في أعيانهما كالحنفية لاختلاف الأدلة رأى أن سؤرهما مشكوك فيه، وقد ذكرنا أدلة كل فريق في هذه المسألة - أعني الخلاف في ذواتهما - وذكرنا الراجح فيما سبق، فلا داعي لإعادته في هذا الباب. ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 65)، تبيين الحقائق (1/ 34)، الجوهرة النيرة (1/ 25)، البحر الرائق (1/ 140)، الفتاوى الهندية (1/ 24). (¬2) المنتقى للباجي (1/ 63)، مواهب الجليل (1/ 51). (¬3) المجموع (2/ 607). (¬4) الإنصاف (1/ 342)، الفروع (1/ 256)، كشاف القناع (1/ 192). (¬5) الإنصاف (1/ 342).

ويزاد على ما لم يذكر هناك ما نذكره هنا في مناقشة الحنفية في ذهابهم إلى أنه مشكوك فيه. فالقول بأن هناك شيئاً من أحكام الشريعة مشكوكاً فيه غير صحيح، ولا يجوز القول به ولا اعتقاده؛ لأن الشك إنما هو أمر عارض يعتري المجتهد عند تعارض الأدلة، وما يكون مشكوكاً فيه عند مجتهد لا يكون مشكوكاً فيه عند آخر؛ لأن الشك في الشيء هو عجز عن الوصول إلى الحكم الشرعي قطعياً كان أو ظنياً، والتوقف وإن صح أن يكون من آحاد المجتهدين لقصور أو تقصير، لكن لا يصح كونه مذهباً يدعى إليه وإلى تبنيه من أتباع المذهب الحنفي، بل يجب على غيرهم من علماء المذهب الحنفي الاجتهاد في الوصول إلى الحكم الشرعي، واختلاف الصحابة في شيء لا يوجب الشك في طهارة الشيء، فليس كل ما اختلف فيه الصحابة يكون حكمه مشكوكاً فيه، وإلا أدى الأمر إلى الشك في كثير من الأحكام الشرعية؛ لأن الأمور التي اختلف فيها الصحابة أكثر من الأمور التي اتفقوا عليها، بل يجب النظر في خلافهم، والأخذ بما هو أقرب إلى الكتاب والسنة وقواعد الشرع. ثم إن الأحكام الشرعية جميعها قد بينها الله سبحانه وتعالى بياناً واضحاً، كما قال تعالى: {وأنرلنا إليك الكتاب تبياناً لكل شيء} ولكن هذا البيان لم يعلمه كل أحد، والخلاف إنما هو ناشئ عن اختلاف الأفهام، فالقصور والتقصير إنما هو من قبل البشر، لا من قبل التشريع قطعاً.

المبحث الثالث في سؤر سباع البهائم والطير

المبحث الثالث في سؤر سباع البهائم والطير اختلف العلماء في سؤر سباع البهائم والطير، فقيل: سؤر سباع الطير طاهر، وسؤر سباع البهائم نجس، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: سؤرهما طاهر، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: سؤرهما نجس، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وهذا الخلاف راجع إلى الخلاف في أعيانها هل هي طاهرة أم نجسة، وقد ذكرنا أدلة كل قول في مسألة مستقلة، إلا أن هنا كلاماً يزاد على ما ذكر، وهو وجه التفريق عند الحنفية بين سباع الطير، وبين سباع البهائم، مع أن ذواتها نجسة عندهم، قالوا في وجه التفريق: إن القياس نجاسة سؤرها على نجاسة لحمها، ولكن ترك هذا القياس للاستحسان، وذلك أن سباع الطير تشرب بمنقارها، وهو عظم جاف، بخلاف سباع البهائم التي تشرب بلسانها، والذي يكون فيه رطوبة من لعابها، وهو نجس، وسباع الطير تنقض من علو لتشرب من الأواني، وفي الحكم بتنجيس آسارها حرج شديد، والحرج مرفوع عن هذه الأمة، والله أعلم. ¬

(¬1) المبسوط (1/ 51، 52)، بدائع الصنائع (1/ 64، 65)، تبيين الحقائق (1/ 33). (¬2) المنتقى للباجي (1/ 62)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 443)، حاشية الدسوقي (1/ 44) وعبر بعضهم بكراهة سؤر ما لا يتوقى النجاسة منها إلا أن يشق الاحتراز منه فلا كراهة. (¬3) المجموع (1/ 223). (¬4) كشاف القناع (1/ 192)، الإنصاف (1/ 329).

الراجح: قد سبق فيما مضى ترجيح أن أعيان السباع نجسة، ولكن هذا لا يكفي للحكم بنجاسة سؤرها؛ لأن نجاسة سؤرها مبني على مسألة أخرى، وهي إذا وقعت نجاسة في الماء، فهل ينجس بمجرد وقوع النجاسة، أو يشترط للحكم بالنجاسة أن يتغير أحد أوصاف الماء: طعمه أو لونه أو ريحه؟. فالعلماء متفقون على أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فإنه طهور، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن الهمام من الحنفية (¬1)، وابن رشد، من المالكية (¬2)، وابن المنذر من الشافعية (¬3)، وعبد الرحمن بن قدامة من الحنابلة (¬4). وطوائف من العلماء، منهم: الطبري (¬5)، وابن حزم (¬6)، وابن تيمية (¬7)، ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 77،78)، وانظر البناية (1/ 319)، البحر الرائق (1/ 94). (¬2) مواهب الجليل (1/ 53)، ونقل الإجماع كذلك ابن عبد البر كما في التمهيد (9/ 108)، وقال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد (1/ 245): " واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه، وأنه طاهر ". وقال الحطاب في مواهب الجليل (1/ 53): الماء الكثير إذا خالطه شيء نجس، ولم يغيره، فإنه باق على طهوريته. اهـ وانظر الخرشي (1/ 77). (¬3) الإجماع (ص: 33)، وانظر الأوسط (1/ 261). (¬4) الشرح الكبير (1/ 13). (¬5) تهذيب الآثار (2/ 219،233). (¬6) مراتب الإجماع (ص: 17). (¬7) نقد مراتب الإجماع (ص: 17).

وابن قدامة (¬1)، وابن دقيق العيد (¬2)، والزركشي (¬3)، وابن رجب (¬4)، والعراقي في طرح التثريب (¬5)، وابن عبد الهادي (¬6)، والشوكاني (¬7)، وغيرهم. واتفقوا كذلك على أن الماء إذا تغير بالنجاسة فإنه ينجس مطلقاً كثيراً كان أو قليلاً. وممن نقل الإجماع على ذلك الطحاوي (¬8)، وابن نجيم (¬9) من الحنفية. وأبو الوليد ابن رشد من المالكية (¬10). وقال الشافعي رحمه الله: وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه، أو لونه، كان نجساً، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يثبت مثله أهل الحديث، ¬

(¬1) المغني (1/ 39). (¬2) إحكام الأحكام (1/ 22،23). (¬3) شرح الزركشي (1/ 134،134). (¬4) القواعد (29). (¬5) طرح التثريب (1/ 36). (¬6) مغني ذوي الأفهام (ص: 42). (¬7) نيل الأوطار (1/ 45). (¬8) شرح معاني الآثار (1/ 12)، ونقل الإجماع العيني كما في البناية (1/ 130)، وابن الهمام كما في شرح فتح القدير (1/ 77)، وغيرهما. (¬9) البحر الرائق (1/ 74). (¬10) مواهب الجليل (1/ 53،60)، وانظر مقدمات ابن رشد (1/ 57)، والمنتقى للباجي (1/ 56، 59)، وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي (1/ 223): فإن تغير الماء لم يطهر إجماعاً. وانظر البيان والتحصيل (1/ 42،60،134)، القوانين الفقهية (32).

وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه اختلافاً (¬1)، ونقله النووي أيضاً (¬2). وقال ابن تيمية: إذا وقع في الماء نجاسة، فغيرته، تنجس اتفاقاً (¬3). وقد نقل الإجماع طوائف من العلماء منهم: ابن عبد البر (¬4)، وأبو العباس بن سريج (¬5)، وابن جرير الطبري (¬6)، وابن المنذر (¬7)، وابن حبان (¬8)، والقاضي عياض (¬9)، وابن القطان الفاسي (¬10)، وابن ¬

(¬1) الأم (1/ 13). (¬2) المجموع (1/ 131)، وقد نقل الإجماع مجموعة من الشافعية، منهم الماوردي في الحاوي (1/ 325)، والعراقي في طرح التثريب (2/ 32،35)، 33)، شرح المنهج (1/ 41)، الغرر البهية (1/ 34). (¬3) مختصر الفتاوى المصرية (ص: 18). (¬4) التميهد (18/ 235،236)، (19/ 16)، والاستذكار (1/ 211). (¬5) الودائع لنصوص الشرائع (1/ 93). (¬6) تهذيب الآثار (2/ 213،216). (¬7) الأوسط (1/ 260)، والإجماع (ص: 33). (¬8) قال ابن حبان في صحيحه (4/ 59): قوله صلى الله عليه وسلم: الماء لا ينجسه شيء، لفظة أطلقت على العموم، تستعمل في بعض الأحوال، وهو المياه الكثيرة التي لا تحتمل النجاسة فتظهر فيها، وتخص هذه اللفظة التي أطلقت على العموم ورود سنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، ويخص هذين الخبرين الإجماع على أن الماء قليلاً كان أو كثيراً فغير طعمه أو لونه أو ريحه نجاسة وقعت فيها أن ذلك الماء نجس بهذا الإجماع الذي يخص عموم تلك اللفظة المطلقة التي ذكرناها. اهـ (¬9) مواهب الجليل (1/ 60). (¬10) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني (1/ 49).

الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره

دقيق العيد (¬1)، وابن الفاكهاني (¬2)، وابن الملقن (¬3)، وابن مفلح (¬4)، وغيرهم (¬5). ومن النظر: أن الله سبحانه وتعالى حرم استعمال النجاسة، والماء المتغير بالنجاسة إذا استعمل فقد استعملت النجاسة، لظهور أثرها في الماء من لون أو طعم أو رائحة، والله أعلم. واختلفوا في الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره: فالجمهور على أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة فإن الماء ينجس مطلقاً، تغير الماء أو لم يتغير، على خلاف بينهم في حد الماء الكثير والقليل. وذهب مالك في رواية المدنيين عنه (¬6)، وراية عن أحمد (¬7) إلى أن الماء لا ينجس إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بالنجاسة، وهو الراجح للأدلة التالية. ¬

(¬1) إحكام الأحكام (1/ 22،23). (¬2) مواهب الجليل (1/ 85). (¬3) نيل الأوطار (1/ 40). (¬4) المبدع (1/ 52). (¬5) انظر إجماعات ابن عبد البر في العبادات (1/ 124). (¬6) المدونة (1/ 132)، ورجحه ابن عبد البر في التمهيد (1/ 327)، والاستذكار (2/ 103)، الخرشي (1/ 76،81)، وقال ابن رشد في بداية المجتهد (1/ 249): " ويتحصل عن مالك في الماء اليسير تقع فيه النجاسة ثلاثة أقوال، قول: إن النجاسة تفسده، وقول: إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه، وقول: إنه مكروه ". (¬7) المغني (1/ 31)، المحرر (1/ 2).

الدليل الأول

الدليل الأول: قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1). وهذا الماء الذي ولغت فيه السباع ولم تغيره باق على صفته التي خلقها الله عليها، لا في لونه ولا في طعمه ولا في رائحته، فكيف يحرم الوضوء منه، ونعدل إلى التيمم مع وجوده؟ الدليل الثاني: (1601 - 129) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب (¬2)، عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله توضأ منها وهى يلقى فيها ما يلقى من النتن؟ فقال: إن الماء لا ينجسه شيء (¬3). [صحيح بشواهده وسبق تخريجه] (¬4). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكم أن الماء طهور لا ينجسه شىء، وهذا يشمل القليل والكثير، ولغت فيه السباع أم لا؟ بقى ما تغير بالنجاسة فإنه نجس بالإجماع، وما عداه فهو طهور. ¬

(¬1) المائدة: 6. (¬2) سقط اسم (سليط بن أيوب) من المطبوع واستدركته من أطراف المسند (6/ 269) (¬3) المسند (3/ 15،16). (¬4) سبق تخريجه في كتاب المياه، رقم (10)، وهو جزء من هذه السلسلة.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول صاحب لا مخالف له، والفرق بين الماء النجس والماء الطهور: هو أنه يوجد في الماء النجس صفات يحكم من خلالها بنجاسته، فإذا لم يظهر في الماء أثر النجاسة لا في لونه، ولا في طعمه، ولا في رائحته، فكيف نحكم عليه بأنه نجس (¬1). الدليل الرابع: معلوم أنه إذا استحال الشيء بالشيء حتى لا يرى له ظهور يحكم له بالعدم، وعلى هذا فلو وقعت قطرة من لبن امرأة في ماء، فاستهلكت، وشربه الرضيع خمس رضعات فأكثر لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة لم يجلد بشربه، فكذلك لو كانت قطرة بول لم تغير الماء يبقى الماء على أصله (¬2). الدليل الخامس: (1602 - 130) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (¬3). ¬

(¬1) انظر بتصرف مجموع الفتاوى (21/ 35). (¬2) بدائع الفوائد (3/ 258)، مجموع الفتاوى (21/ 33). (¬3) صحيح البخاري (220).

وجه الاستدلال: قالوا: نعلم قطعاً أن بول الأعرابي باق في موضعه، وإن صب ذلك الماء عليه، وإنما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة ذلك الموضع لغلبة الماء له، واستغراقه عليه، واستهلاك أجزائه لأجزاء البول لغلبته عليه. وقال الباجي: وهو حجة على أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، في قولهم: إن قليل الماء ينجسه قليل النجاسة، وإن لم تغيره، وهذا مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أرفع المواضع التي يجب تطهيرها، وقد حكم النبي فيه - صلى الله عليه وسلم - بصب دلو من ماء على ما نجس بالبول، ولا معنى له إلا تطهيره للمصلين فيه (¬1). قلت: ولا ينفكون منه بالتفريق بين ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة؛ لأن هذا التفريق لم يقم عليه دليل، ولا أثر له في الحكم الشرعي. (1603 - 131) وأما الجواب عما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد ابن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬2). [إسناده صحيح إن شاء الله] (¬3). ¬

(¬1) المنتقى (1/ 129). (¬2) المصنف (1/ 133) رقم 1526. (¬3) سبق تخريجه، انظر حديث رقم (88) من أحكام الطهارة: كتاب المياه.

قالوا في وجه الاستدلال: من الحديث: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، مفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، فلو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس، ولو كان مائة قلة. فالجواب عن هذا من وجهين: الوجه الأول: أن يقال عندنا منطوق ومفهوم، والمنطوق مقدم علىالمفهوم. فحديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء" منطوقه يشمل القليل والكثير. وحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" منطوقه موافق لحديث:"إن الماء طهور لا ينجسه شىء" لأن منطوقه أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجسه شيء. ومفهومه: أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه ينجس، وهذا المفهوم معارض لمنطوق حديث أبي سعيد، فيقدم المنطوق على المفهوم، فنأخذ من حديث القلتين منطوقه فقط، ولا نأخذ مفهومه؛ لأنه يعارض منطوق حديث أبي سعيد. قال ابن المنذر في الأوسط للتدليل على هذه القاعدة: ونظير ذلك قوله تعالى {حافظوا على الصلوات} الآية (¬1)، فأمر بالمحافظة على الصلوات، والصلوات داخلة في جملة قوله: {حافظوا على الصلوات} (¬2)، ثم خص ¬

(¬1) البقرة: 238. (¬2) البقرة: 238.

الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، فقال: {والصلاة الوسطى} (¬1)، فلم تكن خصوصية الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مخرجاً سائر الصلوات من الأمر العام الذي أمر بالمحافظة على الصلوات " اهـ (¬2). فكأن ابن المنذر يقول مفهوم {والصلاة الوسطى} (¬3) الآية، لم يؤخذ ويعارض به منطوق حافظوا على الصلوات. أو نقول بتعبير آخر: إذا ذكر عموم، ثم ذكر فرد من أفراد العموم يوافق العموم في الحكم، فإن هذا الفرد لا يعتبر مخصصاً ولا مقيداً للعموم. مثال ذلك: إذا قلنا: أكرم طلبة العلم، فهذا لفظ يفيد عموم الطلبة، ثم قلنا: أكرم زيداً، وكان زيد من طلبة العلم، فإنه لا يفهم منه تخصيص الإكرام لزيد وحده. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الماء طهور لا ينجسه شىء" هذا عام يشمل القليل والكثير، ثم أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحديث القلتين، أن الماء الكثير لا ينجس، فهو فرد من أفراد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور لا ينجسه شيء" فلا يقتضي تخصيصه ولا تقييده. الوجه الثاني: أن يقال: إن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعطي حكماً أغلبياً وليس حكماً مطرداً. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: في حديث ابن عمر: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " هل معنى ذلك أنه لا ينجس أبداً؟. الجواب: لا. إذ لو تغير بالنجاسة لنجس إجماعاً، ولكن معنى لم يحمل الخبث: أي غالباً لا يتغير بالنجاسة. ¬

(¬1) البقرة: 238. (¬2) الأوسط (1/ 270). (¬3) البقرة: 238.

الراجح

ومفهومه: إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث أي في الغالب أيضاً، وليس مطلقاً، وكيف نعرف أنه حمل الخبث أو لم يحمل؟ الجواب: نعرف ذلك بالتغير، فالغالب أن الماء إذا كان دون القلتين أنه يتغير بالنجاسة فإن لم يتغير عرفنا أنه لم يحمل الخبث. فإذا كان منطوق الحديث يحمل على الغالب بالإجماع، فكذلك مفهوم الحديث ينبغي أن يحمل على الغالب من باب أولى؛ لأن المفهوم أضعف من المنطوق (¬1). فالراجح أن الماء إذا كان سؤراً من سباع، وهو بقية شرابها، ولم يتغير بهذا اللعاب، ولم يظهر للعاب به أثر فإنه طهور، وقد تعرضنا لهذه المسألة مع ذكر أدلة كل قول بشيء من البسط في ما يقارب أربعين صفحة تجده في مباحث المياه، مما أغنى عن إعادته هنا، والله الموفق. ¬

(¬1) راجع للاستزادة إغاثة اللهفان (1/ 156) وفتح الباري (1/ 408، 414)، والأوسط (1/ 260) وتهذيب السنن (1/ 56 - 74).

المبحث الرابع في سؤر الخنزير

المبحث الرابع في سؤر الخنزير اختلف العلماء في سؤر الخنزير، فذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4) إلى أنه نجس. وقيل: طاهر، وهو مذهب المالكية (¬5). وهذا الخلاف راجع إلى الخلاف في ذات الخنزير، هل هو طاهر أو نجس، وقد ذكرنا أدلة كل قول في مسألة مستقلة، إلا أن نجاسة عينه لا يلزم منها نجاسة سؤره؛ لأن نجاسة سؤره مبني على مسألة أخرى، وهي إذا وقعت نجاسة في الماء، فهل ينجس بمجرد وقوع النجاسة، أو يشترط للحكم بالنجاسة أن يتغير أحد أوصاف الماء: طعمه أو لونه أو ريحه؟. ¬

(¬1) البناية على الهداية (1/ 360)، بدائع الصنائع (1/ 63)، شرح فتح القدير (1/ 94 - 110)، حاشية ابن عابدين (1/ 206). (¬2) مغني المحتاج (1/ 78)، الأم (1/ 5، 6)، الوسيط (1/ 309)، 338، 339)، المجموع (2/ 585)، روضة الطالبين (1/ 31). (¬3) الفروع (1/ 235)، الكافي لابن قدامة (1/ 89)، المحرر (1/ 87)، الإنصاف (1/ 310)، رؤوس المسائل (1/ 89). (¬4) التمهيد (1/ 320). (¬5) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/ 50)، المدونة (1/ 5، 6)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 80)، الخرشي (1/ 85).

وقد فصلنا هذا الخلاف في سؤر السباع فانظره، وعليه فالراجح أنه إن ظهر أثر للعاب في الماء كان السؤر نجساً، وإن لم يكن له أثر، فالماء باق على خلقته التي خلقه الله عليها، لا يمكن أن يحكم بنجاسته إلا إذا ظهر أثر النجاسة من لون أو طعم أو رائحة، والله أعلم.

المبحث الخامس في سؤر الكلب

المبحث الخامس في سؤر الكلب اختلف العلماء في سؤر الكلب. فقيل: إنه نجس، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: سؤره طاهر، وهو مذهب المالكية (¬4). دليل الجمهور: الدليل الأول: (1604 - 132) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب. ورواه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 24)، المبسوط (1/ 48)، بدائع الصنائع (1/ 64). (¬2) المجموع شرح المهذب (1/ 221). (¬3) الفتاوى الكبرى (1/ 417)، الفروع (1/ 236)، طرح التثريب (2/ 120)، الإنصاف (1/ 310)، كشاف القناع (1/ 181). (¬4) مواهب الجليل (1/ 74)، الخرشي (1/ 76)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 85، 86).

دليل المالكية على طهارة سؤره

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار. وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، وجعله طهارة لهذا الإناء، كما أمر بإراقة سؤره، ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير. دليل المالكية على طهارة سؤره: الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (¬1). وجه الاستدلال: أباح الله سبحانه وتعالى الأكل مما أمسكت الكلاب، ولم يأمرنا بغسل المكان الذي أمسكته معه، مع أنه لا يخلو من التلوث بريق الكلب، ولو كان نجساً لأمرنا بغسله، ولنقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم غسله. الدليل الثاني: (1605 - 133) ما رواه البخاري في صحيحه: قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬2). ¬

(¬1) المائدة: 4. (¬2) صحيح البخاري (174)، قال الحافظ في الفتح: زاد أبو نعيم والبيهقي في روايتهما لهذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب المذكور موصولاً بصريح التحديث.

وقد أجبنا عن هذه الأدلة في ذكر الخلاف في عين الكلب، هل عينه طاهرة أم نجسة، فارجع إليه إن شئت. الجواب عن حديث الولوغ. فيمكن أن يجاب بأحد جوابين. أولاً: زيادة " فليرقه " زيادة شاذة (¬1). ومع الحكم بشذوذ " فليرقه "، فإن المعنى يقتضي تنجس الماء ولو لم يتغير، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء، وجعل ذلك طهارة للإناء. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب. ومعلوم أن نجاسة الإناء إنما جاءت من نجاسة الماء؛ لأن الولوغ إنما وقع على الماء، فتنجس الإناء لنجاسة الماء؛ ولأن النجاسة لو كانت للإناء وحده لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يغسل من الإناء جهة الولوغ فقط، فلما أمر بغسل الإناء ¬

(¬1) قال النسائي في السنن (1/ 53): لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله: فليرقه. وقال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 273): وأما هذا اللفظ من حديث الأعمش "فليهرقه " فلم يذكره أصحاب الأعمش الثقات الحفاظ مثل شعبة وغيره وقال ابن مندة كما في فتح الباري (1/ 331)، وتلخيص الحبير (1/ 23): لا تعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه إلا من روايته. وقال حمزة الكناني كما في فتح الباري (1/ 330): إنها غير محفوظة. وقد بحثت هذا الحديث وجمعت طرقه في كتاب المياه، وبينت أن علي بن مسهر قد خالف أكثر من خمسة عشر حافظاً رووا الحديث بدون هذه الزيادة، انظر أحكام الطهارة كتاب المياه (ص: 363).

الراجح

كله، علم أن النجاسة إنما سرت عن طريق الماء المتنجس. فإن قال قائل: إذاً كيف حكمتم على الأمر بالإراقة بالشذوذ؟ فالجواب: لا يلزم من الحكم بنجاسة الماء الحكم بوجوب إراقته؛ لأن الماء إذا تنجس لا يكون نجس العين، إذ يمكن تطهيره، وإذا أمكن تطهيره أمكن الانتفاع به بخلاف ما إذا أوجبنا إراقته. ولا يعني ذلك إذا حكمنا بنجاسة الماء أن نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها التسبيع، ومنها التتريب، فلا يقاس الأخف على الأغلظ. على أنه قد يقال: لا نسلم عدم التغير؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء فتظهر على شيء منه، فيكون هذا نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة، فينجس والله أعلم. ف الراجح أن سؤر الكلب نجس، خاصة إذا وقع الولوغ في الآنية، لأن الحديث إنما جاء نصاً في الآنية: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، وأما إذا ولغ في البرك والمستنقعات الكبيرة فإن ذلك لا يضر الماء، لأن الماء في هذه الحال كثير، وقد كانت مياه المسلمين في الفلاة يردها السباع والكلاب، ولم ينقل أنهم كانوا يجتنبون ذلك، والله أعلم.

الباب الرابع في أحكام الميتة

الباب الرابع في أحكام الميتة الفصل الأول الميتة الطاهرة المبحث الأول في ميتة الآدمي اختلف العلماء في ميتة الآدمي، فقيل: نجس مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول عند الشافعية (¬2)، ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 243) وقد حكم الحنفية بنجاسة البئر إذا مات فيه آدمي انظر الاختيار لتعليل المختار (1/ 17) المبسوط (1/ 58)، بدائع الصنائع (1/ 75)، الهداية شرح البداية، مطبوع مع شرح فتح القدير (1/ 104)، ومذهبهم هذا متسق مع مذهبهم القائل بنجاسة المحدث، وذلك لأن الميت يجب غسله، لأن فيه معنى الحدث. والصحيح أن الحدث لا يعتبر من النجاسة، وكونه سمي رفع الحدث الأصغر أو الأكبر طهارة فلا يعتبر ذلك من نجاسة، وقد بحثنا هذه المسألة بحثاً مستقلاً، وأجبنا عن أدلة الحنفية رحمهم الله تعالى. (¬2) المجموع (2/ 579، 580).

وقول عند المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: طاهر مطلقاً، وهو الراجح في مذهب الشافعية (¬3)، والمالكية (¬4)، ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 99). (¬2) المغني (1/ 42)، الإنصاف (1/ 337). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 579، 580): "وأما الآدمي هل ينجس بالموت أم لا؟ فيه هذان القولان، الصحيح منهما: أنه لا ينجس، اتفق الأصحاب على تصحيحه، ودليله الأحاديث السابقة والمعنى الذي ذكره. اهـ وانظر أسنى المطالب (1/ 10)، نهاية المحتاج (1/ 238، 239). (¬4) قال في مواهب الجليل (1/ 99): في معرض ذكره للنجس، قال: (وآدمياً، والأظهر طهارته) قال في شرحه لهذه العبارة: يعني أن ميتة الآدمي نجسة، واستظهر ابن رشد القول بطهارته، وسواء كان مسلماً أو كافراً، قال في أوائل الجنائز من البيان: والصحيح أن الميت من بني آدم ليس بنجس، بخلاف سائر الحيوان التي لها دم سائل انتهى. وجزم ابن العربي بطهارته ولم يحك فيه خلافاً، وقال في كتاب الجنائز من التنبيهات وهو الصحيح الذي تعضده الآثار، سواء كان مسلماً أو كافراً؛ لحرمة الآدمية وكرامتها وتفضيل الله لها، وذهب بعض أشياخنا إلى التفرقة بين المسلم والكافر، ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين فرق بينهما، وفي كلام ابن عبد السلام ترجيح القول بطهارته أيضاً، ونقل ذلك في التوضيح وقبله، وصدر به في الشامل، واستظهره فقال: والظاهر طهارة الآدمي كقول سحنون وابن القصار خلافا لابن القاسم وابن شعبان. وقال ابن الفرات: الظاهر طهارة الميت المسلم؛ لتقبيله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن مظعون، وصلاته على ابني بيضاء في المسجد، وصلاة الصحابة على أبي بكر وعمر فيه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً "، رواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين انتهى .. وفي كلام صاحب الطراز في كتاب الاعتكاف ترجيح القول بالطهارة فإنه لما تكلم على قص أظفاره في المسجد قال: الاعتكاف لا ينافي إصلاح الرأس بأي وجه كان، ولا إصلاح الظفر، وهو أيضا طاهر لا ينجس , وعلى القول بأن الميت نجس تكون الأظفار نجسة انتهى. ولم أر من صرح بتشهير القول الذي صدر به المصنف ولا =

والمشهور عند الحنابلة (¬1). وقيل: المسلم الميت طاهر، والكافر الميت نجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، وقول عند الحنابلة (¬3)، وهو اختيار ابن حزم (¬4). ¬

= من اقتصر عليه، بل أكثر أهل المذهب يحكي القولين من غير ترجيح , ومنهم من يرجح الطهارة , وإن كان غير اللخمي أخذ القول بالنجاسة من المدونة من كتاب الرضاع من نجاسة لبن الميتة، فقد أخذ القاضي وغيره القول بالطهارة من كتاب الجنائز من إدخاله المسجد. اهـ نقلاً من كتاب مواهب الجليل. واعتبر الخرشي القول بالطهارة هو المعتمد، انظر حاشية الخرشي (1/ 88، 89). (¬1) المغني (1/ 42)، كشاف القناع (1/ 193)، مطالب أولي النهى (1/ 233). (¬2) قال في مواهب الجليل (1/ 99): وذهب بعض أشياخنا إلى التفرقة بين المسلم والكافر، ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين فرق بينهما. اهـ (¬3) ساقه ابن قدامة احتمالاً، قال في المغني (1/ 42): لم يفرق أصحابنا بين المسلم والكافر; لاستوائهما في الآدمية, وفي حال الحياة, ويحتمل أن ينجس الكافر بموته; لأن الخبر إنما ورد في المسلم, ولا يصح قياس الكافر عليه; لأنه لا يصلى عليه, وليس له حرمة كحرمة المسلم. اهـ وقال في الإنصاف (1/ 337): وقيل: ينجس الكافر, دون المسلم, وهو احتمال في المغني. قال المجد في شرحه, وتابعه في مجمع البحرين: ينجس الكافر بموته على كلا المذهبين في المسلم، ولا يطهر بالغسل أبداً كالشاة. وخص الشيخ تقي الدين في شرح العمدة الخلاف بالمسلم. وأطلقهما ابن تميم في الكافر. اهـ (¬4) أخذ ابن حزم رحمه الله بظاهر حديث " إن المؤمن لا ينجس " فيأخذ بمنطوقه، وأن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً، ويأخذ بمفهومه، وهو أن الكافر نجس، حياً وميتاً، ويؤيد هذا المفهوم منطوق الآية عنده: " إنما المشركون نجس " وبالتالي يحكم على نجاسة لعاب الكافر وعرقه ولبنه وسائر أجزائه في الحياة والموت، انظر المحلى (مسألة: 134، و، 139، و 603، و 2018).

دليل من قال: إن ميتة الآدمي طاهرة

دليل من قال: إن ميتة الآدمي طاهرة: الدليل الأول: (1606 - 134) ما رواه البخاري من طريق حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا جنب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له: فقال: سبحان الله، ياأبا هر إن المؤمن لا ينجس (¬1). وجه الاستدلال: قوله: إن المؤمن لا ينجس. هذا مطلق، وهو يشمل حال الحياة وحال الموت. الدليل الثاني: (1607 - 135) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً (¬2). ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (¬3). [إسناده صحيح] ¬

(¬1) البخاري (285) مسلم (371). (¬2) المصنف (2/ 469). (¬3) في باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر.

الدليل الثالث

الدليل الثالث: قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} (¬1). وجه الاستدلال: أن التكريم يقتضي بأن لا يحكم عليه بالنجاسة سواء في حال الحياة أو في حال الموت. ويمكن يجاب عنه: بأن هذا الدليل ليس فيه دلالة واضحة على طهارة الميت، كما أن الحكم على بوله وغائطه ومذيه بأنه نجس، لا ينافي تكريم الله له،، فكذلك الحكم على بدنه بأنه نجس حال الموت لا ينافي التكريم، وقد يكون المراد من التكريم هو ما أعطاه الله لهذا المخلوق من عقل، وسخر له ما في السموات والأرض وغير ذلك من نعم الله على بني آدم. الدليل الرابع: يشرع للميت الغسل قبل الدفن، ولو كان نجس العين لما طهره الغسل، ولم يكن لمشروعيته فائدة، وهذا ما ينزه عنه الشارع. وأجيب: بأنه لو كان طاهراً لم يؤمر بغسله كسائر الأعيان الطاهرة. ورد هذا: بأن الغسل هو بمنزلة رفع الحدث من الحي، فكما أن المسلم الحي طاهر، سواء كان محدثاً أو غير محدث، فكذلك الميت، والطهارة من الحدث ليست ¬

(¬1) الإسراء: 70.

الدليل الخامس

طهارة عن نجاسة، وذلك لأن غسل الأعضاء المخصوصة في الوضوء لا دخل لها في مخرج البول والغائط والريح وسائر الأحداث، وإنما هي طهارة تعبدية. الدليل الخامس: (1608 - 136) ما روه مسلم، قال: حدثني علي بن حجر السعدي وإسحق بن إبراهيم الحنظلي واللفظ لإسحق، عن عبد العزيز بن محمد عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن عائشة أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها فقالت: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد (¬1). وجه الاستدلال: كون المسلمين إلى يومنا هذا يصلون على موتاهم في المساجد، دليل على طهارة الميت، ولو كان الموت يجعل الآدمي نجساً ما صلي على الميت في المسجد، مع الأمر بحفظ المساجد عن النجاسات، بل وعن القاذورات ولو كانت طاهرة كالبصاق والنخامة ونحوهما. دليل من قال: إن الميت نجس مطلقاً: الدليل الأول: إذا كان الحيوان الطاهر المأكول اللحم إذا مات من غير تذكية أصبح نجساً بالإجماع، فكذلك بدن الآدمي، فإن طهارته حال الحياة لا تمنع من نجاسته إذا مات، لكونه حيواناً له نفس سائلة. ¬

(¬1) مسلم (973).

الدليل الثاني

وأجيب: بأن هذا القياس في مقابل النص، فيكون قياساً فاسداً، فقد دلت النصوص على طهارة المسلم حياً وميتاً كما ذكرناها في أدلة القول الأول، فيكون الآدمي مخصوصاً من الحيوان الذي له نفس سائلة، وينجس بالموت. كما يمكن أن يقال: بأن هذا قياس مع الفارق، حيث إن الحيوان حلال الأكل خلقه الله ليكون مائدة تؤكل، ويفتقر عند التذكية إلى ذكر اسم الله عليه ليكون طاهراً حلالاً، بخلاف الآدمي فلا يحل أكله حياً ولا ميتاً كما هو معلوم، وإذا ثبت الفارق سقط القياس، والله أعلم. الدليل الثاني: (1609 - 137) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء أن حبشياً وقع في زمزم، فمات، قال: فأمر ابن الزبير أن ينزف ماء زمزم، قال: فجعل الماء لا ينقطع، قال: فنظروا فإذا عين تنبع من قبل الحجر الأسود، قال: فقال ابن الزبير: حسبكم (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث: (1610 - 138) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، ¬

(¬1) المصنف (1/ 150) رقم: 1721. (¬2) والأثر قد أخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور (188)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 274) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 17) من طريق هشيم، أخبرنا منصور به.

الدليل الرابع

عن ابن عباس: أن زنجياً وقع في ماء زمزم، فأنزل إليه رجلاً فأخرجه، ثم قال: انزفوا ما فيها من ماء، ثم قال للذي في البئر: ضع دلوك من قبل العين التي تلي البيت أو الركن؛ فإنها من عيون الجنة (¬1). [قتادة لم يسمع من ابن عباس] (¬2). الدليل الرابع: (1611 - 139) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق جابر، عن أبي الطفيل، قال: وقع غلام في ماء زمزم، فنزفت أي نزح ماؤها (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). ¬

(¬1) المصنف (1/ 150) رقم: 1722. (¬2) وقد تابع ابن سيرين قتادة في الرواية عن ابن عباس فقد أخرجه الدارقطني (1/ 33) ومن طريقه البيهقي (1/ 266) من طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن ابن عباس. وابن سيرين لم يسمع من ابن عباس أيضاً كما أفاده البيهقي في سننه (1/ 266)، وفي المعرفة (1/ 94). ورواه البيهقي في المعرفة (1/ 93) من طريق القعنبي، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو ابن دينار، عن ابن عباس. وابن لهيعة فيه ضعف. فهذه ثلاثة طرق عن ابن عباس، وإن كان كل طريق منها ضعيفاً إلا أن هذه الطرق بمجموعها قد يشد بعضها بعضاً. وانظر إتحاف المهرة (8884). (¬3) شرح معاني الآثار (1/ 17). (¬4) في إسناده جابر الجعفي، وهو متروك. وقال البيهقي في المعرفة (1/ 94): رواه جابر الجعفي مرة عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، ومرة عن أبي الطفيل نفسه، ثم قال: وجابر الجعفي لا يحتج به.

وجه الاستدلال من هذه الآثار: لو لم يكن الآدمي ينجس بالموت لما نجس ماء زمزم بموت الآدمي فيه، ولما كان هناك حاجة إلى نزحه. ويجاب عن هذا من وجهين: أولاً: هناك من يضعف قصة وقوع الزنجي في بئر زمزم، وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة رحمه الله. فقد روى البيهقي بإسناده عن سفيان قوله: أنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر أحداً صغيراً ولا كبيراً يعرف حديث الزنجي الذي قالوا: إنه مات في زمزم، وما سمعت أحداً يقول: ينزح زمزم (¬1). ثانياً: هذه الآثار إن صحت فهي موقوفة على صحابي، وفعل الصحابي حجة إذا لم يخالف المرفوع، وهنا قد خالف ما رواه أحمد، (1612 - 140) قال أحمد في مسنده: حدثنا أبو أسامة، حدثنا الوليد ابن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله - وقال أبو أسامة مرة: عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج - عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب؟ قال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء (¬2). [حديث صحيح بشواهده] (¬3) ¬

(¬1) المعرفة (1/ 95). (¬2) المسند (3/ 31). (¬3) انظر حديث رقم (8) من كتاب أحكام الطهارة.

(1613 - 141) وروى أحمد أيضاً، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء لا ينجسه شيء " (¬1). [سبق تخريجه] (¬2). بل إن فعل ابن عباس بالأمر بنزح البئر على التسليم بصحته عنه معارض بما صح عن ابن عباس نفسه، (1614 - 142) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً (¬3). وهذا نص صريح بأن الموت لا ينجس المؤمن، وإذا كان الموت ليس من أسباب النجاسة في حق المؤمنين، لم يكن من أسبابها في حق غيرهم، لأن الشيء لا يمكن أن يكون إذا لحق زيداً لم ينجسه، وإذا لحق عمراً نجسه، بل الحكم يكون شاملاً لعموم الناس على صورة واحدة. ثالثاً: ربما نزح البئر لسبب آخر غير وقوع الجثة في البئر، فإنه يبعد أن يسقط أحد في بئر ويسلم من الجروح، وقد يغير الدم لون الماء وطعمه، ومعلوم أن الدم يحرم شربه، فنزحت من أجل ذلك، أو لإجل استقذار الماء. (1615 - 143) ويؤيد ذلك ما رواه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، ¬

(¬1) المسند (1/ 308). (¬2) انظر الحديث رقم (8) من كتاب أحكام الطهارة. (¬3) المصنف (2/ 469)، وسبق تخريجه قبل قليل.

دليل من قال: إن الكافر الميت نجس بخلاف المؤمن

عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬1). فإذا كان هذا في الفأرة الميتة وهي بلا شك نجسة، وفي إناء السمن، وهو إناء صغير ليس كالبئر، والسمن ليس كالماء في دفعه للنجاسة، ومع ذلك لم ينجس السمن كله، فما بالك بالبئر والذي غالباً ما يكون الماء فيه كثيراً، ومع الآدمي وهو على الصحيح عين طاهرة، فإنه بلا شك يكون طاهراً، وأن الأمر بنزح الماء إنما هو للاستقذار أو لحرمة شرب الدم وقد تغير الماء به، والله أعلم. رابعاً: أنكم تقولون بنزح البئر مطلقاً، تغير الماء أو لم يتغير، مع أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فهو ماء طهور بالإجماع كما نقلنا الإجماع على ذلك عند الكلام على سؤر الخنزير فلماذا أخرجتم البئر من هذا الإجماع، وما الحاجة إلى نزحه، وبئر زمزم من الماء الكثير، وليس من الماء القليل. دليل من قال: إن الكافر الميت نجس بخلاف المؤمن: الدليل الأول: استدلوا بعموم قوله تعالى: {إنما المشركون نجس} (¬2). فهذا مطلق يشمل حال الحياة وحال الموت. الدليل الثاني: مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ". معناه: أن غير المؤمن نجس. ¬

(¬1) صحيح البخاري (235). (¬2) التوبة: 28.

الراجح من الخلاف

وقد أجبنا على هذه الأدلة في الكلام على طهارة الكافر في حال الحياة، ولا يوجد دليل على نجاسته في حال الوفاة، وترك غسله والصلاة عليه؛ لأنه ليس من أهل العبادة، وليس هذا راجعاً إلى نجاسته. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الأقوال تبين لنا أن القول بطهارة بني آدم أرجح من غيرها، وذلك لقوة أدلتهم، وسلامتها من الاعتراض، على خلاف أدلة بقية الأقوال، فإنها لا تكاد تسلم من الاعتراضات، والله أعلم.

المبحث الثاني في ميتة ما لا نفس له (دم)

المبحث الثاني في ميتة ما لا نفس له (دم) اختلف العلماء في الحيوان الذي لا دم له، كالصراصير والجراد ونحوهما: فقيل: هو طاهر مطلقاً، سواء تولد من شيء طاهر أو من شيء نجس، وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: هو نجس، لكن إن تولد من شيء طاهر، ومات فيما تولد منه، لم ينجسه، كدود التمر والتين والجبن يموت فيها، وإن أخرج ومات في غيره، نجسه، وهو قول في مذهب الشافعية (¬5). وقيل: إن تولد من شيء طاهر، فهو طاهر مطلقاً، سواء مات فيما تولد منه أم لا، وإن تولد من شيء نجس، كصراصير الكنف، فهو نجس، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬6). وسبق أن عرضت أدلة الأقوال في ذكر الخلاف في هذا الحيوان حال الحياة، والأدلة على طهارته حال موته هي الأدلة ذاتها على طهارته في حال موته، فانظرها مشكوراً. ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (3/ 34)، المبسوط (1/ 51)، بدائع الصنائع (1/ 62). (¬2) المدونة (1/ 115). (¬3) الأم (1/ 5). (¬4) المغني (1/ 41). (¬5) الأم (1/ 5). (¬6) الإنصاف (1/ 338)، الكافي لابن قدامة (1/ 16)، الهداية (1/ 22)، بلغة الساغب (ص: 37)، غاية المطلب في معرفة المذهب (ص: 35).

المبحث الثالث في ميتة البحر

المبحث الثالث في ميتة البحر اختلف العلماء في ميتة البحر، فقيل: إن إباحة الأكل إنما تختص بالسمك دون سائر ميتات البحر، بشرط أن يكون موت السمك بسبب ظاهر، كانحسار الماء أو نبذه له، أو ضرب صياد ونحو ذلك، فإن مات السمك حتف أنفه بغير سبب ظاهر وطفا، فإنه يكره أكله، وأما الطهارة فجميع ميتات البحر طاهرة، فلم يعلقوا حكم الأكل بالطهارة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: إن مات في البحر ما لا نفس له سائلة فهو طاهر، وإن مات ما له نفس سائلة فهو نجس، وهذا منسوب إلى أبي يوسف من الحنفية (¬2). وقيل: بإباحة جميع ميتات البحر، مما لا يعيش إلا في الماء، وهذا مذهب الجمهور، إلا أن بعضهم استثنى كلب وإنسان وخنزير الماء (¬3). ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (1/ 151)، بدائع الصنائع (1/ 79) و (5/ 36)، حاشية ابن عابدين (6/ 306، 307) البناية (10/ 726)، تبيين الحقائق (5/ 297)، المبسوط (1/ 57) و (11/ 267). (¬2) الجوهرة النيرة (1/ 15). (¬3) انظر في مذهب المالكية: المدونة (1/ 5)، المنتقى للباجي (3/ 128)، التفريع (1/ 215، 216)، ومختصر خليل (ص: 6)، القبس (1/ 134)، حاشية الدسوقي (1/ 49)، ومنح الجليل (1/ 45)، الخرشي (3/ 26)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 186). وانظر في مذهب الشافعية: الحاوي (15/ 63)، المجموع (1/ 180)، روضة الطالبين (3/ 275)، مغني المحتاج (1/ 78) و (4/ 298)، إعانة الطالبين (1/ 90)، نهاية المحتاج (1/ 239). =

دليل الحنفية على اقتصار الإباحة على ميتة السمك خاصة

وقيل: إن ميتة البحر نجسة مطلقاً، سواء مات في البر أو في البحر، اختاره ابن نافع من المالكية (¬1). وقيل: ما مات في البحر فهو طاهر، وما مات في البر فهو نجس، وهذا ختيار ابن قاسم من المالكية (¬2). فمذهب الحنفية أضيق المذاهب فيما يتعلق بالأكل، ومن أوسع المذاهب فيما يتعلق بالطهارة. دليل الحنفية على اقتصار الإباحة على ميتة السمك خاصة: الدليل الأول: جاء النص من كتاب الله بتحريم الميتة مطلقاً في قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم} (¬3). واستثني الحديث من الميتات ميتة السمك والجراد، فدل على أن ميتة غير السمك والجراد ليست حلالاً. (1616 - 144) فقد روى أحمد (¬4) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما ¬

= وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/ 42) و (9/ 314)، شرح الزركشي (1/ 137) و (6/ 647)، الإنصاف (10/ 384)، كشاف القناع (6/ 204)، المبدع (1/ 253). (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 49)، منح الجليل (1/ 45). (¬2) انظر المراجع السابقة. (¬3) النحل: 115. (¬4) المسند (2/ 97).

الدليل الثاني

الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال. [سبق تخريجه] (¬1). الدليل الثاني: استدلوا بعموم قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (¬2). وجه الاستدلال: بأن ميتة البحر فيما عدا السمك تعافه الطباع السليمة، وما عافته فهو خبيث. وأجيب: بأن الحكم على الشيء بأنه خبيث يحتاج إلى حكم شرعي، وليس مرد ذلك إلى الطباع، ولا يوجد دليل شرعي يقضي بأن ميتة ما سوى السمك من الخبائث، بل يوجد دليل على أنها من الطيبات، كما سأذكره في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: (1617 - 145) ما رواه أحمد، من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن سعيد ابن المسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان قال: ذكر طبيب الدواء عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الضفدع تكون في الدواء، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها (¬3). [إسناده أرجو أن يكون حسناً] (¬4). ¬

(¬1) انظر حديث (1584). (¬2) الأعراف: 157. (¬3) المسند (3/ 499). (¬4) في إسناده سعيد بن خالد، =

الدليل على أن السمك الطافي الذي مات حتف أنفه حرام

وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرم قتل الضفدع، وهو يستلزم تحريم أكلها، وهذا حيوان غير السمك. وأجيب: بأن الضفدع ليس من حيوان البحر خاصة، بل هو يعيش في البحر كما يعيش في الماء، وعليه فالحديث ليس في محل النزاع. وأما الدليل على أن السمك الطافي الذي مات حتف أنفه حرام: (1618 - 146) فهو ما رواه أبو داود من طريق يحيى بن سليم الطائفي، قال: ثنا إسماعيل ابن أمية، عن أبي الزبير، ¬

_ = قال النسائي: ضعيف. كما في الضعفاء والمتروكين (118). قال ابن جحر في التهذيب متعقباً المزي في نقله التضعيف عن النسائي: قال النسائي في الجرح والتعديل: ثقة، فينظر في أين قال: إنه ضعيف. اهـ وق سبق أن نقلت لك كلام النسائي من الضعفاء والمتروكين له. وقال الدارقطني: مدني يحتج به. المرجع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 357). وفي التقريب: صدوق. وبقية رجال الإسناد ثقات مشهورون. [تخريج الحديث] الحديث رواه أبو داود الطيالسي (1183) وابن أبي شيبة (5/ 62)، وأبو داود (3871، 5269)، وعبد بن حميد في المنتخب (313)، والنسائي (4366)، والفسوي في المعرفة (1/ 285)، والدارمي (1988)، والحاكم (4/ 410)، والبيهقي (9/ 258، 318)، والمزي في تهذيب الكمال (10/ 405) من طرق عن ابن أبي ذئب به. وصححه الحاكم، وأقره الذهبي. انظر إتحاف المهرة (13508)، تحفة الأشراف (9705)، أطراف المسند (10/ 621).

عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه (¬1). [إسناده ضعيف، واختلف في وقفه ورفعه] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (3815). (¬2) في إسناده يحيى بن سليم الطائفي، قال الحافظ عنه في التقريب: صدوق سيء الحفظ. وقال أبو داود عقب روايته للحديث: روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد، عن أبي الزبير، أو قفوه على جابر. وقد أسند هذا الحديث أيضاً من وجه ضعيف، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر. اهـ رواية أيوب الموقوفة التي أشار إليها أبو داود قد رواها ابن أبي شيبة في المصنف (4/ 253) رقم 19739، قال: أخبرنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي الزبير به موقوفاً. ورواه الدارقطني (4/ 268) ومن طريقه البيهقي (9/ 265) من طريق عبيد الله بن عمر، عن أبي الزبير به موقوفاً. ولم يذكر أبو داود عبيد الله بن عمر ممن روى الحديث عن أبي الزبير موقوفاً. ورواه الدراقطني (4/ 268)، والبيهقي (9/ 255) من طريق أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر مروفوعاً. قال الدارقطني: لم يسنده عن الثوري غير أبي أحمد، وخالفه وكيع والعدنيان وعبد الرزاق ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم عن الثوري، رووه موقوفاً وهو الصواب. وكذلك رواه أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر وابن جريج وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير موقوفاً. وروي عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير. وابن أبي ذئب، عن أبي الزبير مرفوعاً ولا يصح رفعه، رفعه يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية ووقفه غيره. اهـ وقال البيهقي: نحو كلام الدارقطني. ورواية عبد الرزاق عن الثوري وقفت عليها في المصنف لعبد الرزاق (8662) موقوفة. [تخريج الحديث]. الحديث رواه ابن ماجه (3247) والطبراني في المعجم الأوسط (2880)، والدارقطني (4/ 268)، والبيهقي في السنن (9/ 255، 256)، من طريق يحيى بن سليم الطائفي به. =

دليل من قال: يباح حيوان البحر كله

دليل من قال: يباح حيوان البحر كله: الدليل الأول: قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} (¬1). قال ابن عباس: طعامه ميتته (¬2). وأجيب: بأن المقصود من قوله: " أحل لكم صيد البحر " هو فعل الصيد، وهو الاصطياد؛ لأنه هو الصيد حقيقة لا المصيد؛ لأنه مفعول فعل الصيد، وقوله: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً المراد منه الاصطياد من المحرم، لا أكل الصيد؛ لأن ذلك مباح للمحرم إذا لم يصطده بنفسه ولا غيره بأمره، فثبت أنه لا دليل في الآية على إباحة الأكل، بل خرجت للفصل بين الاصطياد في البحر وبين الاصطياد في البر للمحرم (¬3). ¬

= قال الدارقطني: رواه غيره موقوفاً. وقال البيهقي: يحيى بن سليم الطائفي كثير الوهم سيء الحفظ، وقد رواه غيره عن إسماعيل بن أمية موقوفاً. وذكر المزي في زيادته على تحفة الأشراف (2/ 287): أن إسحاق بن عبد الواحد الموصلي رواه عن يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فجعله من مسند ابن عمر. انظر: إتحاف المهرة (3189)، تحفة الأشراف (2657). (¬1) المائدة: 96. (¬2) أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم في كتاب الذبائح والصيد، باب قول الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه}. قال الحافظ في الفتح: وصله الطبري من طريق أبي بكر بن حفص، عن عكرمة، عن ابن عباس. (¬3) بتصرف انظر بدائع الصنائع (5/ 35).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1619 - 147) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماء البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته (¬1). [الحديث صحيح وسبق تخريجه] (¬2). فقوله: " الحل ميتته " يشمل جميع ميتات البحر سواء كان سَمَكاً أو غيره. الدليل الثالث: (1620 - 148) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو، أنه سمع جابراً - رضي الله عنه - يقول: غزونا جيش الخبط، وأُمِّر أبو عبيدة، فجعنا جوعاً شديداً، فألقى البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه، فمر الراكب تحته، فأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: قال أبو عبيدة: كلوا، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كلوا رزقاً أخرجه الله أطعمونا إن كان معكم، فأتاه بعضهم فأكله (¬3). ¬

(¬1) أحمد (2/ 237). (¬2) انظر حديث رقم (7) من الكتاب نفسه (أحكام الطهارة). (¬3) صحيح البخاري (4362)، ورواه مسلم بنحوه (1935).

وأجاب الحنفية عنه بجوابين: الأول: أن الحوت نوع من السمك. الثاني: أن أكل ذلك الميت كان في حال ضرورة ومخمصة، وهي حال تباح فيها أكل الميتة مطلقاً. ورد عليهم: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: كلوا رزقاً أخرجه الله، فقوله " كلوا " تعبير عن المستقبل، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل منه، وهو في المدينة، وليس في حال الضرورة والمخمصة.

الفصل الثاني في الميتة النجسة

الفصل الثاني في الميتة النجسة أجمع العلماء على نجاسة الحيوان البري الذي له نفس سائلة إذا مات حتف أنفه بغير ذكاة، أو بذكاة غير معتبرة شرعاً. قال ابن رشد: " وأما أنواع النجاسات فإن العلماء قد اتفقوا في أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي ... " (¬1). وقال ابن قدامة: لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ , ولا نعلم أحدا خالف فيه (¬2). وقد شذ الشوكاني فذهب إلى طهارة الميتة، ولا أعلم أحداً سبقه إلى هذا القول (¬3). دليل الجمهور على نجاسة الميتة: الدليل الأول: قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خِنْزير فإنه رجس} (¬4). ¬

(¬1) بداية المجتهد (1/ 66). (¬2) المغني (1/ 53)، وانظر الغرر البهية في شرح البهجة الوردية (1/ 40)، تحفة المحتاج (1/ 292)، نهاية المحتاج (1/ 238). (¬3) الدراري المضية شرح الدرر البهية (1/ 26). (¬4) الأنعام: 145.

الدليل الثاني

وقد رد الشوكاني هذا الاستدلال بقوله: إن الضمير راجع إلى أقرب مذكور، وهو لحم الخنزير، لإفراد الضمير بقوله: " فإنه رجس " وهذا الجواب ضعيف، وقد يجاب بجواب أقوى من هذا بأن يقال: إن الآية سيقت لبيان تحريم الأكل، بقوله: " على طاعم يطعمه " ولا نزاع في تحريم أكل الميتة. وأما القول: بأنه رجس، فالرجس هو الشيء المستقذر، وليس نصاً في النجاسة. وهذا يقال لو كان هذا هو الدليل الوحيد في نجاسة الميتة، ويكفي في نجاسته ما حكي من إجماع على نجاستها. الدليل الثاني: (1621 - 149) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح، وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه. ورواه مسلم (¬1). فالعلة في تحريم بيع الميتة عند جمهور الفقهاء: هو كونها نجسة، وخالف في ذلك الحنفية، فقالوا: إن العلة كونها ليست مالاً. ¬

(¬1) البخاري (2236)، ومسلم (1581).

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1622 - 150) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا سليمان ابن بلال، عن زيد بن أسلم، أن عبد الرحمن بن وعلة أخبره، عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا دبغ الإهاب فقد طهر (¬1). فإذا كان الجلد قبل الدبغ نجساً كان ذلك دليلاً على نجاسة لحم الميتة وذلك لأن نجاسة الجلد إنما هو لاتصاله بشحم ولحم الميتة، فإذا دبغ قطع منه ما تعلق به من شحم ولحم ورطوبة، فبقي لحم المينة نجساً لعدم إمكان دبغه، قال ابن تيمية: فالميتة ثلاثة أقسام: منها ما هو طاهر مطلقاً، كالشعر إذا جز، سواء جز في حال الحياة، أو بعد الموت. ومنها ما لا يطهر بحال كاللحم، والدم المسفوح. ومنه ما يحكم بنجاسته ما دام متصلاً برطوبة النجاسة ودمها، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهراً. ونجاسة الجلد قبل الدباغ كنجاسة الثوب، فإذا دبغ قطعت عنه النجاسة (¬2). الدليل الرابع: الإجماع، وقد نقلته عن ابن رشد، وعن ابن قدامة في رأس المسألة ولم يخالف إلا الشوكاني كما سبق. ¬

(¬1) مسلم (366)، وقد ورد بلفظ: إذا دبغ الإهاب فقد طهر، وبلفظ: " أيما إهاب دبغ، وتكلمنا على الراجح من اللفظين في كتاب أحكام الطهارة (المياه والآنية) من هذه السلسلة. (¬2) مجموع الفتاوى بتصرف (21/ 90 - 102).

دليل الشوكاني على طهارة الميتة

دليل الشوكاني على طهارة الميتة: الدليل الأول: الأصل في الأعيان الطهارة، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح. ويجاب: بأن هذا أصل عظيم، وهو مسلم، ولكننا لا نسلم أن الميتة لم يأت فيها دليل على النجاسة، بل وردت أدلة من الأثر ومن النظر على نجاستها كما سبق، والله أعلم. الدليل الثاني: (1623 - 151) ما رواه البخاري، قال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هلا انتفعتم بجلدها؟ قالوا: إنها ميتة. قال: إنما حرم أكلها، ورواه مسلم (¬1). فقوله: " إنما حرم أكلها " دليل على أنه لا يحرم من الميتة إلا الأكل. وأجيب: بأن هذا الحديث دليل على جواز الانتفاع بالنجاسات على وجه لا يتعدى، وليس فيه دليل على الطهارة، ولو أخذنا بظاهر الحصر لقلنا بجواز بيع الميتة، وقد جاء حديث جابر المتفق عليه في النهي عن بيع الميتة، وهو غير الأكل، وبالتالي ليس في الحديث دليل على طهارة أو نجاسة الميتة. ¬

(¬1) صحيح البخاري (1492)، صحيح مسلم (363).

الراجح من الخلاف

الراجح من الخلاف. أن الميتة نجسة، ولم أقف على قول لأحد قال بطهارة الميتة قبل الشوكاني، وقد حكي الإجماع على نجاستها، وعلى تحريم أكلها، والله أعلم.

