نتاج الفكر في أحكام الذكر

عبد الله بن مانع الروقي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه؛ أما بعد: فإن الذكر من أجلّ الطاعات بل هو روح العبادات، وهو عبودية القلب وبه سعادته، وهو المراد من التشريع والمقصد من التكليف، قال الله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. وقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]. أي كثيرًا، وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. وقال {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41].

نصه (¬1): قوله: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه» مثل الحي والميت، سقط لفظ «ربه» الثانية من رواية يير أبي ذر (¬2)، هكذا وقع في جميع شيخ البخاري، وقد أخرجه مسلم عن أبي كريب، وهو محمد بن العلاء شيخ البخاري فيه بسنده المذكور بلفظ: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت» (¬3) وكذا أخرجه الإسماعيلي وابن حبان (¬4) في ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر (11/ 210). (¬2) أبو ذر الهروي: الحافظ الإمام المجود، العلامة شيخ الحرم، أبو ذر، عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غُفير بن محمد، المعروف ببلده بابن السماك، الأنصاري الخراساني الهروي المالكي، صاحب التصانيف، وراوي الصحيح عن ثلاثة: المستملي والحموي والكشميهني. قال: ولدت سنة خمس أو ست وخمسين وثلاث مئة. قال أبو بكر الخطيب: قدم أبو ذر بغداد، وحدث بها وأنا غائب، وخرج إلى مكة وجاور، ثم تزوج في العرب، وأقام بالسروات، فكان حج كل عام ويحدث ثم يرجع إلى أهله، وكان ثقة ضابطًا دينًا، مات بمكة في ذي القعدة، سنة أربع وثلاثين وأربع مئة. أنظر: سير أعلام النبلاء (13/ 213) .. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) هو: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان، أبو حاتم، البستي. نسبته إلى (بست) في سجستان. تنقل في الأقطار في طلب العلم. محدث، مؤرخ، عالم بالطب والنجوم. ولي القضاء بسمرقند ثم قضاء نسا. قال ابن السمعاني: كان إمام عصره. من مصنفاته: المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع، المشهور بصحيح ابن حبان في الحديث، وروضة العقلاء في الأدب؛ والثقات في رجال الحديث؛ ووصف العلوم وأنواعها. أنظر: طبقات الشافعية 2/ 141؛ والأعلام للزركلي 6/ 306؛ وتذكرة الحفاظ 3/ 125؛ وشذرات الذهب 3/ 16.

صحيحه (¬1)، جميعًا عن أبي يعلى (¬2)، (¬3) عن أي كريب، وكذا أخرجه أبو عوانة (¬4)، (¬5) عن أحمد بن عبد الحميد، والإسماعيلي أيضًا عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن براد، وعن القاسم بن زكريا، عن يوسف بن موسى، وإبراهيم بن سعيد الجوهري، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي، والقاسم بن دينار، كلهم عن أبي أسامة، فتوارد هؤلاء على هذا اللفظ يدل على أنه هو الذي حدث به بريد بن عبد الله، شيخ أبي أسامة، وانفراد البخاري باللفظ المذكور دون بقية أصحاب أبي كريب، وأصحاب أبي أسامة يشعر بأنه رواه من حفظه، أو تجوّز في روايته بالمعنى الذي وقع له، وهو أن الذي يوصف ¬

(¬1) صحيح ابن حبان (رقم: 854). (¬2) هو: أحمد بن علي بن المثنى بن يحيي بن عيسى بن هلال التميمي أبو يعلى، من أهل الموصل، من المتقنين في الروايات والمواظبين على رعاية الدين وأسباب الطاعات. الحافظ الثقة، محدّث الجزيرة، قال يزيد بن محّمد الأزدي: كان أبو يعلى من أهل الصّدق والأمانة والدين والعلم. ووثقه ابن حبان ووصفه بالإتقان والدين ثم قال: وبينه وبين النبيّ ثلاثة أنفس. وقال الحاكم: كنت أرى أبا علي الحافظ معجبًا بأبي يعلى وإتقانه وحفظه لحديثه حتى كان لا يخفى عليه منه إلاّ اليسير. قال الحاكم: هو ثقة مأمون. مات سنة 307هـ. الثقات 8/ 55، تذكرة الحفّاظ 2/ 707. (¬3) مسند أبي يعلى (رقم: 7306). (¬4) هو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، أبو عوانة، النيسابوري ثم الاسفراييني. من أكابر حفاظ الحديث. نعته ياقوت بأحد حفاظ الدنيا. سمع يونس بن عبد الأعلى وأحمد بن الأزهر وعلي بن إشكاب وغيرهم .. وحدث عنه الحافظ أحمد بن علي الرازي وأبو علي النيسابوري وابن عدي. طاف الشام ومصر والعراق والحجاز والجزيرة واليمن وبلاد فارس في طلب الحديث، واستقر في اسفرايين فتوفي بها. وهو أول من أدخل كتب الشافعي ومذهبه إليها. من تصانيفه: «الصحيح المسند» وهو مخرج على صحيح مسلم، وله فيه زيادات. أنظر: تذكرة الحفاظ 3/ 2، والأعلام 9/ 256، ومعجم المؤلفين 13/ 242. (¬5) مسند أبي عوانة (رقم: 3910).

بالحياة والموت حقيقة هو الساكن، لا السكن، وأن إطلاق الحي والميت في وصف البيت، إنما يراد به ساكن البيت فشبّه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وباطنة بنور المعرفة. ا. هـ. قال أبو محمد: ولما كان الذكر بالمحل الأسنى، والمقام الأعلى، كان أصحابه من الخليقة على الكمال، هم أكمل الخلق في الدنيا والأخرى؛ فكان أكمل من يقوم به ثلاثة أصناف: الملائكة، فهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] والنبيون الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام، وأهل الجنة الذين اصطفاهم لكرامته وأتم عليهم نعمته، فهم يُلهمون التسبيح والتحميد؛ كما يُلهمون النفس، وكان أبعد الناس عنه هم شر الخليقة من الكفار والمنافقين والأبالسة والشياطين، بل هؤلاء ينفرون من الذكر، وهو عليهم عمى، قال ابن كثير (¬1) في تفسيره (¬2) ما نصه: وأما الكافر الظالم نفسه بذلك، فلا يزيده سماعه القرآن إلا بعدًا وتكذيبًا وكفرًا. والآفة من الكافر لا من القرآن، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ ¬

(¬1) هو: محمد بن إسماعيل بن عمر بن كثير، أبو عبد الله، البصروي، ثم الدمشقي، الشافعي. (أبوه الحافظ ابن كثير. المفسر. المؤرخ المشهور) محدث، حافظ، مؤرخ. قال ابن حجر: وسمع معي بدمشق. ثم رحل إلى القاهرة، فسمع من بعض شيوخنا، وتمهر في هذا الشأن قليلا وتخرج بابن النجيب، ودرس في مشيخة الحديث بعد أبيه بتربة أم صالح. أنظر: شذرات الذهب 6/ 35، والضوء اللامع 7/ 138. (¬2) تفسير ابن كثير/ دار طيبة (5/ 112).

مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} (¬1) والآيات في ذلك كثيرة روينا في صحيح البخاري من طريق الزهري (¬2) قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: قال أبو هريرة (¬3) - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (¬4). ورويناه في صحيح مسلم: من طريق حماد بن زيد عن ثابت عن أبى بردة عن الأغر المزنى (¬5) - وكانت له صحبة - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 124، 125 (¬2) هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب. من بني زهرة، من قريش. تابعي من كبار الحفاظ والفقهاء مدني سكن الشام. هو أول من دون الأحاديث النبوية. ودون معها فقه الصحابة. قال أبو داود: جميع حديث الزهري (2200) حديث. أخذ عن بعض الصحابة. وأخذ عنه مالك بن أنس وطبقته. أنظر: تهذيب التهذيب 9/ 445. 451 وتذكرة الحفاظ 1/ 102؛ والوفيات 1/ 451؛ والأعلام للزركلي 7/ 317. (¬2) هو عبد الرحمن بن صخر من قبيلة دوس، وقيل في اسمه غير ذلك، صحابي، راوية الإسلام. أكثر الصحابة رواية له. أسلم 7 هـ وهاجر إلى المدينة، ولزم تانبي - صلى الله عليه وسلم، فروى عنه أكثر من خمسة آلاف حديث. ولاه أمير المؤمنين عمر البحرين (¬3) صحيح البخاري (رقم: 6307). (¬4) هو: الأغر بن يسار المزني ويقال الجهني روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ليغان على قلبي وروى عن أبي بكر وعنه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري ومعاوية بن قرة، قلت: أنكر بن قانع على من جعله مزنيا، وإنكاره هو المنكر، وأما بن مندة فاعلهما اثنين فلم يصب، وقال أبو علي بن السكن: حدثنا محمد بن الحسن عن البخاري، قال مسعر: يقول في روايته عن الأغر الجهني والمزني أصح. تهذيب التهذيب (1/ 318).

قال: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة». (¬1) .. وهذا الذكر مع عظمته وفضله لا يوفّق له إلا القليل من الخلق، فسبحان البارئ جلّ شأنه يهدي من يشاء لفضله ويصرفه عمن يشاء بعدله .. لا إله إلا هو. فصل: وهذه العبادة العظيمة القدر الجليلة، أحدث الناس فيها ما أحدثوا من ابتداع واستحسان وزيادة على ما رسم الشارع وأبان .. فصارت عند كثير من المسلمين اليوم في طول العالم الإسلامي وعرضه- ضربًا من ضروب البدع الصّادّة، وعن طريق المهتدين منحرفة عن الجادّة، فكان لزاما على من علم الحق بدليله أن يرد التائه إلى جادة الصواب، والمبتدع إلى طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - والأصحاب. فصل: روينا في سنن الدامي (¬2): من طريق عمر بن يحيى، قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن ¬

(¬1) صحيح مسلم (رقم: 2702). (¬2) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل التميمي الدرامي، أبو محمد. من أهل سمرقند. مفسر ومحدث وفقيه. استقضي على (سمرقند) فأبى فألح عليه السلطان؛ فقضي بقضية واحدة ثم استعفى؛ فأعفى. من تصانيفه: السنن؛ والثلاثيات. وكلاهما في الحديث؛ والمسند؛ والتفسير؛ وكتاب الجامع. أنظر تهذيب التهذيب 5/ 294؛ وتذكرة الحفاظ 2/ 105 ومعجم المؤلفين 6/ 71.

مسعود (¬1) قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري (¬2)، فقال: أَخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد، قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد أنفا أمرًا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرًا، قال: فما هو، فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسًا، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصا، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم، قال: ما قلت لهم شيئًا، انتظار رأيك، أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم، ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون، قالوا: يا أبا عبد الله حصا نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا ¬

(¬1) هو: عبد الله بن مسعود بن يافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن من أهل مكة. من أكابر الصحابة فضلًا وعقلًا. ومن السابقين إلى الإسلام. وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين. شهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كان ملازما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أقرب الناس إليه هديا ودلا وسمتا. أخذ من فيه سبعين سورة لا ينازعه فيها أحد. بعثه عمر إلى أهل الكوفة ليعلمهم أمور دينهم. له في الصحيحين 848 حديثًا. أنظر: الطبقات لابن سعد 3/ 106؛ والإصابة 2/ 368؛ والأعلام 4/ 480. (¬2) هو: عبد الله بن قيس بن سليم، من الأشعريين، ومن أهل زبيد باليمن. صحابي من الشجعان الفاتحين الولاة. قدم مكة عند ظهور الإسلام، فأسلم، وهاجر إلى الحبشة. واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على زبيد وعدن. وولاه عمر بن الخطاب البصرة سنة 17هـ، فافتتح أصبهان والأهواز، ولما ولي عثمان أقره عليها، ثم ولاه الكوفة. وأقره علي، ثم عزله. ثم كان أحد الحكمين بين علي ومعاوية. وبعد التحكيم رجع إلى الكوفة وتوفي بها. أنظر: الأعلام للزركلي 4/ 254؛ والإصابة؛ وغاية النهاية 1/ 442 ..

سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وأنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلي ملةٍ هي أهدي من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. (¬1) قلت: وهذا إسناد صالح. وأخرجه ابن وضاح (¬2): قال: أخبرنا أسد، عن عبد الله بن رجاء، عن عبيد الله بن عمر، عن يسار أبي الحكم، أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حدث أن أناسا بالكوفة يسبحون بالحصا في المسجد، فأتاهم، وقد كوّم كل رجل منهم بين يديه كومة حصا، قال: فلم يزل يحصبهم بالحصا حتى أخرجهم من المسجد، ويقول: «لقد أحدثتم بدعة ظلما، أو قد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علما» (¬3) ¬

(¬1) سنن الدامي (رقم: 210) (¬2) هو: محمد بن وضاح بن يزيد، قيل: ابن بديع، أبو عبد الله المالكي مولى عبد الرحمن بن معاوية الأندلسي. فقيه، محدث، حافظ، روى عن يحيى بن يحيى ومحمد بن خالد ومحمد بن المبار، الصوري وإبراهيم بن المنذر وعبد الملك بن حبيب وغيرهم. وعنه أحمد بن خالد وابن لبابة وابن المواز وقاسم بن أصبغ ووهب بن مسرة وغيرهم. وقال الحميدي: من الرواة المكثرين والأئمة المشهورين وكان أحمد بن خالد لا يقدم أحدًا عليه وكان يعظمه جدًا ويصف فضله وورعه. من تصانيفه: كتاب العباد والعوابد ورسالة السنة وكتاب الصلاة في التعليق. أنظر: شجرة النور الزكية 76، والديباج المذهب 239، ولسان الميزان 5/ 416، والأعلام 7/ 358. (¬3) البدع لابن وضاح (رقم: 16).

وفيه اختصار وانقطاع وأخرج آثارا بنحوه عن جماعة من السلف .. وقد فشا في هذه العصر من البدع - لا سيما مع انتشار وسائل التقنية وتبادل المعلومات مع انتشار الجهل - الشيء الكثير، وزاد هذا الأمر شدة تصدي بعض الوعاظ - الذين يسميهم السلف بالقُصّاص والمذكرين- وهم ليسوا من حملة العلم ولا من طلابه. فانتشرت الأحاديث الضعيفة والواهية، وراجت سوقهم وهي في الأصل كاسدة، وأحاط كثير من الناس بهؤلاء وتحلقوا عليهم، وُترك أخذ العلم من معادنه بل هانوا عليهم .. فلا تسأل عن الجهل والخرافات والبلايا والطامات. فذهبت حرمة الدين وحملته جملة بقدر ما تصدر أولئك الغمرة .. والله المستعان. فصل: وقد وضعت هذا السفر نصحا لنفسي وللمسلمين، ورجوت فيه الذب عن معالم الدين، ورمت فيه إبراز حقائق الذكر وأعلامه، والتقعيد لضوابطه وأحكامه، وجعلته في أحكام تتخللها فوائد كثيرة ومسائل. وقد أسميته (نتاج الفكر في أحكام الذكر)، وذكرت فيه ضوابط وقواعد فالحكم ينتظمها .. والله أسأل أن يكون هذا من العمل الصالح المقبول وأن يحقق فيه رجائي والمأمول وأن يقضي لي بإدراك رضاه ودخول جنته، وأن يجود عليّ بمغفرة الذنوب بمحض كرمه ومنّته، فهو أكرم مأمول وأجود مسئول. {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].

فصل: ومن أراد النصح النصح لنفسه فليلزم الأذكار الشرعية، والأوراد النبوية، وليعود نفسه عليها، فإن الخير عادة، والشر لجاجة، والنفس السوية متى قيدت للذكر ألفته وأحبته. قال الذهبي (¬1) في سيره في ترجمة داود بن أبي هند أنه قال: (¬2) كنت وأنا غلام أختلف إلى السوق، فإذا انقلبت إلى البيت، جعلت على نفسي أن أذكر الله إلى مكان كذا وكذا، فإذا بلغت إلى ذلك المكان، جعلت على نفسي أن أذكر الله كذا وكذا حتى آتي المنزل ... فانظر رعاك الله كيف عوّد نفسه هذا الذكر بأدنى كلفة، وهذا لرغبة القوم في الخير، وكانوا أحرص شيء عليه. وأكمل الطرائق في العقائد والعبادات والأخلاق، هي طريقة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، هداة الأمة من بعده، ومشاعل الأنام والظلام، ثم من تبعهم من أهل القرون المفضلة، التي هي خير القرون التي عاشت على المعمورة. والنظر في سيرهم وأحوالهم من أسباب استقامة النفس وزكاتها، وصلاح حالها. ¬

(¬1) هو: محمد بن أحمد بن عثمان بن فايماز، أبو عبد الله، شمس الدين الذهبي. تركماني الأصل، من أهل دمشق شافعي. إمام حافظ مؤرخ، كان محدث عصره. سمع عن كثير بدمشق وبعلبك ومكة ونابلس. برع في الحديث وعلومه. كان يرحل إليه من سائر البلاد. وكان فيه ميل إلى آراء الحانبلة، ويمتاز بأنه كان لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد، أو طعن في روايته. من تصانيفه: الكبائر؛ وتاريخ الإسلام في واحد وعشرين مجلدًا؛ وتجريد الأصل في أحاديث الرسول. أنظر: طبقات الشافعية الكبرى 5/ 216؛ والنجوم الزاهرة 10/ 183؛ ومعجم المؤلفين 8/ 289. (¬2) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (6/ 378).

وكذا من تبعهم من الصلحاء والزهاد ممن جاءوا بعدهم، ومن سير الذهبي: عمرو بن واقد: عن ابن حلبس: قيل لأبي الدرداء (¬1) - رضي الله عنه - وكان لا يفتر من الذكر: كم تسبح في كل يوم؟ قال: مائة ألف، إلا أن تخطئ الأصابع. (¬2) وفي ترجمة البويطي صاحب الشافعي ما نصه: وكان إماما في العلم، قدوة في العمل، زاهدًا ربانيًا، متهادًا، دائم الذكر والعكوف على الفقه (¬3). وفي ترجمة الحافظ عبدالرحمن بن منده: قال ابن أخيه ما نصه: كان عمي سيفا على أهل البدع، وهو أكبر من أن يثني عليه مثلي، كان -والله- آمرا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، كثير الذكر، قاهرًا لنفسه، عظيم الحلم، كثير العلم (¬4). وفي ترجمة أبي بكر الشحامي: قال السمعاني: كتبت عنه الكثير، وكان يملي في الجامع الجديد بنيسابور كل جمعة مكان أخيه، ¬

(¬1) هو: عويمر بن مالك بن قيس بن أمية، أبو الدرداء الأنصاري. من بني الخزرج صحابي، كان قبل البعثة تاجرًا في المدينة، ولما ظهر الإسلام اشتهر بالشجاعة والنسك. ولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو أول قاض بها. قال ابن الجزري: كان من العلماء الحكماء. وهو أحد الذين جمعوا القرآن حفظًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف. مات بالشام، له في كتب الحديث 179 حديثًا. أنظر: الإصابة 3/ 45، وأسد الغابة 4/ 159، والأعلام 5/ 281. (¬2) سير أعلام النبلاء ط الرسالة 12/ 59 وأنظر: ابن عساكر 13/ 377/ 2. (¬3) سير أعلام النبلاء ط الرسالة 12/ 59 وأنظر: فيات الأعيان 7/ 63، وتهذيب الكمال 1563، وطبقات الشافعية للسبكي 2/ 164. (¬4) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (18/ 352) وأنظر: تذكرة الحفاظ 3/ 166، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 28.

وكان كخير الرجال، متواضعًا متوددًا، ألوفًا، دائم الذكر، كثير التلاوة، وصولا للرحم (¬1). وفي ترجمة الموفق ابن قدامة شيخ الحنابلة في عصره قال أبو عبد الله اليونيني: أما ما علمته من أحوال شيخنا وسيدنا موفق الدين، فإنني إلى الآن ما أعتقد أن شخصًا ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم، والصفات الحميدة التي حصل بها الكمال سواه، فإنه كان كاملًا في صورته ومعناه من حيث الحسن، والإحسان، والحلم والسؤدد، والعلوم المختلفة، والأخلاق الجميلة، رأيت منه ما يعجز عنه كبار الأولياء، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن يلهمه ذكره» (¬2). فقلت بهذا: إن إلهام الذكر أفضل من الكرامات، وأفضل الذكر ما يتعدى إلى العباد، وهو تعليم العلم والسنة، وأعظم من ذلك، وأحسن ما كان جبلة وطبعا؛ كالحلم، والكرم، والعقل، والحياء، وكان الله قد جبله على خلق شريف، وأفرغ عليه المكارم إفراغًا، وأسبغ عليه النعم، ولطف به في كل حال (¬3). وغيرهم كثير ممن منّ الله عليه بكثرة الذكر من أهل التوفيق والحظوة، رزقنا الله ذلك بمنّه وكرمه. وممن أدركت في عصرنا شي الْسلام، وعلم الأنام في زمانه، شيخنا المبجل أبا عبد الله عبدالعزيز بن عبد الله آل باز، المحدث الفقيه الأصولي المفسر، المتوفى سنة (1421هـ)، فلم أر في عصرنا مثله في ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (20/ 110) (¬2) مسند البراز (رقم: 3890). (¬3) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (22/ 170).

كثرة الذكر، وحضور الدمعة، وصدق التأله، وكمال النصح لنفسه، ولغيره، وقد حباه الله من جميل الخصال، وطيب الفعال ما لا يتفق وجوده في غيره من أهل هذا الزمان، بل من أزمان، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عني وعن المسلمين أبلغ الجزاء، وأوفاه ... فبمثل هذا تعمر الأوقات وتقضى الدهور والسنوات. فصل: وقد نبتت في عصرنا نوابت سوء سبابة، امتهنوا الوقيعة في الناس، وأداموا السب، وأمعنوا في أعراض الصالحين، وأدمنوا الثلب، فلله كم انتهكوا من أعراض الصالحين وآذوهم، وكم اقترضوا من أعراض الغافلين وضروهم، والله الموعد، ولله في الانتقام لأوليائه سنن ماضيات، وعوائد مقضيات، فلا {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84]. وفي درر أبي الفضل الكامنة في أعيان المائة الثامنة: عن أحدهم ما نصه: وفي أواخر عمره تغير ذهنه ونسي غالب محفوظاته حتى القرآن ويقال إن ذلك كان عقوبة له لكثرة وقيعته في الناس - عفا الله تعالى عنه بمنه وكرمه ومات في صفر سنة 792 (¬1). ولم يعالجوا أدواءهم كما فعل ابن وهب كما في ترجمته في سير الذهبي: نذرت أني كلما اغتبت إنسانًا أن أصوم يومًا، ¬

(¬1) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (6/ 24).

فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنسانًا، أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة (¬1). لكن ذا شأن أهل التوفيق والتسديد، وقد حرموه إلا من شاء الله وتاب ورجع إلى مولاه وثاب. فصل: وهذه الأحكام والضوابط والفوائد التي حرارتها مع قلة البضاعة، هي منتخبة من كلام العلماء وتقريراتهم، جمعتها من تصانيفهم ومؤلفاتهم، مع زيادة جملة من عندي، فما كان فيها من صواب، فهو محض توفيق وتسديد من الرحيم، وما كان من غلط أو غفلة أو نقص، فهو من النفس والشيطان الرجيم، وأخيرًا لا يفوتني أن أشكر التلميذين النجيبين والأخوين الفاضلين /الشيخ مشعل بن بندر الشمري و /الشيخ علي بن عبد المنعم اللذين قاما بالتنسيق والتصحيح والصفّ فجزاهما الله عني خير الجزاء وأجزله ... والحمد لله حمد الشاكرين، وهذا أوان الشروع في صلب الموضوع. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/ 228).

الحكم الأول

الحكم الأول لا يُجمع بين الأذكار التي ينوب بعضها عن بعض، بل يكره ذلك أو يحرم، وإنما يُقال هذا تارة وهذا تارة؛ كأدعية الاستفتاح في الصلاة - مثلا - وبيان ذلك قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية (¬1) - رحمه الله - في مجموع الفتاوي (¬2)، ما نصه: وقاعدتنا في هذا الباب أصّح القواعد، أن جميع صفات العبادات، من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرًا يصح التمسك به، لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله، كما قلنا في أنواع صلاة الخوف، وفي نوعي الأذان الترجيع، وتركه، ونوعي الإقامة شفعها، وإفرادها، وكما قلنا في أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاحات، وأنواع الاستعاذات، وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد، وأنواع ¬

(¬1) هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي، تقي الدين. الإمام شيخ الإسلام. حنبلي. ولد في حران وانتقل به أبوه إلى دمشق فنبغ واشتهر. سان بمصر مرتين من أجل فتاواه. توفي بقلعة دمشق معتقلا. كان داعية إصلاح في الدين، آية في التفسير والعقائد والأصول، فصيح اللسان. مكثرًا من التصنيف. من تصانيفه: السياسة الشرعية؛ ومنهاج السنة؛ وطبعت فتاواه في الرياض مؤخرا في 35 مجلدًا. أنظر: الأعلام للزركلي 1/ 140؛ والدرر الكامنة 1/ 144؛ والبداية والنهاية 14/ 135. (¬2) مجموع الفتاوى (24/ 242).

صلاة الجنازة، وسجود السهو، والقنوت قبل الركوع وبعده، والتحميد بإثبات الواو وحذفها، وغير ذلك؛ لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات، ويفضل على بعض، إذا قام دليل يوجب التفضيل، ولا يكره الآخر. ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد، لا يمكنه أن يأتي بتشهدين معًا، ولا بقراءتين معًا، ولا بصلاتي خوف معًا، وإن فعل ذلك مرتين كان ذلك منهيًا عنه، فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة، ومكروه أخرى، ولا تنظر إلى من قد يستحب الجمع في بعض ذلك، مثل ما رأيت بعضهم قد لفّق ألفاظ الصلوات على النبي المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستحب فعل ذلك الدعاء الملفق، وقال في حديث أبي بكر (¬1) الصديق - صلى الله عليه وسلم - المتفق عليه لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: قل: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا» وفي رواية: «كثيرًا» (¬2) «وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عند، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» (¬3). فقال يستحب أن يقول: كثيرا كبيرا، وكذلك يقول في أشباه هذا: فإن هذا ضعيف، فإن هذا أولا ليس سنة، بل خلاف المسنون. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل ذلك جميعه جميعًا؛ ¬

(¬1) هو: عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر. من تيم قريش. أول الخلفاء الراشدين، وأول من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. من أعاظم الرجال، وخير هذه الأمة بعد نبيها. ولد بمكة، ونشأ في قريش سيدًا، موسرًا، عالمًا بأنساب القبائل حرم على نفسه الخمر في الجاهلية، وكان مألفا لقريش، أسلم بدعوته كثير من الًسابقين. صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هجرته، وكان له معه المواقف المشهورة. ولي الخلافة بمبايعة الصحابة له. فحارب المرتدين، ورسخ قواعد الإسلام. وجه الجيوش إلى الشام والعراق ففتح قسم منها في أيامه. أنظر: منهاج السنة 3/ 118 (وأبو بكر الصديق) للشيخ علي الطنطاوي .. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 834). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 2705).

وإنما كان يقول هذا تارة، وهذا تارة، إن كان الأمران ثابتين عنه، فالجمع بينهما ليس سنة، بل بدعة، وإن كان جائزا. الثاني: أن جمع ألفاظ الدعاء والذكر الواحد على وجه التعبد، مثل جمع حروف القراء كلهم، لا على سبيل الدرس والحفظ؛ لكن على سبيل التلاوة والتدبر، مع تنوع المعاني، مثل أن يقرأ في الصلاة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]. {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19]. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}. {إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157]. {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}. {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]. {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]. {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا}. {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} [البقرة: 229]. {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}. {أَوْ لَامَسْتُمُ} [النساء: 43]. ومعلوم أن هذه بدعة مكروهة قبيحة. الثالث: أن الأذكار المشروعة أيضا، لو لفق الرجل له تشهدا من التشهدات المأثورة، فجمع بين حديث ابن مسعود وصلواته (¬1)، وبين ¬

(¬1) صحيح البخاري (رقم 831) وصحيح مسلم (رقم: 402).