الفصل الثالث في أجزاء الميتة

الفصل الثالث في أجزاء الميتة المبحث الأول في عظم الميتة وقرنها وحافرها عظم الحيوان المأكول اللحم المذكى طاهر إجماعاً، كما أن عظم الآدمي طاهر تبع لذاته على الصحيح، ولكن لا يجوز استعماله ولو من كافر لكرامة المؤمن، وتحريم المثلة في الكافر (¬1). وأما عظم الحيوان غير المذكى، سواء كان من مأكول اللحم أم غير مأكول اللحم فقد اختلف العلماء في طهارته على النحو التالي: فقيل: إن عظام هذا الحيوان طاهرة، وهو مذهب الحنفية، ورجحه ابن تيمية (¬2) إلا أن الحنفية يستثنون أمرين: الأول: عظم الخنزير. الثاني: ما أبين من الحي فهو عندهم كميتته، فيحكمون بنجاسة السن والأذن وغيرهما في حق غير صاحبها، أما في حق صاحبها فطاهرة (¬3). ¬

(¬1) انظر غمز عيون البصائر (4/ 214)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 52)، تحفة المحتاج (1/ 117)، كشاف القناع (1/ 51)، المحلى (1/ 426). (¬2) الفتاوى الكبرى (1/ 267). (¬3) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 167)، البحر الرائق (1/ 112)، تبيين الحقائق (1/ 26)، بدائع الصنائع (1/ 63)، الهداية شرح البداية (3/ 46)، الجامع الصغير (ص: 329)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 170) و (3/ 33).

وقيل: إن العظم له حكم ميتته، فما كانت ميتته طاهرة فعظمه طاهر، وما كانت ميتته نجسة فعظمه نجس، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). ¬

(¬1) المنتقى (3/ 136)، حاشية الدسوقي (1/ 53،54)، الخرشي (1/ 89)، مختصر خليل (ص:7)، حاشية العدوي (1/ 585)، الفواكه الدواني (2/ 287)، التمهيد (9/ 52)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 50). (¬2) قال الشافعي في الأم (1/ 23): " ولا يتوضأ ولا يشرب في عظم ميتة، ولا عظم ذكي لا يؤكل لحمه، مثل عظم الفيل والأسد وما أشبهه؛ لأن الدباغ والغسل لا يطهران العظم. اهـ وانظر المجموع (1/ 291)، وقد نص النووي رحمه الله على كراهة استعمال عظام الميتة في شيء يابس، ولا يحرم؛ لأن النجاسة هنا لا تتعدى، قال رحمه الله (1/ 198): العاج المتخذ من عظم الفيل نجس عندنا كنجاسة غيره من العظام، لا يجوز استعماله في شيء رطب، فإن استعمل فيه نجسه، قال أصحابنا: ويكره استعماله في الأشياء اليابسة لمباشرة النجاسة، ولا يحرم؛ لأنه لا يتنجس به، ولو اتخذ مشطاً من عظم الفيل فاستعمله في رأسه أو لحيته، فإن كانت رطوبة من أحد الجانبين تنجس شعره، وإلا فلا، ولكنه يكره ولا يحرم، هذا هو المشهور للأصحاب. ورأيت في نسخة من تعليق الشيخ أبي حامد أنه قال: ينبغي أن يحرم، وهذا غريب ضعيف. قلت (القائل النووي): وينبغي أن يكون الحكم هكذا في استعمال ما يصنع ببعض بلاد حوران من أحشاء للغنم على هيئة الأقداح والقصاع ونحوها، لا يجوز استعماله في رطب، ويجوز في يابس مع الكراهة، قال الروياني: ولو جعل الدهن في عظم الفيل للاستصباح أو غيره من الاستعمال في غير البدن فالصحيح جوازه، وهذا هو الخلاف في جواز الاستصباح بزيت نجس؛ لأنه ينجس بوضعه في العظم .. هذا تفصيل مذهبنا في عظم الفيل، وإنما أفردته عن العظام كما أفرده الشافعي ثم الأصحاب، قالوا: وإنما أفرده لكثرة استعمال الناس له، ولاختلاف العلماء فيه، فإن أبا حنيفة قال بطهارته بناء على أصله في كل العظام، وقال مالك في رواية: إن ذكي فطاهر وإلا فنجس، بناء على رواية له أن الفيل مأكول، قال إبراهيم النخعي: إنه نجس، لكن يطهر بخرطه، وقد قدمنا دليل نجاسة جميع العظام وهذا منها، ومذهب النخعي ضعيف بين الضعف. والله أعلم. وانظر في مذهب الشافعية: حاشية البجيرمي (1/ 35)، وحاشية الشرواني (1/ 117)، روضة الطالبين (1/ 43، 44). (¬3) مختصر الخرقي (ص: 16)، المغني (1/ 56)، دليل الطالب (ص: 5)، المبدع (1/ 74، 76)، كشاف القناع (1/ 56)، الإنصاف (1/ 92)، الكافي (1/ 20).

وقيل: لا يجوز بيع العظام، ويجوز الانتفاع بها، وهو اختيار ابن حزم (¬1). وقال بعضهم: إن العظام نجسة، تطهر بالدباغ، ودباغها غليها، اختاره بعض المالكية (¬2). وسبب اختلافهم في عظام الميتة، اختلافهم في نجاسة الميتة هل هو بسبب احتقان الدم فيها، ولذلك الحيوان الذي لا دم له لا ينجس بالموت، فكذلك العظام من باب أولى؛ لأنه لا دم فيها، وهذا جلد الميتة إذا دبغ وانقطعت عنه الرطوبة النجسة أصبح طاهراً، فالعظام من باب أولى؛ إذ لا رطوبة فيها أصلاً. أو أن الموت هو سبب النجاسة، والعظام جزء من الميتة فتنجس بالموت؟ وهل النمو والتغذية في هذه العظام من خصائص الحياة الحيوانية، فيدخله الموت، أو أن الموت خاص في الحس والحركة المستقلة، وليس في العظام شيء من ذلك، وبالتالي لا يلحقها الموت؟. وقد سبق ذكر هذه المسألة في بحث مستقل، وذكر أدلة كل قول، والجواب عن أدلة القول المرجوح، وسبق أيضاً رجحان طهارة عظام الميتة مما أغنى عن إعادته في هذا الكتاب (¬3). ¬

(¬1) قال في المحلى (1/ 132): وأما العظم والريش والقرن فكل ذلك من الحي بعض الحي، والحي مباح ملكه وبيعه إلا ما منع من ذلك نص، وكل ذلك من الميتة ميتة، وقد صح تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع الميتة، وبعض الميتة ميتة، فلا يحل بيع شيء من ذلك، والانتفاع بكل ذلك جائز، لقوله عليه السلام: " إنما حرم أكلها" فأباح ما عدا ذلك إلا ما حرم باسمه من بيعها والادهان بشحومها، ومن عصبها ولحمها. اهـ (¬2) المنتقى شرح الموطا (3/ 136، 137). (¬3) انظر كتابي أحكام الطهارة (باب المياه والآنية) (ص: 545).

المبحث الثاني في شعر الميتة وريشها ووبرها

المبحث الثاني في شعر الميتة وريشها ووبرها إذا كان هذا الشعر والوبر قد جُزَّ من حيوان طاهر، وهو حي، فإنه طاهر بالإجماع (¬1)، أما إذا كان الشعر والوبر والصوف من حيوان ميت، فقد اختلف العلماء في ذلك: فقيل: إذا جز الشعر والوبر والصوف والريش من الحيوان فهو طاهر، سواء كان من حيوان طاهر أم نجس، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4)، إلا أن الحنفية استثنوا شعر الخنزير فقط. ¬

(¬1) نقل الإجماع على ذلك النووي في المجموع (1/ 296)، وابن رشد في بداية المجتهد (2/ 183)، وابن تيمية في الفتاوى (21/ 98). (¬2) البناية على الهداية (1/ 377)، البحر الرائق (1/ 112)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 170،171)، تبيين الحقائق (1/ 26)، العناية شريح الهداية (1/ 96)، الجوهرة النيرة (1/ 16)، شرح فتح القدير (1/ 96)، الفتاوى الهندية (1/ 24)، مجمع الأنهر في ملتقى الأبحر (1/ 32،33)، حاشية ابن عابدين (1/ 206). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 46، 47)، المنتقى (1/ 180)، تفسير القرطبي (2/ 219)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 150)، مواهب الجليل (1/ 89)، حاشية العدوي (1/ 584)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 50،51)، هذا قولهم في الشعر والوبر والصوف، وأما الريش من الميتة، فقد ذكر ابن عبد البر في الكافي مذهب المالكية، فقال: (ص: 189) لا يجوز الانتفاع بريش الميتة"، ونص على ذلك ابن الجلاب في التفريع (1/ 408)، واستثنى الباجي في المنتقى (3/ 137) الريش الذي لا سنخ له، مثل الزغب ونحوه. (¬4) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 263)، مجموع الفتاوى (21/ 617).

وقيل: إن كان الحيوان طاهراً في الحياة ولو كان غير مأكول، فشعره طاهر، وإن كان الحيوان نجساً فالشعر تبع له، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: إن الشعر والوبر والصوف من الميتة نجس إلا شعر الآدمي، وهو المشهور مذهب الشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: صوف الميتة وشعرها ووبرها نجس قبل الدباغ طاهر بعده، وهو اختيار ابن حزم (¬4). واشترط من قال بطهارته أن يجز جزاً. قال ابن نجيم: شعر الميتة إنما يكون طاهراً إذا كان محلوقاً، أو مجزوزاً، وإن كان منتوفاً فهو نجس (¬5). وقال الدردير: والمقصود بالجز: ما يقابل النتف، فيشمل الحلق والإزالة بالنورة، فلو جزت بعد النتف، فالأصل الذي فيه أجزاء الجلد نجس، والباقي طاهر (¬6). ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 92)، المبدع (1/ 76)، الفروع (1/ 78)، الكافي (1/ 20)، كشاف القناع (1/ 57)، مجموع الفتاوى (21/ 617)، المغني (1/ 60). (¬2) المجموع (1/ 291)، المهذب (1/ 11)، حلية العلماء (1/ 96)، روضة الطالبين (1/ 15، 43). (¬3) الإنصاف (1/ 92)، الفروع (1/ 77، 78). (¬4) المحلى (1/ 128). (¬5) البحر الرائق (1/ 113). (¬6) الشرح الكبير (1/ 49).

وقد ذكرنا أدلة كل قول في بحث مستقل، في كتابي أحكام الطهارة (أحكام المياه والآنية) (¬1) فأغنى عن إعادته هنا. وقد ترجح لي أن رأي الحنفية والمالكية أقوى من حيث الدليل، وأن الشعر لا تدخله الحياة الحيوانية، والحياة النباتية لا تكفي لتنجيسه إذا فارقها، وأنه لا فرق بين شعر الحيوان الطاهر بالحياة والحيوان النجس، ومن استثنى شعر الكلب أو الخنزير إن كان في ذلك إجماع فالدليل الإجماع، وإن لم يصح في المسألة إجماع فلا فرق بين شعره وشعر غيره، وبهذا يتبن لنا أن الميتة ثلاثة أقسام: نجس مطلقاً لا يطهر بحال، وهو اللحم والدم. وطاهر مطلقاً، وهو الشعر والوبر والصوف إذا جز جزاً. وطاهر بشرط الدباغ، وهو الجلد. وهناك قول آخر لم أذكره لأنه راجع إلى أحد الأقوال السابقة، وهو أن الشعر طاهر بعد الغسل، وهو مروي عن عطاء والحسن والأوزاعي كما ذكر ذلك عنهما ابن قدامة والنووي، وهذا المذهب يرجع إلى قول من قال بطهارة الشعر؛ لأن الشعر والوبر والصوف لو كان نجس العين لما طهره الغسل. والله أعلم. ¬

(¬1) (ص: 553).

المبحث الثالث في جلد الميتة

المبحث الثالث في جلد الميتة اختلف العلماء في جلد الميتة، هل هو نجس أو متنجس يمكن أن يطهر بالدباغ ونحوه، وهل يباح الانتفاع به قبل الدبغ أو بعده؟ فأقول: اختلف العلماء على قولين: فقيل: إن جلد الميتة نجس، وليس متنجساً، وعلى هذا لا يمكن أن يطهره الدباغ، وقبل الدبغ لا ينتفع بالجلد مطلقاً، وهو مذهب مالك (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وأما بعد الدبغ فيباح استعماله في يابس عندهما، وفي الماء عند المالكية (¬3). وقيل: إن جلد الميتة متنجس، وليس بنجس، وعلى هذا يمكن أن يطهره الدباغ على خلاف بينهم في عين الجلود التي يطهرها الدباغ. فقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود، إلا جلد الإنسان والخنزير، وهو مذهب الحنفية (¬4). ¬

(¬1) حاشية الدسوقي (1/ 54،55)، التاج والإكليل (1/ 101)، مواهب الجيل (1/ 101)، البيان والتحصيل (1/ 100)، التمهيد (4/ 156،157) و (1/ 162)، الكافي (ص: 189). (¬2) المبدع (1/ 70)، شرح العمدة (1/ 122)، كشاف القناع (1/ 54)، الإنصاف (1/ 86)، الإقناع (1/ 13)، الفروع (1/ 72)، الكافي (1/ 19)، المغني (1/ 53). (¬3) والفرق بين الماء وبين غيره من السوائل كالعسل واللبن والسمن، قالوا: إن الماء له قوة الدفع عن نفسه لطهوريته، فلا يضره إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة، بخلاف غيره. (¬4) الهداية شرح البداية (1/ 21)، البحر الرائق (1/ 105)، بدائع الصنائع (1/ 85)، =

وقيل: الدباغ يطهر جميع جلود الميتة بما في ذلك جلود ما لا يؤكل لحمه، إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: الدباغ لا يطهر إلا ما تحله الذكاة، وهو رواية عن مالك (¬2)، واختاره أبو ثور (¬3)، ورجحه بعض الحنابلة كالمجد وابن رزين وابن عبد القوي (¬4)، وابن تيمية (¬5). وقيل: الدباغ يطهر كل حيوان طاهر في الحياة، وهو رواية عن أحمد، واختارها بعض أصحابه، وهو رواية ثانية عن ابن تيمية (¬6). وقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود حتى جلد الكلب والخنزير، وهو ¬

= تبيين الحقائق (1/ 24)، حاشية ابن عابدين (1/ 203)، المبسوط (1/ 202)، حاشية الطحطاوي (1/ 111)، بد. (¬1) الأم (1/ 9) حلية العلماء (1/ 93)، الإقناع للشربيني (1/ 28)، الوسيط (1/ 129)، روضة الطالبين (1/ 41)، المجموع (1/ 275). (¬2) جاء في البيان والتحصيل (1/ 101): وسئل مالك: أترى ما دبغ من جلود الدواب طاهراً؟ فقال: ألا يقال هذا في جلود الأنعام، فأما جلود ما لا يؤكل لحمه فكيف يكون طاهراً إذا دبغ، وهو مما لا ذكاة فيه، ولا يؤكل لحمه. اهـ ونقل ابن عبد البر هذا الكلام في الاستذكار (15/ 326). وقال في التمهيد (4/ 182): وقالت طائفة من أهل العلم لا يجوز الانتفاع بجلود السباع لا قبل الدباغ ولا بعده، مذبوحة كانت أو ميتة، وممن قال هذا القول: الأوزاعي وابن المبارك وإسحاق، وأبو ثور، ويزيد بن هارون. اهـ (¬3) الاستذكار (15/ 326). (¬4) الإنصاف (1/ 87). (¬5) مجموع الفتاوى (21/ 95). (¬6) الإنصاف (1/ 86).

مذهب الظاهرية (¬1). فتلخص لنا من هذا الخلاف ما يلي: قيل: الدباغ لا يطهر مطلقاً. وقيل: يطهر مطلقاً. وقيل: يطهر جميع الجلود إلا الكلب والخنزير والإنسان. وقيل: يطهر ما تحله الذكاة. وقيل: يطهر ما كان طاهراً في الحياة، وإن كان محرماً أكله كالهرة ونحوها. وأما الانتفاع بالجلود، فقيل: يباح الانتفاع بالجلود مطلقا، سواء دبغت أم لا (¬2). وقيل: يباح الانتفاع بها بشرط الدبغ. وقيل: يباح الانتفاع بها في يابس، وقيل: في يابس وماء. وقد ذكرت أدلة كل قول في بحث مطول في أكثر من أربعين صفحة تقريباً، يرجع إليها في كتابنا أحكام الطهارة، في باب الآنية. ¬

(¬1) المحلى (1/ 118)، وذكره مذهباً لداود الظاهري ابن رشد في البيان والتحصيل (3/ 357)، وعون المعبود (11/ 179). (¬2) هذا القول يراه الإمام الزهري رحمه الله، كما في مصنف عبد الرزاق (1/ 62)، ومسند أحمد (1/ 365)، وأبو داود (4122)، مجموع الفتاوى (21/ 101)، وحكاه ابن تيمية عن بعض السلف.

المبحث الرابع في عصب الحيوان الميت

المبحث الرابع في عصب الحيوان الميت اختلف العلماء في عصب الحيوان الميت، فقيل: إنه طاهر، إلا من الخنزير فإنه نجس، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: إنه نجس، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وقول في مذهب الحنفية (¬5). دليل الحنفية على طهارة عصب الميتة: الدليل الأول: قالوا: إن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، ولذلك كان ما لا نفس له سائلة، إذا مات لم ينجس؛ لأنه لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فالعصب ونحوه أولى بعدم التنجس من هذا، فإن العصب ليس فيه دم سائل، ولا كان ¬

(¬1) بدائع الصنائع (5/ 142)، البحر الرائق (1/ 114)، حاشية ابن عابدين (1/ 107)، شرح فتح القدير (1/ 96، 211). (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 54)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 50)، الخرشي (1/ 89)، (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 581): عصب الميتة غير الآدمي نجس بلا خلاف. اهـ ويقصد رحمه الله بقوله: بلا خلاف أي في المذهب. (¬4) المبدع (1/ 75)، الفروع (1/ 110) الإنصاف (1/ 92) كشاف القناع (1/ 56)، مطالب أولي النهى (1/ 61). (¬5) المبسوط (1/ 203).

الدليل الثاني

متحركاً بالإرادة إلا على وجه التبع، فإذا كان الحيوان الكامل الإحساس المتحرك بالإرادة، لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العصب الذي ليس فيه دم سائل أصلاً؟! (¬1). الدليل الثاني: قالوا: إن هذه الأشياء ليست بميتة، فليست داخلة في عموم تحريم الميتة؛ لأن الميتة من الحيوان في عرف الشارع اسم لما زالت حياته، ولا حياة في هذه الأشياء، وما لا تحله الحياة لا يحله الموت. فإن قيل: إنها داخلة في الميتة؛ لأنها تحس وتتألم. قيل لهم: أنتم لم تأخذوا في عموم اللفظ، فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب لا ينجس عند جماهير العلماء، مع أنه ميتة (¬2). الدليل الثالث: أن طهارة العصب أولى من طهارة الجلد بالدباغ، فهذا الجلد جزء من الميتة، فيه الدم كسائر أجزائها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الدباغ طهارة له؛ لأن الدباغ ينشف رطوبته، فدل على أن سبب التنجس هو الرطوبات، والعصب ليس فيه رطوبة سائلة، فهو أولى بالطهارة من الجلد (¬3). الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه قال ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوى (21/ 99 - 100) بتصرف يسير. (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق.

دليل الجمهور على نجاسة العصب

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الميتة: إنما حرم أكلها. (¬1)، وقد سبق الحديث بتمامه. فهذا دليل على جواز الانتفاع بعصب الميتة، ولا يلزم من تحريم أكل الميتة نجاستها، فالأكل شيء، والنجاسة شيء آخر، فلا تلازم بينهما. وقد يقال: ولا يلزم من جواز الانتفاع بعصب الميتة طهارته، فباب الانتفاع أوسع من باب الطهارة، فهذا الكلب نجس، ويجوز الانتفاع به بالصيد والحراسة ونحوهما. دليل الجمهور على نجاسة العصب: الدليل الأول: قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬2)، والعصب جزء من الميتة. الدليل الثاني: (1624 - 152) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، قال: أتانا كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا غلام، أن لا تنتفعوا بإهاب ميتة، ولا عصب (¬3). [رجاله ثقات، إلا أن عبد الله بن عكيم لم يثبت له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو مرسل، وقد اختلف في إسناده اختلافاً كثيراً] (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1492)، صحيح مسلم (363). (¬2) المائدة: 3. (¬3) المصنف (5/ 206). (¬4) الحديث في إسناده اختلاف كثير، فرواه الحكم بن عتيبة، واختلف عليه: =

الراجح

الراجح: بعد استعراض أدلة الفريقين يتبين لي أن العصب طاهر، وأن تحريم الأكل لا يلزم منه النجاسة، وأنه يجوز الانتفاع به، شأنه شأن العظم والظفر والقرن والحافر ونحوها، والله أعلم. ¬

_ = فقيل: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم مرسلا. وقيل: عن الحكم عن عبد الله بن عكيم. وقيل: عن الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم. وتارة يحدث به عبد الله بن عكيم مباشرة، وتارة يرويه عبد الله بن عكيم، عن مشايخ من جهينة. ورواه القاسم بن مخيمرة، واختلف عليه أيضاً: فقيل: عن القاسم، عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة. وقيل: عن القاسم، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم. وكما اختلفوا في إسناده، اختلفوا في متنه: فقيل: قبل وفاته بشهر. وقيل: قبل وفاته بشهر أو شهرين على الشك. وقيل: قبل وفاته بأربعين يوماً. وقيل: قبل وفاته بثلاثة أيام. وقد فصلنا هذه الأختلافات وخرجناها تخريجاً كاملاً في كتابي أحكام الطهارة، باب المياه من هذه السلسلة، رقم (103) فارجع إليه غير مأمور.

المبحث الخامس فيما قطع من البهيمة وهي حية

المبحث الخامس (*) فيما قطع من البهيمة وهي حية إذا انفصل من الحيوان عضو حال الحياة فما حكم هذا المنفصل؟ هل يعتبر طاهراً أو نجساً؟. وقبل الجواب على هذا نشير إلى أننا تكلمنا عن الشعر والصوف والوبر والعظم والقرن والظفر، وذكرنا خلاف العلماء في هذا، فلا نريد أن نعيد الكلام على ذلك، وإنما المقصود فيما انفصل من الحيوان غير هذه، كالكرش والأمعاء والشحم والأذن والأنف واليد والرجل ونحوها تنفصل بلا تذكية شرعية. فهذه الأشياء إذا انفصلت من الحي فلها حكم ميتته، فإن كانت ميتته طاهرة إجماعاً كانت هذه الأجزاء طاهرة إجماعاً، وإن كانت ميتته نجسة اتفاقاً كانت منه نجسة كذلك، وإن كانت ميتته مختلفاً فيها كان الخلاف في أجزائها كذلك، فمن رجح طهارة ميتته حكم بطهارتها، ومن رجح نجاسة ميتته رجح نجاستها، وهكذا. فالسمك والجراد مجمع على طهارة ميتتهما، فالعضو المبان منهما حال الحياة طاهر. والعجب أن النووي قد ساق خلافاً في العضو المبان من السمك مع الاتفاق على طهارة ميتته (¬1). ¬

(¬1) قال النووي في المجموع (2/ 581): وأما العضو المبان من السمك والجراد والآدمي كيده ورجله وظفره ومشيمة الآدمي ففيها كلها وجهان: = (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا المبحث لم يذكره المؤلف - حفظه الله - في الخطة التي يقدمها قبل كل بحث، ولهذا جاء المبحث التالي له برقم (المبحث الخامس) أيضا، وهو المذكور في الخطة، وهذا ما ذكره المؤلف - حفظه الله - في مقدمة هذا الجزء (جـ13) صـ 7 عند استعراض خطة البحث: الفصل الثالث: في أجزاء الميتة. المبحث الأول: في عظم الميتة وقرنها وحافرها. المبحث الثاني: في شعر الميتة وريشها ووبرها. المبحث الثالث: في جلد الميتة. المبحث الرابع: في عصب الحيوان. المبحث الخامس: في لبن الميتة.

وما أجمع على نجاسة ميتته مما له نفس سائلة غير الآدمي والسمك كالإبل والغنم والبقر فإن العضو المبان منها نجس، وحكي الإجماع على نجاسته (¬1). قال النووي: العضو المنفصل من حيوان حي - كألية الشاة وسنام البعير وذنب البقرة والأذن واليد وغير ذلك- نجس بالإجماع (¬2). وما اختلف في نجاسة ميتته - كالآدمي وما لا نفس له سائلة - فما انفصل منه حال الحياة يكون على الخلاف (¬3). ¬

= أصحهما طهارتها, وهو الذي صححه الخراسانيون كميتاتها. والثاني: نجاستها، وإنما يحكم بطهارة الجملة لحرمتها، وبهذا قطع العراقيون أو جمهورهم في يد الآدمي وسائر أعضائه، وتكرر نقل القاضي أبي الطيب الاتفاق على نجاسة يد السارق, وغيره إذا قطعت أو سقطت, ونقل القاضي أيضا الاتفاق على نجاسة مشيمة الآدمي, والصحيح الطهارة كما ذكرناه, وأما مشيمة الآدمي فنجسة بلا خلاف كما في سائر أجزائه المنفصلة في حياته، والله أعلم. (¬1) قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 133): إن كان المبان جزءاً فيه دم كاليد والأذن والأنف ونحوها فهو نجس بالإجماع، وإن لم يكن فيه دم كالشعر والصوف والظفر ونحوه فهو على الاختلاف. اهـ (¬2) المجموع (2/ 580). (¬3) قال ابن قدامة في المغني (8/ 258): ومن ألصق أذنه بعد إبانتها, أو سنه, فهل تلزمه إبانتها؟ فيه وجهان, مبنيان على الروايتين, فيما بان من الآدمي, هل هو نجس أو طاهر؟ إن قلنا: هو نجس لزمته إزالتها, ما لم يخف الضرر بإزالتها, كما لو جبر عظمه بعظم نجس. وإن قلنا بطهارتها لم تلزمه إزالتها. وهذا اختيار أبي بكر, وقول عطاء بن أبي رباح, وعطاء الخراساني، وهو الصحيح; لأنه جزء آدمي طاهر في حياته وموته, فكان طاهرا كحالة اتصاله. اهـ وانظر من المغني أيضاً (1/ 42). =

الدليل على أن المنفصل له حكم ميتته

وقد سبق الحديث عن الميتة وطهارتها بشيء من التفصيل، فليرجع إليه. الدليل على أن المنفصل له حكم ميتته. (1625 - 153) فقد روى أحمد، قال: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الرحمن - يعني: ابن عبد الله بن دينار- عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، والناس يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أليات الغنم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قطع من البهيمة وهي حية، فهي ميتة (¬1). [الراجح أنه مرسل] (¬2) ¬

= ويرى ابن حزم كما في المحلى (1/ 181) مسألة: 39: أن ما أبين من المسلم فهو طاهر، وما أبين من الكافر فهو نجس تمشياً مع مذهبه بنجاسة الكافر، وقد ذكر دليله في مسألة مستقلة في الباب الأول وسبق ترجيح طهارة الكافر مطلقاً حياً وميتاً. (¬1) المسند (5/ 218). (¬2) الحديث فيه اختلاف كثير، والحديث مداره على زيد بن أسلم، فروي عنه تارة من مسند أبي واقد، ومرة من مسند ابن عمر، ومرة من مسند أبي سعيد، وجاء موصولاً ومرسلاً، والراجح فيه رواية ابن مهدي، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتابعه معمر، عن زيد بن أسلم، وقد سبق الكلام على هذه الطرق بشيء من التفصيل في أحكام الطهارة (المياه والآنية) رقم: 153.

المبحث الخامس في لبن الميتة

المبحث الخامس في لبن الميتة الفرع الأول في لبن الآدمي الميت اختلف العلماء في لبن المرأة الميتة، فقيل: إنه نجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: لبنها طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬3)، وهو مذهب الشافعية (¬4). ¬

(¬1) الخرشي (1/ 85) حاشية الدسوقي (1/ 51) وقال القرطبي في تفسيره (10/ 126): فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان طاهر حياً وميتاً فهو طاهر، ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. الخ كلامه رحمه الله. (¬2) المجموع (1/ 299، 300). (¬3) قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/ 182): وأما لبن الآدمي فطاهر مباح مطلقا خرج في الحياة أو بعد الموت على المعتمد. اهـ وانظر منح الجليل (1/ 48). (¬4) قال النووي في المجموع (1/ 299، 300): إذا ماتت امرأة، وفي ثديها لبن، فإن قلنا: ينجس الآدمي بالموت، فاللبن نجس كما في الشاة، وإن قلنا بالمذهب: إن الآدمي لا ينجس بالموت فهذا اللبن طاهر; لأنه في إناء طاهر. اهـ

دليل من قال: إن لبن المرأة الميتة نجس

دليل من قال: إن لبن المرأة الميتة نجس. هذا القول مبني على قول ضعيف، وهو أن الآدمي ينجس بالموت، وإذا نجس الظرف تنجس المظروف، وإذا لم تصح المقدمة لم تصح النتيجة، فالصحيح أن الآدمي طاهر حياً وميتاً، وهي مسألة خلافية، انظر أدلتها في باب أحكام الميتة.

الفرع الثاني في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم

الفرع الثاني في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم اختلف أهل العلم في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم، فقيل: إنه طاهر، وهذا قول أبي حنيفة (¬1)، ورواية عن الإمام أحمد (¬2)، واختيار داود الظاهري (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). وقيل: نجس، اختاره أبو يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬5)، وهو مذهب المالكية (¬6)، والشافعية (¬7)،والمشهور من مذهب الحنابلة (¬8). ¬

(¬1) شرح فتح القدير (1/ 96)، و (3/ 455)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 168)، المبسوط (24/ 27)، تبيين الحقائق (1/ 26). (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 102، 103). (¬3) المغني (1/ 57)، الفروع (1/ 107)، الإنصاف (1/ 92). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 103)، الفتاوى الكبرى (1/ 171). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 63)، شرح فتح القدير (1/ 96، 97). (¬6) قال ابن عبد البر في الكافي (ص: 188): " ولا تؤكل بيضة أخرجت من دجاجة ميتة، وكذلك لبن الميتة؛ لأنه في ظرف نجس؛ لأنه يموت بموت الشاة. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/ 50). (¬7) قال الشيرازي (1/ 299، 300): وأما اللبن في ضرع الشاة الميتة فهو نجس ; لأنه ملاق للنجاسة، فهو كاللبن في إناء نجس. اهـ قال النووي شارحاً هذه العبارة: أما مسألة اللبن فهو نجس عندنا بلا خلاف, هذا حكم لبن الشاة وغيرها من الحيوان الذي ينجس بالموت. اهـ (¬8) الفروع (1/ 107)، المغني (1/ 57)، الإنصاف (1/ 92).

دليل من قال بالطهارة

دليل من قال بالطهارة: الدليل الأول: قال تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} (¬1). وجه الاستدلال: فالآية عامة في سائر الألبان، ومن قيده في حال الحياة فعليه الدليل. الدليل الثاني: قالوا: اللبن لا يجوز أن يلحقه حكم الموت; لأنه لا حياة فيه. ويدل عليه أنه يؤخذ منها وهي حية فيؤكل, فلو كان مما يلحقه حكم الموت لم يحل إلا بذكاة الأصل، كسائر أعضاء الشاة. اهـ وهذا معنى قول السرخسي: لو كان اللبن يتنجس بالموت لتنجس بالحلب أيضا (يعني: ولو كان من بهيمة حية) فإن ما أبين من الحي ميت, فإذا جاز أن يحلب اللبن , فيشرب عرفنا أنه لا حياة فيه , فلا يتنجس بالموت. وسوف يناقش - إن شاء الله تعالى - في مسألة مستقلة (حكم ما أبين من الحي). الدليل الثالث: قياس لبن الميتة على أنفحتها، فإذا كانت الأنفحة طاهرة، وهي مأخوذة من وعاء نجس، فكذلك اللبن طاهر، ولو أخذ من وعاء نجس. قال ابن تيمية: الصحابة لما فتحوا العراق أكلوا جبن المجوس، وكان هذا ¬

(¬1) النحل: 66.

دليل من قال بالنجاسة

ظاهراً شائعاً بينهم، وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر؛ فإنه من نقل بعض الحجازيين، وفيه نظر، وأهل العراق كانوا أعلم بهذا؛ فإن المجوس كانوا ببلادهم، ولم يكونوا بأرض الحجاز (¬1). وفي طهارة الأنفحة خلاف، وسوف تناقش الآثار الواردة في طهارة الأنفحة في فصل مستقل - إن شاء الله تعالى - فانظره في بابه. دليل من قال بالنجاسة: الدليل الأول: قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬2). وهذا عام في جميع أجزاء الميتة، ومنه لبنها. وأجيب: بأن اللبن ليس جزءاً من الميتة، وقد تبين أنه إذا انفصل عنها في حال الحياة جاز شربه إجماعاً، ولو كان جزءاً منها لأعطي حكم ميتته، ثم إن أجزاء الميتة ليست على درجة واحدة، فمنه الشعر والوبر والصوف، فهذا طاهر على الصحيح. ومنه الجلد، فهذا يطهر بالدباغ. ومنه اللحم فهذا محرم الأكل، وحكي الإجماع على نجاسته. الدليل الثاني: أنه لبن طاهر في ذاته، ولكنه تنجس لنجاسة الوعاء، فهو بمنزلة لبن طاهر ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 103). (¬2) المائدة: 3.

صب في قصعة نجسة. قال ابن تيمية: واللبن والإنفحة لم يموتا، وإنما نجسهما من نجسهما لكونهما في وعاء نجس، فالتنجس مبني على مقدمتين: على أن المائع لاقى وعاء نجساً، وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجساً (¬1). وأجيب: قال أبو بكر الجصاص: إن قيل: ما الفرق بينه وبين ما لو حلب من شاة حية ثم جعل في وعاء نجس وبين ما إذا كان في ضرع الميتة؟ قيل: الفرق بينهما أن موضع الخلقة لا ينجس ما جاوره بما حدث فيه خلقة. والدليل على ذلك اتفاق المسلمين على جواز أكل اللحم بما فيه من العروق مع مجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل لذلك, فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه. ودليل آخر, وهو قوله: {من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين} (¬2)، فهذا إخبار بخروجه من بين فرث ودم، وهما نجسان مع الحكم بطهارته, ولم تكن مجاورته لهما موجبة لتنجيسه; لأنه موضع الخلقة, كذلك كونه في ضرع ميتة لا يوجب تنجيسه (¬3). وقال مثله ابن تيمية، قال: هذا القول مبني على مقدمتين: على أن المائع لاقى وعاء نجساً، وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجساً. فيقال: لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة، وقد تقدم أن السنة ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 103). (¬2) النحل: 66. (¬3) أحكام القرآن للجصاص (1/ 169).

الراجح

دلت على طهارته، لا على نجاسته. ويقال ثانياً: إن الملاقاة في الباطن لا حكم لها، كما في قوله سبحانه وتعالى: {نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} (¬1)، ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في بطنه (¬2). الراجح والله أعلم القول بالطهارة، لكن إن كان فيه أدنى تغير من طعم أو لون أو رائحة خبيثة، فهو نجس، وإن كان باقياً على خلقته فهو طاهر، وإن قال الأطباء إن مثله يضر بالصحة لتلوثه بالميكروبات والجراثيم حرم تناوله ولو حكمنا بطهارته، لأجل الضرر، لا لأجل تنجيسه، والله أعلم. ¬

(¬1) النحل: 66. (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 103).

المبحث السادس في بيض الحيوان الميت

المبحث السادس في بيض الحيوان الميت إذا انفصلت البيضة من حيوان مأكول بعد موته، بغير تذكية شرعية، وهو مما يحتاج إلى التذكية، وكانت البيضة لم تتغير فاختلف العلماء فيها: فقيل: إنها طاهرة مطلقاً، سواء صلب قشرها أم لا، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختاره بعض الشافعية (¬2)، وابن عقيل من الحنابلة (¬3). وقيل: إنها نجسة مطلقاً، سواء صلب قشرها أم لا، وهذا مذهب المالكية (¬4). وقيل: إن صلب قشرها فهي طاهرة، وإلا كانت نجسة، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6)، واختاره ابن حزم (¬7). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 76، 77)، تبيين الحقائق (1/ 26، 27)، (¬2) المجموع (1/ 300). (¬3) الإنصاف (1/ 94)، وقال في المستوعب (1/ 333): وما جمد، ولم يصلب قشره في طهارته وجهان. اهـ (¬4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 50)، مواهب الجليل (1/ 93)، التاج والإكليل (1/ 132)، الخرشي (1/ 85). (¬5) المجموع (1/ 300). (¬6) قال في المستوعب (1/ 333): وما صلب قشره من بيضها طاهر قولاً واحداً. اهـ وقال في الإنصاف (1/ 94): إذا صلب قشر بيضة الميتة من الطير المأكول, فباطنها طاهر بلا نزاع ونص عليه, وإن لم يصلب فهو نجس على الصحيح من المذهب. وعليه أكثر الأصحاب. اهـ وانظر المغني (1/ 57، 58)، شرح منتهى الإرادات (1/ 32). (¬7) المحلى، مسألة: 1010 (6/ 95).

دليل من قال بالطهارة مطلقا

دليل من قال بالطهارة مطلقاً: الدليل الأول: أن البيض لا تحله الحياة، فلا ينجس بموت الحيوان، مثله مثل لبن الميتة وإنفحتها، وقد قدمنا أن الراجح طهارتها، فكذلك البيضة. الدليل الثاني: أن البيض هذا لو أخذ، واستخرج منه فرخه، كان الحيوان طاهراً إجماعاً، فهذا دليل على طهارة البيض. الدليل الثالث: أن البيض هو الأصل الذي يخلق منه الحيوان، وهو طاهر، فكذا أصله. الدليل الرابع: أن البيض محمي بغشاء رقيق، وهذا الغشاء بمثابة الجلد، يمنع من تسرب النجاسة إلى البيض. الدليل الخامس: أن البيضة تؤخذ من الطائر حال حياته، وهي طاهرة إجماعاً كما قدمنا، فلو كانت جزءاً منه كان لها حكم ميتته، لحديث ما أبين من حي فهو كميتته (¬1). دليل من قال بالنجاسة مطلقاً: أن البيضة جزء من الميتة، والميتة نجسة، فكذلك بيضها. ¬

(¬1) سبق تخريجه في مبحث " حكم ما قطع من البهيمة، وهي حية، ورجحت أنه مرسل، والله أعلم.

الراجح من الخلاف

وأجيب: بأن البيض ليس جزءاً من الميتة، بل هو منفصل عنها، وعلى التسليم فليس كل أجزاء الميتة نجسة، فهذا الشعر من الميتة طاهر، ولا ينجس بالموت، وكذلك عظم الميتة على الصحيح وقرنها، وكذلك جلدها إذا دبغ، وهذا الأشياء تتكون منها الميتة، فما بالك بالبيض الذي هو بمنزلة الجنين من الميتة لا ينجس بنجاسة الأم، فلو خرج الجنين من الميتة حياً كان طاهراً، فكذلك البيضة إذا خرجت ولم تكن فاسدة فهي طاهرة، والله أعلم. دليل من قال: إن صلب قشرها فهي طاهرة، وإلا فهي نجسة: قالوا: إذا تصلب قشر البيضة منع من تسرب النجاسة إليها، بخلاف غير المتصلب، فإنه لا يمنع من التأثر بالنجاسة. وأجيب: على التسليم بهذا، فإننا نعرف أن النجاسة قد تسربت إليها أو لم تتسرب بالفساد، فإذا خرجت البيضة غير فاسدة جزمنا أن النجاسة لم تتسرب إليها، إذ لو تسربت إليها لم تبق البيضة على حالتها لم تتغير، بل لو تسرب إليها سائل طاهر لغير البيضة، فكيف إذا تسرب إليها شيء نجس؟. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة يظهر أن القول بطهارة البيضة أرجح من حيث قوة الاستدلال، والحكم بالنجاسة يحتاج إلى دليل صحيح سالم من المعارضة، والله أعلم.

المبحث السابع في إنفحة الميتة

المبحث السابع في إنفحة الميتة اختلف العلماء في أنفحة الميتة إذا أخذت من حيوان رضيع، فقيل: إنها طاهرة، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬2)، رجحها ابن تيمية (¬3). وقيل: إنها نجسة، وهو مذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). وقيل: إن كانت جامدة فلا بأس، وإن كانت مائعة فإنها مكروهة، وهذا اختيار أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬7). ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (1/ 147)، البحر الرائق (1/ 112)، حاشية ابن عابدين (1/ 206)، المبسوط (24/ 27)، شرح فتح القدير (1/ 96)، بدائع الصنائع (1/ 63). (¬2) الإنصاف (1/ 92)، مجموع الفتاوى (21/ 102). (¬3) الإنصاف (1/ 92)، مجموع الفتاوى (21/ 103). (¬4) تفسير القرطبي (2/ 220)، القوانين الفقهية (ص: 121). (¬5) قال النووي في روضة الطالبين (1/ 16): " وأما الأنفحة فإن أخذت من السخلة بعد موتها أو بعد أكلها غير اللبن فنجسة بلا خلاف " وانظر مغني المحتاج (1/ 80). (¬6) المبدع (1/ 74)، شرح العمدة لابن تيمية (1/ 130)، الإنصاف (1/ 92)، كشاف القناع (1/ 56)، المغني (9/ 342). (¬7) أحكام القرآن للجصاص (1/ 147)، البحر الرائق (1/ 112)، حاشية ابن عابدين (1/ 206).

دليل من قال بالطهارة

دليل من قال بالطهارة: الدليل الأول: كل دليل ساقه الفقهاء على طهارة لبن الميتة فإنه دليل على هذه المسألة، إذ لا فرق بينهما، فكما أن لبن الميتة سائل في وعاء نجس، فكذا الأنفحة، فمن رأى طهارة لبن الميتة رأى طهارة الأنفحة، والعكس بالعكس، ويضاف إلى هذه الأدلة أدلة خاصة في الأنفحة. الدليل الثاني: (1626 - 154) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن شرحبيل، قال: ذكرنا الجبن عند عمر فقلنا: إنه يصنع فيه أنافيح الميتة، فقال: سموا عليه وكلوه. [وهذا سند في غاية الصحة]. الدليل الثالث: (1627 - 155) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا الفضيل بن دكين، عن عمرو بن عثمان، عن موسى بن طلحة. قال: سمعته يذكر أن طلحة كان يضع السكين ويذكر اسم الله، ويقطع، ويأكل (¬1). [سنده صحيح]. ¬

(¬1) المصنف (8/ 100).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1628 - 156) ما روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جحش، عن معاوية بن قرة، عن الحسن بن علي أنه سئل عن الجبن فقال: لا بأس به ضع السكين واذكر اسم الله وكل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (1629 - 157) روى الترمذي، قال: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، حدثنا سيف بن هارون البرجمي، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه (¬3). [إسناده ضعيف مرفوعاً، والمعروف أنه موقوف على سلمان] (¬4). ¬

(¬1) المصنف (8/ 100). (¬2) في إسناده جحش بن زياد، روى عنه جماعة، وسكت عليه ابن أبي حاتم، فلم يذكر فيه جرحاً. الجرح والتعديل (2/ 550). وذكره ابن حبان في الثقات (6/ 157). وباقي رجال الحديث كلهم ثقات. (¬3) سنن الترمذي (1726). (¬4) والحديث أخرجه ابن ماجه (3367) عن شيخ الترمذي: إسماعيل بن موسى به. وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 115) من طريق منجاب بن الحارث، عن سيف بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = هارون به. وفي إسناده سيف بن هارون، جاء في ترجمته: قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال فيه مثله أبو داود. وقال الدارقطني: ضعيف متروك. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: له أحاديث ليست بالكثيرة، وفي رواياته بعض النكرة. ووثقه أبو نعيم. انظر تهذيب الكمال (12/ 334). وقال الذهبي في استدراكه على المستدرك: ضعفه جماعة. وقال البخاري فيما رواه عنه الترمذي (4/ 192): مقارب الحديث. وقال الحافظ في التقريب (2727): ضعيف. أفحش ابن حبان القول فيه. فقد خالف سفيان بن عيينة ابن هارون، فرواه عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان عن سلمان موقوفاً عليه. ذكره الترمذي (1/ 192) وقال: وكأن الحديث الموقوف أصح. وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظاً، روى سفيان عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان عن سلمان موقوفاً. ورجح أبو حاتم الرازي في العلل كون الحديث مرسلاً، فقد جاء في العلل لابن أبي حاتم (2/ 10): " وسألته عن حديث رواه سيف بن هاورن البرجمي، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سليمان، قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفراء والسمن والجبن؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " قال أبي: هذا خطأ رواه الثقات، عن التيمي، عن أبي عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل، ليس فيه سلمان، وهو الصحيح " وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 98) قال حدثنا وكيع، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية عن سويد - غلام سلمان - وأثنى عليه خيراً. قال: لما افتتحنا المدائن خرج الناس في طلب العدو، قال: قال سلمان: وقد أصبنا سلة، فقال: افتحوها، فإن كان طعاماً أكلناه، وإن كان مالاً دفعناه إلى هؤلاء، قال: ففتحنا فإذا أرغفة حواري، وإذا جبنة وسكين، قال: وكان أول ما رأت العرب الحواري، فجعل سلمان يصف لهم كيف يعمل، ثم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أخذ السكين وجعل يقطع، وقال: بسم الله كلوا. في إسناده أبو جعفر الرازي، جاء في ترجمته: قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس بقوي في الحديث. وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: صالح الحديث. وقال فيه يحيى ابن معين: كان ثقة. وقال مرة: يكتب حديثه، ولكنه يخطئ. وقال في أخرى: صالح. وقال أيضاً: ثقة، وهو يغلط فيما يروي عن مغيرة. وقال علي بن المديني: هو نحو موسى بن عبيدة. وهو يخلط فيما روى عن مغيرة ونحوه. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني: كان عندنا ثقة. ووثقه: محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي. وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق. سئ الحفظ. وقال أبو زرعة: شيخ يهم كثيراً. وقال أبو حاتم: ثقة، صدوق، صالح الحديث. وقال زكريا الساجي: صدوق ليس بمتقن. وقال النسائي: ليس بالقوي. انظر تهذيب الكمال (33/ 192). وقال في التقريب (8019): صدوق سئ الحفظ، خصوصاً عن مغيرة. وقد توبع أبو جعفر فزال ما يخشى من سوء حفظه. وأما الربيع بن أنس. قال فيه النسائي: ليس به بأس. وقال فيه أحمد العجلي: صدوق. سمع منه ابن المبارك أربعين حديثاً، وكان يقول: ما يسرني أن لي بها كذا وكذا لشئ سماه. ونقل عن ابن المبارك أنه قال: أعطيت ستين درهماً حتى أدخلت على الربيع بن أنس، فلم ينصحني من أدخلني عليه، أعطاني أحاديث مقطعات. انظر تهذيب الكمال (9/ 60ـ 62). جاء في الجرح والتعديل (3/ 454) عن أبي حاتم صدوق، أحب إلي في أبي العالية من أبي خلدة. وفي التقريب (1882): صدوق له أوهام. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وسويد، غلام سلمان. ذكره البخاري في تأريخه الكبير القسم الثاني، من الجزء الثاني (ص: 144) وقال: روى عنه الربيع بن أنس، وسمع سلمان قوله. وفي الجرح والتعديل (4/ 236) سويد غلام سلمان، وأثني عليه خيراً، روى عنه الربيع ابن أنس، ومن الناس من يقول الربيع بن أنس، عن أبي العالية عن سويد، سمعت أبي يقول ذلك. اهـ وأخرج الحديث البيهقي (9/ 60) من طريق يعقوب بن القعقاع، عن الربيع بن أنس عن سويد به. وهذه متابعة لأبي جعفر الرازي. وروى البيهقي في السنن (9/ 320) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو العباس القاسم ابن القاسم السياري، ثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي، ثنا أبي، ثنا أبي، ثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني يونس بن خباب، عن أبي عبيد الله، عن سلمان رضي الله عنه بمثله. وفي إسناده: عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي، ذكره الذهبي في الميزان، وقال: حدث عنه علي بن محمد بن مهرويه القزويني، فذكر خبراً موضوعاً. اهـ كما أن في إسناده يونس بن خباب، جاء في ترجمته: قال يحيى بن معين: رجل سوء. الجرح والتعديل (9/ 238). وقال أخرى: ليس بشيء. الكامل (7/ 172). وقال في رواية ابن أبي مريم عنه: ليس به بأس، يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (11/ 384). قال أحمد: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن يونس بن خباب. الجرح والتعديل (9/ 238). قال يحيى بن سعيد: ما تعجبنا الرواية عن يونس بن خباب. المرجع السابق. قال أبو حاتم الرازي: مضطرب الحديث، ليس بالقوي. المرجع السابق. قال الجوزجاني: كذاب مفتر. أحوال الرجال (22). =

الدليل السادس

وكونه موقوفاً، لا يعني أنه لا يستدل به. فهذا عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والحسن بن علي، وسلمان كلهم يرون طهارة الأنفحة، فإذا لم نجد في السنة المرفوعة حكماً فإنا لا نتجاوز ما اختاره الصحابة رضي الله عنهم، فسبيلهم سبيل المؤمنين. قال ابن تيمية في الفتاوى: ويدل لذلك أن سلمان الفارسي كان هو نائب عمر بن الخطاب على المدائن، وكان يدعو الفرس إلى الإسلام. وقد ثبت عنه أنه سئل عن شئ من السمن والجبن والفراء؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه" (¬1). اهـ الدليل السادس: (1630 - 158) روى أبو داود، قال: حدثنا يحيى بن موسى البلخي، قال: ثنا إبراهيم بن عيينة، عن عمرو بن منصور، عن الشعبي، عن ابن عمر قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجبنة في تبوك، فدعا بسكين، ¬

= وقال يحيى بن سعيد: كان كذاباً. ميزان الاعتدال. قال عباد بن عباد: لقيت يونس بن خباب، فسمعته يقول: قتل عثمان بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت له: قتل واحدة فزوجه الأخرى؟ قال: قم عني فإنك صاحب هوى. الكامل (7/ 172). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (619). وقال العقيلي: كان ممن يغلو في الرفض. الضعفاء الكبير (4/ 458). وفي التقريب: صدوق يخطئ. وانظر إتحاف المهرة (5942)، تحفة الأشراف (4496). (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 103).

فسمى وقطع (¬1). [انفرد إبراهيم بن عيينة برفعه، وخالفه من هو أوثق منه فأرسله] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (3819). (¬2) في إسناده إبراهيم بن عيينة، جاء في ترجمته: قال فيه يحيى بن معين: كان مسلماً، صدوقاً. وقال أبو حاتم: شيخ يأتي بالمناكير. وقال النسائئ: ليس بالقوي. وقال الحافظ في التقريب (227): صدوق. يهم. وقد اختلف فيه على عمرو بن منصور. فرواه إبراهيم بن عيينة كما في سنن أبي دواد (3819)، وابن حبان (5241)، والطبراني في المعجم الصغير (1026)، والبيهقي في السنن (10/ 6) عن عمرو بن منصور، عن الشعبي، عن ابن عمر مرفوعاً. وخالفه عيسى بن يونس عند ابن أبي شيبة. قال أبو بكر (8/ 100) حدثنا عيسى بن يونس، عن عمرو بن منصور، عن الشعبي قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك بجبنة ... وذكره. وتابعه قيس بن الربيع عند عبد الرزاق. (8795) قال عبد الرزاق عن قيس بن الربيع أن عمرو بن منصور الهمداني أخبره عن الشعبي والضحاك بن مزاحم قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجبنة في غزوة تبوك، فقيل: يا رسول الله، إن هذا طعام يصنعه أهل فارس، أخشى أن يكون فيه ميتة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سموا الله عليه وكلوا. فعيسى بن يونس: روى له الجماعة. وهو مقدم على إبراهيم بن عيينة بكل حال، ولا مقارنة. وقد توبع عيسى بن يونس من قيس بن الربيع، وقيس قد اختلف فيه، وثقه شعبة، وكان شديد المنافحة عنه، ووثقه سفيان الثوري، وقال فيه ابن عيينة: ما رأيت رجلاً بالكوفة أجود حديثاً منه. وضعفه يحيى بن معين، ويحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال عنه الذهبي في السير (8/ 43): الامام الحافظ المكثر أبو محمد الأسدي الكوفي =

الدليل السابع

الدليل السابع: (1631 - 159) ما رواه البيهقي من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن تملك، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجبن: كلوا واذكروا اسم الله عليه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= أحد أوعية العلم، على ضعف فيه من قبل حفظه. وقال فيه ابن عدي في الكامل (6/ 46، 47): عامة رواياته مستقيمة وقد حدث عنه شعبة وغيره من الكبار، وهو قد حدث عن شعبة، وعن ابن عيينة، ويدل ذلك على أنه صاحب حديث، والقول فيه ما قاله شعبة وأنه لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: هو عند جميع أصحابنا صدوق، وكتابه صالح، ثم قال: وهو رديء الحفظ جداً، كثير الخطأ. وقال فيه الحافظ في التقريب (5573) صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه. فقيس: صدوق على ضعف في حفظه كما قال الذهبي، إلا أن ما يخشى من سوء حفظه يزول بالمتابعة، وقد تابعه ثقة مأمون عيسى بن يونس، بينما إبراهيم بن عيينة لم يتابع عليه. قال القاسم الطبراني كما في تهذيب الكمال (22/ 248) لم يروه عن الشعبي إلا عمرو ابن منصور. تفرد به إبراهيم بن عيينة. اهـ وقوله تفرد به إبراهيم بن عيينة أي مرفوعاً، وإلا قد رواه غيره عن عمرو بن منصور كما علمت. والله أعلم. انظر تحفة الأشراف (7114). (¬1) سنن البيهقي (10/ 6). (¬2) في إسناده تملك، لم يوثقها سوى ابن حبان. الثقات (4/ 88)، ولم يرو عنها سوى أبي إسحاق، والله أعلم.

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (1632 - 160) ما رواه البيهقي من طريق مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبي بكر بن المنكدر، قال: سألت امرأة منا عائشة عن أكل الجبن، فقالت عائشة: إن لم تأكليه، فأعطنيه آكل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). دليل من قال بالنجاسة: الدليل الأول: كل دليل ساقوه على نجاسة لبن الميتة فإنهم يسوقونه دليلاً هنا، بجامع أن ¬

(¬1) البيهقي (10/ 6). (¬2) قال يحيى بن معين: مخرمة بن بكير ضعيف، وحديثه عن أبيه كتاب، ولم يسمعه من أبيه. الجرح والتعديل (8/ 363). وقال أحمد: هو ثقة، لم يسمع من أبيه شيئاً، إنما يروي من كتاب أبيه. المرجع السابق. وقال ابن حبان: من متقني أهل المدينة، في سماعه عن أبيه بعض النظر. مشاهير علماء الأمصار (1102). وقال في الثقات (7/ 510): يحتج بروايته من غير روايته عن أبيه؛ لأنه لم يسمع من أبيه ما يروى عنه. وقال ابن عدي: عند ابن وهب ومعن بن عيسى وغيرهما أحاديث عن مخرمة، حسانٌ مستقيمة، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (6/ 428). وقال النسائي: ليس به بأس. وقال العلائي: أخرج له مسلم عن أبيه عدة أحاديث، وكأنه رأى الوجادة سبباً للاتصال، وقد انتقد ذلك عليه. جامع التحصيل (ص: 275). وقال الحافظ في التقريب: صدوق، وروايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما. وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلاً. كما أن في إسناده المرأة المبهمة، لا أعرف من هي.

الدليل الثاني

كلاً منهما سائل في وعاء نجس، فيتنجس به، أو لأن الله حرم الميتة، وهذا منها، وقد سبق الجواب عن ذلك في الحديث عن حكم لبن الميتة، ويضاف إلى ما سبق أدلة خاصة في إنفحة الميتة. الدليل الثاني: (1633 - 161) ما رواه البيهقي من طريق سفيان الثوري، حدثني إبراهيم العقيلي، حدثني عمي ثور بن قدامة، قال: جاءنا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا تأكلوا من الجبن إلا ما صنع أهل الكتاب (¬1). [إسناده فيه لين، وقد ثبت عن عمر خلافه بسند صحيح] (¬2). ¬

(¬1) سنن البيهقي (10/ 6)، ورواه البيهقي (10/ 6) من طريق شعبة، عن رجل من بني عقيل، عن عمه، قال: قرئ علينا كتاب عمر. قال البيهقي: هو إبراهيم العقيلي، وعمه ثور بن قدامة. (¬2) في إسناده إبراهيم العقيلي، روى عنه شعبة وسفيان، وسكت عليه البخاري وابن أبي حاتم، ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان ذكره في ثقاته. وهو مخالف لما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن شرحبيل، عن عمر رضي الله عنه. ومخالف لما رواه البيهقي (10/ 6) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت قرظة يحدث عن كثير بن شهاب، قال: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الجبن؟ فقال: إن الجبن من اللبن واللبا، فكلوا واذكروا اسم الله عليه، ولا يغرنكم أعداء الله. ورواه ابن حبان في الثقات (5/ 330) من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن قرظة بن أرطأة به. وقرظة بن أرطاة، ذكره ابن أبي حاتم والبخاري وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه شيئاً. التاريخ الكبير (7/ 193)، والجرح والتعديل (7/ 144). =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1634 - 162) ما رواه البيهقي من طريق شعبة وسفيان، عن منصور، عن عبيد بن أبي الجعد، عن قيس بن سكن، قال: قال عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه: كلوا الجبن ما صنع المسلمون وأهل الكتاب (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). الدليل الرابع: (1635 - 163) ما رواه البيهقي من طريق علي بن عباس، ثنا محمد ابن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن علي البارقي، أنه سأل ابن عمر عن الجبن، فقال: كل ما صنع ¬

= وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 348). وقال ابن المديني: مجهول كما في ميزان الاعتدال (3/ 387). قلت: قد توبع قرظة، قال ابن حجر في الإصابة (5/ 571) أخرج ابن عساكر من طريق جرير، عن حمزة الزيات، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى كثير بن شهاب، مر من قبلك فليأكلوا الخبز الفطير بالجبن، فإنه أبقى في البطن. اهـ وهذا إسناد حسن. (¬1) سنن البيهقي (10/ 6). (¬2) عبيد بن أبي الجعد، هو أخو سالم بن أبي الجعد، سكت عليه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 445). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي عن جماعة من الصحابة، روى عنه أهل الكوفة. الثقات (5/ 138). وقال ابن سعد: قليل الحديث. تهذيب التهذيب (7/ 57). وفي التقريب: صدوق.

الدليل الخامس

المسلمون وأهل الكتاب (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). وكون ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم لا يأكلون إلا ما صنع المسلمون وأهل الكتاب ذلك لأن السخال والعجول تذبح لتؤخذ منها الإنفحة التي يصلح بها الجبن، فإذا كانت من ذبائح أهل الأوثان أو المجوس لم تحل ذبيحتهم، فكان الصحابيان لا يريان طهارة الإنفحة من الميتة إذا جاءت من قبل أناس لا تحل ذبيحتهم. الدليل الخامس: (1636 - 164) ما رواه البيهقي من طريق أبان بن أبي عياش، عن أنس، قال: كنا نأكل الجبن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده لا نسأل عنه، وكان أنس لا يأكل إلا ما صنع المسلمون وأهل الكتاب (¬3). [الحديث ضعيف جداً] (¬4). ¬

(¬1) البيهقي (10/ 6). (¬2) علي بن عباس بن الوليد أبو الحسن البجلي، المقانعي، قال فيه الذهبي: الشيخ المحدث الصدوق. انظر ترجمته في السير (430)، والأنساب (12/ 384)، والشذارت (2/ 259). وعلي البارقي، سبقت ترجمته، قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ. وباقي رجال الإسناد ثقات. (¬3) سنن البيهقي (10/ 7). (¬4) فيه أبان بن أبي عياش، وهو متروك.

دليل من فرق بين الجامد والمائع

دليل من فرق بين الجامد والمائع: لعلهم رأوا أن المائع قد يتأثر بمخالطته النجاسة، التي هي كرش الميتة، بخلاف الجامد فإن النجاسة لا تمازجه، وبالتالي يحافظ على طهارته، والله أعلم. الراجح من الخلاف. كما رجحنا طهارة لبن الميتة، فإننا نرجح هنا طهارة الإنفحة للسبب نفسه، ويكفي أن الحل هو قول عامة الصحابة، وقد ضعف ابن تيمية ما نقل عن بعض الصحابة من التحريم، وقال: والأظهر أن جبنهم حلال، وأن إنفحة الميتة ولبنها طاهر، وذلك لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا جبن المجوس، وكان هذا ظاهراً شائعاً بينهم، وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر، فإنه من نقل بعض الحجازيين وفيه نظر. وأهل العراق كانوا أعلم بهذا، فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز (¬1). وحتى على القول بنجاسة الإنفحة، فإنها مستهلكة في الجبن، ولا يظهر لها طعم أو لون أو رائحة، فإن الكمية اليسيرة من الإنفحة تستخدم في كميات كبيرة من الجبن، والشيء إذا استهلك في الأعيان الطاهرة، ولم يظهر له أثر من طعم أو لون أو رائحة لم يكن له حكم، ولو خالط الأعيان الطاهرة، والله أعلم. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 103).

الباب الخامس: في الجمادات

الباب الخامس: في الجمادات الفصل الأول في طهارة الخمر اختلف العلماء في الخمرة، هل هي طاهرة أم نجسة؟. فقيل: إنها نجسة نجاسة حسية، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3). وقيل: الخمرة طاهرة، وإليه ذهب ربيعة الرأي (¬4)، والمزني من أصحاب ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (9/ 31 - 32)، حاشية ابن عابدين (1/ 320)، تبيين الحقائق (1/ 76)، المبسوط (1/ 52)، بدائع الصنائع (1/ 66)، شرح فتح القدير (1/ 79). وانظر في مذهب المالكية: المنتقى للباجي (1/ 43)، التاج والإكليل (1/ 98)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 46)، حاشية الدسوقي (1/ 49، 50). وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/ 52)، المجموع (2/ 565)، وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/ 319)، المغني (1/ 49)، الفروع (1/ 242)، الكافي (1/ 88)، قواعد ابن رجب (ص: 230)، كشاف القناع (1/ 187). (¬2) المحلى (مسألة: 121، (1/ 105) (¬3) الإنصاف (1/ 320). (¬4) الجامع لأحكام القرآن (6/ 288).

دليل من قال: إن الخمر نجسة

الشافعي (¬1)، وداود الظاهري (¬2)، ورجحه الشوكاني (¬3)، والصنعاني (¬4). دليل من قال: إن الخمر نجسة. الدليل الأول: قال تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (¬5). وجه الاستدلال: أن الله تعالى وصف الخمر بأنها رجس، والرجس في عرف الشرع هو النجس نجاسة عينية. وأجيب: بأن الرجس في الآية لا يراد به النجاسة الحسية، لما يأتي: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قرن الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام، وإذا كانت هذه الأشياء ليست نجسة نجاسة حسية، فكذلك الخمرة، ولو كانت كلمة رجس نصاً في النجاسة الحسية لكانت هذه الأشياء نجسة نجاسة حسية، فلما لم تدل على نجاسة تلك الأشياء، لم تدل على نجاسة ¬

(¬1) المرجع السابق. (¬2) المجموع (2/ 581). (¬3) السيل الجرار (1/ 35). (¬4) سبل السلام (1/ 61). (¬5) المائدة: 90.

الخمرة (¬1). ثانياً: أن الرجس هنا وصف بقوله: " من عمل الشيطان " فهو رجس عملي، أي معنوي، وليس رجساً حسياً، ولذلك قال القرطبي: من عمل الشيطان: أي بحمله وتزيينه. ثالثاً: الرجس في كلام الشارع أكثر ما جاء في النجاسة المعنوية، قال تعالى: {إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت} (¬2)، وقال تعالى: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} (¬3)، وقال تعالى: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} (¬4)، وقال سبحانه: {قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} (¬5)، وقال سبحانه: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} (¬6)، وقال سبحانه: {فأعرضوا ¬

(¬1) وحاول المخالفون الخروج من هذا بقولهم: إن الميسر والأنصاب والأزلام خرجت بالإجماع على طهارتها، وبقي ما عداها على النجاسة. فيقال: ما دام أن كلمة رجس ليست نصاً في النجاسة الحسية، لم يكن هذا الدليل حجة في النجاسة؛ لأن الإجماع دل على أن كلمة رجس قد تطلق على الشيء وهو ليس بنجس. ثم إنه ليس هناك إجماع، فقد خالف ابن حزم، فقال بنجاسة الميسر والأنصاب والأزلام، ولكن لا يعرف هذا القول إلا لابن حزم رحمه الله، وهو رأي لا يستند إلى حجة. (¬2) الأحزاب: 33. (¬3) يونس: 100. (¬4) الأنعام: 125 (¬5) الأعراف: 71. (¬6) التوبة: 125.

عنهم إنهم رجس} (¬1)، وقال: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (¬2)، فإذا كان الأكثر في كلام الشارع إطلاق الرجس على النجاسة المعنوية، كما مر معنا في الآيات السابقة، والميسر والأنصاب والأزلام يراد بها النجاسة المعنوية، والخبر هنا إخبار عن الأربعة الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فالقول بأن الرجس في الخمر وحده فقط دليل على النجاسة الحسية، وعلى غيره مما قرن معه يراد به النجاسة المعنوية فيه نوع تحكم لا دليل عليه. ولذلك لم ير النووي - وهو ممن يرى نجاسة الخمر - في الآية نصاً على نجاسة الخمر، حيث يقول رحمه الله: " ولا يظهر من الآية دلالة ظاهرة لأن الرجس عند أهل اللغة القذر ولا يلزم من ذلك النجاسة، وكذا الأمر بالاجتناب لا يلزم منه النجاسة" (¬3). (1637 - 165) رابعاً: ساق ابن جرير الطبري من طريق عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: رجس من عمل الشيطان، يقول: سخط (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬

(¬1) التوبة: 95. (¬2) الحج: 30. (¬3) المجموع (2/ 582). (¬4) تفسير الطبري (7/ 32). (¬5) علي بن أبي طلحة قال الحافظ عنه في التقريب: أرسل عن ابن عباس، ولم يره. وعبد الله بن صالح كثير الخطأ.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1638 - 166) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إنى بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبنه قال: واشربوا (¬1). [أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة، واختلف في ذكر زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين، وليس فيه زيادة شرب الخمر وأكل لحم الخنزير] (¬2). وأجيب: أولاً: أن هذا الحديث في الصحيحين، وليس فيه ذكر هذه الزيادة. ثانياً: لو كانت العلة النجاسة لأمر بغسلها مباشرة، فالنهي عن استعمالها مع وجود غيرها مطلق، سواء تيقنا طهارتها أم لا، والأصل في النهي المنع، ¬

(¬1) سنن أبي داود الطيالسي (1014). (¬2) سبق تخريجه في كتابي (أحكام الطهارة) كتاب المياه والآنية برقم: 129، وذكر من تفرد بذكر هذه الزيادة، ولفظ الصحيحين: يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل.

الدليل الثالث

لكن لما قال سبحانه وتعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (¬1)، ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم وأوانيهم، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - طعام أهل الكتاب في أحاديث صحيحة، فدل على أن الغسل من باب الاحتياط والاستحباب. ثالثاً: أننا لو تنزلنا وقلنا بوجوب غسل الأواني، فإن غسل الأواني من أثر الخمر ليس فيه دليل على النجاسة؛ وإنما لكون الخمر والخنزير يحرم تناولهما، فخشية الوقوع في المحرم أمر بغسل الأواني منهما. الدليل الثالث: قوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} (¬2)، وجه الاستدلال: قال الشنقيطي: وصفه شراب أهل الجنة بأنه طهور، يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح الله تعالى بها خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله تعالى {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} (¬3)، وقوله تعالى: {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} (¬4)، بخلاف خمر الدنيا، ففيها غول يغتال العقول، وأهلها يصدعون أي يلحقهم الصداع (¬5). ¬

(¬1) المائدة: 5. (¬2) الإنسان: 21. (¬3) الصافات: 47. (¬4) الواقعة: 19. (¬5) أضواء البيان (2/ 128).

الدليل الرابع

وأجيب بأجوبة منها: الأول: أن قوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} (¬1)، لا يوجد نص بأن المقصود به خمر الآخرة، وإنما هو شراب مخصوص يشربه المؤمنون، فيطهرهم من الذنوب وعن خسائس الصفات، كالغل والحسد، فجاءوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ سلام عليكم طبتم فادخولها خالدين (¬2). ثانياً: على التسليم بأن المراد به في قوله تعالى {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} أن المراد به خمر الآخرة، فإن هذا لا يعني أن خمر الدنيا نجس، فلو أخذنا بالمفهوم - على ضعفه- فإنه يعني أن خمر الدنيا ليست بطهور، وما كان غير طهور لا يعني أنه نجس، بل قد يعني كونه طاهراً، ومعلوم أن الطهور غير الطاهر. الدليل الرابع: قالوا: إن الخمر عين يحرم تناولها من غير ضرر فيها، فأشبهت الدم، يعني في النجاسة (¬3). ورده النووي بقوله: هذا لا دلالة فيه لوجهين: أحدهما: أنه منتقض بالمني والمخاط وغيرهما، يعني أنه يحرم تناولهما من غير ضرر فيهما، وهما طاهران. ¬

(¬1) الإنسان: 21. (¬2) الجامع لأحكام القرآن (13/ 40). (¬3) ذكر ذلك الشيرازي في المهذب المطبوع مع المجموع (2/ 583)، وابن مفلح في المبدع شرح المقنع (2/ 242).

الدليل الخامس

والثاني: أن العلة في منع تناولهما مختلفة فلا يصح القياس ; لأن المنع من الدم لكونه مستخبثاً, والمنع من الخمر لكونها سببا للعداوة والبغضاء وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة كما صرحت به الآية الكريمة. قلت: والعجب كيف يقال: إنه لا ضرر فيه، مع أن العقل والنقل دالان على أضرار الخمر، وأي ضرر أكبر من كونه يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، هذا مع ما يقع بسببه من العدواة والبغضاء بين المسلمين، فضلاً عما قد يؤول إليه الأمر من مضاره التي لا تحصى، فقد يؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل والمال والعيال،، وخسارة الدنيا والآخرة، كما هو معلوم، نسأل الله العافية. هذه أضراره الدينية، وأضرراه البدنية قد تكلم فيه الأطباء، بما لا مجال لذكره هنا. الدليل الخامس: أن الخمرة نجسة تغليظاً وزجراً عنها، قياساً على الكلب، نقله النووي عن الغزالي، واستحسنه (¬1). وأجيب: بأن هذا الدليل ليس من أدلة الشرع المتفق عليها ولا المختلف فيها، والكلب ليست نجاسته من باب الزجر والتغليظ، ولو قلنا: بأن الزجر والتغليظ سبب في النجاسة لنجسنا كثيراً من المحرمات مما لم يقل أحد بنجاستها، كنجاسة التماثيل والأصنام، لكونها من أشد المحرمات. ¬

(¬1) المجموع (2/ 582).

الدليل السادس

الدليل السادس: إن النصوص الشرعية حرمت وجوه الانتفاع بالخمر، فأمرت بإراقتها، ومنعت من التداوي بها، وحرمت بيعها، ومنع من تخليلها، وكل هذه الأمور جاءت فيها نصوص صحيحة صريحة، فلو كانت طاهرة العين لأبيح التداوي بها أو الانتفاع بأي وجه من الوجوه، وكل هذا دليل على نجاستها. وإليك النصوص الشرعية التي تؤكد هذه الأحكام. (1639 - 167) منها ما رواه البخاري من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه. ورواه مسلم (¬1). (1640 - 168) ومنها، ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة رجل من أهل مصر، أنه سأل عبد الله بن عباس عما يعصر من العنب؟ فقال ابن عباس: إن رجلا أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل علمت أن الله قد حرمها؟ قال: لا، فسار إنساناً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) صحيح البخاري (2236)، ومسلم (2960).

بم ساررته؟ فقال: أمرته ببيعها. فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها. قال ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها (¬1). (1641 - 169) ومنها ما رواه البخاري من طريق ثابت، عن أنس رضي الله عنه: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها فجرت في سكك المدينة. الحديث، والحديث رواه مسلم (¬2). (1642 - 170) ومنها: ما روه مسلم من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن أبيه وائل الحضرمي، أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر؟ فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء (¬3). (1643 - 171) ومنها ما رواه مسلم من طريق عبد الرحمن، عن سفيان، عن السدي، عن يحيى بن عباد، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ فقال: لا. وأجيب: تحريم بيعها لا يلزم منه نجاستها، فقد قرن تحريم بيع الخمر بتحريم بيع الأصنام، والأصنام ليست نجسة، فالنهي عن بيع الخمر جاء معللاً في ¬

(¬1) صحيح مسلم (1579). (¬2) صحيح البخاري (2464)، ومسلم (3662). (¬3) صحيح مسلم (3670).

دليل من قال: إن الخمر طاهرة

الحديث: إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، ولم يقل: إن الله إذا حرم شيئاً اقتضى نجاسته، وسائر وجوه الانتفاع بها محرم لا لنجاستها، ولأن هناك أشياء نجسة، ولا يحرم الانتفاع بها، ولذلك جاء في الحديث: أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس، قال: لا. هو حرام. أي البيع، فجواز الانتفاع بشحوم الميتة لا يسوغ صحة البيع، ولو كانت النجاسة دليلاً على تحريم الانتفاع بها ما جاز الاستصباح بشحوم الميتة وطلي السفن بها ودهن الجلود وغير ذلك من وجوه الانتفاع. وهذا الكلب نجس، ويباح الانتفاع به في صيد وحراسة ونحوهما. دليل من قال: إن الخمر طاهرة: الدليل الأول: النجاسة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، ولم يرد في الشرع نص يقتضي النجاسة الحسية للخمر، والأصل في الأشياء الطهارة، والخمر طاهرة قبل تحريمها، فكذلك بعد تحريمها، والتحريم وحده لا يقتضي النجاسة، ألا ترى إلى السم، فإنه محرم الأكل، ومع ذلك ليس بنجس، وهي مصنوعة من أشياء طاهرة كالعنب ونحوه، وكونه يتخمر ويشتد ويغلي فهذا لا يقتضي النجاسة، فإن اللحم قد ينتن وتتغير رائحته، ومع ذلك لا يقال عنه: إنه نجس. الدليل الثاني: (1644 - 172) ما رواه البخاري من طريق ثابت، عن أنس رضي الله عنه، قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال:

فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). وحديث ابن عباس في مسلم في قصة الرجل الذي أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريمها، فأراقها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب ما فيها. وسبق ذكره بتمامه. وجه الاستدلال: لو كان الصحابة يعتقدون نجاستها لتحروا لإراقتها أماكن النجاسات، ولنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إراقتها في الشوراع كما نهاهم عن التخلي في الطريق والظل، (1645 - 173) فقد روى مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا اللعانين قالوا وما اللعانان يا رسول الله قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم (¬2). وأجيب عن هذا الاستدلال: قال القرطبي: إن الصحابة أراقوا هذا؛ لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم، وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ¬

(¬1) صحيح البخاري (2464)، ومسلم (3662). (¬2) صحيح مسلم (269).

ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور، وأيضاً فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة واسعة، ولم يكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهراً يعم الطرق كلها، وإنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها، هذا مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك، والله أعلم (¬1). ويمكن أن يتعقب هذا: أولاً: قولهم إن الخمر كانت يسيرة، وجرت في مواضع يسيرة، ويمكن التحرز منها. هذا خلاف الحديث السابق، من قول الصحابي: حتى جرت في سكك المدينة، فظاهره أنها جرت في جميع سكك المدينة، وأقل ما يدل عليه أنها جرت في غالب سكك المدينة. ثانياً: قوله: يمكن التحرز منها، فإن التحرز من بول الإنسان في الطريق أهون من التحرز من الخمرة التي جرت في غالب سكك المدينة، ومع ذلك لم يكن هذا مبرراً لأن يؤذن في التبول في الطريق. ثالثاً: قوله: إن نقل الخمر خارج المدينة يلحقهم مشقة كبيرة، فهل كانت المدينة كبيرة جداً؟ بحيث يلحقهم تلك المشقة، وهذا الفعل لن يتكرر، بل إن المشقة تلحقهم في تحري البول خارج المدينة أكثر من نقل الخمر مرة واحدة والتخلص منها؛ لأن البول قد يفاجئ الإنسان وهو في الطريق، ويتكرر ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (6/ 288).

الدليل الثالث

في اليوم عدة مرات، ومع ذلك لا يؤذن له بالبول في طريق الناس، مع كون البول يسيراً، ويمكن التحرز منه. رابعاً: قوله: إن في إرقاتها في طرق المدينة فائدة من كونه يشتهر ليشيع العمل، فيقال: ألا يشيع العلم حتى تراق في طرق المدينة، ألا تحصل هذه الفائدة لو أريقت في الأماكن التي لا تطرق من جوانب الطريق، والأماكن الخالية في المدينة، مع نزول آيات القرآن في تحريمها، وشدة عناية الصحابة بقراءة كتاب الله وتعلم ما فيه. الدليل الثالث: لم يأت نص من السنة بغسل الأواني من أثر الخمر، فالرجل الذي أهدى للرسول - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بتطهير راويته منها، بل اكتفى بإراقتها فقط. وقد كان المسلمون قبل تحريم الخمر تكون في أوانيهم، وربما أصابت شيئاً من أبدانهم وثيابهم، فلما نزل تحريمها وأراقوها لم ينقل أن أحداً منهم غسل شيئاً من ذلك من بدنه أو من ثيابه أو من آنيته، ولو كانت نجسة لفعلوا ولأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين، أرى أن القول بالطهارة أقوى من حيث الأثر ومن حيث النظر، والقول بالنجاسة وإن كان قول الأكثر إلا أن هذا غير كاف في الحكم بالنجاسة، ويكفي القائلين بالطهارة الجواب عن أدلة القائلين بالنجاسة، فإن الأصل في الأعيان الطهارة، ومن ذهب إلى طهارة عين فإنه لا يطالب بالدليل، بل يكفيه الدليل السلبي، وهو عدم

وجود دليل على النجاسة، وإنما يطالب بالجواب عن أدلة القائلين بالنجاسة، وقد فعلوا، فكيف إذا كان القائلون بطهارة الخمر معهم دليل إيجابي على طهارته. ثم إن أصل تكوين الخمرة مواد طاهرة، فكيف تنجست، وهي لم تؤكل ولم تشرب، غاية ما في الأمر أنها تغيرت، وهذا لا يقتضي نجاستها، والله أعلم.

الفصل الثاني في حكم الطيب الموجود فيه كحول

الفصل الثاني في حكم الطيب الموجود فيه كحول اختلف العلماء في طهارة الكحول، فقيل: نجس، وهو اختيار الشنقيطي رحمه الله تعالى (¬1). وقيل: طاهر. وهو يلزم كل من قال بطهارة الخمر، وقد سبق بيان من قال بهذا القول في مسألة مستقلة. دليل من قال بالنجاسة: الدليل الأول: هذه العطور ثبت أنها مسكرة، ويشربها بعض الفقراء بديلاً عن الخمر، أو في المواضع التي يمنع فيها بيع الخمر، وإذا كانت مسكرة، كانت (1646 - 174) خمراً بمقتضى النص النبوي، فقد روى مسلم، من طريق حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات، وهو يدمنها لم يتب، لم يشربها في الآخرة (¬2). فقوله " كل مسكر" من ألفاظ العموم، فيشمل كل مسكر، سواء كان من العطور أو عصير العنب أو غيرهما. (1647 - 175) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسحاق بن ¬

(¬1) أضواء البيان (2/ 129). (¬2) صحيح مسلم (2003).

الدليل الثاني

إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عيسى وابن إدريس، عن أبي حيان، عن الشعبي، عن ابن عمر، قال: سمعت عمر رضي الله عنه على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. فقوله رضي الله عنه: الخمر ما خامر العقل، دليل على أنه ليس خاصاً بنوع معين. وإذا ثبت الإسكار في الطيب، ثبت له حكم الخمر، وذلك: في تحريم بيعه وشرائه، كما في حديث: إن الله حرم بيع الخمر. الحديث متفق عليه وسبق تخريجه في حكم الخمر. وحرم الانتفاع بها بأي وجه من الوجوه، ومن ذلك تحريم تخليلها، كما جاء في الحديث الصحيح، وتحريم التداوي بها، ووجب إراقتها، وكل هذه الأحكام ثبتت في أحاديث في الصحيحين أو في أحدهما ذكرناها في الخلاف في بيع الخمر، فالخمر لا يعتبر مالاً حتى يمكن أن يصح بيعه وشراؤه، ووجب التخلص منه. الدليل الثاني: إن الله سبحانه وتعالى قال في الخمر " فاجتنبوه لعلكم تفلحون " وهو أبلغ من النهي عن شربه، واستعماله في الأبدان والثياب مخالف للأمر الرباني. الدليل الثالث: كل دليل استدل به على نجاسة الخمر، يستدل به هنا على نجاسة هذه العطور.

دليل من قال بطهارة العطور ونحوها

دليل من قال بطهارة العطور ونحوها: الدليل الأول: كل دليل سيق على طهارة الخمر يساق هنا، وقد ذكرتها على وجه التفصيل في حكم الخمر فارجع إليها إن شئت. الدليل الثاني: أكثر القائلين بنجاسة الخمر يرى طهارة الحشيشة، مع أن نسبة الكحول الموجودة فيها ربما أكثر من العطور، وكونه صلباً أو سائلاً لايكفي لاختلاف الحكم، ولا يغير في حقيقته شيئاً. الدليل الثالث: الكحول يتكون في كثير من المأكولات، وجميع ما نخمره مثل الخمير والخبز والكعك والبسكويت .... بل إن الكحول يتكون داخل أمعائنا بفعل البكتريا، فهذا دليل أن الكحول ليس نجساً. وإذا علمنا أن الكحول المستخدم من الكولونيا وغيرها لا يستخرج من الخمر أبداً ... ، وإنما يصنع بطرق كيماوية منها تحويل غاز الإيثان إلى الكحول الإيثيلي أو الإيثانول كما يسمى علمياً، فإنه ليس نجساً، بل طهور لأنه مصنوع من مواد ليست نجسة (¬1). الدليل الرابع: على فرض أن الكحول نجس، فالتلبس بالنجاسة ليس حراماً إلا إذا كان يريد فعل عبادة يشترط لفعلها الطهارة، ولذلك صرح الشافعية بأن الاستجمار لا يجب على الفور، بل يجوز تأخيره حتى يريد الطهارة أو ¬

(¬1) انظر الخمر بين الطب والفقه (ص: 52).

الدليل الخامس

الصلاة (¬1)، وقاسوا إزالة النجاسة على بقية شروط الصلاة، فإذا دخل وقت الصلاة وجب الاستنجاء وجوباً موسعاً بسعة الوقت، ومضيقاً بضيقه كبقية الشروط (¬2). (1648 - 176) ولما رواه البخاري في صحيحه: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬3). وقد استدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك الدليل الخامس: الطيب يغاير الخمر؛ لأن الطيب في أصله وضع للتطيب به لا للسكر، والخمر إنما وضع للسكر، فحرم بيعه وشرؤه، وإخراج الطيب عن أصله الذي ¬

(¬1) المجموع (1/ 146)، إعانة الطالبين (1/ 107)، الإقناع للشربيني (1/ 53)، حواشي الشرواني (1/ 174)، شرح زبد بن رسلان (ص: 52)، مغني المحتاج (1/ 43)، أسنى المطالب (1/ 50). (¬2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 181). (¬3) صحيح البخاري (174).

الدليل السادس

وضع له لفعل شواذ من الناس لا يقتضي القول بتحريم بيعه مطلقاً، لكن من اشتراه ليسكر به حرم منه هذا الفعل، كشراء العنب لمن يريد عصره خمراً، والقول بتحريم بيع العطور يلزم منه القول بتحريم زراعة العنب وبيعه مطلقاً، ولا قائل به، وهكذا يلزم منه تحريم سائر الأشياء المباحة التي قد تستعمل فيما حرم الله. الدليل السادس: الكحول سائل، سرعان ما يتطاير ويتحول إلى غاز (بخار)، وهذا البخار يعتبر طاهراً ولو كان أصله نجساً، كما أن الخمر إذا تحول إلى خل أصبح طاهراً عندكم. الراجح من الخلاف. بعد استعراض أدلة الفريقين يتبين لي طهارة الكحول كما سبق ترجيح طهارة الخمرة في المسألة التي قبل هذه، ولكن مع ذلك إذا ثبت أن الكثير من هذه الأطياب مسكرة، فينبغي للمسلم أن يجتنبها تحقيقاً لقوله تعالى: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (¬1)، والله أعلم. ¬

(¬1) المائدة: 90.

الفصل الثالث في الحشيشة المسكرة

الفصل الثالث في الحشيشة المسكرة تقدم لنا الخلاف في حكم الخمر، وقد عرفنا أن علة النجاسة عند القائلين بها كونه مسكراً مائعاً، وبقي لنا حكم الحشيشة المسكرة، وهي ذات جامدة، فهل تكون نجسة أو يحكم لها بالطهارة، في ذلك خلاف: فقيل: إن الحشيشة طاهرة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة، قال في غاية المطلب: وهو المشهور (¬4). وقيل: نجسة، اختاره بعض الشافعية (¬5)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬6)، اختاره ابن تيمية (¬7)، قال في الإنصاف: نجسة على الصحيح (¬8). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 277)، وأباح الحنفية أكل القليل من الحشيشة غير المسكرة، وهذا ذهاب منهم إلى طهارتها، انظر حاشية ابن عابدين (6/ 458)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 441)، (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 50)، الشرح الكبير المطبوع بهامش حاشية الدسوقي (1/ 50)، مواهب الجليل (1/ 90). (¬3) أسنى المطالب (1/ 10)، الغرر البهية شرح البهجة الوردية (1/ 39)، المنهج القويم (ص: 96)، حواشي الشرواني (1/ 288)، شرح زبد ابن رسلان (ص: 29)،. (¬4) غاية المطلب في معرفة المذهب (ص: 36)، وانظر الإنصاف (1/ 320، 321). (¬5) الغرر البهية شرح البهجة الوردية (1/ 39). (¬6) المبدع (1/ 242)، منار السبيل (1/ 58)، (¬7) الفتاوى الكبرى (3/ 419)، الإنصاف (1/ 320)، مجموع الفتاوى (23/ 358). (¬8) الإنصاف (1/ 320، 321).

دليل من قال طاهرة

وقيل: نجسة إن أميعت، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال طاهرة: الدليل الأول: ما سبق وذكر في طهارة الخمر، فكل دليل سقناه على طهارة الخمر فهو دليل يساق هنا على طهارة الحشيشة، بل هي أولى بالطهارة من الخمر. الدليل الثاني: الإجماع، فقد حكى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرحه لفروع ابن الحاجب الإجماع على أنها ليست نجسة. وكذلك نقل الإجماع القرافي في القواعد (¬2). دليل من قال بالنجاسة: قال: إن علة النجاسة في الخمر هي الإسكار، وهي موجودة في الحشيشة، فيكون الحكم واحداً لا فرق بين الخمر والحشيشة، وعليه فكل دليل ذكر في نجاسة الخمر يصلح أن يكون دليلاً على نجاسة الحشيشة. دليل من قال: إن ميعت نجست: رأى هذا أن الخمر نجاسته مركبة من أمرين: 1 - كونه مسكراً. وكونه مائعاً، فإذا فقد واحدة من هذين حكم بطهارته، والحشيشة وإن كانت ¬

(¬1) غاية المطلب في معرفة المذهب (ص: 36)، الفتاوى الكبرى (3/ 419)، الإنصاف (1/ 320، 321)، المبدع (1/ 242). (¬2) الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/ 231).

الراجح من الخلاف

مسكرة، إلا أنها جامدة، والجامد عنده سبب في الطهارة. وكونه جامداً أو سائلاً ليس علة في الطهارة ولا في النجاسة، فإن الطاهرات والنجاسات منها الجامد ومنها السائل، وهذا القول أضعف الأقوال. الراجح من الخلاف: سبق أن رجحنا طهارة الخمر، والحشيشة مختلف فيها هل هي مسكرة أو مخدرة، على قولين لأهل العلم، فمن رأى أنها مخدرة لم ير نجاستها، ومن قال: إنها مسكرة، اختلف في نجاستها، والقائلون بالنجاسة ألحقوها بالخمرة، وقد ذكرت الخلاف في نجاسة الخمرة، وبيان القول الراجح في المسألة التي قبل هذه، والله أعلم.

الباب السادس: في حكم الطهارة من النجاسة

الباب السادس: في حكم الطهارة من النجاسة الفصل الأول في حكم إزالة النجاسة لما تبين حكم الأعيان النجسة من الإنسان والحيوان والجماد، ومن الحي والميت، ومن المائع والجامد، ناسب معرفة حكم إزالة النجاسة، فأقول: يختلف حكم إزالة النجاسة من مسألة إلى أخرى، فهناك عبادات تصح ولو كان الإنسان متلبساً بالنجاسة، فكون العبد يذكر الله لا يجب لذلك الطهارة من النجاسة، فيمكن للإنسان أن يذكر الله على أي حال من أحواله. (1649 - 177) وقد روى مسلم من طريق البهي، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬1). وهذه الحائض قد اجتمع في حقها عدم الطهارة من الحدث والخبث، ومع ذلك لم تمنع من ذكر الله. ¬

(¬1) صحيح مسلم (117).

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري" (¬1). وقوله: " افعلي ما يفعل الحاج " دخل فيه جميع ما يفعله الحجاج من ذكر الله، فهي تقف بعرفة، وتدعو هناك وتذكر الله، وتقف في المشعر الحرام وتذكر الله هناك، وترمي الجمرات، وتذكر الله بعد رمي الجمرة الأولى والوسطى، فهي ليست ممنوعة من ذكر الله. (1650 - 178) وروى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا محمد، حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي، عن عاصم، عن حفصة، عن أم عطية قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، حتى تخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. وهو في مسلم، دون قوله: ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته (¬2). كما أنه يصح وضوء الرجل ولو كانت هناك نجاسة على بدنه، فطهارة الخبث لا علاقة لها بطهارة الحدث، وإنما يكون الإنسان مطلوباً أن يتخلى عن النجاسة إذا كان يريد أن يؤدي عبادة من شرطها أو من واجبها الطهارة من الخبث كالصلاة، وبالتالي يستطيع المسلم أن يمس المصحف ولو كان بدنه أو ثوبه فيه نجاسة ما دام أنه قد توضأ؛ ويستطيع أن يلبس خفيه؛ لأن الطهارة من الخبث ليست شرطاً في مس المصحف، ولا شرطاً في لبس الخف. ¬

(¬1) صحيح البخاري (305)، ورواه مسلم أيضاً (1211). (¬2) صحيح البخاري (971)، مسلم (890).

وهناك عبادات تجب لها الطهارة من النجاسة قبل التلبس بها وبعض الفقهاء يرى الطهارة شرطاً لصحة العبادة، وذلك في طهارة الثوب والبدن والبقعة في الصلاة، وهذا ما سوف يخصص له فصل مستقل إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني في الصلاة مع التلبس بالنجاسة

الفصل الثاني في الصلاة مع التلبس بالنجاسة إذا صلى المصلي، وهو متلبس بالنجاسة، عالماً بها، قادراً على إزالتها، فما حكم ذلك، وهل تصح صلاته؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فقيل: إن الطهارة من الخبث شرط في صحة الصلاة، ومن صلى، وهو متلبس بالنجاسة، عالماً بها قادراً على إزالتها، فصلاته باطلة. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). وقيل: الطهارة من الخبث سنة، اختاره بعض المالكية (¬5). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 79، 114)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 45)، تبيين الحقائق (1/ 95)، حاشية ابن عابدين (1/ 402)، البحر الرائق (1/ 281)، شرح فتح القدير (1/ 256). (¬2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 101)، وقال النووي في المجموع (3/ 139): مذهبنا أن إزالة النجاسة شرط في صحة الصلاة فإن علمها لم تصح صلاته بلا خلاف , وإن نسيها أو جهلها فالمذهب أنه لا تصح صلاته. اهـ (¬3) قال ابن قدامة في المغني (1/ 401) وهو شرط لصحة الصلاة في قول أكثر أهل العلم. وانظر الإنصاف (1/ 483)، (¬4) مواهب الجليل (1/ 131)، حاشية الدسوقي (1/ 201). (¬5) التاج والإكليل (1/ 188)، حاشية الدسوقي (1/ 201)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 260)، مواهب الجليل (1/ 131).

وقيل: إن صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً أو مضطراً أعاد صلاته في الوقت، وإن صلى عالماً متعمداً غير مضطر أعاد أبداً، وهذا القول هو رواية ابن القاسم، عن مالك رحمه الله (¬1). وقيل: تجب الطهارة من النجاسة، فإن صلى بالنجاسة عالماً متعمداً فصلاته صحيحة مع الإثم، ويعيد ما دام في الوقت وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، اختاره الشوكاني (¬3). ¬

(¬1) التاج والإكليل (1/ 188)، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (1/ 333)، الخرشي (1/ 101)، (¬2) قال الباجي في المنتقى (1/ 41): فأما إزالة النجاسة فإن أصحابنا العراقيين اختلفوا فيما حكوا عن مالك في ذلك: فحكى القاضي أبو محمد في المعونة عن مالك في ذلك روايتين. إحداهما: أن إزالتها واجبة وجوب الفرائض، فمن صلى بها عامدا ذاكرا أعاد أبداً، وهو الذي رواه أبو طاهر عن ابن وهب. والثانية: أنها واجبة وجوب السنن، ومعنى ذلك أن من صلى بها عامدا أثم ولم يعد إلا في الوقت استحباباً، وهذا ظاهر قولي ابن القاسم. وعلى الوجهين جميعا من صلى بها ناسيا أو غير قادر على إزالتها أجزأته صلاته ويستحب له الإعادة في الوقت. وذهب القاضي أبو الحسن إلى أننا إن قلنا: إنها واجبة وجوب الفرائض أعاد الصلاة أبداً من صلى بها ناسيا أو عامداً. وإذا قلنا: إنها واجبة وجوب السنن أعاد الصلاة أبدا من صلى بها عامدا , ومن صلى بها ناسيا أو مضطراً أعاد في الوقت استحباباً. وقال القاضي أبو محمد مثل هذا في شرح الرسالة، وقال في تلقين المبتدئ: إنها واجبة لا خلاف في ذلك من قوله وإنما الخلاف في الإزالة هل هي شرط في صحة الصلاة أم لا، وهذا هو الصحيح عندي إن شاء الله وبالله التوفيق. اهـ وانظر فتح العلي المالك (1/ 112). (¬3) السيل الجرار (1/ 158).

دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة

فبهذه الأقوال يتبين لنا أن الأقوال كالتالي. الأول: أن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة، واختلفوا هل تسقط مع الجهل والنسيان أو لا تسقط على قولين. الثاني: أنها سنة، ويستحب له أن يعيد الصلاة ما دام في الوقت. الثالث: أن الطهارة واجبة للصلاة، وتصح الصلاة بدونها مع الإثم. دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {وثيابك فطهر} (¬1). أمر الله سبحانه وتعالى بطهارة الثياب، والمقصود فيه في الصلاة، لأن طهارتها خارج الصلاة ليست واجبة إجماعاً. وأجيب بجوابين: الأول: أن المراد بالثياب غير اللباس، وإنما المقصود بالثياب القلب، وتطهيره من الشرك، خاصة أن هذه الآية أول ما نزل من القرآن، فهي قد نزلت قبل الأمر بالصلاة والوضوء. ولو حملنا الآية على طهارة الثياب الظاهرة، فإن الآية فيها الأمر بتطهير الثياب، وهو مطلق، ليس فيه أن ذلك خاص بالصلاة، فهل تقولون بوجوب طهارة الثياب من النجاسة مطلقاً ولو خارج الصلاة؟ فإن قلتم ذلك، فإن الإجماع منعقد على أنه لا يجب على الإنسان الطهارة من الخبث إلا حال ¬

(¬1) المدثر: 4.

الصلاة (¬1)، وإن قلتم إن الآية مقيدة بالصلاة فقط، قلنا: لكم، إن الصلاة وقت نزول الآية لم تكن معلومة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما علمه جبريل كيفية الصلاة بعد أن فرضها الله عليه ليلة الإسراء. وقد جاء في اللغة ما يدل على إطلاق الثياب على غير اللباس: يقال: فلان طاهر الثياب، إذا لم يكن دنس الأخلاق قال امرؤ القيس: ثياب بني عوف طهارى نقية. وقوله تعالى: {وثيابك فطهر} (¬2)، معناه: وقلبك فطهر، وعليه قول عنترة: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم أي شككت قلبه. وقيل: معنى وثيابك فطهر: أي نفسك. وقيل: معناه لا تكن غادراً، فتدنس ثيابك؛ فإن الغادر دنس الثياب. قال ابن سيده: ويقال للغادر: دنس الثياب. وقيل: معناه: وثيابك فقصر؛ فإن تقصير الثياب طهر؛ لأن الثوب إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن تصيبه نجاسة، وقصره يبعده من النجاسة. وقيل معنى قوله: وثيابك فطهر، يقول: عملك فأصلح، وروى عكرمة، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وثيابك فطهر} (¬3)، يقول: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على فجور وكفر، وأنشد قول غيلان: ¬

(¬1) نقل الإجماع ابن حزم في المحلى (3/ 203) مسألة: 343. (¬2) المدثر: 4. (¬3) المدثر: 4.

إني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ولا من خزية أتقنعا (¬1). واللفظ إذا منع مانع من حمله على ظاهره، وكان للتأويل وجه في اللغة العربية لم يمنع من حمله عليه، فالأصل في لفظ " الثياب " هو إطلاقها على اللباس الظاهر، لكن منع من ذلك ما سبق أن ذكرناه من كون الآية نزلت قبل فرض الصلاة والوضوء. الوجه الثاني: سلمنا أن المراد بالثياب اللفظ الحقيقي، وهو اللباس الظاهر، فإن غاية ما يستفاد من الآية الوجوب، والوجوب لا يستلزم الشرطية؛ لأن كون الشيء شرطاً: حكمٌ شرعيٌ وضعيٌ، لا يثبت إلا بتصريح الشارع بأنه شرط، أو بتعليق الفعل به بأداة الشرط، أوبنفي الفعل بدونه نفياً متوجهاً إلى الصحة لا إلى الكمال، أو بنفي الثمرة ولا يثبت بمجرد الأمر به. فلم يأت من الشارع قوله: لا صلاة إلا بالطهارة من الخبث، أو من لم يتطهر من الخبث فلا صلاة له. أو لا يقبل الله صلاة أحدكم إلا بالتطهر من الخبث، كما قال في الطهارة من الحدث: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (¬2)، وما دام أنه لم يأت ما يفيد الشرطية فلا يصح القول بالشرطية. ورد هذا الوجه: بأن قولكم: إن الآية نزلت قبل الأمر بالصلاة، وفي هذا دليل على أن المراد القلب، فغير صحيح، لجواز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خص بذلك في أول ¬

(¬1) لسان العرب (4/ 504 - 505)، القاموس المحيط (ص: 554) العين (4/ 18، 19)، مختار الصحاح (2/ 379)، وانظر أنيس الفقهاء (ص:46). (¬2) البخاري (135)، ومسلم (225).

الإسلام، وفرض عليه دون أمته، ثم ورد الأمر بذلك لأمته. وجواب ثان: وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيحتمل أن يكون قد اتبع في الصلاة شرع من قبله من النبيين، فأوجب ذلك اتباعهم، وتأخر الأمر به بنص شرعنا عن ذلك الوقت. اهـ والذي يرجح أن المراد بالثياب اللباس الظاهر أننا لو حملنا الثياب على ترك المعاصي لكان في سياق الآيات تكرار، فإن قوله: وثيابك فطهر والرجز فاهجر؛ فإن هجر الرجز من معانيه هجر المعاصي، فتكون هذه قرينة على أن المراد بالثياب اللفظ الحقيقي المتبادر إلى الذهن، وهو طهارة اللباس الظاهر. وهذا الكلام جيد، إلا أن التعميم بعد التخصيص، والتخصيص بعد التعميم كلاهما وارد في كتاب الله، فمن الأول قوله تعالى: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (¬1). فإن جبريل من الملائكة، فذكر الله سبحانه وتعالى عموم الملائكة بعد تخصيص جبريل بالذكر، وهذا منه. ومثال التخصيص بعد التعميم، قوله تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} (¬2). فهنا ذكر الملائكة على سبيل العموم ثم خص بالذكر جبريل وميكال، ومثله قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (¬3)، ¬

(¬1) التحريم: 4. (¬2) البقرة: 98. (¬3) البقرة: 238.

وليس هذا على وجه التكرار، بل لمزيد عناية واهتمام. والقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فنكون مخاطبين بطهارة الثياب من النجاسة، هذا القول بعيد عن الصواب، فإن الصحابة لم ينقل عنهم أنهم كانوا يصلون على طريقة أهل الكتاب، ولم يكلفوا بالصلاة إلا بعد الإسراء، وهل يقول أحد: بأن أول الإسلام كان المسلمون مخاطبين في تعلم ديانة أهل الكتاب أو غيرها من الديانات؛ لأن شرع من قبلهم شرع لهم، ما دام أنه لم يأت في شرعهم ما ينفيه، وأن الإنسان لو لم يقم بمثل هذا لكان مفرطاً، أو نقول: إن الأصل براءة الذمة حتى يأتي الخطاب المكلف من الشارع، كما قال سبحانه {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} (¬1)، ولم يعمل بقوله تعالى {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} (¬2) الآية. وأما قولكم: إنه يجوز أن يكون الرسول قد خص بالتكليف في الطهارة من الثياب وفي الصلاة، فإن كان الأمر من باب التجويز العقلي فهذا جائز، وإن كان من باب الدعوى فأين الدليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كلف بالصلاة دون سائر أمته في أول الإسلام؟ والله أعلم. ¬

(¬1) الأنعام: 145. (¬2) الأنعام: 146.

الدليل الثاني

الدليل الثاني على أن الطهارة شرط لصحة الصلاة: (1651 - 179) ما رواه البخاري، من طريق هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت: سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة، فلتقرصه، ثم لتنضحه بماء، ثم لتصلي فيه (¬1). وجه الاستدلال: فكونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الثوب من دم الحيض قبل الصلاة فيه، دليل على امتناع الصلاة وعدم صحتها في الثوب المتنجس بدم الحيض، وإذا كان وجود دم الحيض مانعاً من صحة الصلاة فيه، فكذلك سائر النجاسات. وأجيب: بأن حديث أسماء غاية ما فيه الدلالة على الوجوب، والوجوب لا يستلزم الشرطية. الدليل الثالث: (1652 - 180) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما ¬

(¬1) صحيح البخاري (307)، ورواه مسلم بنحوه (291).

الدليل الرابع

يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: أن العذاب على عدم الاستتار من البول يدل على أن التلبس بالنجاسات في الصلاة من الكبائر، وأن التنزه عن النجاسات من أوكد الواجبات، ويبعد أن تكون صلاته صحيحة ثم يعذب في قبره، فالذي يظهر أن صلاته غير صحيحة مع عدم التنزه من البول، وهذا مفيد لمعنى الشرطية. وأجيب عن هذا الدليل: بما أجيب به عن الأدلة السابقة، بأن الحديث دال على تأثيم من صلى في النجاسة، وليس فيه دليل على وجوب إعادة الصلاة على من صلى متلبساً بالنجاسة، والوجوب لا يفيد معنى الشرطية، والعذاب على ترك الواجب لا يفيد بطلان الصلاة، لأن من ترك الواجب فقد استحق العقاب بخلاف المندوب. الدليل الرابع: (1653 - 181) ما رواه الدارقطني من طريق روح بن غطيف، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم. قال الدارقطني: لم يروه عن الزهري غير روح بن غطيف، وهو متروك الحديث (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (216)، ومسلم (292). (¬2) سنن الدارقطني (1/ 401) ورواه البيهقي في السنن (2/ 404) ونقل بإسناده عن يحيى بن معين أنه قال: بلغني عن محمد بن يحيى الذهلي أنه قال: أخاف أن يكون هذا =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1654 - 182) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا المقرئ، حدثنا يحيى بن أيوب، عن زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

= موضوعاً، وروح هذا مجهول. اهـ وقال البخاري: هذا الحديث باطل، وروح منكر الحديث. الضعفاء الكبير (2/ 56). وقال ابن حبان: هذا خبر موضوع لا شك فيه. المجروحين (1/ 299). وانظر إتحاف المهرة (20433). (¬1) سنن الترمذي (346). (¬2) الحديث رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 383)، والروياني في مسنده (1431) وابن عدي في الكامل (3/ 203)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 71) وابن حبان في المجروحين (1/ 310) من طريق يحيى بن أيوب به. ورواه ابن ماجه (746) من طريق سويد بن سعيد، عن زيد بن جبيرة به. وضعفه الترمذي، وقال: إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة. اهـ وقال البخاري: زيد بن جبيرة منكر الحديث. الكامل (2/ 71). وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً، متروك الحديث، لا يكتب حديثه. الجرح والتعديل (3/ 559). وقال يحيى بن معين: لا شيء. المرجع السابق. وقال النسائي: ليس بثقة. =

الدليل السادس

ويغني عنه حديث صب الماء على بول الأعرابي حين بال في المسجد، فإنه دليل على وجوب تطهير المسجد عن النجاسات، ووجوب طهارة بقعة المصلي، وليس فيه دليل على أن الطهارة شرط. الدليل السادس: القياس على الطهارة من الحدث، فإذا كانت الطهارة من الحدث شرطاً، فإن الطهارة من الخبث كذلك، لأنها إحدى الطهارتين. وأجيب: بأن هناك فرقاً بين الطهارة من الحدث والطهارة من الخبث، فلا يصح القياس مع وجود الفارق، فمن ذلك: أولا: طهارة الحدث من باب فعل المأمور، وأما طهارة الخبث فمن باب ترك المحظور. ثانياً: طهارة الحدث تشترط لها النية على الصحيح خلافاً للحنفية، بخلاف طهارة الخبث فهي من باب التروك لا تشترط لها النية كترك الزنا والخمر ونحوها. ¬

_ = ورواه ابن ماجه (747) والبزار في مسنده (161) من طريق أبي صالح (كاتب الليث) عن الليث، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بنحوه، فجعله من مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث داود، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد، وعبد الله بن عمر العمري ضعفه بعض أهل الحديث من قبل حفظه، منهم يحيى بن سعيد القطان. اهـ وقال أبو حاتم في العلل (1/ 148): جميعاً واهيين. يعني حديث الليث وحديث زيد بن جبيرة. وانظر إتحاف المهرة (10524)، تحفة الأشراف (7660).

دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة واجبة، وليست بشرط

وقد حكى جماعة الإجماع على أن طهارة الخبث لا تجتاج إلى نية، منهم القرطبي في تفسيره (¬1)، وابن بشير وابن عبد السلام من المالكية (¬2)، والبغوي، وصاحب الحاوي من الشافعية (¬3). ثالثاً: طهارة الحدث طهارة تعبدية محضة غير معقولة المعنى، فبدن المحدث وعرقه وريقه طاهر، وأما طهارة الخبث فإنها طهارة معللة بوجود النجاسة الحسية. رابعاً: طهارة الحدث الصغرى تختص بأعضاء مخصوصة، ربما ليس لها علاقة بالحدث، فالحدث: الذي هو البول والغائط موجب لغسل الأعضاء الأربعة الطاهرة، بينما طهارة الخبث تتعلق بعين النجاسة أين ما وجدت. خامساً: طهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان على الصحيح، بخلاف طهارة الخبث. دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة واجبة، وليست بشرط: أدلتهم هي أدلة القول الأول، إلا أنهم لا يرون في هذه الأدلة ما يقتضي الحكم بالشرطية، وأن الحكم بالشرطية يحتاج إلى نص بنفي القبول أو نفي الصحة عن الفعل، ولم يوجد، فبقيت هذه الأدلة دالة على وجوب التخلي من النجاسة حال الصلاة. ¬

(¬1) تفسير القرطبي (5/ 213)،. (¬2) مواهب الجليل (1/ 160). (¬3) المجموع (1/ 354).

دليل من قال: الطهارة من النجاسة سنة

دليل من قال: الطهارة من النجاسة سنة: الدليل الأول: (1655 - 183) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنى على صلاته رغم أنه كان متلبساً بالنجاسة، ولو كانت الطهارة من النجاسة واجبة أو شرطاً لاستأنف الصلاة. وأجيب: بأن الحديث دليل على صحة صلاة من صلى وفي ثوبه نجاسة، ولم يكن عالماً بها فصلاته صحيحة، وليس فيه ما يدل على أن التخلي عن النجاسة مستحب، وليس بواجب. الدليل الثاني: (1656 - 184) ما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق، قال: حدثني عمرو بن ميمون، ¬

(¬1) المسند (3/ 20، 92). (¬2) انظر تخريجه في كتابي آداب الخلاء، رقم (397)، وهو جزء من هذه السلسلة.

أن عبد الله بن مسعود حدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض، أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كان لي منعة قال فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات. الحديث (¬1). وجه الاستدلال: أن هذا السلى نجس، لأنه من ذبيحة أهل الأوثان، ولا يخلو من دم. وأجيب: بأن الأمر لعله كان قبل أن يتعبد باجتناب النجاسة في لباسه؛ لأن هذا الفعل كان بمكة قبل ظهور الإسلام، والأمر باجتناب النجاسة متأخر. وهذا الجواب جائز، إلا أن غير المقبول أنه عندما كان الكلام على قوله تعالى: {وثيابك فطهر} قالوا: من الجائز أن يكون المسلمون مكلفين في شريعة من قبلهم باجتناب النجاسة، أو أن الرسول قد خص في هذا الواجب قبل الأمة، وعندما كان الدليل عليهم قالوا: إن هذا كان قبل أن تفرض الصلاة، وقبل أن يكون اجتناب النجاسة واجباً، فهذا نوع من التناقض! ¬

(¬1) صحيح البخاري (240)، ومسلم (1794).

الراجح من أقوال أهل العلم

الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض الأدلة نجد أن القول بأن اجتناب النجاسة في الصلاة واجب قول وسط بين قولين: القول بالشرطية، والقول بالاستحباب، وقد دلت الأدلة على وجوب اجتناب النجاسة، ولم يأت في الأدلة ما يدل على بطلان الصلاة إذا صلى وهو متلبس بالنجاسة، فيكون القول بالوجوب هو القول الراجح، والله أعلم.

الفصل الثالث هل التطهر من النجاسة على الفور أم على التراخي

الفصل الثالث هل التطهر من النجاسة على الفور أم على التراخي إزالة النجاسة تارة تكون على الفور، وتارة تكون على التراخي، فمثلاً إزالة النجاسة عن الكتب المحترمة، كالكتب السماوية، وكتب أهل العلم واجبة على الفور، لأن بقاءها على هذه الحال من المنكرات، (1657 - 185) بدليل ما رواه مسلم، من طريق قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (¬1). فقوله: " من رأى منكم منكراً فليغيره " أي على الفور. قال النووي: إزالة النجاسة التي لم يعص بالتلطخ بها في بدنه ليس على الفور , وإنما تجب عند إرادة الصلاة ونحوها، لكن يستحب تعجيل إزالتها (¬2). فقوله: " التي لم يعص بالتلطخ بها " دليل على أن النجاسة إذا كان التلطخ بها معصية فإزالتها على الفور كما لو وقعت النجاسة على كتب محترمة شرعاً. ¬

(¬1) صحيح مسلم (49). (¬2) المجموع (2/ 620).

استدلوا بأدلة منها

وأما إذا كانت إزالة النجاسة واجبة للصلاة، فلا يجب إزالتها على الفور، بل يجوز تأخير ذلك حتى يريد الطهارة أو الصلاة (¬1)، ويستجب تعجيلها. واستدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: قياس إزالة النجاسة على بقية شروط الصلاة، فإذا دخل وقت الصلاة وجب الاستنجاء وجوباً موسعاً بسعة الوقت، ومضيقاً بضيقه كبقية الشروط (¬2). الدليل الثاني: (1658 - 186) ما رواه البخاري في صحيحه: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬3). واستدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك بغير تطهير. ¬

(¬1) المجموع (1/ 146)، إعانة الطالبين (1/ 107)، الإقناع للشربيني (1/ 53)، حواشي الشرواني (1/ 174)، شرح زبد بن رسلان (ص: 52)، مغني المحتاج (1/ 43)، أسنى المطالب (1/ 50). (¬2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 181). (¬3) صحيح البخاري (174).

الدليل على استحباب تعجيل إزالة النجاسة

وأما الدليل على استحباب تعجيل إزالة النجاسة: (1659 - 187) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (219)، وصحيح مسلم (284).

الفصل الرابع في اشتراط النية في إزالة النجاسة

الفصل الرابع في اشتراط النية في إزالة النجاسة اتفق الجمهور على أن الطهارة من الخبث لا تشترط له نية (¬1). وخالف أكثر المالكية فاشترطوا النية في طهارة الاستنجاء من المذي خاصة، وهو المعتمد في المذهب (¬2). وقال القرافي: تشترط النية في إزالة كل النجاسات، وهو قول شاذ (¬3). ¬

(¬1) أما الحنفية فإنهم لا يشترطون النية لا في طهارة الحدث، ولا في طهارة الخبث، انظر في كتب الحنفية شرح فتح القدير (1/ 32)، البناية في شرح الهداية (1/ 173)، تبيين الحقائق (1/ 5)، البحر الرائق (1/ 24)، بدائع الصنائع (1/ 19)، مراقي الفلاح (ص:29)، أحكام القرآن للجصاص (3/ 337). وفي مذهب الشافعي انظر المهذب (1/ 14)، والمجموع (1/ 354)، وفي مذهب الحنابلة مطالب أولي النهي (1/ 105)، انظر المبدع (1/ 117). (¬2) قال في حاشية الدسوقي (1/ 112): واعلم أن غسل الذكر من المذي وقع فيه خلاف، قيل: إنه معلل بقطع المادة، وإزالة النجاسة. وقيل: إنه تعبد، والمعتمد الثاني. (أي كونه تعبداً) ثم قال: ويتفرع أيضاً، هل تجب النية في غسله أو لا تجب، فعلى القول بالتعبد تجب، وعلى القول بأنه معلل لا تجب، والمعتمد وجوبها. اهـ وأما في غير المذي فقد صرحوا بأن الاستنجاء يجزئ بلا نية، جاء في التاج والإكليل (1/ 229): قال ابن أبي زيد في الاستنجاء: ويجزئ فعله بغير نية، وكذلك غسل الثوب النجس. اهـ وانظر مواهب الجليل (1/ 160). (¬3) مواهب الجليل (1/ 160).

دليل الجمهور على عدم اشتراط النية

دليل الجمهور على عدم اشتراط النية: الدليل الأول: الإجماع. حكى جماعة الإجماع على أن طهارة الخبث لا تجتاج إلى نية، منهم القرطبي في تفسيره (¬1)، وابن بشير وابن عبد السلام من المالكية (¬2)، والبغوي، وصاحب الحاوي من الشافعية (¬3). الدليل الثاني: قالوا: إن الطهارة من الخبث من باب التروك، وهو لا يحتاج إلى نية كترك الزنا والخمر، فلو أن المطر نزل على ثوب نجس، فزالت النجاسة طهر الثوب ولو لم ينو؛ لأن النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها. دليل المالكية على اشتراط النية: (1660 - 188) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك (¬4). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: اغسل ذكرك، حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف، فيعم جميع الذكر، فيغسل مخرج الذكر من أجل النجاسة، أما بقية الذكر فالراجح عندهم أن غسله تعبدي غير معقول المعنى، وهذا سبب اشتراط النية. ¬

(¬1) تفسير القرطبي (5/ 213)،. (¬2) مواهب الجليل (1/ 160). (¬3) المجموع (1/ 354). (¬4) صحيح البخاري (269)، ومسلم (303).

وأجيب: بما قاله بعضهم: إن غَسْل الذكر إنما هو من أجل قطع مادة المذي، فهو كغسل النجاسات، لا يفتقر إلى نية (¬1). والراجح قول الجمهور، وأن طهارة الخبث لا تفتقر إلى نية، وقد بينا في مسألة كيفية التطهير من المذي أن الواجب هو غسل رأس الحشفة فقط، وهو ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح، ومن غسل رأس حشفته، فقد صح أنه غسل ذكره، فقد يطلق غسل البعض على الكل في لغة العرب، وليس في السنة دليل على وجوب تعميم الذكر بالغسل، وإذا صح هذا لم تكن الطهارة من الاستنجاء استثناء من إزالة النجاسة، فتفتقر إلى نية، بل غسل النجاسات كلها لا يحتاج إلى نية، والله أعلم. ¬

(¬1) قال القاضي أبو الوليد كما في المنتقى للباجي (1/ 50): الصحيح عندي أنه يفتقر إلى النية لأنها طهارة تتعدى محل وجوبها. وانظر في مذهب المالكية مواهب الجليل (1/ 285)، الخرشي (1/ 149)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323).

الفصل الخامس في ما يعفى عنه من النجاسات

الفصل الخامس في ما يعفى عنه من النجاسات يتفق الفقهاء على القول بالعفو في بعض أحكام النجاسة، ويختلفون في سبب هذا العفو، فبعضهم يرى أن قليل النجاسة معفو عنها بخلاف كثير النجاسة، ويستدلون على ذلك بالعفو عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء والعدد، وبعضهم يقسم النجاسة إلى مغلظة ومخففة، والمغلظة يعفى فيها عن قدر الدرهم والمخففة يعفى عنها بمقدار ربع الثوب، وهكذا، وحتى يمكن وضع ضابط تقريبي للعفو عن النجاسة يمكن لنا أن نرجع سبب العفو من حيث الجملة إلى أمور منها: الأول: الاضطرار، وتعريف الاضطرار: " هي الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعاً " (¬1)، كالاضطرار إلى أكل النجاسة (الميتة) أو الاضطرار إلى لبس الثوب النجس في الصلاة لستر العورة المغلظة، ونحو ذلك. الثاني: مشقة الاحتراز من النجاسة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الهر " إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات " فلعلة التطواف نفى عنها النجاسة. ويقاس على الهرة البغل والحمار والفأرة؛ لمشقة الاحتراز منها، فيعفى عن سؤرها وعرقها. ¬

(¬1) درر الحكام شرح مجلة الحكام (1/ 34).