زاكيات (¬1) تشهد عمر (¬2)، ومباركات (¬3) ابن عباس (¬4)، بحيث يقول: التحيات لله والصلوات والطيبات والمباركات والزاكيات، لم يشرع له ذلك، ولم يستحب فغيره أولى بعدم الاستحباب. الرابع: أن هذا إنما يفعله من ذهب إلى كثرة الحروف، والألفاظ، وقد ينقص المعنى، أو يتغير بذلك، ولو تدبر القول لعلم أن كل واحد من المأثور يحصل المقصود، وإن كان بعضها حصله أكمل، فإنه إذا قال: «ظلمًا كثيرًا» فمتى كثر فهو كبير في المعنى، ومتى كبر فهو كثير في المعنى، وإذا قال: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد». أو قال: «اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته». فأزواجه وذريته من آله بلا شك، أو هم آله فإذا جمع بينهما، وقال: «على آل محمد وعلى أزواجه وذريته». لم يكن قد تدبر المشروع، فالحاصل أن ¬

(¬1) موطأ مالك ت عبد الباقي (1/ 91). (¬2) هو: عمر بن الخطاب بن نفيل، أبو حفص الفاروق. صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمير المؤمنين، ثاني الخلفاء الراشدين. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو الله أن يعز الإسلام بأحد العمرين، فأسلم هو. وكان إسلامه قبل الهجرة بخمس سنين، فأظهر المسلمون دينهم. ولازم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان أحد وزيريه، وشهد معه المشاهد. بايعه المسلمون خليفة بعد أبي بكر، ففتح الله في عهده الفتوح، ونشر الإسلام حتى قيل إنه انتصب في عهده اثنا عشر ألف منبر. وضع التاريخ الهجري. ودون الدواوين. قتله أبو لؤلؤة المجوسي وهو يصلي الصبح. أنظر: الأعلام للزركلي 5/ 204، وسيرة عمر بن الخطاب للشيخ علي الطنطاوي. (¬3) صحيح مسلم (رقم: 403). (¬4) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب. قرشي هاشمي. حبر الأمة وترجمان القرآن. أسلم صغيرًا ولازم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح وروى عنه. كان الخلفاء يجلونه. شهد مع علي الجمل وصفين. وكف بصره في آخر عمره. كان يجلس للعلم، فيجعل يومًا للفقه، ويومًا للتأويل، ويومًا للمغازي، ويومًا للشعر، ويومًا لوقائع العرب. توفي بالطائف. أنظر: الأعلام للزركلي، والإصابة؛ ونسب قريش ص 26.

أحد الذكرين إن وافق الآخر في أصل المعنى، كان كالقراءتين اللتين معناهما واحد، وإن كان المعنى متنوعا، كان كالقراءتين المتنوعتي المعنى، وعلى التقديرين فالجمع بينهما في وقت واحد لا يشرع. وأما الجمع في صلوات الخوف، أو التشهدات، أو الإقامة، أو نحو ذلك، بين نوعين، فمنهي عنه باتفاق المسلمين، وإذا كانت هذه العبادات القولية أو الفعلية لابد من فعلها على بعض الوجوه؛ كما لا بد من قراءة القرآن على بعض القراءات، لم يجب أن يكون كل من فعل ذلك على بعض الوجوه؛ إنما يفعله على الوجه الأفضل عنده، أو قد لا يكون. انتهى كلامه - رحمه الله -. قال أبو محمد: وإذا تقرر هذا فإنه لا يجمع بين استفتاحين لحصول المقصود بالأول، فلم يصاد الثاني استفتاحا، وأيضا لم يجئ خبر قط بجمعهما، فإن قيل قد روى البيهقي من طريق بشر بن شعيب بن أبي حمزة أن أباه حدثه أن محمد بن المنكدر أخبره أن جابر بن عبد الله (¬1) - رضي الله عنهما - أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استفتح الصلاة قال: «سبحانك اللهم وبحمد،، وتبار، اسمك، وتعالى جد،، ولا إله غير، وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له». (¬2) ¬

(¬1) هو: جابر بن عبد الله بن عمر بن حرام. أنصاري، سلمي. صحابي؛ شهد بيعة العقبة. وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - 19 غزوة. أحد المكثرين من الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت له في أواخر أيامه حلقة بالمسجد النبوي ويؤخذ عنه فيها العلم. كف بصره قبل موته بالمدينة. - صلى الله عليه وسلم -. أنظر: الإصابة 1/ 214، والأعلام للزركلي 2/ 92. (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 2351) قال في نصب الراية (1/ 319): قال البيهقي في المعرفة (2/ 349) (رقم: 3007): وقد روي في الجمع بينهما عن محمد بن المنكدر، مرة عن ابن عمر، ومرة عن جابر، وليس بالقوي، انتهى .. ووجدت في كتاب العلل (ص 147) لابن أبي حاتم قال: سأل أحمد بن سلمة أبي عن حديث رواه إسحاق بن راهويه في أول كتاب الجامع عن الليث بن سعد عن سعيد بن يزيد عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجمع في أول صلاته بين: سبحانك اللهم وبحمدك، وبين وجهت وجهي، إلى آخرهما، قال إسحاق: والجمع بينهما أحب إلي، فقال أبي: هذا حديث باطل موضوع لا أصل له، أرى أن هذا من رواية خالد بن القاسم المدائني، وقد كان خرج إلى مصر، فسمع من الليث، فرجع إلى المدائن، فسمع منه الناس، وكان يوصل المراسيل، ويضع لها أسانيد، فخرح رجل من أهل الحديث إلى مصر فكتب كتب الليث هناك، ثم قدم بها بغداد، فعارضوا بتلك الأحاديث، فبان لهم أن أحاديث خالد مفتعلة، انتهى كلامه.

فالجواب أن هذا الخبر لا يثبت لوجهين: الأول: أن بِشرًا قد اختلف في سماعه من أبيه، فقد جزم أبو زرعة الرازي بأن سماعه من أبيه إنما كان إجازة (¬1). الثاني: أن بشرا تفرد بالجمع بين هذين اللفظين في دعاء الاستفتاح فقد خالفه من هو أوثق منه وهو شريح بن يزيد الحضرمي فرواه عن شعيب بن أبي حمزة دون الاستفتاح الأول مقتصرا على قوله: «وجهت وجهي ...» رواه هكذا ¬

(¬1) أنظر الجرح: والتعديل 1/ ق1/ 359، تهذيب التهذيب 1/ 451. قال الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 318) معلقًا: سمعت من شعيب وقد احتضر يقول: من أراد أن يسمع هذه الكتب فليسمعها من ابني، فإنه قد سمعها مني. أنظر: تهذيب التهذيب (1/ 452) قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (1/ق1/ 359) ذكر لي أن أحمد بن حنبل سأله سمعت من أبيك شيئا؟ قال: لا. قال: فقرئ عليه وأنت حاضر؟ قال: لا. قال: فقرأت عليه؟ قال: لا. قال: فأجاز لك؟ قال: نعم. وكتب عنه على معنى الاعتبار ولم يحدث عنه. قال الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 318) معقبًا بعد أن أورد خبر أبي حاتم: فهذه القصة عنه هكذا ليست بصحيحة، فإن أبا حاتم رواها بلا سماع من أحمد، بل قال: ذكر لي أن أحمد سأله. وقال ابن حار في تهذيب التهذيب (1/ 452): فهذا معارض لحكاية أبي حاتم المنقطعة. ومما يؤيده أن أبا حاتم قال في تلك الحكاية أن أحمد لم يحدث عن بشر وليس الأمر كذلك بل حديثه عنه في المسند.

النسائي (¬1). والدارقطني (¬2) وشريح من الثقات، وأيضا قال أبو حاتم في العلل، وقد ذكر حديثا يرويه شعيب بن أبي حمزة، قال ما نصه: رواه شُعيب بن أبي حمزة، عن مُحمد بن المنكدر، عن جابر وقد طعن فيها وكان عرض شُعيب على ابن المنكدر كتابا فأمر بقراءته عليه، فعر بعضًا وأنكر بعضًا، وقال: لابنه أو لابن أخيه اكتب هذه الأحاديث فدون شُعيب ذلك الكتاب، ولم يثبت رواية شُعيب تلك الأحاديث على الناس، وعرض علي بعض تلك الأحاديث فرأيتها مشابهة لحديث إسحاق بن أبي فروة، وهذا الحديث من تلك الأحاديث. ا. هـ. ¬

(¬1) هو: أحمد بن علي بن شعيب، النسائي الإمام المحدث صاحب السنن. أصله من (نسا) بخراسان. خرج منها، وجال في العالم الإسلامي يسمع الحديث ويلقى الشيوخ حتى برع. ثم استقر بمصر. قيل أن شرطه في الرواة أقوى من شرط البخاري ومسلم. خرج إلى دمشق فسئل عن فضائل معاوية، فأمسك، فضربوه في الجامع وأخرجوه. فخرج قاصدا مكة، ومات في الرملة بفلسطين. من تصانيفه السنن الكبرى؛ والمجتبى، وهو السنن الصغرى؛ والضعفاء؛ وخصائص علي؛ وفضائل الصحابة. انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 241؛ والأعلام للزركلي 1/ 164؛ والبداية والنهاية 11/ 123. (¬2) هو: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، أبو الحسن، البغدادي الدارقطني، نسبته إلى دار القطن محله ببغداد. إمام كبير ومحدث حافظ، وفقيه، ومقرئ. سمع الحديث من أبي القاسم البغوي وخلق كثير ببغداد والكوفة والبصرة وواسط. وتوفي ببغداد، ودفن قريبا من معروف الكرخي. من تصانيفه الكثيرة: كتاب السنن، والعلل الواردة في الأحاديث النبوية والمجتبى من السنن المأثورة، والمختلف والمؤتلف في أسماء الرجال. انظر: شذرات الذهب 3/ 116، وتذكرة الحفاظ 3/ 186، ومعجم المؤلفين 7/ 157، والأعلام 5/ 130.

قال أبو محمد: وأما جمع الأذكار في غير هذا المقام ففيه تفصيل، قال شيخنا المحرر ابن عثيمين - رحمه الله - في شرحه على البخاري، وقد سئل هل أذكار النوم تقال كلها؟ فأجاب - رحمه الله -: الذي يظهر لي أن هذا على أقسام: الأول: ما دلت السنة على إفراده، ومثاله الاستفتاح فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله أبو هريرة - رضي الله عنه - لم يذكر له إلا دعاء واحدا. قلت: يعني شيخنا ما أخرجه البخاري من طريق عمارة بن القعقاع قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاته - قال أحسبه قال هنية - فقلت بأبي وأمي يا رسول الله إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثل والبرد». (¬1) وأخرجه مسلم أيضا (¬2). الثاني: ما كان ظاهره أن بعضه ينوب عن بعض للتشابه بينهما؛ كالتسبيح بعد الصلوات، فإنه لا يجمع بين التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين، ثم التهليل واحدة، مع التهليل والتسبيح والتحميد والتكبير خمسا وعشرين. الثالث: ما لم تدل السنة على إفراده. وليس ظاهره أن بعضه ¬

(¬1) أخرجه البخاري. (رقم 744 و 711). (¬2) (رقم: 147) وأخرجه أحمد (رقم: 7164) وأبو داود (رقم: 781) والنسائي (رقم: 60) وابن ماجه (رقم: 805) والدرامي (رقم: 1244).

ينوب عن بعض لتشابهه، فالظاهر أنه يجمع بينه، ومثاله: أذكار الركوع والسجود والنوم. فإن قال قائل: في أذكار النوم ذكر حذيفة (¬1) - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول دعاء كذا وكذا، وذكر البرآء (¬2) - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا، فالظاهر الإفراد؟. فيقال: ليس هذا واضحًا لجواز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أسمع هذا ما لم يسمعه ذاك، والله أعلم. ا. هـ. من تعليقه على كتاب الدعوات من صحيح البخاري: (الشريط الأول/ الوجه الثاني).ا. هـ. ¬

(¬1) هو: حذيفة بن اليمان (واليمان لقبه واسمه: حسيل ويقال حسل) أبو عبد الله العبسي. من كبار الصحابة، وصاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أسلم هو وأبوه وأرادا شهود بدر فصدهما المشركون، وشهد أحدًا فاستشهد اليمان بها. شهد حذيفة الخندق وما بعدها، كما شهد فتوح العراق، وله بها آثار شهيرة. خيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة. استعمله عمر على المدائن فلم يزل بها حتى مات بعد بيعة علي بأربعين يومًا. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الكثير، وعن عمر، وروى عنه جابر وجندب وعبد الله بن يزيد وآخرون. انظر: تهذيب التهذيب 2/ 219، والإصابة 1/ 317؛ والأعلام للزركلي 2/ 180. (¬2) هو: البراء بن عازب بن الحارث بن عدي، أبو عمارة، الخزرجي الأنصاري. قائد صحابي، من أصحاب الفتوح. أسلم صغيرًا، وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر وعلي وبلال غييرهم - رضي الله عنهم -. وعنه عبد الله بن زيد الخطمي وأبو جحيفة وابن أبي ليلى وغيرهم. ولما ولي عثمان الخلافة جعله أميرًا على الري (بفارس) سنة 24. أنظر: الإصابة 1/ 142، وأسد الغابة 1/ 171، وتهذيب التهذيب 1/ 425، والأعلام 2/ 14.

وقال ابن القيم (¬1) في الهدي: (¬2) وكان يقول: (سبحان ربي العظيم) وتارة يقول مع ذلك أو مقتصرا عليه (سبحانك اللهم ربنا وبحمد،، اللهم اغفر لي) ا. هـ. وهذا يؤيد قول شيخنا في القسم الثالث، ويزيد عليه أنه لا بأس بالإفراد. قلت: وهذا ظاهر ما رويناه في صحيح مسلم: (¬3) عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب (¬4)، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان إذا قام إلى الصلاة، قال: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا ¬

(¬1) هو: محمد بن أبي بكر بن سعد الزرعي. شمس الدين من أهل دمشق. من أركان الإصلاح الإسلامي، واحد من كبار الفقهاء. تتلمذ على ابن تيمية وانتصر له ولم يخرج عن شيء من أقواله، وقد سجن معه بدمشق. كتب بخطه كثيرًا وألف كثيرًا. من تصانيفه: أنظر: الطرق الحكمية؛ ومفتاح دار السعادة والفروسية؛ ومدارج السالكين. (¬2) زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 209). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 771). (¬4) هو: علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب: عبد مناف بن عبد المطلب. من بني هاشم، من قريش. أمير المؤمنين. ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنته فاطمة. ولي الخلافة بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان، فلم يستقم له الأمر حتى قتل بالكوفة. كفره الخوارج، وغلا فيه الشيعة حتى قدموه على الخلفاء الثلاثة، وبعضهم غلا فيه حتى رفعه إلى مقام الألوهية. ينسب إليه (نهج البلاغة) وهو مجموعة خطب وحكم، أظهره الشيعة في القرن الخامس الهجري ويشك في صحة نسبته إليه. أنظر: الأعلام للزركلي 5/ 108؛ ومناهج السنة 3/ 2؛ والرياض النضرة 2/ 153 ..

إله إلا أنت أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وأهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفر، وأتوب إليك»، وإذا ركع، قال: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي»، وإذا رفع، قال: «اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد»، وإذا ساد، قال: «اللهم لك سادت، وبك آمنت، ولك أسلمت، ساد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره، تبار، الله أحسن الخالقين»، ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت». فظاهره الاقتصار على هذا الدعاء. ولذا وقع عند الترمذي (¬1)، بلفظ: «فإذا ركع كان كلامه في ركوعه أن يقول: اللهم لك ركعت». (¬2) ¬

(¬1) هو: محمد بن عيسى بن سورة السلمي البوغي الترمذي، أبو عيسى. من أئمة علماء الحديث وحفاظه. من أهل ترمذ، على نِر جيجون. تلميذ للبخاري. شاركه في بعض شيوخه. كان يضرب به المثل في الحفظ. من تصانيفه: (الجامع الكبير) المعروف بسنن الترمذي. أحد الكتب الستة المقدمة في الحديث عند أهل السنة؛ و (الشمائل النبوي). أنظر: الأنساب للسمعاني ص 95؛ والتهذيب 9/ 387. (¬2) سنن الترمذي (رقم: 3423).

الحكم الثاني

الحكم الثاني لا بأس أن يقال الذكر الضعيف أو الموقوف على الصحابة ومن بعدهم، أحيانًا ولكن بشروط: 1 - ألا يكون في لفظه ما يمنعه الشارع ولا في معناه فسادًا أو موهمًا لفساد، ولذا لا نقبل ما رواه الطبراني في الأوسط (¬1) قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن الزبير، ثنا عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن الأذرمي، نا هشيم، عن حميد، عن أنس (¬2) - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بأعرابي وهو يدعو في صلاته، وهو يقول: يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون. مع أن هشيما لم يصرح بالسماع. وجه النكارة: لا تراه العيون فإنه يوهم عدم النظر إليه جل وعلا بإطلاق، ومن عقائد أهل السنة ثبوت رؤيته سبحانه في الآخرة لأهل ¬

(¬1) الطبراني في الأوسط (رقم: 9448). (¬2) هو: أنس بن مالك بن النضر، النجاري الخزرجي الأنصاري، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه، خدمه إلى أن قبض. ثم رحل إلى دمشق، ومنها إلى البصرة، فمات بها آخر من مات بها من الصحابة. له في الصحيحين 2286 حديثًا. أنظر: الأعلام للزركلي؛ والإصابة؛ وطبقات ابن سعد؛ وتهذيب ابن عساكر 3/ 199؛ وصفة الصفوة 1/ 298.

الإيمان؛ كما ثبت في النصوص، وأجمع عليه أهل السنة، وكذا قوله لا يصفه الواصفون، فالله وصف نفسه بنعوت الكمال وكذا أنبياؤه والصالحون من بعدهم. والقاعدة في الألفاظ الموهمة التي لها معنيان صحيح وفاسد، فإن ثبتت هذه الألفاظ كتابا أو سنة، فهي محمولة على المعاني الصحيحة، وإن لم تثبت فتطرح، وتمنع لأجل الإيهام، ولأجل سد الباب لحفظ الاعتقاد، وألفاظ الشرع الصحيحة هي أكمل الألفاظ وأحسنها ومعانيها أصح المعاني وأجزلها. 2 - عدم المواظبة عليه؛ لأن المواظبة مشعرة باتخاذه دينًا يتعبد لله به، وهذا ممنوع، وأيضًا في ذلك مزاحمة لما رتبه الشارع من أذكار ودعوات صحيحة، وحث الناس على العمل بها وندب إليها، وهذا ممنوع فإن قيل لم لا يذكر مطلقًا، فالجواب لو قيل هذا لمنع كل دعاء غير وارد لم يلتزم به صاحبه أن يدعو به الإنسان مع الشروط المذكورة وهذا محال، فالسلف من الصحابة فمن بعدهم ما زالوا يأتون وأذكار مطلقة ليست واردة، لكن لم يتخذوها دينًا ويواظبوا عليها، هذا كله في الأدعية والأذكار المطلقة فحسب، أما الأذكار والدعوات المقيدة الواردة عن الصحابة فمن بعدهم، فهي محل بحث، والأصل المنع إلا بثبوت عن المصطفى عليه الصلاة والسلام فهي عبادة لا تتلقى إلا عنه والله المستعان ومن الشروط. 3 - ألا يعتقد ثبوتها عن النبي عليه الصلاة والسلام - وهذا القيد خاص بالمرفوع الضعيف؛ لأن ذلك افتراء على الشارع وكذب عليه، هذا إذا كانت الأخبار واهية، فتنشأ البدع، والضلالات؛ لأن الكذب على الله ورسوله من أعظم الذنوب؛ ولأن رواية الأحاديث

المكذوبة ونسبتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب للضلال والانحراف عن الحق، فالكذب عليه ليس ككذب على أحد لا في الحال ولا في العقوبة روينا في صحيح البخاري (¬1) ومسلم (¬2) في مقدمة صحيحه: من طريق سعيد بن عبيد، عن علي بن ربيعة، عن المغيرة (¬3) - رضي الله عنه -، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار»، وأما إذا كانت الأخبار ضعيفة فأصل المفسدة موجود. 4 - ألا يدعو إلى هذه الأذكار ويحث عليها، بل يستعملها الإنسان في خاصة نفسه. فإن قيل وهل هنا، أعظم من إخراج أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم وغيرهم كثيرًا من الأخبار في الأذكار وبيان فضلها وجزاءها إما في الدنيا أو في الآخرة مع ضعفها الظاهر في أسانيدها.؟! والجواب من وجوه: أولاً: أنهم قد نبهوا على ضعف كثير منها وعدم صحته فلم ¬

(¬1) صحيح البخاري (رقم: 1291). (¬2) مسلم (رقم: 4). (¬3) هو: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أحد دهاة العرب وقادتهم وولاتهم. صحابي، يقال له «مغيرة الرأي»، وفد إلى المقوقس في الجاهلية. تأخر إسلامه إلى السنة الخامسة للهجرة، وشهد الحديبية واليمامة وفتوح الشام، وذهبت عينه يوم اليرموك. وشهد القادسية ونهاوند وهمدان. ولاه عمر ثم عثمان. واعتزل الفتنة بين علي ومعاوية. ثم ولاه معاوية الكوفة. أنظر: الأعلام 8/ 406؛ والإصابة 3/ 452؛ وأسد الغابة 4/ 406.

يكن في هذا دعوة وحث عليها وترغيب فيها، بل كان في ذلك دعوة لتركها والترغيب عنها. ثانيًا: ما قدر أنهم لم يتكلموا على أسانيدها وحالها من الضعف والوهن فقد أبانوا عن عورها بذكر أسانيدها وهذا مذهب جمهرة من الأئمة والمصنفين كانوا يرون أنهم إذا ذكروا الإسناد برئوا من العهدة لظهور العلة وبيان سبب الاطراح فإن قيل فلمَ يروونها أصلًا؟ فالجواب: هي وقعت لهم في الطلب والأخذ، وهذا من الذب عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يرخصون في مثل هذا في باب الرواية لا في العمل؛ نعم كان الأولى البيان للضعيف، أو رواية الصحيح وما شابهه وتر، الضعيف. وهذا ما فعله صاحبا الصحيح (البخاري ومسلم) رحمهما الله، فشكرت الأمة لهما هذا الصنيع، ومن لم يلتزم بهذا فله اجتهاده، وحاجة الفقيه للصحيح وما قاربه وما لم يشتد ضعفه معلومة، وهذا باب واسع ليس هذا محل بسطه والله المستعان. بعد هذا كله هنا، فائدة مهمة بعد هذا التقرير، وهي أن في قول الذكر الضعيف بالشروط المتقدمة فائدة مهمة لطلبة العلم وحملته، وهي أن في هذا نوعًا من حفظ العلم، ولهذا من لا يذكر إلا الصحيح ويترك الضعيف مع طول الأمد ينسى الضعيف وسبب ضعفه، وهذا وإن كان لا يضره إلا أن من يعلم الصحيح ويعلم الضعيف، وسبب ضعفه أكمل علمًا وأقوى حجة وحفظًا، فكان فيما ذكرنا نوعًا من الإعانة على الحفظ والتذكر، والله الموفق. أمثلة عليه: لم يثبت عند دخول المنزل من الأذكار سوى بسم الله، كما في حديث جابر الذي أخرجه مسلم وغيره من طريق ابن جري، قال أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند

طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم، ولا عشاء، وإذا دخل، فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء» وفي بعض ألفاظه الصحيحة عند غير مسلم «فذكر اسم الله» (¬1). ولو قال أحيانًا قليلة «بسم الله اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا، وعلى ربنا توكلنا» أخرجه أبو داود (¬2) من طريق شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري (¬3) - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ولج الرجل بيته، فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج، وخير المخرج، بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله» (¬4) وهو ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 2018) وأحمد (رقم: 14729) وأبو داود (رقم: 3765) والنسائي (رقم: 9935) وابن ماجه (رقم: 3887). (¬2) هو سليمان بن الأشعث بن بشير أزدي من سجستان. كان من أئمة الحديث. رحل في طلبه. واختار في كتابه (4800) حديث من نصف مليون حديث يرويها. معدود من كبار أصحاب الإمام أحمد. وروى عنه المسائل. انتقل إلى البصرة بعد تخريب الزنج لها، لكي ينشر بها الحديث، وبها توفي. من مصنفاته أيضا: المراسيل؛ والبعث. أنظر: طبقات الحنابلة لأبي يعلى ص 118؛ وطبقات ابن أبي يعلى 1/ 162؛ والأعلام للزركلي 3/ 182. (¬3) اختلف في اسمه، قيل: الحارث بن الحارث، وقيل: عبيد، وقيل: كعب بن عاصم وقيل غير ذلك. صحابي، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه عبد الرحمن بن ينم الأشعري وأبو صالح الأشعري وشهر بن حوشب وأبو سلام الأسود وغيرهم. قال ابن حار: أبو مالك الأشعري الذي روى عنه أبو إسلام وشهر بن حوشب هو الحارث بن الحارث الأشعري، وأما أبو مالك الأشعري هذا فهو آخر قديم مات في خلافة عمر - رضي الله عنه -. ثم قال: الفصل بينهما في غاية الإشكال، حتى قال أبو أحمد الحاكم في ترجمته أبو مالك الأشعري: أمره مشتبه جدًا. أنظر: الإصابة 4/ 171، والاستيعاب 4/ 1745، وأسد الغابة 5/ 272، وتهذيب التهذيب 2/ 137، 12/ 218. (¬4) أخرجه أبو داود (رقم: 5096) والمعجم الكبير للطبراني (رقم: 3452).

حديث ضعيف لانقطاعه بين شريح وأبي مالك لم يضره، وكان معينًا له على حفظه وحفظ علته، والشروط المتقدمة منطبقة: أولاً: ليس في لفظ هذا الخبر ولا في معناه فساد ولا إيهام. ثانيًا: ولم يواظب عليه كما ذكرنا. ثالثا: ولم يعتقد ثبوته، بل اعتقد ضعفه. رابعًا: لم يدع إليه، ولم يحث على استعماله. وهنا أنقل كلاما لشيخنا ابن عثيمين من كتاب لقاءات الباب المفتوح السؤال (رقم: 1021). فضيلة الشيخ: بالنسبة للحديث الذي رواه الترمذي والحاكم (¬1) أن رجلًا عطس ثم قال: الحمد لله والسلام على رسول الله، فقال له ابن عمر (¬2): وأنا معك، الحمد لله والصلاة على رسول الله، ولكن ما ¬

(¬1) الحاكم: هو محمد بن عبد الله بن حمدويه، الشهير بالحاكم، يعرف بابن البيع. من حفاظ الحديث والمصنفين فيه. من أهل نيسابور. سمع بنيسابور وحدها من نحو ألف شي، وبغيرها من نحو ألف. وتفقه بأبي علي بن أبي هريرة وأبي سهل الصعلوكي. كان يرجع إليه في علل الحديث وصحيحه وسقيمه. وحفظ نحو 300 ألف حديث. اتهم بالتشيع، ودافع عنه السبكي. من تصانيفه: «المستدرك على الصحيحين»؛ و «تاريخ نيسابور»؛ و «معرفة علوم الحديث». أنظر: طبقات الشافعية للسبكي 3/ 64؛ وميزان الاعتدال 3/ 85؛ وتاريخ بغداد 5/ 473. (¬2) هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن. قرشي عدوي. صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. نشأ في الإسلام، وهاجر مع أبيه إلى الله ورسوله. شهد الخندق وما بعدها، ولم يشهد بدرا ولا أحدًا لصغره. أفتى الناس ستين سنة. ولما قتل عثمان عرض عليه ناس أن يبايعوه بالخلافة فأبى. شهد فتح إفريقية. كف بصره في آخر حياته. كان آخر من توفي بمكة من الصحابة. هو أحد المكثرين من الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. انظر: الأعلام للزركلي 4/ 246؛ والإصابة؛ وطبقات ابن سعد؛ وسير النبلاء للذهبي.

هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهل هذا القول بدعة؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الأذكار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كاملة من كل وجه، فإذا كان المشروع للعاطس أن يقول: الحمد لله فقط فليقتصر الإنسان عليها، فإذا زاد عليها نظرنا إن كان يرى أن الزيادة عليها أفضل فهذا مبتدع، وإن كان يرى أن هذه الزيادة من باب الجائز ويفعلها أحيانًا فهذه ليست ببدعة، لكن الأولى المحافظة على ما جاءت به الشريعة من الأذكار سواء في أذكار السلام أو العطاس أو غير ذلك، فإنه أفضل وأولى وأكمل. ا. هـ.

الحكم الثالث

الحكم الثالث الذكر المقيد بحال أو زمان أو مكان يفوت بفوات محله أو زمانه أو مكانه، ولا سبيل إلا قضائه، هذا هو الأصل، فأما فوات المكان والزمان فظاهر يمكن ضبطه، وأما فوات المحل فينظر، فإن ذكره عقيب محله على وجه لا يخرجه عن محله؛ كأن يكون ذكره ولم يكن ثَم فصل يقطع الموالاة فلم يفت، وإن ذكره بعد محله على وجه يقطع الموالاة ويحصل فصل طويل فقد فات. مثاله: إذا جاء الذكر مقيدًا بالليل، والليل من يروب الشمس إلى طلوع الفجر، فمن ذكره في الليل فقد أتى به على وجهه، ومن ذكره بعد طلوع الفجر أو قبل غروب الشمس فلم يأت به. مثال آخر: كفارة المجلس إذا قالها المرء قبل أن يقوم من مجلسه فقد أتى بها، وإن فارق المجلس وانفصل عنه فقالها فلم يأت بها. مثال آخر: إذا أتى العبد بالأذكار عقيب صلاة الفريضة مباشرة، من تسبيح وتحميد وتكبير وقراءة لآية الكرسي والمعوذات، فقد أتى بها على وجهها المشروع، فإن طال الفصل عرفًا فقد فاتت، وهذا مقام يحتاج إلى بسط فنقول: أخرج البخاري (¬1) تحت باب تفكر الرجل ¬

(¬1) البخاري (رقم: 1221).

الشيء في الصلاة، ثم روى من طريق عمر بن سعيد عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما سلم قام سريعًا فدخل على بعض نسائه، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته، فقال: «ذكرت وأنا في الصلاة تبرًا عندنا فكرهت أن يُمسي أو يبيت عندنا فأمرت بقسمته». وأخرج البخاري: (¬1) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة (¬2) - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: «اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنِا ألهتني آنفا عن صلاتي». وفي لفظ لمسلم: (¬3) «فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة ...» الحديث. ففي الحديث الأول فصل بالانتقال، والظاهر أنه لم يقل الأذكار فورًا عليه الصلاة والسلام، بل اشتغل بإخراج ذلك التبر وسأل عنه. وكل ذلك قبل الذكر والدعاء، وفي الحديث الثاني: تكلم بعد الصلاة مباشرة قبل الذكر، فهذان الفاصلان لا يمنعان الذكر بعد ذلك؛ لأن هذا فاصل يسير لا ¬

(¬1) البخاري (رقم: 373). (¬2) هي: عائشة الصديقة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان. أم المؤمنين، وأفقه نساء المسلمين. كانت أديبة عالمة. كنيت بأم عبد الله. لها خطب ومواقف. وكان أكابر الصحابة يراجعونِا في أمور الدين. وكان مسروق إذا روى عنها يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق. نقمت على عثمان - رضي الله عنه - في خلافته أشياء، ثم لما قتل غضبت لمقتله. وخرجت على علي - رضي الله عنه -، وكان موقفها المعروف يوم الجمل ثم رجعت عن ذلك، وردها علي إلى بيتها معززة مكرمة. للزركشي كتاب (الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة). أنظر: الإصابة 4/ 359؛ وأعلام النساء 2/ 760؛ ومنهاج السنة 2/ 182. 198. (¬3) مسلم (رقم: 556).

يمنع حصول الذكر في محله، وهل مثل هذا ما يكون من سكوت بعد الفريضة لسماع موعظة؟ فالجواب: محل احتمال قد يقال أن الإتيان بالأذكار دبر الصلاة أولى، وقد يقال بل سماع الموعظة مأمور به شرعًا إما وجوبًا أو استحبابًا، فيكون سكوته هنا سكوتًا يعذر فيه من قبل الشارع، لا يمنع إتيانه بالأذكار بعد ذلك ... واختار هذا شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - ومثل هذا ما في الصحيح من حديث شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس - رضي الله عنه - قال: أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلًا فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه ثم جاء فصلى بهم (¬1) .. وفي لفظ لمسلم (¬2): من طريق حماد عن ثابت عن أنس - رضي الله عنه - قال: أقيمت صلاة العشاء فقال رجل: لي حاجة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يناجيه حتى نام القوم - أو بعض القوم - ثم صلوا. وبوّب البخاري عليه: باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة (¬3)، وقال الحافظ: (¬4) في الحديث جواز الفصل بين الإقامة والإحرام إذا كان لحاجة، أما إذا كان لغير حاجة فهو مكروه، وأعاده في باب الكلام إذا أقيمت الصلاة، وعلق شيخنا ابن باز - رحمه الله - بقوله لا حرج في ذلك إذا كان الأمر مهمًا. ا. هـ. وهنا أنقل كلامًا لشيخ الإسلام في الموالاة لا يخلو من فوائد: ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 6292 و 5934) ومسلم (رقم 124) وأحمد (رقم: 12336). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 376). (¬3) صحيح البخاري (1/ 130). (¬4) فتح الباري (2/ 124).

قال - رحمه الله -: (¬1) ومذهب أحمد (¬2) في هذا أوسع من مذهب غيره: فعنده إذا قطع التتابع لعذر شرعي لا يمكن مع إمكان الاحتراز منه - مثل أن يتخلل الشهرين صوم شهر رمضان أو يوم الفطر أو يوم النحر أو أيام منى أو مرض أو نفاس ونحو ذلك - فإنه لا يمنع التتابع الواجب ولو أفطر لعذر مبيح؛ كالسفر فعلى وجهين. فالوضوء أولى إذا ترك التتابع فيه لعذر شرعي وإن أمكن الاحتراز منه. وأيضا فالموالاة واجبة في قراءة الفاتحة قالوا: إنه لو قرأ بعضها وسكت سكوتًا طويلًا لغير عذر: كان عليه إعادة قراءتها. ولو كان السكوت لأجل استماع قراءة الإمام أو لو فصل بذكر مشروع - كالتأمين ونحوه - لم تبطل الموالاة بل يتم قراءتها ولا يبتدئها ومسألة الوضوء كذلك سواء فإنه فرق الوضوء لعذر شرعي. ومعلوم أن الموالاة في الكلام أوكد من الموالاة في الأفعال. الخ. كلامه - رحمه الله -. وهنا نذكر حديثًا مهمًا متفرعا على ما تقدم للفائدة، وهو حديث أنس - رضي الله عنه -: «من صلى لله أربعين يومًا يدر، التكبيرة الأولى كتب له برائتان» (¬3) قال الترمذي: حدثنا عقبة بن مكرم، ونصر بن علي، قالا: ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 139). (¬2) هو: أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الله. من بني ذهل بن شيبان الذين ينتمون إلى قبيلة بكر بن وائل. إمام المذهب الحنبلي، وأحد أئمة الفقه الأربعة. أصله من مرو، وولد ببغداد. امتحن في أيام المأمون والمعتصم ليقول بخلق القرآن فأبى وأظهر الله على يديه مذهب أهل السنة. ولما توفي الواثق وولي المتوكل أكرم أحمد، ومكث مدة لا يولي أحدًا إلا بمشورته. له المسند، وفيه ثلاثون ألف حديث؛ والمسائل؛ والأشربة؛ وفضائل الصحابة، وغيرها. أنظر: الأعلام للزركلي 1/ 192؛ وطبقات الحنابلة لأبي يعلى ص 3 - 11؛ وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ص 1/ 4 - 20؛ والبداية والنهاية 10/ 325 - 343. (¬3) الترمذي (رقم: 241).

حدثنا سلم بن قتيبة، عن طعمة بن عمرو، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدر، التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» وقد روي هذا الحديث عن أنس - رضي الله عنه - موقوفًا، ولا أعلم أحدًا رفعه إلا ما روى سلم بن قتيبة، عن طعمة بن عمرو، وإنما يروى هذا عن حبيب بن أبي حبيب البالي، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قوله. حدثنا بذلك هناد قال: حدثنا وكيع، عن خالد بن طهمان، عن حبيب بن أبي حبيب البجلي، عن أنس - رضي الله عنه - قوله ولم يرفعه. وروى إسماعيل بن عياش هذا الحديث، عن عمارة بن غزية، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا. وهذا حديث غير محفوظ، وهو حديث مرسل. عمارة بن غزية لم يدرك أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال محمد بن إسماعيل: حبيب بن أبي حبيب يكنى أبا الكشوثا، ويقال أبو عميرة ا. هـ. وقال عبد الرزاق: حدثنا الثوري، عن عاصم الأحول، عن عاصم، عن أنس قال: «من لم تفته الركعة الأولى من الصلاة أربعين يوما، كتبت له براءتان، براءة من النار، وبراءة من النفاق» (¬1) وهذا إسناد صحيح، ومثله لا يقال بالرأي، فله حكم الرفع، وأما المرفوع فلا يثبت؛ كما قال الترمذي والدارقطني .. وسبب إيرادنا لهذا الخبر هنا لفائدة، وهي متى تكون مدركا للتكبيرة حتى تحوز الفضل. قال علي قاري في مرقاة المفاتيح شارحا للخبر قوله: (¬2) (يدرك): حال (التكبيرة الأولى): ظاهرها التكبيرة التحريمية مع الإمام، فاحتمل أن تشمل التكبيرة التحريمية للمقتدي عند لحوق الركوع، ¬

(¬1) مصنف عبد الرزاق (رقم: 2019). (¬2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 880).

فيكون المراد إدراك الصلاة بكمالها مع الجماعة، وهو يتم بإدراك الركعة الأولى. وقال في المرعاة شارحا للحديث: (¬1) (التكبيرة الأولى) أي التكبيرة التحريمة مع الإمام. وتفسيره هنا هو الصحيح الموافق للفظ النبوي قال عليه الصلاة والسلام «وإذا كبر فكبروا» (¬2) وهذا يقتضي الفورية فالصحيح أن العبد لا يدر، تكبيرة الإحرام ولا فضلها؛ إلا بالإتيان بها عقيب تكبير الإمام بدون تراخ، وهنا تنبيه أن كل محل لذكر فالموالاة فيه بحسبه، ولهذا في حديث كعب بن عجرة مرفوعًا: «معقبات لا يخيب قائلهن ...». (¬3) والمعقبات: من التعقيب وهو الجلوس بعد انقضاء الصلاة للدعاء ونحوه، ويجوز أن يراد منه العود مرة بعد أخرى. (¬4) قلت: فعلى التفسير الأول وهو الأقرب، يكون من أدلة اشتراط الموالاة بين صلاة الفريضة والذكر بعدها. وقال الحافظ في الفتح (¬5): على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة، قال ما نصه: هذه الرواية مفسرة للرواية التي عند المصنف في الدعوات وهي قوله: «دبر كل صلاة» (¬6) ¬

(¬1) مراعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 102). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 378) ومسلم (رقم: 404). (¬3) أخرجه مسلم (رقم: 596). (¬4) نزل الأبرار ص 98. (¬5) الفتح (2/ 328). (¬6) أخرجه البخاري (رقم: 6329) ومسلم (رقم: 595).

ولجعفر الفريابي في حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: «إثر كل صلاة» (¬1) إلى قوله: ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يُقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ، فإن كان يسيرًا بحيث لا يعد معرضًا، أو كان ناسيًا، أو متشاغلًا بما ورد أيضًا بعد الصلاة كآية الكرسي فلا يضر، وظاهر قوله «كل صلاة» يشمل الفرض والنفل لكن حمله أكثر العلماء على الفرض وقد وقع في حديث كعب بن عارة عند مسلم التقييد بالمكتوبة، وكأنهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلًا بين المكتوبة والذكر أو لا؟ محل نظر. ا. هـ. وقال في كشف اللثام: (¬2) وقال ابن نصر الله من علماء مذهبنا في حواشيه: الظاهر أن مرادهم أن يقول ذلك وهو قاعد، ولو قاله بعد قيامه وفي ذهابه، فالظاهر أنه مصيب للسنة، أيضًا إذْ لا تحجير في ذلك، ولو شغل عن ذلك ثم تذكره، فالظاهر: حصول أجره الخاص له أيضًا إذا كان قريبًا للعذر، أما لو تركه عمدًا ثم استدركه بعد زمن طويل، فالظاهر: فوات أجره الخاص وبقاء أجر الذكر المطلق انتهى، هكذا نقله العلامة النادي. ا. هـ. وقال النووي (¬3) في المجموع (¬4) عن الذكر بالتهليل الوارد عقب ¬

(¬1) أهرجه وروي أيضًا عن أبي هريرة أخرجه السراج (رقم: 1357) ومعجم ابن الأعرابي (رقم: 175)، وروي عن أم الحكم، أو ضباعة ابنتي الزبير بن عبد المطلب أخرجه أبو داود (رقم: 2987) وشرخ معاني الآثار (رقم: 5417). (¬2) كشف اللثام (3/ 108). (¬3) هو: يحيى بن شر بن مري بن حسن، النووي (أو النواوي) أبو زكريا، محيي الدين. من أهل نوى من قرى حوران جنوبي دمشق. علامة في الفقه الشافعي والحديث واللغة، تعلم في دمشق وأقام بها زمنا. من تصانيفه: المجموع شرح المهذب، لم يكمله؛ وروضة الطالبين؛ والمنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. طبقات الشافعية للسبكي 5/ 165؛ والأعلام للزركلي 9/ 185؛ والنجوم الزاهرة 7/ 278. (¬4) المجموع 1/ 457.

الوضوء ما نصه: اتفق أصحابنا وغيرهم على استحباب هذا الذكر عقيب الوضوء ولا يؤخره عن الفراغ. ا. هـ. وعلم مما تقدم أن الذكر لا يُقضى لفوات محله؛ لأن القضاء يحتاج إلى خطاب جديد، والأمر هنا كمن فات عليه صوم يوم عرفة أو عاشوراء، أو دخل المسجد فجلس طويلا، ولم يكن أتى بتحية المسجد، فلا ينفع إتيانه بها بعد ذلك. فائدة: أخرج مسلم (¬1) في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن عبد القاري، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر، وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل». قال في التمهيد (¬2) ما نصه: وهذا الوقت فيه من السعة ما ينوب عن صلاة الليل فيتفضل الله برحمته على من استدر، من ذلك ما فاته وليس من زوال الشمس إلى صلاة الظهر ما يستدر، فيه كل أحد حزبه وهذا بّين والله أعلم ا. هـ. قال في المرقاة: (¬3) وعن عمر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن حزبه»، أي: عن ورده يعني عن تمامه «أو عن شيء منه»، أي: من حزبه يعني عن بعض ورده من القرآن، أو الأدعية والأذكار، وفي معناه الصلاة. «فقرأ فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له»: جواب الشرط، وقوله: «كأنما قرأه»: صفة مصدر محذوف، أي: أثبت أجره في صحيفة عمله إثباتا مثل إثباته حين قرأه «من ¬

(¬1) صحيح مسلم (رقم: 747). (¬2) التمهيد (12/ 272). (¬3) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 935).

الليل»: قال بعض علمائنا؛ لأن ما قبل الظهر؛ كأنه من جملة الليل، ولذا يجوز الصوم بنية قبل الزوال. اهـ. وفيه أن تقييد نية الصوم بما قبل الزوال ليس لكونه من جملة الليل، بل لتقع النية في أكثر أجزاء النهار، والمراد بما قبل الزوال هو الضحوة الكبرى. فالوجه أن يقال: في الحديث إشارة إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]. قال القاضي: أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر. اهـ. وهو منقول عن كثير من السلف، كابن عباس، وقتادة، والحسن، وسلمان، كما ذكره السيوطي في الدر. وأخرج عن الحسن أنه قال: من عاز بالليل كان له في أول النهار مستعتب، ومن عاز بالنهار كان له في أول الليل مستعتب. اهـ. فتخصيصه بما قبل الزوال مع شمول الآية النهار بالكمال إشارة إلى المبادرة بقضاء الفوت قبل إتيان الموت، فإن في التأخير آفات خصوصًا في حق الطاعات والعبادات، أو لأن وقت القضاء أولى أن يصر إلى القضاء، أو لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، ولا منع من الجمع لاجتماع الحكم، فإن قائله أُعطي جوامع الكلم. ا. هـ. قُلت: في هذا الموضع شرع القضاء توسعة وتخفيفا في حق المعذور والأصل أن العبادة المؤقتة بوقت تفوت بفواته، ولا تقضى؛ لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد سواء كان الأمر في الأصل أمر إيجاب أو استحباب، وإنما عُهد الأمر بالقضاء في خطاب الشارع

للمعذور كالناسي والنائم ونحوهما، كما قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] وهذا في الصوم في قوله عليه الصلاة والسلام: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ...» (¬1) الحديث .. وهذا في الصلاة. قال في مجموع الفتاوى: (¬2) (... لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولا أمر هنا يلزمها بالقضاء، ولأنِا أخرت تأخيرا جائزا، فهي غير مفرطة. وأما النائم أو الناسي، وإن كان غير مفرط أيضًا، فإن ما يفعله ليس قضاء، بل ذلك وقت الصلاة في حقه حين يستيقظ ويذكر. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد بقضاء الصلاة بعد وقتها، وإنما وردت السنة بالإعادة في الوقت لمن ترك واجبًا من واجبات الصلاة؛ كأمره للمسيء في صلاته بالإعادة لما ترك الطمأنينة المأمور بها؛ وكأمره لمن صلى خلف الصف منفردًا بالإعادة لما ترك المصافة الواجبة؛ وكأمره لمن ترك لمعة من قدمه لم يصبها الماء بالإعادة لما ترك الوضوء المأمور به، وأمر النائم والناسي بأن يصليا إذا ذكرا وذلك هو الوقت في حقهما والله - سبحانه وتعالى - أعلم. ا. هـ. وأخرج مسلم (¬3) عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع، أو غيره، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة». ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 597) ومسلم (رقم: 684). (¬2) مجموع الفتاوى (23/ 335). (¬3) مسلم (رقم: 746).

قال النووي في شرح مسلم: (¬1) قولها وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة هذا دليل على استحباب المحافظة على الأوراد وأنِا إذا فاتت تقضى. وقال في أذكاره ما نصه: (¬2) ينبغي لمن كان له وظيفةٌ من الذكر في وقت من ليل أو نهار، أو عقب صلاة أو حالة من الأحوال ففاتته أن يتداركها ويأتي بها إذا تمكن منها ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يعرضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سَهُلَ عليه تضييعُها في وقتها. ا. هـ. وتعقبه ابن علان في الفتوحات بقوله: (¬3) والمراد بالأحوال المتعلقة بالأوقات لا المتعلقة بالأسباب؛ كالذكر عند رؤية الهلال، وسماع الرعد ونحو ذلك، فلا يندب تداركه عند فوات سببه، وهذا وإن لم أر من ذكره فقد صرح به الفقهاء بما يؤخذ منه ذلك، وهو قولهم: الصلاة ذات السبب؛ كالتحية لا يندب قضاؤها عند فوات سببها بخلا ذات الوقت. ا. هـ. فائدة: قال ابن عثيمين في الشرح الممتع ما نصه: (¬4) وقوله: «مكبِّرًا» حال من فاعل «يركع» حال مقارنة، يعني: في حال هويه إلى الركوع يكبرُ فلا يبدأ قبل، ولا يؤخِّره حتى يصل إلى الركوع، أي: يجب أن يكون التكبير فيما بين الانتقالِ والانتهاء، حتى قال الفقهاءُ رحمهم الله: «لو بدأ بالتكبير قبل أن يهوي، أو أتمهُ بعد أن يصِلَ إلى الركوع؛ فإنه لا يجزئه؛ لأنهم يقولون: إنَّ هذا تكبيرٌ في الانتقال فمحله ما بين ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم 6/ 27. (¬2) الأذكار للنووي ص 13. (¬3) الفتوحات الربانية والأذكار النووية 1/ 149. (¬4) الشرح الممتع على زاد المستقنع لمحمد العثيمين (3/ 28).

الركُّنين، فإنْ أدخله في الركُّن الأول لم يصح، وإن أدخله في الركُّن الثاني لم يصح؛ لأنه مكان لا يشرع فيه هذا الذكر، فالقيام لا يشرع فيه التكبير، والركوع لا يشرع فيه التكبير، إنما التكبير بين القيام وبين الركوع، ولا شكَّ أن هذا القولَ له وجهة مِن النظر؛ لأن التَّكبير علامة على الانتقالِ؛ فينبغي أن يكون في حالِ الانتقال. ا. هـ. فائدة: تسبيح الركوع والسجود يلزم أن يكون في حال الركوع الشرعي والسجود الشرعي، وعليه لو سبّح في سجوده وهو رافع رجله مثلًا لم يصح تسبيحه لفوات الحال. فائدة في مسائل أبو داود: (¬1) قال: سمعت أحمد سئل عمن أدرك الإمام راكعًا، فكبر ثم ركع فرفع الإمام؟ قال إذا أمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام فقد أدرك. والمذهب: أن من أدر، الركوع مع الإمام أدرك الركعة، سواءً أدرك معه الطمأنينة، أو لا إذا اطمأن المأموم، وهذا ما عليه جماهير الأصحاب (¬2). قلت: وهو الصحيح خلافا للشافعية؛ لأن الإمام يرفع قبل المأمومين فمكثهم بعده معتبر، وحينئذ إذا سبّح كان تسبيحه في مكانه، وهذا سبب إيراد المسألة هنا، فافهم. تنبيه: قال مسلم في صحيحه: (¬3) حدثنا محمد بن رمح أخبرنا ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص: 53). (¬2) مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه 2/ 711، وأنظر: المغني 1/ 504، الفروع 1/ 453، الأنصاف 2/ 223، 224، الروض المربع 1/ 239. (¬3) مسلم (رقم: 386).

الليث (¬1) عن الحكيم بن عبد الله بن قيس القرشى ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن الحكيم بن عبد الله عن عامر بن سعد بن أبى وقاص عن سعد بن أبى وقاص (¬2) - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالْسلام دينا. يفر له ذنبه». قال ابن رمح في روايته «من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد». ولم يذكر قتيبة قوله وأنا. هذا سياق مسلم وقد بينت رواية ابن أبي شيبة موضع هذا الذكر - رضيت بالله ربا - قال ابن أبي شيبة (¬3): (¬4) - حدثنا يحيى بن إسحاق، ¬

(¬1) هو: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، بالولاء، أبو الحارث. إمام أهل مصر في عصره حديثًا وفقهًا. قال ابن تغري بردي: كان كبير الديار المصرية، وأمير من بها في عصره، بحيث أن القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته. أصله من خراسان. ومولده في قلقشندة، ووفاته بالفسطاط. كان من الكرماء الأجواد. وقال الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به. له تصانيف. انظر: الأعلام 6/ 115؛ وتذكرة الحفاظ 1/ 207. (¬2) هو: سعد بن مالك، واسم مالك أهيب بن عبد مناف بن زهرة، أبو إسحاق، قرشي. من كبار الصحابة. أسلم قديما وهاجر، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله. وهو أحد الستة أهل الشورى. وكان مجاب الدعوة. تولى قتال جيوش الفرس وفتح الله على يديه العراق. أعتزل الفتنة أيام علي ومعاوية. توفي بالمدينة. أنظر: تهذيب التهذيب 3/ 484. (¬3) هو: عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان، أبو بكر، العبسي، من أهل الكوفة. إمام في الحديث وغيره. كان متقنًا حافظًا مكثرًا. سمع شريف بن عبد الله، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك وطبقتهم. روى عنه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وآخرون. ولما قدم بغداد في أيام المتوكل حزروا من حضر مجلسه بثلاثين ألفا. قال أبو زرعة الرازي: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة. من تصانيفه: المسند والأحكام والتفسير. تذكرة الحفاظ 2/ 18؛ وشذرات الذهب 2/ 85؛ وتاريخ بغداد 10/ 66، ومعجم المؤلفين 6/ 107. (¬4) ابن أبي شيبة 29249.

حدثنا الليث بن سعد، عن الحكيم بن عبد الله بن قيس، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد، أنه قال: «من قال إذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيا، يفر له ذنوبه، فقال له رجل: يا سعد، ما تقدم من ذنبه، وما تأخر» قال: لا هكذا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله. وفيها زيادة بيان أنه لا يكرر الشهادتين، بل يكتفي بإجابته ثم يقول: رضيت ... الخ. وكذا وقع في مستخرج أبي عوانة (¬1). فائدة: المزايا المرتبة على الذكر في المسجد هل المراد المسجد كله أو موضع صلاته منه. قال ابن رجب: (¬2) هذا فيه تردد وفي صحيح مسلم (¬3). عن جابر بن سمرة (¬4)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى الفار جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناء. وفي رواية له: (¬5) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقوم من مصلاه الذِي يصلي فيهِ الصبح أو الغداة حَتَّى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام. ومعلوم؛ أنهُ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن جلوسه في الموضع الذي صلى فيه؛ ¬

(¬1) مستخرج أبي عوانة (رقم: 995). (¬2) شرح البخاري لابن رجب 6/ 43. (¬3) صحيح مسلم (رقم: 670). (¬4) هو: جابر بن سمرة - رضي الله عنهما -، ابن جنادة بن جندب، أبو عبد الله، السوائي. صحابي. روى عن النبي وعمر وعلي وعن أبيه وخاله سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم -. وعنه سماك بن حرب وجعفر بن أبي ثور، وأبو عون الثقفي وغيرهم، روى له البخاري ومسلم 146 حديثا. أنظر: الإصابة 1/ 212. (¬5) صحيح مسلم (رقم: 2322).

لأنه كان ينفتل إلى أصحابه عقب الصلاة ويقبل عليهم بوجهه. وخرجه الطبراني (¬1) وعنده: (¬2) كان إذا صلى الصبح جلس يذكر الله حَتَّى تطلع الشمس. ولفظة: (الذكر) غريبة. وفي تمام حديث جابر بن سمرة الذي خرجه مسلم وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهليَّة، فيضحكون ويتبسم. وهذا يدل على أنه لم ينكر على من تحدث وضحك في ذلك الوقت، فهذا الحديث يدل على أن المراد بمصلاه الذي يجلس فيه المسجد كله. وإلى هذا ذهب طائفة من العلماء، منهم: ابن بطة من أصحابنا وغيره. وقد روي عن أبي هريرة ما يخالف هذا. روى مالك في الموطأ (¬3): عن نُعيم المُجمر، أنه سمع أبا هريرة، يقول: إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلى عليه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه في مصلاه حتى يصلي .. فهذا يدل على أنه إذا تحول من موضع صلاته من المسجد إلى غيره من ¬

(¬1) هو: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطر، أبو القاسم، من طبرية بفلسطين، ولد بعكا، ورحل إلى الحجاز واليمن ومصر وغيرها، وتوفي بأصبهان، له ثلاثة معاجم، المعجم الصغير، والمعجم الأوسط، والمعجم الكبير، وكلها في الحديث. وله: تفسير، ودلائل النبوة. أنظر: الأعلام للزركلي، والنجوم الزاهرة4/ 59، وتهذيب ابن عساكر 6/ 240. (¬2) المعجم الصغير (الروض الداني) (رقم: 1189). (¬3) الموطأ (رقم: 383).

المسجد انقطع حكم جلوسه في مصلاه، فإن جلس ينتظر الصلاة كان حكمه حكم من ينتظرها، وصلت عليه الملائكة - أيضًا -، فإن لم يجلس منتظرًا للصلاة فلا شيء له؛ لأنه لم يجلس في مصلاه ولا هو منتظر للصلاة. قال ابن عبد البر (¬1): إلا أنه لا يقال: إنه تصلي عليه الملائكة (¬2). يعني: على المتحول من مكانه وهو ينتظر الصلاة كما تصلي على الذي في مصلاه ينتظر الصلاة ... يشير إلى أن الحديث المرفوع إنما فيه صلاة الملائكة على من يجلس في مصلاه لا على المنتظر للصلاة. ولكن قد روي في حديث مرفوع، فروى عَطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمان السلمي، عن علي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «من صلى الفار ثمَّ جلس في مصلاه صلت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهم اغفر له، اللهم أرحمه، ومن ينتظر الصلاة صلت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه». خرجه الإمام أحمد (¬3). ¬

(¬1) هو: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الحافظ، أبو عمر. ولد بقرطبة. من أجلة المحدثين والفقهاء، شيخ علماء الأندلس، ومؤرخ أديب، مكثر من التصنيف. رحل رحلات طويلة وتوفي بشاطبة. من تصانيفه: الاستذكار في شرح مذاهب علماء الأمصار، والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد؛ والكافي في الفقه. أنظر: الشذرات 3/ 314، وترتيب المدارك، 4/ 556، 808، وشجرة النور ص 119، الأعلام 9/ 317، والديباج المذهب ص 357. (¬2) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (16/ 205). (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 1251).

وقال علي بن المديني (¬1): هو حديث كوفي، وإسناده حسن. وذكر ابن عبد البر - أيضًا -: (¬2) أنه يحتمل أن يكون بقاؤه في مصلاه شرطًا في انتظار الصلاة - أيضًا، كما كان شرطًا في الجلوس في مصلاه. وهذا الذي قاله بعيد، وإنما يمكن أن يقال فيمن صلى صلاة ثم جلس ينتظر صلاة أخرى، فأما من دخل المسجد ليصلي صلاة واحدة، وجلس ينتظرها قبل أن تقام فأي مُصلى له حتى يشترط أن لا يفارقه؟ قال: وقيامه من مجلسه، المراد به: قيامه لعرض الدنيا، فأما إذا قام إلى ما يعينه على ما كان يصنعه في مجلسه من الذكر. يعني: أنه غير مراد، ولا قاطع للصلاة عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم. ا. هـ وسمعت شيخنا ابن باز يقول: المسجد كله مُصلى ولو انتقل .. ¬

(¬1) هو: علي بن عبد الله بن جعفر السعدي، أبو الحسن، ابن المديني. أصله من المدينة، ولد بالبصرة وتوفي بسر من رأى. محدث، حافظ، أصولي ومشارك في بعض العلوم. سمع ابن عيينة وطبقته، وأخذ عنه الذهلي والبخاري وأبو داود وغيرهم. قال عبد الرحمن بن مهدي: كان ابن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخاصة بحديث سيفان بن عيينة. من تصانيفه: المسند في الحديث؛ وتفسير غريب الحديث. أنظر: طبقات الشافعية لابن السبكي 1/ 266، وتذكرة الحفاظ 2/ 15، ومعجم المؤلفين 7/ 132. (¬2) فتح الباري لابن رجب (6/ 45).