ومما يصعب الاحتراز منه العفو عما يصيب القدم من النجاسة والاكتفاء بدلكها بالتراب، حيث يتكرر مرور الناس في الطرقات، وهي لا تخلو من النجاسات التي تعلق بأقدامهم، وقد تكون هذه الطرقات موحلة. وقد يتنجس ذيل المرأة ويتأثر بهذه النجاسات فكان يكفي في ذلك مروره على تراب طاهر بعده. الثالث: عموم البلوى، وذلك في الاستنجاء، فإن الاستنجاء مما تعم به البلوى، ويضطر كل أحد إليه في كل وقت وكل مكان، ولا يمكن تأخيره فلو كلف إزالته بالماء شق وتعذر ذلك في كثير من الأوقات ووقع الحرج. الرابع: عسر الإزالة، فلا يكلف الإنسان إزالة لون النجاسة وريحها إذا عسر عليه ذلك، ويكفي إزالة عينها. الخامس: كون الشيء يسيراً، فالشريعة تعفو عن الشيء الحقير غالباً في جوانب كثيرة من الشريعة، وليس فقط في باب النجاسة، كالعفو عن دم البراغيث، والبول الذي ترشش على الثوب بقدر رؤوس الإبر، وظهور شيء يسير من العورة أثناء الصلاة، والعمل الأجنبي القليل في الصلاة لا يبطلها، والغرر اليسير في البيوع. فإذا عرفنا الضوابط التقريبية للعفو عن النجاسة بقي الأمر معلقاً على تحقيق المناط، هل هذه النجاسة داخلة في عفو الشارع عنها لكثرة وقوعها وتكرره ولوجود المشقة في الاحتراز منها أو للاضطرار إلى فعلها، أو ليست كذلك فلا يعفى عنها؟ وكما قسنا الفأرة والحمار على الهرة لعلة التطواف،

نقيس غيرها عليها، فما ظهر فيه مشقة من التحرز منه خففنا طهارته، وكما قسنا من به سلس بول على المستحاضة في الصلاة في كونه لا عبرة بحدثه ويصلي ولو كان البول نازلاً، وكونه يؤذن له في الجمع بين الصلوات، وهكذا إذا ظهر لنا في نجاسة ما مشقة أو تكرار أو عموم بلوى أو اضطرار أو كونها نجاسة يسيرة عفونا عن ذلك قياساً لما ليس فيه نص على ما فيه نص، والله أعلم.

مبحث طهارة المعفو عنه حقيقة أو حكمية؟

مبحث طهارة المعفو عنه حقيقة أو حكمية؟ اختلف العلماء في المعفو عنه، هل يصبح طاهر العين بعد العفو عنه، أو أن حكم النجاسة سقط مع قيامها، ويتبين أثر الخلاف بين القولين إذا قلنا: إن الهر قد حكمت السنة بطهارته لعلة التطواف ومشقة الاحتراز، فإذا ذهبت علة التطواف، وكان الهر متوحشاً وليس طوافاً فهل يرجع إلى أصله من النجاسة، أو يكون طاهراً مطلقاً، اختلف العلماء في هذا؟. فقيل: إن المعفو عنه طاهر حقيقة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إنه نجس، وإنما سقط حكم النجاسة، وهذا قول في مذهب الحنفية (¬3)، ومذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 337)، وقد قالوا بنجاسة البئر إذا سقط فيها الرجل ولم يستنج بالماء، وإنما اقتصر على الحجارة، كما سيأتي مذهبهم في طهارة البئر. (¬2) الإنصاف (1/ 109)، وقال ابن قدامة في المغني (1/ 411): واختلف أصحابنا في طهارته، فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، ولو كان نجساً لنجسه. ثم قال: وقال أصحابنا المتأخرون: لا يطهر المحل، بل هو نجس. اهـ أي نجس معفو عنه. اهـ (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 337)، تبيين الحقائق (1/ 72)، البحر الرائق (1/ 238). (¬4) مواهب الجليل (1/ 45)، حاشية الدسوقي (1/ 111). (¬5) حيث اعتبر أثر الاستجمار نجساً، انظر حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 208)، تحفة المحتاج (2/ 128)، الأشباه والنظائر (ص: 84)، (¬6) المغني (1/ 411). وقال البهوتي: وأثر الاستجمار نجس؛ لأنه بقية الخارج من السبيل، يعفى عن يسيره بعد الإنقاء واستيفاء العدد، بغير خلاف نعلمه. اهـ

دليل من قال: إنه طاهر

دليل من قال: إنه طاهر: (1661 - 189) استدلوا بما وراه مالك من طريق حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها: أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: أنه نفى - صلى الله عليه وسلم - عن الهر النجاسة، مع تعليله طهارتها بعلة التطواف، أي مشقة التحرز منها، فلو كانت الهرة نجسة معفواً عنها لم يقل عليه الصلاة والسلام: إنها ليست بنجس. دليل من قال: إنها نجسة: قالوا: الميتة نجسة، لكن أبيحت للمضطر للعذر، وهذا لا يحولها إلى عين طاهرة، ولذلك إذا زال العذر رجع التحريم. ولأن المستجمر في الحجارة يبقى بعده أثر من النجاسة في المحل، لا يزيله إلا الماء، وهذا الأثر عينه نجسة؛ لأنه جزء من الغائط، فكيف يكون ¬

(¬1) الموطأ (1/ 44). (¬2) سبق تخريجه، انظر رقم (1507).

المحل طاهراً حقيقة والنجاسة لا تزال عليه؟ وإنما عفي عن حكمها تخفيفاً من الله سبحانه وتعالى، وتيسيراً على المكلف، فالحمد لله على تيسيره ومنه. وسواء رجحنا هذا أو ذاك، فالذي يعنينا من النجاسات هو حكمها، فإذا سقط حكم النجاسة، وعفي عنها، سواء قلنا بعد ذلك: إن العين نجسة أو طاهرة لم يكن للخلاف أثر، والله أعلم.

الفصل السادس في مذاهب العلماء في العفو عن النجاسات

الفصل السادس في مذاهب العلماء في العفو عن النجاسات في معرض ذكر النجاسة المعفو عنها في كل مذهب لا حاجة لنا في بيان أن بعض الأعيان المعتبرة في بعض المذهب نجسة، هي في راجح الأمر من الأعيان الطاهرة؛ أو العكس؛ لأنه يفترض أننا قد حرر فيما سبق الراجح في كل الأعيان المختلف في طهارتها، سواء كان من إنسان أو حيوان أو جماد في الأبواب التي قبل هذا الفصل، وإنما أوردنا في هذا الفصل سرد النجاسات المعفو عنها في كل مذهب، فإن أردت أن تعرف هل النجاسة المذكورة في هذا المذهب هي حقاً من الأعيان النجسة أو الطاهرة فارجع إلى باب ذكر الأعيان النجسة، وراجع خلاف العلماء ومعرفة الراجح. القول الأول: مذهب الحنفية: ذهب الحنفية إلى العفو عن قليل النجاسة مطلقاً في حق المصلي في بدنه وثوبه وبقعته، إلا أن تقديرهم للقليل يختلف من نجاسة إلى أخرى، فتقدير القليل في النجاسة المخففة: هو ما لم يفحش. وتقدير القليل في النجاسة المغلظة: هو قدر الدرهم (¬1). ¬

(¬1) جاء في حاشية ابن عابدين (1/ 318) والبحر الرائق (1/ 240) أن المغلظة عند أبي حنيفة: ما ورد فيها نص لم يعارض بنص آخر، فإن عورض بنص آخر فمخفف. مثاله: دم الحيض نجس مغلظ؛ لورود النص على نجاسته، ولم يعارض بنص آخر. بينما بول ما يؤكل لحمه نجس مخفف؛ لأن حديث استنزهوا من البول يدل على نجاسته، وحديث العرنيين يدل على طهارته، فلما عورض بنص آخر دل على أن نجاسته مخففة. =

ويستدلون بأدلة منها: أولاً: أن الاستنجاء والاستجمار ليس بواجب عندهم، ومعنى هذا أنه يعفى عن غسل النجاسة من بول أو غائط في مكانه المعتاد. وقد نوقشت هذه المسألة في باب مستقل في كتاب أحكام الطهارة " آداب الخلاء " وترجح أن الاستنجاء أو الاستجمار واجب. ويستدلون أيضاً بالعفو عن الأثر المتبقي بعد الاستجمار، وهو أثر لا يزيله إلا الماء، ومع ذلك عفي عنه، وهو دليل على العفو عن قليل النجاسة. ويعفى عن النجاسة الكثيرة إن كانت في بقعة المصلي في موضع اليدين والركبتين؛ لأن وضعهما في حال السجود ليس بركن، ولا يعفى عن كثير النجاسة في موضع قدم المصلي لأن القيام ركن. وأما في موضع السجود فاختلف في العفو عن النجاسة الكثيرة على قولين. فقيل: لا يعفى؛ لأن الجبهة أكبر من الدرهم. وقيل: يعفى؛ لأن فرض السجود يؤدى بقدر أرنبة الأنف، وهي أقل من الدرهم. والتفريق بين الركن والواجب تفريق بلا دليل كما يعفى عن النجاسة المنتضحة كرؤوس الإبر، وإن كثرت بشرط ألا ¬

_ = وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن النجاسة المغلظة: ما أجمع على نجاسته. والمخفف: ما اختلف الأئمة في نجاسته. فروث ما يؤكل لحمه مغلظ عند أبي حنيفة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إنها ركس" ولم يعارض بنص آخر. والروث عند صاحبيه مخفف لقول مالك وأحمد بطهارته.

القول الثاني: مذهب المالكية

ترى، فإن رؤيت وكان بحال لو جمعت بلغت أكثر من الدرهم وجبت إزالتها. وكالبول المنتضح والدم على ثوب القصاب كما يعفى عن النجاسة الكثيرة إذا كانت مختلطة في طين الشوارع وكانت طرق المصلي لا تنفك عنها النجاسات غالباً لكن ما لم ير عين النجاسة فإن رأى عين النجاسة فلا يعفى إلا عن قليلها كما سبق. كما يعفى عن بعر الإبل والغنم إذا وقع في البئر ما لم يكثر كثرة فاحشة أو يتفتت فيتلون به الماء. كما يعفى عن ذرق ما لا يؤكل لحمه من الطيور، كالبازي والصقر وإن كثر؛ لأنها تذرق في الهواء، فيصعب الاحتراز منها (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: يعفى في مذهب المالكية عما يعسر الاحتراز عنه من النجاسات كحدث مستنكح (أي ملازم كثيراً) وكبلل باسور وكثوب مرضعة أو جسدها إذا اجتهدت في درء البول أو الغائط بأن تنحيه عنها حال البول فإذا أصابها شيء بعد التحفظ عفي عنه، ومثل المرضع: الكناف، أي الذي ينزح الكنف، والجزار، فيعفى عما أصابهما بعد التحفظ، فإن لم يتحفظا فلا عفو. - ويعفى عما دون قدر الدرهم البغلي عن عين أو أثر من دم مطلقاً منه ومن غيره ولو دم حيض أو خنزير في ثوب أو بدن أو مكان. - ويعفى عن يسير الدم والقيح والصديد، فمثله مثل الدم من كل وجه. - ويعفى عن أثر موضع الحجامة إذا كان يتضرر بالغسل فلا يجب غسله، ¬

(¬1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 104 - 105)، حاشية ابن عابدين (1/ 322)، شرح فتح القدير (1/ 202 - 205)

ولكن إن كان زائداً عن قدر الدرهم مسح حتى يبرأ، وإن كان أقل من الدرهم البغلي عفي عنه بلا مسح، ويستمر العفو إلى أن يبرأ ذلك الموضع. - ويعفى عما أصاب النعل والخفاف من أرواث الدواب وأبوالها، بموضع يطرقه الدواب كثيراً، فإن أصابت الثياب فلا عفو، وإن كانت النجاسة من غير أرواث الدواب وأبوالها فلا عفو أيضاً، ولا بد من غسله (¬1). - كما يعفى عن الدم المباح في الصقيل كالسيف والسكين والمرآة وإن لم يمسحه لئلا يفسد. ¬

(¬1) قال في مواهب الجليل (1/ 152): إذا كانت النجاسة يابسة فمعفو عن الذيل الواصل إليها، وفي الرطبة قولان: المشهور لا يعفى، والثاني أنه يعفى. وقال أيضاً في المرجع المذكور (1/ 153): ويعفى عن أثر ما يصيب الخف، وعما يصيب النعل من أرواث الدواب وأبوالها، ولو كانت رطبة، كما قاله في المدونة، بشرط أن يدلك ذلك، فإذا دلكه جاز له أن يصلي بذلك الخف والنعل، والعلة في ذلك المشقة، وهو الذي ارتضاه ابن الحاجب. وبعضهم ساوى بين الذيل والخف، فقال يعفى عنهما ولو كانت النجاسة رطبة، وخرج حكم ذيل المرأة على كلام مالك في الخف. قال في مواهب الجليل (1/ 152): الأشبه أن ذلك فيما لا تنفك منه الطرقات من أرواث الدواب وأبوالها، وإن كانت رطبة، فإن ذلك لا ينجس ذيلها للضرورة، كما قال مالك في الخف. قال سند: ولعمري أن تخريج ذلك على الخف حسن؛ لأن غسل الثوب كل وقت فيه حرج ومشقة، ربما كانت فوق مشقة غسل الخف، فإن الخف يغسله وينزعه وينشف، والثوب إن تركه عليه مبلولاً فمشقة إلى مشقة، وإن نزعه فليس كل أحد يجد ثوباً آخر يلبسه. قال الحطاب تعليقاً: وما قالاه ظاهر، لكنه خلاف مذهب المدونة. وقال في حاشية الدسوقي (1/ 75): وحاصله أن الخف إذا أصابه شيء من النجاسات غير أرواث الدواب وأبوالها كخرء الكلاب أو فضلة الآدمي أو أصابه دم فإنه لا يعفى عنه كما مر، ولا بد من غسله. اهـ

القول الثالث: مذهب الشافعية

- ويعفى عن أثر الدمل الواحد ومثله الجرح الواحد ما لم ينك أي يعصر أو يقشر بلا حاجة، فإن عصره أو قشره بلا حاجة لم يعف عما زاد عن الدرهم، وإن عصره أو قشره لحاجة عفي عنه ولو كثر. وإن كثرت الدمامل فيعفى عنها مطلقاً، ولو عصرها أو قشرها لاضطراره لذلك كالحكة والجرب. - كما يعفى عن أثر ذباب وناموس يحملها على أعضائه، ثم يحطها على الثوب أو البدن. - يعفى عن طين الشوارع المتنجس، سواء كان الطين لسبب المطر أو الرش أو نحوهما، بشرط أن يكون الطين طرياً يخشى منه الإصابة، وأن لا تغلب النجاسة على الطين يقيناً أو ظناً، وأن لا يصيب الإنسان عين النجاسة غير المختلطة. - ويعفى عما يعلق من غبار النجس بذيل المرأة إذا أطالته للستر وليس للخيلاء، وكذا ما يعلق برجل مبلولة من نجاسة يابسة إذا مر عليها، وليس العفو عنهما مترتباً بمرورهما على ما يطهرهما (¬1). هذا جل ما يعفى عنه من النجاسات في مذهب المالكية، وهو كما سبق يرجع إلى الضوابط التي ذكرت سابقاً من مشقة التحرز وعموم البلوى والاضطرار ويسير النجاسة. القول الثالث: مذهب الشافعية: - يعفى عن أثر استجمار بمحله، وفي الأصح أنه يعفى عنه ولو عرق محل الأثر وانتشر؛ لعسر الاحتزار منه (¬2). ¬

(¬1) انظر الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 71 - 78)، (¬2) نهاية المحتاج (1/ 25)،

- ويعفى عن شعر الحيوان المركوب النجس، ولو كان كثيراً؛ لمشقة الاحتراز عنه (¬1). - ويعفى عن قليل بول الخفاش، وونيم الذباب، وبول وروث الزنابير والبعوض، وروث السمك في الماء ونحوها؛ لمشقة الاحتراز (¬2). - أما دم القمل والبراغيث والبق والقردان وغيرهما مما لا نفس له سائلة فقد اتفق أصحاب الشافعية على أنه يعفى عن قليله, وفي كثيره وجهان مشهوران أصحهما العفو عنه. قال صاحب البيان هذا قول عامة أصحابنا. وأما دم الشخص نفسه، فضربان: أحدهما: ما يخرج من بثرة من دم وقيح وصديد، فله حكم دم البراغيث بالاتفاق , يعفى عن قليله قطعاً, وفي كثيره الوجهان: أصحهما العفو. الضرب الثاني: ما يخرج منه لا من البثرات، بل من الدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة وغيرها. وفيه طريقان: أحدهما: أنه كدم البراغيث والبثرات فيعفى عن قليله، وفي كثيره الوجهان قال الرافعي: هذا مقتضى كلام الأكثرين. والثاني: وهو الأصح اختاره إمام الحرمين وسائر العراقيين أنه كدم الأجنبي. أي فلا يعفى عنه. وإذا عصر هو البثرة أو الدمل أو قتل البرغوث عفي عن قليله فقط دون كثيره (¬3). ¬

(¬1) مغني المحتاج (1/ 81). (¬2) مغني المحتاج (1/ 81) أسنى المطالب (1/ 175) منظومة ابن العماد (ص: 18 - 19). (¬3) المجموع (3/ 143).

- وإذا تيقن نجاسة طين الشوارع فلا خلاف في العفو عن القليل الذي يلحق ثياب الطارقين. أما إذا غلب على الظن نجاسة طين الشوارع، فهناك قولان، الأول: يحكم بنجاسته، والثاني: بطهارته، بناء على تعارض الأصل والظاهر (¬1). - كما يعفى عن ميتة ما لا نفس له سائلة إذا وقع في الماء شرط أن يكون الواقع قليلاً، وألا يغير الماء، وهذا مبني على مذهب الشافعية القائل بنجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة (¬2). - يعفى عن القليل من دخان وغبار النجاسة، وقليل دخان السرجين (¬3). - يعفى عن النجاسة التي لا يدركها البصر المعتدل، كنقطة خمر لا تبصر لقلتها، أما من كان بصره حاداً فأبصر تلك النجاسة فلا عبرة برؤيته (¬4). وقد قسم السيوطي النجاسات المعفو عنها في مذهب الشافعية أقساماً تارة باعتبار مقدارها، وتارة باعتبار محلها، وننقله بحروفه، نظراً لأن التقسيم يعين الطالب على الحفظ: قال السيوطي: النجاسات أقسام: أحدها: ما يعفى عن قليله وكثيره في الثوب والبدن. وهو: دم البراغيث والقمل والبعوض والبثرات والصديد والدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة، ولذلك شرطان: ¬

(¬1) المجموع (1/ 261 - 262)، نهاية المحتاج (1/ 27 - 28). (¬2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 323)، شرح منظومة ابن العماد (ص: 55). (¬3) مغني المحتاج (1/ 81). (¬4) انظر حاشية البجيرمي (1/ 88)، شرح منظومة ابن العماد (ص: 48 - 49).

أحدهما: أن لا يكون بفعله, فلو قتل برغوثاً، فتلوث به وكثر، لم يعف عنه. والآخر: أن لا يتفاحش بالإهمال؛ فإن للناس عادة في غسل الثياب, فلو تركه سنة مثلا، وهو متراكم لم يعف عنه. الثاني: ما يعفى عن قليله دون كثيره. وهو دم الأجنبي، وطين الشارع المتيقن نجاسته. الثالث: ما يعفى عن أثره دون عينه. وهو أثر الاستنجاء, وبقاء ريح أو لون، عسر زواله. الرابع: ما لا يعفى عن عينه ولا أثره، وهو ما عدا ذلك. تقسيم ثان لما يعفى عنه من النجاسة. أحدها: ما يعفى عنه في الماء والثوب، وهو ما لا يدركه الطرف، وغبار النجس الجاف، وقليل الدخان والشعر، وفم الهرة والصبيان. ومثل الماء: المائع، ومثل الثوب: البدن. الثاني: ما يعفى عنه في الماء والمائع دون الثوب والبدن، وهو الميتة التي لا دم لها سائل ومنفذ الطير وروث السمك في الحب والدود الناشئ في المائع. الثالث: عكسه , وهو: الدم اليسير وطين الشارع ودود القز إذا مات فيه لا يجب غسله، صرح به الحموي، وصرح القاضي حسين بخلافه. الرابع: ما يعفى عنه في المكان فقط, وهو ذرق الطيور في المساجد والمطاف، كما أوضحته في البيوع، ويلحق به ما في جوف السمك الصغار على القول بالعفو عنه؛ لعسر تتبعها وهو الراجح. ثم أتبع ذلك السيوطي بوضع عنوان آخر، فقال:

القول الرابع: مذهب الحنابلة

الصور التي استثني فيها الكلب والخنزير من العفو. الأولى: الدم اليسير من كل حيوان يعفى عنه إلا منهما، ذكره في البيان قال في شرح المهذب: ولم أر لغيره تصريحا بموافقته ولا مخالفته، قال الإسنوي: وقد وافقه الشيخ نصر المقدسي في المقصود. الثانية: يعفى عن الشعر اليسير إلا منهما، ذكره في الاستقصاء. الثالثة: يعفى عن النجاسة التي يدركها الطرف إلا منهما، ذكره في الخادم بحثاً. الرابعة: الدباغ يطهر كل جلد إلا جلدهما بلا خلاف عندنا. الخامسة: يعفى عن لون النجاسة أو ريحها إذا عسر زواله إلا منهما، ذكره في الخادم بحثاً. السادسة: قال في الخادم: ينبغي استثناء نجاسة دخان نجاسة الكلب والخنزير؛ لغلظهما, فلا يعفى عن قليلها (¬1). اهـ القول الرابع: مذهب الحنابلة: لا تختلف الرواية في مذهب أحمد أنه يعفى عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء والعدد. كما يعفى عن يسير الدم والقيح والصديد في غير مائع ومطعوم من حيوان طاهر في الحياة، سواء كان من مأكول اللحم أو من غيره كالهر، بشرط أن يكون من غير السبيلين، فإن وقع في مائع أو مطعوم أو كان من حيوان نجس كالكلب والخنزير أو خرج من أحد السبيلين فلا يعفى عن شيء من ذلك. ¬

(¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 432).

وأما القيء فلا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب. وفيه قول ثان بأنه يعفى عن يسيره. كما أن ريق الحمار والبغل وعرقهما على القول بنجاستهما لا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب. وفيه رواية ثانية أنه يعفى عن يسيره. كما أن ريق سباع البهائم - غير الكلب والخنزير - والطير وعرقها على القول بنجاسته لا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب. وقيل: يعفى عن يسيره. كما أن بول الخفاش وكذا الخشاف وكذا الخطاف نجس، فلا يعفى عنه على الصحيح من المذهب. وعنه يعفى عن يسيره. ولا يعفى عن يسير بول كل بهيم نجس أو طاهر لا يؤكل، وينجس بموته على الصحيح من المذهب. وأما النبيذ النجس، فلا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب. وعنه يعفى عن يسيره. ويعفى عن دم البق والقمل والبراغيث والذباب ونحوها على القول بنجاستها، وقد تقدم أن الراجح فيها الطهارة. ومنها يسير النجاسة إذا كانت على أسفل الخف والحذاء بعد الدلك يعفى عنها على القول بنجاسته، وقطع به الأصحاب. ومنها يسير سلس البول مع كمال التحفظ يعفى عنه، قال الناظم: وظاهر كلام الأكثر عدم العفو، وعلى قياسه يسير دم الاستحاضة.

ومنها يسير دخان النجاسة وغبارها وبخارها يعفى عنه ما لم تظهر له صفة على الصحيح من المذهب. قال جماعة: يعفى عنه ما لم يتكاثف، وقيل: ما لم يجتمع منه شيء ويظهر له صفة، وقيل: أو تعذر أو تعسر الاحتراز منه. وقيل: لا يعفى عن يسير ذلك. ومنها يسير نجاسة الجلالة قبل حبسها لا يعفى عنه على الصحيح من المذهب، وقيل: يعفى عنه (¬1). هذا جل ما يعفى عنه وما لا يعفى في مذهب الحنابلة، وكما قلنا: إن الشأن في هذا الفصل هو تحرير المذاهب دون تعرض لمناقشتها؛ وذلك لأنه سبق أن تحرير الأعيان النجسة والطاهرة، والراجح فيها في أبواب وفصول ومباحث متقدمة، وأما الراجح في العفو فكما سبق محاولة ضبط ذلك من خلال ضوابط جامعة، فكل نجس يسير عرفاً فهو معفو عنه على الصحيح، دون تفريق بين البول وبين الدم النجس، وسواء كان من الإنسان أو من الحيوان، وسواء تعلقت النجاسة في البدن أو في الثوب أو في المكان. ويقاس ما لم يرد فيه نص بالعفو على ما ورد فيه النص، إذا اتحدا في العلة. كما أن كل ما يشق التحرز منه فهو عفو من غير فرق، {وما جعل ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 331 - 334)، المستوعب (1/ 340)، المبدع (1/ 249 - 250)، مطالب أولي النهى (1/ 235).

عليكم في الدين من حرج} (¬1)، وقال: {يريد الله أن يخفف عنكم} (¬2)، {يريد الله بكم اليسرى ولا يريد بكم العسر} (¬3). كما أن الضرورة تبيح تعاطي النجاسات، سواء في ستر العورة أو في أكل الميتة أو في غيرها. كما أن كل ما تعم به البلوى فإنه مدعاة للتخفيف، وفقاً للقاعدة الشرعية المشقة تجلب التيسير، هذه هي الضوابط الشرعية في العفو عن النجاسة، ويبقى على طالب العلم تحقيق المناط، في تنزيل هذه الضوابط على الأعيان، والله أعلم. ¬

(¬1) الحج: 78. (¬2) النساء: 28. (¬3) البقرة: 185.

الفصل السابع في ما يحرم استعماله في إزالة النجاسة

الفصل السابع في ما يحرم استعماله في إزالة النجاسة المبحث الأول إزالة النجاسة بالكتب الشرعية إزالة النجاسة بالمصحف الشريف كفر بالله وإلحاد به. قال النووي: لو استنجى بشيء من أوراق المصحف والعياذ بالله عالماً صار كافراً مرتداً. وأما إزالة النجاسة بالكتب الشرعية، فقد تكلم العلماء عن الاستنجاء به، ونهوا عن ذلك، وهل هو على التحريم أو الكراهة خلاف؟ فقيل: يكره، ويجزئ، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يحرم ويجزئ، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: يحرم ولا يجزئ، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬3) ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 340)، نور الإيضاح (ص: 16). (¬2) قال العدوي في حاشيته على الخرشي (1/ 151): أما المحترم من مطعوم ومكتوب وذهب وفضة يحرم عليه -يعني الاستنجاء بها- سواء أراد الاقتصار عليه أم لا؟ ولكن إذا أنقى يجزئ. اهـ وانظر مواهب الجليل (1/ 286)، التاج والإكليل (1/ 286)، مختصر خليل (ص: 15)، التمهيد (1/ 347). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 137): من الأشياء المحترمة التي يحرم الاستنجاء بها الكتب التي فيها شيء من علوم الشرع، فإن استنجى بشيء عالماً أثم. وفي سقوط الفرض الوجهان: الصحيح لا يجزئه. وانظر الوسيط (1/ 306)، المنهج القويم (ص: 79، 80)، شرح =

والحنابلة (¬1). تعليل الكراهة أو المنع: قالوا: إن الكتب الشرعية يجب احترامها، لما فيه من علم محترم، وإزالة النجاسة بها إهانة لها، وهذا منهي عنه. ولأن الكتب الشرعية تعتبر من المال، فلها قيمة شرعاً، وإزالة النجاسة بها إفساد لهذا المال، وإفساد الأموال منهي عنه. ولأن الكتب الشرعية لا تخلو من أسماء الله سبحانه وتعالى، ومن أحاديث شريفة يجب توقيرها، ولا يجوز إهانتها. وقياساً على النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ لأنه طعام إخواننا من الجن وطعام دوابهم، فإذا كان زاد الأبدان منهياً عنه، فكذلك زاد الأرواح من العلوم الشرعية. والكراهة التي عند الحنفية لا يبعد أن تكون كراهة تحريم، لا كراهة تنزيه، والله أعلم. ¬

= زبد ابن رسلان (ص: 55)، روضة الطالبين (1/ 68). (¬1) المغني (1/ 105)، الإنصاف (1/ 110،111)، المبدع (1/ 93)، المحرر (1/ 10)،

المبحث الثاني في إزالة النجاسة بالأطعمة

المبحث الثاني في إزالة النجاسة بالأطعمة نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ لأنه طعام الجن وطعام دوابهم، فالنهي عن طعام الإنس وطعام دوابهم من باب أولى، والاستنجاء نوع من إزالة النجاسة عن البدن. وكما أنه إذا نهي عن الاستنجاء بها نهي عن التبول عليها من باب أولى. (1662 - 190) فقد روى مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم (¬1). ¬

(¬1) مسلم (450).

ولهذا ذهب الأئمة الأربعة (¬1) إلى تحريم الاستنجاء بالطعام. وإذا خالف واستنجى أجزأه إذا حصل الإنقاء عند الحنفية والمالكية. وقيل: لا يجزئ في مذهب الشافعية والحنابلة. ومثل طعام الآدمي طعام البهيمة فلا يستنجي به (¬2). ولأن الاستنجاء بالطعام مناف لشكر النعمة وتعظيمها، وعدم امتهانها، وقد ينتفع بها حيوان أو طير أو غيرهما من دواب الأرض. وأجاز بعض الفقهاء إزالة النجاسة ببعض الأطعمة إذا اضطر إلى ذلك كما لو لم يكن هناك ماء، أو كان يفسد الماء المحل المتنجس. ¬

(¬1) أطلق الكراهة في مراقي الفلاح (ص: 20) قال: ويكره الاستنجاء بعظم وطعام لآدمي ... الخ. ولعلها كراهة تحريم كالجمهور، فإن الموجود في الدر المختار (1/ 339) "وكره تحريماً بعظم وطعام وروث .. الخ. وقال في البحر الرائق (1/ 255): والظاهر أنها كراهة تحريم. وقال ابن عبد البر من المالكية في كتابه الكافي (ص: 17): وما يجوز أكله لا يجوز الاستنجاء به. اهـ وانظر حاشية العدوي على الخرشي (1/ 151)، مواهب الجليل (1/ 286)، التاج والإكليل (1/ 286)، مختصر خليل (ص: 15). وفي مذهب الشافعية: قال في المجموع (2/ 135): لا يجوز الاستنجاء بعظم ولا خبز ولا غيرهما من المطعوم، فإن خالف واستنجى به عصى، ولا يجزئه هكذا نص عليه الشافعي، وقطع به الجمهور، ثم قال: وإذا لم يجزئه المطعوم كفاه بعده الحجر إن لم ينشر النجاسة. اهـ وانظر إعانة الطالبين (1/ 108)، الإقناع للشربيني (1/ 54)، شرح زبد بن رسلان (ص:55). وفي مذهب الحنابلة انظر: كشاف القناع (1/ 67،69)، المغني (1/ 104)، الإنصاف (1/ 110،111)، المبدع (1/ 93)، المحرر (1/ 10). (¬2) نص على طعام البهيمة الحنفية في نور الإيضاح (ص: 16)، حاشية ابن عابدين (1/ 339). ومن الحنابلة دليل الطالب (ص: 6)، ومنار السبيل (1/ 24)، المبدع (1/ 93)، الإنصاف (1/ 110)، كشاف القناع (1/ 69).

(1663 - 191) واستدل لذلك بما ما رواه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، حدثني سليمان بن سحيم، عن أمية بنت أبي الصلت، عن امرأة من بني غفار، قالت: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقيبة رحله. قالت: فوالله لنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح فأناخ، ونزلت عن حقيبة رحله وإذا بها دم مني، فكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم، قال: ما لك؟ لعلك نفست؟ قالت: قلت: نعم، قال: فأصلحي من نفسك، وخذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحاً، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك. الحديث (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال: استعمال الملح في إزالة دم الحيض، والملح مطعوم. قال الخطابي تعليقاً على هذا الحديث: فيه من الفقه أنه استعمل الملح في غسل الثياب وتنقيته من الدم، والملح مطعوم، فعلى هذا يجوز غسل الثياب بالعسل إذا كان ثوباً من إبريسم يفسده الصابون، وبالخل إذا أصابه الحبر ونحوه، ويجوز على هذا التدلك بالنخالة، وغسل الأيدي بدقيق الباقلى والبطيخ ونحو ذلك من الأشياء التي لها قوة الجلاء. وحدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: دخلت الحمام بمصر، فرأيت الشافعي يتدلك بالنخالة " (¬3). ¬

(¬1) المسند (6/ 380). (¬2) سيأتي تخريجه في مسألة: إذا أمكن إزالة اللون أو الرائحة بإضافة مطهر مع الماء (¬3) معالم السنن للخطابي مطبوع مع تهذيب السنن (1/ 197).

وأجاز الحنفية (¬1) وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2)، إزالة النجاسة بالخل، والخل قد قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: نعم الإدام الخل (¬3). وقال النووي: اتفق أصحابنا على تحريم الاستنجاء بجميع المطعومات كالخبز واللحم والعظم وغيرها, وأما الثمار والفواكه فقسمها الماوردي تقسيماً حسناً، فقال: منها ما يؤكل رطباً لا يابساً, كاليقطين فلا يجوز الاستنجاء به رطباً، ويجوز يابساً إذا كان مزيلاً. ومنها ما يؤكل رطباً ويابساً وهو أقسام: أحدها: مأكول الظاهر والباطن، كالتين والتفاح والسفرجل وغيرها, فلا يجوز الاستنجاء بشيء منه رطباً ولا يابساً. والثاني: ما يؤكل ظاهره دون باطنه، كالخوخ والمشمش وكل ذي نوى فلا يجوز بظاهره, ويجوز بنواه المنفصل. والثالث: ما له قشر ومأكوله في جوفه كالرمان, فلا يجوز الاستنجاء بلبه, وأما قشره فله أحوال: أحدها: لا يؤكل رطبا ولا يابساً كالرمان، فيجوز الاستنجاء بالقشر, وكذا لو استنجى برمانة فيها حبها جاز إذا كانت مزيلة. والثاني: يؤكل قشره رطباً ويابساً كالبطيخ، فلا يجوز رطباً ولا يابساً. ¬

(¬1) قال الزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 69): يطهر البدن بالماء وبمائع مزيل كالخل وماء الورد. اهـ وعندما منعوا إزالة النجاسة باللبن والدهن لم يعللوا ذلك بأنه مطعوم، وإنما عللوا ذلك بأن فيه دسومة فيبقى بنفسه بالثوب فلا يزيل غيره انظر درر الحكام (1/ 44). (¬2) الإنصاف (1/ 309). (¬3) رواه مسلم (2051).

والثالث: يؤكل رطباً لا يابساً كاللوز والباقلاء, فيجوز بقشره يابساً لا رطباً. ثم قال: وقال البغوي: إن استنجى بما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز اليابس كره وأجزأه, فإن انفصل القشر جاز الاستنجاء به بلا كراهة, والله أعلم (¬1). والصحيح أن إزالة النجاسة بالأطعمة إن كان مع وجود الماء، واستوى الماء وغيره في النظافة، فأقل أحواله أن يكون مكروهاً، والقول بالتحريم وجيه جدًّا؛ لأن في ذلك إفساداً للطعام وامتهاناً له، وقد يأكله حيوان أو دواب الأرض، وليس هذا الصنيع من شكر النعمة، فإن احتاج له في زيادة تنظيف أو قلع لون النجاسة أو نحوها، أو كان الماء غير متوفر، فإنه والله أعلم قد يباح في ذلك قدر الحاجة، قال ابن تيمية: لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة (¬2). ¬

(¬1) المجموع (2/ 136). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 475).

المبحث الثالث في إزالة النجاسة بالعظام والروث

المبحث الثالث في إزالة النجاسة بالعظام والروث منع الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2) الاستنجاء بالعظام والروث وهو نوع من إزالة النجاسة عن البدن، واختاره ابن حزم من الظاهرية (¬3). وقيل: يستنجي بهما، وهو اختيار أشهب من المالكية (¬4). وقيل: لا يستنجي بهما، وإن خالف وأزال النجاسة أجزأه، وهو مذهب الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، وابن تيمية من الحنابلة (¬7). ¬

(¬1) المهذب (1/ 28)، حلية العلماء (1/ 65)، الإقناع للشربيني (1/ 54)، إعانة الطالبين (1/ 108)، التنبيه (ص: 18). (¬2) الفروع (1/ 92)، كشاف القناع (1/ 69)، المبدع (1/ 92)، المحرر (1/ 10). (¬3) المحلى (1/ 110). (¬4) قال أشهب كما في المنتقى للباجي (1/ 68): ما سمعت في العظم والروث نهياً عاماً، وأما أنا في علمي فما أرى به بأسا. اهـ فواضح أن النهي عن الاستنجاء بالعظم والروثة لم يبلغه. (¬5) ذكرنا العزو إلى كتبهم في المسألة المتقدمة في اشتراط طهارة ما يستنجى به، فانظره إن شئت. (¬6) قال في الخرشي (1/ 151) فإن أنقت -يعني: الاستجمار بروث وعظم أجزأت. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/ 289)، الشرح الكبير (1/ 114)، المنتقى للباجي (1/ 68)، مواهب الجليل (1/ 290)، حاشية الدسوقي (1/ 114)، حاشية الصاوي (1/ 102)، القوانين الفقهية (ص:42)، منح الجليل (1/ 106) .. (¬7) الفروع (1/ 123)، المبدع (1/ 92)، دليل الطالب (ص: 6)، (1/ 10)، منار السبيل (1/ 23)، الكافي (1/ 53)، كشاف القناع (1/ 69).

(1664 - 192) والصحيح أنه لا يجوز الاستنجاء بالعظم والروث لما رواه البخاري، من طريق أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). (1665 - 193) ولما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً (¬2). فإن كان العظم والروث طاهرين، فعلة النهي أنهما طعام إخواننا من الجن، وطعام دوابهم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (156). (¬2) صحيح البخاري (3860).

وإن كان العظم والروث نجسين، فالعلة ماذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: هذا ركس: أي نجس. وقد بسطنا الكلام على أدلة الأقوال في المسألة في كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء) فأغنى عن إعادته كاملاً هنا. ¬

(¬1) صحيح البخاري (156).

الباب السابع: في كيفية إزالة النجاسة

الباب السابع: في كيفية إزالة النجاسة الفصل الأول في إزالة النجاسة بالماء المبحث الأول في مشروعية إزالة النجاسة بالماء يجوز إزالة النجاسة بالماء، وهو مذهب الأئمة الأربعة في ذهابهم إلى مشروعية الاستنجاء بالماء (¬1). ولا أعلم أحداً منع من إزالة النجاسة بالماء إلا ما رود عن بعض السلف من النهي عن الاستنجاء بالماء، والاكتفاء عنه بالاستجمار ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: أحكام القرآن للجصاص (3/ 229)، بدائع الصنائع (1/ 21)، تبيين الحقائق (1/ 77)، البحر الرائق (1/ 254)، الفتاوى الهندية (1/ 48). وانظر في مذهب المالكية: المدونة (1/ 117)، المنتقى للباجي (1/ 44)، مواهب الجليل (1/ 283). وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/ 117)، نهاية المحتاج (1/ 149). وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/ 101)، الفتاوى الكبرى (1/ 261)، الإنصاف (1/ 105).

بالحجارة. وهو مرجوح (¬1). ¬

(¬1) جاء في المنتقى للباجي (1/ 46): كان سعيد بن المسيب وغيره من السلف يكرهون ذلك، ويقول ابن المسيب: إنما ذلك وضوء النساء. اهـ وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 142): حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة، قال: سئل عن الاستنجاء بالماء؟ فقال: إذاً لا تزال في يدي نتن. وسنده صحيح، وقد صحح إسناده الحافظ في الفتح. وروى ابن أبي شيبة (1/ 143) حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن نافع، قال: كان ابن عمر لا يستنجي بالماء. وهذا إسناد حسن إن شاء الله تعالى. وروى ابن أبي شيبة (1/ 142)، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان الأسود وعبد الرحمن بن يزيد يدخلان الخلاء، فيستنجيان بأحجار، ولا يزيدان عليها، ولا يسمان ماء. وإسناده صحيح. وروى ابن أبي شيبة أيضاً (1/ 142): حدثنا وكيع، عن مسعر، عن عبيد الله ابن القبطية، عن ابن الزبير أنه رأى رجلاً يغسل عنه أثر الغائط، فقال: ما كنا نفعله. وهذا إسناد صحيح. وقال ابن حجر في الفتح (ح 150) تعليقاً على ترجمة البخاري (باب الاستنجاء بالماء): روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سئل عن الاستنجاء بالماء، فقال: إذا لا يزال في يدي نتن. وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء، وعن ابن الزبير: ما كنا نفعله. ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - استنجى بالماء. وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء؛ لأنه مطعوم. اهـ كذا نقل ابن حجر عن ابن حبيب، مع أن الموجود عن ابن حبيب كما في حاشية الخرشي أنه يوجب الاستنجاء بالماء، ولا يجوز الاقتصار على الاستنجاء بالحجارة مع وجود الماء. والنقل هذا عكس ما نقله ابن حجر، وهو مقدم على نقل الحافظ؛ لأن هذا من كتب المالكية، وهم أعلم بمذهب أصحابهم، والله أعلم.

دليل من قال: يجوز إزالة النجاسة بالماء

دليل من قال: يجوز إزالة النجاسة بالماء: الدليل الأول: (1666 - 194) ما رواه البخاري من طريق هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (¬1). الدليل الثاني: (1667 - 195) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن أعرابياً بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء، فصب عليه، ورواه مسلم (¬2). الدليل الثالث: (1668 - 196) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، سمع أنس بن مالك يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة يستنجي بالماء (¬3). ¬

(¬1) البخاري (227)، ومسلم (291). (¬2) صحيح البخاري (6025) ومسلم (284). (¬3) صحيح البخاري (152)، ومسلم (271). =

دليل من قال: لا يستنجي بالماء

دليل من قال: لا يستنجي بالماء: استدل من منع الاستنجاء بالماء بأدلة منها: أولاً: قالوا: إن الماء مطعوم، فيجب تكريمه، والاستنجاء به إهانة له. وثانياً: أن في الاستنجاء بالماء تلفاً للماء. ¬

_ = قال الأصيلي في الفتح (ح 150) متعقباً على البخاري استدلاله بهذا الحديث: بأن قوله: فيستنجي به " ليس من قول أنس، وإنما من قول أبي الوليد، أحد الرواة عن شعبة، فقد رواه البخاري عن أبي الوليد، عن شعبة، عن أبي معاذ، واسمه عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته، أجيء أنا وغلام، معنا إداوة من ماء، يعني: يستنجي به. والدليل على أنها من قول أبي الوليد: بأن الحديث قد رواه البخاري عن سليمان ابن حرب، عن شعبة به، كما في رقم (151) بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام، معنا إداوة من ماء. فلم يذكر فيستنجي به، فتعقبه الحافظ في الفتح، فقال: لكن رواه عقبة من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة به، فقال: يستنجي بالماء. والإسماعيلي، من طريق ابن مرزوق، عن شعبة به، بلفظ: فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة من ماء يستنجي منها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وللبخاري من طريق روح بن القاسم، عن عطاء بن أبي ميمونة: " إذا تبرز لحاجته أتيته بماء، فيغتسل به. قلت: فهذه الطريق غير طريق شعبة. قال الحافظ: ولمسلم من طريق خالد الحذاء، عن عطاء، عن أنس، فخرج علينا، وقد استنجى بالماء. وهذه متابعة ثانية لشعبة. قال الحافظ: وقد بان بهذه الروايات أن حكاية الاستنجاء من قول أنس رضي الله عنه راوي الحديث، وكذا فيه الرد على من زعم أن قوله: يستنجي بالماء مدرج من قول عطاء، الرواي عن أنس، فيكون مرسلاً، فلا حجة فيه كما حكاه ابن التين عن أبي عبد الملك البوني، فإن رواية خالد الحذاء التي في مسلم، تدل على أنه قول أنس، حيث قال: (وقد خرج علينا، وقد استنجى بالماء).

وثالثاً: أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء. وللجواب على هذا أن يقال: أما دعوى أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء، فممكن علاجها بتنظيف اليد بعده بالصابون ونحوه، وغاية ما فيه تفضيل الحجارة على الماء، مع أن الماء أبلغ في التطهير. وأما دعوى أنه تلف للمال، فقد كان إتلافه في مقابل منفعة، وليس بدون مقابل، وبذل المال في مقابل أمر واجب، وهو طهارة المحل، لا يعتبر إتلافاً. وأما دعوى أن الماء مطعوم، ويجب صونه، فكما ثبت في تطهير دم الحيض بالماء، وهو في الصحيحين، وبول الأعرابي بالماء، وهو في الصحيحين كذلك، فدل على أن ذلك لا يعتبر امتهاناً للماء، وقد أنزل الله الماء مطهراً {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (¬1)، فامتن الله علينا بكونه مطهراً لنا من النجاسات والأحداث، والماء النازل من السماء ماء عذب، فهذا تعليل في مقابل النص، فيطرح. ¬

(¬1) الفرقان: 48.

المبحث الثاني هل يتعين الماء لإزالة النجاسة

المبحث الثاني هل يتعين الماء لإزالة النجاسة. اختلف العلماء في هذه المسألة. فقيل: لا تزال النجاسة إلا بالماء الطهور. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، ومحمد وزفر من الحنفية (¬4). وقيل: النجاسة تزال بأي مائع مزيل، ولا يتعين الماء. وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬5)، واختيار ابن تيمية (¬6). ¬

(¬1) المقدمات لابن رشد (1/ 86)، القوانين الفقهية ـ ابن جزي (ص: 25)، منح الجليل (1/ 30)، الشرح الصغير (1/ 31). (¬2) مغني المحتاج (1/ 17، 18)، المجموع (1/ 142)، روضة الطالبين (1/ 7)، نهاية المحتاج (1/ 61). (¬3) الإنصاف (1/ 309)، كشاف القناع (1/ 181)، الفروع (1/ 259). (¬4) انظر بدائع الصنائع (1/ 83)، حاشية ابن عابدين (1/ 309)، البناية (1/ 711). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 83)، البحر الرائق (1/ 233)، مراقي الفلاح (ص 64، 65)، رؤوس المسائل للزمخشري (ص: 93)، البناية (1/ 709) إلا أنهم نصوا على وجوب الماء في طهارة المذي، انظر شرح معاني الآثار (1/ 48)، شرح فتح القدير (1/ 72)، المبسوط (1/ 6). (¬6) الإنصاف (1/ 309)، الفروع (1/ 259)، مجموع الفتاوى (20/ 522)، (21/ 610، 611) إلا أن ابن تيمية يرى أن النجاسة تزال بأي مزيل قالع للنجاسة، ولو لم يكن مائعاً بخلاف الحنفية. قال العيني في البناية (1/ 709): وشُرِط ثلاثة أشياء في إزالة النجاسة: الأول: كونه مائعاً يسيل كالخل ونحوه. =

وقيل: إن نص الشارع على تطهيره بالماء كنجاسة دم الحيض والمذي لم يجز العدول إلى غيره. وإن نص الشارع على غير الماء كطهارة النعلين، فيجوز الاقتصار عليه. ويجوز العدول إلى الماء؛ لأن الماء أقوى من غيره بالتطهير. وإن كان الشارع لم ينص على مادة التطهير، وجب الاقتصار على الماء فقط. وهذا القول اختيار الشوكاني رحمه الله (¬1). وسبب الاختلاف بين الفقهاء: اختلافهم في فهم الأدلة الواردة في هذا الباب، فقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تطهير دم الحيض وبول الأعرابي والمذي والكلب يلغ في الإناء وآنية أهل الكتاب إذا لم يوجد غيرها ونحو ذلك إلى تطهيرها بالماء في أحاديث صحيحة، وكل هذه الأحاديث قد ذكرت في مسائل سابقة متفرقة، فأخذ منها الجمهور أن النجاسة لا تزال إلا بالماء. وقاس عليه الحنفية كل مائع مزيل للنجاسة. ¬

= الثاني: أن يكون المائع طاهراً؛ لأن النجس لا يزيل النجاسة. الثالث: أن يكون المائع الطاهر مزيلاً كالخل وماء الورد ونحوهما، واحترز به عن الدهن والدبس واللبن ونحوها؛ لأن بها تنبسط النجاسة، ولا تزول. وفي الذخيرة روى الحسن عن أبي يوسف: لو غسل الدم من الثوب بدهن أو سمن أو زيت حتى أذهب أثره جاز، الخ كلامه رحمه الله. ومع ذلك فهم نصوا على طهارة بعض النجاسات بالدلك، وبعضها بالمسح بشروط معينة، كطهارة النعل والسكين، وسوف يأتي بسط هذه الأشياء في مسائل مستقلة إن شاء الله تعالى. (¬1) انظر نيل الأوطار (1/ 70)، والسيل الجرار (1/ 49).

وورد الاستجمار بالحجارة، وهي إزالة للنجاسة بغير الماء، كما ثبت طهارة النعل بدلكها بالتراب، وذيل المرأة يمر بالمكان النجس يطهره ما بعده من التراب الطهور، والهرة تأكل الفأرة يطهره ريقها، والخمر يتخلل فيطهر بنفسه بدون أن يضاف إليه ماء طهور، والمسلم يشرب الخمر فيطهر الريق فمه على القول بنجاسة الخمرة، فأخذ منها بعض العلماء جواز إزالة النجاسة بكل مزيل، سواء كان مائعاً أو جامداً. وأجاب الجمهور عن الاستجمار بالحجارة بأنه خاص في موضعه لعموم البلوى فيه، فإذا تجاوز الخارج موضع العادة تعين الماء عند الجمهور (¬1)، وتعين المائع المزيل عند الحنفية (¬2)، ولا يوجد دليل على أن إزالة النجاسة بالأحجار خاص بالاستجمار، والقياس يقتضي جواز إزالة النجاسة بالحجارة في أي موضع على البدن. كما حملوا تطهير النعل بالدلك على نجاسة يابسة لا تتعدى، فإذا دلكها بالتراب سقطت وأما المحل فلم يتنجس أصلاً، وبعضهم يرى أن النعل نجس نجاسة معفواً عنها تخفيفاً من الشارع، وسيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله تعالى، ومثله ذيل المرأة. ¬

(¬1) انظر في مذهب المالكية مواهب الجليل (1/ 285)، الخرشي (1/ 148)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، منح الجليل (1/ 105). وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/ 22)، روضة الطالبين (1/ 68)، المجموع (2/ 142). وانظر في مذهب الحنابلة: المبدع (1/ 89)، الإنصاف (1/ 105)، كشاف القناع (1/ 66). (¬2) البحر الرائق (1/ 254)، مراقي الفلاح (ص: 18).

وقد بحثت هذه المسألة بشيء من التفصيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية وترجح أن النجاسة متى زالت بأي مزيل فقد زال حكمها، فأغنى عن إعادته هنا (¬1). ¬

(¬1) في مبحث (هل يتعين الماء لإزالة دم الحيض).

المبحث الثالث هل يجب تكرار الغسل في إزالة النجاسة

المبحث الثالث هل يجب تكرار الغسل في إزالة النجاسة اختلف العلماء في وجوب تكرار غسل النجاسة بالماء، فقيل: إن كانت النجاسة مرئية كالدم يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعينها، وإن كانت غير مرئية وجب غسلها ثلاثاً، وذلك مثل نجاسة ولوغ الكلب ونحوها، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يجب العدد في غسل النجاسات مطلقاً ما عدا الكلب، وهو مذهب مالك (¬2)، والشافعية، إلا أن الشافعية ألحقوا الخنزير بالكلب (¬3). وسوف يأتي الخلاف في كيفية التطهير من نجاسة الكلب والخنزير إن شاء الله تعالى. وقيل: يجب غسل جميع النجاسات سبعاً، إلا نجاسة بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، والنجاسة التي على الأرض، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وسبب اختلاف الفقهاء في وجوب العدد: أن العدد ورد في غسل بعض ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 75)، بدائع الصنائع (1/ 88)، مراقي الفلاح (ص: 64). الاختيار لتعليل المختار (1/ 35،36). شرح فتح القدير (1/ 209). (¬2) المدونة (01/ 69)، بداية المجتهد (2/ 223)، مختصر خليل (ص:9)، الخرشي (1/ 114). (¬3) روضة الطالبين (1/ 31،32)، المجموع (2/ 611)، الأم (1/ 6)، مغني المحتاج (1/ 83)، حاشية القليوبي وعميرة (1/ 73). (¬4) كشاف القناع (1/ 182)، شرح منتهى الإرادات (1/ 102).

دليل من قال لا يشترط التكرار في غسل النجاسات

النجاسات كغسل نجاسة الكلب، فإن النص ورد في غسلها سبعاً، كما ورد العدد في غسل اليدين من القيام من نوم الليل، وفهم منه بعض العلماء أن الغسل إنما هو لمظنة النجاسة، فقالوا: إذا كان العدد ورد في النجاسة المظنونة، فكيف بالنجاسة المتيقنة، كما ورد العدد في الاستجمار بالحجارة، فأخذ منه الحنابلة الأمر بغسل النجاسات سبعاً، وأخذ الحنفية الأمر بغسلها ثلاثاً في النجاسة غير المرئية، وورد في غسل دم الحيض بدون عدد، فأخذ منه العلماء أن النجاسة تزال بدون عدد، ويكفي فيه غسلة تذهب بعين النجاسة، وهذا هو الراجح، وأنه يكفي في غسل النجاسات غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، فإن لم تذهب كرر ذلك حتى تذهب. والله أعلم. وهذه أدلة كل قول فيما ذهب إليه. دليل من قال لا يشترط التكرار في غسل النجاسات: الدليل الأول: (1669 - 197) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر عدداً في غسل نجاسة دم الحيض، والمقام مقام ¬

(¬1) البخاري (227)، ومسلم (291).

الدليل الثاني

بيان، وجواب عن سؤال كيف يطهر الثوب، وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حته، وقرصه، وغسله، مع أن الحت ليس بواجب مع الغسل، فدل على أن التكرار ليس بواجب. الدليل الثاني: (1670 - 198) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بغسل الدم، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " واغسلي عنك الدم، ثم صلي ". ولو كان العدد معتبراً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: (1671 - 199) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ¬

(¬1) رواه البخاري (228)، ورواه مسلم (333) دون قوله وقال أبي ... الخ وسيأتي الكلام عليه في الاستحاضة إن شاء الله تعالى.

الدليل الرابع

الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند وسدر. [إسناده صحيح] (¬1). وجه الاستدلال: الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله، وقد ذكر السدر مع كونه ليس وجباً، فكيف يترك ذكر العدد مع وجوبه. الدليل الرابع: (1672 - 200) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬2). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬3). ¬

(¬1) المسند (6/ 355). وسبق تخريجه انظر (ح: 309) من كتاب أحكام الطهارة: آداب الخلاء من هذه السلسلة. (¬2) المسند (2/ 371). (¬3) سبق تخريجه، انظر حديث رقم (159) من كتاب أحكام الطهارة.

الدليل الخامس

وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر عدداً في الاستجمار، والإيتار يصدق على الواحد. وهذا الحديث ليس فيه دليل: أولاً: لأنه ضعيف، والضعيف لا حجة فيه. ثانياً: سبق لنا في كتاب آداب الخلاء وجوب الاستجمار بثلاثة أحجار، وهو خاص في الاستجمار؛ لأن إزالة النجاسة بالأحجار يختلف عن إزالتها بالماء، فالحجر لا يقلع النجاسة بالمرة، بل لا بد أن يبقى معه أثر لا يزيله إلا الماء، إلا أنه معفو عنه في هذه الحال. الدليل الخامس: من النظر، قالوا: النجاسة عين محسوسة، ووجوب غسلها معلل ببقائها، فإذا زالت من الغسلة الأولى ارتفع حكمها. والله أعلم. دليل الحنابلة على وجوب غسل النجاسات سبعاً: الدليل الأول: (1673 - 201) قال ابن قدامة رحمه الله: روي عن ابن عمر أنه قال: أمرنا بغسل الأنجاس سبعاٌ (¬1). والجواب على هذا من وجهين. الأول: أن هذا الأثر لا يعرف مسنداً في كتب الحديث، إنما ذكره الحنابلة في كتبهم الفقهية، فلا حجة فيه. الثاني: على فرض صحته قد روي ما يدل على أنه منسوخ. ¬

(¬1) المغني (1/ 75).

(1674 - 202) فقد روى أحمد، قال:، ثنا حسين بن محمد، ثنا أيوب بن جابر، عن عبد الله - يعنى ابن عصمة -، عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار، والغسل من البول سبع مرار، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (2/ 109). (¬2) فيه أيوب بن جابر. ضعفه أبو حاتم الرازي، وابن المديني، ويحيى بن معين، وقال أبو زرعة: واهي الحديث ضعيف. انظر الجرح والتعديل (2/ 242). وضعفه النسائي. انظر الضعفاء والمتروكين (ص: 5). وضعفه الذهبي انظر الكاشف (512). وقال معاوية بن صالح: ليس بشيء. انظر تهذيب التهذيب (1/ 349). وذكره ابن حبان في المجروحين (1/ 167)، وقال: يخطئ. حتى خرج عن حد الاحتجاج به لكثرة وهمه. وفي الإسناد: عبد الله بن عصم. وقيل: عصمة. مختلف فيه. قال أبو زرعة: ليس به بأس، وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. كما في الجرح والتعديل (5/ 126). وقال: مثله الذهبي في الكاشف. واضطرب قول ابن حبان فيه، فذكره في المجروحين (2/ 5)، وقال: منكر الحديث جداً على قلة روايته، يروي عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة، ثم رجع ابن حبان وذكره في الثقات (5/ 57)، وقال: يخطئ كثيراً. وفي التقريب: صدوق يخطئ، أفرط ابن حبان فيه وتناقض. [تخريج الحديث]. أخرجه أبو داود (247)، والبيهقي في السنن (1/ 179، 244)، والمعجم الصغير =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1675 - 203) قالوا: ثبت الأمر بغسل نجاسة الكلب سبعاً، كما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا. ورواه مسلم (¬1). وغيرها من النجاسات تقاس على نجاسة الكلب. وأجيب: بأن نجاسة الكلب مغلظة، لا يمكن قياس النجاسة العادية على النجاسة المغلظة. أرأيت نجاسة دم الحيض مع أنه مجمع على نجاسته، كما قدمنا إلا أنه لم يرد فيه تكرار الغسل، ولم يرد ذكر التراب في تطهير شيء من النجاسات إلا نجاسة الكلب، والرواية التي فيها ذكر التراب رواها مسلم في صحيحه، (1676 - 204) من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (¬2). دليل الحنفية على التفريق بين النجاسة المرئية وبين النجاسة غير المرئية: قالوا: بأن النجاسة إذا كانت مرئية كالدم ونحوه فطهارتها زوال عينها، ¬

= للطبراني (1/ 123) ح 182 من طرق عن أيوب بن جابر به. وانظر إتحاف المهرة (9937)، أطراف المسند (3/ 436)، تحفة الأشراف (7282). (¬1) البخاري (172)، ومسلم (279). (¬2) صحيح مسلم (279).