الحكم الرابع

الحكم الرابع يتأكد مراعاة فعل الذكر في وقته إن كان مقيدا بوقت، فإذا أخرج عن وقته المقيد فات فضله الخاص، وإنما يؤجر صاحبه أجرًا عامًا حينئذ، فأذكار الصباح تقال في الصباح وأذكار المساء تقال في المساء. وأما حدّ الصباح والمساء؛ فقد قال ابن القيم: (¬1) في ذكر طرفي النهار، وهما بين الصبح وطلوع الشمس، وما بين العصر والمغرب، قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42] والأصيل: قال الجوهري: (¬2) هو الوقت بعد العصر إلى الغروب وجمعه أُصُل وآصال وأصائل - كأنه جمع أصيلة. قال الشاعر: لعمري لأنت البيتُ أكْرِمُ أهله ... واقعد في أفنائه بالأصائل وقال ابن القيم: (¬3) قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ¬

(¬1) الوابل الصيب ص 232. (¬2) الصحاح 4/ 1623. (¬3) الوابل الصيب ص 127.

الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] وهذا تفسير ما جاء في الأحاديث: أن من قال كذا وكذا حيث يصبح وحين يمسي، أن المراد قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وأن محل هذه الأذكار بعد الصبح وبعد العصر. ا. هـ. وقال في القاموس: الصُّبْح: الفَجْرُ، أو أوَّلُ النهارِ، جمعه أصباح (¬1). زاد في اللسان: (¬2) أصبح القوم: دخلوا في الصباح. كما يقال: أمسوا دخلوا في المساء. وقال الراغب في مفرداته: (¬3) الصبح والصباح: أول النهار وهو وقت ما أحمر الأفق بحاجب الشمس قال تعالى: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81]. وقال {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177]. قلت: قال الله جل وعلا في سورة هود عن قوم لوط: {إِنّ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] وفي سورة الحجر قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73]. قال الطبري: (¬4) ¬

(¬1) القاموس المحيط للفيروز آبادي (ص: 291). (¬2) لسان العرب لابن منظور (4/ 2389)، وأنظر: المخصص. لابن سيده (2/ 390). (¬3) مفردات غريب القرآن لراغب الأصفهاني (ص: 273). (¬4) هو: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، أبو جعفر. من أهل طبرستان، استوطن بغداد وأقام بها إلى حين وفاته. من أكابر العلماء. كان حافظًا لكتاب الله، فقيهًا في الأحكام، عالمًا بالسنن وطرقها، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم. رحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وجمع من العلوم ما لم يشركه فيه أحد. عرض عليه القضاء فامتنع والمظالم فأبى. له اختيار من أقاويل الفقهاء، وقد تفرد بمسائل حفظت عنه. سمع من محمد بن عبد الملك وإسحاق بن أبي إسرائيل وإسماعيل بن موسى السدي وآخرين. روى عنه أبو شيب الحراني والطبراني وطائفة. وقيل إن فيه تشيعًا يسيرًا وموالاة لا تضر. من تصانيفه: اختلاف الفقهاء؛ وكتاب البسيط في الفقه؛ وجامع البيان في تفسير القرآن؛ والتبصير في الأصول. أنظر: تذكرة الحفاظ 2/ 251؛ والبداية والنهاية 11/ 145؛ وميزان الاعتدال 3/ 498؛ والأعلام للزركلي 6/ 294؛ وهدية العارفية 6/ 26.

أي: أخذتهم صاعقة العذاب وهي الصيحة. إذْ أشرقت الشمس (¬1). قلت: فدل على أن الشروق لا ينافي الصبح. لكن قال القرطبي (¬2) على آية الحار: وقيل أول العذاب كان عند الصبح وامتد إلى شروق الشمس، فكان تمام الإهلاك عند ذلك. والله أعلم (¬3). وذكر البغوي (¬4) ¬

(¬1) جامع البيان في تأويل القرآن - تفسير الطبري (17/ 119). (¬2) هو: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح. أندلسي من أهل قرطبة أنصاري، من كبار المفسرين. أشتهر بالصلاح والتعبد. رحل إلى المشرق واستقر بمنية ابن الخصيب شمالي أسيوط - بمصر، وبها توفى. من تصانيفه: الجامع لأحكام القرآن؛ والتذكرة بأمور الآخرة؛ والأسنى في شرح الأسماء الحسنى. أنظر: الديباج المذهب ص 317؛ والأعلام للزركلي 6/ 218. (¬3) الجامع لأحكام القرآن (10/ 42). (¬4) هو: الحسين بن مسعود بن محمد، الفراء، البغوي. شافعي. فقيه. محدث. مفسر. نسبته إلى بغشور من قرى خراسان بين هراة ومرو. من مصنفاته: التهذيب في فقه الشافعية؛ وشرح السنة في الحديث؛ ومعالم التنزيل في التفسير. أنظر: الأعلام للزركلي 2/ 284؛ ابن الأثير 6/ 105.

هذا المعنى قبله (¬1). وقال السمعاني (¬2): في تفسيره على آية الحجر ما نصه: فإن قال قبل هذا {مُصْبِحِينَ} وقال ها هنا {مُشْرِقِينَ} فكيف وجه الجمع؟ الجواب من وجهين: أحدهما: أن ابتداء العذاب كان من الصبح، وتمامه عند الإشراق. والجواب الثاني: أن الإشراق ها هنا بمعنى الإصباح وهو جائز في كلام العرب (¬3). والوجه الأول لخصه ابن عطية (¬4) بقوله: وأهلكوا بعد الفجر مصبحين واستوفاهم الهلاك مشرقين (¬5). ¬

(¬1) تفسير البغوي 4/ 388. (¬2) هو: منصور بن محمد عبد الجبار، أبو المظفر، المعروف بابن السمعاني. من أهل مرو. كان فقيهًا أصوليًا مفسرًا محدثًا متكلمًا. تفقه على أبيه في مذهب أبي حنيفة النعماني حتى برع، ثم ورد بغداد ومنها إلى الحجاز، ولما عاد إلى خرسان دخل مرو وألقى عصا السفر، رجع عن مذهب أبي حنيفة وقلد الشافعي لمعنى من المعاني، وتسبب ذلك في قيام العوام عليه، فخرج إلى طوس ثم قصد نيسابور. من تصانيفه: القواطع في أصول الفقه؛ والبرهان في الخلاف وهو يشتمل على قريب من ألف مسألة خلافية؛ وتفسير القرآن. أنظر: طبقات الشافعية لابن السبكي 4/ 21؛ والنجوم الزاهرة 5/ 160؛ ومعجم المؤلفين 13/ 20. (¬3) تفسير السمعاني (1/ 355). (¬4) هو: عبد الحق بن غالب بن عطية، أبو محمد المحاربي، من أهل غرناطة. أحد القضاة بالبلاد الأندلسية. كان فقيهًا جليلًا، عارفًا بالأحكام والحديث والتفسير، نحويًا لغويًا أديبًا، ضابطًا، غاية في توقد الذهن وحسن الفهم وجلالة التصرف. روى عن أبيه الحافظ بن أبي بكر وأبي علي الغساني وآخرين. وروى عنه أبو القاسم بن حبيش وجماعة. ولي قضاء المرية، كان يتوخى الحق والعدل. من تصانيفه: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. (¬5) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 3/ 367.

وقال ابن دريد في الجمهرة: (¬1) وصبيحة اليوم: أوله والصبيحة من كل يوم أو النهار والصّبوح الأكل والشرب في أول النهار ا. هـ. وقال ابن هشام اللخمي (ت557) في تقويم اللسان: والْصباح: من أول النهار إلى قريب الظهر، فيقال للرجل كيف أصبحت إلى قريب الظهر، وكيف أمسيت من بعد الظهر إلى الغروب وبعده إلى نصف الليل. وقال في المصباح المنير: (¬2) قال ابن الجواليقي: الصباح عند العرب من نصف الليل الآخر إلى الزوال ثم المساء إلى آخر نصف الليل الأول هكذا روي عن ثعلب. قال أبو محمد: وقوله في حدّ الصبح غريب جدًا، وعندي أنه لا يصح، وهو عمل الفرنجة الآن ومن تابعهم! فصبحهم بعد نصف ليلهم! وقال في نزال الأبرار: (¬3) قال الجزري في مفتاح الحصن الحصين: الصباح من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والمراد بالمساء من الغروب إلى الفجر، وقد أبعد من قال إن المساء يدخل وقته بالزوال فإن أراد دخول العشي فقريب، وإن أراد المساء فبعيد، فإن الله تعالى يقول: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] قابل المساء بالصباح. ¬

(¬1) الجمهرة ص 279. (¬2) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي لأحمد الفيومي (1/ 331). (¬3) نزال الأبرار ص 104، وأنظر: تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين للشوكاني ص 91.

وفي تهذيب اللغة للأزهري: (¬1) نقل عن الليث والصَّبْحُ: سَقْيك أخا، صَبُوحًا من لبن، والصَّبوحُ: ما شُربَ بالغداة فما دون القَائلة، وفعلك الاصْطِباحُ. وقال في مجمل اللغة لابن فارس: (¬2) الصبح بدء النهار. وقال أبو المظفر السمعاني في تفسيره على آية الروم: (¬3) {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}. {تُظْهِرُونَ} أي: تدخلون في الظهر وفي الآية إشارة إلى أوقات الصلاة الخمس، فقوله: {حِينَ تُمْسُونَ} إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء، وقوله: {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إشارة إلى صلاة الصبح، وقوله: {وَعَشِيًّا} إشارة إلى صلاة العصر، وقوله {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إشارة إلى صلاة الظهر. وفي الفتوى (رقم: 20078) من فتاوى اللجنة ما نصه: س: هل أذكار المساء تكون بعد صلاة العصر أو بعد يروب الشمس؟ أي بعد صلاة المغرب. ج: أذكار المساء تبتدئ من زوال الشمس إلى غروبها، وفي أول الليل، وأذكار الصباح تبتدئ من طلوع الفجر إلى زوال الشمس، قال الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] وقال ¬

(¬1) تهذيب اللغة (4/ 155). (¬2) مجمل اللغة لابن فارس (ص: 548). (¬3) تفسير السمعاني (3/ 225).

سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف: 205]. والآصال جمع أصيل، وهو: ما بين العصر والمغرب. وقال سبحانه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]. {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]. قال أبو محمد: والمتحرر في وقت الصبح: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وأول النهار، والمساء من العصر إلى الغروب، وأول الليل. والله أعلم.

الحكم الخامس

الحكم الخامس التقيد بالعدد شرط لحصول الفضل الخاص المرتب على هذا العدد. مثاله: الذكر بعد الصلاة: من سبّح الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين ... إلخ .. فلابد من التعيين بهذا العدد دون نقص ولا زيادة. قال الحافظ ابن حار: (¬1) وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة؛ كالذكر عقب الصلوات إذا رتب عليها ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوز ذلك العدد، قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي: وفيه نظر؛ لأنه أتى بالمقدار الذي رُتب الثواب على الإتيان به فحصل الثواب بذلك، فإن زاد عليه من جنسه كيف تكون الزيادة مزيلة لذلك الثواب بعد حصوله. ويمكن أن يفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد، ثم أتى بالزيادة، فالأمر كما قال شيخنا لا محالة، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب رتب على عشرة مثلًا فرتبه هو على ¬

(¬1) فتح الباري (2/ 330).

مائة، فيتجه القول الماضي، وقد بالغ القرافي في القواعد، فقال: من البدع المكروهة الزيادة في المندوربات المحددة شرعًا؛ لأن شأن العظماء إذا حددا شيئًا أن يوقف عنده، ويعد الخارج عنه مسيئًا للأدب، وقد مثّله بعض العلماء بالدواء يكون فيه الشفاء مثلًا، أو فيه سكر فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء ثم استعمل من السكر بعد ذلك ما شاء لم يتخلف الانتفاع به. ا. هـ. وقال ابن الملقن في شرح العمدة (¬1) معقبًا على قول القرافي ما نصه: قلت روى النسائي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: «من سبح في دبر كل صلاة مكتوبة مائة، وكبر مائة، وهلل مائة، وحمد مائة يفر له ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر» فهذا زائد على ذلك المقدار فاتسع الباب. قلت: هذا الخبر معلول فأخرجه النسائي في المجتبى (¬2) وفي الكبرى (¬3) من طريق أبي الزبير عن أبي علقمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فذكره. قال الدارقطني في العلل: (¬4) حدث به أبو الزبير، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة. ورواه عطاء بن أبي رباح، واختلف عنه حدث به عنه ابنه يعقوب، فرواه مكي بن إبراهيم، عن يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن علقمة مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن أبي هريرة وهو الصحيح. قلت: والطريق التي صححها الدارقطني وقعت للنسائي في ¬

(¬1) شرح العمدة (4/ 53). (¬2) المجتبي (3/ 79). (¬3) السنن الكبرى (رقم: 9969). (¬4) العلل (11/ 219).

الكبرى (ط الرسالة) ووقع فيها تصحيف (عن عطاء بن أبي علقمة) وصوابه عن عطاء، عن أبي علقمة (¬1). وقال النسائي عقبه: يعقوب بن عطاء بن أبي رباح ضعيف (¬2). قلت: يعقوب ضعيف، وأبو علقمة إن كان محفوظًا فمن رجال مسلم، وإن كان المحفوظ عطاء بن أبي علقمة مجهول. وممن ضعفه ابن رجب (¬3) في فتح الباري (¬4) بقوله: وخرجه النسائي في الكبرى بإسناد ضعيف، وروي مرفوعًا على أبي هريرة - رضي الله عنه -، وخرجه النسائي في السنن بإسناده، أخرجه أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا ... فذكره ا. هـ. وجاء بإسناد آخر من طريق إبراهيم بن طهمان، عن الحجاج بن ¬

(¬1) هو الذي ذكره الدارقطني في علله، وقال المزي في تهذيب الكمال (20/ 99) في ترجمة عطاء بن أبي علقمة. قال مكي بن إبراهيم عن يعقوب بن عطاء عن عطاء بن أبي علقمة والصواب إن شاء الله: عن يعقوب بن عطاء عن أبي علقمة، وقال المزي في ترجمة يعقوب بن عطاء بن أبي رباح. وروي عن عطاء بن أبي علقمة إن كان محفوظًا. قلت: والصواب يعقوب بن عطاء بن أبي رباح عن أبيه عن أبي علقمة، وهو الذي صححه الدارقطني في علله، ووقوع التصحيف في كلام الدارقطني فيه نظر، والصحيح أن بين يعقوب وأبي علقمة عطاء. (¬2) السنن الكبرى (رقم: 9969). (¬3) هو: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، أبو الفرج، زين الدين، وجمال الدين أيضا، ولد ببغداد، وتوفي بدمشق من علماء الحنابلة؛ كان محدثا حافظا فقيها أصوليا ومؤرخا. أتقن فن الحديث وصار أعرف أهل عصره بالعلل، وتتبع الطرق. تخرج به غالب أصحابه الحنابلة. من تصانيفه: تقرير القواعد وتحرير الفوائد المشهور بقواعد ابن رجب في الفقه، وجامع العلوم والحكم وهو شرح الأربعين النووية، وشرح سنن الترمذي ومعه شرح العلل، آخر أبوابه، وذيل طبقات الحنابلة. أنظر: الدرر الكامنة 2/ 221؛ وشذرات الذهب 3/ 339؛ ومعجم المؤلفين 5/ 118. (¬4) فتح الباري (5/ 246).

الحجاج، عن أبي الزبير، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: وتقدم. وفي هذا الإسناد نظر، والأشبه أنه غير محفوظة، ويخشى أن أبا الزبير (¬1) تحمله عن ضعيف فدلسه. وقال العيني (¬2): (¬3) الصواب الذي قاله الشيخ - أي في شرح ¬

(¬1) هو: محمد بن مسلم بن تدرس القرشي الأسدي، أبو الزبير المكي، مولى حكيم بن حزام. رَوَى عَن: جابر بن عَبد الله، وذكوان أبي صالح السمان، وسَعيد بن جبير، وسفيان بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثقفي، وصالح أبي الخليل، وصفوان بن عَبد الله بْن صفوان وعَبد الله بن الزبير، وعطاء بْن أَبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم. روَى عَنه: إِبْراهِيم بن إسْماعِيل بن مجمع الأنصاري، وإبراهيم بن طهمان، وإبراهيم بن ميمون الصائغ، وإبراهيم بن يزيد الخوزي، والأجلح بن عَبد اللهِ الكندي، وإسماعيل بن أمية القرشي، وغيرهم. مشهور بالتدليس قال سعيد بن أبي مريم حدثنا الليث بن سه قال جئت أبا الزبير فدفع لي كتابين فانقلبت بهما ثم قلت في نفس لو أني عاودته فسألته اسمع هذا كله من جابر قال فسألته فقال منه ما سمعته ومنه ما حدثت عنه فقلت له، اعلم لي ما سمعت منه فاعلم لي على هذا الذي عندي ولهذا توقف جماعة من الأئمة بما لم يروه الليث عن أبي الزبير عن جابر بلفظ عن وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما قال فيها أبو الزبير عن جابر وليست من طريق الليث وكأن مسلما - رحمه الله - اطلع على أنها مما رواه الليث عنه ولم يروها من طريقه، والله أعلم. أنظر: الجرح والتعديل: 8/ الترجمة 8/ 319، والمراسيل: 193، تهذيب الكمال في أسماء الرجال (26/ 402). (¬2) هو: محمود بن أحمد بن موسى، أبو الثناء وأبو محمد، قاضي القضاة بدر الدين العيني. أصله من حلب، ومولده في عينتاب (وإليها نسبته)، فقيه حنفي، ومؤرخ من كبار المحدثين. تفقه على والده. كان فصيحًا باللغتين العربية والتركية. برع في الفقه والتفسير والحديث واللغة والتاريخ وغيرها من العلوم. دخل القاهرة، وولي الحسبة مرارًا. ولي عدة تداريس ووظائف دينية، أفتى ودرّس وأكب على الاشتغال إلى أن ولي نظر السجون ثم قضاء قضاة الحنفية بالديار المصرية. من تصانيفه: عمدة القارئ في شرح البخاري؛ والبناية في شرح الهداية؛ ورمز الحقائق شرح الكنز. أنظر: الجواهر المضية 2/ 165، والفوائد البهية ص 207، وشذرات الذهب 7/ 286، والأعلام للزركلي 8/ 38. (¬3) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (6/ 131).

الترمذي - أن هذا ليس من الحدود التي نهي عن اعتدائها ومجاوزة أعدادها، والدليل على ذلك ما رواه مسلم (¬1) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه». ا. هـ. وتعقبه في فتح الملهم (¬2) بقوله: قلت هذا ليس بصريح في الزيادة على عدد هذا الذكر المخصوص، بل اللفظ يشمل ما إذا زاد شيئًا من القول الطيب أو العمل الحسن. فإن قلت: الشرط في هذا أن يقول الذكر المنصوص عليه بالعدد متتابعًا أم لا! والشرط أن يكون في مجلس واحد أم لا.! قلت: كل منهما ليس بشرط، ولكن الأفضل أن يأتي به متتابعًا، وأن يراعي الوقت الذي عين فيه» كذا في العمدة ا. هـ. والخلاصة: أن حصول العدد شرط للفضل الخاص، والزيادة ليست ملغية إن عُدَّ ممتثلًا وكيف يعد ممتثلًا: نقول بالفصل بالنية، والنية تتبع العلم، وعلى هذا إن علم الفضل ونواه بالعدد تمّ المراد. ¬

(¬1) صحيح مسلم (رقم: 2692). (¬2) فتح الملهم (4/ 254).

الحكم السادس

الحكم السادس أذكار الحفظ إنما هي أسباب، ونفعها موقوف على استكمال الشروط، وانتفاء الموانع، وبهذا يزول الإشكال عند من توهّم: كيف يتخلف الوعد .. ؟ فمثلًا: الأذكار التي جاء، فيها فضل بحفظ قائلها، أو أنه لا يضره شيء، ونحو ذلك، فهذه الأذكار سبب للحفظ وسبب لعدم الضرر. والأسباب يتوقف استكمال النفع بها على تكامل الأسباب الأخرى، وانتفاء الموانع التي تمنع من حصول المسببات (بفتح الباء). قال شيخ الإسلام: (¬1) وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه ولابد من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده. وقال: (¬2) كما نشهد أن الشمس جزء سبب في نموّ بعض الأجسام، ورطوبتها ويبسها، ونحو ذلك، ثم بتقدير أن تكون أسبابا، فلها موانع ومعارضات، إذ ما من سبب يُقدر؛ إلا وله مانع إرادي أو ¬

(¬1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 112). (¬2) مجموع الفتاوى (8/ 172).

طبيعي أو غير ذلك؛ كالدعاء والصدقة والأعمال الصالحة، فإنها من أعظم الأسباب في دفع البلاء النازل من السماء، ولهذا أمرنا بذلك عند الكسوف وغيره من الآيات السماوية التي تكون سببًا للعذاب. وقال: (¬1) وما من سبب من الأسباب؛ إلا دائر موقوف على أسباب أخرى. وقال: (¬2) والأسباب ليست مستقلة بالمسبَّبَات، بل لابد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها مع ذلك أضداد تمانعها، والمسبب لا يكون يخلق جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات. وقال: (¬3) وإنما الشفاعة سبب من الأسباب التي بها يرحم الله من يرحم من عباده، وأحق الناس برحمته هم أهل التوحيد والإخلاص له، فكل من كان أكمل في تحقيق إخلاص لا إله إلا الله علما وعقيدة وعملا وبراءة وموالاة ومعاداة كان أحق بالرحمة. وقال: (¬4) والذين هداهم الله من هذه الأمة، حتى صاروا من أولياء الله المتقين، كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة، مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائما في أن يهديهم الصراط المستقيم، فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين. وقال: (¬5) وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (18/ 323). (¬2) مجموع الفتاوى (8/ 487). (¬3) مجموع الفتاوى (14/ 414). (¬4) مجموع الفتاوى (10/ 108). (¬5) مجموع الفتاوى (7/ 487 و 498).

الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب. ثم شرحها إلى أن قال السبب الرابع: الدافع للعقاب ... ثم قال: فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت. وقال: (¬1) فإذا عدمت هذه الأسباب كلها، ولن تعدم إلا في حق من عتا وتمرد، وشرد على الله شراد البعير على أهله، فهنالك يلحق الوعيد به. ا. هـ. والشاهد أن الوعيد لا يلحق إلا باستكمال الشروط وانتفاء الموانع، والموانع هنا هي الأسباب العشرة التي ذكرها، وأخذها منه شارح الطحاوية، حيث قال: فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة ثم سردها، وشارح الطحاوية نقل نصوصًا كثيرة عن شيخ الإسلام أخذها من كتبه بحروفها، ولم ينسبها إليه؛ لأن نسبتها إليه في ذلك الوقت مدعاة لردها من المبطلين وأعداء السنة وأعداء ابن تيمية فرحمهما الله. وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم على حديث: (¬2) «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا» (¬3) قال: أشار فيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آداب الدعاء وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته، وإلى ما يمنع من إجابته فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة: أحدهما: إطالة السفر. والثاني: حصول التبذّل في اللباس والهيئة. والثالث: مدّ يديه إلى السماء. والرابع: الإلحاح على الله - عز وجل - بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (20/ 255). (¬2) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (12/ 16). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 1015).

قال: (¬1) وأما ما يمنع إجابة الدعاء، فقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه التوسع في الحرام أكلًا وشربًا ولبسًا وتغذية ... إلى قوله: وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعًا من الإجابة أيضًا، وكذلك ترك الواجبات كما في الحديث أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يمنع استجابة دعاء الأخيار وفعل الطاعات، يكون موجبًا لاستجابة الدعاء، ولهذا لما توسل الذين دخلوا الغار، وانطبقت الصخرة عليهم بأعمالهم الصالحة التي أخلصوا فيها لله تعالى ودعوا الله بها أجيبت دعوتهم .... الخ. والشاهد إثبات أسباب للإجابة، لا سببًا واحدًا، وإذا تقرر هذا، فإذا ذكر العبد ربه وأتى ببعض ما يكون سببًا للحفظ من الأذى فقد يتخلف أثر هذا الذكر في الحفظ لأسباب: 1 - عدم تواطؤ القلب مع اللسان (وهذا قد يكون مانعًا) وضده سبب للحفظ. 2 - ضعف التوكل على الله (وهذا مانع آخر من الحفظ) وعكسه سبب وهو التوكل. 3 - تساهله في حفظ نفسه من الآفات (وهذا مانع). 4 - عدم شهوده صلاة الصبح. (وهذا مانع للحديث: «من صلى الصبح ...» (¬2) وعلم منه أن شهود صلاة الفار سبب من أسباب الحفظ). ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم (12/ 25 - 26) «حديث إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا». (¬2) صحيح مسلم (رقم: 657).

5 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله ...» (¬1). وهذه أسباب للحفظ، وترك الإغلاق والتسمية، مانع من الحفظ، وهلم جرًا والأمر واضح جلي. فمن عقل هذا زالت عنه إشكالات كثيرة. وقد روينا في سنن الترمذي (¬2) وغيره (¬3): من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن أبان بن عثمان، قال: سمعت عثمان بن عفان (¬4) - رضي الله عنه -، يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم، ومساء كل ليلة، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضر بشيء» فكان أبان قد أصابه طر فالج، فاعل الرجل ينظر إليه، فقال له أبان: ما تنظر؟ أما إن الحديث كما حدثتك، ولكني لم أقله يومئذ ليمضي الله علي قدره. قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 2012) مسلم (رقم: 2012). (¬2) سنن الترمذي (رقم: 3388). (¬3) أخرجه الطيالسي (رقم: 79) والنسائي (رقم: 10178) وابن ماجه (رقم: 3869) والحاكم (رقم: 1895) وقال: صحيح الإسناد. (¬4) هو: عثمان بن عفان بن أبي العاص. قرشي أموي. أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة من السابقين إلى الإسلام. كان غنيًا شريفًا في الجاهلية، وبذل من ماله في نصرة الإسلام. زوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنته رقية، فلما ماتت زوجه بنته الأخرى أم كلثوم، فسمي ذا النورين. بويع بالخلافة بعد أمير المؤمنين عمر. واتسعت رقعة الفتوح في أيامه. أتم جمع القرآن. وأحرق ما عدا نسخ مصحف الإمام. نقم عليه بعض الناس تقديم بعض أقاربه في الولايات. قتله بعض الخارجين عليه بداره يوم الأضحى وهو يقرأ القرآن. أنظر: الأعلام للزركلي 4/ 371، والبدء والتاريخ 5/ 79.

ورواه أحمد (¬1)، وابن ماجه (¬2)، والنسائي في الكبرى (¬3)، وأبو داود الطيالسي (¬4) والطبراني في الدعاء (¬5)، وغيرهم. (¬6) وعبد الرحمن بن أبي الزناد (¬7)، متكلم فيه، قال في الكواكب النيرات عنه ما نصه: قال علي بن المديني: (¬8) ما حدث بالمدينة فهو صحيح وما حدث ببغداد أفسده البغداديون، وعنه أيضا حديثه بالمدينة مقارب، وما حدث به بالعراق فهو مضطرب. ا. هـ. قلت: عامّة من روى عنه هذا الخبر من الغرباء، وقد توبع على ¬

(¬1) مسند أحمد (رقم: 446). (¬2) ابن ماجه (رقم: 3869). (¬3) النسائي (رقم: 10178). (¬4) الطيالسي (رقم: 79). (¬5) الدعاء للطبراني (رقم: 317). (¬6) الأدب المفرد للبخاري (رقم: 660) وابن أبي شيبة (رقم: 29275) وشرح مشكل الآثار (رقم: 3076) وحيلة الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 42). (¬7) عبد الرحمن بن أبي الزناد، عبد الله بن ذكوان القرشي، مولاهم، أبو محمد المدني. قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: ابن أبي الزناد، كذا وكذا. العلل ص 3174. وقال المروذي: قال أبو عبد الله: ابن أبي الزناد أحب إلي من ورقاء. سؤالاته ص 260. وقال عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: سألت أحمد بن حنبل، عن ابن أبي الزناد. فقال: هو ضعيف الحديث. ضعفاء العقيلي ص 938. وقال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل: قلت لأبي: عبد الرحمن بن أبي الزناد؟ قال: مضطرب الحديث. الجرح والتعديل 5/ 1201. وقال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد. قال: يروى عنه. قلت: يحتمل؟ قال: نعم. الكامل (1106). وقال أحمد فيما حكاه الساجي: أحاديثه صحاح. تهذيب التهذيب 6/ 353. (¬8) تهذيب الكمال (2786)، وتهذيب التهذيب (6/ 170)، وتقريب التهذيب (1/ 479)، والجرح والتعديل (5/ 252)، وتاريخ ابن معين (2/ 347).

هذا الخبر بما أخرجه النسائي في الكبرى: (¬1) أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، حديث ابن أبي فديك، قال: حدثني يزيد بن فراس، عن أبان بن عثمان، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من قال حين يصبح بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يصبه في يومه فجأة بلاء ومن قالها حين يمسي لم يعني يصبه في ليلته فجاءة بلاء. قال النسائي: يزيد بن فراس مجهول لا نعرفه .. وقال أيضا: (¬2) وروي عن أبان بن عثمان بغير هذا اللفظ، ثم رواه فقال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا بن وهب، قال: أخبرني الليث، عن العلاء بن كثير، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبان بن عثمان، أنه قال: من قال حين يمسي سبحان الله العظيم وبحمده، لا حول ولا قوة إلا بالله، لم يضره شيء حتى يصبح، وإن قال حين يصبح، لم يضره شيء حتى يمسي، فأصاب أبان فالج، فائته فيمن جاءه من الناس، فاعل الناس يعزونه ويخرجون، وأنا جالس، فلما خف من عنده، قال لي: قد علمت ما أجلسك، أما أن الذي حدثتك حق، ولكني أنسيت ذلك. تابعه الزهري على روايته فوقفه. ثم رواه فقال: (¬3) أخبرني محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الصائغ، عن الحجاج بن فرافصة، عن عُقيل، عن الزهري، عن أبان بن عثمان، قال: من قال حين يمسي وحين يصبح ثلاث مرات سبحان الله العظيم ¬

(¬1) النسائي (رقم: 10179). (¬2) النسائي (رقم: 9845). (¬3) النسائي (رقم: 9846).

وبحمده لا حول ولا قوة إلا بالله لم يصبه شيء يضره فدخلنا عليه وقد أصابه الفالج فقال بن أخي أما إني لم أكن قلتها حين أصابني. قال أبو محمد: أما أبو بكر المذكور فما روى سوى العلاء بن كثير الإسكندراني المصري، فهو مجهول. قال ابن منده: (¬1) أبو بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري، عداده في أهل مصر. روى عنه: العلاء بن كثير. قاله لي أبو سعيد ابن يونس. ا. هـ. وأما وقف الزهري له فلا يثبت عنه. فيه حجاج بن فرافصة، قال أبو الفضل في تهذيب التهذيب، (¬2) عنه ما نصه: قال ابن معين لا بأس به، وقال أبو زرعة ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: شيخ صالح متعبد. له عند أبي داود حديث واحد ا. هـ. وإسماعيل بن إبراهيم بن ميمون الصائغ، قال أبو حاتم: شيخ؛ كما في الجرح (¬3)، وكذا قال الدارقطني (¬4)، ونقل صاحب الميزان (¬5) عن البخاري قوله في إبراهيم هذا: سكتوا عنه ا. هـ. ولهذا قال الدارقطني: (¬6) وروى هذا الحديث أبو الزناد، عن أبان بن عثمان، عن أبيه، حدث به عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه. وهذا متصل، وهو أحسنها إسنادًا. ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباب في الكني والألقاب 1035. (¬2) تهذيب التهذيب (رقم: 379). (¬3) الجرح والتعديل (رقم: 510). (¬4) سؤالات السلمي للدارقطني (رقم: 19). (¬5) الميزان 1/ 215. (¬6) العلل (3/ 8).

وصححه ابن حبان (¬1) وحسنه البغوي في شرح السنة، (¬2) وقال الذهبي في سيره: (¬3) حديث صحيح. وذكره الضياء في الأحاديث المختارة، (¬4) بإسناده وقال بعده: رواه الإمام أحمد عن سريج عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن أبان بن عثمان بنحوه (إسناده حسن) ا. هـ. وقال ابن حار في نتائج الأفكار: (¬5) حسن صحيح. ثم وقفت له على متابعة أخرى لعبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو ما رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه: (¬6) حدثناه أبي، قال: حدثنا قدامة بن محمد بن قدامة المديني، قال: حدثنا المنذر بن عبد الله الحزامي، قال: حدثنا أبان بن عثمان، قال: سمعت عثمان بن عفان، قال: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال إذا أصبح أو أمسى ثلاث مرات: بسم الله الحي الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم؛ لم يصبه شيء» فأصبح أبان قد ضربه الفالج فنظر إليه بعض جلسائه، فقال: أما والله ما كذبت، ولا كُذبت، ولقد قلتها منذ ثلاثون سنة حتى كانت هذه الليلة فأنسيتها، وكان ذلك للقضاء والقدر. وكذا رواه أبو يعلى الموصلي: (قلت: وهو ساقط من المطبوع) كما قال الحافظ الضياء في الأحاديث المختارة (¬7)، عن أبي خيثمة به، ¬

(¬1) ابن حبان (رقم: 862). (¬2) شرح السنة (5/ 113). (¬3) سير أعلام النبلاء (5/ 206). (¬4) الأحاديث المختارة (رقم: 309). (¬5) نتائج الأفكار (2/ 348). (¬6) تاريخ ابن أبي خيثمة (رقم: 3438). (¬7) الأحاديث المختارة (1/ 436).

ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (¬1)، وقال: غريب من حديث المنذر. قال أبو محمد: أما قدامة فقال في الجرح: (¬2) سألت أبي عن قدامة بن محمد المديني، فقال: ليس به بأس. سئل أبو زرعة عن قدامة بن محمد المديني، فقال: لا بأس به. وأما المنذر فقد روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في الثقات (¬3)، وأثنى عليه الزبير بن بكار، والخطيب البغدادي كما في تاريخه (¬4)، فمثله لا بأس به. لكن قال في تهذيب الكمال في ترجمته: (¬5) روى عن أبان مرسلًا. وعبارته في تهذيب التهذيب: (¬6) أرسل عن أبان. والمعنى واحد، وهذا معناه لم يسمع منه. وقد قيل إن أبان توفي سنة 105هـ، والمنذر توفي سنة 181هـ. فبين وفاتيهما نحو 76 سنة، والسماع مع هذا محتمل، فإن كان ثابتًا، فهو متابع لابن أبي الزناد، وتقدم قول الذهبي في سيره بقوله: (¬7) حديث صحيح - قال - ورواه عن أبان منذر بن عبد الله الحزامي، ومحمد بن كعب القرظي. أخرجه الترمذي. ا. هـ. فالحديث في الأصل ثابت. ¬

(¬1) تاريخ دمشق (6/ 149). (¬2) الجرح والتعديل (رقم: 735). (¬3) الثقات (9/ 176). (¬4) التاريخ (13/ 243). (¬5) تهذيب الكمال ليوسف المزي (رقم: 6181). (¬6) تهذيب التهذيب (رقم: 526). (¬7) سير أعلام النبلاء للذهبي (4/ 352).

تنبيه: قال في تهذيب التهذيب: (¬1) قال الأثرم: قلت لأحمد أبان بن عثمان سمع من أبيه قال: لا. قلت (ابن حجر): حديثه في «صحيح مسلم» مصرح بالسماع من أبيه. قال أبو محمد: وذلك فيما أخرجه مالك (¬2) في موطئه، ومن طريقه مسلم: (¬3) عن نافع عن نبيه بن وهب: أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير، فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك، وهو أمير الحج، فقال أبان: سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب». ثم رأيت في سنن الأثرم، قال: (¬4) حدثنا القعنبي، حدثنا مالك، عن ضمرة بن سعيد، قال: سمعت أبان بن عثمان يقول: رأيت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أكل خبزًا ولحمًا، ثم دعا بماء فغسل يديه، ثم مضمض ثم صلى ولم يتوضأ. ا. هـ. فالسماع ثابت، والمقصود إن هذه من جملة الأسباب، ولذا بوب ابن حبان في صحيحه (¬5) عليه بقوله: ذكر ما يجب على المرء من الاحتراز بذكر الله جل وعلا في أسبابه دون الاتكال على قضاء الله فيها. وقال ابن القيم في الوابل الصيب: (¬6) والتكفير بهذه مشروط ¬

(¬1) تهذيب التهذيب (رقم: 173). (¬2) مالك (رقم: 70). (¬3) مسلم (رقم: 1409). (¬4) سنن الأثرم (رقم: 156). (¬5) صحيح ابن حبان (3/ 132). (¬6) الوابل الصيب ص 19.

بشروط، موقوف على انتفاء الموانع كلها فحينئذ يقع التكفير، وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفُقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يُوف حقه، ولم يقدره حق قدره، فأي شيء يكفر هذا.؟

الحكم السابع

الحكم السابع شرط حصول الأجر الكامل في الأذكار: تواطؤ القلب مع اللسان. وفوات ذلك مع ذكر اللسان لا يمنع حصول أصل الأجر، وهو أحد الأسباب في انتفاع الذاكر بذكره، وتقدمت الإشارة إلى ذلك وأفردناه هنا للأهمية. قال شي الإسلام: (¬1) الناس في الذكر أربع طبقات. أحداها: الذكر بالقلب واللسان وهو المأمور به. الثاني: الذكر بالقلب فقط، فإن كان مع عجز اللسان فحسن، وإن كان مع قدرته فترك للأفضل. الثالث: الذكر باللسان فقط، وهو كون لسانه رطبًا بذكر الله، وفيه حكاية التي لم تجد الملائكة فيه خيرًا؛ إلا حركه لسانه بذكر الله، ويقول الله تعالى: «أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه» (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/ 566). (¬2) أخرجه ابن ماجه (رقم: 3792) وابن حبان (رقم: 815) موصولًا بسند صحيح، وعلَّقه البخاري (9/ 153) بصيغة الجزم.

الرابع: عدم الأمرين وهو حال الخاسرين. وقال: (¬1) لكن يكون الذكر في النفس كاملًا وغير كامل فالكامل باللسان مع القلب وغير الكامل بالقلب فقط. وقال - رحمه الله -: (¬2) ومن جعل همّته في الدعاء، تقويم لسانه أضعف توجه قلبه، ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه لا يحضره قبل ذلك، وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه. ا. هـ. وقال النووي على شرح مسلم (¬3) ما نصه: قال القاضي عياض - رحمه الله -: وذكر الله تعالى ضربان، ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وذكر القلب نوعان: أحدهما: وهو أرفع الأذكار وأجلها، الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله، وجبروته وملكوته، وآياته في سمواته وأرضه، ومنه الحديث خير الذكر الخفي، والمراد به هذا. والثاني: ذكره بالقلب، عند الأمر والنهى، فيمتثل ما أمر به، ويترك ما نهى عنه، ويقف عما أشكل عليه، وأما ذكر اللسان مجردا فهو أضعف الأذكار، ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث، قال: وذكر ابن جرير الطبري وغيره: اختلاف السلف في ذكر القلب واللسان، أيهما أفضل؛ قال القاضي: والخلاف عندي، إنما يتصور في مجرّد ذكر القلب تسبيحًا وتهليلًا، وشبههما، وعليه يدل كلامهم، لا أنهم مختلفون في الذكر الخفي الذي ذكرناه؛ وإلا فذلك لا يقاربه ذكر اللسان فكيف يفاضله، وإنما الخلاف في ذكر القلب بالتسبيح المجرد ¬

(¬1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (15/ 35). (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 489). (¬3) شرح مسلم (17/ 15).

ونحوه، والمراد بذكر اللسان مع حضور القلب، فإن كان لاهيا فلا، واحتج من رجح ذكر القلب بأن عمل السر أفضل، ومن رجح ذكر اللسان، قال لأن العمل فيه أكثر، فإن زاد باستعمال اللسان اقتضى زيادة أجر، قال القاضي: واختلفوا هل تكتب الملائكة ذكر القلب، فقيل تكتبه، ويجعل الله تعالى لهم علامة يعرفونه بها، وقيل لا يكتبونه؛ لأنه لا يطلع عليه غير الله، قلت: الصحيح أنهم يكتبونه، وأن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده، والله أعلم. ا. هـ. وقال النووي أيضا في أذكاره: (¬1) المراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر فيحرص على تحصيله، ويتدبّر ما يذكر، ويتعقل معناه. فالتدبّر في الذكر مطلوب كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود. ا. هـ. وقال النووي أيضًا: وفي صحيح البخاري من حديث عبد الوارث، حدثنا الحسين، حدثنا عبد الله بن بريدة، حدثني بشير بن كعب العدوي، قال: حدثني شداد بن أوس (¬2). عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (¬3) «سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبد، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت قال ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة». وعند النسائي من طريق يزيد، وهو بن زريع، قال: حدثنا حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن بشير بن كعب، عن شداد بن أوس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إن سيّد الاستغفار، أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبد، وأنا على عهد، ووعد، ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بذنبي وأبوء لك بنعمتك عليّ فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب ¬

(¬1) الأذكار (1/ 40). (¬2) هو: شداد بن أوس بن ثابت، أبو يعلى، الأنصاري الخزرجي. صحابي، من الأمراء. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن كعب الأحبار. وعنه ابنه يعلى ومحمد وبشير بن كعب العدوي ومحمود بن الربيع وغيرهم. ولاه عمر - رضي الله عنه - إمارة حمص، ولما قتل عثمان - رضي الله عنه - اعتزل، وعكف على العبادة. قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: لكل أمة فقيه وفقيه هذه الأمة شداد بن أوس. وله في كتب الحديث 50 حديثًا. أنظر: الإصابة 2/ 138، وتهذيب التهذيب 4/ 315، والأعلام 3/ 232. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 5947).

إلا أنت، فإن قالها حين يصبح موقنا بها، فمات دخل الجنة، وإن قالها حين يمسي موقنا بها دخل الجنة» (¬1). وهذا وإن كان واردًا في هذا الذكر، فهو قيد في سائر الألفاظ فالأذكار المطلقة تحمل على هذا فلا بد للمسبح أن يعتقد تسبيح الله وتنزيهه، ولا للحامد أن يعتقد استحقاق الله للحمد، ولا بد للمكبر أن يعتقد أن الله ليس أكبر منه شيء لا في ذاته ولا في كمال أسمائه وصفاته. وأصل الأمر لا يحصل إلا بهذا، وكماله يحصل باستغراق ما دلت عليه تلك المحامد والتسبيحات من المحامد العظيمة والتنزيهات ... الخ. فإن قيل فما معنى أصل الأجر وكماله: قيل استحقاق دخول الجنة إن رتب على ذكر ما، فالذاكر موعود بالدخول، والمستكمل ¬

(¬1) سنن النسائي (رقم: 5522).

لمعاني الذكر سابق في الدخول. وقس على هذا جميع وعود الشارع المرتبة على الأذكار. والمؤمنون موعودون بالجنة، وهم يتفاضلون في السبق في دخولها، وفي التنّعم فيها، وهذا وإن كان يحصل بسبب اختلاف الأعمال، فإنه أيضًا حاصل بالاختلاف في العمل الواحد، فليس الذاكرون كلهم على حدّ واحد في مقدار ذكرهم، وتواطؤ قلوبهم مع أذكارهم، وتفاضل هذا حاصل به العلم ضرورة. وقس على هذا تفاوت حظوظ المصلين من صلاتهم، وتفاوت انتفاعهم بها في دنياهم وآخرتهم، وهذا باب لطيف يدركه من يدركه، ويوفق للسبق فيه المسارعون للخيرات جعلنا الله منهم برحمته وجوده ..

الحكم الثامن

الحكم الثامن شرط حصول أصل الأجر في القراءة والذكر، أن ينطق اللسان، وتتحرك الشفتان، وفي إسماع النفس خلاف، وهذه قاعدة في كل ذكر واجب، أو مستحب، حتى يعد قارئًا ومسبحًا وذاكرًا ... فلا يكفي إجراء الذكر على قلبه دون حركة لسانه، ولا يكفي حركة اللسان مع إطباق الشفتين، بل لا بد من خروج صوت وهواء حتى يسمى ذاكرًا وتاليًا وقائلًا، وضابط ذلك إتيانه بالحروف العربية، ففي الأذكار مثلًا من قال كذا وكذا، أو من سبح الله، أو من قراء كذا، وهذه قاعدة في كل ذكر شرعي واجب أو مستحب. وهل يشترط إسماع نفسه، فيه خلاف، روى البخاري في صحيحه (¬1) من طريق أبي معمر - وهو عبد الله بن سخبرة - قال: سألنا خبابًا أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون؟ قال: باضطراب لحيته. واستدل به البيهقي على أن الإسرار بالقراءة لا بد فيه من إسماع المرء نفسه، وذلك لا يكون إلا بتحريك اللسان والشفتين، بخلاف ما ¬

(¬1) صحيح البخاري (رقم: 746).

لو أطبق شفتيه وحرك، لسانه بالقراءة، فإنه لا تضطرب بذلك لحيته فلا يسمع نفسه (¬1). وقال ابن عبد البر في التمهيد ما نصه: (¬2) ومعلوم أن القراءة في النفس ما لم يحرك بها اللسان فليست بقراءة وإنما هي حديث النفس بالذكر وحديث النفس متجاوز عنه لأنه ليس بعمل يؤاخذ عليه فيما نهي أن يعمله أو يؤدي عنه فرضًا فيما أمر بعملها. ا. هـ. قال شيخ الإسلام: (¬3) ولا يشترط أن يسمع المصلي نفسه القراءة الواجبة. وأنقل هنا كلامًا لأبي محمد الموفق في المغني: (¬4) ذكره في كتاب الديات لا يخلو من فائدة: قال: أجمع أهل العلم على وجوب الدية في لسان الناطق .... ويقال: ما الإنسان لولا اللسان؛ إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة، وأما النفع فإن به تبلغ الأغراض، وتستخلص الحقوق، وتدفع الآفات، وتقضى به الحاجات، وتتم العبادات في القراءة والذكر والشكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعليم والدلالة على الحق المبين والصراط المستقيم ..... إلى قوله: فصل: وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدر ما ذهب يعتبر ذلك بحروف العجم، وهي ثمانية وعشرون حرفًا ..... ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية ..... إلى قوله: وإن ذهب حرف فأبدل مكانه حرفًا آخر؛ كأنه يقول درهم فصار يقول دلهم، أو دعهم أو ديهم، فعليه ضمان الحرف الذاهب .... وإن لم يذهب شيء من الكلام لكن ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر (2/ 245). (¬2) التمهيد 11/ 46. (¬3) الفتاوى الكبرى لابن تيمية 5/ 331. (¬4) المغني 12/ 124 - 125.

حصلت فيه عجلة، أو تمتمة أو فأفأة، فعليه حكومة لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية لأن المنفعة باقية .... إلخ آخر ما ذكره. مما يدل على فضل اللسان ونعمة البيان والكلام، وسلامة النطق، وقبح ضده. وقد امتن الله على عباده بتعليمه البيان في سورة الرحمن بقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3، 4] وعلى أحد التفاسير المشهورة: الكلام. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرر هذا في تعليم الصحابة القرآن والذكر، ففي حديث جابر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة؛ كما يعلمنا السورة من القرآن. (¬1) وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - علمني النبي - صلى الله عليه وسلم - التشهد وكفي بين كفيه. (¬2) وفي رواية: كلمة كلمة (¬3) وفي حديث سلمان: حرفًا حرفًا. (¬4) وقال ابن أبي جمرة التشبيه في تحفظ حروفه وترتب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه. (¬5) وقال الحافظ: (¬6) على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «... وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ...» (¬7) قال بعد كلام، ونقل الزركشي: أن المراد بقوله فليقل إني صائم مرتين يقوله مرة بقلبه ومرة بلسانه فيستفيد بقوله بقلبه كف لسانه عن خصمه وبقوله بلسانه ¬

(¬1) صحيح البخاري (رقم: 6382) (¬2) صحيح البخاري (رقم: 6265) (¬3) شرح معاني الآثار (رقم: 1562) (¬4) مسند البزار (رقم: 2535) المعجم الكبير للطبراني (رقم: 6171) (¬5) فتح الباري ابن حجر 11/ 184. (¬6) الفتح 4/ 105. (¬7) صحيح البخاري (رقم: 1894)

كف خصمه عنه وتعقب بأن القول حقيقة باللسان. ا. هـ. وقال ابن أبي العز (¬1) في شرح الطحاوية- ومن كلام شيخ الإسلام استفاده - قال ما نصه: وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق: أربعة أقوال: أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعًا؛ كما يتناول لفظ الإنسان الروح والبدن معا، وهذا قول السلف .... إلى قوله: ويرد قول من قال: بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» (¬2) وقال: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما. أحدث أن لا تكلموا في الصلاة». (¬3) واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامدًا لغير مصلحتها بطلت صلاته. واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك. فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام. وأيضًا: ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «إن الله تجاوز ¬

(¬1) هو: علي بن علي بن محمد بن أبي العز، علاء الدين، الدمشقي، الحنفي، فقيه، كان قاضي القضاة بدمشق، ثم بالديار المصرية، ثم بدمشق، وهو الذي امتحن بسبب اعتراضه على قصيدة لابن أيبك الدمشقي. من تصانيفه: التنبيه على مشكلات الهداية في فروع الفقه الحنفي، والنور اللامع فيما يعمل به في الجامع أي جامع بني أمية. انظر: الدرر الكامنة 3/ 87، وهدية العارفين 1/ 726، والأعلام 5/ 129، ومعجم المؤلفين 7/ 156. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 23813) ومسلم (رقم: 237) وأبو داود (رقم: 930) والنسائي (رقم: 1218). (¬3) أخرجه والطيالسي (رقم: 245) وعبد الرزاق (رقم 3594) وأحمد (رقم: 4145) وابن أبي شيبة (رقم: 4803) وأبو داود (رقم: 924) والنسائي (رقم: 1221)

لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به». (¬1) فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان، باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب. (¬2) ... إلخ ما ذكره. ا. هـ. قلت: وفي ألفية ابن مالك: كَلامُنا لفْظٌ مُفِيْدٌ كَاسْتقِمْ ... وَاسْمٌ وَفعْلٌ ثُمَّ حَرْفٌ الْكَلمْ وفي الأجرومية: الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع. وقال النووي في أذكاره: (¬3) ما نصه: اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها، واجبة كانت أو مستحبة، لا يحسب شئ منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له. والله أعلم. وقال أيضًا في المجموع: (¬4) وإذا قلنا يقرأ المأموم في الجهرية كره له أن يجهر بحيث يؤذى جاره بل يسر بحيث يسمع نفسه لو كان سميعًا ولا شاغل من لغط وغيره لأن هذا أدنى القراءة المجزئة. ا. هـ. قال في فقه العبادات على المذهب الحنفي ما نصه: (¬5) النطق بها بصوت أقل ما فيه أن يسمع نفسه. والسماع شرط فيما يتعلق بالنطق باللسان وهي: التحريمة، القراءة السرية، التشهد، الأذكار، الطلاق، ¬

(¬1) صحيح مسلم (رقم: 127) (¬2) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي 1/ 106. (¬3) الأذكار ص 42. (¬4) المجموع 3/ 364. (¬5) فقه العبادات على المذهب الحنفي (1/ 77).

الاستثناء، اليمين، النذر. فلو أجرى هذه الأمور على القلب من غير تلفظ يُسمَع لم تثبت. ا. هـ. وتقدم ذكر مسألة إسماع النفس، والراجح عدم لزومه؛ لأن الإسماع قدر زائد على التلفظ والكلام، ولم يأت بإيجابه حُجة، واختاره شيخ الإسلام. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: (¬1) المثال الثاني والأربعون: إذا استحلف على شيء فأَحَب أن يحلف ولا يحنث، فالحيلة أن يحرك لسانه بقول إن شاء الله، وهل يشترط أن يسمعها نفسه، فقيل لا بد أن يسمع نفسه، وقال شيخنا هذا لا دليل عليه، بل متى حرك لسانه بذلك كان متكلمًا، وإن لم يسمع نفسه، وهكذا حكم الأقوال الواجبة، والقراءة الواجبة، قلت وكان بعض السلف يطبق شفتيه، ويحرك لسانه بلا إله إلا الله ذاكرًا، وإن لم يسمع نفسه فإنه لاحظ للشفتين في حروف هذه الكلمة، بل كلها حلقية لسانية فيمكن الذاكر أن يحرك لسانه بها، ولا يسمع نفسه ولا أحدًا من الناس، ولا تراه العين يتكلم، وهكذا التكلم بقول إن شاء الله يمكن مع إطباق الفم، فلا يسمعه أحد ولا يراه، وإن أطبق أسنانه وفتح شفتيه أدنى شيء سمعته أذناه بجملته. ا. هـ. وفي فتاوي اللجنة الدائمة هذا السؤال: (¬2) س: هل الجهر في تكبيرة الاحرام واجب أم يجزئ الاسرار بالقلب فيها؟ ج: تكبيرة الاحرام ركن من أركان الصلاة، والمأموم لا يجهر بالتكبيرة بل يكبر بحيث يسمع نفسه مع تحريك الشفتين بالتكبير، وهكذا المنفرد أما الإمام فيجهر بالتكبير والتسميع في جميع الصلوات ¬

(¬1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 410) (¬2) الفتوى رقم (11317).

حتى يسمع المأمومين، هذا هو المشروع بحقه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وفي سؤالات الباب المفتوح (727) السؤال: هل يلزم تحريك الشفتين في الصلاة والأذكار والقراءة؟ أم يكفي أن يقرأ بدون تحريك الشفتين؟ الجواب: لابد من تحريك الشفتين في قراءة القرآن في الصلاة، وكذلك في قراءة الأذكار الواجبة كالتكبير والتسبيح والتحميد والتشهد؛ لأنه لا يسمى قولًا إلا ما كان منطوقًا به، ولا نطق إلا بتحريك الشفتين واللسان، ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يعلمون قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - باضطراب لحيته - أي: بتحركها - ولكن اختلف العلماء هل يجب أن يسمع نفسه؟ أم يكتفي بنطق الحروف؟ فمنهم من قال: لا بد أن يسمع نفسه، أي: لابد أن يكون له صوت يسمعه هو بنفسه، ومنهم من قال: يكفي إذا أظهر الحروف، وهذا هو الصحيح. ا. هـ. تنبيه: مما تقدم يتبين إخلال كثير من الناس بألفاظ الذكر من التسبيح والتحميد والتهليل، وأوراد الصباح والمساء ... إلخ. فتجد أحدهم لا يكاد يتلفظ بهذه الأذكار، وإذا تلفظ لا يكاد يبين، فلو دنوت من أحدهم لسمعت إما همهمة أو تمتمة، لا تسمى ذكرًا ولا قراءة ولا تسبيحًا، ولا تهليلًا، وربما كان مغلقًا لفمه. ومثل ذلك القراءة في الصلاة السرية، خذ من الأخطاء وعدم التلفظ بالآيات على الوجه الصحيح ما شئت فضلًا عن التجويد والترتيل، فربما يصلي كثير منهم صلاة لو رآها المنصف لقال: «ارجع فصل فإنك لم تصل» (¬1) والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لعلكم تقرأون ¬

(¬1) قطعة من حديث أخرجه البخاري (رقم: 793) ومسلم (رقم: 397) وغيرهم.

خلفي» (¬1) ... فسماها قراءة، فأي قراءة نقرأ، وأي ذكر نقول، إن الأمر عظيم والخطب الجسيم، وبيان هذا واجب على العلماء وطلاب العلم وأئمة المساجد، ومن ذلك أن بعض الناس عند القراءة أو الذكر ينتابه التثاؤب، فيستمر على قراءته ولا يرد التثاؤب، فتذهب بعض الحروف أحيانا، والمشروع كظم التثاؤب ورده والتوقف عن القراءة والذكر والله المستعان. لطيفة: أخرج ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي سعيد: أنه كان يأخذ ثلاث حصيات فيضعهن على فخذه فيسبح ويضع واحدة، ثم يسبح ويضع أخرى، ثم يسبح ويضع أخرى، ثم يرفعن ويصنع مثل ذلك، وقال: لا تسبحوا بالتسبيح صفيرًا. (¬2) قلت: والصفير: صوت يخرج مع الحرف يشبه صفير الطائر، والخبر في إسناده نظر لكن فيه فائدة إظهار التسبيح وصحة نطقه باللسان، قال في صُبح الأعشى في وصف بعض الجُزُر ما نصه: (¬3) وفيها ناس عراة في غياض لا يفهم ما يقولون، كلامهم صفير، يستوحشون من الناس. ا. هـ. تنبيه: قال في كشاف القناع: (¬4) ما نصه: قال في الشرح: فإن عجز عن بعض اللفظ، أو بعض الحروف، أتى بما عجز عن بعض الفاتحة، والأخرس ومقطوع اللسان يحرم بقلبه، لعجزه عنه بلسانه، ولا يحرك لسانه، كمن سقط عنه القيام يسقط عنه النهوض إليه، وإن قدر ¬

(¬1) القراءة خلف الإمام للبيهقي (رقم: 135). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 7742) (¬3) صبح الأعشى 5/ 77. (¬4) كشاف القناع: 1/ 331.

عليه لأنه عبث ولم يرد الشرع به؛ كالعبث بسائر جوارحه وإنما لزم القادر ضرورة، وكذا حكم القراءة والتسبيح وغيره؛ كالتحميد والتسميع والتشهد والسلام، يأتي به الأخرس ونحوه بقلبه، ولا يحرك لسانه لما تقدم. ا. هـ.

الحكم التاسع

الحكم التاسع يجوز الذكر قيامًا وقعودًا وفي حال الاضطجاع، وفي حجر الحائض وماشيًا وساعيًا وفي كل حال إلا ما استثنى. قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] قال القرطبي في تفسيره: (¬1) الثالثة: ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصر زمانه، ومن هذا المعنى قول عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يذكر الله على كل أحيانه. أخرجه مسلم. (¬2) فدخل في ذلك كونه على الخلاء، وغير ذلك، وقد اختلف العلماء في هذا، فأجاز ذلك عبد الله بن عمرو (¬3)، وابن ¬

(¬1) تفسير القرطبي (4/ 310) (¬2) مسلم (رقم: 373) (¬3) هو: عبد الله بن عمرو بن العاص، أبو محمد. صحابي قرشي. أسلم قبل أبيه. قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله. كان مجتهدًا في العبادة غزير العلم. وكان أكثر الصحابة حديثًا. وروى عن عمر وأبي الدرداء وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة، وحدث عنه بعض الصحابة وعدد كثير من التابعين. استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابة ما كان يسمعه منه فأذن له، فكتب. وكان يسمي صحيفته تلك الصادقة. انظر: طبقات ابن سعد 4/ 8؛ والإصابة 2/ 351؛ وتهذيب التهذيب 5/ 337.