ولا عبرة فيه بالعدد؛ لأن النجاسة في العين، فإذا زالت العين زالت النجاسة، وإن بقيت بقيت. وأما إن كانت النجاسة غير مرئية فإنه يجب غسلها ثلاث مرات. والدليل على ذلك: (1677 - 205) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال ثنا أبو نعيم: قال ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة، في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهر قال: يغسل ثلاث مرار (¬1). [المحفوظ من حديث أبي هريرة الأمر بغسله سبعاً مرفوعاً وموقوفاً، ورواية عبد الملك عن عطاء متكلم فيها] (¬2). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 23). (¬2) شيخ الطحاوي إسماعيل بن إسحاق بن سهل الكوفي، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 158): كتبت عنه، وهو صدوق ". وانظر مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار (1/ 48). وعبد السلام بن حرب. مختلف فيه. سئل عنه ابن المبارك، فقال: قد عرفته. وكان إذا قال: قد عرفته فقد أهلكه. انظر ضعفاء العقيلي (3/ 69)، وقيل لابن المبارك في عبد السلام، فقال: ما تحملني رجلي إليه. تهذيب الكمال (18/ 66). وقال ابن سعد: كان فيه ضعف في الحديث، وكان عسراً. الطبقات (6/ 386). وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، في حديثه لين. وقال الترمذي: ثقة حافظ. تذكرة الحفاظ (1/ 271). وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. انظر الجرح والتعديل (6/ 47). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال يحيى بن معين: عبد السلام ثقة، والكوفيون يوثقونه. وقال أيضاً: صدوق. انظر المرجع السابق. وقال مرة: ليس به بأس، يكتب حديثه. الكامل في الضعفاء (5/ 331). وقال النسائي في التمييز: ليس به بأس. وقال الدارقطني: ثقة حجة. انظر تهذيب التهذيب (6/ 282). واختلف في رفعه ووقفه. كما أنه ثبت عن أبي هريرة مرفوعاً، وموقوفاً الأمر بغسله سبعاً، وهو المحفوظ. وعبد الملك بن أبي سليمان. قيل لشعبة مالك لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سليمان وكان حسن الحديث؟ قال: من حسنها فررت. انظر الجرح والتعديل (5/ 366)، والضعفاء للعقيلي (3/ 31). وعن أبي بكر بن خلاد، قال: سمعت يحيى يقول عن عبد الملك بن سليمان: فيه شيء مقطع يوصله، أو موصل يقطعه. الضعفاء للعقيلي (3/ 31). وقال يحيى ابن معين أيضاً: ضعيف. كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (5/ 366). وسئل يحيى مرة عبد الملك بن أبي سليمان أحب إليك أو ابن جريج؟ فقال: كلاهما ثقتان. كما في رواية عثمان بن سعيد عنه. المرجع السابق. وقال أبو زرعة: لا بأس به. انظر المرجع السابق. وقال الخطيب: قد أساء شعبة في اختياره، حيث حدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي، وترك التحديث عن عبد الملك بن أبي سليمان؛ لأن محمد بن عبيد الله لم تختلف الأئمة من أهل الأثر في ذهاب حديثه وسقوط روايته، وأما عبد الملك فثناؤهم عليه مستفيض وحسن ذكرهم له مشهور. تاريخ بغداد (10/ 393). وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً ثبتاً. انظر الطبقات (6/ 350). وقال ابن عمار الموصلي: ثقة ثبت في الحديث. وقال الترمذي: ثقة مأمون، لا نعلم أحداً تكلم فيه غير شعبة. وقال الثوري: حفاظ الحديث أربعة، فذكره منهم. وسماه هو وابن المبارك: الميزان. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = انظر تهذيب التهذيب (6/ 352). وفي التقريب: صدوق له أوهام. والحق أنه ثقة، فقد وثقه أحمد، ويحيى بن معين، والنسائي، وابن سعد، والترمذي، وابن عمار الموصلي، والثوري وابن المبارك والدارقطني. وأخذ عليه وهمه في حديث الشفعة، ثم ماذا؟ ومن ذا الذي لا يهم؟ ولذلك لم يمنع هذا الوهم من أن يوثقه الأئمة. قال يحيى بن معين عندما سئل عن حديث الشفعة، قال: هو حديث لم يحدث به إلا عبد الملك، وقد أنكره الناس عليه، ولكن عبد الملك ثقة صدوق لم يرد عليَّ مثله. وقال أحمد: هذا حديث منكر، وعبد الملك ثقة. انظر تهذيب التهذيب (6/ 352). والحديث مداره على عبد الملك بن أبي سليمان. وقد اختلف عليه فيه، فمنهم من يرويه عنه موقوفاً، ومنهم من يرويه من فعل أبي هريرة، ومنهم من يرويه مرفوعاً، مع كون الحديث فيه مخالفة لجميع من روى الحديث عن أبي هريرة، ورواياتهم في الصحيحين وغيرها مرفوعة وفيه الأمر بغسلها سبعاً. كما أن عبد الملك وإن كان الراجح فيه أنه ثقة إلا أن روايته عن عطاء فيها كلام، فقد انتقد العلماء روايته عن عطاء، ولو صح عن أبي هريرة موقوفاً عليه لم يكن فيه حجة، لأن الموقوف لا حجة فيه مع معارضتة للمرفوع. وقد سبق الكلام على هذا الحديث أيضاً في موضع آخر، انظر كيفية التطهير من نجاسة الكلب، والله أعلم. وإليك تخريج الحديث. رواه الطحاوي كما في اسناد الباب من طريق عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة من قوله. ورواه إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان واختلف عليه فيه. فرواه الدارقطني (1/ 66) من طريق سعدان بن نصر، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك به موقوفاً ورواه ابن عدي في الكامل (2/ 366)، ومن طريقه الجوزقاني في الأباطيل (1/ 365)، وابن الجوزي في الواهيات (1/ 332) من طريق الكرابيسي، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان به مرفوعاً. قلت: أخطأ في الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي، فقد رواه عمر بن شبة، كما عند ابن عدي في الكامل (2/ 366) وسعدان بن نصر كلاهما روياه عن إسحاق الأزرق موقوفاً، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه عبد السلام بن حرب كما سبق، وابن فضيل، كلاهما روياه عن عبد الملك بن أبي سليمان به موقوفاً، فهؤلاء أربعة رووه موقوفاً، فلا شك أن الرواية المرفوعة كانت خطأ. والله أعلم. قال ابن عدي: وهذا لا يرويه غير الكرابيسي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ما ذكر في متنه من الإهراق والغسل ثلاث مرات، والحسين الكرابيسي له كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس من المسائل، وكان حافظاً لها ولم أجد منكراً غير ما ذكرت من الحديث، والذي حمل أحمد بن حنبل عليه من أجل اللفظ في القرآن. فأما في الحديث فلم أر به بأساً. وقال الخطيب: كان فهماً عالماً وله تصانيف كثيرة في الفقه وفي الأصول تدل على حسن فهمه وغزارة علمه، وقال أيضاً: تكلم فيه أحمد بسبب مسألة اللفظ في القرآن، وكان هو أيضاً يتكلم في أحمد، فتجنب الناس الأخذ عنه لهذا السبب. تاريخ بغداد (8/ 64). وأما الرواية التي جاءت من فعل أبي هريرة وليست من قوله، فقد رواه الدارقطني (1/ 66) من طريق ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان به. بلفظ: كان إذا ولغ الكلب في الإناء أهرقه وغسله ثلاث مرات. وقد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: يغسل سبع مرات موقوفاً عليه، وهذا أصح. فقد روى ابن المنذر في الأوسط (1/ 305)، والدارقطني (1/ 64)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 248) من طريق حماد بن زيد، وأخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور (204) من طريق إسماعيل بن إبراهيم، كلاهما عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: إذا ولغ الكلب فاغسلوه سبع مرات، أولاهن بالتراب. وأخرجه أبو داود (72)، ومن طريقه البيهقي كما في المعرفة (2/ 60) عن أيوب عن ابن سيرين به موقوفاً. قال الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (172): " وثبت أنه أفتى ـ يعني أبا هريرة ـ بالغسل سبعاً. ورواية من روى عنه موافقة فتياه أرجح ممن روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر، أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين عنه. وهذا من أصح الأسانيد. وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه. وهو دون الأولى في القوة بكثير ... الخ. =

قال الطحاوي: " فلما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاثة يطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا ثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن به، فلا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالته، فلم يقبل قوله ولا روايته " (¬1). قلت: الصحابي لا يتعمد مخالفة ما روى، ولكن قد يخالف ما يروي وليس بمعصوم، فقد ينسى ما روى، وقد يظن من عام أنه خاص، أو من مطلق أنه مقيد، أو العكس. وقال البيهقي منتقداً الطحاوي فيما قال: " استدل به ـ يعني الطحاوي على نسخ السبع على حسن الظن بأبي هريرة بأنه لا يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عنه، وهلا أخذ بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبع، وبما روينا من ¬

= وقال البيهقي في المعرفة (2/ 59): " لم يروه غير عبد الملك، وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف فيه الثقات ". ثم قال أيضاً (2/ 61): " ولمخالفته ـ يعني عبد الملك ـ أهل الحفظ والثقة في بعض رواياته تركه شعبة بن الحجاج، ولم يحتج به محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح. وحديثه هذا مختلف عليه، فروي عنه من قول أبي هريرة، وروي عنه من فعله. فكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الثقات الأثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطاً برواية واحد قد عرف بمخالفته الحفاظ في بعض الأحاديث؟ " اهـ. وقال الدارقطني في العلل (8/ 101) " ورواه جماعة من التابعين عن أبي هريرة، منهم عبيد ابن حنين، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وعبد الرحمن الأعرج، وعقبة بن أبي الحسناء اليمامي، وأبو صالح السمان، عن أبي هريرة، فاتفقوا على أن يغسل من ولوغ الكلب سبع مرات، وخالفهم عطاء بن أبي رباح، فرواه عن أبي هريرة أنه يغسل ثلاثاً. ولم يرفعه. قاله عبد الملك بن أبي سليمان." وانظر إتحاف المهرة (19514). (¬1) شرح معاني الآثار (1/ 23).

فتيا أبي هريرة بالسبع، وبما روينا عن عبد الله بن المغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). الدليل الثاني للحنفية: (1678 - 206) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده (¬2). وجه الاستدلال: قال الطحاوي: " كانوا يتغوطون أي: يقضون حاجتهم ويبولون ولا يستنجون بالماء، فأمرهم بذلك إذا قاموا من نومهم؛ لأنهم لا يدرون أين باتت أيديهم من أبدانهم، وقد يجوز أن يكون كانت في موضع قد مسحوه من البول أو الغائط فيعرقون، فتنجس بذلك أيديهم، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسلها ثلاثاً، وكان ذلك طهارتها من الغائط أو البول إن كان أصابها، فلما كان ذلك يطهر من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات كان أحرى أن يطهر بما دون ذلك من النجاسات " (¬3). قلت: لا يمكن أن يجعل تطهير الكلب النجس بمنزلة ما ورد في غسل اليدين الطاهرتين، والعلة في غسل اليدين ثلاثاً ليست النجاسة كما توهم الطحاوي؛ لأن العلة لو كانت النجاسة لكان حكم اليدين حكم نجاسة دم ¬

(¬1) معرفة السنن والآثار (2/ 61). (¬2) رواه مسلم (278). ورواه البخاري، ولم يقل: ثلاثاً. (¬3) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 22).

الراجح من أقوال أهل العلم

الحيض، وأنتم لا تشترطون عدداً في نجاسة دم الحيض، بل يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، بل لو كانت على يده نجاسة مرئية كان عليه أن يغسلها غسلة واحدة، وإذا كانت على يده نجاسة متوهمة كان عليه أن يغسلها ثلاثاً، فهذا من غريب الفقه. قال البيهقي في المعرفة: " زعم الطحاوي أنه تتبع الآثار، ثم روى الأحاديث الصحيحة في ولوغ الكلب، وترك القول بالعدد في تطهير الإناء منه، واستعمال التراب فيه. وجعل نظير ذلك الأحاديث التي وردت في غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وهو يوجب غسل الإناء من الولوغ، ولا يوجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، فكيف يشتبهان؟ " (¬1). الراجح من أقوال أهل العلم: أن النجاسة لا يشترط في إزالتها عدد معين، وإنما يغسلها حتى تذهب عينها، فإذا ذهبت فقد زال حكمها، إلا في طهارة الكلب فيجب غسلها سبعاً أولاهن بالتراب، وفي الاستجمار بالحجارة لا بد من ثلاثة أحجار مع الإنقاء والله أعلم. ¬

(¬1) المعرفة (2/ 60).

المبحث الرابع في بقاء لون أو رائحة النجاسة بعد التطهير

المبحث الرابع في بقاء لون أو رائحة النجاسة بعد التطهير إذا غسل المحل المتنجس، فإن بقي طعم النجاسة فهو ما زال نجساً بلا خلاف، حكاه النووي في المجموع (¬1)، وعلل ذلك: بأن بقاء الطعم يدل على بقاء جزء من النجاسة. وحكى صاحب الإنصاف خلافاً للحنابلة في الطعم (¬2). وإن بقي اللون أو الرائحة أو هما معاً فقد اختلف العلماء، فقيل: لا يضر بقاء أحدهما أو بقاؤهما معاً إذا شق إزالتهما، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة (¬5). وقيل: إن بقي اللون والرائحة معاً فإن المحل لم يطهر، وأما إن بقي أحدهما وشقت إزالته فلا يضر، وهذا هو القول المعتمد عند الشافعية (¬6). ¬

(¬1) المجموع (2/ 613). (¬2) قال في الإنصاف (1/ 317): ويضر بقاء الطعم على الصحيح من المذهب، وقيل: لا يضر. اهـ (¬3) شرح فتح القدير (1/ 209)، البحر الرائق (1/ 249)، (¬4) قال في حاشية الدسوقي (1/ 80): ولا يشترط زوال لون وريح عسرا، بل يغتفر بقاء ذلك في الثوب، لا في الغسالة. اهـ وانظر مواهب الجليل (1/ 163)، الخرشي (1/ 115) منح الجليل (1/ 73). (¬5) كشاف القناع (1/ 183)، الفتاوى الكبرى (1/ 429)، مطالب أولي النهى (1/ 228)، شرح منتهى الإرادات (1/ 103)، المبدع (1/ 239)، الإنصاف (1/ 317). (¬6) المجموع (2/ 613، 614)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 433)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 86)، تحفة المحتاج (1/ 318).

دليل من قال: لا يضر بقاء اللون والرائحة معا

وقيل: يعفى عن اللون دون الريح، اختاره بعض الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). دليل من قال: لا يضر بقاء اللون والرائحة معاً: الدليل الأول: (1679 - 207) ما رواه أحمد، قال: حدثنا موسى بن داود الضبي، حدثنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة، أن خولة بنت يسار أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة فقالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه قال: فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أثره قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬

(¬1) مغني المحتاج (1/ 85). (¬2) الإنصاف (1/ 317). (¬3) المسند (2/ 364). (¬4) في إسناده ابن لهيعة، وقد رأى بعضهم تحسين حديثه إذا كان من طريق من روى عنه قبل أن تحترق كتبه، خاصة أن هذا الحديث قد رواه عنه عبد الله بن وهب وقتيبة بن سعيد. والراجح أنه ضعيف مطلقاً، لكن رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها كما قال الحافظ، وهذه العبارة لا تقتضي تحسين حديثه، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه؟ فقال: آخره وأوله سواء، إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه. الجرح والتعديل (5/ 145). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فهذا نص على أنه ضعيف مطلقاً، وإن كان قد يتفاوت الضعف فرواية ابن المبارك أخف ضعفاً. وقال عمرو بن علي: عبد الله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل ابن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرى أصح من الذين كتبوا بعد ما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث. المرجع السابق. وهذا النص ليس فيه أن ما يرويه العبادلة صحيح مطلقاً، لأن كلمة أصح لا تعني الصحة كما هو معلوم، ولذلك قال: وهو ضعيف الحديث، هذا حاله قبل احتراق كتبه وبعدها. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي إذا كان من يروى عن ابن لهيعة مثل بن المبارك وابن وهب يحتج به؟ قال: لا. الجرح والتعديل (5/ 145). وقال ابن حبان: قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه، فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجوداً، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيراً، فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، عن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فالتزقت تلك الموضوعات به. قال عبد الرحمن بن مهدي: لا أحمل عن ابن لهيعة قليلاً ولا كثيراً، كتب إلي ابن لهيعة كتاباً فيه: حدثنا عمرو بن شعيب، قال عبد الرحمن: فقرأته على ابن المبارك، فأخرجه إلي ابن المبارك من كتابه، عن ابن لهيعة قال حدثني: إسحاق بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب. ثم قال ابن حبان: وأما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكير كثيرة، وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قراءة، سواء كان ذلك من حديثه أو غير حديثه، فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه، لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه، لما فيه مما ليس من حديثه. المجروحين (2/ 11). وهذا عين التحرير، وهو أن رواية المتقدمين عنه فيها ما يدلسه عن الضعفاء، ورواية المتأخرين عنه فيها ما ليس من حديثه. وجاء في ضعفاء العقيلي (2/ 294): " حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا محمد بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = على، قال سمعت: أبا عبد الله، وذكر ابن لهيعة، وقال: كان كتب عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وكان بعد يحدث بها عن عمرو بن شعيب نفسه. وهذا صريح بأن ابن لهيعة يدلس عن الضعفاء. وحديثنا هذا قد عنعنه ابن لهيعة وقد ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الخامسة، والمرتبة الخامسة قال فيها الحافظ: " الخامسة: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس، فحديثهم مردود، إلا بما صرحوا فيه بالسماع، إلا إن توبع من كان ضعفه منهم يسيراً كابن لهيعة ". قلت: هذا الطريق بهذا الإسناد لا أعلم أحداً تابع فيه ابن لهيعة، فهو ضعيف، والله أعلم. وأما رواية قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، فهل تكون بمنزلة رواية العبادلة فتعتبر أعدل من غيرها أو لا؟ فالراجح فيه أن قتيبة بن سعيد سمع من ابن لهيعة بآخرة. أولاً: أن قتيبة بن سعيد صغير، فقد ولد كما قال هو سنة 150 هـ ثانياً: خرج قتيبة للرحلة من بغداد سنة 172 هـ، وكان عمره ثلاثاً وعشرين سنة، وكان احتراق كتب ابن لهيعة سنة 169 هـ وحضر قتيبة جنازة ابن لهيعة سنة ثلاث وسبعين أو أربع وسبعين ومائة، فمن أين له أن يكون سماعه قديماً، ولذلك قال أبو بكر الأثرم: وسمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر قتيبة، فأثنى عليه، وقال: هو من آخر من سمع من ابن لهيعة. انظر الجرح والتعديل (7/ 140). وتهذيب الكمال (23/ 528). وأما ما رواه الذهبي في السير (8/ 17) قال: " قال جعفر الفريابي سمعت بعض أصحابنا يذكر، أنه سمع قتيبة يقول: قال لي أحمد بن حنبل: أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح؟ فقلت: لأنا كنا نكتب من كتاب ابن وهب، ثم نسمعه من ابن لهيعة. فهذه القصة إن لم يكن لها إلا هذا الإسناد فإنه ضعيف، لأن جعفر الفريابي لم يسمعها إنما قال: سمعت بعض أصحابنا يذكر ... وذكرها، فلم يذكر لنا من هم بعض أصحابه؟ هل ممن يعتد به في النقل والجرح أم لا؟ فلا تعارض الحقائق التأريخية التي قدمتها، ولا تعارض ما رواه أبو بكر الأثرم سماعاً عن أحمد من أن قتيبة من آخر من سمع من ابن لهيعة، والله أعلم. ثم وقفت على إسناد آخر في تهذيب الكمال (15/ 487): " قال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: سمعت قتيبة يقول: كنا لا نكتب حديث ابن لهيعة إلا من كتب ابن =

الدليل الثاني

الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتطهير النجاسات بالماء وحده، كما في غسل دم الحيض، ومعلوم أن الماء وحده ليس من شأنه إزالة أثر النجاسة، فلو كانت إزالة الأثر مشترطة لأرشد الشارع إلى مطهر آخر، كما أرشد في تطهير ولوغ الكلب إلى التراب مثلاً. الدليل الثالث: (1680 - 208) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: ¬

_ = أخيه، أو كتب ابن وهب إلا ما كان من حديث الأعرج ". وعلى كل حال الذي أراه أن رواية العبادلة عن ابن لهيعة ليست صحيحة، إنما هي أعدل من غيرها فحسب، ولا أزيد على هذا. والله أعلم. [تخريج الحديث]. الحديث رواه ابن لهيعة، واختلف عليه فيه: فرواه أحمد كما في إسناد الباب، عن موسى بن داود الضبي، عن ابن لهيعة، عن عبيد الله ابن أبي جعفر، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد (2/ 380) وأبو داود (365) من طريق قتيبة بن سعيد. والبيهقي (2/ 408) من طريق عبد الله بن وهب وعثمان بن صالح، ثلاثتهم عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة. فجعلوا حديث ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب، وليس عن عبيد الله بن أبي جعفر. وأخرجه البيهقي في السنن (2/ 408) من طريق علي بن ثابت، عن الوازع بن نافع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن خولة بنت نمار به. قال البيهقي: قال أبو بكر بن إسحاق الفقيه: قال إبراهيم الحربي: الوازع بن نافع غيره أوثق منه، ولم يسمع من خولة بنت نمار أو يسار إلا في هذين الحديثين. اهـ انظر إتحاف المهرة (19672)، أطراف المسند (7/ 434)، تحفة الأشراف (14286).

الدليل الرابع

قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها، فقصعته بظفرها (¬1). وجه الاستدلال: أن الريق وحده لا يمكن أن يذهب بلون النجاسة، ولا يقطع رائحتها، وهذا دليل على أن ذهاب اللون والرائحة ليس بشرط، خاصة إذا كان يتعسر إزالتهما. الدليل الرابع: (1681 - 209) ما رواه البيهقي من طريق شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة، قالت: سألت عائشة رضي الله عنها عن الدم يكون في الثوب، فأغسله، فلا يذهب أثره، فقالت: الماء طهور. [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الخامس: أن في اشتراط ذهاب اللون والرائحة فيه كلفة ومشقة، والحرج مرفوع عن هذه الأمة. الدليل السادس: أن اللون والرائحة عرض، وليس عيناً، وبالتالي لا يضر بقاؤهما مع تعسر إزالتهما. ¬

(¬1) صحيح البخاري (312). (¬2) سنن البيهقي (2/ 408)، ورواه البيهقي أيضاً في نفس الصفحة من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن معاذة، أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها عن دم الحيض يكون في الثوب، فيغسل فيبقى أثره؟ فقالت: ليس بشيء.

الدليل السابع

الدليل السابع: إذا باشر المستنجي الاستنجاء بيده فإنه مهما غسل يده فإنه يبقى فيها شيء من رائحة النجاسة، ولو كانت إزالة رائحة النجاسة شرطاً لأوجب الشارع على المستنجي إزالة هذه الرائحة من يده، أو عدم مباشرة إزالتها بيده، ومع ذلك كان الصحابة يستنجون بالماء، ويباشرون ذلك بأيديهم، ولم يكن هناك مطهرات معطرة تذهب برائحة النجاسة، ولم يأت في الشرع ما يوجب ذلك، فدل على أن بقاء رائحة النجاسة ليس مؤثراً في طهارة المحل. دليل من قال: يشترط إزالة اللون والرائحة: قالوا: ما دام أن لون النجاسة أو رائحتها باقية فهذا دليل على وجودها، وإذا كانت النجاسة موجودة فالمحل نجس؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. وأجيب: لا نسلم أن النجاسة موجودة مع بقاء اللون، لأن اللون كما قلنا عرض، فهذا الحناء يوجد لونه على البدن أو على الشعر ولا يمنع وصول الماء، ولو كان الحناء موجوداً لمنع وصول الماء، وعلى التسليم بأنه موجود فإنه معفو عنه، للمشقة في إزالته، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها. دليل من فرق بين الرائحة واللون: قالوا: إنما قلنا يعفى عن اللون دون الريح، لأن المشقة في إزالة اللون ظاهرة، والمشقة مرفوعة، بخلاف الريح فلا يشق إزالتها. والحقيقة لو أن هذا القول عكس الحكم لكان ربما يكون له وجه، لأن

القول الراجح

اللون دليل على بقاء النجاسة بخلاف الريح، والفقهاء دائماً يخففون مسألة الريح، ولذلك قالوا لو تروح الماء بنجاسة مجاورة فهو طهور، بخلاف ما لو تغير لونه من النجاسة فإنه نجس، وهذا دليل على التفريق بين اللون والرائحة، وأن اللون أشد تأثيراً من الرائحة، والله أعلم. القول الراجح: بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن قول الجمهور أقوى من حيث الدلالة، وأن اللون والرائحة إذا شق إزالتهما فإن ذلك لا يؤثر على طهارة المحل، والله أعلم.

المبحث الخامس إذا أمكن إزالة اللون أو الرائحة بإضافة مطهر مع الماء

المبحث الخامس إذا أمكن إزالة اللون أو الرائحة بإضافة مطهر مع الماء فقيل: لا يجب الاستعانة بغير الماء، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يستحب، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقال ابن مفلح: يتوجه احتمال أنه يجب، وكلام أحمد يحتمله (¬3). واختاره بعض الحنابلة في التراب (¬4). دليل من قال لا يجب الاستعانة بغير الماء: الدليل الأول: الأدلة التي سيقت في المسألة التي قبل هذه، من كون اللون والرائحة لا تجب إزالتهما مع المشقة. الدليل الثاني: أن النصوص أرشدت إلى غسل النجاسة بالماء، وبعض النجاسات كدم ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/ 88)، تبيين الحقائق (1/ 75). وقال في مواهب الجليل، وهو مالكي: (1/ 163، 164): " إذا أمكن زوال اللون أو الريح بغير الماء لم يجب، ثم نقل عن ابن العربي وابن الحاجب قولهما: لو أمكن زوال اللون والريح بأشنان أو صابون فالظاهر أنه لا يجب. اهـ وانظر حاشية الدسوقي (1/ 80)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 18). (¬2) كشاف القناع (1/ 183)، الإنصاف (1/ 317). (¬3) الفروع (1/ 240)، الإنصاف (1/ 317). (¬4) المرجعان السابقان.

الدليل الثالث

الحيض لا يزيل الماء لون النجاسة، فلو كانت الإزالة واجبة لأرشد الشارع إلى مطهر آخر، فلما اكتفى بالماء علم أن إضافة غير الماء ليس بواجب. الدليل الثالث: أرشد الشارع إلى إضافة التراب في تطهير ولوغ الكلب، ولم يرشد إلى ذلك في طهارة دم الحيض، مع كون الدم له لون يلصق بالثياب، بخلاف ريق الكلب، فلو كانت الإضافة واجبة في سائر النجاسات لأرشد إليها الشارع كما أرشد إليها في طهارة ولوغ الكلب، وما كان ربك نسياً. دليل من استحب إضافة مطهر أخر إلى الماء لإزالة لون النجاسة: الدليل الأول: (1682 - 210) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند وسدر. [إسناده صحيح] (¬1). وإنما لم نقل: إن الأمر للوجوب؛ لأنه قد ورد حديث أسماء في الاقتصار على الماء، وهو متفق عليه. الدليل الثاني: (1683 - 211) ما رواه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، حدثني ¬

(¬1) المسند الإمام أحمد (6/ 355). وسبق تخريجه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، رقم: (205)، وهو جزء من هذه السلسلة.

سليمان بن سحيم، عن أمية بنت أبي الصلت، عن امرأة من بني غفار - وقد سماها لي - قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة من بني غفار، فقلنا له: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال: على بركة الله. قالت: فخرجنا معه، وكنت جارية حديثة، فأردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقيبة رحله، قالت: فوالله لنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح فأناخ، ونزلت عن حقيبة رحله وإذا بها دم مني، فكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي، ورأى الدم، قال: ما لك؟ لعلك نفست؟ قالت: قلت: نعم، قال: فأصلحي من نفسك، وخذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحاً، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك. الحديث (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬

(¬1) المسند (6/ 380). (¬2) إسناده ضعيف؛ لجهالة أمية بنت أبي الصلت، لم يرو عنها سوى سليمان ابن سحيم، وفي التقريب: لا يعرف حالها. واختلف في اسمها، فقيل: أمية، وقيل: آمنة، انظر سنن البيهقي (2/ 407). تخريج الحديث: الحديث رواه أحمد كما في إسناد الباب عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق. وأخرجه أبو داود (313) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 407) من طريق سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق به. =

الدليل الثالث

الدليل الثالث: (1684 - 212) ما رواه أبو داود، من طريق عبد الوارث، حدثتني أم الحسن يعني جدة أبي بكر العدوي، عن معاذة قالت: سألت عائشة رضي الله عنها عن الحائض يصيب ثوبها الدم، قالت: تغسله، فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشيء من صفرة، قالت: ولقد كنت أحيض عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حيض جميعاً لا أغسل لي ثوباً (¬1). [إسناده ضعيف، ورواه الدارمي بإسناد صحيح] (¬2). ¬

= وأخرجه البيهقي في السنن (2/ 407) من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق به. واختلف فيه على سليمان بن سحيم: فروي عنه كما سبق. وأخرجه الواقدي في المغازي (2/ 685)، ومن طريقه ابن سعد في الطبقات (8/ 293) من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن أم علي بنت أبي الحكم، عن أمية بنت قيس أبي الصلت. فزاد في إسناده أم علي بنت أبي الحكم، وجعله من مسند أمية بنت قيس. والواقدي متروك، وكذا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة. (¬1) سنن أبي داود (357). (¬2) في إسناده أم الحسن جدة أبي بكر العدوي، لم يرو عنها إلا عبد الوارث بن سعيد، ولم يوثقها أحد، وفي التقريب: لا يعرف حالها. وقد رواه البيهقي في السنن (2/) من طريق عبد الوارث به. وقد أخرجه الدارمي بإسناد صحيح (1011) من طريق عاصم الأحول، عن معاذة العدوية، عن عائشة، قال: إذا غسلت المرأة الدم، فلم يذهب فلتغيره بصفرة ورس أو زعفران. اهـ =

دليل من قال بوجوب إضافة شيء إلى الماء إذا أمكن إزالة لون النجاسة

دليل من قال بوجوب إضافة شيء إلى الماء إذا أمكن إزالة لون النجاسة: هذا القول لم يثبت عندي، وإنما ساقه ابن مفلح احتمالاً، فإن ثبت فلعل دليله، أنه مبني على وجوب إزالة لون النجاسة مع إمكان ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول الوسط، وهو استحباب إزالة اللون بمادة أخرى إذا لم يذهب بالماء أقوى، لقوة أدلته وتعليلاته، ويكفي أنه مذهب لأم المؤمنين رضي الله عنها عائشة الصديقة بنت الصديق، والله أعلم. ¬

_ = وهذه متابعة صحيحة لأم الحسن عن معاذة، والله أعلم. انظر إتحاف المهرة (23222)، تحفة الأشراف (17971).

المبحث السادس في اشتراط عصر الثياب النجسة عند غسل النجاسة

المبحث السادس في اشتراط عصر الثياب النجسة عند غسل النجاسة اختلف العلماء في اشتراط العصر في الأشياء التي تتشرب النجاسة كالثياب ونحوها، فقيل: يشترط العصر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: لا يشترط عصرها، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، واختيار أبي يوسف من الحنفية (¬5). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 88)، تبيين الحقائق (1/ 76)، البحر الرائق (1/ 249)، حاشية ابن عابدين (1/ 332). (¬2) قال في الإنصاف (1/ 316): يعتبر العصر في كل غسلة مع إمكانه فيما يتشرب النجاسة، أو دقه أو تقليبه إن كان ثقيلاً على الصحيح من المذهب. وانظر الفروع (1/ 239)، شرح منتهى الإرادت (1/ 104). (¬3) التاج والإكليل (1/ 235)، مواهب الجليل (1/ 159)، الخرشي (1/ 114)، حاشية الدسوقي (1/ 80). (¬4) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (3/ 200): هل يشترط عصر الثوب إذا غسله؟ فيه وجهان: الأصح أنه لا يشترط. اهـ وقال في مغني المحتاج (1/ 85): ويسن عصر ما يمكن عصره خروجاً من الخلاف. اهـ وقال في روضة الطالبين (1/ 28): ولا يشترط في حصول الطهارة عصر الثوب على الأصح بناء على طهارة الغسالة. وإن قلنا بالضعيف: إن العصر شرط قام مقامه الجفاف على الأصح؛ لأنه أبلغ في زوال الماء. اهـ (¬5) بدائع الصنائع (1/ 88).

دليل من قال يشترط العصر

دليل من قال يشترط العصر. الدليل الأول: (1685 - 213) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (¬1). وجه الاستدلال: قوله " ثم تقرصه " قال ابن حجر: أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه (¬2). وأجيب: بأن الحت والقرص ليس واجباً، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بحث ذلك في مسألة مستقلة. الدليل الثاني: قالوا: إن الثياب تتشرب النجاسة، ومرور الماء على الثياب دون عصرها لا يستخرج أجزاء النجاسة من الثوب، ولهذا اشترطنا العصر في الثياب. الدليل الثالث: أن غسالة النجاسة نجسة، وإذا كانت نجسة كان وجودها في الثوب سبباً في بقائه نجساً، فيجب إخراجها من الثوب حتى يمكن الحكم له بالطهارة. ¬

(¬1) البخاري (227)، ومسلم (291). (¬2) فتح الباري تحت حديث: 227.

دليل من قال: لا يشترط العصر

دليل من قال: لا يشترط العصر: الدليل الأول: (1686 - 214) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: معلوم أن الأرض تتشرب النجاسة، ومع ذلك اكتفى بصب الماء عليها، فإن قيل: إن الأرض لا يمكن عصرها. قيل: يمكن نقل غسالة النجاسة، بل يمكن حفر الأرض المتنجسة قبل تطهيرها، فلما لم يأمر بنقل غسالة النجاسة مع إمكانه علم أن المحل طهر بمجرد صب الماء عليه، فدل على أن عصر الثوب لإخراج غسالة النجاسة ليس شرطاً في الطهارة، والتفريق بين الأرض والثياب تفريق بغير دليل، بل قياس الثياب على الأرض هو الفقه، والله أعلم. الدليل الثاني: (1687 - 215) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه. ورواه مسلم (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (219)، وصحيح مسلم (284). (¬2) صحيح البخاري (222) ومسلم (286).

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتبع البول الماء، ولم يعصر الثوب. الدليل الثالث: الأصل عدم وجوب العصر، ولم يأت في الشرع ما يرشد إلى عصر الثياب حين غسلها، ولو كان العصر واجباً لجاء الأمر به، كما جاء في حت الدم وقرصه بالماء، ومن غسل ثوبه حتى ذهبت عين النجاسة وطعمها وريحها فقد طهر الثوب، وفعل ما أمر به. الدليل الرابع: لم يقم دليل على أن غسالة النجاسة نجسة، وإذا انفصل الماء عن المحل ولم يتغير بالنجاسة فهو طهور، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن إخراج الغسالة إخراجاً للنجاسة حتى يجب إخراجه بالعصر، وسوف تبحث غسالة النجاسة في بحث مستقل من هذا الباب إن شاء الله تعالى. وهذا القول هو الراجح.

المبحث السابع في حكم الحت والقرص

المبحث السابع في حكم الحت والقرص اختلف العلماء في حكم الحت والقرص، فقيل: يستحب، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: يجب إن لم تذهب النجاسة بدونهما، ولم يتضرر المحل بهما، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال بالاستحباب: (1688 - 216) ما رواه البخاري، من طريق مالك عن هشام، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قالت: سألت أمرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بماء، ثم لتصل فيه. وفي رواية: قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (¬5). وجه الاستدلال: بين الرسول في الثوب الذي أصابته نجاسة الدم أنها تحته ثم تدلكه بالماء، ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 159). (¬2) فتاوى الرملي (1/ 65)، روضة الطالبين (1/ 28)، أسنى المطالب (1/ 21). (¬3) انظر روضة الطالبين (1/ 28)، (¬4) الفروع (1/ 241)، شرح منتهى الإرادات (1/ 103)، كشاف القناع (1/ 185). (¬5) البخاري (227)، ومسلم (291).

دليل من قال بالوجوب

ثم تغسله، ثم تصلي فيه، وهذا على وجه الاستحباب، لأن غسل الدم كاف في طهارته، ولأن المطلوب إزالة النجاسة، فكيف زالت فقد زال حكمها، ولم يتعين الحت والقرص في إزالتها، فلو غسلت الدم حتى زالت عين النجاسة بدون حت وقرص فقد حصل المطلوب وطهر الثوب. دليل من قال بالوجوب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فلتقرصه أمر منه - صلى الله عليه وسلم -، والأصل في الأمر الوجوب حتى يوجد صارف يصرفه عن ذلك. والراجح، والله أعلم أن زوال عين النجاسة إن توقف على الحت، ولم يذهب بالغسل فإنه واجب لا لذاته، وإنما لأن إزالة النجاسة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإن زال عين النجاسة بمجرد مرور الماء على الثوب فقد حصل المطلوب، والله أعلم.

المبحث الثامن في كيفية تطهير المذي

المبحث الثامن في كيفية تطهير المذي لما كان المذي قد نص على تطهيره بالماء ناسب ذكر كيفية تطهيره في باب كيفية إزالة النجاسة بالماء، وقد اختلف الفقهاء في الطهارة من المذي، هل يتعين الماء، أو تكفي الحجارة؟ فقيل: يتعين الماء وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، على خلاف بينهم هل يجب غسل موضع الحشفة فقط كما هو مذهب الحنفية (¬5)، والشافعية (¬6)، ونسبه النووي للجمهور (¬7)، ورجحه ابن عبد البر (¬8). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 48)، شرح فتح القدير (1/ 72)، المبسوط (1/ 67). (¬2) مواهب الجليل (1/ 285)، الخرشي (1/ 149)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323). (¬3) المجموع (2/ 164)، روضة الطالبين (1/ 67)، مغني المحتاج (1/ 79). (¬4) الفروع (1/ 214)، شرح منتهى الإرادات (1/ 21)، الإنصاف (1/ 330)، المبدع (1/ 249)، الفتح الرباني بمفرادت ابن حنبل الشيباني (1/ 87)، الكافي في فقه أحمد (1/ 56)، المغني (1/ 112). (¬5) شرح معاني الآثار (1/ 48)، شرح فتح القدير (1/ 72)، المبسوط (1/ 67). (¬6) المجموع (2/ 164)، روضة الطالبين (1/ 67)، مغني المحتاج (1/ 79). (¬7) المجموع (2/ 164). (¬8) فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323).

أو يجب غسل الذكر كله، وعليه أكثر أصحاب مالك (¬1)، وهو رواية عن أحمد (¬2). أو يجب غسل الذكر كله مع الأنثيين، كما هو مذهب الحنابلة، وذكروه من المفردات (¬3)، وهو مذهب ابن حزم (¬4). وقيل: يجزئ الاستجمار، وهو قول في مذهب الشافعية (¬5). وقيل: المذي طاهر، وهو رواية عن أحمد (¬6). وسبب اختلاف الفقهاء اختلافهم في الأحاديث الواردة في ذلك: فمن أوجب غسل الذكر كله، أخذه من حديث علي المتفق عليه، وفيه: "يغسل ذكره ويتوضأ " هذا لفظ مسلم، ورواه البخاري بنحوه (¬7). فقوله: "يغسل ذكره ": حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف، ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 285)، الخرشي (1/ 149)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323). (¬2) الكافي في فقه أحمد (1/ 56)، الإنصاف (1/ 330). (¬3) الفروع (1/ 214)، شرح منتهى الإرادات (1/ 21)، الإنصاف (1/ 330)، المبدع (1/ 249)، الفتح الرباني بمفرادت ابن حنبل الشيباني (1/ 87)، الكافي في فقه أحمد (1/ 56)، المغني (1/ 112). (¬4) المحلى (1/ 118). (¬5) المجموع (2/ 164). (¬6) في المبدع شرح المقنع (1/ 149): وعن أحمد أن المذي طاهر كالمني، اختاره أبو الخطاب في خلافه؛ لأنه خارج بسبب الشهوة. اهـ وانظر المغني (1/ 413)، والإنصاف (1/ 341). (¬7) صحيح مسلم (303)، وصحيح البخاري (269).

فيعم جميع الذكر. ومن قال: يغسل موضع الحشفة: قالوا: إن من غسل مخرج المذي من الذكر فقد غسل ذكره، فإيجاب غسل الذكر كله لا دليل عليه من الشرع. وقد صح عن ابن عباس أنه يقول: تارة: "يغسل ذكره" وتارة يقول: "يغسل حشفته" فدل على أن مراده بقوله: " اغسل ذكرك" أي الحشفة، وفهم الصحابي أولى من فهم غيره؛ لأنه عربي قح لم تدخل لسانه العجمة، وهو ممن روى عن علي حديث غسل الذكر من المذي، فلو كان يقتضي ذلك غسل الذكر كله لكان ابن عباس أولى بفهم ذلك من غيره. وقياساً على البول فإن الإنسان لا يغسل فيه الذكر كله. ومن رأى أن الاستجمار لا يكفي استدل بقوله في الحديث: " يغسل ذكره " فهذا دليل على أن الاستجمار لا يكفي، قال ابن عبد البر: وليس في أحاديث المذي على كثرتها ذكر الاستجمار (¬1). وأما من قال: يغسل أنثييه: فاستدل بحديث علي، ففي رواية منه، قال: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ (¬2). وهذه الزيادة لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ضعفها أحمد في سؤالات أبي داود (¬3). ¬

(¬1) شرح الزرقاني (1/ 125)، التمهيد (21/ 205). (¬2) المسند (1/ 124). (¬3) جاء في مسائل أحمد لأبي داود (106): قلت لأحمد: إذا أمذى يجب عليه غسل أنثييه؟ قال: ما قال غسل الأنثيين إلا هشام بن عروة - يعني: في حديث علي، فأما الأحاديث كلها فليس فيها ذا. اهـ

وأما من قال: إن الاستجمار يكفي، فقد قاسه على البول: وقد عرضنا أدلة كل قول، والجواب عنها في بحث طويل، فأغنى عن إعادته هنا (¬1). ¬

(¬1) في كتابي أحكام الطهارة " كتاب آداب الخلاء ".

المبحث التاسع في الكلام على غسالة النجاسة

المبحث التاسع في الكلام على غسالة النجاسة الماء المستعمل في إزالة النجاسة قبل أن ينفصل عن المحل فإنه طهور مطلقاً تغير أو لم يتغير؛ لأننا لو قلنا ينجس بمجرد الملاقاة ما طهر المحل أبداً، ولم يمكنا في هذه الحال تطهير النجاسات إلا بالماء الكثير وهذا فيه حرج (¬1). وأما إذا انفصل عن المحل فلا يخلو إما أن يتغير بالنجاسة أو لا. فإن تغير الماء بالنجاسة، فهو نجس بالإجماع، وقد نقلناه عن جماعة من علماء المذاهب في مسألة سؤر سباع البهائم فانظره هناك. وإن كان الماء المنفصل لم يتغير، وهو ماء قليل، فقد اختلف العلماء في حكمه بناء على اختلافهم في وجوب تكرار الغسل، فبعضهم يرى وجوب تكرار غسل النجاسة ثلاثاً، وبعضهم سبعاً، وبعضهم يرى أنه يكفي غسل النجاسة مرة واحدة ما لم تكن نجاسة كلب، وقد ذكرنا أدلة كل قول في مسألة سابقة، وترجح أن العدد لا يشترط في غسل النجاسات إلا نجاسة الكلب للنص عليها من الشارع. وقد اختلف العلماء في الماء المنفصل عند تطهير هذا المحل المتنجس، وهو ما يسمى بغسالة النجاسة، إذا انفصل عن المحل، وهو لم يتغير هل يكون نجساً أو طاهراً أو طهورا؟. فقيل: الماء المنفصل من غسل النجاسة الحقيقية من الغسلة الأولى حتى ¬

(¬1) مطالب أولي النهى (1/ 40).

الغسلة الثالثة نجس، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: الماء المنفصل طهور ما لم يتغير بالنجاسة، وهو مذهب المالكية (¬2)، وهو الراجح. وقيل: يكون طاهراً غير مطهر، وهو الأصح عند الشافعية (¬3). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 66)، البحر الرائق (1/ 245)، بريقة محمودية (4/ 240)، حاشية ابن عابدين (1/ 325)، وهذا مبني على وجوب غسل النجاسات الحقيقية ثلاث مرات، وضد الحقيقية الحكمية، وهي طهارة الحدث، فلا يجب فيها العدد، وهذا بناء على قولهم بأن الحدث نوع من النجاسة، وانظر بدائع الصنائع (1/ 87). (¬2) تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك (1/ 43)، منح الجليل (1/ 72)، القوانين الفقهية (ص: 35 - 36)، الخرشي (1/ 80)، حاشية الدسوقي (1/ 80)، الاستذكار (3/ 259). (¬3) قال النووي في روضة الطالبين (1/ 34): في غسالة النجاسة إن تغير بعض أوصافها بالنجاسة فنجسة، وإلا فإن كان قلتين فطاهرة بلا خلاف، ومطهرة على المذهب، والله أعلم. وإن كانت دونهما فثلاثة أقوال، وقيل أوجه: أظهرها: وهو الجديد أن حكمها حكم المحل بعد الغسل، إن كان نجساً بعد فنجسة، وإلا فطاهرة غير مطهرة. والثاني: وهو القديم، حكمها حكمها قبل الغسل فتكون مطهرة. والثالث: وهو مخرج من رفع الحدث، حكمها حكم المحل قبل الغسل فتكون نجسة. اهـ وقال في المجموع (2/ 544): " والأصح طهارة غسالة النجاسة إذا انفصلت غير متغيرة، وقد طهر المحل " وانظر شرح زبد بن رسلان (1/ 34). واشترط الشافعية للحكم بطهارة الغسالة شروطاً. قال العراقي في طرح التثريب (2/ 134): " الصحيح عند أصحابنا طهارة غسالة النجاسة بشرط عدم تغيرها، وبشرط طهارة المحل، فإن تغيرت كانت نجسة إجماعاً، وإن لم =

دليل الحنفية على نجاسة الغسلات الثلاث

وقيل: المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس، حتى ولو زالت عين النجاسة في الغسلة الأولى، والمنفصل من الغسلة السابعة طاهر، غير مطهر، والمنفصل من الغسلة الثامنة طهور. وهذا المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). دليل الحنفية على نجاسة الغسلات الثلاث: قولهم مبني على وجوب غسل النجاسات ثلاث مرات، وقد ذكرنا أدلتهم على وجوب الغسلات الثلاث في مسألة سابقة، وبناء على هذا قالوا: إن الماء المنفصل في الغسلة الأولى والثانية انفصل والمحل نجس فتنجس، وأما الغسلة الثالثة فنجسة، وإن كان المحل قد طهر بناء على أن الماء قد استعمل في إزالة نجاسة، فالماء عندهم ينجس إذا استعمل في الطهارة سواء في طهارة الحدث أم في طهارة الخبث، وسبق تحرير مذهبهم في الماء المستعمل في طهارة الحدث، وأجبنا عليه (¬2). ¬

= يطهر المحل بأن كان في المحل نجاسة عينية كالدم ونحوه فلم يزلها الماء وانفصل عنها، وهي باقية، فإنه نجس أيضا، وزاد الرافعي شرطاً آخر، وهو ألا يزداد وزن الغسالة بعد انفصاله على قدره قبل غسل النجاسة به. اهـ (¬1) قال أبو الخطاب في الانتصار (1/ 485): يجب العدد في سائر النجاسات سبعاً نص عليه في رواية صالح وحنبل وأبي طالب والميموني. اهـ وفي مسائل عبد الله لأبيه (1/ 34): " سألت أبي عن الثوب يصيبه البول يجزيه أن يغمسه في الماء، أو لا بد من الدلك؟ فقال: يغسله سبعاً، ويعصره "وانظر مسائل ابن هانئ (1/ 27) رقم137. اهـ وانظركشاف القناع (1/ 36)، شرح منتهى الإرادت (1/ 102)، الفروع (1/ 238، 239)، الإنصاف (1/ 313) (¬2) في كتاب أحكام الطهارة (المياه والآنية).

دليل الحنابلة في غسالة النجاسة

الدليل الثاني على نجاسة الغسالة: (1689 - 217) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير- يعني: ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك- يعني: ابن عمير- يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القصة - يعني: قصة بول الأعرابي في المسجد- قال فيه: وقال: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء (¬1). قال أبو داود: وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. [ضعيف، وزيادة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه زيادة منكرة والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬2). وجه الاستدلال: لولا أن الغسالة نجسة لما احتاج إلى نقلها قبل غسلها. دليل الحنابلة في غسالة النجاسة: يرى الحنابلة أن الماء المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس، لأن الماء قد انفصل والمحل نجس، حتى ولو ذهبت عين النجاسة، فالمحل نجس حكماً، والتعليل عندهم: أنه ماء قليل لاقى نجاسة، فينجس ولو لم يتغير (¬3). ¬

(¬1) سنن أبي داود (381). (¬2) وله شاهد من حديث أنس وحديث عبد الله بن مسعود، وهما ضعيفان، وسيأتي تخريج ذلك إن شاء الله تعالى في مسألة كيفية تطهير الأرض من النجاسة. (¬3) وسبق لنا في كتاب المياه بحث الماء القليل إذا لاقى نجاسة ولم يتغير، وقد ترجح هناك أن الماء طهور ما لم يتغير بالنجاسة.

دليل الشافعية على كون الماء طاهرا

وأما الماء المنفصل من الغسلة السابعة فإنه طاهر، ولماذا لا يكون طهوراً؟ قالوا: لأنه أثر في المحل، فحصل به إزالة حكم النجاسة. ولماذا لا يكون نجساً؟ قالوا: لأنه انفصل عن محل طاهر؛ لأن المحل يطهر عندهم في الغسلة السابعة، إذا ذهبت عين النجاسة. أما المنفصل من الغسلة الثامنة فهو طهور؛ لأن المحل قد طهر من الغسلة السابعة، فلم يتأثر الماء. والقول بوجوب غسل النجاسات ثلاثاً عند الحنفية أو سبعاً عند الحنابلة قول ضعيف، إلا في ولوغ الكلب حيث ثبت العدد في غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وقد بُسِطَت أدلة كل قول في العدد المعتبر في غسل النجاسة في مسألة مستقلة. دليل الشافعية على كون الماء طاهراً: الدليل الأول: إذا كان الماء المستعمل في رفع الحدث يكون طاهراً، وهو لم يستعمل في إزالة النجاسة، فكيف بالمستعمل في إزالة النجاسة؟ والدليل على أن الماء المستعمل في رفع الحدث يكون طاهراً (1690 - 218) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب. فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا (¬1). ¬

(¬1) صحيح مسلم (283).

الدليل الثاني

وجه الاستدلال: قالوا: لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاغتسال في الماء الدائم دل ذلك على أن الاغتسال يؤثر في الماء، ولو كان لا يؤثر لما نهى عنه، فالمراد من نهيه حتى لا يصير الماء مستعملاً (¬1). وأجيب: أولاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلل بأن الماء يكون مستعملاً، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قط بأن الماء يكون مستعملاً، فهذا الكلام زيادة على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الحديث نص في الماء الدائم، وهو يشمل ما فوق القلتين وما دون القلتين، وأنتم قلتم بأنه لا يكون مستعملاً إلا إذا كان دون القلتين. فهذه مخالفة ثانية للحديث. الدليل الثاني: قولهم: إن الماء المستعمل ليس ماء مطلقاً، بل هو مقيد بكونه ماء مستعملاً، والذي يرفع الحدث هو الماء المطلق، كما في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2) (¬3). وأجيب: بأن لفظ (ماء) في قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، سواء كان مستعملاً أو غيره، وسواء كان متغيراً أم لم يتغير، ما ¬

(¬1) المجموع (1/ 206). (¬2) المائدة: 6. (¬3) ذكره دليلاً لهم ابن حزم في المحلى (1/ 189) ورده عليهم.

دليل المالكية على أن غسالة النجاسة طاهرة مطهرة

دام أنه يسمى ماء، نعم خرج الماء النجس للإجماع على أنه لا يجوز التطهر به، وبقي ما عداه. والصحيح أن إثبات قسم من الماء يكون طاهراً غير مطهر قول ضعيف، وقد تبين في مبحث أقسام المياه، أن الماء قسمان: طهور، ونجس. ولا يوجد قسم الطاهر (¬1)، والله أعلم. دليل المالكية على أن غسالة النجاسة طاهرة مطهرة. استدل المالكية على أن غسالة النجاسة من الماء الطهور إذا لم تتغير بعدة أدلته، منها: الدليل الأول: (1691 - 219) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن أعرابياً بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء، فصب عليه، ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: أن الماء الذي غسل به بول الأعرابي لو كان نجساً لم يقض النبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة ذلك المحل، ولأمر أن يصب عليه الماء ثانية وثالثة، فصح أن المغسول به النجاسة طاهر مطهر (¬3). ¬

(¬1) انظر المجلد الأول من أحكام الطهارة من هذه السلسة (مباحث المياه والآنية). (¬2) صحيح البخاري (6025) ومسلم (284). (¬3) انظر كتاب تهذيب المسالك (1/ 44) والحنابلة يفرقون بين النجاسة تكون على الأرض، وبين أن تكون على غيرها، ولا دليل على التفريق بينهما، بل الحكم واحد.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1692 - 220) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أُتِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال من الحديث الذي قبله، فإن قيل في الحديث الأول: إن النجاسة كانت على الأرض، فالحديث الثاني النجاسة على ثوب، وهذا دليل على أنه لا فرق بينهما. الدليل الثالث: قالوا من جهة المعنى: الماء المنفصل عن المحل المغسول هو من جملة الماء الباقي في المحل المغسول، فالمنفصل بعض المتصل، والماء الباقي في المحل المغسول طهور بإجماع، فوجب أن يكون المنفصل عنه مثله (¬2). الدليل الرابع: إذا غلب الماء على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد طهرها، ولا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً، فقد جعل الله الماء طهوراً، وأنزله علينا ليطهرنا به، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء " يعني: إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره، ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها، فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها، فالحكم له، وإن غلبته ¬

(¬1) صحيح البخاري (222) ومسلم (286). (¬2) كتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك (1/ 44).

النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها (¬1). وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر إذا صارت خلاً من غير صانع، لاستهلاك ما كان يخامر العقل منها بطريان التحليل عليه، فلأن تطهر النجاسة، ويزول حكمها باستهلاك الماء لها أولى وأحرى (¬2). وهذا القول هو الراجح، لدليل النقل والعقل، والله أعلم. ¬

(¬1) الاستذكار (3/ 259). (¬2) تهذيب المسالك (1/ 45).

الفصل الثاني في كيفية التطهير بالنضح

الفصل الثاني في كيفية التطهير بالنضح المبحث الأول في تطهير بول الرضيع الذكر بالنضح اختلف العلماء في بول الصبي والجارية هل حكمهما واحد أو لا؟. فقيل: يجب غسلهما معاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: بول الجارية يغسل، وبول الغلام ينضح، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وبه قال الحسن البصري (¬5)، والزهري (¬6)، وجماعة من أهل الحديث. وقيل: يكفي النضح فيهما ما لم يطعما، فإذا طعما وجب غسلهما، وهذا القول مروي عن الحسن البصري، وسفيان، وأحد قولي الأوزاعي (¬7). ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 69 - 70)، بدائع الصنائع (1/ 88)، شرح معاني الآثار (1/ 9)، حاشية ابن عابدين (1/ 318). (¬2) المنتقى للباجي (1/ 129)، الخرشي (1/ 94)، الاستذكار (2/ 67). (¬3) مغني المحتاج (1/ 84 - 85)، نهاية المحتاج (1/ 239 - 240)، المجموع (2/ 589). (¬4) المبدع (1/ 325 - 326) كشاف القناع (1/ 217 - 218)، الفروع (1/ 346)، الإنصاف (1/ 323). (¬5) التمهيد (9/ 112). (¬6) قال ابن شهاب كما في صحيح ابن حبان (4/ 211): فمضت السنة بأن لا يغسل من بول الصبي حتى يأكل الطعام، فإذا أكل الطعام غسل من بوله. اهـ (¬7) المحلى (1/ 133)، فقه الإمام الأوزاعي (1/ 98).