سيرين (¬1)، والنخعي (¬2)، وكره ذلك ابن عباس، وعطاء، والشعبي، والأول أصح لعموم الآية والحديث قال النخعي: لا بأس بذكر الله في الخلاء فإنه يصعد المعنى: تصعد به الملائكة مكتوبًا في صحفهم فحذف المضاف دليله قوله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11]. لأن الله - عز وجل - أمر عباده بالذكر على كل حال ولم يستثن، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]. وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ¬

(¬1) هو: محمد بن سيرين البصري، الأنصاري بالولاء، أبو بكر. تابعي، مولده ووفاته بالبصرة. نشأ بزازا وتفقه. كان أبوه مولى لأنس بن مالك. ثم كان هو كاتب لأنس بفارس. كان إمام وقته في علوم الدين بالبصرة. روى الحديث عن أنس بن مالك وزيد بن ثابت والحسن بن علي وغيرهم من الصحابة ?، واشتهر بالورع وتأويل الرؤيا. وقال ابن سعد: لم يكن بالبصرة أعلم منه بالقضاء. ينسب إليه كتاب تعبير الرؤيا. انظر: الأعلام للزركلي، وتهذيب التهذيب 9/ 14؛ وتاريخ بغداد 5/ 331؛ وتهذيب الأسماء واللغات 1/ 82. (¬2) هو: إبراهيم بن زيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران. من مذحج اليمن من أهل الكوفة، ومن كبار التابعين، أدرك بعض متأخري الصحابة، ومن كبار الفقهاء. قال عنه الصفدي: فقيه العراق. أخذ عنه حماد بن أبي سليمان وسماك بن حرب وغيرهما .. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 70؛ والأعلام للزركلي 1/ 76؛ وطبقات ابن سعد 6/ 188 - 199.

الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]. فذاكر الله تعالى على كل حالاته مثاب مأجور إن شاء الله تعالى. وذكر أبو نعيم قال: حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن كعب الأحبار (¬1)، قال: قال: موسى - عليه السلام -: «يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك، قال: يا موسى أنا جليس من ذكرني، قال: يا رب فإنا نكون من الحال على حال نجلك ونعظمك أن نذكرك، قال: وما هي، قال: الجنابة والغائط، قال: يا موسى اذكرني على كل حال. وكراهية من كره ذلك؛ إما لتنزيه ذكر الله تعالى في المواضع المرغوب عن ذكره فيها؛ ككراهية قراءة القرآن في الحمام، وإما إبقاء على الكرام الكاتبين، على أن يحلهم موضع الأقذار والأنجاس، لكتابة ما يلفظ به، والله أعلم. وقال النووي في مقدمة أذكاره ما نصه: (¬2) اعلم أن الذكر محبوب في جميع الأحوال؛ إلا في أحوال ورد الشرع باستثنائها، نذكر منها هنا طرفا، إشارة إلى ما سواه مما سيأتي في أبوابه إن شاء الله ¬

(¬1) هو: كعب بن ماتع الحميري، اليماني، العلامة، الحبر، كان يهوديًا، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر - رضي الله عنه -، فجالس أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة. وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء. وكان خبيرا بكتب اليهود، له ذوق في معرفة صحيحها من باطلها في الجملة، سكن بالشام بأخرة، وكان يغزو مع الصحابة، مات في خلافة عثمان وقد زاد على مائة. انظر: الإصابة: الإصابة 3/ 315، وتقريب التهذيب 286، وسير أعلام النبلاء (رقم: 111) .. (¬2) الأذكار ص 40.

تعالى، فمن ذلك: أنه يكره الذكر حالة الجلوس على قضاء الحاجة، وفي حالة الجماع، وفي حالة الخطبة لمن يسمع صوت الخطيب، وفي القيام في الصلاة، بل يشتغل بالقراءة، وفي حالة النعاس، ولا يكره في الطريق ولا في الحمام (¬1)، والله أعلم. وقال في المجموع ما نصه: (¬2) ويستحب متابعته - يعني المؤذن - لكل سامع من طاهر ومحدث وجنب وحائض وكبير وصغير لأنه ذكر وكل هؤلاء من أهل الذكر ويستثنى من هذا المصلي ومن هو على الخلاء والجماع. ا. هـ. وقال البخاري في صحيحه: (¬3) باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره وقال منصور بن إبراهيم: لا بأس بالقراءة في الحمام. قال الحافظ في الفتح: (¬4) وروى ابن المنذر عن علي: قال بئس البيت الحمام ينزع فيه الحياء، ولا يقرأ فيه آية من كتاب الله، وهذا لا يدل على كراهة القراءة، وإنما هو إخبار بما هو الواقع، بأن شأن من يكون في الحمام أن يلتهي عن القراءة، وحكيت الكراهة عن أبي حنيفة، وخالفه صاحبه محمد بن الحسن، ومالك، فقالا: لا تكره لأنه ليس فيه دليل خاص، وبه صرح صاحبا العدة والبيان من الشافعية، وقال النووي في التبيان: عن الأصحاب لا تكره، فاطلق؛ لكن في شرح الكفاية للصيمري لا ينبغي أن يقرأ، وسوّى الحليمي بينه وبين القراءة حال قضاء الحاجة، ورجح السبكي الكبير عدم الكراهة، واحتج بأن القراءة مطلوبة، والاستكثار منها مطلوب، والحدث يكثر، فلو ¬

(¬1) الحمام: ما يستحم فيه بالماء الحار ولا تقضى فيه الحاجة. (¬2) المجموع: 3/ 118. (¬3) صحيح البخاري 1/ 47. (¬4) الفتح 1/ 287.

كرهت لفات خير كثير، ثم قال حكم القراءة في الحمام، إن كان القارئ في مكان نظيف وليس فيه كشف عورة لم يكره. ا. هـ. وقال البخاري في صحيحه: (¬1) باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض، وأسند حديث منصور بن صفية أن أمه حدثته أن عائشة حدثتها: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتكىء في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن» (¬2). قال الحافظ في الفتح: (¬3) وللمصنف في التوحيد كان يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا حائض، فعلى هذا فالمراد بالاتكاء وضع رأسه في حجرها، قال ابن دقيق العيد في هذا الفعل إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأن قراءتها لو كانت جائزة لما توهم امتناع القراءة في حجرها، حتى احتيج إلى التنصيص عليها، وفيه جواز ملامسة الحائض، وأن ذاتها وثيابها على الطهارة، ما لم يلحق شيئا منها نجاسة، وهذا مبني على منع القراءة في المواضع المستقذرة، وفيه جواز القراءة بقرب محل النجاسة، قاله النووي، وفيه جواز استناد المريض في صلاته إلى الحائض، إذا كانت أثوابها طاهرة، قاله القرطبي. ا. هـ. وقال البخاري في صحيحه: باب تقضي الحائض المناسك كلها؛ إلا الطواف بالبيت (¬4)، وقال إبراهيم لا بأس أن تقرأ الآية، ولم ير ابنُ عباس - رضي الله عنه - بالقراءة للجنب بأسًا. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل ¬

(¬1) صحيح البخاري (1/ 67). (¬2) صحيح البخاري: (حديث رقم: 293)، باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض. (¬3) الفتح (1/ 420). (¬4) صحيح البخاري (1/ 68).

أحيانه. وقالت أمُّ عطية: كنا نؤمر أن يخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون ... إلخ، وذكر حديث عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي فقال: «ما يبكيك». قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: «لعلك نفست». قلت: نعم، قال: «فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري». (¬1) وقال الحافظ في الفتح: (¬2) قيل مقصود البخاري بما ذكر في هذا الباب من الأحاديث والآثار، إن الحيض وما في معناه من الجنابة لا ينافي جميع العبادات، بل صحت معه عبادات بدنية من أذكار وغيرها، فمناسك الحج من جملة ما لا ينافيها؛ إلا الطواف فقط، وفي كون هذا مراده نظر؛ لأن كون مناسك الحج، كذلك حاصل بالنص فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه، والأحسن ما قاله ابن رُشيد تبعًا لابن بطال، وغيره، إن مراده الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة - رضي الله عنها -؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن من جميع مناسك الحج؛ إلا الطواف، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة، وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء، ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك، فكذلك الجنب؛ لأن حدثها أغلظ من حدثه، ومنع القراءة إن كان لكونه ذكرا لله، فلا فرق بينه وبين ما ذكر، وإن كان تعبدًا، فيحتاج إلى دليل خاص، ولم يصح عند المصنف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك، وأن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره؛ لكن ¬

(¬1) صحيح البخاري (رقم: 305). (¬2) الفتح (1/ 407).

أكثرها قابل للتأويل؛ كما سنشير إليه، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز، غيره؛ كالطبري وابن المنذر وداود، بعموم حديث كان يذكر الله على كل أحيانه؛ لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف، والحديث المذكور وصله مسلم من حديث عائشة، وأورد المصنف أثر إبراهيم، وهو النخعي، إشعارًا بأن منع الحائض من القراءة ليس مجمعًا عليه، وقد وصله الدارمي وغيره، بلفظ: «أربعة لا يقرؤون القرآن الجنب والحائض وعند الخلاء وفي الحمام؛ إلا الآية ونحوها للجنب والحائض». (¬1) وروي عن مالك نحو قول إبراهيم، وروى عنه الجواز مطلقا، وروي عنه الجواز للحائض دون الجنب، وقد قيل إنه قول الشافعي في القديم، ثم أورد أثر ابن عباس، وقد وصله ابن المنذر بلفظ أن ابن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب، وأما حديث أم عطية فوصله المؤلف في العيدين، وقوله فيه «ويدعون» كذا لأكثر الرواة، وللكشميهني يدعين بياء تحتانية بدل الواو، ووجه الدلالة منه ما تقدم من أنه لا فرق بين التلاوة وغيرها، ثم أورد المصنف طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وهو موصول عنده في بدء الوحي وغيره، ووجه الدلالة منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى الروم، وهم كفار، والكافر جنب؛ كأنه يقول إذا جاز مس الكتاب للجنب مع كونه مشتملًا على آيتين، فكذلك يجوز له قراءته، كذا قاله ابن رُشيد، وتوجيه الدلالة منه، إنما هي من حيث إنه إنما كتب إليهم ليقرءوه، فاستلزم جواز القراءة بالنص لا بالاستنباط، وقد أجيب ممن منع ذلك وهم الجمهور، بأن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه، أو في التفسير، فإنه لا يمنع قراءته ولا مسه عند الجمهور؛ ¬

(¬1) سنن الدارمي (رقم: 1033) ..

لأنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ، وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز بالقليل كالآية والآيتين، قال الثوري: لا بأس أن يعلم الرجل النصراني الحرف من القرآن عسى الله أن يهديه، وأكره أن يعلمه الآية هو كالجنب، وعن أحمد أكره أن يضع القرآن في غير موضعه، وعنه أن رجى منه الهداية جاز، وإلا فلا، وقال بعض من منع لا دلالة في القصة على جواز تلاوة الجنب القرآن؛ لأن الجنب إنما منع التلاوة إذا قصدها، وعرف أن الذي يقرأه قرآن، أما لو قرأ في ورقة ما لا يعلم أنه من القرآن فإنه لا يمنع، وكذلك الكافر، وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى، تنبيه ذكر صاحب المشارق أنه وقع في رواية القابسي والنسفي وعبدوس هنا، ويا أهل الكتاب، بزيادة واو، قال وسقطت لأبي ذر والأصيلي وهو الصواب، قلت: فأفهم أن الأولى خطأ لكونها مخالفة للتلاوة، وليست خطأ، وقد تقدم توجيه إثبات الواو في بدء الوحي، قوله وقال عطاء عن جابر هو طرف من حديث موصول عند المصنف في كتاب الأحكام، وفي آخره غير أنها لا تطوف بالبيت ولا تصلي، وأما أثر الحكم، وهو الفقيه الكوفي، فوصله البغوي في الجعديات من روايته عن علي بن الجعد، عن شعبة عنه، ووجه الدلالة منه أن الذبح مستلزم لذكر الله بحكم الآية التي ساقها، وفي جميع ما استدل به نزاع يطول ذكره، ولكن الظاهر من تصرفه ما ذكرناه، واستدل الجمهور على المنع بحديث علي - رضي الله عنه -: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة». (¬1) ¬

(¬1) أخرجه الطيالسي (رقم: 101) وأحمد (رقم: 840) وأبو داود (رقم: 229) والترمذي (رقم: 146) والنسائي (رقم: 265) وابن ماجه (رقم: 594).

رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذي، وابن حبان، وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن، يصلح للحجة؛ لكن قيل في الاستدلال به نظر؛ لأنه فعل مجرد فلا يدل على تحريم ما عداه وأجاب الطبري عنه بأنه محمول على الأكمل جمعًا بين الأدلة، وأما حديث بن عمر مرفوعا: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن». (¬1) فضعيف من جميع طرقه وقد تقدم الكلام على حديث عائشة في أول كتاب الحيض، وقولها طمثت بفتح الميم، وإسكان المثلثة، أي حضت، ويجوز كسر الميم، يقال طمثت المرأة، بالفتح والكسر في الماضي، تطمث بالضم في المستقبل. (¬2) ا. هـ. قلت: ما أشار إليه الحافظ بقوله واستدل الجمهور على المنع بحديث علي .... إلخ. الحديث أخرجه أهل السنن وغيرهم، من طريق عمر بن مرة عن عبد الله بن سَلمة، عن علي - رضي الله عنه -. وعبد الله بن سلمة (بكسر اللام) فيه كلام. والحديث ضعفه جماعة؛ كالشافعي، ونقل عن أحمد والبخاري والخطابي والنووي، وصححه جماعة؛ كالبغوي وعبد الحق وابن السكن وابن خزيمة والحاكم وابن حبان وابن حجر وأحمد شاكر وشيخنا ابن باز، والحديث له شاهد آخر من طريق أبي الغريف عن علي - رضي الله عنه - مرفوعًا، وأبو الغريف فيه جهالة، وروي بإسناد أصح موقوفًا على علي - رضي الله عنه - قال الدارقطني في سننه (¬3)، وهو صحيح عن علي، والحديث جاء له شواهد مرفوعة كلها معلولة. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (رقم: 131) وابن ماجه (رقم: 595). (¬2) فتح الباري- ابن حجر- (1/ 407). (¬3) الدارقطني (رقم: 10).

وروى ابن المنذر (¬1)، وابن أبي شيبة (¬2) وأبو عبيد (مسند عمر) عن عمر (¬3) بإسناد حسن، أنه كره للجنب أن يقرأ شيئًا من القرآن، ولفظ ابن أبي شيبة «لا يقرأ الجنب» وروي المنع عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، وأخرجه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي عنه. قال ابن رجب في شرح البخاري: (¬4) ومنع الأكثرون الحائض والجنب من القراءة بكل حال، قليلًا كان أو كثيرًا، وهذا مروي عن أكثر الصحابة، روي عن عمر - رضي الله عنه -، وروي عنه أنه قال: لو أن جنبًا قرأ القرآن لضربته. وعن علي - رضي الله عنه - قال: لا يقرأ ولا حرفًا. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، وسليمان - رضي الله عنه -، وابن عمر - رضي الله عنه -. وقال: وهو قول أكثر التابعين، ومذهب الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق - في إحدى الروايتين عنهما -، وأبي ثور وغيرهم. وهو قول مالك في الجنب؛ إلا أنه رخص له في قراءة آيتين وثلاث عند المنام للتعوذ، ورخص الأوزاعي له في تلاوة آيات الدعاء والتعوذ، تعوذًا لا قراءة، وهذا أصح الوجهين للشافعية - أيضًا، وقال سعيد بن عبد العزيز: رخص للحائض والجنب في قراءة آيتين عندَ الركوب والنزول: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29] وعن مالك في الحائض روايتان إحداهما: هي كالجنب، والثانية: أنها تقرأ، وهو قول محمد بن مسلمة؛ لأن مدة الحيض تطول، فيخشى عليها النسيان، وهي غير قادرة على الغسل، بخلاف الجنب، وحكى أبو ثور ذلك عن الشافعي، وأنكره أصحاب الشافعي عنه، وعكس ذلك ¬

(¬1) الأوسط (2/ 96). (¬2) ابن أبي شيبة (1/ 97). (¬3) انظر: البيهقي (1/ 19). (¬4) شرح البخاري لابن رجب (1/ 428).

آخرون، منهم: عطاء، قال: الحائض أشد شأنًا من الجنب، الحائض لا تقرأ شيئا من القرآن، والجنب يقرأ الآية، خرجه ابن جرير بإسناده عنه. ووجه هذا: أن حدث الحيض أشد من حدث الجنابة؛ فإنه يمنع ما يمنع منه حدث الجنابة وزيادة، وهي الوطء والصوم، وما قيل من خشية النسيان فإنه يندفع بتذكر القرآن بالقلب، وهو غير ممنوع به. وفي نهي الحائض والجنب عن القراءة أحاديث مرفوعة؛ إلا أن أسانيدها غير قوية؛ كذا قال الإمام أحمد في قراءة الحائض، وكأنه يشير إلى أن الرواية في الجنب أقوى، وهو كذلك، وأقوى ما في الجنب: حديث عبد الله بن سلمة، عن علي - رضي الله عنه -، قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه - أو يحجزه - عن القرآن شيء، ليس الجنابة». (¬1) خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وخرجه الترمذي بمعناه، وقال: حسن صحيح، وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما) والحاكم، وقال صحيح الإسناد. وتكلم فيه الشافعي وغيره؛ فإن عبد الله بن سلمة هذا رواه بعدما كبر، قال شعبة عنه: كان يحدثنا، فكنا نعرف وننكر، وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، ووثقه العجلي ويعقوب بن شيبة، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. والاعتماد في المنع على ما روي عن الصحابة، ويعضده: قول ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 627) أبو داود (رقم: 229)، والترمذي (رقم: 146) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (رقم 265) وابن ماجه (594) والمستدرك (رقم: 7083) وابن خزيمة (رقم: 208) وأبو يعلى (رقم: 406) وابن حبان (رقم: 800)، والدارقطني (رقم: 10)، قال الحافظ في الفتح 1/ 408: وصححه الترمذي وابن حبان، وضعف بعضهم رواته.

عائشة وميمونة في قراءة النبي القرآن في حجرهما في حال الحيض؛ فإن يدل على أن للحيض تأثيرًا في منع القراءة. وأما الاستدلال المجيزين بحديث عائشة: «اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي». (¬1) فلا دلالة لهم فيهِ؛ فإنه ليس في مناسك الحج قراءة مخصوصة حتَّى تدخل في عموم هذا الكلام، وإنما تدخل الأذكار والأدعية. وأما الاستدلال بحديث الكتاب إلى هرقل، فلا دلالة فيه؛ لأنه إنما كتب ما تدعو الضرورة إليه للتبليغ، وقد سبق ذكر ذلك في شرح حديث هرقل في أول الكتاب. وقد اختلف العلماء في تمكين الكافر من تلاوة القرآن، فرخص فيه الحسن وأبو حنيفة وغيرهما، ومنهم من منع منه، وهو قول أبي عبيد وغيره واختلف أصحابنا في ذلك، فمنهم من منعه مطلقا، ومنهم من رخص فيه مطلقا، ومنهم من جوزه إذا رُجي من حال الكافر الاستهداء والاستبصار، ومنعه إذا لم يُرج ذلك. والمنقول عن أحمد أنه كرهه. وقال أصحاب الشافعي: إن لم يُرج له الاستهداء بالقراءة منع منها، وإن رُجي له ذلك لم يمنع، على أصح الوجهين. ا. هـ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 305) ومسلم (رقم: 1211).

الحكم العاشر

الحكم العاشر كل دعاء في الحج فهو قيام ... الأدعية في الحج عديدة، على الصفا، وعلى المروة، وفي عرفات، وفي مزدلفة، وفي منى بعد الجمرتين الأولى والثانية، وكل هذه ثبتت بها السنة، وثبت بها الدعاء والقيام جميعًا. فدعا عليه الصلاة والسلام على الصفا أربع مرات قيامًا، وهل دعا على المروة ثلاثا أو أربعا؟ فيكون مجموع ما دعا به في المسعى سبعًا أو ثمانيًا؟ الصحيح أنه دعا ثمانيًا، والثامنة في آخر الشوط السابع لمرجحات ذكرتها في شرح كتاب الحج من بلوغ المرام. ودعا على أرض عرفة وهو مرتحل ناقته، ودعا وهو قائم في مزدلفة أتى المشعر فرقى عليه، ودعا حتى أسفر جدًا، ودعا في منى عند الجمرتين كما تقدم ست مرات في ثلاثة أيام بعد الجمرة الصغرى والوسطى، وتأخر حتى اليوم الثالث عشر فمجموع وقفات دعائه عليه الصلاة والسلام في الحج أزيد من عشرين مرة، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم على شرح حديث عائشة: «من أحدث في أمرنا هذا ...» (¬1) الحديث. قال: مع أن القيام عبادة في مواضع أخرى كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة والبروز للشمس قربة للمحرم. ¬

(¬1) البخاري (رقم: 2697) ومسلم (رقم: 1718).

الحكم الحادي عشر

الحكم الحادي عشر إن الأزمنة الفاضلة محل لاستجابة الدعاء قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. وهذه الآية اكتنفها قبلها وبعدها تشريع الصيام، ولهذا قال في التحرير والتنوير: (¬1) وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجو الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان. قال الحافظ ابن كثير: (¬2) وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر، كما روى أبو داود الطيالسي (¬3) في مسنده عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة» فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر جمع أهله وولده ودعا. ¬

(¬1) التحرير والتنوير 2/ 179. (¬2) تفسير ابن كثير دار طيبة 1/ 509. (¬3) أخرجه الطيالسي (رقم: 2262) والبيهقي في شعب الإيمان (رقم: 3907).

وروى ابن ماجه: (¬1) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد» وكان عبد الله يقول إذا أفطر: اللهم إنى أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي» (¬2). وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حين يفطر ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» (¬3) ا. هـ. وقد أخرج أحمد (¬4) من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأبي سعيد - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لله عتقاء في كل ليلة ولكل مسلم دعوة مستجابة» وله شاهد عند أحمد من حديث أبي أمامة (¬5) (¬6). ¬

(¬1) ابن ماجه (رقم: 1753) قال البوصيري (2/ 81): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (¬2) وذكره الحكيم (1/ 299) وابن السني في عمل يوم وليلة (رقم: 482) والحاكم (رقم: 1535) والبيهقي في شعب الإيمان (رقم: 3904). (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 9741) والترمذي (رقم: 3598) وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه (رقم: 1752) وابن حبان (رقم: 874) والبيهقي (رقم: 6186) وابن خزيمة (رقم: 1901). (¬4) أخرجه أحمد (رقم: 7443) قال الهيثمي (10/ 216): رجاله رجال الصحيح. (¬5) هو: صدي بن عجلان بن وهب، أبو أمامة، الباهلي. غلبت عليه كنيته. صحابي. كان مع علي في «صفين». روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة ومعاذ وأبي الدرداء عبادة بن الصامت وغيرهم - رضي الله عنهم -. روى عنه أبو سلام الأسود ومحمد ابن زياد الألهاني وخالد بن معدان وغيرهم. توفي في أرض حمص. وهو آخر من مات من الصحابة بالشام. له في الصحيحين 250 حديثًا. انظر: الإصابة 2/ 182، والاستيعاب 2/ 736، وطبقات ابن سعد 7/ 411 والأعلام 3/ 291. (¬6) بلفظ: «إن لله - عز وجل - عند كل فطر عتقاء» أخرجه أحمد (رقم: 22256).

وثالث عن جابر - رضي الله عنه - عند ابن ماجة (¬1)، ومن الأدلة على استجابة الدعاء ما ثبت في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة» (¬2) وفي رواية: «أبواب السماء» (¬3) وهذا مستلزم لإجابة الدعاء؛ كما أنه مستلزم لقبول العمل، ففتح أبواب السماء ترغيبًا للعابدين والداعين، وأيضا شهر رمضان شهر قرب من الله لمن وفق للعمل الصالح، فهو يشبه حال الساجد في الصلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأيضًا دلت الأدلة بالاستقراء أن الثلث الأخير أحظى بإجابة الدعاء؛ كما في ثلث الليل الآخر، وفيه وقت التنزيل الإلهي للمولى سبحانه على ما يليق به، وعشر رمضان الأواخر، فكذا الشهور الأربعة في السنة الهلالية فثلثها الأخير أفضل أثلاثها ومبدؤه رمضان، وهذا بالاتفاق، ولهذا في الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: «شهرا عيد لا ينقصان» (¬4) وهما رمضان وذو الحجة، وأيضًا ثلث النهار الآخر تقع الصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر بلا مراء، وبعده الأصيل وختم النهار، وفي التنزيل: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106]. فسرت بالعصر فيحلف، وهذا من باب تغليظ اليمين في زمانه؛ لأن هذا وقت فاضل ولهذا في الصحيح: «ورجل حلف بعد العصر كاذبًا» (¬5) وهذا يدل على شدة الكذب في هذا الزمان الفاضل، والخلاصة أن الزمن الفاضل بالاستقراء ظرف لاستجابة الدعاء، هذا ¬

(¬1) بلفظ: «إن لله عند كل فطر عتقاء، وذلك في كل ليلة» أخرجه ابن ماجه (رقم: 1643). (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 1799) ومسلم (رقم: 1079). (¬3) البخاري (رقم: 1800) ومسلم (رقم: 1079). (¬4) أخرجه البخاري (رقم: 1813) ومسلم (رقم: 1089). (¬5) أخرجه البخاري (2/ 834، رقم 2240)، ومسلم (1/ 103، رقم 108).

هو الأصل الذي دلت عليه النصوص؛ إما نصًا أو إيماءً. هل من أوقات الإجابة ما أخرجه أحمد (¬1)، وابن عبد البر في التمهيد: (¬2) من طريق كثير يعني بن زيد حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك حدثني جابر يعني بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا في مسجد الفتح ثلاثًا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه، قال جابر - رضي الله عنه -: فلم ينزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة. (¬3) والجواب: أن الخبر غير ثابت، ولو صح لكان المعول على الإلحاح بالتكرار، فهذا هو المعهود في أنه من أسباب الإجابة، فإن قيل هذا يدفعه كلام جابر - رضي الله عنه -. فالجواب: لا يلزم فإن دعاء المؤمن مستجاب في الأصل، فكيف بخاصة أوليائه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو ظن منه - صلى الله عليه وسلم - بالخصيصة. ¬

(¬1) أحمد (رقم: 14563). (¬2) التمهيد (19/ 201). (¬3) سئل: يحيى بن معين عن كثير بن زيد، فقال: ليس بذاك القوى. وقال عبد الرحمن: سئل أبى عن كثير بن زيد، فقال: صالح ليس بالقوي يكتب حديثه. وسئل أبو زرعة عن كثير بن زيد، فقال: هو صدوق فيه لين. الجرح والتعديل لعبد الرحمن الرازي (7/ 150) وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن كثير بن زيد، فقال: ما أرى به بأس. العلل ومعرفة الرجال (رقم: 2406).

الحكم الثاني عشر

الحكم الثاني عشر الدعاء أثناء العبادة أفضل وأقرب للإجابة؛ لأنه يجتمع فيه دعاء المسألة ودعاء العبادة، أيضًا لأنه في حال إقبال على الله، ومناجاة له، ولذا شرع لنا الدعاء في الصلاة والذكر بعده، وفي الحديث: «ثلاثة لا ترد دعوتهم .....» (¬1) ومنهم الصائم حتى يفطر. ولفظة «حين يفطر» شاذة. والدعاء في الحج كثير، ومنه الدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية دون الثالثة، وقال أبو منصور الكرماني صاحب المسالك في المناسك (¬2) على الدعاء بين الجمرتين ما نصه: والسنة الدعاء في أول العبادة وأوسطها؛ لأنه أقرب للإجابة لا عند الخروج وبعدها. ولهذا قال ابن القيم في الزاد (¬3) ما نصه: قيل - وهو أصح: إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى جمرة العقبة، فرغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها، وهذا كما كانت سنته في دعائه في الصلاة؛ إذ كان يدعو ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 9741) والترمذي (رقم: 3598) وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه (رقم: 1752). (¬2) المسالك في المناسك ص 555. (¬3) زاد المعاد 2/ 263.

في صلبها، فأما بعد الفراغ منها، فلم يثبت عنه أنه كان يعتاد الدعاء، ومن روى عنه ذلك فقد غلط عليه، وإن روي في غير الصحيح أنه كان أحيانا يدعو بدعاء عارض بعد السلام، وفي صحته نظر. وبالجملة فلا ريب أن عامة أدعيته التي كان يدعو بها، وعلمها الصديق إنما هي في صلب الصلاة، وأما حديث معاذ بن جبل: (¬1) «لا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (¬2) فدبر الصلاة يراد به آخرها قبل السلام منها، كدبر الحيوان، ويراد به ما بعد السلام؛ كقوله: «تسبحون الله وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة» (¬3) الحديث. والله أعلم. ا. هـ. ومثله الدعاء على الصفاء - على قول - أنه دعا مرتين، وذكر الله ثلاثًا، فكان الدعاء في أضعاف الذكر، فالذكر وهو وظيفة العبادة على الصفاء كان يكتنف الدعاء، فصار دعاؤه أثناء عبادته الخاصة. ¬

(¬1) هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن. صحابي جليل. إمام الفقهاء. وأعلم الأمة بالحلال والحرام. أسلم وعمره ثماني عشرة سنة. شهد بيعة العقبة، ثم شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. جمع القرآن على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان من الذين يفتون في ذلك العهد. بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة تبوك قاضيًا ومرشدًا لأهل اليمن، وفي طبقات ابن سعد أنه أرسل معه كتابًا إليهم يقول فيه: «إني بعثت إليكم خير أهلي» قدم من اليمن إلى المدينة في خلافة أبي بكر، ثم كان مع أبي عبيدة بن الجراح في غزو الشام. ولما أصيب أبو عبيدة في طاعون عمواس استخلف معاذًا. وأقره عمر، فمات في ذلك العام. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 3/ 426؛ وأسد الغابة 4/ 376؛ وحلية الأولياء 1/ 228؛ والأعلام 8/ 166 .. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 22172) وأبو داود (رقم: 1522) والنسائي (رقم: 1303) والحاكم (رقم: 1010) وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين. وقال الهيثمي (10/ 172): رجاله رجال الصحيح غير موسى بن طارق، وهو ثقة. (¬3) أخرجه البخاري (رقم: 5970) ومسلم (رقم: 595).

قال في حاشية الروض ما نصه: (¬1) قال الحافظ وغيره: لا نعلم فيه خلافًا، لما في الصحيحين وغيرهما: (¬2) أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقف عندها. وحكمة الوقوف عندهما دونها والله أعلم تحصيل الدعاء لكونه في وسط العبادة، بخلاف جمرة العقبة، لأن العبادة قد انتهت بفراغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها، أفضل منه بعد الفراغ منها، كالصلاة. ا. هـ. تنبيه: حديث «أي الدعاء اسمع قال دبر الصلاة المكتوبة» أخرجه الترمذي في سننه قال: (¬3) حدثنا محمد بن يحيى الثقفي المروزي قال: حدثنا حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة، قال: قيل يا رسول الله: أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات». وقال: هذا حديث حسن. وقد روي عن أبي ذر، وابن عمر. عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (¬4) «جوف الليل الآخر الدعاء فيه أفضل أو أرجى» ونحو هذا وأخرجه غيره وإسناده ضعيف لانقطاعه بين ابن سابط وأبي أمامة والمقصود التنبيه على ضعف الحديث فحسب. ¬

(¬1) حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع (4/ 176). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1664). (¬3) الترمذي (رقم: 3499). (¬4) الترمذي (رقم: 3499).

الحكم الثالث عشر

الحكم الثالث عشر الذكر المضاعف عند العلماء ما هو، وما سبب تضعيفه، وتفضيله على غيره، وهل من استوعب وقته ذكرًا تكون حاله دون من أتى بهذا الذكر؟ وأصل المسألة ما أخرجه مسلم في صحيحه (¬1)، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، وعمرو الناقد، وابن أبي عمر - واللفظ لابن أبي عمر - قالوا: حدثنا سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن، مولى آل طلحة، عن كريب، عن ابن عباس، عن جويرية (¬2): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة، فقال: «ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟» قالت: نعم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو ¬

(¬1) مسلم (رقم: 2726). (¬2) هي: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، من خزاعة: إحدى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها قبله مسافع بن صفوان وقتل يوم المريسيع سنة 6هـ، وكان أبوها سيد قومه في الجاهلية، فسبيت مع بني المصطلق، فافتداها أبوها، ثم زوجها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان اسمها (برة) فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماها (جويرية) وكانت من فضليات النساء أدبًا وفصاحة. روى لها البخاري ومسلم وغيرهما سبعة أحاديث. وتوفيت في المدينة وعمرها 65 سنة 2. انظر: الأعلام للزركلي 148.

وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته». قال ابن القيم في المنار المنيف ما نصه: (¬1) وأما المسألة الثانية، وهي تفضيل سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، على مجرد الذكر بسبحان الله أضعافًا مضاعفة، فإن ما يقوم بقلب الذاكر حين يقول سبحان الله وبحمده عدد خلقه، من معرفته وتنزيهه وتعظيمه من هذا القدر المذكور من العدد، أعظم مما يقوم بقلب القائل سبحان الله فقط. وهذا يسمى الذكر المضاعف، وهو أعظم ثناء من الذكر المفرد، فلهذا كان أفضل منه، وهذا إنما يظهر في معرفة هذا الذكر وفهمه، فإن قول المسبح سبحان الله وبحمده عدد خلقه، يتضمن إنشاء وإخبارًا عما يستحقه الرب من التسبيح، عدد كل مخلوق كان أو هو كائن إلى ما لا نهاية له. فتضمن الإخبار عن تنزيهه الرب وتعظيمه والثناء عليه، هذا العدد العظيم الذي لا يبلغه العادون، ولا يحصيه المحصون، وتضمن إنشاء العبد لتسبيح هذا شأنه، لا إن ما أتى به العبد من التسبيح هذا قدره وعدده، بل أخبر أن ما يستحقه الرب - سبحانه وتعالى - من التسبيح، هو تسبيح يبلغ هذا العدد، الذي لو كان في العدد ما يزيد لذكره، فإن تجدد المخلوقات لا ينتهي عددًا ولا يحصي الحاضر. وكذلك قوله: ورضا نفسه. فهو يتضمن أمرين عظيمين أحدهما: أن يكون المراد تسبيحا هو والعظمة والجلال سيان، ولرضا نفسه؛ كما أنه في الأول مخبر عن تسبيح مساوٍ لعدد خلقه، ولا ريب أن رضا ¬

(¬1) المنار المنيف في الصحيح والضعيف 34.

نفس الرب لا نهاية له في العظمة، والوصف والتسبيح ثناء عليه سبحانه يتضمن التعظيم والتنزيه. فإذا كانت أوصاف كماله ونعوت جلاله لا نهاية لها ولا غاية، بل هي أعظم من ذلك وأجل، كان الثناء عليه بها كذلك؛ إذ هو تابع لها إخبارًا وإنشاء، وهذا المعنى ينتظم المعنى الأول من غير عكس. وإذا كان إحسانه سبحانه وثوابه وبركته وخيره لا منتهى له وهو من موجبات رضاه وثمرته فكيف بصفة الرضا؟ وفي الأثر: «إذا باركت لم يكن لبركتي منتهى». فكيف بالصفة التي صدرت عنها البركة؟ والرضا يستلزم المحبة والإحسان والجود والبر والعفو والصفح والمغفرة. والخلق يستلزم العلم والقدرة والإرادة والحياة والحكمة، وكل ذلك داخل في رضا نفسه وصفة خلقه. وقوله: «وزنة عرشه»، فيه إثبات للعرش، وإضافته إلى الرب سبحانه وتعالى، وأنه أثقل المخلوقات على الإطلاق، إذ لو كان شيء أثقل منه لوزن به التسبيح، وهذا يرد على من يقول إن العرش ليس بثقيل ولا خفيف، وهذا لم يعرف العرش ولا قدره حق قدره. فالتضعيف الأول للعدد والكمية، والثاني للصفة والكيفية، والثالث للعظم والثقل وليس للمقدار. وقوله: «ومداد كلماته» هذا يعم الأقسام الثلاثة ويشملها، فإن مداد كلماته - سبحانه وتعالى - لا نهاية لقدره ولا لصفته ولا لعدده، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ

رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]. ومعنى هذا أنه لو فرض البحر مدادًا، وبعده سبعة أبحر تمده كلها مدادًا، وجميع أشجار الأرض أقلامًا، وهو ما قام منها على ساق من النبات والأشجار المثمرة وغير المثمرة، وتستمد بذلك المداد، لفنيت البحار والأقلام، وكلمات الرب لا تفنى ولا تنفد، فسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. فأين هذا من وصف من يصفه بأنه ما تكلم ولا يتكلم ولا يقوم به كلام أصلا؟ وقول من وصف كلامه بأنه معنى واحد لا ينقضي ولا يتجزأ ولا له بعض ولا كل ولا هو سور وآيات ولا حروف وكلمات؟. والمقصود أن في هذا التسبيح من صفات الكمال ونعوت الجلال ما يوجب أن يكون أفضل من غيره، وأنه لو وزن غيره به لوزنه وزاد عليه. وهذا بعض ما في هذه الكلمات من المعرفة بالله، والثناء عليه بالتنزيه والتعظيم، مع اقترانه بالحمد المتضمن لثلاثة أصول: أحدها: إثبات صفات الكمال له سبحانه، والثناء عليه. الثاني: محبته والرضا به. الثالث: فإذا انضاف هذا الحمد إلى التسبيح والتنزيه على أكمل الوجوه وأعظمها قدرًا وأكثرها عددًا وأجزلها وصفًا، واستحضر العبد ذلك عند التسبيح، وقام بقلبه، معناه: كان له من المزية والفضل ما ليس لغيره وبالله التوفيق. ا. هـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (¬1) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم المؤمنين جويرية: «لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله مداد كلماته». أخرجه مسلم في صحيحه. فمعناه أنه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (¬2) «ربنا ولك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما. وملء ما شئت من شيء بعد». ليس المراد أنه سبح تسبيحًا بقدر ذلك. فالمقدار تارة يكون وصفًا لفعل العبد، وفعله محصور. وتارة يكون لما يستحقه الرب، فذاك الذي يعظم قدره؛ وإلا فلو قال المصلي في صلاته: سبحان الله عدد خلقه. لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة. ا. هـ. وقال في بيان تلبيس الجهمية: (¬3) المقصود بالحديث نهاية ما يمكن من الوزن؛ كما ذكره وغاية ما يمكن من المعدود، وغاية ما يمكن من القول، والمحبوب هو كلام الرب ورضاه وذكر. ا. هـ. وقال في الرسالة العرشية: (¬4) فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان. ا. هـ. والمقصود مما تقدم أن الذكر المضاعف المذكور في الحديث هو ذكر فاضل في نفسه، وبما يقوم بقلب صاحبه من التعظيم والتنزيه لله جل وعلا، وحينئذ قد يكون من يأتي به خيرًا ممن ذكر الله أكثر من ذكره؛ دون هذا الذكر وقد يكون مثله وقد يكون دونه، وذلك لأن الذاكر عابد فما يقوم بقلبه من الخشوع والتعظيم موجب لأفضليته من ¬

(¬1) إقامة الدليل على إبطال التحليل (3/ 99)، والاستقامة لابن تيمية (1/ 213). (¬2) مسلم (رقم:477). (¬3) بيان تلبيس الجهمية (1/ 575). (¬4) الرسالة العرشية (ص: 10).

هذه الحيثية، مع إتيانه بجنس فاضل من العبادة وهو هذا الذكر؛ وذلك لا يستلزم أفضليته المطلقة على غيره من العباد الذين يشاركونه هذه العبادة، فإن التفضيل يكون باعتبارات عديدة والتفضيل بهذه العبادة جزء من التفضيل، فحسب، ومما يجليه أن هذا الذاكر كمن تصدق بجوهرة عظيمة، وتصدق غيره بجواهر عديدة مفرقة دون هذه الجوهرة فالأول بذل نفيسا دفعة واحدة، والثاني فرق نفائس (دون الأول) في أزمنة متعددة؛ والله أعلم.

الحكم الرابع عشر

الحكم الرابع عشر الأصل أن عد الأذكار باليد أفضل، وعقد الأوراد التي تحتاج عدًا بالأصابع أفضل، فما حكم عقد التسبيح بالمسبحة، ومثلها الخاتم الإلكتروني، ونحوه، والأصل في ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعقد التسبيح بيده، فقد أخرج الترمذي (¬1) وغيره: (¬2) من طريق عثام بن علي، عن الأعمش، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح بيده» قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث الأعمش عن عطاء بن السائب. قال الترمذي عقبه: وروى شعبة، والثوري، هذا الحديث عن عطاء بن السائب، بطوله. وفي الباب عن يُسيرة بنت ياسر. قال شيخ الإسلام في مجموع فتاويه: (¬3) وربما تظاهر أحدهم بوضع السجادة على منكبه وإظهار المسابح في يده وجعله من شعار الدين والصلاة. وقد علم بالنقل المتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يكن هذا شعارهم وكانوا يسبحون ويعقدون على أصابعهم كما جاء في ¬

(¬1) الترمذي (رقم: 3486). (¬2) وأخرجه: أبو داود (رقم: 1504) والنسائي (رقم: 1355) وابن حبان (رقم: 843). (¬3) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 187).

الحديث: «اعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات» (¬1) وربما عقد أحدهم التسبيح بحصى أو نوى. والتسبيح بالمسابح من الناس من كرهه، ومنهم من رخص فيه؛ لكن لم يقل أحد: إن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع وغيرها، وإذا كان هذا مستحبًا يظهر، فقصد إظهار ذلك والتميز به على الناس مذموم، فإنه إن لم يكن رياء فهو تشبه بأهل الرياء، إذ كثير ممن يصنع هذا يظهر منه الرياء، ولو كان رياء بأمر مشروع لكانت إحدى المصيبتين؛ لكنه رياء ليس مشروعًا. اهـ. وقال - رحمه الله -: (¬2) وعد التسبيح بالأصابع سنة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء: سبحن واعقدن بالأصابع، فإنهن مسؤولات مستنطقات، وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن، وكان من الصحابة رضى الله عنهم من يفعل ذلك، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين تسبح بالحصى، وأقرها على ذلك وروى أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان يسبح به. وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه، فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيه النية فهو حسن غير مكروه، وأما اتخاذه من غير حاجة أو إظهاره للناس، مثل تعليقه في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، أو نحو ذلك، فهذا إما رياء للناس، أو مظنة المراءاة، ومشابهة المرائين من غير حاجة، الأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة، فإن مراءاة الناس في العبادات المختصة؛ كالصلاة والصيام ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 27134) وأبو داود (رقم: 1501) والترمذي (رقم: 3583) وقال: غريب. والطبراني (رقم: 180) وعبد بن حميد (رقم: 1570). (¬2) مجموع الفتاوي لابن تيمية (22/ 506).

والذكر وقراءة القرآن من أعظم الذنوب، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 - 7]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]. فأما المرائي بالفرائض فكل أحد يعلم قبح حاله، وأن الله يعاقبه لكونه لم يعبده مخلصًا له الدين، والله تعالى يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2، 3]. فهذا في القرآن كثير. وأما المرائي بنوافل الصلاة والصوم والذكر وقراءة القرآن، فلا يظن الظان أنه يكتفى فيه بحبوط عمله فقط، بحيث يكون لا له ولا عليه بل هو مستحق للذم والعقاب على قصده شهرة عبادة غير الله؛ إذ هي عبادات مختصة ولا تصح إلا من مسلم، ولا يجوز إيقاعها على غير وجه التقرب بخلاف ما فيه نفع العبد؛ كالتعليم والإمامة فهذا في الاستئجار عليه نزاع بين العلماء والله أعلم. ا. هـ. وقال المجد في المنتقى: (¬1) باب جواز عقد التسبيح باليد وعده بالنوى ونحوه. وعن يُسيرة وكانت من المهاجرات قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) انظر: نيل الأوطار (2/ 365).

«عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس، ولا تغفلن فتنسين الرحمة واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات» (¬1) رواه أحمد والترمذي وأبو داود. وعن سعد بن أبي وقاص (¬2) - رضي الله عنه -: أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به، فقال: «أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل. سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك». (¬3) رواه أبو داود والترمذي. قال الشوكاني - رحمه الله - في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار على الحديثين السابقين ما نصه: (¬4) أما الحديث الأول فأخرجه أيضًا الحاكم وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث هانئ بن عثمان، وقد صحح السيوطي إسناد هذا الحديث. وأما الحديث الثاني فأخرجه أيضا ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم 27134) وأبو داود (رقم: 1501) والترمذي (رقم: 3583) وقال: غريب. والطبراني (رقم: 180) وعبد بن حميد (رقم: 1570). (¬2) هو: سعد بن مالك، واسم مالك أهيب بن عبد مناف بن زهرة، أبو إسحاق، قرشي. من كبار الصحابة. أسلم قديمًا وهاجر، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله. وهو أحد الستة أهل الشورى. وكان مجاب الدعوة. تولى قتال جيوش الفرس وفتح الله على يديه العراق. اعتزل الفتنة أيام علي ومعاوية. توفي بالمدينة. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 484. (¬3) أخرجه أبو داود (رقم: 1500) والترمذي (رقم: 3568). وأخرجه أيضًا: البزار (رقم: 1201) وأبو يعلي (رقم: 710) والحاكم (رقم: 2009) وقال: صحيح الإسناد. (¬4) نيل الأوطار 2/ 365.

النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم، وصححه وحسنه الترمذي. وأما الحديث الثالث فأخرجه أيضا الحاكم وصححه السيوطي. والحديث الأول يدل على مشروعية عقد الأنامل بالتسبيح. وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عمرو أنه قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح» زاد في رواية لأبي داود وغيره «بيمينه» (¬1) وقد علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في حديث الباب بأن الأنامل مسئولات مستنطقات، يعني أنهن يشهدن بذلك فكان عقدهن بالتسبيح من هذه الحيثية أولى من السبحة والحصى. والحديثان الآخران يدلان على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى وكذا بالسبحة لعدم الفارق لتقريره - صلى الله عليه وسلم - للمرأتين على ذلك. وعدم إنكاره والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز. قد وردت بذلك آثار ففي جزء هلال الحفار من طريق معتمر بن سليمان عن أبي صفية مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يوضع له نطع ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار ثم يرفع فإذا صلى أتى به فيسبح حتى يمسي. وأخرجه الإمام أحمد في الزهد قال: حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد عن يونس بن عبيد عن أمه قالت: رأيت أبا صفية رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان خازنًا قالت: فكان يسبح بالحصى. (¬2) وأخرج ابن سعد عن حكيم بن الديلم: أن سعد بن أبي وقاص ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) وأخرجه ابن شاهين في فوائده (رقم: 29).

كان يسبح بالحصى. (¬1) وقال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا عبد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن جابر عن امرأة خدمته عن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب: أنها كانت تسبح بخيط معقود فيه. (¬2). وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه كان له خيط فيه ألف عقدة فلا ينام حتى يسبح. (¬3) وأخرج أحمد في الزهد عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان لأبي الدرداء نوى من العجوة في كيس فكان إذا صلى الغداة أخرجها واحدة واحدة يسبح بهن حتى ينفذهن. (¬4) وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه كان يسبح بالنوى المجموع. (¬5) وأخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق زينب بنت سليمان بن علي عن أم الحسن بنت جعفر عن أبيها عن جدها عن علي - رضي الله عنه - مرفوعا: «نعم المذكر السبحة» (¬6). ¬

(¬1) الطبقات الكبرى ط العلمية 3/ 106. (¬2) الطبقات الكبرى ط العلمية 8/ 346. (¬3) وأخرجه: أبو نعيم في الحلية 1/ 383. (¬4) الزهد لأحمد بن حنبل ص 141. (¬5) وروى ابن أبي شيبة: 2/ 390، وأبو داود في سننه 2/ 626، وأحمد في المسند: 2/ 540 عن أبي نضرة حدثني شيخ من طفاوة قال: تثويت أبا هريرة - رضي الله عنه - بالمدينة فلم أر رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد تشميرًا ولا أقوم على ضيف منه، فبينما أنا عنده يومًا وهو على سرير له ومعه كيس فيه حصى أو نوى، وأسفل منه جارية له سوداء، وهو يسبح بها، حتى إذا أنفذ ما في الكيس ألقاه إليها، فجمعته فأعادته في الكيس، فدفعته إليه، فقال: ألا أحدثك عني وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: قلت: بلى. قال: ... وذكر حديثًا طويلًا. (¬6) أخرجه الديلمي (رقم: 6765).

وقد ساق السيوطي آثارا في الجزء الذي سماه «المنحة في السبحة» وهو من جملة كتابه المجموع في الفتاوى، وقال في آخره: ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروها انتهى. وفي فتاوى ابن عثيمين (¬1) - رحمه الله - ما نصه: سئل فضيلة الشيخ: ما حكم استعمال السبحة؟ فأجاب فضيلته بقوله: السبحة ليست بدعة دينية، وذلك لأن الإنسان لا يقصد التعبد لله بها، وإنما يقصد ضبط عدد التسبيح الذي يقوله، أو التهليل، أو التحميد، أو التكبير، فهي وسيلة وليس مقصودة، ولكن الأفضل منها أن يعقد الإنسان التسبيح بأنامله - أي بأصابعه -؛ «لإنهن مستنطقات» (¬2)؛ كما أرشد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأن عد التسبيح ونحوه بالمسبحة يؤدي إلى غفلة الإنسان، فإننا نشاهد كثيرًا من أولئك الذين يستعملون المسبحة، نجدهم يسبحون وأعينهم تدور هنا وهنا،؛ لأنهم قد جعلوا عدد الحبات على قدر ما يريدون تسبيحه، أو تهليله أو تحميده، أو تكبيره، فتجد الإنسان منهم يعد هذه الحبات بيده وهو غافل القلب، يتلفت يمينًا وشمالًا، بخلاف ما إذا كان يعدها بالأصابع، فإن ذلك أحضر لقلبه غالبًا، الشيء الثالث أن استعمال المسبحة قد يدخله الرياء، فإننا نجد كثيرًا من الناس الذين يحبون كثرة التسبيح يعلقون في أعناقهم مسابح طويلة كثيرة الخرزات، وكأن لسان ¬

(¬1) فتاوى ابن عثيمين (13/ س رقم 559). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 27134) وأبو داود (رقم: 1501) والترمذي (رقم: 3583) وقال: غريب. والطبراني (رقم: 180) وعبد بن حميد (رقم: 1570).

حالهم يقول: انظروا إلينا فإننا نسبح الله بقدر هذه الخرزات. وأنا أستغفر الله أن أتهمهم بهذا، لكنه يخشى منه، فهذه ثلاثة أمور كلها تقتضي بأن يتجنب الإنسان التسبيح بالمسبحة، وأن يسبح الله - سبحانه وتعالى - بأنامله. ثم إن الأولى أن يكون عقد التسبيح بالأنامل في اليد اليمنى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعقد التسبيح بيمينه واليمنى خير من اليسرى بلا شك، ولهذا كان الأيمن مفضلًا على الأيسر، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل الرجل بشماله، أو يشرب بشماله، وأمر أن يأكل الإنسان بيمينه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا غلام سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك». (¬1) وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشربن بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله». (¬2) فاليد اليمنى أولى بالتسبيح من اليد اليسرى اتباعًا للسنة، وأخذًا باليمين فقد: «كان النبي عليه الصلاة والسلام يعجبه التيامن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله». (¬3) وعلى هذا فإن التسبيح بالمسبحة لا يعد بدعة في الدين؛ لأن المراد بالبدعة المنهي عنها هي البدع في الدين، والتسبيح بالمسبحة إنما هو وسيلة لضبط العدد، وهي وسيلة مرجوحة مفضولة، والأفضل منها أن يكون عد التسبيح بالأصابع. وسئل فضيلته أيضا - رحمه الله -: ما رأيكم في استخدام المسبحة في التسبيح؟ جزاكم الله خيرًا. فأجاب فضيلته بقوله: استخدام المسبحة جائز، لكن الأفضل أن ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 5061) ومسلم (رقم: 2022). (¬2) أخرجه مسلم (رقم: 2020). (¬3) أخرجه البخاري (رقم: 168) ومسلم (رقم: 268 - 67).

يسبح بالأنامل وبالأصابع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اعقدن بالأصابع فإنهن مستنطقات» (¬1)؛ ولأن حمل السبحة قد يكون فيه شيء من الرياء؛ ولأن الذي يسبح بالسبحة غالبًا تجده لا يحضر قلبه فيسبح بالمسبحة وينظر يمينًا وشمالًا. فالأصابع هي الأفضل وهي الأولى. ا. هـ. لطيفة: كان عبد الملك بن هلال الهنائي، عنده زنبيل ملآن حصى، فكان يسبح بواحدة واحدة، فإذا مل شيئًا طرح ثنتين ثنتين، ثم ثلاثًا ثلاثًا، فإذا قبض قبضة وقال سبحان الله بعدد هذا، وإذا مل شيئا قبض قبضتين وقال سبحان الله بعدد هذا، فإذا ضجر أخذ بعروتي الزنبيل وقلبه، وقال الحمد لله بعدد هذا، وإذا بكّر لحاجة لحظ الزنبيل، وقال الحمد لله عدد ما فيه. (¬2) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 27134) وأبو داود (رقم: 1510) والترمذي (رقم: 3583) وقال: غريب. والطبراني (رقم: 180) وعبد بن حميد (رقم: 1570). (¬2) البيان والتبيان لابن حجر ص 520.

الحكم الخامس عشر

الحكم الخامس عشر الذكر على طهارة تامة أكمل وأفضل بالاتفاق، ولهذا اشترطت الطهارة للعبادات المبنية على الذكر اللساني؛ كالصلاة ومس المصحف، والطواف - على قول - ومنع الجنب من قراءة القرءان؛ كما تقدم تقريره، وأصل المسألة ما أخرجه البخاري (¬1) من طريق الأعرج: قال سمعت عميرًا مولى ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد - عليه السلام -. قال ابن رجب في شرح البخاري: (¬2) وقال بعض أصحابنا: يجوز التيمم لرد السلام في الحضر، إذا خشي فوته؛ لأن الطهارة لرده مشروعة ندبًا لا وجوبًا؛ فإنه يجوز الرد مع الحدث لكن يفوت فعله بالطهارة؛ لأنه على الفور. ا. هـ. ¬

(¬1) البخاري (رقم: 337). (¬2) فتح الباري- لابن رجب 2/ 41.

وقال العيني في شرح الخبر ما نصه: (¬1) وفي رواية الطبراني في الأوسط: (¬2) حتى إذا كان الرجل أن يتوارى في السكة ضرب بيديه على الحائط فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير طهر». وعند أبي داود: (¬3) من حديث حيوة عن ابن الهاد: أن نافعًا (¬4) حدثه عن ابن عمر قال: أقبل رسول الله من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل فسلم عليه فلم يرد عليه رسول الله، حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه، ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد على الرجل السلام. وعند البزار (¬5) بسند صحيح: (¬6) عن نافع عنه أن رجلا مر على ¬

(¬1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 4/ 15. (¬2) المعجم الأوسط لأبو القاسم الطبراني (رقم: 7784) وأبو داود (رقم: 330). (¬3) أبو داود (رقم: 331). (¬4) هو: نافع المدني أبو عبد الله مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب. من أئمة التابعين بالمدينة. ديلمي الأصل. مجهول النسب. أصابه ابن عمر صغيرًا في بعض مغازيه. كان علامة في فقه الدين، متفقًا على رياسته. أرسله عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلم أهلها السنن. كان كثير الرواية للحديث. ولا يعرف له خطأ في جميع ما رواه. انظر: الأعلام للزركلي 8/ 319؛ وتهذيب التهذيب 10/ 412؛ ووفيات الأعيان 2/ 150. (¬5) هو: أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، أبو بكر البزار. من أهل البصرة. سكن الرملة وتوفي بها. كان حافظًا للحديث، صدوقًا ثقة يخطئ ويتكل على حفظه. روى عن الفلاس وبندار وآخرين. وروى عنه عبد الباقي بن قانع وأبو بكر الختلي وعبد الله بن الحسن وغيرهم. ارتحل في آخر عمره إلى أصبهان والشام والنواحي ينشر علمه. من تصانيفه: المسند الكبير المعلل سماه «البحر الزاخر» يبين فيه الصحيح من غيره. انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 204، وميزان الاعتدال 1/ 124، والرسالة المستطرفة ص 68، وشذرات الذهب 2/ 209، والأعلام للزركلي 1/ 182. (¬6) مسند البزار (رقم: 3744).