دليل من قال لا فرق بين بول الصبي والجارية في وجوب الغسل

وقيل: ينضح بول الذكر مطلقاً، كبيراً كان أم صغيراً، ويغسل بول الأنثى، وهو اختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (¬1). دليل من قال لا فرق بين بول الصبي والجارية في وجوب الغسل: الدليل الأول: (1693 - 221) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيدعو لهم، وإنه أتي بصبي، فبال عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صبوا عليه الماء صباً (¬2). [انفرد أبو معاوية عن هشام بقوله: صبوا عليه الماء صباً، وحديث أبي معاوية عن هشام في بعضها كلام] (¬3). ¬

(¬1) المحلى (1/ 133). (¬2) المسند (6/ 46). (¬3) ومن طريق أبي معاوية أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 93). وقد انفرد أبو معاوية عن هشام في قوله صبوا عليه الماء صباً، وقد قال فيه أحمد: في غير حديث الأعمش مضطرب لا يحفظها جيداً. وقال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام؟ قال: فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والحديث مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وقد روي عنه بلفظين: اللفظ الأول: فدعا بماء فأتبعه إياه. أخرجه مالك بن أنس كما في الموطأ (142) ومن طريق مالك أخرجه البخاري (222). ورواه يحيى بن سعيد القطان كما في البخاري (6002)، ومسند أبي عوانة (1/ 20) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعبد القدوس بن بكر بن خنيس، كما في مسند أحمد (6/ 212). وشريك كما في مسند أبي يعلى في مسنده (4623) كلهم رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. بلفظ: فدعا بماء فأتبعه إياه. ورواه جرير بن عبد الحميد، عن هشام، كما في صحيح مسلم (286) بلفظ: فدعا بماء، فصبه عليه. وهي رواية بالمعنى لقوله " فأتبعه إياه " واللفظ الثاني: مثله إلا أنه زاد كلمة: ولم يغسله. رواه عبد الله بن المبارك، كما في صحيح البخاري، ووكيع كما في مسند أحمد (6/ 52) وعبد الله بن نمير كما في صحيح مسلم (286). وعيسى بن يونس كما في صحيح مسلم (286). وسفيان، كما في صحيح ابن حبان (1372) ومحاضر كما في مسند أبي عوانة (1/ 202) وعبدة بن سليمان، كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (93). وزائدة، كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (92)، ثمانيتهم رووه عن هشام به، وزادوا كلمة، ولم يغسله، فهي زيادة محفوظة بلا شك. وهناك بعض الرواة رووه باللفظين، مثل يحيى بن سعيد القطان، فقد رواه مرة بدون كلمة ولم يغسله، ومرة رواه بهذه الزيادة عند أحمد (6/ 52). ومثله عبد الله بن نمير، رواية مسلم والبيهقي فيها " ولم يغسله " بينما رواية أبي عوانة (1/ 202)، بلفظ: فدعا بماء، فأتبعه بوله. وكذلك أخرجه الحميدي (1/ 88) عن سفيان، بلفظ: فأتبع بوله الماء، بينما رواية ابن حبان " ولم يغسله ". فتبين من هذا التخريج: أنهم أجمعوا على قولهم " فدعا بماء فأتبعه إياه " وزاد عليه جمع من الرواة، وقفت على ثمانية منهم قولهم " ولم يغسله " ولم يقل أحد منهم " صبوا عليه الماء صباً" وقد انفرد أبو معاوية عن هشام بلفظ " صبوا عليه الماء صباً " وأخشى أن يكون هذا =

وجه الاستدلال: أنه أمر بصب الماء على نجاسة بول الصبي صباً، وهذا دليل على أنه لا يكفي النضح، بل لا بد من الغسل، ألا ترى لو أن رجلاً أصاب ثوبه عذرة، فأتبعها الماء حتى ذهب بها، أن ثوبه قد طهر. وأجيب: أولاً: تفرد أبو معاوية بهذا اللفظ، عن هشام، وسائر الرواة عن هشام لم يذكروا ما ذكره أبو معاوية. ثانياً: أن الحديث نص في قوله: " ولم يغسله " فإتباع الماء بدون غسل وبدون أن يتقاطر الماء إن كنتم تسمون هذا غسلاً فالخلاف معكم لفظي، وإن كنتم تشترطون مع إتباع الماء أن يتقاطر وأن يعصر الثوب حتى يخرج منه الماء، فالحديث لم يدل عليه، بل صرح بنفيه. ثالثاً: على فرض صحة لفظ أبي معاوية فليس فيها ما يدل على وجوب الغسل، فإن مكاثرة المحل بالماء دون أن يصل إلى حد السيلان لا ينافي ذلك الصب، ولا يسمى غسلاً عندنا، فليس صب الماء مرادفاً للغسل، حتى يؤخذ من لفظ " صبوا " أن يكون هذا بمعنى الغسل، ولذلك جاء اللفظ صريحاً بقولهم " ولم يغسله " فلو كان الصب يعني الغسل لكان قوله " ولم يغسله " تناقضاً في الحديث، كما لو قال: غسله ولم يغسله، وهذا واضح بين. ¬

_ = من الرواية بالمعنى التي لم توافق ألفاظ الرواية للحديث، كما أن رواة الحديث أجمعوا على أن الرسول هو الذي باشر غسل النجاسة، لقولهم " فأتبعه إياه " بينما رواية أبي معاوية كأنه باشر غسل النجاسة غيره، والله أعلم. انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: إتحاف المهرة (22259)، أطراف المسند (9/ 157)، تحفة الأشراف (16998، 16775، 16972، 17137).

الدليل الثاني

الدليل الثاني لمن قال بوجوب الغسل. الأحاديث العامة الآمرة بوجوب الغسل من البول، منها: (1694 - 222) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). (1695 - 223) ومنها: ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (¬2). [إسناده ضعيف جداً] (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (216)، ومسلم (292). (¬2) مسند أبي يعلى (1611). (¬3) سبق تخريجه في كتابي أحكام الطهارة: آداب الخلاء، رقم (402).

الدليل الثالث

وأجيب: أما حديث ابن عباس فهو في بول الكبير؛ لأنه في حق المكلف، وهو لا يكلف إلا وهو كبير، وأحاديث التفريق هي في بول الصبي، فلا يقضي الحديث العام على الحديث الخاص، وإنما الخاص مقدم على العام. وأما حديث عمار فهو ضعيف جداً كما بينا، ومع ذلك لو صح لم يكن فيه دلالة، وكان الجواب عنه كالجواب عن حديث ابن عباس، والله أعلم. الدليل الثالث: قالوا: لا فرق بين بول الغلام والجارية بعد سن الرضاع، فكيف يفرق بينهما قبله (¬1). وأجيب: بأن هذا النظر نظر فاسد؛ لأنه في مقابلة النص، فلا يقبل. دليل من قال بالتفريق بين بول الجارية وبول الغلام. الدليل الأول: (1696 - 224) ما ورواه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه، ولم يغسله. ورواه مسلم أيضاً (¬2). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 94). (¬2) صحيح البخاري (323)، ومسلم (287).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: (1697 - 225) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيدعو لهم، فأتي بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه ولم يغسله. ورواه مسلم (¬1). فهذان الحديثان دليلان على أنه يكفي في بول الصبي النضح، وأن الغسل غير واجب، وأما الأدلة على التفريق بينه وبين الجارية فسوف نذكره في بقية أدلة هذا القول، فمنها. الدليل الثالث: (1698 - 226) ما رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي، حدثني يحيى بن الوليد، حدثني محل بن خليفة، حدثني أبو السمح، قال: كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك، فأوليه قفاي، فأستره به، فأتي بحسن أو حسين رضي الله عنهما، فبال على صدره، فجئت أغسله فقال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (6355)، ومسلم (286). (¬2) سنن أبي داود (376). (¬3) ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي أخرجه النسائي في المجتبى (304) وفي الكبرى (293)، وابن ماجه (526)، والطبراني في الكبير (22/ 384) برقم: 958، والدارقطني (1/ 130)، وابن خزيمة (1/ 143) رقم 283، وأبو نعيم في الحلية (9/ 62)، والحاكم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (1/ 166)، وصححه، والبيهقي (2/ 415). والحديث رجاله كلهم ثقات إلا يحيى بن الوليد، فإنه صدوق، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه، الجرح والتعديل (9/ 193). وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 609). وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب التهذيب (11/ 259). وقال الذهبي: صالح. الكاشف (6263). وفي التقريب: لا بأس به. وفي إسناده محل بن خليفة، جاء في ترجمته: قال يحيى بن معين: ثقة. الجرح والتعديل (8/ 413). وقال أبو حاتم الرازي: صدوق ثقة. المرجع السابق. ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 453، 454). وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (27/ 290). وقال ابن عبد البر في التمهيد (9/ 112): حديث المحل الذي ذكر فيه الرش حديث لا تقوم به حجة، والمحل ضعيف. وقال أيضاً (9/ 111) رواية من روى الصب على بول الصبي واتباعه الماء أصح وأولى. اهـ فتعقبه الحافظ في التهذيب (10/ 54) فقال في ترجمة محل بن خليفة: لم يتابع ابن عبد البر على ذلك. اهـ وقد تابع عبد الحق الإشبيلي ابن عبد البر كما في البدر المنير (2/ 303). والحق أن الحديث حديث صحيح، ومحل بن خليفة قد وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي، على ما عرف عن هؤلاء الأئمة من التشدد في التوثيق، كما وثقه أيضاً الدارقطني. وبناء على هذا يكون الحديث حسناً، ولولا يحيى بن الوليد لكان الحديث صحيحاً، وللحديث شواهد سنتعرض لها في ذكر باقي الأدلة إن شاء الله تعالى. وانظر إتحاف المهرة (17753)، وقد فات الحافظ أن يعزوه إلى ابن خزيمة ولم يستدركه المحقق، مع أنه على شرط الحافظ، وانظر تحفة الأشراف (12052).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: (1699 - 227) ما رواه أحمد، قال: حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود الديلي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: في الرضيع ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية. قال قتادة: وهذا ما لم يطعما الطعام، فإذا طعما غسلا جميعاً (¬1). [رفعه هشام الدستوائي، عن قتادة، ورواه غيره عن قتادة موقوفاً على علي، وهو المحفوظ] (¬2). ¬

(¬1) المسند (1/ 97). (¬2) الحديث مداره على قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن علي، واختلف على قتادة فيه: فرواه شعبة، وابن أبي عروبة، وهمام، عن قتادة به موقوفاً على علي رضي الله عنه. ورواه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، واختلف عليه: فرواه ابنه معاذ وعبد الصمد بن عبد الوراث، عن هشام به، مرفوعاً. وخالفهم مسلم بن إبراهيم، فرواه عن هشام، عن قتادة، عن ابن أبي الأسود، عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هكذا مرسلاً. وهذا يدل على أنه هشام لم يضبط الحديث، فرواه مرفوعاً مخالفاً أصحاب قتادة (شعبة وهمام وابن أبي عروبة) ثم رواه مرسلاً مما يدل على عدم ضبطه لهذا الحديث، والله أعلم. وروي الحديث معضلاً كذلك، علقه ابن المنذر في الأوسط (2/ 145) من طريق عبدة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن محمد بن علي بن الحسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والراجح من حديث الإمام علي رضي الله عنه أنه موقوف عليه، ورأي الصحابي حجة فيما لم يخالف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = [تخريج الحديث]. رواية الرفع: أخرجها أحمد (1/ 97، 137)، وأبو داود (378)، والترمذي (610)، وابن ماجه (525)، والبزار (717)، وأبو يعلى في مسنده (307)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 92)، وابن خزيمة (284)، وابن حبان (1375) والدارقطني (1/ 129)، والحاكم (1/ 165 - 166)، والبيهقي (2/ 415) من طريق معاذ بن هشام، عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود الديلي، عن علي بن أبي طالب به مرفوعاً. ورواه أحمد (1/ 76، 137) والدارقطني (1/ 129) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، عن هشام به. مرفوعاً. ورواه البيهقي (2/ 415) من طريق مسلم بن إبراهيم، عن هشام، عن قتادة، عن ابن أبي الأسود، عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هكذا مرسلاً. وأما الموقوف فأخرجه عبد الرزاق (1488)، وابن أبي شيبة (1/ 121) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حرب، عن علي موقوفاً. وليس في إسنادهما (أبو الأسود). ورواه أبو داود (377) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حرب بن الأسود، عن أبيه، عن علي موقوفاً. وعلقه البخاري كما في العلل الكبير (38) عن شعبة، عن قتادة به موقوفاً. وذكره الدارقطني في علله (4/ 185) عن همام، عن قتادة به موقوفاً. وأما الرواية المعضلة فقد تم تخريجها في أول الكلام على الحديث. قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحافظ في التلخيص (1/ 38): إسناده صحيح، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وفي وصله وإرساله، وقد رجح البخاري صحته، وكذا الدارقطني. اهـ قلت: قال البخاري كما في علل الترمذي (1/ 42): سألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقال: شعبة لا يرفعه، وهشام الدستوائي حافظ، ورواه يحيى القطان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة فلم يرفعه. اهـ وقال البزار كما في البحر الزخار (2/ 294 - 295): وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن =

الدليل الخامس

الدليل الخامس: (1700 - 228) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، قال: حدثنا أيوب، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل، قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني رأيت في منامي أن في بيتي أو حجرتي عضواً من أعضائك، قال: تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً، فتكفلينه، فولدت فاطمة حسناً، فدفعته إليها، فأرضعته بلبن قثم، وأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً أزوره، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوضعه على صدره، فبال على صدره، فأصاب البول إزاره، فزخخت بيدي على كتفيه، فقال: أوجعت ابني أصلحك الله -أو قال: رحمك الله- فقلت: أعطني إزارك أغسله، فقال: إنما يغسل بول الجارية، ويصب على بول الغلام (¬1). [رجاله كلهم ثقات] (¬2). ¬

= النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه، بهذا الإسناد، وإنما أسنده معاذ بن هشام، عن أبيه، وقد رواه غير معاذ عن هشام، عن قتادة، عن أبي حرب، عن أبيه، عن علي موقوفاً. اهـ انظر أطراف المسند (4/ 492)، إتحاف المهرة (14353)، تحفة الأشراف (10131). (¬1) المسند (6/ 340). (¬2) الحديث يرويه عن لبابة رضي الله عنها ثلاثة: عطاء الخرساني، وعبد الله بن الحارث، وقابوس بن أبي المخارق. أما رواية عطاء الخرساني، فقد أخرجه أحمد (6/ 339) من طريق حماد بن سلمة، أخبرنا عطاء الخرساني، عن لبابة أم الفضل، وأشار أحمد أن عطاء الخرساني دلسه عن لبابة، فقال عقبه حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد، قال حميد: كان عطاء يرويه عن أبي عياض، عن لبابة. اهـ وأبو عياض هذا مجهول. =

الدليل السادس

الدليل السادس: (1701 - 229) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو بكر الحنفي، قال: حدثنا أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أم كرز الخزاعية قالت: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بغلام، فبال عليه، فأمر به ¬

_ = وأما رواية عبد الله بن الحارث، فأخرجها أحمد (6/ 340) حدثنا عفان، حدثنا وهيب، قال: حدثنا أيوب، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن لبابة به. وهذا أحسن إسناد روي فيه هذا الحديث، فإن رجاله كلهم ثقات. وأما رواية قابوس بن أبي المخارق، فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 113) رقم 1288، وأحمد (6/ 339)، وإسحاق بن راهويه (1/ 152) وأبو داود (375)، وابن ماجه (522)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 92) وابن خزيمة (1/ 143)، والحاكم (1/ 271) من طريق سماك بن حرب، عن قابوس بن المخارق، عن أم الفضل لبابة بنت الحارث. وقد اختلف هل سمعه قابوس من أم الفضل أم سمعه من أبيه، عنها. فقد أخرجه الطبراني في الكبير (25/ 26) رقم 41 من طريق أبي مالك الأشجعي، عن سماك بن حرب، عن قابوس الشيباني، عن أبيه، عن أم الفضل. وأخرجه الطبراني أيضاً (25/ 25) رقم 38 من طريق علي بن صالح، عن سماك، عن قابوس، عن أبيه عن أم الفضل. قال ابن دقيق العيد في الإمام (3/ 401): " ففي هذه الرواية إثبات الواسطة بين قابوس وأم الفضل، وذلك يقتضي أن رواية أبي الأحوص التي أخرجها أبو داود منقطعة وعبد الملك أبو مالك المتقدم في الإسناد قبله ضعفه الرازيان أبو زرعة وأبو حاتم، وقال يحيى في رواية عباس: ليس بشيء. اهـ وقال في مصباح الزجاجة (4/ 157): هذا إسناد رجاله ثقات إن سلم من الانقطاع، قال المزي في التهذيب والأطراف: روى قابوس عن أبيه، عن أم الفضل. انظر إتحاف المهرة (23340)، أطراف المسند (9/ 461)، تحفة الأشراف (18055).

الدليل السابع

فنضح، وأتي بجارية فبالت عليه، فأمر به فغسل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السابع: (1702 - 230) ما رواه أبو داود، من طريق يونس، عن الحسن، عن أمه، أنها أبصرت أم سلمة تصب الماء على بول الغلام ما لم يطعم فإذا طعم غسلته وكانت تغسل بول الجارية (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬

(¬1) المسند (6/ 422، 440). (¬2) وعلته الانقطاع حيث لم يدرك عمرو بن شعيب أم كرز، قاله المزي في تحفة الأشراف (13/ 100)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 76): إسناده منقطع، عمرو ابن شعيب لم يدرك أم كرز. اهـ والحديث رواه ابن ماجه (527)، والطبراني في الكبير (25/ 168) رقم: 408، من طريق أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أم كرز، وعمرو بن شعيب لم يدرك أم كرز. قال الحافظ في التلخيص (1/ 38): فيه انقطاع، وقد اختلف على عمرو بن شعيب، فقيل: عنه، عن أبيه، عن جده، كالجادة، أخرجه الطبراني في الأوسط ". اهـ قلت: رواية الطبراني في الأوسط (824) من طريق عبد الله بن موسى التيمي، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. أخطأ فيه عبد الله بن موسى التيمي، ولذلك قال البزار: لم يرو هذا الحديث عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده إلا أسامة بن زيد، تفرد به عبد الله بن موسى. إتحاف المهرة (23668)، أطراف (9/ 466)، تحفة الأشراف (18350). (¬3) سنن أبي داود (379). (¬4) في إسناده أم الحسن، قال الحافظ في التقريب: إنها مقبولة، يعني: في المتابعات، وإلا ففيها لين حيث التفرد، ولعلها أقوى درجة مما ذكر الحافظ، فقد روى لها مسلم حديث: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = "تقتل عماراً الفئة الباغية "، وحديث: " كنا ننبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سقاء يوكى أعلاه. وذكرها ابن حبان في ثقاته (4/ 216). وقال ابن حزم: ثقة مشهورة. المحلى (3/ 127) فإذا اعتبرنا إخراج مسلم حديثها في صحيحه، يجعل حديثها على أقل الأحوال حسناً، فإذا أضفت إلى ذلك توثيق ابن حبان وابن حزم تأكد الاحتجاج بها، والله أعلم. قال ابن عبد البر (9/ 111): أولى وأحسن شيء في هذا الباب ما قالته أم سلمة، قالت: بول الغلام يصب عليه الماء صباً، وبول الجارية يغسل طعمت أو لم تطعم ". اهـ وصحح إسناده الحافظ في التلخيص (1/ 38) وهذا ذهول منه عن ما قاله في أم الحسن، فإنه حكم عليها في التقريب بقوله: مقبولة، ولو قال: صحيح لقلت ربما صححه بالمجموع، ولكن حين حكم على إسناده بالصحة فهذا منه توثيق لأم الحسن، فتنبه. [تخريج الأثر] الحديث رواه أبو داود كما في حديث الباب، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن (2/ 416). ورواه ابن أبي شيبة (1/ 114) من طريق الفضل بن دلهم، وقد نزلت إلى سنن أبي داود، وإن كان مصنف ابن أبي شيبة أعلى منه إسناداً، نظراً إلى قوة إسناد أبي داود، فإن الفضل بن دلهم في حفظه شيء، إلا أنه قد زال ذلك في متابعة يونس، كما في إسناد أبي داود. وأخرجه ابن الجعد في مسنده (3190) من طريق المبارك، عن الحسن، عن أمه به. وروي مرفوعاً ولا يصح، أخرجه أبو يعلى (6921) عن إسماعيل بن عياش. ورواه الطبراني في الكبير (23/ رقم 866)، وفي الأوسط (2742) من طريق عبد الرحيم بن سليمان، كلاهما عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة مرفوعاً. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الحسن، عن أمه إلا إسماعيل، تفرد به عبد الرحيم. قلت: رواه الطبراني كما تقدم من طريق إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل، فلم يتفرد به عبد الرحيم. وإسماعيل بن مسلم المكي. قال فيه يحيى ين معين: ليس بشيء. وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه. وقال أحمد: منكر الحديث. =

الدليل الثامن

الدليل الثامن: (1703 - 231) ما رواه أحمد بن منيع في مسنده، قال: حدثنا ابن علية، ثنا عمارة بن أبي حفصة، عن أبي مجلز، عن حسن بن علي، أو أن حسين بن علي، قال: حدثتنا امرأة من أهلي، قالت: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستلقياً على ظهره يلاعب صبياً على صدره، إذ بال فقامت لتأخذه، وتضربه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: دعيه، إيتوني بكوز من ماء، فنضح الماء على البول حتى تفايض الماء على البول، فقال - صلى الله عليه وسلم -: هكذا يصنع بالبول، ينضح من الذكر، ويغسل من الأنثى (¬1). [رجاله ثقات إلا أن ابن معين يرى أن رواية أبي مجلز عن الحسن مرسلة] (¬2). اعتراض وجواب: ¬

= ورواه أبو يعلى في مسنده أيضاً (6923) حدثنا حوثرة، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بول الغلام يصب عليه الماء صباً ما لم يطعم، وبول الجارية يغسل غسلاً طعمت أو لم تطعم. قلت: خالف فيه حوثرة، فقد رواه علي بن الجعد في مسنده وسبق ذكرها، عن المبارك ابن فضالة، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة موقوفاً عليها، كما هي رواية ابن أبي شيبة ورواية أبي داود. كما أن الحسن هنا رواه عن أم سلمة مباشرة، فدلسه، والحديث معروف من رواية الحسن، عن أمه، عن أم سلمة موقوفاً عليها. وأخرجه البيهقي (2/ 415) من طريق كثير بن قاروند، أنبأ عبد الله بن حزم، عن معاذة بنت حبيش، عن أم سلمة به مرفوعاً. ولم أقف على ترجمة لمعاذة بنت حبيش، وكذلك الرواي عنها عبد الله بن حزم. (¬1) المطالب العالية (13). (¬2) انظر التهذيب (11/ 172).

اعترض الحنفية على هذا الاستدلال بقولهم: إن النضح الوارد في الحديث المقصود به الغسل، فإن النضح قد يطلق على الغسل. (1704 - 232) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: عن علي بن أبي طالب أرسلنا المقداد بن الأسود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ، وانضح فرجك (¬1). وقد رواه البخاري بلفظ: توضأ، واغسل ذكرك (¬2). وفي رواية لمسلم: " يغسل ذكره ويتوضأ " (¬3). فأطلق النضح على الغسل. وأجيب: لا إشكال في إطلاق النضح على الغسل وعلى الرش، وهو مشترك بينهما، وإذا جاءت قرينة تعين أن المراد من النضح الرش تعين، وامتنع حمله على الغسل، فلما قال في الحديث: ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية، امتنع حمل النضح على الغسل، ولو حملنا على الغسل كان كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التفريق بين بول الغلام والجارية لغواً لا فائدة منه. قال ابن دقيق العيد: " ورد في بعض الأحاديث التفرقة بين بول الصبي والصبية، فإن الموجبين للغسل لا يفرقون بينهما، ولما فرق في الحديث بين النضح في الصبي والغسل في الصبية كان ذلك قوياً في النضح غير الغسل" (¬4). ¬

(¬1) مسلم (303). (¬2) البخاري (269). (¬3) مسلم (303). (¬4) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 80 - 81).

دليل من قال يكفي النضح فيهما

دليل من قال يكفي النضح فيهما: قالوا: إن حكمهما بعد أن يطعما واحد وهو الغسل، فكذلك حكمهما قبل أن يطعما واحد وهو الاكتفاء بالرش، وهذا القول من أضعف ما قيل في المسألة، فلم يأخذ بالعموم في وجوب غسل الأبوال كلها من غير فرق بين بول الصبي والجارية، ولم يأخذ بأحاديث الباب في استثناء بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، فأخذ ببعض الأحاديث الواردة في الغلام قبل أن يطعم، وألغى نص هذه الأحاديث في التفريق بين الغلام والجارية. دليل ابن حزم على التفريق بين بول الذكر مطلقاً وبول الأنثى. لعله نظر إلى ظاهر الأحاديث، فوجد أن التفريق بين الغلام والجارية ثابت، والغلام في اللغة العربية الأصل فيه أنه يطلق على الصغير طعم أو لم يطعم، وقال الأزهري: سمعت العرب تقول للمولود حين يولد ذكراً غلام، وسمعتهم يقولون للكهل: غلام، وهو فاش في كلامهم (¬1). اهـ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالأحاديث المرفوعة لم تذكر قيد الإطعام. فهذا حديث أبي السمح قال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام. وحديث أم الفضل: إنما يغسل بول الجارية، ويصب على بول الغلام. فعموم الأحاديث القولية لم تشترط الإطعام. والأحاديث التي اشترطت عدم الإطعام إما موقوفة كما في أثر علي رضي الله عنه، وأثر أم سلمة، وابن حزم لا يحتج بقول الصحابي، وإما ضعيفة، وإما حكاية فعل لم يقصد فيها التقييد، كما في حديث أم قيس بنت ¬

(¬1) مختار الصحاح (ص: 234).

محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فهذا بيان واقع، ولم يقصد تقييد الحكم الشرعي فيها، ولهذا ذهب ابن حزم إلى التفريق بين بول الذكر وبين بول الأنثى، فالذكر صغيراً كان أو كبيراً ينضح بوله، والأنثى يغسل. ويجاب على ابن حزم. أولاً: فهم الصحابة رضوان الله عليهم بأن المقصود بالغلام الذي لم يطعم حجة على فهم غيرهم، نظراً لقربهم من الوحي، وملازمتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهم أعلم الناس بمراد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: عندنا أحاديث عامة في وجوب التنزه من البول، ووجوب غسله، كحديث ابن عباس، وحديث بول الأعرابي في المسجد، وهو متفق عليه، وعندنا أحاديث تستثني من ذلك بول الصبي الذي لم يطعم، فيكفي في طهارته النضح، فيبقى الحكم خاصاً بها، ويبقي ما عداه على وجوب غسله، والخاص دائماً مقدم على العام، والله أعلم.

المبحث الثاني في تطهير المذي يصيب الثوب

المبحث الثاني في تطهير المذي يصيب الثوب علمنا كيفية تطهير المذي من البدن، وتبين أن الجمهور يرون وجوب غسله بالماء، على خلاف بينهم، هل يجب غسل رأس الحشفة من الذكر، أو يجب غسل الذكر كله، أو يجب غسل الذكر مع الأنثيين، واختلف العلماء في المذي يصيب الثوب، فقيل: لا بد من غسله، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يكفي فيه النضح، وهو رواية عن أحمد، وأحد القولين للإمام إسحاق (¬5)، ورجحه ابن تيمية، وابن القيم (¬6). دليل من قال: يجب غسل المذي: (1705 - 233) ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن منذر بن يعلى ويكنى أبا يعلى، عن ابن الحنفية، ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 48)، شرح فتح القدير (1/ 72)، المبسوط (1/ 67). (¬2) مواهب الجليل (1/ 285)، الخرشي (1/ 149)، حاشية الدسوقي (1/ 112)، فتح البر بترتيب التمهيد (3/ 323). (¬3) المجموع (2/ 164)، روضة الطالبين (1/ 67)، مغني المحتاج (1/ 79). (¬4) الكافي في فقه أحمد (1/ 56)، الإنصاف (1/ 330). (¬5) سنن الترمذي (ح 115). (¬6) تهذيب السنن (1/ 148 - 149)، إعلام الموقعين (4/ 277 - 278)، بدائع الفوائد (3/ 119 - 120) و (4/ 88).

دليل من قال: يكفي فيه النضح

عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن الأسود، فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ. ورواه البخاري بنحوه (¬1). والثوب مقيس على البدن، فإذا كان البدن يجب غسل المذي منه، فكذلك يجب في الثوب، والله أعلم. دليل من قال: يكفي فيه النضح. (1706 - 234) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق، عن سعيد بن السباق، عن أبيه، عن سهل بن حنيف، قال: كنت ألقى من المذي شدة، فكنت أكثر الغسل منه، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما يكفيك من ذلك الوضوء. قال: قلت: يا رسول الله فكيف ما يصيب ثوبي؟ قال: إنما يكفيك كف ماء تنضح به من ثوبك حيث ترى أنه أصاب (¬2). [سبق تخريجه] (¬3). وأجيب عن ذلك: بأن المراد بالنضح هو الغسل؛ لأن النضح لفظ مشترك بين الغسل وبين الرش، وإذا كان يجب غسل المذي من الذكر، وتَعَرُض الذكر للمذي أكثر من تعرض الثياب؛ لأنه يخرج أصلاً منه، ومع ذلك نص على غسله، فكذلك الثوب يجب فيه الغسل، لأن البلوى بالبدن أكثر منه بالثوب. ¬

(¬1) صحيح مسلم (303)، وصحيح البخاري (269). (¬2) المصنف (7/ 320) (¬3) في نجاسة المذي، رقم (1559).

الدليل على أن النضح يراد به الغسل

والدليل على أن النضح يراد به الغسل: (1707 - 235) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: عن علي بن أبي طالب أرسلنا المقداد بن الأسود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ، وانضح فرجك (¬1). وقد رواه البخاري بلفظ: توضأ، واغسل ذكرك (¬2). وفي رواية لمسلم: " يغسل ذكره ويتوضأ " (¬3). فأطلق النضح على الغسل. (1708 - 236) وروى البخاري من طريق هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬4). قال الحافظ: (تنضحه) قال الخطابي: أي تغسله. وقال القرطبي: المراد به الرش؛ لأن غسل الدم استفيد من قوله:"تقرصه بالماء ". وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب. قال الحافظ: فعلى هذا فالضمير في قوله: تنضحه يعود على الثوب، بخلاف تحته فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل، ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئاً؛ لأنه إن كان ¬

(¬1) مسلم (303). (¬2) البخاري (269). (¬3) مسلم (303). (¬4) البخاري (227)، ومسلم (291).

الراجح

طاهراً فلا حاجة إليه، وإن كان متنجساً لم يطهر بذلك، فالأحسن ما قاله الخطابي (¬1). وقال ابن الأثير: قد يَرِد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (¬2). (1709 - 237) قلت: الحديث قد رواه مسلم من طريق الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، فهو ينضح الدم عن جبينه (¬3). قال السيوطي في شرحه للحديث: ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (¬4). الراجح: أن المذي يجب غسله، سواء كان على الثوب أو على البدن، ويكفي في غسله كف من ماء؛ لأن المذي عادة يكون يسيراً، فيكفيه الماء اليسير، ولفظ النضح مع كونه يراد به الغسل في اللغة، فهو من مفردات محمد بن إسحاق، فإن حملنا النضح على الغسل حسنا حديثه، حيث لم ينفرد بوجوب الغسل، ¬

(¬1) الفتح بتصرف يسير (1/ 439). (¬2) النهاية في غريب الحديث (5/ 70). (¬3) رواه مسلم (1972)، وهو في الصحيحين إلا أنه بلفظ: " وهو يمسح الدم عن وجه". (¬4) الديباج (4/ 402).

فحديث علي في الصحيحين نص في وجوب الغسل، وإن حملنا النضح على الرش ضعفنا حديث محمد بن إسحاق؛ لأن الحديث إذا كان أصلاً في الباب، فلا نقبل ما ينفرد به الصدوق، وهذه قاعدة مهمة يغفل عنها بعض المتأخرين ممن له عناية بالتصحيح والتضعيف، وقد نبه عليها ابن رجب في كتابه العظيم شرح علل الترمذي، والله أعلم.

الفصل الثالث في كيفية تطهير النجاسة بغير الماء

الفصل الثالث في كيفية تطهير النجاسة بغير الماء المبحث الأول في التطهير بالمسح الفرع الأول في تطهير الأشياء الصقيلة كالسيف والمرآة والسكين بالمسح اختلف العلماء في تطهير الأشياء الصقيلة هل تطهر بالمسح، أم لا بد من غسلها؟ فقيل: يطهرها المسح مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يعفى عن الشيء الصقيل من دم مباح إن خشي عليه الفساد، وهل يعفى عنه بدون مسح، أو بعد المسح؟ قولان في مذهب المالكية والمعتمد الأول (¬2). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 236)، بدائع الصنائع (1/ 85)، تبيين الحقائق (1/ 72)، البناية على الهداية (1/ 728). (¬2) فقوله: يعفى عن الشيء الصقيل: معنى ذلك أن طهارته حكمية، وإلا فالمحل نجس، إذ لو كان طاهراً لما احتاج إلى العفو عنه، وقوله: إن خشي عليه الفساد بالغسل، هذا شرط العفو، فإن لم يخش عليه من الفساد تعين الغسل. وسواء مسحه من الدم أم لا على المعتمد: أي خلافاً لمن علله بانتفاء النجاسة بالمسح، =

دليل من قال: المسح مطهر للأشياء الصقيلة

وقيل: لا يطهر المسح مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). دليل من قال: المسح مطهر للأشياء الصقيلة. الدليل الأول: أن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقاتلون الكفار بسيوفهم، فيصيبها الدم، ومع ذلك يصلون، وهي معهم حاملون لها، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرهم بغسلها، ولو كان غسلها واجباً لأمرهم به - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: أن الأجسام الصقيلة ليس فيها مسام فلا تدخلها النجاسة، فإذا مسحت رجعت كما كانت قبل إصابتها للنجاسة، وهذا هو المطلوب في الطهارة. الدليل الثالث: أن النجاسة عين خبيثة، فمتى زالت فقد زال حكمها. ¬

= قال عيسى في روايته عن ابن القاسم، عن مالك: مسحه من الدم أو لم يمسحه. وقيل: إن العفو بشرط المسح، نقله الباجي عن مالك، وقال ابن رشد: إنه قول الأبهري. وفهم من قوله: من دم مباح: أن العفو خاص بالدم، وهو المفهوم من أكثر عباراتهم، ومقتضى كلام ابن العربي عدم التخصيص. وقال في التوضيح: أكثر أمثلتهم في السيف إنما هو في الدم، فيحتمل أن لا يقصر الحكم عليه، ويحتمل القصر؛ لأنه الغالب من النجاسات الواصلة إليه. انظر مواهب الجليل (1/ 156)، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (1/ 77)، الخرشي (1/ 112)، القوانين الفقهية (ص: 28). (¬1) مغني المحتاج (1/ 85)، (¬2) المبدع (1/ 323)، الإنصاف (1/ 322).

دليل من قال: لا بد من غسلها

دليل من قال: لا بد من غسلها. يرى أصحاب هذا القول أن النجاسة لا تزال إلا بالماء المطلق، وقد نوقشت أدلته مع بيان الجواب عليها في بحث مستقل تحت عنوان: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة؟ فارجع إليه غير مأمور.

الفرع الثاني في مسح البول والغائط بالحجارة

الفرع الثاني في مسح البول والغائط بالحجارة اختلف العلماء في جواز الاستجمار بالحجارة: فقيل: يجوز الاستجمار بالحجارة، ولو مع وجود الماء والقدرة عليه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، مع أن الحجر قد لا ينقي المحل، فلا بد أن يبقى به أثر لا يزيله إلا الماء، وهذا من تيسير الشريعة، ومن التخفيف الذي وضعه الله سبحانه وتعالى عن عباده، خاصة أن الإنسان قد يحتاج إلى قضاء حاجته في مكان لا يوجد فيه ماء، فكان من سعة الله على عباده أن يسر لهم إزالتها بأي مزيل من أجحار ونحوها. وقيل: لا يجوز الاستجمار بالحجارة إلا لمن عدم الماء، وادَّعى أن العمل بالاستجمار قد ترك العمل به، اختاره ابن حبيب من المالكية (¬2). ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 336)، البحر الرائق (1/ 253)، حاشية الطحطاوي (ص: 31)، الفتاوى الهندية (1/ 48)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 48). وانظر في مذهب المالكية مواهب الجليل (1/ 286)، القوانين الفقهية (ص: 29)، شرح الزرقاني (1/ 93)، التاج والإكليل (1/ 286)، الشرح الكبير (1/ 113)، مختصر خليل (ص: 15). وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/ 22) المهذب (1/ 27)، الإقناع للشربيني (1/ 53)، روضة الطالبين (1/ 65)، المجموع (2/ 119). وانظر في الفقه الحنبلي: الفروع (1/ 89)، الإنصاف (1/ 109)، المبدع (1/ 91)، المحرر (1/ 10)، عمدة الفقه (ص: 6)، الكافي (1/ 52). (¬2) قال ابن رشد في البيان والتحصيل (17/ 485): قال ابن حبيب: لا نبيح اليوم الاستنجاء -يعني: بالحجارة- إلا لمن عدم الماء؛ لأنه أمر قد ترك، وجرى العمل بخلافه، على ما =

وقد سبق ذكرنا أدلة كل قول، ومناقشتها وتبين أن الراجح منها جواز استعمال الحجارة في إزالة النجاسة، بل تجوز بكل مزيل، سواء كان مائعاً أو جامداً، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً (¬1). ¬

= قاله ابن هرمز. اهـ وقال القرطبي في المفهم (1/ 520): وقد شذ ابن حبيب من أصحابنا، فقال: لا يجوز استعمال الأحجار مع وجود الماء، وهذا ليس بشيء؛ إذ قد صح في البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل الحجارة مع وجود الماء في الإداوة مع أبي هريرة يتبعه بها. اهـ (¬1) انظر المسألة في كتاب أحكام الطهارة (آداب الخلاء) ص: 375.

الفرع الثالث في إزالة النجاسة بالمسح وهل هو مطهر حقيقة أو حكما

الفرع الثالث في إزالة النجاسة بالمسح وهل هو مطهر حقيقة أو حكماً معلوم أن الاستجمار - وهو إزالة للنجاسة بالمسح - يبقى بعده أثر لا يزيله إلا الماء، فهل الاستجمار والحالة هذه مطهر، أو أن المحل ييقى نجساً معفواً عنه، في هذا اختلف العلماء. فقيل: طهارة الاستجمار طهارة حكمية، أي يبيح للمسلم فعل الصلاة، وليس رافعاً للنجاسة، فالمحل نجس معفو عنه. وهذا مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنفية (¬3)، الحنابلة (¬4). وقيل: الاستجمار طهارته طهارة حقيقية، وهو القول الثاني في مذهب الحنفية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 45)، حاشية الدسوقي (1/ 111). (¬2) حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 208)، تحفة المحتاج (2/ 128)، الأشباه والنظائر (ص: 84). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 337)، تبيين الحقائق (1/ 72)، البحر الرائق (1/ 238). (¬4) المغني (1/ 411). وقال البهوتي: وأثر الاستجمار نجس؛ لأنه بقية الخارج من السبيل، يعفى عن يسيره بعد الإنقاء واستيفاء العدد، بغير خلاف نعلمه. اهـ (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 337). (¬6) الإنصاف (1/ 109)، وقال ابن قدامة في المغني (1/ 411): واختلف أصحابنا في طهارته، فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، ولو كان نجساً لنجسه. ثم قال: وقال أصحابنا المتأخرون: لا يطهر المحل، بل هو نجس. اهـ أي نجس معفو عنه. اهـ

الدليل على أن الاستنجاء مطهر

الدليل على أن الاستنجاء مطهر. (1710 - 238) ما رواه الدارقطني، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، نا سلمة بن رجاء، عن الحسن بن فرات القزاز، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجى بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يطهران (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال: قوله: عن العظم والروث إنهما لا يطهران، معنى ذلك أن غيرهما مطهر مما يزيل النجاسة من حجر ونحوه، والله أعلم. الدليل الثاني: أن النجاسة تزال بأي مزيل، ولا يتعين الماء في إزالتها، فكيف زالت زال حكمها، وقد نوقشت هذه المسألة في باب مستقل، فإذا استنجى الإنسان، وأزال عين النجاسة فقد طهر المحل، والدليل على أن الماء لا يتعين في إزالة النجاسة: أحاديث كثيرة في تطهير ذيل المرأة بالتراب (¬3)، وتطهير النعل بدلكه في التراب (¬4)، فإذا كانت النعل تطهر بالتراب، وكان التراب لها طهوراً، وكان ¬

(¬1) سنن الدراقطني (1/ 56). (¬2) انظر تخريجه في كتاب أحكام الطهارة: آداب الخلاء رقم: 315. (¬3) سبق تخريجه في كتابي آداب الخلاء، رقم (394)، وهو جزء من هذه السلسلة. (¬4) سبق تخريجه في كتابي آداب الخلاء، رقم (395)، وهو جزء من هذه السلسلة.

دليل من قال: إن الاستجمار غير مطهر

ذيل المرأة يطهره ما بعده من التراب الطيب، وكان الريق ربما طهر الثوب يصيبه شيء من دم الحيض (¬1)، فكذلك مكان البول والغائط يطهره الأحجار ونحوها، والله أعلم. دليل من قال: إن الاستجمار غير مطهر. قالوا: إن الأصل في إزالة النجاسة هو الماء - وقد ذكرنا الأدلة على هذا في مسألة مستقلة: تحت عنوان: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة - ولكن لما كان البول والغائط يتكرران، وقد ينزلان بالإنسان وليس معه ماء خفف عنه في إزالتها، فاكتفي بالأحجار ونحوها عن الماء، ومعلوم أن الحجر لا يزيل النجاسة بالكلية، بل يبقى معه أثر لا يزيله إلا الماء، فهذا دليل على أن المحل نجس لبقاء جزء من النجاسة على المحل، وقد حكي الإجماع على أنه معفو عنه. قال ابن قدامة: وقد عفي عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع: أحدها: محل الاستنجاء، فعفي فيه عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه (¬2). وكونه معفواً عنه دليل على أن الطهارة حكمية وليست حقيقية. الراجح من أقوال أهل العلم: أن الاستجمار مطهر، وتطهير كل نجاسة بحسبها، فتطهير مكان البول ¬

(¬1) روى البخاري (312)، عن عائشة قالت: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قال بريقها فقصعته بظفرها. (¬2) المغني (1/ 411).

والغائط يكون بالحجارة، وذلك أن يرجع الحجر نظيفاً لا شيء عليه من النجاسة، وتطهير ذيل المرأة بمروره على تراب طاهر، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: يطهره ما بعده، وتطهير النعل بدلكها في التراب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: فإن التراب له طهور، ولا معنى لكلمة يطهره إلا أنه الطهارة الشرعية، وأما من حمله على الطهارة اللغوية - وهو النظافة - فلم يكن مصيباً؛ لأننا لا نحمله على الحقيقة اللغوية إلا إذا تعذر حمله على الحقيقة الشرعية، وهو هنا لم يتعذر، وقد سبق في بحث مستقل طهارة النعلين وذيل المرأة وذكر هناك خلاف العلماء فيهما، ورجحنا طهارتهما طهارة شرعية بما أرشد إليه الشارع من دلك النعل ومرور ذيل المرأة على مكان طاهر، والله أعلم.

الفرع الرابع في وجوب تكرار المسح في إزالة النجاسة

الفرع الرابع في وجوب تكرار المسح في إزالة النجاسة علمنا عند الكلام على كيفية التطهير بالماء: خلاف العلماء في وجوب العدد في إزالة النجاسة، وفي هذه المسألة نبحث وجوب العدد في التطهير بالمسح، فقد اختلف العلماء في وجوب العدد في إزالة النجاسة بالحجارة، فقيل: لا يجب العدد، بل المعتبر الإنقاء، فكيف حصل أجزأ، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: لا بد من ثلاثة أحجار، فأكثر، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). وقد ذكرت أدلة كل قول مع الراجح في كتاب أحكام الطهارة آداب الخلاء فأغنى عن إعادته هنا (¬6). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 121) وما بعدها، بدائع الصنائع (1/ 19)، تبيين الحقائق (1/ 76،77)، البحر الرائق (1/ 253). (¬2) المنتقى (1/ 68)، شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/ 72)، التاج والإكليل (1/ 270)، التمهيد (11/ 17)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 17)، مواهب الجليل (1/ 290)، بداية المجتهد (1/ 62). (¬3) الأم (1/ 22)، المجموع (2/ 120)، المهذب (1/ 27)، الإقناع للشربيني (1/ 54)، شرح زبد بن رسلان (ص: 52)، مغني المحتاج (1/ 45). (¬4) المغني (1/ 102)، الفتاوى الكبرى (1/ 339،340)، المبدع (1/ 94)، مختصر الخرقي (ص: 17)، منار السبيل (1/ 23)، الكافي (1/ 52)، كشاف القناع (1/ 69)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 211). (¬5) المحلى (1/ 108)، (¬6) انظر المناقشة في خمس عشرة صفحة (من ص:369 إلى ص:383) من الكتاب المذكور.

المبحث الثاني في التطهير بالدلك

المبحث الثاني في التطهير بالدلك اختلف العلماء في التطهير بالدلك إلى أقوال: الأول: مذهب الحنفية: ذهب الحنفية إلى أن الدلك مطهر للنعل والخفاف خاصة، فلا يطهر بالدلك البدن مطلقاً، ولا يطهر الثوب بالدلك إلا في المني خاصة، ويشترطون أن تكون النجاسة لها جرم، فإن كانت بولاً لم يطهرها الدلك، ولا بد من الغسل، وهل يشترط في الجرم أن يكون جافاً؟. فيه قولان: أحدهما قول أبي حنيفة حيث ذهب إلى اشتراط أن يكون جرم النجاسة جافاً، فإن كان رطباً تعين الغسل. وذهب أبو يوسف إلى عدم اشتراط الجفاف (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: التفريق بين ذيل المرأة والنعل. فإذا أصاب الذيل نجاسة فإنه لا يطهرها إلا الماء، وحمل حديث أم سلمة على القشب اليابس يعلق بالثوب ثم ينظفه ما بعده، وليس هذا من باب تطهير النجاسة، وإنما هو من باب التنظيف (¬2). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 234)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 108)، شرح فتح القدير (1/ 195). (¬2) قال ابن عبد البر في التمهيد، قال: (13/ 105) اختلف الفقهاء في طهارة الذيل على المعنى المذكور في هذا الحديث: فقال مالك: معناه في القشب اليابس والقذر الجاف الذي لا يتعلق منه بالثوب شيء، فإذا كان هكذا كان ما بعده من المواضع الطاهرة حينئذ تطهيراً له، وهذا عنده ليس تطهيراً من نجاسة؛ لأن النجاسة عنده لا يطهرها إلا الماء، وإنما هو تنظيف؛ لأن القشب اليابس ليس بنجس ما مسه، ألا ترى أن المسلمين مجمعون على أن ما سفت الريح من =

وأما في النعل والخفاف فإن الدلك يطهر النعل من أرواث الدواب وأبوالها فقط يابسة كانت أو رطبة، فإن كانت النجاسة من غير أرواث الدواب وأبوالها، فإنه لا يعفى عنه، ولا بد من غسله (¬1). وهل الدلك في هذه الحالة مطهر أو يقال: إنه معفو عنه للمشقة، رجح ابن جزي الأول، ورجح خليل في مختصره وشراحه الثاني (¬2). ¬

= يابس القشب والعذرات التي قد صارت غباراً على ثياب الناس ووجوههم لا يراعون ذلك، ولا يأمرون بغسله ولا يغسلونه، لأنه يابس، وإنما النجاسة الواجب غسلها ما لصق منها، وتعلق بالثوب وبالبدن. فعلى هذا المحمل حمل مالك وأصحابه حديث طهارة ذيل المرأة، وأصلهم: أن النجاسة لا يزيلها إلا الماء، وهو قول زفر بن الهذيل والشافعي وأصحابه وأحمد وغيره. (¬1) قال في مواهب الجليل (1/ 152): إذا كانت النجاسة يابسة فمعفو عن الذيل الواصل إليها، وفي الرطبة قولان: المشهور لا يعفى، والثاني: أنه يعفى. وقال في (1/ 153): ويعفى عن أثر ما يصيب الخف، وعما يصيب النعل من أرواث الدواب وأبوالها، ولو كانت رطبة، كما قاله في المدونة، بشرط أن يدلك ذلك، فإذا دلكه جاز جاز له أن يصلي بذلك الخف والنعل، والعلة في ذلك المشقة، وهو الذي ارتضاه ابن الحاجب. وبعضهم ساوى بين الذيل والخف، فقال يعفى عنهما ولو كانت النجاسة رطبة، وخرج حكم ذيل المرأة على كلام مالك في الخف. قال في مواهب الجليل (1/ 152): الأشبه أن ذلك فيما لا تنفك منه الطرقات من أرواث الدواب وأبوالها، وإن كانت رطبة، فإن ذلك لا ينجس ذيلها للضرورة، كما قال مالك في الخف. قال سند: ولعمري إن تخريج ذلك على الخف حسن؛ لأن غسل الثوب كل وقت فيه حرج ومشقة، ربما كانت فوق مشقة غسل الخف، فإن الخف يغسله وينزعه وينشف، والثوب إن تركه عليه مبلولاً فمشقة إلى مشقة، وإن نزعه فليس كل أحد يجد ثوباً آخر يلبسه. قال الحطاب تعليقاً: وما قالاه ظاهر، لكنه خلاف مذهب المدونة. وقال في حاشية الدسوقي (1/ 75): وحاصله أن الخف إذا أصابه شيء من النجاسات غير أورواث الدواب وأبوالها كخرء الكلاب أو فضلة الآدمي أو أصابه دم فإنه لا يعفى عنه كما مر، ولا بد من غسله. اهـ (¬2) القوانين الفقهية (ص: 28)، وانظر حاشية الدسوقي (1/ 74)، مواهب الجليل =

الثالث: مذهب الشافعية

القول الثالث: مذهب الشافعية: يجب غسل ذيل المرأة وأسفل الخف مطلقاً، وهو قول الشافعي في الجديد (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). ¬

= (1/ 152، 153). (¬1) قال الشيرازي في المهذب المطبوع مع المجموع (2/ 619): فإن أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه على الأرض نظرت، فإن كانت نجاسة رطبة لم يجزه , وإن كانت يابسة فقولان: قال في الجديد: لا يجوز حتى يغسله ; لأنه ملبوس نجس، فلا يجزئ فيه المسح كالثوب. وقال في الإملاء والقديم: يجوز. وقال النووي في شرحه لهذا النص: قال الرافعي: إذا قلنا بالقديم وهو العفو فله شروط: أحدها: أن يكون للنجاسة جرم يلتصق بالخف , أما البول ونحوه فلا يكفي دلكه بحال. الثاني: أن يدلكه في حال الجفاف, وأما ما دام رطباً فلا يكفي دلكه قطعاً. الثالث: أن يكون حصول النجاسة بالمشي من غير تعمد, فلو تعمد تلطيخ الخف بها وجب الغسل قطعاً, والقولان جاريان فيما لو أصاب أسفل الخف وأطرافه من طين الشوارع المتيقن نجاسته الكثير الذي لا يعفى عنه, وسائر النجاسات الغالبة في الطرق كالروث وغيره، واعلم أن الغزالي وصاحبه محمد بن يحيى جزما بالعفو عن النجاسة الباقية على أسفل الخف, وهذا شاذ مردود والله أعلم. وقال النووي في المجموع أيضاً (1/ 144): إن المراد بالقذر (يعني في حديث أم سلمة في طهارة ذيل المرأة) نجاسة يابسة , ومعنى يطهره ما بعده، أنه إذا انجر على ما بعده من الأرض ذهب ما علق به من اليابس, هكذا أجاب أصحابنا وغيرهم , قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: ويدل على هذا التأويل الإجماع أنها لو جرت ثوبها على نجاسة رطبة فأصابته لم يطهر بالجر على مكان طاهر, وكذا نقل الإجماع في هذا أبو سليمان الخطابي, ونقل الخطابي هذا التأويل عن آباء عبد الله مالك والشافعي وأحمد - رحمهم الله - وأما حديث أبي سعيد (يعني في طهارة النعل بالدلك) فلنا في المسألة قولان: القديم: أن مسح أسفل الخف الذي لصقت به نجاسة كاف في جواز الصلاة فيه, مع أنه نجس عفي عنه, والجديد: أنه ليس بكاف. اهـ (¬2) قال صاحب الإنصاف (1/ 323): وإذا تنجس أسفل الخف أو الحذاء وجب غسله، هذا المذهب وعليه الجمهور، قال في الفروع: نقله، واختاره الأكثر. ثم قال: =

وفي القديم للشافعي: التفريق بين ذيل المرأة والخف، فيغسل الأول ويعفى عن نجاسة تصيب أسف النعل بعد دلكها وهي يابسة (¬1). فتلخص لنا من هذا الخلاف أقوال: الأول: أن الدلك يطهر مطلقاً، في الرطب واليابس، في نعل المرأة وفي ذيلها. الثاني: أن الدلك لا يطهر مطلقاً. الثالث: أن الدلك يطهر النجاسة الجافة دون الرطبة. الرابع: أن الدلك يطهر الخف والنعل فقط دون ذيل المرأة. وبعض هذه الأقوال ذكرناها في الحاشية، ولم نذكرها في المتن؛ لأنها أقوال في بعض ¬

= وعنه يجزئ دلكه بالأرض، قال في الفروع: وهي أظهر، واختاره جماعة منهم ابن قدامة والمجد وابن عبدوس والشيخ تقي الدين. الخ ثم قال: وحمل القاضي الروايات على ما إذا كانت النجاسة يابسة، وقال: إذا دلكها وهي رطبة لم يجزه رواية واحدة، ورده الأصحاب، وأطلق ابن تميم في إلحاق الرطبة باليابسة الوجهين. ثم قال: وعلى القول بأنه يجزئ الدلك لا يطهره، بل هو معفو عنه على الصحيح من المذهب، قال المجد في شرحه: وهذا هو الصحيح. وقال أيضاً (1/ 324): مفهوم كلام المصنف أنه إذا تنجس غير الخف والحذاء أنه لا يجزئ الدلك رواية واحدة، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب، وأحد الوجهين في ذيل المرأة. والوجه الثاني: يطهر بمروره على طاهر بذيلها، اختاره الشيخ تقي الدين. اهـ وانظر المغني (1/ 411). (¬1) ومذهب الشافعي في القديم قريب من مذهب المالكية، والفرق بينهما أن المالكية يشترطون في طهارة النعل بالدلك: أن تكون النجاسة من أرواث الإبل وأبوالها، وأما الشافعية فلا يقيدونها بذلك.

المذاهب ليست مشهورة، فلينتبه لهذا. وأما أدلة هذه المسألة فهي ترجع إلى مسألة بحثناها في فصل مستقل: وهي: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة، أو أن النجاسة تزال بأي مزيل كان؟ فمن رأى أن النجاسة لا يزيلها إلا الماء المطلق منع إزالة النجاسة بالدلك، وأجاب عن حديث ذيل المرأة بما نقله ابن عبد البر في التمهيد، بأن المقصود به النجاسة اليابسة التي تعلق بالثوب، وهي نجاسة لا تتعدى، فالفرك يسقط النجاسة، والمحل لم يتنجس أصلاً، وقد نقلنا كلامه عند عرض الأقوال. واعترض على هذا التفسير: بأن القشب اليابس لا يعلق بالثوب، وأي شيء يبقى حتى يقول - صلى الله عليه وسلم -: يطهره ما بعده. وأجيب: بأن القشب قد يكون له غبار يعلق بالثوب، فإذا مر على ما بعده طهره (¬1). أو يقال: المراد يطهره الطهارة اللغوية، وليست الطهارة الشرعية (¬2). وهذا الجواب ليس بسديد؛ لأن غبار النجاسة ليس بنجس، ولم يقم دليل على أن الغبار منه ما هو طاهر ومنه ما هو نجس. وأما حمل اللفظ على الطهارة اللغوية: أي النظافة، فالطهارة إذا جاءت من الشارع فهي على حقيقتها الشرعية، فالأصل في كلام الشارع حمله على الحقيقة الشرعية حتى يمنع من ذلك مانع، ولم يوجد مانع يمنع من ذلك. ومن أجاز إزالة النجاسة بأي مزيل قالع للنجاسة أجاز إزالة النجاسة بالدلك. ¬

(¬1) مواهب الجليل (1/ 152). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 75).

ومن اشترط أن تكون النجاسة يابسة: رأى أن هناك إجماعاً أن النجاسة الرطبة على الخف لا يكفي في تطهيرها الدلك، كما نقله النووي عن الخطابي ونقلناه عن النووي (¬1)، والحقيقة أن المسألة ليس فيها إجماع، والأحاديث مطلقة، تشمل الرطب واليابس، بل إن الحديث نص في الرطب. (1711 - 239) فقد روى أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير ـ يعنى ابن معاوية ـ ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال: وكان رجل صدق، عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى قال: فهذه بهذه (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

(¬1) وكلام الخطابي موجود في معالم السنن، حيث يقول (1/ 102): وقال مالك: إن الأرض يطهر بعضها بعضاً، إنما هو أن يطأ الأرض القذرة، ثم يطأ الأرض اليابسة النظيفة، فإن بعضها يطهر بعضاً، فأما النجاسة مثل البول ونحوه يصيب الثوب أو بعض الجسد فإن ذلك لا يطهره إلا الغسل، قال: وهذا إجماع الأمة. اهـ قلت: على التنزل بأن كلام الخطابي صحيح في أن الأرض النظيفة تطهر الأرض النجسة، فإذا أمكن تطهير نجاسة الأرض بالتراب، أمكن تطهير سائر النجاسات بالقياس. وأما قوله: إن النجاسة مثل البول تصيب الثوب أو البدن لا يطهرها إلا الغسل، فماذا يقول في الاستجمار، فإن الحجارة تطهر البول، وهو على البدن، فهذا كاف في خرق الإجماع المنقول، والله أعلم. (¬2) المسند (6/ 435). (¬3) سبق تخريجه، في كتاب آداب الخلاء، رقم (394)، والجهالة بالصحابية لا تضر. وله =

ومن قيد النجاسة بأن تكون في أرواث الدواب وأبوالها خاصة نظر إلى أن هذا النوع من النجاسة يشق الاحتراز منه، ويكثر في الطرقات فعفي عنها، وخفف في طهارتها بخلاف غيرها من النجاسات. وما سبق ترجيحه هناك بأن النجاسة أياً كانت تزال بأي مزيل فهو الراجح هنا، والله أعلم. ¬

_ = شاهد من حديث أم سلمة.

المبحث الثالث التطهير بالجفاف

المبحث الثالث التطهير بالجفاف إذا أصابت النجاسة أرضاً، فتركت حتى جفت، إما بفعل الشمس أو بفعل الريح أو بغيرهما، فذهبت عين النجاسة ولونها وريحها، فهل هذا كاف في طهارتها، أو لا بد من غسل النجاسة؟ فقيل: إن الجفاف يطهر الأرض في حق الصلاة فقط، ولا يجوز التيمم بها، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا تطهر الأرض بالجفاف، بل لا بد من غسلها، وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختيار زفر من الحنفية (¬5). ¬

(¬1) البحر الرائق (1/ 237)، بدائع الصنائع (1/ 859، البناية على الهداية (1/ 728). وفرق الحنفية بين الصلاة والتيمم، بوجوه منها: الأول: يشترط في التيمم أن يكون التراب طاهراً، وطهوراً، فإذا أصابت الأرض نجاسة فقد الوصفان معاً، فإذا ذهبت النجاسة بالجفاف فقد أصبح التراب طاهراً، ولم تثبت طهوريته، وحتى يتيمم به لا بد من ثبوت الوصفين معاً. الثاني: طهارة التراب وطهوريته ثبتت شرطاً بنص قطعي، وهو الكتاب العزيز، فلا ينسخ بخبر الواحد الظني!! الوجه الثالث: الطهارة بالجفاف يبقى معه شيء يسير من النجاسة، وهو معفو عنه، ولا يعفى عن شيء من النجاسة في التيمم، وسبق لنا بحث ما يعفى عنه من النجاسات، والله أعلم. (¬2) المدونة (1/ 140)، مواهب الجليل (1/ 162)، المنتقى (1/ 64). (¬3) المجموع (2/ 616)، طرح التثريب (2/ 144). (¬4) المبدع (1/ 318)، الفروع (1/ 241)، الإنصاف (1/ 317)، المغني (1/ 419). (¬5) انظر الكتب التي أحيل عليها في مذهب الحنفية من هذه المسألة.

دليل من قال: إن النجاسة يطهرها الجفاف

وقيل: الجفاف مطهر مطلقاً، في حق الصلاة وفي حق التيمم وفي حق غيرهما، وهو رواية عن أحمد، نصرها ابن تيمية (¬1). دليل من قال: إن النجاسة يطهرها الجفاف: الدليل الأول: (1712 - 240) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬2). استدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك الدليل الثاني: أن المطلوب زوال النجاسة، فإذا زالت فقد زال حكمها، والجفاف خاصة في البلاد الحارة يذهب بالنجاسة لوناً وطعماً وريحاً، وهذا هو عين المطلوب. الدليل الثالث: (1713 - 241) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق إسماعيل الأزرق، عن ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 480، 510). (¬2) صحيح البخاري (174).

دليل من قال: إن الجفاف غير مطهر

ابن الحنفية، قال: إذا جفت الأرض فقد زكت (¬1). [في إسناده إسماعيل بن سلمان الأزرق ضعيف] (¬2). دليل من قال: إن الجفاف غير مطهر: أدلة أصحاب هذا القول هي أدلتهم على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء الطهور، وقد سبق ذكر أدلتهم والجواب عليها في مسألة: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة؟ فانظرها مشكوراً هناك. فالراجح أن الجفاف مطهر بشرط أن يذهب معه أثر النجاسة. ¬

(¬1) المصنف (1/ 59) رقم 626. (¬2) جاء في ترجمته: قال أبو زرعة: ضعيف الحديث، واهي الحديث. الجرح والتعديل (2/ 176). وقال النسائي: متروك. الضعفاء (76). وضعفه غيرهما. وروى ابن أبي شيبة (1/ 59) من طريق عبد العزيز بن مهران البصري، قال: رأيت الحسن جالساً على أثر بول جاف، فقلت له: فقال: إنه جاف. وابن مهران قال فيه الحافظ في التقريب: مقبول. كما روى ابن أبي شيبة (1/ 59) من طريق الحارث بن عمير، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: إذا جفت الأرض فقد زكت. اهـ والحارث بن عمير، قال فيه الحافظ في التقريب: وثقه الجمهور، وفي أحاديثه مناكير ضعفه بسببها الأزدي وابن حبان وغيرهما، فلعله تغير حفظه في الآخر. وعلى كل حال هذه الآثار، وهي يستأنس بها، ولكن ليست من الأدلة الشرعية، لأنها أقوال رجال تابعين غير معصومة.

المبحث الرابع في التطهير بالاستحالة

المبحث الرابع في التطهير بالاستحالة قد تتحول العين النجسة إلى عين أخرى، سواء بفعل آدمي، أو بمرور الوقت، أو بغيرهما (¬1)، فإذا تغيرت هذه العين النجسة إلى عين طاهرة فهل ننظر إلى أصلها فنحكم لها بالنجاسة، أو ننظر إلى حالها الحادث، فنحكم لها بالطهارة؟. هذه المسألة محل خلاف بين العلماء، بعد اتفقاهم على طهارة الخمر إذا انقلب خلاً بنفسه على القول بنجاسة الخمر. واتفاقهم على طهارة الدم المنقلب إلى مسك، على القول بنجاسة الدم. ¬

(¬1) وأضرب أمثلة في تحول العين من حقيقة إلى حقيقة أخرى: الأول: تحول الطعام الطيب إلى غائط خبيث. وهذا ممكن أن نسميه التحول عن طريق التغذية، وقد يكون عكس هذا الحال، كالجلالة التي تعلف النجاسة، والنبات يسمد بالنجاسة، فتتحول النجاسة إلى شيء طاهر. الثاني: التحول عن طريق المعالجة، كتحول مياه المجاري إلى ماء طهور عن طريق التقطير، وتحول النجاسة إلى رماد أو دخان أو غبار، ومثله البخار الخارج من فم الحيوان النجس كالكلب مثلاً فهل يعطى هذا البخار حكم الريق، أو يقال: إنه تحول إلى بخار فأصبح طاهراً، ومثله بخار النجاسة كالمتصاعد من الغائط في أيام الشتاء، فلو أصاب ثوباً رطباً هل ينجس بمثل هذا أو يكون البخار طاهراً .. الثالث: أن يتغير بنفسه، وذلك كانقلاب الخمر إلى خل، وانقلاب الدم إلى مسك، أو بمرور الزمن أو بفعل الشمس أو الريح وذلك كانقلاب العذرة إلى تراب. الرابع: التولد كأن تتولد الحشرات والدود من أعيان نجسة.

دليل من قال: إن الاستحالة مطهرة

فقيل: إن الاستحالة مطهرة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). وقيل: لا تأثير للاستحالة، وهو مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). دليل من قال: إن الاستحالة مطهرة. الدليل الأول: القياس على الخمرة تنقلب خلاً بذاتها، فقد أجمع العلماء على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها حَلَّت وجاز تناولها بالإجماع، فكذلك سائر النجاسات إذا انقلبت إلى عين طاهرة صار لها حكم الطاهرات. قال ابن تيمية: إذا انقلبت الخمر خلا بغير قصد آدمي فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة (¬7). ¬

(¬1) أحكام القرآن للجصاص (3/ 313)، بدائع الصنائع (1/ 62)، (¬2) مواهب الجليل (1/ 97). (¬3) المحلى (6/ 101). (¬4) الفتاوى الكبرى (1/ 441). (¬5) المجموع (2/ 592)، تحفة المحتاج (1/ 303)، نهاية المحتاج (1/ 247). (¬6) المغني (1/ 65)، الإنصاف (1/ 318). (¬7) الفتاوى الكبرى (1/ 441). وقال ابن قدامة في المغني (9/ 146): إذا انقلبت (يعني الخمرة) بنفسها , فإنها تطهر وتحل , في قول جميعهم فقد روي عن جماعة من الأوائل, أنهم اصطبغوا بخل خمر; منهم علي, وأبو الدرداء, وابن عمر, وعائشة. ورخص فيه الحسن, وسعيد بن جبير، وليس في شيء من أخبارهم أنهم اتخذوه خلاً, ولا أنه انقلب بنفسه , لكن قد بينه عمر بقوله: لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله هو يتولى إفسادها؛ ولأنها إذا انقلبت بنفسها , فقد زالت علة تحريمها, من غير علة خلفتها, فطهرت, كالماء إذا زال تغيره بمكثه. اهـ

الدليل الثاني

واعترض عليه: بأن هذا خاص بالخمرة، وذلك لأن نجاستها كانت عن طريق الاستحالة، فتكون طهارتها عن طريق الاستحالة، وأما غيرها من النجاسات فإنها نجسة العين ابتداء بدون استحالة. ورد عليهم: لا نسلم أن سائر النجاسات نجاستها ابتداء بدون استحالة، فهذا البول والغائط نجاسته عن طريق استحالة الطعام الطيب إلى خبيث، ومع ذلك تمنعون طهارته بالاستحالة، فما الفرق؟. وهذا الدم تقولون بنجاسته، وهو مستحيل من الطعام أيضاً، وهذا المني طاهر عند المالكية والحنابلة، وهو مستحيل من الدم النجس عند الأئمة الأربعة. الدليل الثاني: إذا كان الطعام الطيب إذا استحال إلى شيء خبيث كالبول والغائط أصبح له حكم البول والغائط من النجاسة، فكذلك الشيء النجس إذا استحال إلى طيب أعطي له حكم الطيب من الحل والطهارة. قال ابن حزم: ومن خالف هذا لزمه أن يحرم اللبن , لأنه دم استحال لبنا, وأن يحرم التمر والزرع المسقي بالعذرة والبول, ولزمه أن يبيح العذرة والبول, لأنهما طعام وماء حلالان، استحالا إلى اسم منصوص على تحريم المسمى به (¬1). ومعلوم أنه إذا استحال الشيء بالشيء حتى لا يرى له ظهور يحكم له بالعدم، وعلى هذا فلو وقعت قطرة من لبن امرأة في ماء، فاستهلكت فيه، ¬

(¬1) المحلى (6/ 101).

الدليل الثالث

وشربه الرضيع خمس رضعات فأكثر، لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة، لم يجلد بشربه، وهكذا، والاستهلاك بالشيء نوع من الاستحالة، ومع ذلك لم يعتبر الأصل بل اعتبر الحال. والفرق بين الأعيان الطاهرة والأعيان النجسة وجود صفات فيها، فإذا وجدت في الأعيان حكم لها بالطهارة أو بالنجاسة، فإذا لم توجد هذه الصفات التي تجعلنا نحكم للشيء بالنجاسة لم نحكم له بذلك. الدليل الثالث: (1714 - 242) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬1). فهذا النوع من الطهارة، وهو ذهاب النجاسة عن طريق الشمس والريح استحالة للنجاسة بانقلابها إلى عين طاهرة. الدليل الرابع: (1715 - 243) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق إسماعيل الأزرق، عن ابن الحنفية، قال: إذا جفت الأرض فقد زكت (¬2). [ضعيف وقد سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه]. ¬

(¬1) صحيح البخاري (174). (¬2) المصنف (1/ 59) رقم 626.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: قالو: إن المسلم قد يبتلى بشرب الخمر، والكافر يشربه ويأكل الخنزير، ولا يكون ظاهرهما نجساً؛ إذ لو تنجسا ما طهرهما الاغتسال، ويلزم من قولهم: إن الاستحالة مؤثرة أن تكون الحيوانات نجسة؛ لأنها متولدة من المني، والمني من الدم، والدم عندهم نجس. دليل من قال: إن الاستحالة غير مطهرة: الدليل الأول: (1716 - 244) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، حدثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبن شاة الجلالة، وعن المجثمة، وعن الشرب من في السقاء (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وأجيب بعدة أجوبة: الأول: بأننا إذا عرفنا الجلالة على القول الصحيح بأنها: هي الدابة التي ظهر فيها أثر النجاسة من ريح ونتن، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، ¬

(¬1) المسند (1/ 226). (¬2) سبق تخريجه في حكم الجلالة، وله شاهد من حديث جابر وابن عمر وعبد الله ابن عمرو بن العاص، وقد تم تخريجها، والحكم عليها في مسألة حكم الجلالة، فانظره هناك مشكوراً. (¬3) قال في بدائع الصنائع (5/ 40): ولا يكره أكل الدجاج المحلي، وإن كان يتناول النجاسة; لأنه لا يغلب عليه أكل النجاسة، بل يخلطها بغيرها، وهو الحب فيأكل ذا وذا. =

ومذهب الشافعية (¬1). ففي الحالة التي يظهر فيها أثر للنجاسة دليل على تغير الطاهر بالنجاسة، فإذا كان الماء الذي خلق طهوراً، ومنه تطهر الأعيان النجسة إذا تغير بالنجاسة حكمنا له بالنجاسة، فما بالك بغير الماء، فلا يكون في هذا دليل على أن الاستحالة غير مؤثرة، فإذا أكل الحيوان النجاسة ولم يظهر فيه نتنها نحكم لها بالطهارة؛ لأن النجاسة استحالت واستهلكت في العين الطاهرة، كما حكمنا للماء إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره بأنه طهور. (1717 - 245) ثانياً: روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن ميمون، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬

= وقيل: إنما لا يكره; لأنه لا ينتن كما ينتن الإبل، والحكم متعلق بالنتن; ولهذا قال أصحابنا: في جدي ارتضع بلبن خنزير حتى كبر: إنه لا يكره أكله; لأن لحمه لا يتغير ولا ينتن فهذا يدل على أن الكراهة في الجلالة لمكان التغير والنتن، لا لتناول النجاسة، ولهذا إذا خلطت لا يكره وإن وجد تناول النجاسة; لأنها لا تنتن فدل أن العبرة للنتن، لا لتناول النجاسة. (¬1) قال النووي في المجموع (9/ 30): الصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا اعتبار بالكثرة, وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن، فإن وجد في عرفها وغيره ريح النجاسة فجلالة, وإلا فلا. اهـ وقال البيهقي في الشعب (5/ 19): وما روي عنه من النهي عن الجلالة وما قال فيها أهل العلم من أن المراد بها إذا ظهر ريح القذر في لحمها. اهـ (¬2) المصنف (5/ 148) رقم 24608. (¬3) سبق تخريجه في حكم الجلالة.

الدليل الثاني

وهذا أحسن ما ورد في حبس الجلالة، فهذا دليل على أن الجلالة التي نهي عنها لتناولها النجاسة قد طهرت بالاستحالة، وذلك بحبسها فلما زال أثر النتن عن لحمها أصبحت طاهرة حلالاً بدون غسل النجاسة، وإنما عن طريق الاستحالة أيضاً. الجواب الثالث: قيل: إن النهي للكراهة، وهو ما سبق ترجيحه في الخلاف في حكم الجلالة. الجواب الرابع: قيل: إن تحريم الأكل لا يعني النجاسة، فليس كل محرم نجساً. وهذا الجواب لعله من أضعفها، فإن النهي إنما هو بسبب النجاسة لا غير. الدليل الثاني: (1718 - 246) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بادر إلى صب الماء على النجاسة، ولو كانت الاستحالة تطهره أو تطهره الشمس أو الريح أو الجفاف لتركه عليه الصلاة والسلام، ولما أمر بصب الماء عليه. ¬

(¬1) صحيح البخاري (219)، وصحيح مسلم (284).

الراجح من أقوال أهل العلم

ويجاب عن هذا: بأن حديث الأعرابي مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، نعم فيه دليل على استحباب المبادرة إلى إزالة النجاسة؛ لأن الماء معلوم بأنه أسرع في إزالة النجاسة من الاستحالة؛ لأن الاستحالة ربما احتاجت إلى وقت طويل كي تتحول فيه النجاسة إلى عين طاهرة؛ ولأن بقاع المساجد أحب البقاع إلى الله تعالى، وأطهرها، فيجب أن تكون هذه البقاع أطهر ما يكون وعلى أتم الاستعداد لأداء العبادة فيها بين لحظة وأخرى لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، فالماء هو أسرع وسيلة في تطهير النجاسة وإزالتها، فمن أجل ذلك بادر بصب الماء عليها، وهذا لا يعني عدم زوال النجاسة بالجفاف، والله أعلم. الراجح من أقوال أهل العلم: الراجح أن الاستحالة مؤثرة سواء في انقلاب العين الطاهرة إلى نجسة أو العكس. قال ابن القيم: على هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس؛ فإنها نجاسة لوصف الخبث، فإذا زال الموجِب زال الموجَب، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها، بل وأصل الثواب والعقاب، وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت، وقد نَبَشَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبور المشركين من موضع مسجده، ولم ينقل التراب، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن اللبن أنه يخرج من بين فرث ودم، وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة، ثم حبست وعلفت بالطاهرات حَّلَ لبنها ولحمها، وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس، ثم سقيت بالطاهر

حَلَّت؛ لاستحالة وصف الخبث وتبدله بالطيب، وعكس هذا أن الطيِّب إذا استحال إلى خبيث صار نجساً، كالماء والطعام إذا استحال بولاً وعذرة، فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثاً، ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيباً؟ والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب، ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء في نفسه (¬1). وقال ابن تيمية: ولا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة، فإن نفس النجس لم يطهر بل استحال، وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس، وإن كان مستحيلاً منه، والمادة واحدة، كما أن الماء ليس هو الزرع والهواء والحب، وتراب المقبرة ليس هو الميت، والإنسان ليس هو المني، والله تعالى يخلق أجسام العالم بعضها من بعض، ويحيل بعضها إلى بعض، وهي تبدل مع الحقائق، ليس هذا هذا (¬2). ¬

(¬1) إعلام الموقعين (1/ 445). (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 608 - 612).

الفصل الرابع في كيفية تطهير المائع المتنجس

الفصل الرابع في كيفية تطهير المائع المتنجس المبحث الأول في كيفية تطهير الماء المتنجس اختلف العلماء في كيفية تطهير الماء، وقبل أن أذكر خلافهم ينبغي أن نعلم هل نجاسة الماء نجاسة عينية أو نجاسة حكمية؟ الصحيح أن نجاسة الماء حكمية، فهو كالثوب النجس؛ لأنه يطهر غيره فنفسه من باب أولى، وهذا مذهب الجمهور، كما سيأتي التفصيل عنهم في كيفية تطهير الماء المتنجس، وهو اختيار ابن تيمية (¬1)، وصوبه فى الإنصاف (¬2). وقيل: إن نجاسته نجاسة عينية. قال ابن مفلح فى الفروع: وهو ظاهر كلام الأصحاب، وتعقبه المرداوي في تصحيح الفروع (¬3). وفي قوله: إنها عينيه نظر، لأن الحنابلة قالوا: النجاسة العينية لايمكن تطهيرها، وهذا يمكن تطهيره (¬4). ¬

(¬1) الفروع (1/ 87). (¬2) الإنصاف (1/ 62،63). (¬3) الفروع (1/ 87). (¬4) تصحيح الفروع (1/ 87).

وقيل: نجاسته نجاسة مجاورة سريعة الإزالة، ولهذا يجوز بيعه (¬1). وقد ذهب أهل العلم في عصرنا كالمجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلام إلى تطهير مياه المجاري إذا عولجت بالطرق الحديثة، وزال تغيرها بالنجاسة عن طريق الترشيح والتقطير، وتحولت بذلك إلى مياه عذبة، فلا مانع من استعمالها في الشرب وغيره، وسوف أنقل لكم نص قرار المجمع عند الكلام على كلام أهل العلم في كيفية تطهير المتنجس، وممكن أن نقسم لكم الكلام في تطهير الماء المتنجس إلى فروع. ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 63).

الفرع الأول أن يزول تغير الماء الكثير بنفسه

الفرع الأول أن يزول تغير الماء الكثير بنفسه إذا زال تغير الماء بنفسه فإما أن يكون كثيراً وإما أن يكون قليلاً، على خلاف بين أهل العلم في حد القليل والكثير (¬1). ¬

(¬1) اختلف الحنفية والشافعية في مقدار الماء القليل والماء الكثير، مع اتفاقهم أن الماء القليل ينجس ولو لم يتغير بخلاف الماء الكثير: فمذهب الحنفية في حد الماء القليل هو أن ينظر، فإن كانت النجاسة تخلص إلى الطرف الآخر لم يتوضأ منه، وإن كانت لا تخلص إلى طرفه الآخر توضأ من الطرف الآخر، وكيف نعرف أن النجاسة تخلص إلى الجانب الآخر؟ على أقوال عندهم، أهمها ما يلي: الأول: أن الرد إلى رأي المبتلى به، فإن غلب على ظنه وصول النجاسة إلى الجانب الآخر لم يتوضأ به، وإلا توضأ به، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقد رجحه ابن نجيم في البحر الرائق (1/ 78، 79)، قال: وممن نص على أنه ظاهر المذهب شمس الأئمة السرخسي في المبسوط. وجاء في البناية في التحديد قال:" إن غلب على الظن وصول النجاسة إلى الجانب الآخر فهو نجس، وإن غلب عدم وصولها فهو طاهر "، وقال عنه:" هذا هو الأصح، وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة ". القول الثاني: قالوا: يعتبر الخلوص بالحركة، فإن كان إذا حرك أحد طرفيه تحرك الطرف الآخر تنجس، ولو لم يتغير، وإن كان لا يتحرك الطرف الآخر فلا ينجس إلا بالتغير، واختلفوا في نوع الحركة: فقيل: المعتبر حركة المغتسل، وهذا اختيار أبي يوسف، ومحمد في رواية؛ لأن الغالب في الحياض الاغتسال منها، وأما الوضوء فإنما يكون في البيوت. وقيل: بحركة المتوضئ، وهو مروي عن أبي حنيفة. وقيل: المعتبر حركة اليد من غير وضوء ولا اغتسال. القول الثالث: قدره بالمساحة، على خلاف كثير بينهم، أشهرها عشرة أذرع في عشرة أذرع. =

فإن كان كثيراً وزال تغيره بنفسه، فقيل: إن الماء يتحول إلى طهور، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: إنه نجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬4)، وقول في مذهب ¬

= القول الرابع: قالوا: يوضع في الماء صبغ، فحيثما وصل الصبغ اعتبر وصول النجاسة. ومنهم من اعتبر التكدر. وأما مذهب الشافعية في حد القليل من الكثير، فجعلوا التقدير بالقلتين، فإذا بلغ الماء قلتين فهو كثير، لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان دون القلتين نجس ولو لم يتغير، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وأما المالكية فيقدرون القليل بآنية الوضوء ونحوها. انظر في مذهب الحنفية بدائع الصنائع (1/ 71)، شرح فتح القدير (1/ 79)، البناية (1/ 330 - 334)، المبسوط (1/ 87)، المبسوط للشيباني (1/ 50)، البحر الرائق (1/ 78). وانظر في مذهب الشافعية الأم (1/ 18)، أسنى المطالب (1/ 14)، المهذب (1/ 6). (¬1) الخرشي (1/ 80، 81)، منح الجليل (1/ 42، 43)، حاشية الدسوقي (1/ 46، 47)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 41، 42). (¬2) مغني المحتاج (1/ 22، 23)، روضة الطالبين (1/ 20، 21)، شرح زبد ابن رسلان (ص: 28، 29)، المهذب (1/ 7). (¬3) الإنصاف (1/ 66)، الكافي (1/ 10)، كشاف القناع (1/ 38). (¬4) ومع أن هذا القول من المالكية يحكمون له بالنجاسة إلا أنهم قيدوا الحكم بالنجاسة مع وجود غيره، أما إذا لم يوجد إلا هو فيستعمله بلا كراهة مراعاة للخلاف. وهذا يدل على ضعف القول بنجاسته عندهم؛ لأنهم لو جزموا بالنجاسة لما صح استعماله مطلقاً، سواء وجد غيره أم لم يوجد؛ لأنه إذا لم يوجد إلا ماء نجس صار إلى التيمم، كما هو الحال إذا وجد ماء متغيراً بالنجاسة، ثم إن استعماله وهو نجس عندهم لا يرفع الحدث من جهة، ويلوثهم بالنجاسة من جهة أخرى، ولكن لما كان هذا القول ليس محل الجزم عندهم =

دليل من قال: إن الماء يتحول إلى طهور

الحنابلة (¬1). وقيل: إنه طاهر، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال: إن الماء يتحول إلى طهور: الدليل الأول: قالوا: إن الحكم بالنجاسة إنما هو لأجل التغير بالنجاسة، وقد زالت النجاسة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. الدليل الثاني: إذا كان الخمر إذا تحول بنفسه إلى خل أصبح طاهراً، فكذلك الماء من باب أولى؛ لأن الماء أصلاً خلق طهوراً مطهراً، بخلاف الخمر. دليل من قال: إنه نجس: الدليل الأول: قالوا: الأصل في إزالة النجاسة هو الماء المطلق (الماء الطهور) وهذا ما لم يحصل هنا، فيبقى نجساً، ولو زال تغيره بالنجاسة. الدليل الثاني: إذا زال تغير الماء النجس فإنما طهر عن طريق الاستحالة، والاستحالة عندنا غير مطهرة. ¬

= ذهبوا إلى الجمع بينه وبين التيمم. اهـ (¬1) المغني (1/ 52)، المبدع (1/ 58)، الإنصاف (1/ 66)، الكافي (1/ 10)، كشاف القناع (1/ 38). (¬2) انظر المراجع السابقة.

دليل من قال: يكون الماء طاهرا غير مطهر

وقد سبق بحث مستقل في طهارة الأعيان النجسة بالاستحالة، مع ذكر حجج الفريقين، فارجع إليها غير مأمور. دليل من قال: يكون الماء طاهراً غير مطهر: قالوا: لا يكون مثل هذا الماء طهوراً، وقد زالت به النجاسة، ولا يكون نجساً، وهو ماء كثير غير متغير، قاسوه على الماء القليل إذا كان آخر غسلة زالت بها النجاسة عندهم، فإنه عندهم يكون طاهراً غير مطهر. وقد ترجح في بحث سابق أن الماء قسمان: طهور ونجس، ولا يوجد قسم من المياه يكون طاهراً غير مطهر (¬1). الراجح: أن الماء إذا زال تغيره بنفسه فإنه يكون طاهراً مطهراً، وإنما حكم عليه بالنجاسة لتغيره بها، وقد زال عنه هذا الوصف، فرجع إلى أصله. هذا خلاف أهل العلم في الماء الكثير إذا زال تغيره بنفسه، وهل يختلف الحكم إذا كان الماء المتغير بنفسه قليلاً؟ الجواب: اختلف أهل العلم في الماء النجس القليل إذا زال تغيره بنفسه: فقيل: إذا وقعت في الأواني أو في الحوض الصغير نجاسة، فلهم في تطهير الماء بشرط زوال تغيره إن وجد ثلاثة أقوال: فقيل: إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه طهر، وإن قل إذا كان الخروج حال دخول الماء فيه؛ لأنه بمنزلة الجاري. وقيل: لا يطهر إلا بخروج ما فيه. وقيل: لا يطهر إلا بخروج ثلاثة أمثال ما كان فيه من الماء، وسائر ¬

(¬1) انظر كتابي أحكام الطهارة (مجلد المياه والآنية) من هذه السلسلة.

المائعات كالماء في القلة والكثرة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). تعليل الحنفية: أن الماء النجس إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه، وكان خروج الماء حال دخول الماء الجديد فيه؛ أصبح بمنزلة الماء الجاري، والماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير. وقيل: إنه لا يمكن أن يطهر بنفسه، وهو قليل، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). لأن الماء القليل عند الشافعية والحنابلة ينجس مطلقاً إذا لاقى النجاسة ولو لم يتغير، فزوال النجاسة إنما هو شرط في تطهير الماء الكثير، وأما الماء القليل فإنه ينجس بمجرد ملاقاته للنجاسة. ويستدلون بأدلة أشهرها: (1719 - 247) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة ¬

(¬1) تبيين الحقائق (1/ 23)، بدائع الصنائع (1/ 87)، شرح فتح القدير (1/ 81). (¬2) الخرشي (1/ 80، 81)، منح الجليل (1/ 42، 43)، حاشية الدسوقي (1/ 46، 47)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 41، 42). (¬3) المجموع (1/ 183 - 191)، الحاوي (1/ 339)، مغني المحتاج (1/ 22، 23)، روضة الطالبين (1/ 20، 21)، شرح زبد ابن رسلان (ص: 1/ 28، 29)، المهذب (1/ 7). (¬4) الإنصاف (1/ 66)، الكافي (1/ 10)، كشاف القناع (1/ 38)، المغني (1/ 52)، المبدع (1/ 58).

وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1). [إسناده صحيح إن شاء الله] (¬2). وجه الاستدلال بالحديث من وجهين: الوجه الأول: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، مفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث. الوجه الثاني: لو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس، ولو كان مائة قلة. الدليل الثاني: (1720 - 148) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. ولمسلم: ثم يغتسل منه (¬3). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن البول في الماء الدائم، وقد يتغير، وقد لا يتغير، ونهيه عن الاغتسال فيه دليل على أنه يؤثر فيه البول، ولم يشترط الرسول - صلى الله عليه وسلم - التغير. ¬

(¬1) المصنف (1/ 133) رقم 1526. (¬2) سبق تخريجه انظر حديث (88) من كتابي: أحكام الطهارة (المياه والآنية). (¬3) البخاري (239)، ومسلم (239).

الدليل الثالث: (1721 - 249) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب. (1722 - 250) ورواه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، وجعله طهارة لهذا الإناء، كما أمر بإراقة سؤره، ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير، وهذا دليل على أن النجاسة تؤثر في الماء ولو لم يتغير الماء. وإذا كان الماء القليل يحكم له بالنجاسة ولو لم يتغير لم يكن زوال تغيره بنفسه مؤثراً في طهارته. والصحيح أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وقد سبق الكلام على هذه المسألة في بحث مستقل، وذكرت أدلة الأقوال في كتاب أحكام الطهارة، فأغنى عن إعادته هنا. ¬

(¬1) صحيح مسلم (279).

الفرع الثاني أن يزول تغير الماء بإضافة ماء آخر عليه

الفرع الثاني أن يزول تغير الماء بإضافة ماء آخر عليه إذا زال تغير الماء النجس بإضافة ماء آخر، فهل يطهر؟ اختلف العلماء في ذلك، القول الأول: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى أن الماء يطهر مطلقاً بإضافة ماء آخر عليه، ولا يشترط أن يكون الماء المضاف قلتين، وإنما يشترط أن يزول تغيره بنفسه، وأن يكون الماء المضاف ماء مطلقاً: أي ليس ماء نجساً، ولا ماء طاهراً غير مطهر. وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثاني: مذهب الشافعية: قالوا: إن كان الماء قلتين فأكثر فإنه يطهر بإضافة ماء آخر عليه، سواء كان المضاف طاهراً أم نجساً، قليلاً أم كثيراً، صب عليه الماء أو نبع فيه، فإذا زال تغيره طهر. وإن كان الماء دون القلتين فيكون تطهيره بأن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه حتى يبلغ قلتين، حتى ولو كان المضاف نجساً، ما دام أنه إذا بلغ الماء قلتين فقد زال تغيره، فإنه يطهر. وأما إذا أضيف إليه ماء دون القلتين، ففيه وجهان عندهم: الأول: يكون طاهراً غير مطهر. ¬

(¬1) الخرشي (1/ 80، 81)، منح الجليل (1/ 42، 43)، حاشية الدسوقي (1/ 46، 47)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 41، 42).

القول الثالث: مذهب الحنابلة

لماذا كان طاهراً، وقد لاقى النجاسة، وهو قليل؟ قالوا: لأن الماء القليل إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، أما إذا ورد الماء على النجاسة كما هو الحال هنا فلا ينجس. ولماذا إذاً لا يكون طهوراً؟ قالوا: لأنه ماء استعمل فى إزالة النجاسة. الوجه الثاني: قالوا لا يطهر، لأنه ماء استعمل في إزالة النجاسة، فيبقى نجساً (¬1). القول الثالث: مذهب الحنابلة. أن يكون الماء دون القلتين، وفي هذه الحال إما أن تكون نجاسته بالتغير، أو بالملاقاة ولو لم يتغير. فيشترط لتطهير الماء المتنجس بالملاقاة شرط واحد، هو أن تضيف إليه قلتين من الماء الطهور، وبالتالي يصبح طهوراً فإن أضفت إليه دون القلتين لم يطهر. التعليل: لأن الماء القليل لا يدفع النجاسة عن نفسه، فكيف يدفعها عن غيره؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فى حديث ابن عمر: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬2). لوقال قائل: لنفرض أن الماء المتنجس بالملاقاة قلة واحدة، فأضفت إليها قلة أخرى، حتى أصبح الماء قلتين، فهل يطهر؟. أكثر الأصحاب على أنه لا يطهر، وهو المشهور من المذهب، وحكى بعضهم وجهاً بالتطهير، وصوبه صاحب الإنصاف. ¬

(¬1) مغني المحتاج (1/ 22، 23)، روضة الطالبين (1/ 20، 21)، شرح زبد ابن رسلان (ص: 1/ 28، 29)، المهذب (1/ 7). (¬2) سبق الكلام عليه، وأنه حديث صحيح.

وإن كانت نجاسة الماء القليل أو الكثير بالتغير ففي هذه الحالة تضيف إليه قلتين من الماء الطهور، ثم تنظر هل زال التغير أم بقي؟ فإن زال فقد طهر، وإن لم يزل فإنك تضيف إليه حتى يذهب تغيره. أما إذا أضفت إليه دون القلتين فإن الماء يكون نجساً، حتى ولو زال تغيره، وهذا هو المذهب. وقيل: إنه يكون طهوراً حتى على قواعد المذهب، أو القائلين بالنجاسة ولو لم يتغير، قالوا: لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا كانت واردة عليه وهنا قد ورد الماء على النجاسة. ولو قلنا بنجاسة الماء هنا لقلنا بنجاسة الماء إذا صب على ثوب نجس، إلا أن يكون قلتين، ولما كان الدلو مطهراً لبول الأعرابي، لأنه بالتأكيد ليس قلتين ولا حتى قلة، بل إن هذا أولى من تطهير الخمر القليل الذي استحال إلى خل فطهر. وهذه الطريقة في تطهير الماء عند الحنابلة رحمهم الله إذا كان تنجيس الماء بالتغير، سواء كان قليلاً أم كثيراً، ما لم تكن النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة، فإن كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة وكانت النجاسة لم تغير الماء، وكان لا يشق نزحه، فإن تطهيره بإضافة ما يشق نزحه، فيطهر بذلك. وإن كانت نجاسة الماء بالتغير، فإنه يضيف إليه ما يشق نزحه، بشرط زوال التغير، فإن زالت فقد طهر، وإلا فيضيف إليه حتى يزول أثر النجاسة (¬1). ¬

(¬1) الإنصاف (1/ 66)، الكافي (1/ 10)، كشاف القناع (1/ 38).

وهذا التفريق بين نجاسة بول الآدمي وعذرته المائعة، وبين غيرها من النجاسات من المسائل التي انفرد بها المذهب الحنبلي. تلخص لنا مما سبق: أن التطهير بالإضافة عند العلماء يشترط له شروط: الأول: أن يكون الماء المضاف طهوراً، وهذا شرط عند المالكية، والحنابلة، وليس بشرط عند الشافعية، إذ لا مانع أن تضيف عندهم ماء نجساً إذا كان بإضافته سوف يزول تغير الماء بالنجاسة. الثاني: أن يكون المضاف كثيراً - قلتان فأكثر - وهذا شرط للحنابلة، وليس بشرط عند المالكية، والشافعية. الثالث: أن يبلغ الماء قلتين بعد الإضافة، وليس بشرط عند المالكية، وأما الحنابلة فلا يكفي هذا عندهم؛ لأنهم يشترطون أن يكون المضاف نفسه قلتين. والراجح أن الماء إذا زال تغيره بإضافة ماء عليه طهر، سواء كان المضاف قليلاً أم كثيراً، وسواء كان طهوراً أم نجساً، ما دام أنه قد زال تغيره بعد الإضافة، لأن الحكم عليه بالنجاسة إنما كان من أجل تغيره بالنجاسة، وقد زال، فيرجع إلى أصله، وهو أن الماء طهور. وقد ذكرنا أن المجمع الفقهي الإسلامي رجح طهارة مياه المجاري إذا عولجت وذهب تغيرها بالنجاسة، وهذا أوان الوفاء بما وعدنا به من نقل نص القرار، يقول القرار: صدر قرار من مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة، المنعقدة في مكة المكرمة يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ منه: " وبعد مراجعة المختصين بالتنقية بالطرق الكيماوية وما قرروه من أن التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل: وهي الترسيب

والتهوية وقتل الجراثيم وتعقيمه بالكلور، بحيث لا يبقى للنجاسة أثر في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون عدول موثوق بصدقهم وأمانتهم، قرر المجمع ما يأتي: أن ماء المجاري إذا نقي بالطرق المذكورة أو ما يماثلها ولم يبق للنجاسة أثر في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه، صار طهوراً، يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به، بناء على القاعدة الفقهية التي تقرر أن الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه إذا لم يبق لها أثر فيه، والله أعلم. اهـ

الفرع الثالث أن يزول تغير الماء النجس بإضافة تراب أو طين

الفرع الثالث أن يزول تغير الماء النجس بإضافة تراب أو طين اختلف العلماء في حكم الماء النجس يضاف إليه التراب أو الطين فيزول تغيره، هل يطهر بذلك؟ فقيل: يطهر بشرط أن لا يتغير الماء بالتراب والطين، وهذا مذهب المالكية (¬1)، وعليه أكثر الشافعية (¬2). وقيل: إذا زالت النجاسة طهر مطلقاً، سواء كان الماء كدراً بما ألقي فيه، أو كان صافياً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3)، واختاره ابن عقيل من الحنابلة (¬4). وقيل: لا يطهر مطلقاً، أي سواء تكدر بما ألقي فيه أم لا، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). دليل من قال: إن الماء يطهر بإضافة التراب مطلقاً: الدليل الأول: قال: إن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وإذا كنا حكمنا له ¬

(¬1) الخرشي (1/ 80، 81)، منح الجليل (1/ 42، 43)، حاشية الدسوقي (1/ 46، 47)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 41، 42). (¬2) مغني المحتاج (1/ 22، 23)، روضة الطالبين (1/ 20، 21)، شرح زبد ابن رسلان (ص: 1/ 28، 29)، المهذب (1/ 7). (¬3) روضة الطالبين (1/ 20، 21). (¬4) الإنصاف (1/ 66). (¬5) الإنصاف (1/ 66)، المبدع (1/ 58)، المغني (1/ 52).

الدليل الثاني

بالنجاسة لأنه متغير بها، فنحكم له بالطهارة إذا زالت هذه النجاسة. الدليل الثاني: إن النجاسة تزال بأي مزيل كان، سواء عن طريق إضافة ماء أو نزحه أو إضافة تراب أو غيره، ولا يتعين الماء لإزالة النجاسة، وقد قدمنا قرار مجمع الفقه الإسلامي أن المعالجة الكيمائية عن طريق التقطير والترشيح والتعقيم مطهر للماء النجس إذا زال تغيره بالنجاسة. الدليل الثالث: أن التراب أحد الطهورين، فهو يطهر النعل كما تقدم، ويطهر ذيل المرأة، ويطهر الأواني من ولوغ الكلاب بإضافته إلى الماء، ويطهر التراب أيضاً مكان البول والغائط، بل إن التراب خاصة يرفع الحدث عند فقد الماء، كما يرفع الخبث، فإذا زال تغير الماء النجس بسبب التراب فقد طهر. ولا يخفى قوة هذا التعليل في تطهير التراب للنجاسة الواقعة في الماء وغيره. دليل من قال: إن التراب لا يطهر مطلقاً: هذا القول يرى أن النجاسة لا تزال إلا بالماء المطلق، وقد تقدمت أدلته كاملة والجواب عنها في بحث: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة، وترجح هناك أن النجاسة تزال بأي مزيل كان. دليل من اشترط أن لا يتكدر الماء بالتراب: قالوا: مع تكدر الماء بالتراب لا نستطيع أن نجزم بأن النجاسة قد زالت، فقد تكون اختفت بسبب التكدر، ولو كان الماء صافياً لأمكن الجزم ببقاء

الراجح من الأقوال

النجاسة أو زوالها، وما دام أننا لا نستطيع أن نجزم بذهاب النجاسة، فالأصل بقاء النجاسة، استصحاباً للحال، والله أعلم. الراجح من الأقوال: هو القول بأن إضافة التراب تطهر مطلقاً بشرط زوال النجاسة، وكما عُلِلَ سابقاً: بأن بقاء النجاسة سبب في الحكم للماء بالنجاسة، وذهابها بأي طريقة كانت سبب بالحكم له بالطهارة، وأن النجاسة تزال بأي مزيل كان، والله أعلم.

الفرع الرابع أن يزول تغير الماء النجس عن طريق النزح

الفرع الرابع أن يزول تغير الماء النجس عن طريق النزح اختلف العلماء في تطهير الماء عن طريق نزح النجاسة أو نزح بعض الماء حتى يزول التغير، فهل مثل هذا النزح يطهر الماء أو لا؟. فالحنفية يفرقون بين هذه المسألة وبين المسائل التي قبلها، وذلك لأن النزح غالباً ما يكون لماء البئر، ومسائل البئر عندهم على خلاف القياس، بينما الجمهور يطردون قواعدهم السابقة بين الماء الكثير والماء القليل، وحين كان التفصيل في مذهب الحنفية متشعباً أحببت أن أفصل كل مذهب وأدلته قبل الانتقال إلى القول الثاني، وهكذا. القول الأول: مذهب الحنفية: يختلف الحكم عند الحنفية باختلاف البئر، وباختلاف حجم الحيوان، وهل أخرج الحيوان من البئر ميتاً أو حياً، فيمكن لنا نقسيم البئر إلى ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون البئر ليس معيناً - أي ليس في داخلها عين تنبع - والحيوان قد مات في البئر أو وقع فيه ميتاً، وكان الحيوان لم ينتفخ ولم يتفسخ، فالحكم على النحو التالي: الأول: أن يكون الحيوان بحجم الفأرة والعصفور، فينزح منه عشرون دلواً. ويستدلون لذلك بما يروى عن أنس أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر، وأخرجت من ساعتها ينزح منها عشرون دلواً. [ولم أقف عليه] (¬1). ¬

(¬1) نقله الزيلعي في نصب الراية (1/ 128)، وقال: قال شيخنا علاء الدين: رواه الطحاوي من طرق، قال الزيلعي: ولم أجده في شرح معاني الآثار للطحاوي.

الثاني: - أن يكون الحيوان بحجم الدجاجة والسنور، فينزح منها أربعون دلواً إلى خمسين. (1723 - 251) ويستدلون لذلك بما يروى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: في الدجاجة إذا ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلواً. [ولم أقف عليه] (¬1). الثالث: أن تكون النجاسة بحجم الشاة، أو تكون آدمياً، أو كلباً، فإنه ينزح ماء البئر كله. ويستدلون بأدلة منها: (1724 - 252) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء أن حبشياً وقع في زمزم، فمات، قال: فأمر ابن الزبير أن ينزف ماء زمزم، قال: فجعل الماء لا ينقطع، قال: فنظروا فإذا عين تنبع من قبل الحجر الأسود، قال: فقال ابن الزبير: حسبكم (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). الدليل الثالث: (1725 - 253) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، ¬

(¬1) نقله الزيلعي في نصب الراية (1/ 128)، وقال مثل ما قال عن أثر أنس، قال: قال شيخنا علاء الدين: رواه الطحاوي من طرق، قال الزيلعي: ولم أجده في شرح معاني الآثار للطحاوي. (¬2) المصنف (1/ 150) رقم: 1721. (¬3) سبق تخريجه في حكم ميتة الآدمي.

عن ابن عباس أن زنجياً وقع في ماء زمزم، فأنزل إليه رجلاً فأخرجه، ثم قال: انزفوا ما فيها من ماء، ثم قال للذي في البئر: ضع دلوك من قبل العين التي تلي البيت أو الركن؛ فإنها من عيون الجنة (¬1). [قتادة لم يسمع من ابن عباس] (¬2). الدليل الرابع: (1726 - 254) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق جابر، عن أبي الطفيل، قال: وقع غلام في ماء زمزم، فنزفت أي نزح ماؤها (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). الحالة الثانية: أن يكون البئر ليس مَعِيناً، والنجاسة لا جرم لها، كالبول وكالدابة تتفسخ بعد سقوطها، فهذا يجب نزح البئر كله. الحالة الثالثة: أن يخرج الحيوان حياً، وليس ميتاً، فينظر: فإن كان الحيوان خنزيراً فإن البئر تنزح كلها قولاً واحداً في مذهب الحنفية. ¬

(¬1) المصنف (1/ 150) رقم: 1722. (¬2) سبق تخريجه في حكم ميتة الآدمي. (¬3) شرح معاني الآثار (1/ 17). (¬4) سبق تخريجه في حكم ميتة الآدمي.

وإن كان الحيوان كلباً، ففيه خلاف مبني على اختلافهم في نجاسة عين الكلب، وقد تقدم تحرير مذهبهم. وإن كان الحيوان غيرهما، فإن النزح يتوقف على حكم سؤره، فإن كان سؤره نجساً كالسباع، فإن البئر تنزح كلها، وإن كان سؤره مكروهاً استحب النزح، ويلحق به ما كان سؤره مشكوكاً فيه. على خلاف بينهم في القدر المستحب نزحه، فمن قائل باستحباب نزح البئر كلها، ومنهم من قدره بعدد من الدلاء. وأما الحيوانات التي سؤرها ليس بنجس، فإن كان عليها نجاسة حقيقية نزح البئر كله، وأما إن كان الحيوان ليس بنجس فلا ينزح البئر، إلا أنه يستحب أن ينزح من وقوع البقر والغنم؛ لعدم خلو أفخاذها وأرجلها من النجاسة. الحالة الرابعة: أن يكون البئر معيناً، كلما نزح منها دلو جاء مكانه آخر، فإذا وقعت فيه نجاسة فقد اختلفوا في مقدار ما ينزح منه، فقيل: ينزح منها مائتا دلو، وهو رواية عن محمد بن الحسن. وقيل: ينزح منها مائة دلو، وهو رواية عن أبي حنيفة. وقيل: ينزح منها حتى يغلبهم الماء، ولم يقدِّر حداً للغلبة. وأجيب عن هذا بعدة أجوبة. الجواب الأول: هناك من يضعف قصة وقوع الزنجي في بئر زمزم، وإلى هذا ذهب الشافعي وسفيان بن عيينة رحمه الله والنووي وغيرهم.

فقد روى البيهقي بإسناده عن سفيان قوله: أنا بمكة منذ سبعين سنة، لم أر أحداً صغيراً ولا كبيراً يعرف حديث الزنجي الذي قالوا: إنه مات في زمزم، وما سمعت أحداً يقول: ينزح زمزم (¬1). قال النووي: فهذا سفيان كبير أهل مكة، قد لقي خلائق من أصحاب ابن عباس وسمعهم , فكيف يتوهم بعد هذا صحة هذه القضية التي من شأنها إذا وقعت أن تشيع في الناس لا سيما أهل مكة، ولا سيما أصحاب ابن عباس وحاضروها؟ وكيف يصل هذا إلى أهل الكوفة ويجهله أهل مكة؟ (¬2). وقال أيضاً: إن هذا الذي زعموه باطل لا أصل له , قال الشافعي: لقيت جماعة من شيوخ مكة فسألتهم عن هذا، فقالوا: ما سمعنا هذا (¬3). ورد هذا الاعتراض: بأنه لا يلزم من عدم سماع سفيان لهذا الخبر عدم وقوعه، ثم إن الرواي مثبت، وسفيان نافٍ، والمثبت مقدَّم على النافي، خاصة إذا كان النافي لم يشهد الأمر الذي نفاه، ولم يعاصره، ولا يشترط لقبول الحديث أن يكون راويه من أهل مكة، وقد انتشر الصحابة في الأمصار، فما يبعد أن ينفرد أهل الكوفة أو غيرهم عن مدني أو مكي، والله أعلم. الجواب الثاني: هذه الآثار إن صحت فهي موقوفة على صحابي، وفعل الصحابي حجة إذا لم يخالف المرفوع، وهنا قد خالف السنة المرفوعة، ¬

(¬1) المعرفة (1/ 95). (¬2) المجموع (1/ 167). (¬3) المجموع (1/ 167).

(1727 - 255) فقد روى أحمد، قال: حدثنا أبو أسامة، حدثنا الوليد ابن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله - وقال أبو أسامة مرة: عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج - عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب؟ قال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء (¬1). [حديث صحيح بشواهده] (¬2) (1728 - 256) وروى أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء لا ينجسه شيء " (¬3). [سبق تخريجه] (¬4). الجواب الثالث: أن فعل ابن عباس بالأمر بنزح البئر على التسليم بصحته عنه معارض بما صح عن ابن عباس نفسه، (1729 - 257) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً (¬5). ¬

(¬1) المسند (3/ 31). (¬2) انظر حديث رقم (8) من كتاب أحكام الطهارة. (¬3) المسند (1/ 308). (¬4) انظر الحديث رقم (8) من كتاب أحكام الطهارة. (¬5) المصنف (2/ 469)، وسبق تخريجه، انظر في أحكام الميتة: حكم ميتة الآدمي.

وهذا نص صريح بأن الموت لا ينجس المؤمن، وإذا كان كذلك لم يكن سقوطه في البئر سبباً في تنجيس البئر. الجواب الرابع: ربما نزح البئر لسبب آخر غير وقوع الجثة في البئر، فإنه يبعد أن يسقط أحد في بئر ويسلم من الجروح، فقد يكون دمه غلب على الماء، فغير لون الماء وطعمه، ومعلوم أن الدم يحرم شربه، فنزحت من أجل ذلك. (1730 - 258) ويؤيد ذلك ما رواه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬1). فإذا كان هذا في الفأرة الميتة وهي بلا شك نجسة، وفي إناء السمن، وهو إناء صغير ليس كالبئر، والسمن ليس كالماء في دفعه للنجاسة، ومع ذلك لم ينجس السمن كله، فما بالك بالبئر والذي غالباً ما يكون الماء فيه كثيراً، ومع الآدمي وهو على الصحيح عين طاهرة. الجواب الخامس: أنكم تقولون بنزح البئر مطلقاً، تغير الماء أو لم يتغير، مع أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فهو ماء طهور بالإجماع، فما الحاجة إلى نزحه، وبئر زمزم من الماء الكثير، وليس من الماء القليل. وقد نقل الحنفية عن محمد قوله: " اجتمع رأيي ورأي أبي يوسف أن ماء البئر في حكم الماء الجاري؛ لأنه ينبع من أسفله، ويؤخذ من أعلاه، فلا ينجس ¬

(¬1) صحيح البخاري (235).

القول الثاني: مذهب المالكية في التطهير بالنزح

بوقوع النجاسة فيه، كحوض الحمام إذا كان يصب فيه من جانب، ويغترف فيه من جانب آخر فإنه لا ينجس بإدخال اليد النجسة فيه، ثم قلنا: وما علينا لو أمرنا بنزح بعض الدلاء، ولا نخالف السلف؟ فتركنا القياس الظاهر بالخبر والأثر " (¬1). فيقال: هل تركتم قول ابن عباس لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بئر بضاعة، وما دمتم أنكم قد صرحتم بأن قولكم هذا خلاف القياس، فهل يوجد في الشرع شيء خلاف القياس، أو أن أحكام الشريعة مطردة منتظمة، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وقد تركت أقوالاً وتفريعات وتفاصيل لا طائل من ذكرها، وهي أقوال مرجوحة، وأخشى أن نفسد على القارئ فهمه لهذه الأقوال مع تداخلها، وكثرة تفريعاتها، وهي أقوال ضعيفة جداً مخالفة للسنة المرفوعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أسلفنا، والله أعلم. القول الثاني: مذهب المالكية في التطهير بالنزح: في المذهب المالكي قولان في الماء إذا زال تغيره بالنزح، فقيل: يعود طهوراً؛ وإنما زال حكم النجاسة لزوال عينها. وقيل: يستمر نجساً، ووجهه: أن النجاسة لا تزال إلا بالماء المطلق (¬2). ¬

(¬1) البناية على الهداية (1/ 408 - 410)، تبيين الحقائق (1/ 30)، بدائع الصنائع (1/ 74 - 75)، البحر الرائق (1/ 117). (¬2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (1/ 46) وقال ابن جزي في قوانينه (ص: 28): وإذا وقعت دابة نجسة في بئر، وغيرت الماء، وجب نزح جميعه، فإن لم تغيره استحب أن ينزح =

القول الثالث: مذهب الشافعية والحنابلة

القول الثالث: مذهب الشافعية والحنابلة: أن الماء إذا نزح منه وزالت النجاسة وبقي بعد النزح قلتين فأكثر غير متغير فإنه يطهر، ولم يشترطوا مقداراً للنزح، وإنما ينزح منه حتى يزول تغيره بالنجاسة، ويبقى بعد النزح ماء كثير. فإن بقي بعد النزح ماء قليل دون القلتين لم يطهر بالنزح، لأن الماء القليل عندهم ينجس ولو لم يتغير، وقد سبق ذكر أدلة هذه المسألة في الماء الراكد تقع فيه نجاسة ولم تغيره (¬1). ويضيف المتقدمون من الحنابلة تفصيلاً آخر، وهو إن كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة فلا بد أن يبقى بعد النزح ماء يشق نزحه، وهو غير متغير بالنجاسة، وأما المتأخرون من الحنابلة فلا يفرقون بين نجاسة بول الآدمي وعذرته المائعة، وبين غيرها من النجاسات. الراجح من أقوال أهل العلم: الراجح أن الماء ينجس بالتغير ويطهر بزوال ذلك، فإذا زالت النجاسة، فلم يبق لها أثر من طعم أو لون أو رائحة فقد طهر الماء، والله أعلم. ¬

= منه بقدر الدابة والماء. (¬1) تكلمنا على هذه المسألة في كتاب أحكام الطهارة (المياه والآنية) (ص: 339).

المبحث الثاني في تطهير المائعات سوى الماء

المبحث الثاني في تطهير المائعات سوى الماء إذا وقعت نجاسة في شيء جامد فإنه يكفي في تطهيره أن يلقي النجاسة وما حولها، ويكون الباقي طاهراً لعدم تعدي النجاسة إلى باقيه. وأما إذا وقعت نجاسة في مائع غير الماء كالزيت والخل واللبن، فمتى نحكم له بالنجاسة؟ وهل يمكن تطهيره؟ اختلف الفقهاء في ذلك، فقيل: إذا خالطت النجاسة مائعاً غير الماء فإنه يتنجس بملاقاة النجاسة، من غير فرق بين القليل والكثير، وبين المتغير وغير المتغير، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬

(¬1) الفتاوى الهندية (1/ 45)، وأحكام القرآن للجصاص (1/ 166،167)، المبسوط (10/ 198). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 59)، وقال ابن عبد البر في الكافي (ص: 189): ولا تطهر الأدهان النجسة بغسلها، وهذا تحصيل مذهب مالك وطائفة من المدنيين. اهـ وانظر التمهيد (9/ 46)، مواهب الجليل (1/ 110 - 114)، التاج والإكليل (1/ 113)، الفواكه الدواني (1/ 388). (¬3) قال النووي في المجموع (2/ 620): إذا نجس الزيت والسمن والشيرج وسائر الأدهان، فهل يمكن تطهيره؟ فيه وجهان مشهوران، وقد ذكرهما المصنف في باب ما يجوز بيعه أصحهما عند الأكثرين: لا يطهر بالغسل ولا بغيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الفأرة تقع في السمن: إن كان مائعاً فلا تقربوه. ولم يقل اغسلوه، ولو جاز الغسل لبينه لهم، وقياساً على الدبس والخل وغيرهما من المائعات إذا تنجست، فإنه لا طريق إلى تطهيرها بلا خلاف. والثاني: يطهر بالغسل. وانظر المجموع أيضاً (9/ 40)، وحاشية البجيرمي (1/ 26)، روضة الطالبين (3/ 349)، منهاج الطالبين (1/ 6). (¬4) الإنصاف (1/ 321)، كشاف القناع (1/ 188)، المبدع (1/ 243).

وقيل: حكمه حكم الماء، لا تنجس منه القلتان فما فوق إلا بالتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة. وقيل: بالتفرقة بين المائع المائي كالخل ونحوه، وغيره، فالمائع الذي يشبه الماء حكمه حكم الماء، وغير الماء كالزيوت والأدهان فتنجس بملاقاة النجاسة، قل أو كثر، تغير أم لم يتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: المائعات إذا وقعت فيها نجاسة لا تنجس إلا إذا تغير طعمها أو لونها أو ريحها بسبب النجاسة، إلا السمن الذائب تقع فيه الفأرة، فإنه يتنجس مطلقاً، سواء ماتت فيه، أو خرجت وهي حية، وهذا اختيار ابن حزم (¬2). هذه الأقوال في حكم المائع إذا خالطته نجاسة، وأما خلافهم في إمكان تطهير ذلك المائع الذي وقعت فيه نجاسة، فقيل: إنه يمكن تطهير جميع المائعات إذا وقعت فيها نجاسة، وهو مذهب الحنفية (¬3)، واختاره ابن القاسم وابن العربي من المالكية (¬4)، وابن سريج من الشافعية (¬5). وقيل: لا يطهر البتة، وهو مذهب الجمهور من المالكية (¬6)، والشافعية (¬7)، ¬

(¬1) المغني (1/ 33)، الإنصاف (1/ 67)، المبدع (1/ 56)،. (¬2) المحلى (1/ 142). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 3)، الفتاوى الهندية (1/ 42). (¬4) عارضة الأحوذي (7/ 302)، الذخيرة (1/ 185)، الجامع لأحكام القرآن (2/ 219 - 220). (¬5) المجموع (2/ 620). (¬6) مواهب الجليل (1/ 113 - 115)، الخرشي (1/ 95 - 96)، الجامع لأحكام القرآن (2/ 219). (¬7) روضة الطالبين (1/ 29)، المجموع (2/ 620).

دليل من قال: إن المائع إذا وقعت فيه نجاسة لا يمكن تطهيره

والحنابلة (¬1). وقيل: يمكن تطهير الزيت، ولا يمكن تطهير غيره من المائعات، وذلك لأن الماء لا يخالط الزيت، بخلاف غيره، وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). دليل من قال: إن المائع إذا وقعت فيه نجاسة لا يمكن تطهيره: (1731 - 259) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا معمر، أنا ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن، فماتت قال: إن كان جامداً فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي، وإن كان مائعاً فلا تأكلوه (¬4). وجه الاستدلال: لو كان يمكن تطهيره لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما أمر بإراقته، ولم يفرق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحكم بين القليل والكثير، ولم يستفصل هل تغير أم لم يتغير، فدل على أنه لا فرق. وأجيب: أولاً: الحديث أخطأ فيه معمر سنداً ومتناً (¬5). ¬

(¬1) المبدع (1/ 323 - 324)، الإنصاف (1/ 321). (¬2) مواهب الجليل (1/ 113،114). (¬3) الإنصاف (1/ 321)، المبدع (1/ 323). (¬4) المسند (2/ 232). (¬5) الحديث اختلف فيه على الزهري: =

ثانياً: أن ابن عباس لا يفرق بين السمن الجامد والمائع، قال الحافظ ابن حجر: قد أخرج أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن عمارة ابن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس، سئل عن فأرة ماتت في سمن؟ قال: تؤخذ الفأرة وما حولها، فقلت: إن أثرها كان في السمن كله، قال: إنما كانت وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت. ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه أحمد من وجه آخر، وقال فيه: عن جَرِّ فيه ¬

_ = فرواه معمر بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فخالف في إسناده ومتنه، أما المتن فقد انفرد بقوله: " وإن كان مائعاً فلا تأكلوه " وأما المخالفة في الإسناد فجعل الحديث من مسند أبي هريرة، وهو من مسند ميمونة، فقد رواه عن الزهري سفيان بن عيينة ومالك بن أنس، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن إسحاق، بل ومعمر بن راشد أيضاً رووه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة مرفوعاً وقد خرجت كل هذه الطرق وغيرها في كتابي: أحكام الطهارة (المياه والآنية) رقم 96. فراجعها هنالك بارك الله فيك. وقد قال الترمذي عن رواية معمر: هو حديث غير محفوظ. قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: هذا خطأ، أخطأ فيه معمر، قال: والصحيح حديث الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. سنن الترمذي (1798). وقال البخاري أيضاً: حديث معمر عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، وهم فيه معمر، ليس له أصل. ترتيب العلل الكبير للترمذي (2/ 758). وقال أبو حاتم في العلل لابنه عن رواية معمر بأنها وهم. انظر العلل (2/ 12) رقم 1507. كما ضعف رواية معمر ابن تيمية في مجموع الفتاوى في أكثر من موضع، انظر مجموع الفتاوى (21/ 490، 492، 497) وأطال ابن القيم في تعليل رواية معمر في تهذيب السنن (5/ 336 - 337)، والله أعلم.

زيت، وقع فيه جرذ، وفيه: أليس جال في الجَرِّ كله؟ قال: وإنما جال وفيه الروح، ثم استقر حيث مات. اهـ (¬1). (1732 - 260) ثالثاً: أن البخاري قد روى في صحيحه، قال: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها، قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل. فهذا الزهري الذي مدار الحديث عليه، قد أفتى في المائع والجامد بأن تلقى الفأرة، وما قرب منها، ويؤكل، فلو كان عنده هذا التفصيل الذي رواه معمر لكان أفتى به. ولا يقال: ربما نسي ما روى؛ لأن الزهري كان من أحفظ الناس في عصره، فاحتمال نسيانه بعيد (¬2). الدليل الثاني: من النظر، قالوا: إن المائعات سوى الماء لا تدفع النجاسة عن غيرها، فلا تدفعها عن نفسها، بخلاف الماء الذي يدفع النجاسة عن غيره، فيدفعها أيضاً عن نفسه. وقد سبق لنا في النجاسة أنها تزال بأي مزيل قالع للنجاسة، فلا مانع أن ¬

(¬1) فتح الباري (9/ 669)، وهذا الذي عزاه الحافظ لأحمد لم أقف عليه في مسند أحمد، لكن عزاهما ابن تيمية إلى مسائل أحمد رواية ابنه صالح، كما في مجموع الفتاوى (21/ 497)، ولم أقف عليه في مسائل صالح المطبوع، والله أعلم، فلعله اختلاف نسخ. (¬2) صحيح البخاري (5539).

دليل من قال: يمكن تطهيره

تزال النجاسة بالخل مثلاً أو بغيره من السوائل المزيلة للنجاسة. الدليل الثالث: أن النجاسة إذا وقعت في الجامد فإنها تجاور موضعاً واحداً، وهو الجزء الذي وقعت فيه النجاسة، بخلاف المائع، فإنها تجاوره كله، إذ تنتقل من مكان إلى آخر، فيتنجس بها. دليل من قال: يمكن تطهيره: (1733 - 261) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابهم جواباً عاماً مطلقاً، بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم هل كان مائعاً أو جامداً، وترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، مع أن الغالب في سمن الحجاز أن يكون ذائباً لشدة الحرارة، والغالب على السمن أنه لا يبلغ قلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أم كثيراً. الدليل الثاني: الفرق بين المائع النجس والمائع الطاهر صفات جعلت هذا نجساً، وهذا طاهراً، فإذا لم يظهر في المائع أثر النجاسة لا في اللون، ولا في الطعم، ولا في ¬

(¬1) صحيح البخاري (235).

الراجح من الخلاف

الرائحة، فكيف نحكم عليه بأنه نجس؟ وما الفرق إذاً بينه وبين المائع الطاهر. الدليل الثالث: أن في تنجيس المائعات حرجاً ومشقة، فهنالك القناطير المقنطرة من الدهون التي تكون في معاصر الزيتون وغيرها، ففي تنجيسها بوقوع قليل النجاسة فيها حرج شديد. وأما طرق تطهير المائعات النجسة كالدهن مثلاً فمنها الطريقة النبوية التي أرشد إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك بأن تلقى النجاسة وما حولها، وينتفع بالباقي. ومنها طرق أخرى يذكرها بعض الفقهاء: فعند الحنفية يطهر بما يطهر به الماء، وقد ذكرنا مذهب الحنفية في تطهير الماء، وذلك بإجرائه مع جنسه مختلطاً به، أو يخلط إن كان قليلاً مع الماء حتى يفيض من الإناء، وكذلك يطهر بالاستحالة، وذلك بصنعه صابوناً (¬1). وذكر النووي في المجموع صفة التطهير فقال: " التطهير بالغسل. بأن يجعل في إناء ويصب عليه الماء ويكاثر به ويحرك بخشبة ونحوها تحريكاً يغلب على الظن أنه وصل إلى أجزائه، ثم يترك حتى يعلو الدهن، ثم يفتح أسفل الإناء، فيخرج الماء، ويطهر الدهن، وهذا الوجه قول ابن سريج " (¬2). الراجح من الخلاف. بعد استعراض الأدلة نجد أن القول الراجح هو القول: بأن المائع لا ينجس إلا بالتغير، حيث لا يوجد دليل على نجاسة المائع بملاقاة النجاسة، لا دليل أثري، ولا دليل نظري، فالقول بنجاسة المائع مطلقاً فيه حرج ومشقة وإفساد للمال دون أن يكون هناك دليل يقضي بالنجاسة، وإن تغير هذا المائع ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 196). (¬2) المجموع (2/ 620).

بالنجاسة فهو نجس، وطهارته أن يذهب تغيره بأي مزيل كان، والله أعلم.

الفصل الخامس في كيفية تطهير الأرض المتنجسة

الفصل الخامس في كيفية تطهير الأرض المتنجسة اختلف الفقهاء في كيفية تطهير الأرض المتنجسة، فقيل: إن كانت الأرض رخوة، فيصب عليها الماء حتى يتخللها، ويكون تخلله قائماً مقام العصر. وإن كانت الأرض صلبة، فإن كانت مستوية فتطهيرها يكون بحفر جزء منها، ونقل ترابه، ولا ينفعها الغسل، وإن كانت غير مستوية، فيحفر في أسفلها حفرة، ويصب الماء عليها حتى يستقر في الحفيرة ثلاث مرات، وهذا هو مذهب الحنفية رحمهم الله (¬1). وقيل: الاكتفاء بصب الماء على الأرض مطلقاً، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: إن كانت النجاسة لها جرم مختلط بأجزاء الأرض، فلا بد من إزالة التراب الذي اختلطت به النجاسة، وإن كانت النجاسة لا جرم لها كالبول مثلاً فيكفي مكاثرة الأرض المتنجسة بالماء حتى يغمرها، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬

(¬1) بدائع الصنائع (1/ 89)، البحر الرائق (1/ 237 - 238)، البناية على الهداية (1/ 731). (¬2) مواهب الجليل (1/ 159). (¬3) روضة الطالبين (1/ 29). (¬4) الإنصاف (1/ 315)، الفروع (1/ 238)، مجموع الفتاوى (21/ 74).

دليل من قال بوجوب حفر الأرض

دليل من قال بوجوب حفر الأرض: الدليل الأول: (1734 - 262) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير- يعني: ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك- يعني: ابن عمير- يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القصة - يعني: قصة بول الأعرابي في المسجد- قال فيه: وقال: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء (¬1). قال أبو داود: وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. [ضعيف، وزيادة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه زيادة منكرة، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬2). ¬

(¬1) سنن أبي داود (381). (¬2) والحديث رواه أبو داود أيضاً في المراسيل (ص: 76) رقم 11 بالإسناد نفسه، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 428)، والدارقطني (1/ 132)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 77). قال الدارقطني: عبد الله بن معقل تابعي، وهو مرسل. وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر. تنقيح التحقيق (1/ 265). كما أن فيه علة أخرى، عبد الملك بن عمير مدلس، وقد عنعن، وهو مدلس مكثر. وله شاهدان: الأول: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، رواه الدارقطني (1/ 131)، من طريق أبي هشام الرفاعي: محمد بن يزيد، عن أبي بكر بن عياش، حدثنا سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: جاء أعرابي فبال في المسجد، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكانه، فاحتفر فصب عليه دلواً من ماء، فقال الأعرابي: يا رسول الله المرء يحب القوم ولما يعمل عملهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المرء مع من أحب. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 14) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا أبو بكر بن عياش به. وفي إسناده سمعان بن مالك: قال أبو زرعة: هذا حديث منكر، وسمعان ليس بالقوي. الجرح والتعديل (4/ 316). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: لا أصل لهذا الحديث. العلل (1/ 24). قال الدارقطني: سمعان مجهول. وفي إسناده أيضاً: أبو هشام الرفاعي: قال أبو حاتم الرازي: ضعيف، يتكلمون فيه، هو مثل مسروق بن المرزبان. الجرح والتعديل (8/ 129). وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (551). وقال العجلي: كوفي لا بأس به، صاحب قرآن. معرفة الثقات (2/ 434). وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطىء ويخالف. الثقات (9/ 109). والشاهد الثاني: من حديث أنس رضي الله عنه، رواه ابن الجوزي في التحقيق (1/ 78)، وفي العلل المتناهية (1/ 333) برقم 545، من طريق محمد بن صاعد، عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، أن أعرابياً بال في المسجد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوباً من ماء. والحديث معلول، والمعروف أنه مرسل، قال ابن الجوزي: قال الدارقطني: وهم عبد الجبار على ابن عيينة؛ لأن أصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه عن يحيى بن سعيد فلم يذكر أحد منهم الحفر، وإنما روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: احفروا مكانه. مرسلاً، فاختلط على عبد الجبار المتنان. اهـ قلت: مرسل طاووس أخرجه عبد الرازق في مصنفه (1/ 424) عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار عن طاووس. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 14) من طريق ابن عيينة به. وقد ذكر الزيلعي في نصب الراية (1/ 211) وابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 37) أن =

قال الحافظ ابن حجر: " واحتجوا فيه - يعني الحنفية - بحديث جاء من ثلاث طرق، أحدها موصول عن ابن مسعود، أخرجه الطحاوي لكن إسناده ضعيف. قاله أحمد وغيره، والآخران مرسلان، أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن معقل، والآخر من طريق سعيد بن منصور، ومن طريق طاووس، ورواتهما ثقات، وهو يلزم من يحتج بالمرسل مطلقاً، وكذا من يحتج به إذا اعتضد، والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين، وكان من أرسل إذا سمى لا يسمي إلا ثقة، وذلك مفقود في المرسلين المذكورين على ما هو ظاهر من سنديهما، والله أعلم (¬1). اهـ والراجح: أنه لا يحتج بهما في كل حال، حتى على فرض أن يقوي بعضهما بعضاً، فإننا نحكم بشذوذها؛ لأن الحديث في الصحيحين وفي غيرهما من رواية الثقات، لم يذكروا إلا مجرد صب الماء على البول، ولم يذكروا الحفر، ولو كان الحفر ثابتاً لنقل لأهميته. " ولو كان نقل التراب واجباً في التطهير لاكتفي به، فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون زيادة تكليف وتعب من غير منفعة تعود إلى المقصود، وهو تطهير الأرض " (¬2). ¬

= الدارقطني أخرج الحديث، ولم أقف عليه في سننه، فلعله في كتاب آخر، والله أعلم. (¬1) فتح الباري (1/ 325). (¬2) العدة شرح العمدة (1/ 336).

دليل من قال: يكفي صب الماء على الأرض حتى يذهب بالنجاسة

دليل من قال: يكفي صب الماء على الأرض حتى يذهب بالنجاسة. (1735 - 263) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (¬1). (1736 - 264) وروى مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك -وهو عم إسحق- قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه. ورواه البخاري دون قوله: إن هذه المساجد ..... الخ (¬2). ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح أنه نقل التراب، أو أنه نقل غسالة الماء، الدليل الثاني: من النظر قالوا: إذا غلب الماء على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد ¬

(¬1) صحيح البخاري (220). (¬2) صحيح مسلم (285)، صحيح البخاري (219، 220،6025).

الراجح من أقوال أهل العلم

طهرها، ولا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً، فقد جعل الله الماء طهوراً، وأنزله علينا ليطهرنا به، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " الماء لا ينجسه شيء " يعني: إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره، ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها، فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها، فالحكم له، وإن غلبته النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها (¬1). وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر، إذا صارت خلاً من غير صانع، لاستهلاك ما كان يخامر العقل منها بطريان التحليل عليه، فلأن تطهر النجاسة، ويزول حكمها باستهلاك الماء لها أولى وأحرى (¬2). الراجح من أقوال أهل العلم: أن حفر الأرض ليس بواجب، وأنه يكفي صب الماء على النجاسة حتى تتحلل، وتستهلك في الماء، ويغلب عليها، ويذهب عينها وطعمها ولونها وريحها، وأن غسالة النجاسة طاهرة، وقد ذكرنا حكم غسالة النجاسة في حكم مستقل. ¬

(¬1) الاستذكار (3/ 259). (¬2) تهذيب المسالك (1/ 45).

الفصل السادس في كيفية تطهير بعض النجاسات المخصوصة

الفصل السادس في كيفية تطهير بعض النجاسات المخصوصة المبحث الأول في كيفية التطهير من ولوغ الكلب الفرع الأول في عدد الغسلات من نجاسة الكلب سبق لنا الخلاف في عين الكلب، وهل هو حيوان طاهر أو نجس، وذكرنا قولين في المسألة: أحدهما: أن الكلب طاهر العين، وهو قول أبي حنيفة (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، ¬

(¬1) لا خلاف عند الحنفية في نجاسة لحم الكلب، ولا في نجاسة سؤره، وإنما الخلاف عندهم في نجاسة عينه، فالقول بطهارة عينه هو قول أبي حنيفة، والقول بنجاستها هو قول أبي يوسف ومحمد، وتظهر ثمرة الخلاف فيما لو وقع الكلب في بئر وأخرج حياً، فعند أبي حنيفة الماء طاهر، وعند صاحبيه الماء نجس. وكذلك فيما لو انتفض الكلب المبتل بالماء، فأصاب رشاشه ثوب أحد أو بدنه، فعلى رواية أبي حنيفة الثوب والبدن طاهران، وعلى رواية صاحبيه أنهما نجسان، وهكذا، انظر البناية (1/ 367، 435)، فتح القدير (1/ 93 - 102)، البحر الرائق (1/ 106 - 108)، حاشية ابن عابدين (1/ 208)، بدائع الصنائع (1/ 63). (¬2) المدونة (1/ 5، 6)، الاستذكار (1/ 208، 211)، والتمهيد (18/ 271، 272)، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/ 50)، الجامع لأحكام القرآن (13/ 45).

وقول الزهري (¬1)، واختاره داود الظاهري (¬2). والثاني: أن الكلب نجس العين، معلمه وغير معلمه، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬3)، والمعتمد في مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وقد ذكرنا أدلة الفريقين، ورجحنا أن الكلب عينه نجسة. وقد اختلف القائلون بنجاسة الكلب، في كيفية تطهير الأواني من ولوغه، فقيل: يجب غسل النجاسة ثلاث مرات، من غير فرق بين نجاسة الكلب وبين غيره من النجاسات غير المرئية (¬6). وقيل: يندب غسل الإناء تعبداً من ولوغ الكلب سبع مرات، ولا يستحب التتريب، كما يندب إراقة الماء الذي في الإناء دون الأحواض ولا يجب، ولا يراق الطعام الذي ولغ فيه الكلب، وهذا مذهب المالكية، وإنما ¬

(¬1) المجموع (2/ 585). (¬2) المجموع (2/ 585)، الاستذكار (1/ 211)، حلية العلماء (1/ 313). (¬3) انظر الإحالة على مذهب الحنفية في القول الأول. (¬4) الأم (1/ 5، 6)، الوسيط (1/ 309، 338)، المجموع (2/ 585)، روضة الطالبين (1/ 31)، مغني المحتاج (1/ 78). (¬5) الفروع (1/ 235)، الكافي لابن قدامة (1/ 89)، المحرر (1/ 87)، الإنصاف (1/ 310)، رؤوس المسائل (1/ 89). (¬6) تبيين الحقائق (1/ 75)، بدائع الصنائع (1/ 88)، مراقي الفلاح (ص: 64). الاختيار لتعليل المختار (1/ 35،36). شرح فتح القدير (1/ 209).

قالوا: إن غسله تعبدي لأنهم يرون طهارة عين الكلب (¬1). وقول الحنفية والمالكية أنه يغسل بدون إضافة التراب. وقيل: يجب غسل الإناء سبع مرات، إحداهن بالتراب، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يجب غسله ثمان مرات، إحداهن بالتراب، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬

(¬1) قال في الشرح الكبير (1/ 83): وندب غسل إناء ماء ويراق ذلك ندباً لا إناء طعام فلا يندب غسله ولا إراقته، بل يحرم لما فيه من إضاعة المال، إلا أن يريقه لكلب أو بهيمة فلا يحرم، ولا حوض فلا يندب غسل ولا يراق. وقال في حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (1/ 83) اعلم أن كون الغسل تعبداً هو المشهور، وإنما حكم بكونه تعبداً لطهارة الكلب، ولذلك لم يطلب الغسل في الخنزير، وقيل: إن نَدْبَ الغسل معلل بقذارة الكلب. وقيل: لنجاسته إلا أن الماء لما لم يتغير قلنا بعدم وجوب الغسل، فلو تغير لوجب. وعلى هذين القولين يلحق الخنزير بالكلب في ندب غسل الإناء من ولوغه، وعلى القول الأول يجوز شرب ذلك الماء، ولا ينبغي الوضوء به إذا وجد غيره للخلاف في نجاسته. وعلى القول بالنجاسة فلا يجوز شربه ولا الوضوء به. (¬2) الأم (1/ 5، 6)، الوسيط (1/ 309، 338)، المجموع (2/ 585)، روضة الطالبين (1/ 32)، مغني المحتاج (1/ 78). (¬3) الفروع (1/ 235)، الكافي لابن قدامة (1/ 89)، المحرر (1/ 87)، الإنصاف (1/ 310)، رؤوس المسائل (1/ 89). (¬4) الفروع (1/ 235)، الإنصاف (1/ 310).

دليل الحنفية على وجوب الغسل ثلاث مرات

دليل الحنفية على وجوب الغسل ثلاث مرات: الدليل الأول: (1737 - 265) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال ثنا أبو نعيم: قال ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة، في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهر قال: يغسل ثلاث مرات (¬1). [متنه منكر؛ لمخالفته المرفوع، ومخالفته ما صح عن أبي هريرة من الغسل سبعا] (¬2). ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (1/ 23). (¬2) الحديث مداره على عبد الملك بن أبي سليمان. وقد اختلف عليه فيه. فمنهم من يرويه عنه موقوفاً. ومنهم من يرويه من فعل أبي هريرة موقوفاً عليه. ومنهم من يرويه مرفوعاً. ومع هذا الاختلاف فإنه مخالف أيضاً لجميع من روى الحديث عن أبي هريرة، ورواياتهم في الصحيحين وغيرهما مرفوعة، وفيه الأمر بغسلها سبعاً، فلو صح عن أبي هريرة موقوفاً عليه لم يكن فيه حجة؛ لأن الموقوف لا حجة فيه مع معارضتة للمرفوع، والله أعلم. قال الدارقطني في العلل (8/ 101) " ورواه جماعة من التابعين عن أبي هريرة، منهم عبيد بن حنين، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وعبد الرحمن الأعرج، وعقبة بن أبي الحسناء اليمامي، وأبو صالح السمان، عن أبي هريرة، فاتفقوا على أن يغسل من ولوغ الكلب سبع مرات، وخالفهم عطاء بن أبي رباح، فرواه عن أبي هريرة أنه يغسل ثلاثاً، ولم يرفعه، قاله عبد الملك بن أبي سليمان." اهـ ولا شك أن رواية الأكثر مقدمة على رواية الواحد، فكيف إذا كان هذا الواحد لم يضبط، واختلف عليه، فمرة يرويه مرفوعاً، ومرة يرويه موقوفاً على أبي هريرة، ومرة يرويه من قوله، والله أعلم. =

قال الطحاوي: " لما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاثة يطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا ثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن به فلا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالته فلم يقبل قوله ولا روايته ". والجواب على ذلك من وجوه: الأول: الصحابي لا يتعمد مخالفة ما روى، ولكن قد يخالفه خطأ، وليس بمعصوم، فقد ينسى ما روى، وقد يظن من عام أنه خاص، أو من مطلق أنه مقيد، أو العكس. الثاني: ليس عندنا أن فعل أبي هريرة كان متأخراً عن حديث الأمر بغسل الإناء سبعاً حتى يمكن أن نجزم بالنسخ، الثالث: فعل الصحابي لا ينسخ الحديث المرفوع؛ لأن الوحي معصوم بخلاف فعل الصحابي. الرابع: قد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: يغسل سبع مرات موقوفاً عليه، وهذا أصح إسناداً، فلماذا يأخذ الحنفية برواية الثلاث، ولا يأخذون برواية السبع، مع أنه اجتمع في رواية السبع قوة الإسناد، وقوة المتن، وموافقة الموقوف للمرفوع، فهي أولى من رواية الأخذ بالثلاث. (1738 - 266) فقد روى ابن المنذر من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، ¬

_ = وقد تكلمت على طرق هذا الحديث وبينت مصادر تخريجه، ووجوه الاختلاف فيه في بحث سابق باسم (تكرار الغسل في إزالة النجاسة) فليرجع إليه من أراد الاستزادة.

الدليل على عدم التتريب

قال: إذا ولغ الكلب فاغسلوه سبع مرات، أولاهن بالتراب (¬1). [إسناده صحيح، بل قال ابن حجر: إسناده من أصح الأسانيد]. قال الحافظ: " ثبت أنه أفتى ـ يعني أبا هريرة ـ بالغسل سبعاً. ورواية من روى عنه موافقة فتياه أرجح ممن روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد، ومن حيث النظر. أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد. وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء عنه. وهو دون الأولى في القوة بكثير ... الخ (¬2). وأما الدليل على عدم التتريب. أولاً: أن أكثر الرواة الذين رووا الحديث عن أبي هريرة لم يذكروا التراب، وهم خلق كثير، وانفرد بذكرها ابن سيرين رحمه الله تعالى عن أبي ¬

(¬1) الأوسط (1/ 305) ومن طريق حماد بن زيد أخرجه الدارقطني (1/ 64)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 248). وأخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور (204) من طريق إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب به. وأخرجه أبو داود (72)، ومن طريقه البيهقي كما في المعرفة (2/ 60) عن أيوب عن ابن سيرين به موقوفاً. (¬2) الفتح (ح 172). وقال البيهقي في المعرفة (2/ 59): " لم يروه غير عبد الملك، وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف فيه الثقات ". ثم قال أيضاً (2/ 61): " ولمخالفته ـ يعني عبد الملك ـ أهل الحفظ والثقة في بعض رواياته تركه شعبة بن الحجاج، ولم يحتج به محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح، وحديثه هذا مختلف عليه، فروي عنه من قول أبي هريرة. وروي عنه من فعله، فكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الثقات الأثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطاً، برواية واحد قد عرف بمخالفته الحفاظ في بعض الأحاديث " اهـ.

هريرة، وقد تجنب البخاري في صحيحه الرواية التي فيها ذكر التراب للاختلاف في ذكرها، فلعله لا يرى صحة هذه اللفظة. قال البيهقي: لم يروه ثقة غير ابن سيرين عن أبي هريرة، يعني بذكر التراب (¬1). ثانياً: الاضطراب في ذكرها، فبعض الروايات تقول: " أولاهن " وبعضها " أخراهن" وبعضها: " إحداهن " وبعضها: السابعة، وبعضها الثامنة، ¬

(¬1) سنن البيهقي (1/ 241)، والمعرفة (2/ 58)، وهذا ذكر للجماعة الذين رووه بدون ذكر التراب من أصحاب أبي هريرة، الأول: الأعرج، رواه البخاري (172)، ومسلم (279) من طريق مالك، عن أبي الزناد، عنه. الثاني والثالث: أبو صالح السمان، وأبو رزين، أخرجه مسلم (279). الرابع: همام بن منبه، كما في مسلم (279). الخامس: ثابت بن عياض الأحنف، كما في المسند (2/ 271)، والنسائي (64)، وفي الكبرى (66). السادس والسابع: عبيد بن حنين وعبد الرحمن بن أبي عمرة، كما في مسند أحمد (2/ 360، 398، 482). الثامن: أبو سلمة، كما في المسند (2/ 271)، وسنن النسائي (64)، وفي السنن الكبرى (67). التاسع: أبو السدي عبد الرحمن بن أبي كريمة، أخرجه أبو عبيد في الطهور (203). قال أبو داود في سننه بعد أن ذكر رواية ابن سيرين: وأما أبو صالح وأبو رزين والأعرج وثابت الأحنف وهمام بن منبه وأبو السدي عبد الرحمن رووه عن أبي هريرة ولم يذكروا التراب. اهـ يشير بذلك إلى تفرد ابن سيرين بذكر التراب.

فهذا الاضطراب يوجب طرح هذه اللفظة، فيكون اجتمع في هذه اللفظة علتان: التفرد والاضطراب، وهما من علل الحديث. قال القرطبي: هذه الزيادة مضطربة، ولهذا لم يأخذ بها مالك، ولا أحد من أصحابه (¬1). والجواب عن هذا: أولاً: قد يقال: ابن سيرين إمام في الحفظ، وله عناية في الألفاظ، وكون مثله ينفرد بلفظة فهو دليل على كونها محفوظة، وقد رواها مسلم في صحيحه، وهذا لا يشفي؛ لأن الإمام قد يخطئ وليس بمعصوم. ثانياً: وقد يقال أيضاً: إن ابن سيرين لم ينفرد بها، فقد تابعه فيها غيره، فقد رواه الدارقطني (¬2) من طريق خالد بن يحيى الهلالي (¬3)، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ويونس عن الحسن، عن أبي هريرة. فقال فيه: الأولى بالتراب (¬4). ¬

(¬1) المفهم (1/ 540). (¬2) سنن الدارقطني (1/ 64). (¬3) وفي إتحاف المهرة (الذهلي). (¬4) وخالد هذا لم أقف على ترجمته، إلا أن يكون هو الذي ذكره ابن عدي في الكامل، قال: خالد بن يحيى أبو عبيد السدوسي البصري، حدث عن يونس بن عبيد وغيره ما لا يرويه غيره، وذكر من أفراده وغرائبه ثلاثة أحاديث، قال: ولخالد هذا غير ما ذكرت من الحديث إفرادات وغرائب عمن يحدث عنه، وليس بالكثير، وأرجو أنه لا بأس به؛ لأني لم أر في حديثه متناً منكراً. اهـ انظر تراجم رجال الدراقطني للوادعي رحمه الله (ص: 216). وقال الذهبي: صويلح لا بأس به.

كما أخرجه النسائي من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، وفيه ذكر التراب (¬1). إلا أن هذا الطريق في النفس منه شيء، أولاً: انفرد به معاذ بن هشام، وهو صدوق ربما وهم، ولم يتابع في هذا الإسناد، ولذلك قال البيهقي في سننه: هذا حديث غريب إن حفظه معاذ بن هشام، عن أبيه فهو حسن؛ لأن التراب في هذا الحديث لم يروه ثقة غير ابن سيرين، عن أبي هريرة، وإنما رواه غير هشام عن قتادة، عن ابن سيرين كما تقدم. اهـ ثانياً: أن سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد وسعيد بن بشير والحكم بن عبد الملك رووا الحديث عن قتادة، فقالوا: عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، وخالفوا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة (¬2)، فرجعت رواية قتادة والله أعلم إلى رواية ابن سيرين (¬3)، خاصة أن الراوي عن ابن أبي عروبة عبدة بن ¬

(¬1) سنن النسائي (338). (¬2) وقد جعلت الحمل على معاذ بن هشام، ولم أجعل المخالفة من أبيه كما صنع ذلك البيهقي رحمه الله، فقد سبق أن نقلت عنه قوله: إن كان معاذ حفظه. قال ابن التركماني تعليقاً على عبارة البيهقي: لقائل أن يقول: كان ينبغي أن يقول: إن كان هشام حفظه؛ لأنه هو الذي انفرد به، عن قتادة، كما بينه البيهقي، ولعله إنما عدل إلى ابنه معاذ لجلالة هشام الدستوائي، وابنه معاذ وإن روى له الجماعة لكن ليس بحجة، كذا قال ابن معين. وقال أبو أحمد بن عدي: ربما يغلط في الشيء، وأرجو أنه صدوق". اهـ (¬3) رواه النسائي (339) من طريق عبدة بن سليمان، ورواه الطحاوي (1/ 21) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، كلاهما، عن سعيد بن أبي عروبة. =

سليمان، وهو من أصحاب سعيد القدماء، وكذلك أبان بن يزيد، وقد أشار البيهقي إلى هذا فيما نقلناه عنه قبل قليل. كما أن هناك شاهداً آخر على إضافة التراب إلى الماء من حديث عبد الله ابن مغفل، (1739 - 267) فقد روى مسلم، من طريق شعبة، عن أبي التياح، سمع مطرف بن عبد الله يحدث، عن ابن المغفل قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب (¬1). وأما الجواب عن دعوى الاضطراب، في قوله: " إحداهن أو أولاهن أو أخراهن أو السابعة أو الثامنة أو بالشك الخ فالجواب ما ذكره العراقي حيث يقول: " الحديث المضطرب إنما تتساقط الروايات إذا تساوت وجوه الاضطراب، أما إذا ترجح بعض الوجوه فالحكم للرواية الراجحة، فلا يقدح فيها رواية من خالفها، كما هو معروف في علوم الحديث. ¬

= رواه أبو داود (73) والدارقطني (1/ 64) من طريق أبان بن يزيد، ورواه الدارقطني (1/ 64)، والبيهقي (1/ 241) من طريق سعيد بن بشير، ورواه الدارقطني (1/ 64) من طريق الحكم بن عبد الملك، أربعتهم (سعيد بن أبي عروبة وأبان وسعيد بن بشير والحكم بن عبد الملك) عن قتادة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة. (¬1) صحيح مسلم (280).

وإذا تقرر ذلك فلا شك أن رواية أولاهن أرجح من سائر الروايات؛ فإنه رواها عن محمد بن سيرين ثلاثة: الأول: هشام بن حسان، قلت: وهو من أثبت أصحاب محمد. الثاني: حبيب بن الشهيد. الثالث: أيوب السختياني. وأخرجها مسلم في صحيحه من رواية هشام، فتترجح بأمرين: 1 - كثرة الرواة 2 - تخريج أحد الشيخين لها، وهما من وجوه الترجيح عند التعارض. وأما رواية أخراهن بالخاء المعجمة, والراء فلا توجد منفردة مسندة في شيء من كتب الحديث، إلا أن ابن عبد البر ذكر في التمهيد أنه رواها خلاس عن أبي هريرة (¬1)، كما سيأتي في الوجه الذي يليه إلا أنها رويت مضمومة مع أولاهن كما سيأتي. وأما رواية السابعة بالتراب فهي وإن كانت بمعناها, فإنه تفرد بها عن محمد بن سيرين قتادة، وانفرد بها أبو داود, وقد اختلف فيها على قتادة فقال إبان عنه هكذا, وهي رواية أبي داود. وقال سعيد بن بشير عن قتادة الأولى بالتراب فوافق الجماعة، رواه كذلك الدارقطني في سننه, والبيهقي من طريقه, وهذا يقتضي ترجيح رواية أولاهن لموافقته للجماعة. ¬

(¬1) الظاهر أنه سقط منه ذكر أبي رافع، فقد رواه النسائي كما سبق، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة.

وأما رواية إحداهن بالحاء المهملة, والدال فليست في شيء من الكتب الستة, وإنما رواها البزار كما تقدم. وأما رواية أولاهن أو أخراهن فقد رواها الشافعي , والبيهقي من طريقه بإسناد صحيح, وفيه بحث أذكره, وهو أن قوله: أولاهن أو أخراهن لا تخلو إما أن تكون مجموعة من كلام الشارع، أو هو شك من بعض رواة الحديث؟ فإن كانت مجموعة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو دال على التخيير بينهما، ويترجح حينئذ ما نص عليه الشافعي رحمه الله من التقييد بهما؛ وذلك لأن من جمع بينهما معه زيادة علم على من اقتصر على الأولى أو السابعة; لأن كلا منهم حفظ مرة فاقتصر عليها، وحفظ هذا الجمع بين الأولى, والأخرى فكان أولى. وإن كان ذلك شكاً من بعض الرواة فالتعارض قائم، ويرجع إلى الترجيح، فترجح الأولى كما تقدم، ومما يدل على أن ذلك شك من بعض الرواة لا من كلام الشارع: قول الترمذي في روايته " أولاهن "، أو قال: " أخراهن بالتراب" فهذا يدل على أن بعض الرواة شك فيه، فيترجح حينئذ تعيين الأولى، ولها شاهد أيضا من رواية خلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة كما سيأتي في الوجه الذي يليه. وإذا كان ذكر الأولى أرجح ففيه حجة لما ذكر أصحابنا من كون التتريب في المرة الأولى أولى، وذكروا له معنى آخر, وهو أنه إذا قدم التتريب في الأولى فتناثر من بعض الغسلات رشاش إلى غير الموضع المتلوث بالنجاسة الكلبية لم يجب تتريبه، بخلاف ما إذا أخر، فكان هذا أرفق، لكن حمله على الأولوية متقاصر عما

دلت عليه الرواية الصحيحة، فينبغي حمله على تعيين المرة الأولى والله أعلم" (¬1). اهـ كلام العراقي رحمه الله تعالى. وقال الصنعاني: رواية أولاهن أرجح لكثرة رواتها، وبإخراج الشيخين لها، وذلك من وجوه الترجيح عند التعارض " (¬2). وهذا وهم منه رحمه الله تعالى، فإن البخاري تجنب ذكر التراب في صحيحه، كما أشرت إليه سابقاً. ومال النووي إلى صحة كل الألفاظ، فقد قال رحمه الله: قد روى البيهقي وغيره هذه الروايات كلها، وفيه دليل على أن التقيد بالأولى وغيرها ليس للاشتراط، بل المراد: إحداهن، وهو القدر المتيقن من كل الروايات ". وأما قوله في حديث عبد الله بن مغفل " وعفروه الثامنة بالتراب " وفي حديث أبي هريرة " سبعاً إحداهن بالتراب " فاختلف العلماء في الجواب عن هذا الاختلاف، فقيل: إن رواية أبي هريرة أولى، فتقدم على رواية عبد الله بن مغفل، قال البيهقي في المعرفة: " وإذا صرنا إلى الترجيح بزيادة الحفظ، فقد قال الشافعي رحمه الله: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره " (¬3). وسبب آخر في ترجيح رواية أبي هريرة على رواية عبد الله بن مغفل، بكون الإجماع على خلاف رواية ابن مغفل، فإن الأقوال: ليست ¬

(¬1) طرح التثريب (2/ 130). (¬2) سبل السلام (1/ 39). (¬3) المعرفة (2/ 59)، وقال مثله في السنن الكبرى (1/ 242).

إلا الغسل ثلاثاً أو سبعاً، ولم يقل أحد بغسل الإناء ثمان مرات. وأجاب الحافظ عن هذا بقوله: قال ابن دقيق العيد: وفي هذا القول نظر؛ لأنه ثبت القول بذلك عن الحسن البصري، وبه قال أحمد بن حنبل في رواية حرب الكرماني عنه (¬1)، وقيل: إن رواية ابن مغفل أولى؛ لأنه زاد الغسلة الثامنة، والزيادة مقبولة، خصوصاً من مثله، ومن أخذ بحديث عبد الله بن مغفل فقد عمل بحديث أبي هريرة، وليس العكس (¬2). وهناك من يقول: لو أخذنا بالترجيح أصلاً لم نأخذ بالقول بالتراب لأن الرواة الذين رووا الحديث عن أبي هريرة بدون ذكر التراب أكثر عدداً ممن ذكرها، وبعضهم من أخص أصحاب أبي هريرة كالأعرج وأبي صالح السمان وغيرهما. وهناك من جمع بين الروايتين، فقال: " لما كان التراب جنساً غير الماء، جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدوداً اثنتين. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله: وعفروه الثامنة بالتراب ظاهر في كونها غسلة مستقلة، لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازاً، وهذا الجمع من مرجحات تعين التراب في الأولى " (¬3). ومما يرجح كون التراب في الأولى أن الغسل بالتراب لو جعل في ¬

(¬1) فتح الباري (1/ 368). (¬2) الجوهر النقي (1/ 241). (¬3) فتح الباري (1/ 368).

دليل من قال: يستحب غسله سبعا، ولا يجب

الثامنة لاحتاج إلى غسله بالماء بعد ذلك؛ لإزالة التراب، أما على القول بغسل الأولى بالتراب فإن الماء في الغسلات التالية يزيل أثر التراب، ويكون في هذا أدعى لنظافة الإناء، والله أعلم. دليل من قال: يستحب غسله سبعاً، ولا يجب: يرى المالكية أن الأمر بغسل الإناء ليس بسبب نجاسة الكلب، فهم يرون أن عينه طاهرة، وهذا ما حملهم على القول باستحباب الغسل سبعاً، لأن الغسل لو كانت العلة فيه النجاسة، لكان المطلوب الإنقاء، وقد يحصل في مرة واحدة. ولم يوجب المالكية إراقة الماء، لأن الماء عندهم لا ينجس إلا بالتغير، ولم يتغير الماء بسبب ولوغ الكلب، فلماذا يراق عندهم وهم يرون أنه ماء باق على خلقته، وقد سبق ذكر أدلتهم على طهارة الكلب في مسألة مستقلة، والجواب عنها، فالراجح أن الكلب عينه نجسة. وأما قولهم إن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، لكن لا يعني أننا إذا حكمنا بنجاسة الماء إذا ولغ فيه الكلب أَنْ نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة، ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها الأمر بغسلها سبعاً، مع أن دم الحيض مع الإجماع على نجاسته لم نؤمر بغسله سبعاً، كما في حديث أسماء المتفق عليه، ومنها الأمر بالتتريب، وبالتالي لا يمكن أن يقاس الأخف على الأغلظ. على أنه قد يقال: لا نسلم عدم تغير الماء من لعاب الكلب؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء، فتظهر على شيء منه، فيكون هذا

دليل من قال بوجوب الغسل سبعا مع التتريب

نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة فينجس، والله أعلم. دليل من قال بوجوب الغسل سبعاً مع التتريب: (1740 - 268) ما رواه مسلم من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " طهور إناء أحدكم" جعل طهارة الإناء متوقفة على الغسل سبع مرات أولاهن بالتراب، ومن نقص من هذا العدد فلم يحصل للإناء الطهور، ومعنى هذا أنه نجس، والطهارة: هي الطهارة الشرعية: لأننا لا نرجع إلى الحقيقة اللغوية إلا إذا امتنع حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية، ولم يمنع من ذلك مانع. وكون الطهارة تتوقف على هذا الفعل دليل أن الأمر ليس تعبدياً، كما قال ذلك المالكية، إذ لو كان تعبدياً لما كان هذا الفعل طهارة للإناء، لأن الطهارة لا تكون إلا من حدث أو نجاسة، والإناء ليس محلاً لطهارة الحدث، فلم يبق إلا طهارة الخبث. وهذا القول هو الراجح من أقوال أهل العلم، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح مسلم (279).

الفرع الثاني في وضع الصابون والأشنان بدلا من التراب

الفرع الثاني في وضع الصابون والأشنان بدلاً من التراب اختلف العلماء القائلون بإضافة التراب إلى الماء في تطهير نجاسة الكلب هل يقوم الأشنان والصابون مقام التراب؟. فقيل: لابد من التراب، ولا يقوم غيره مقامه، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يقوم الأشنان والصابون وغيرهما من المنظفات مقام التراب، وهو مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إذا فقد التراب أو كان التراب يفسد المحل كما لو كانت نجاسة الكلب في الثياب ونحوها أجزأ الصابون ونحوه، وإلا فلا، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). دليل من قال: لا بد من التراب ولا يقوم غيره مقامه: الدليل الأول: أن النص إنما ورد في التراب، ولو كان غير التراب يقوم مقامه لذكره الشارع. وقد يناقش هذا بأن أكثر المنظفات الموجودة اليوم لم تكن موجودة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي قد يكون فيها من قوة إزالة النجاسة وما شابهها أكثر مما يوجد في التراب. ¬

(¬1) نهاية المحتاج (1/ 236)، روضة الطالبين (1/ 32)، طرح التثريب (2/ 133). (¬2) كشاف القناع (1/ 209)، الإنصاف (1/ 310). (¬3) نهاية المحتاج (1/ 236)، روضة الطالبين (1/ 32)، طرح التثريب (2/ 133).

الدليل الثاني

الدليل الثاني: القياس على التيمم، فكما أن التيمم لا يكون إلا بالأرض، فكذلك هنا، فالتراب والماء بينهما علاقة في باب الطهارة، فالتراب يرفع الحدث ويزيل الخبث، والماء يرفع الحدث ويزيل الخبث، ولا يرفع الحدث مائع آخر مهما كانت قوته في التطهير. قال ابن القيم: وأما جمعها بين الماء والتراب في التطهير فلله ما أحسنه من جمع وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، وقد عقد الله سبحانه وتعالى الإخاء بين الماء والتراب قدراً وشرعاً، فجمعهما الله سبحانه وتعالى حيث خلق منهما آدم وذريته، وجعل منهما حياة كل حيوان، وأخرج منهما أقوات الدواب والناس والأنعام، وكانا أعم الأشياء وجوداً، وأسهلهما تناولاً ... إلخ كلامه رحمه الله تعالى (¬1). دليل من قال: يجزئ عن التراب غيره: الدليل الأول: قالوا: إن الصابون والأشنان ونحوهما أقوى من التراب في الإزالة، ولما نص على التراب كان هذا تنبيهاً على أن غيره يقوم مقامه مما هو مثله أو أقوى منه. الدليل الثاني: قالوا: إذا كان يجوز الاستجمار بكل جامد مزيل، مع أن النص إنما ورد في الحجارة، فكذلك هنا. ¬

(¬1) إعلام الموقعين (2/ 161).

دليل من قال: يجزئ عند فقد التراب

دليل من قال: يجزئ عند فقد التراب: قالوا: قواعد الشريعة تدل على أن الواجبات كلها إنما تجب مع القدرة عليها، وعدم الضرر من استعمالها، فإذا عجز عن التراب أو خشي الضرر من استعماله لم يجب، والنص ورد في التراب، إشارة إلى أن الماء وحده لا يكفي في إزالة النجاسة، فإذا فقد التراب قام غيره مقامه، وكونه يغسل بالماء والصابون خيراً من كونه يغسل بالماء وحده. وهذا القول وسط بين القولين السابقين، وهو أقواها عندي، والله أعلم.

الفرع الثالث في تعفير الإناء بتراب نجس

الفرع الثالث في تعفير الإناء بتراب نجس اختلف القائلون باشتراط التراب في تطهير الإناء من ولوغ الكلب، هل يشترط أن يكون التراب طاهراً؟. فقيل: يشترط ذلك، وهو أصح الوجهين عند الشافعية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجزئ التراب النجس، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). دليل القائلين باشتراط الطهارة: قالوا: إن التراب النجس لا يمكن أن يكون سبباً في طهارة المحل، فما كان نجساً في نفسه لا يمكن أن يطهر غيره. الدليل الثاني: إذا كان يشترط في التيمم طهارة التراب، فكذلك في طهارة الخبث، لأن طهارة الخبث إحدى الطهارتين. الدليل الثالث: إذا نهي عن الاستجمار بالنجس، وهو إزالة للنجاسة عن البدن، فكذلك إزالة النجاسة عن الآنية والثياب ونحوها. ¬

(¬1) قال في روضة الطالبين (1/ 32): ولا يكفي التراب النجس على الأصح كالتيمم. اهـ، وانظر مغني المحتاج (1/ 84)، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/ 74). (¬2) شرح منتهى الإرادت (1/ 97 - 98)، كشاف القناع (1/ 209)، الإنصاف (1/ 310 - 312). (¬3) مغني المحتاج (1/ 84)، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/ 74)، روضة الطالبين (1/ 32).

الدليل على أنه لا يستجمر إلا بطاهر

والدليل على أنه لا يستجمر إلا بطاهر: (1741 - 269) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن ابن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). وجه الاستدلال: قوله: هذا ركس. فإن معنى الركس في اللغة يحتمل أمرين: الأول: الركس بمعنى: الرجيع. والثاني: الركس بمعنى: النجس. فعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه بأنه رجس. وقد قال بعضهم: ليس في الحديث دليل على اشتراط الطهارة، وإنما فيه ترك الاستنجاء بالروث، ولا يلزم من ذلك النجاسة، كما لم يلزم من تركه الاستنجاء بالعظم والمحترمات. فأجاب النووي بقوله: إن الاعتماد في الاستدلال على قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها ركس" وليس على مجرد تركه الاستنجاء بها، قال: ولا يجوز أن يحمل على أنه مجرد إخبار بأنها رجيع، فإن ذلك إخبار بالمعلوم، فيؤدي الحمل عليه إلى خلو الكلام عن فائدة، فوجب حمل الكلام على ما ذكرناه من تفسير الركس بمعنى: النجس (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (156). (¬2) المجموع (2/ 570).

دليل من قال: لا يشترط طهارة التراب

دليل من قال: لا يشترط طهارة التراب: الدليل الأول: قالوا: ليس في الحديث اشتراط طهارة التراب، وإنما الحديث فيه " التعفير بالتراب " وهذا متحقق مع التراب النجس. الدليل الثاني: على فرض أن يكون التراب نجساً، فإنه سوف يتبع بالماء الطهور، وهذا كاف في تطهيره. الدليل الثالث: قالوا من النظر: النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها، وقولكم: إن النجس لا يطهر، هل تقصدون لا يطهر حقيقة أو لا يطهر حكماً؟ فإن قلتم: لا يطهر حقيقة، فإن الحجر الذي وقع عليه بول فإنه يمكن أن يستجمر به، ويقطع النجاسة. وإن قلتم: إنه لا يطهر حكماً فلا يوجد دليل على اشتراط طهارة التراب. فالراجح أن التراب النجس ممكن أن يطهر المحل إذا أتبع بالماء، ولم يكن التراب هو الغسلة الأخيرة، وهذه المسألة راجعة إلى مسألة أخرى وهي جواز الانتفاع بالشيء النجس على وجه لا يتعدى، والله أعلم.

الفرع الرابع في كيفية الطهارة من بول الكلب ورجيعه

الفرع الرابع في كيفية الطهارة من بول الكلب ورجيعه لو بال الكلب في الإناء، فهل يجب أن يغسل سبع مرات مع التراب، أو أن هذا مقصور على الولوغ فقط؟ اختلف العلماء في هذا. فقيل: يجب التسبيع مع التراب في نجاسة الكلب مطلقاً، سواء كانت من بوله أو عَرَقِه أو ريقه أو غيرها، وهذا هو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: التسبيع خاص بالولوغ فقط، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). وأما مذهب الحنفية والمالكية فهم لا يقولون بالتتريب أصلاً، لا في الولوغ ولا في غيره. دليل من قال: يجب التسبيع من نجاسة الكلب مطلقاً: قالوا: إذا كان ريق الكلب نجساً، ويغسل منه الإناء سبعاً، فما بالك ببوله الذي هو أخبث وأنتن من ريقه؟ دليل من قال: التسبيع خاص بالولوغ: الأصل في النجاسات أن تغسل حتى تذهب عين النجاسة، لا فرق في ¬

(¬1) مغني المحتاج (1/ 83 - 84)، روضة الطالبين (1/ 32). (¬2) الإنصاف (1/ 310 - 312)، كشاف القناع (1/ 209)، الفروع (1/ 235 - 236). (¬3) انظر المراجع التي أحلنا عليها في القول الأول.

ذلك بين الدم والبول والسؤر النجس وغيرها من النجاسات، وسواء كانت هذه النجاسة من الإنسان أوالحيوان، وورد في النص النبوي وجوب التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب خاصة، وما كان ربك نسياً، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أعطي جوامع الكلم، فلما خص الولوغ بهذه الأحكام دون سائر النجاسات، دل على اختصاصه بذلك، وأما بوله وروثه فحكمه حكم سائر النجاسات من بول الآدمي وغائطه وحكم دم الحيض وغيره من النجاسات، وهو الغسل حتى تذهب عين النجاسة، ومن قال بوجوب غسلها سبعاً مع التراب فعليه الدليل، وقد يكون في الريق معنى لا يوجد في البول والدم وغيرهما، والله سبحانه وتعالى أعلم بما خلق، فقد يوجد في ريق الكلب نوع من الجراثيم لا يطهره إلا التراب، كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن في أحد جناحي الذباب داء، وفي الآخر شفاء، مع تماثل الجناحين خِلْقَة، ومع ذلك لم يتماثلا حكماً، وكون ريق الكلب نجساً، وبوله نجساً لا يعني تماثلهما في طريقة التطهير، وانظر إلى بول الصبي وبول الجارية، فمع نجاستهما لم يتحدا في التطهير، فإذا فارقت نجاسة من النجاسات غيرها في طريقة التطهير قصرنا الحكم عليها حتى يوجد دليل صريح على تعدية الحكم إلى غيرها، ولا دليل على تعدية الحكم إلى بول الكلب وروثه وعرقه إلا القياس على ريقه، والقياس في مثل هذا ضعيف. وهذا القول هو الراجح لقوة دليله، والله أعلم.

الفرع الخامس هل تقوم الغسلة الثامنة مقام التراب

الفرع الخامس هل تقوم الغسلة الثامنة مقام التراب اختلف العلماء فيما إذا اقتصر على الماء، وغسله ثماني مرات، فهل تكفي الغسلة الثامنة عن التراب. فقيل: لا يطهر، وهو الوجه الأصح في مذهب الشافعية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يطهر مطلقاً، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). وقيل: يطهر عند عدم التراب دون وجوده، وهو وجه ثالث في مذهب الشافعية (¬4). دليل من قال: تنوب الغسلة الثامنة عن التراب: قال: إن الماء أقوى من التراب في التطهير، فإذا استبدل القوي بالأقوى قام مقامه في التطهير. دليل من قال: لا بد من التراب: إن التراب ليس غسلة مستقلة حتى يقال: إن الماء أقوى من التراب، وإنما المقارنة بين غسله بالماء وحده، أو بالماء مع التراب، ولا شك أن الجمع بين التراب والماء في الإزالة أقوى من الماء وحده، ولهذا المعنى قصد الشارع من ¬

(¬1) روضة الطالبين (1/ 32)، طرح التثريب (2/ 133 - 134). (¬2) كشاف القناع (1/ 209)، الإنصاف (1/ 310 - 312). (¬3) روضة الطالبين (1/ 32). (¬4) المرجع السابق.

دليل من قال: يكفي إذا فقد التراب

الجمع بينهما حصول الطهارة المستيقنة. قال ابن قدامة: " فأما الغسلة الثامنة فالصحيح أنها لا تقوم مقام التراب؛ لأنه إن كان القصد به تقوية الماء في الإزالة، فلا يحصل ذلك بالثامنة؛ لأن الجمع بينهما أبلغ في الإزالة، وإن وجب تعبداً امتنع إبداله والقياس عليه" (¬1). وقال العراقي: " وأما من قال من أصحابنا يكفي؛ لأن الماء أبلغ في التطهير من التراب فمردود؛ لأنه لا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال " (¬2). دليل من قال: يكفي إذا فقد التراب: أن الواجب هو التراب، فإذا تعذر فإما أن نقول: إنه يسقط التراب إلى غير بدل، أو يسقط إلى بدل وهو الغسلة الثامنة، ولو كانت الغسلة السابعة كافية في التطهير لما أوجب التراب، فالإناء بعد غسله سبع مرات ما زال نجساً، يحتاج إلى التراب، وقد تعذر التراب فأقمنا الغسلة الثامنة مقامه، والله أعلم. الراجح والله أعلم، أن الغسلة الثامنة لا تقوم مقام التراب، ولو غسل الإناء مائة مرة، لأن الماء قد عمل عمله بغسله سبع غسلات، ولا معنى لتكرار غسله بالماء، وقد امتثل المطلوب، فالمعنى الذي في التراب ليس موجوداً في الماء مهما كان تكراره، وليس الهدف فقط هو النظافة، بل الهدف هو تطهير من نوع خاص. ¬

(¬1) المغني (1/ 46). (¬2) طرح التثريب (1/ 133 - 134).

فالبول إذا غسلته مرة واحدة ذهبت بالنجاسة، فغسله مرة ثانية لا معنى لذلك، فالمحل قد طهر، وإذا كررت الغسل كان ذلك لمعنى لا يرجع إلى النجاسة، فإنها قد ذهبت، وإنما مبالغة في النظافة، وهو غير ذهاب النجاسة، فكذلك إذا غسلته سبع مرات، فلا معنى لوجود غسلة ثامنة أو عاشرة أو غيرهما؛ لأن الماء قد نظف المحل فيما يختص بالماء، وبقي معنى لا يذهب إلا بالتراب، وكأن التراب بمثابة التعقيم والوقاية من أمراض قد تكون موجودة في الإناء لا يذهب بها الماء، وإنما تحتاج إلى التراب لقطعها، وبالتالي إذا لم يوجد التراب فلا داعي لتكرار الماء، وإنما الانتظار حتى يتوفر التراب وإن اضطر إلى استعمال الإناء فلا حرج فيه لسقوط التراب لتعذره، وذلك لأن الواجبات إنما تجب بشرط القدرة، ولم يقدر على التراب فسقط، نعم لو كان هناك ما يقوم مقام التراب من صابون ونحوه ربما كان وجوده يضيف إلى الإناء شيئاً ليس موجوداً في الماء بخلاف تكرار الماء، والله أعلم.

الفرع السادس في صفة التطهير بالتراب

الفرع السادس في صفة التطهير بالتراب اختلف العلماء في التراب هل يكفي ذره على الإناء أو لا بد من مزجه بمائع يوصله إليه، فقيل: لا يكفي ذره، بل لا بد من مزجه بمائع يوصله إلى جميع أجزائه، وهو الأصح في مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يكفي ذره، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال: لا يكفي ذر التراب: استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " أولاهن بالتراب " فالباء للمصاحبة أو للإلصاق، أي مصحوباً بالتراب، فكونه جعل التراب داخلاً في مسمى الغسلات، فذر التراب وحده لا يسمى غسلاً. قال ابن دقيق العيد: " قوله - صلى الله عليه وسلم - " فاغسلوه سبعاً أولاهن أو أخراهن بالتراب " قد يدل لما قاله بعض أصحاب الشافعي: أنه لا يكتفى بذر التراب على المحل، بل لا بد أن يجعله في الماء ويوصله إلى المحل ". ¬

(¬1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 78)، طرح التثريب (2/ 132)، حاشية البجيرمي (1/ 105). (¬2) الإنصاف (1/ 311). (¬3) طرح التثريب (2/ 132). (¬4) صوبه صاحب الإنصاف (1/ 311).

دليل من قال: يكفي ذر التراب

دليل من قال: يكفي ذر التراب: استدل بحديث عبد الله بن مغفل " وعفروه الثامنة بالتراب " دليل على أنه يكفي التعفير بالتراب دون أن يكون مصحوباً بالماء، حيث جعل التراب مستقلاً عن الماء. والأمر في هذا واسع، فإن غسل الإناء بالتراب وحده فليدلك الإناء بالتراب حتى يكون أقوى في التطهير، وإن خلطه بالماء أجزأ كذلك، والله أعلم.

المبحث الثاني في كيفية التطهير من نجاسة الخنزير

المبحث الثاني في كيفية التطهير من نجاسة الخنزير سبق لنا خلاف العلماء في الخنزير هل هو طاهر أم نجس؟ وتبين فيما مضى أن الجمهور ذهب إلى نجاسة الخنزير (¬1). وقيل: إن عينه طاهر، بناء على أن كل حيوان حي فهو طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬2)، ورجحه الشوكاني (¬3). وقد سبق ذكر أدلة كل قول، ورجحت نجاسة عينه. واختلف القائلون بنجاسته، في كيفية تطهير هذه النجاسة. فقيل: لا فرق بين نجاسة الخنزير وبين غيره من سائر النجاسات، وهو مذهب الحنفية (¬4)، والقديم في مذهب الشافعي (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). ¬

(¬1) انظر في مذهب الحنفية: البناية على الهداية (1/ 360)، بدائع الصنائع (1/ 63)، شرح فتح القدير (1/ 94 - 110)، حاشية ابن عابدين (1/ 206). وانظر في مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/ 78)، الأم (1/ 5، 6)، الوسيط (1/ 309)، 338، 339)، المجموع (2/ 585)، روضة الطالبين (1/ 31). وانظر في مذهب الحنابلة: الفروع (1/ 235)، الكافي لابن قدامة (1/ 89)، المحرر (1/ 87)، الإنصاف (1/ 310)، رؤوس المسائل (1/ 89). (¬2) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/ 50)، المدونة (1/ 5، 6)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 80)، الخرشي (1/ 85). (¬3) السيل الجرار (1/ 38). (¬4) البناية على الهداية (1/ 360)، بدائع الصنائع (1/ 63)، شرح فتح القدير (1/ 94 - 110)، حاشية ابن عابدين (1/ 206). (¬5) وانظر في مذهب الشافعية: مغني المحتاج (1/ 78)، الأم (1/ 5، 6)، الوسيط (1/ 309)، 338، 339)، المجموع (2/ 585)، روضة الطالبين (1/ 32). (¬6) الفروع (1/ 235)، الكافي لابن قدامة (1/ 89)، المحرر (1/ 87)، الإنصاف (1/ 310).

دليل من قال: يلحق الخنزير بالكلب

وقيل: يلحق الخنزير بالكلب في وجوب التسبيع والتتريب، وهو الجديد في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال: يلحق الخنزير بالكلب: استدل بأن النص ورد في الكلب، والخنزير شر منه، لنص الشارع على تحريمه، وتحريم اقتنائه، بل إن الكلب مأذون في اتخاذ بعض أفراده ككلب الصيد والماشية والزرع بخلاف الخنزير فإنه منهي عن اتخاذه مطلقاً، وإنما السنة لم تنص على الخنزير؛ لأنهم لم يكونوا يعتادونه. دليل من قال: لا فرق بين نجاسة الخنزير وبين غيره من النجاسات: الدليل الأول: الواجب في غسل نجاسة الخنزير غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، ولا يوجد نص من الشارع يوجب التسبيع والتتريب في نجاسة الخنزير، والأصل عدم الوجوب. الدليل الثاني: القول بأن الخنزير لم يكن معتاداً عندهم، ولذلك لم ينص على كيفية التطهير منه ليس كافياً لصحة القياس على الكلب، فإن الشريعة عامة، وبيانها للناس كافة، وكيف لا يكون معروفاً عندهم، والخنزير مذكور في كتاب الله {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ ¬

(¬1) المجموع (2/ 585)، روضة الطالبين (1/ 32). (¬2) الفروع (1/ 235)، الكافي لابن قدامة (1/ 89)، المحرر (1/ 87)، الإنصاف (1/ 310)، رؤوس المسائل (1/ 89).

الدليل الثالث

دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (¬1). الدليل الثالث: القياس في كيفية التطهير ليس بصحيح، خاصة إذا كان الأصل المقيس عليه قد فارق سائر النجاسات، وخص بأحكام لم يماثله غيره فيها، من وجوب العدد، وإضافة التراب، فهذه الأمور لا تدرك الحكمة منها، فيكون القياس فاسداً، والله أعلم. وهذا القول هو الراجح؛ لقوة أدلته وسلامتها من الاعتراض. ¬

(¬1) الأنعام: 145.

§1/1