النبي وهو يبول، فسلم عليه الرجل فرد - عليه السلام - فلما جاوزه ناداه - عليه السلام -، فقال: «إنما حملني على الرد عليك خشية أن تذهب فتقول: إني سلمت على النبي فلم يرد علي، فإذا رأيتني على هذه الحالة فلا تسلم علي، فإنك إن تفعل لا أرد عليك». وعند الطبراني (¬1) من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -: أنه سلم على النبي وهو يبول فلم يرد عليه حتى فرغ. وعنده أيضا: (¬2) من حديث جابر بن سمرة بسند فيه ضعف، قال: سلمت على النبي وهو يبول فلم يرد علي، ثم دخل إلى بيته فتوضأ ثم خرج فقال: «وعليك السلام». وعند الحاكم (¬3) من حديث المهاجر بن قُنفُذ (¬4)، قال: أتيت النبي، وهو يتوضأ فسلمت عليه فلم يرد علي، فلما فرغ من وضوئه قال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء». ¬

(¬1) المعجم الأوسط (رقم: 7706). (¬2) المعجم الأوسط (رقم: 5402). (¬3) المستدرك على الصحيحين (رقم: 6026). (¬4) هو: المهاجر بن قنفذ بن عمير بن جدعان بن كعب بن سعيد بن تيم القرشي، التيمي، صحابي. يقال: إن اسم المهاجر هذا عمرو، وإن اسم قنفذ خلف، وإن مهاجرًا وقنفذًا لقبان: فهو عمرو بن خلف بن عمير، وإنما قيل له: المهاجر لأنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المهاجر حقا، وقد قيل: إن المهاجر أسلم يوم فتح مكة وسكن البصرة ومات بها. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عنه أبو ساسان حضين بن المنذر الرقاشي، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. روى عن الحضين بن المنذر عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر. انظر: أسد الغابة 4/ 503، والاستيعاب 4/ 1454، وتهذيب الكمال 28/ 577.

وأخرجه الطحاوي (¬1) أيضا، ولفظه: «إلا أني كرهت أن أذكر إلا على طهارة». (¬2) وأخرجه أبو داود ولفظه: (¬3) فلم يرد حتى توضأ ثم اعتذر إليه، قال: «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر»، أو قال «على طهارة». وأخرجه النسائي (¬4) وابن ماجه (¬5)، وأحمد (¬6)، والبيهقي (¬7)، وابن حبان (¬8) والطبراني، وزاد: فقمت مهموما، فدعا بوضوء فتوضأ ورد علي، وقال: «إني كرهت أن أذكر الله على غير وضوءه». (¬9) وعند ابن ماجه (¬10) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: مر رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول، فسلم فلم يرد عليه، فلما فرغ ضرب بكفيه الأرض فتيمم ثم رد - عليه السلام -.ا. هـ. ¬

(¬1) هو: أحمد بن سلامة الأزدي، أبو جعفر. نسبته إلى «طحا» قرية بصعيد مصر. كان إماما فقيهًا حنفيًا. وكان ابن أخت المزني صاحب الشافعي. وتفقه عليه أولًا. قال له المزني يومًا: والله لا أفلحت. فغضب وانتقل من عنده وتفقه على مذهب أبي حنيفة. وكان عالمًا بجميع مذاهب الفقهاء. من تصانيفه أحكام القرآن؛ ومعاني الآثار؛ وشرح مشكل الآثار، وهو آخر تصانيفه؛ والنوادر الفقهية؛ والعقيدة المشهورة بالعقيدة الطحاوية؛ والاختلاف بين الفقهاء. انظر: الجواهر المضية 1/ 102؛ والأعلام للزركلي 1/ 196؛ والبداية والنهاية 11/ 174. (¬2) شرح معاني الآثار (رقم: 110). (¬3) أبو داود (رقم: 17). (¬4) النسائي (رقم: 37). (¬5) ابن ماجه (رقم: 350). (¬6) أحمد (رقم: 19056). (¬7) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 434). (¬8) ابن حبان (رقم: 806). (¬9) الحديث بحثت عنه عند الطبراني فما وجدته، ولكني وجدته في جزء حديث مجاعة بن الزبير (رقم: 93) ومعجم الصحابة لابن قانع (رقم: 1597). (¬10) ابن ماجه (رقم: 351).

وقال في المغني (¬1) ما نصه: قال أحمد: يستحب له أن يشهد المناسك كلها على وضوء، كان عطاء يقول: لا يقضي شيئًا من المناسك إلا على وضوء. ا. هـ. وقال النووي في المجموع: (¬2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» (¬3) هذه الكراهة بمعنى ترك الأولى، لا كراهة تنزيه، واحتج غير المصنف بحديث ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: مر رجل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه. رواه مسلم. (¬4) وعن جابر - رضي الله عنه -: أن رجلًا مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول فسلم عليه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي، فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك» [رواه ابن ماجه]. (¬5) وهذا الذي ذكره المصنف من كراهة رد السلام وما بعده متفق عليه عندنا، وكذا التسبيح وسائر الأذكار، قال البغوي في شرح السنة: (¬6) فإن عطس على الخلاء حمد الله تعالى في نفسه، قاله الحسن، والشعبي، والنخعي، وابن المبارك. قال البغوي يحمد الله تعالى في نفسه هنا، وفي حال الجماع، ثم هذه الكراهة التي ذكرها المصنف، والأصحاب كراهة تنزيه لا تحريم بالاتفاق وحكى ابن المنذر الكراهة عن ابن عباس وعطاء ومعبد الجهني وعكرمة: وعن النخعي ¬

(¬1) المغني (3/ 432). (¬2) المجموع 2/ 89. (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 20779، 20780)، أبو داود (رقم: 17) والنسائي (رقم: 38) وابن ماجه (رقم: 350) وابن حبان (رقم: 806) والحاكم (رقم: 592). (¬4) صحيح مسلم (رقم: 370). (¬5) أخرجه ابن ماجه (رقم: 352). قال البوصيري (1/ 52): هذا إسناد حسن. (¬6) شرح السنة للبغوي (1/ 382).

وابن سيرين قالا لا بأس به. قال ابن المنذر: وترك الذكر أحب إلي ولا أؤثم من ذكر والله اعلم. ا. هـ. وقال المجد في المنتقى: (¬1) باب كف المتخلي عن الكلام ... عن ابن عمر: أن رجلا مر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبول فسلم عليه فلم يرد عليه. رواه الجماعة إلا البخاري (¬2). قال الشوكاني في شرحه: (¬3) الحديث زاد فيه أبو داود من طريق ابن عمر، وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تيمم ثم رد على الرجل السلام (¬4)، ورواه أيضًا من طريق المهاجر بن قُنفُذ بلفظ بأنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: «إني كرهت أن أذكر الله - عز وجل - إلا على طُهر أو قال: على طهارة». (¬5) وأخرج هذه الرواية النسائي وابن ماجه وهو يدل على كراهية ذكر الله حال قضاء الحاجة، ولو كان واجبًا كرد السلام، ولا يستحق المسلِّم في تلك الحال جوابًا، قال النووي: وهذا متفق عليه، وسيأتي بقية الكلام على الحديث في باب استحباب الطهارة لذكر الله، وفيه أنه ينبغي لمن سلم عليه في تلك الحال أن يدع الرد حتى يتوضأ أو يتيمم ثم يرد، وهذا إذا لم يخش فوت المسلِّم، أما إذا خشي فوته فالحديث لا يدل على المنع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمكن من الرد بعد أن توضأ أو تيمم على اختلاف الرواية، فيمكن أن يكون تركه لذلك طلبا للأشرف وهو الرد حال الطهارة، ويبقى الكلام في الحمد حال العطاس فالقياس على ¬

(¬1) نيل الأوطار 1/ 99. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) نيل الأوطار 1/ 100. (¬4) أبو داود (رقم: 16). (¬5) سبق تخريجه.

التسليم المذكور في حديث الباب، وكذلك التعليل بكراهة الذكر إلا على طهر يشعران بالمنع من ذلك، وظاهر حديث: «إذا عطس أحدكم فليحمد الله» (¬1) يشعر بشرعيته في جميع الأوقات التي منها وقت قضاء الحاجة، فهل يخصص عموم كراهة الذكر المستفادة من المقام بحديث العطاس، أو يجعل الأمر بالعكس، أو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه فيتعارضا؟ فيه تردد. وقد قيل: إنه يحمد بقلبه، وهو المناسب لتشريف مثل هذا الذكر وتعظيمه وتنزيهه. ا. هـ. فائدة: استحب العلماء عند الذكر أيضا طهارة المكان واللباس من النجاسات وهو متجه، بل استحبوا التسوك وتنظيف الفم، وهو صحيح بلا شك، وأحاديث مشروعية السواك تدل عليه. فائدة: وروي أن نافعا بن أبي نعيم أحد القراء كان إذا تكلم توجد من فيه ريح مسك، فسئل عنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم تفل في فيّ. ا. هـ. من ترجمته في سير النبلاء. (¬2) فائدة قال النووي في الأذكار: (¬3) وينبغي أن يكون الموضعُ الذي يذكرُ فيه خاليًا نظيفًا، فإنه أعظمُ في احترام الذكر والمذكور، ولهذا مُدح الذكرُ في المساجد والمواضع الشريفة. ا. هـ. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 8616) والبخاري (رقم: 5870) وأبو داود (رقم: 5033) والنسائي (رقم: 10060). (¬2) سير أعلام النبلاء 13/ 382. (¬3) الأذكار للنووي ص 12.

الحكم السادس عشر

الحكم السادس عشر إذا تعارض ذِكران أحدهما يفوت، والآخر لا يفوت، قدم الذي يفوت، ولو كان مفضولًا بالنسبة لما لا يفوت، ووجه ذلك أن الذي يفوت لو لم يأت به لذهب دون الآخر، فتحصيلهما جميعًا أولى من تفويت أحدهما، وأيضًا الذي يفوت قد حضرت وظيفته، فالإتيان به أولى من ذكر وظيفته منتشرة على الزمان. مثاله: لو سمع الأذان وهو يقرأ القرآن، فينبغي إجابة المؤذن حينئذ حتى يفرغ الأذان، ثم يعود لقراءته. قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في الفتاوى الكبرى: (¬1) ومن قال من العلماء: إن طواف أهل الآفاق أفضل من الصلاة بالمسجد، فإنما ذلك لأن الصلاة تمكنهم في سائر الأمصار، بخلاف الطواف، فإنه لا يمكن إلا بمكة، والعمل المفضول في مكانه وزمانه يقدم على الفاضل، لا لأن جنسه أفضل كما يقدم الدعاء في آخر الصلاة على الذكر والقراءة، ويقدم الذكر في الركوع والسجود على القراءة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا». (¬2) ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 457). (¬2) مسلم (رقم: 479).

وكما يقدم القراءة والذكر والدعاء في أوقات النهي، وكما تقدم إجابة المؤذن على الصلاة والقراءة؛ لأن هذا يفوت وذلك لا يفوت الآفاقي إذا خرج فقدم ذلك لا لأن جنسه أفضل من جنس الصلاة، بل ولا مثلها فإن هذا لا يقوله أحد، والحج كله لا يقاس بالصلاة التي هي عمود الدين، فكيف يقاس بها بعض أفعاله، وإنما فرض الله الحج على كل مسلم مرة في العمر. ا. هـ. وهو في مجموع الفتاوى. (¬1) قال ابن القيم في الوابل الصيب (¬2) ما نصه: الفصل الثالث في قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء. هذا من حيث النظر لكل منهما مجردًا، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك «رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني» (¬3) بين السجدتين أفضل من القراءة، وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة ذكر التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن والقول كما يقول أفضل من القراءة. وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله تعالى على خلقه، لكن لكل مقام مقال، متى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة وفقدت المصلحة المطلوبة منه. وهكذا الأذكار المقيدة ¬

(¬1) مجموع الفتاوي (26/ 196). (¬2) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 91). (¬3) أخرجه: أبو داود (رقم: 850) والترمذي (رقم: 284) وابن ماجه (رقم: 898) والرزاق الصنعاني (رقم: 3010).

بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن. مثاله: أن يتفكر في ذنوبه فيحدث ذلك له توبة من استغفار، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحفظه. وكذلك أيضًا: قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله تعالى وأحدث له تضرعًا وخشوعًا وابتهالًا، فهذا يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرًا. وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه، فللعين موضع وللرجل موضع، وللماء موضع وللحم موضع. وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي. والله تعالى الموفق. وهكذا الصابون والأشنان أنفع للثوب في وقت، والتجمير وماء الورد وكيه أنفع له في وقت، وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يومًا: سئل بعض أهل العلم أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإذا كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له. فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟ ومن هذا الباب أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ

أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعدد ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص. ا. هـ. فإن قلت: فهل يدخل في هذا إذا كان المرء يصلي فسمع الأذان فهل يجيبه في هذه الحال؟ والجواب: لا يجيبه لما أخرج البخاري في الصحيح (¬1) من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا يا رسول الله إنا كنا نسلم عليك فترد علينا؟ قال: «إن في الصلاة شغلًا». وهذا معناه: أن إقباله على صلاته، وتحصيل خشوعه، وانجماع قلبه على أذكارها أولى من مراعاة ذكر خارج عنها، وأيضا الصلاة عبادة مؤقتة تفوت، فليس مراعاة ذكر أجنبي يفوت بأولى من مراعاتها. وهنا تنبيه: لا ينافي كل ما تقدم إذا أتى العبد بذكر - من جنس أذكار الصلاة - وجد سببه في الصلاة، وهو لا ينافي الإقبال عليها. وبيان ذلك: لو عطس وهو يصلي، فإنه يحمد الله، ومن الأدلة في ذلك: ما أخرجه الترمذي في جامعه (¬2) قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا رفاعة بن يحيى بن عبد الله بن رفاعة بن رافع الزرقي، عن عم أبيه معاذ بن رفاعة، عن أبيه، قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعطست، فقلت: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف، فقال: «من ¬

(¬1) البخاري (رقم: 3662). (¬2) الترمذي (رقم: 404).

المتكلم في الصلاة؟»، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية: «من المتكلم في الصلاة؟»، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة: «من المتكلم في الصلاة؟» فقال رفاعة بن رافع ابن عفراء: أنا يا رسول الله، قال: «كيف قلت؟»، قال: قلت: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده، لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكًا، أيهم يصعد بها» وفي الباب عن أنس، ووائل بن حجر، وعامر بن ربيعة: حديث رفاعة حديث حسن، وكأن هذا الحديث عند بعض أهل العلم أنه في التطوع لأن غير واحد من التابعين قالوا: إذا عطس الرجل في الصلاة المكتوبة إنما يحمد الله في نفسه ولم يوسعوا بأكثر من ذلك ا. هـ. وتخصيص الترمذي ذلك بالنافلة فيه نظر؛ فالحديث وارد في الفريضة إما نصًا أو ظاهرًا. قال في المغني (¬1) على أصل المسألة: ما لا يتعلق بتنبيه آدمي، إلا أنه لسبب من غير الصلاة، مثل أن يعطس فيحمد الله، أو تلسعه عقرب فيقول: بسم الله. أو يسمع، أو يرى ما يغمه فيقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]. أو يرى عجبًا، فيقول: سبحان الله. فهذا لا يستحب في الصلاة، ولا يبطلها، نص عليه أحمد في رواية الجماعة، في من عطس فحمد الله، لم تبطل صلاته وقال، في رواية مهنا، في من قيل له وهو يصلي: ولد لك غلام. فقال: الحمد لله أو قيل له: احترق دكانك، قال: لا إله إلا الله أو ذهب كيسك: فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد مضت صلاته، ولو قيل: له مات أبوك. فقال ¬

(¬1) المغني لابن قدامة (2/ 43).

{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] فلا يعيد صلاته. وذكر حديث علي حين أجاب الخارجي. وهذا قول الشافعي، وأبي يوسف. ا. هـ. وقال في التمهيد: (¬1) واختلف الفقهاء في المصلي يسمع المؤذن، وهو في نافلة أو فريضة، فقال مالك: (¬2) إذا أذن المؤذن وأنت في صلاة مكتوبة، فلا تقل مثل ما يقول، وإذا كنت في نافلة فقل مثل ما يقول. التكبير والتشهد، فإنه الذي يقع في نفسي أنه أريد بالحديث هذا رواية ابن القاسم ومذهبه. وقال ابن وهب: من رأيه يقول المصلي مثل ما يقول المؤذن في المكتوبة والنافلة، وقال سحنون: لا يقول ذلك في نافلة ولا مكتوبة، وقال الليث: مثل قول مالك؛ إلا أنه قال: ويقول في موضع حي على الصلاة حي على الفلاح، لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال الشافعي: لا يقول المصلي في نافلة ولا مكتوبة مثل ما يقول المؤذن إذا سمعه وهو في الصلاة، ولكن إذا فرغ من الصلاة قاله. وذكر الطحاوي قال: لم أجد عن أصحابنا في هذا شيئًا منصوصًا. وقد حدثنا ابن أبي عمر، عن ابن سماعة، عن أبي يوسف: فيمن أذن في صلاته إلى قوله أشهد أن محمدًا رسول الله، ولم يقل حي على الصلاة، أن صلاته تفسد إن أراد الأذان، في قول أبي يوسف، وقول أبي حنيفة يعيد إذا أراد الأذان. قال أبو جعفر: وقول محمد؛ كقول أبي حنيفة؛ لأنه يقول فيمن يجيب إنسانًا وهو يصلي بلا إله إلا الله أن صلاته فاسدة. قال أبو جعفر: فهذا يدل على أن من قولهم أن من سمع الأذان في الصلاة لا يقوله. وذكر أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن خواز، بنداد البصري المالكي، عن مالك أنه قال: يجوز أن يقول ¬

(¬1) التمهيد (10/ 142). (¬2) المدونة الكبرى (1/ 159).

المصلي في صلاة النافلة مثل ما يقول المؤذن من التكبير والشهادتين، فإن قال حي على الصلاة، حي على الفلاح، الأذان كله كان مسيئًا، وصلاته تامة، وكره أن يقول في الفريضة مثل ما يقول المؤذن، فإن قال الأذان كله في الفريضة أيضًا، لم تبطل صلاته، ولكن الكراهية في الفريضة أشد. وذكر عن الشافعي أنه يقول: في النافلة الشهادتين، وإن قال حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، بطلت صلاته، نافلة كانت أو فريضة، قال أبو عمر: ما تقدم عن الشافعي من الجمع بين النافلة والمكتوبة أصح عنه، والقياس أن لا فرق بين المكتوبة والنافلة؛ إلا أن قوله حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد اضطربت في ذلك الآثار، وهو كلام فلا يجوز أن يقال في نافلة ولا فريضة، وأما سائر الأذان فمن الذكر الذي يصلح في الصلاة، ألا ترى إلى حديث معاوية بن الحكم (¬1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن صلاتنا هذه لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتهليل والتكبير وتلاوة القرآن» (¬2) وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «قولوا مثل ما يقول المؤذن» ولم يخص صلاة من غير صلاة، فما كان من الذكر الذي مثله يصلح في الصلاة جاز فيها قياسا، ونظرًا واتباعا للأثر. وأما الشافعي ومن قال بقوله في كراهية قول من يقول بقول المؤذن إذا كان سامعه في صلاة نافلة أو مكتوبة، فإنهم شبهوه برد السلام وتشميت العاطس، وقد ورد الأمر في الكتاب والسنة بهما، وذلك مما يجب ¬

(¬1) هو معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه -، صحابي، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعنه ابنه كثير وعطاء بن يسار وأبو سلمة بن عبد الرحمن، قال أبو عمر: كان ينزل المدينة ويسكن في بني سليم، له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في الكهانة والطيرة والخط وتشميت العاطس وعتق الجارية، قال ابن حجر: وله حديث آخر من طريق ابنه كثير ابن معاوية عنه. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 205. (¬2) مسلم (رقم: 537).

على غير المصلي، ولا يجب على المصلي قالوا فكذلك الأذان. ا. هـ. وقال ابن عثيمين في الشرح الممتع ما نصه: وقوله: «يسن لسامعه متابعته سرًا»، ظاهره: أنه إذا رآه ولم يسمعه فلا تسن المتابعة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سمعتم» فعلق الحكم بالسماع؛ ولأنه لا يمكن أن يتابع ما لم يسمعه؛ لأنه قد يتقدم عليه. وظاهر كلامه أيضا: أنه لو سمعه ولم يره؛ تابعه للحديث. وظاهر الحديث كما هو ظاهر كلام المؤلف أنه يتابعه على كل حال؛ إلا أن أهل العلم استثنوا من كان على قضاء حاجته (¬1)؛ لأن المقام ليس مقام ذكر، وكذا المصلي لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الصلاة شغلا» (¬2)، فهو مشغول بأذكار الصلاة. وقال شيخ الإسلام: بل يتابع المصلي المؤذن؛ لعموم الأمر بالمتابعة (¬3)، ولأنه ذكر وجد سببه في الصلاة، فكان مشروعًا، كما لو عطس المصلي فإنه يحمد الله كما جاءت به السنة. لكن قد يقال: إن بينهما فرقًا، فإن حمد العاطس لا يشغل كثيرًا عن أذكار الصلاة، بخلاف متابعة المؤذن، وربما يكون ذلك أثناء قراءة الفاتحة فتفوت الموالاة بينها، فالراجح أن المصلي لا يتابع المؤذن. ا. هـ. ¬

(¬1) انظر: النكت على المحرر 1/ 41، والإنصاف 3/ 108. (¬2) البخاري (رقم: 1199) ومسلم (رقم: 538). (¬3) الاختيارات 39.

الحكم السابع عشر

الحكم السابع عشر ذكر المحل سواء كان زمانيًا أو مكانيًا مقدم على غيره، مهما كان فضل الذكر المقدم عليه، ولذا كان الذكر بالتعظيم في الركوع أفضل من قراءة القرءان، بل ينهى عن القراءة في هذه الحال، وكذا الدعاء في السجود أفضل من القراءة، بل ينهى عن القراءة فيه، ووجه ذلك أن مراعاة ما يصلح للوقت من العبادة حسب التقديم الشرعي هو المتعين، والفرق بين هذا الحكم والذي قبله أن، هذا على العموم دون النظر إلى حالة التعارض، قال شيخ الإسلام: (¬1) مع أن العمل المفضول في مكانه هو أفضل من الفاضل في غير مكانه؛ كفضيلة الذكر والدعاء والقراءة بعد الفجر والعصر على الصلاة المنهي عنها في هذا الوقت، وكفضيلة التسبيح في الركوع والسجود على القراءة لأنه نهى أن يقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، وكفضيلة الدعاء في آخر الصلاة على القراءة هنا، لأنه موطن الدعاء، ونظائره متعددة، وبسط هذا له موضع آخر. ا. هـ. وقال ابن القيم في المدارج ما نصه: (¬2) إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، ¬

(¬1) الإخنائية أو الرد على الإخنائي 307. (¬2) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 1/ 109.

فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار. والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به. والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن. والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجِد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بعد كان أفضل. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك. والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك. والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء

والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك. والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين. والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك. والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه. والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم. فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. ا. هـ.

الحكم الثامن عشر

الحكم الثامن عشر الذكر في الزمان الفاضل والمكان الفاضل أفضل منه في المكان والزمان المفضول، وتقرير ذلك أن الزمان والمكان الفاضلين مما تضاعف فيه الحسنات، هذا هو الأصل والذكر من أحسن الحسنات فهو يضاعف في الحرمين ورمضان. قال ابن رجب في اللطائف ما نصه: (¬1) واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها: شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل؛ كالحرم، ولذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة والمدينة؛ كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام». وفي رواية: «فإنه أفضل» (¬2) وكذلك روي: أن الصيام يضاعف بالحرم. ¬

(¬1) لطائف المعارف ص 151. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 14735) أخرجه مسلم (رقم: 1394)، والنسائي (رقم: 694) وابن ماجه (رقم: 1406) وغيرهم.

وفي سنن ابن ماجة (¬1) بإسناد ضعيف (¬2) عن ابن عباس مرفوعًا: «من أدرك رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسر، كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه» وذكر له ثوابًا كثيرًا، ومنها: شرف الزمان؛ كشهر رمضان وعشر ذي الحجة، وفي حديث سلمان الفارسي (¬3) المرفوع الذي أشرنا إليه في فضل شهر رمضان: «من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه». وفي الترمذي (¬4) عن أنس: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة في رمضان» وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عمرة في رمضان تعدل بحجة» (¬5) أو قال: «حجة معي ..... الخ» (¬6) ما ذكره، وقال أيضا: وفي تضاعف جوده - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة: ¬

(¬1) ابن ماجه (رقم: 3117). (¬2) قال ابن أبي حاتم في علل الحديث (ص: 746): قال أبي: هذا حديث منكر، وعبد الرحيم بن زيد متروك الحديث. (¬3) يقال سلمان بن الإسلام، وسلمان الخير، أبو عبد الله ولا يعرف اسم أبيه بفارس أصله من رامهرمز. وقيل من أصبهان. كان أبوه ذا رئاسة، وخرج هو يطلب الهدى فلازم بعض علماء النصارى ثم خرج إلى يثرب بإشارة بعضهم. فأسر واسترق وقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأسلم وجاهد معه. وكان ذا رأي. وهو الذي أشار بحفر الخندق. ثم شاهد المشاهد وبعض الفتوح. ولي إمرة المدائن حتى توفي. تشير بعض الروايات إلى أنه جاوز 250 عامًا، وقال الذهبي: ظهر لي أنه ما جاوز 80. انظر: الإصابة 2/ 60، والأعلام 3/ 169، وأسد الغابة 2/ 328. (¬4) الترمذي (رقم: 663) وقال: غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي. (¬5) البخاري (رقم: 1690) ومسلم (رقم: 1256). (¬6) البخاري (رقم: 1764).

منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه وفي الترمذي (¬1) عن أنس مرفوعا: «أفضل الصدقة صدقة رمضان».ا. هـ. وقال ابن عثيمين في شرح الأربعين ما نصه: ومضاعفة ثواب الحسنات تكون بأمور، منها: الأول: الزمان، مثاله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في العشر الأول من ذي الحجة «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله» (¬2) هذا عظم ثواب العمل بالزمن. ومن ذلك قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]. الثاني: باعتبار المكان، ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة». (¬3) الخ ما ذكره. وقال عطية سالم في شرح الأربعين ما نصه: (¬4) وتتضاعف ¬

(¬1) الترمذي (رقم: 663) وقال: غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 1968) والترمذي (رقم: 757) وابن ماجه (رقم: 1727) والدرامي (رقم: 1773) وأبو داود (رقم: 2438). والبخاري بمعناه (رقم: 969). (¬3) البخاري (رقم: 1190) ومسلم (رقم: 1394). (¬4) شرح الأربعين النووية لعطية سالم عند شرحه الحديث السابع والثلاثون.

الحسنات أيضًا بحسب المكان والزمان، ومضاعفة الحسنات في الزمان والمكان جاءت فيه النصوص الكثيرة، فمن حيث الزمان نعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فضل بعض أوقات الزمن من ساعة ومن يوم ومن ليلة ومن شهر على بعض، وكل ذلك جاءت فيه النصوص .. الخ ما ذكره.

الحكم التاسع عشر

الحكم التاسع عشر أن جهة القبلة أشرف الجهات، فاستقبال الذاكر لها أفضل؛ ما لم يعارضه ما هو أرجح، هكذا قال جماعة من أهل العلم، قالوا: ولذا جاء الأمر باستقبالها في الصلاة، وشرع استقبالها في الدعاء والأذان والذبح، كل ذلك متواتر عنه عليه الصلاة والسلام. ونِهي عن استقبالها حال قضاء الحاجة في الفضاء، واختلف في ذلك في البنيان، ونِهي عن البصاق تجاه القبلة؛ كما أخرجه أبو داود من طريق عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش، عن حذيفة (¬1)، أظنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين ¬

(¬1) هو: حذيفة بن اليمان- واليمان لقبه واسمه: حسيل ويقال حسل- أبو عبد الله العبسي. من كبار الصحابة، وصاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أسلم هو وأبوه وأراد شهود بدر فصدهما المشركون، وشهد أحدًا فاستشهد اليمان بها. شهد حذيفة الخندق وما بعدها، كما شهد فتوح العراق، وله بها آثار شهيرة. خيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة. استعمله عمر على المدائن فلم يزل بها حتى مات بعد بيعة علي بأربعين يومًا. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الكثير، وعن عمر، وروى عنه جابر وجندب وعبد الله بن يزيد وآخرون. انظر: تهذيب التهذيب 2/ 219، والإصابة 1/ 317؛ وتهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 93؛ والأعلام للزركلي 2/ 180.

عينيه، ومن أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا» (¬1) ثلاثًا. وإسناده صحيح. والنهي عن البصاق في الصلاة أمام المصلي ثابت في الصحيحين، وحمل كثير منهم حديث حذيفة عليه من باب تقييد المطلق. وفي سنن أبي داود (¬2) عن أبي سعيد الخدري: (¬3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب العراجين ولا يزال في يده منها، فدخل المسجد فرأى نخامة في قبلة المسجد فحكها، ثم أقبل على الناس مغضبا، فقال: «أيسر أحدكم أن يبصق في وجهه؟ إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه - عز وجل - ...». ومن الأدلة ما أخرجه أبو داود (¬4) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عبد الحميد بن سنان، عن عبيد بن عمير، عن أبيه أنه حدثه، وكانت له صحبة أن رجلا سأله، فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ فقال: «هن تسع»، فذكر معناه زاد: «وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا» إسناده مقارب. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 3824) وابن خزيمة (رقم: 1663) وابن حبان (رقم: 1639) والبيهقي (رقم: 4834). (¬2) أخرجه أبو داود (رقم: 480). (¬3) هو: سعيد بن مالك بن سنان. أنصاري، مدني، من صغار الصحابة وخيارهم. كان من المكثرين للرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقيهًا مجتهدًا مفتيًا ممن بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تأخذهم في الله لومة لائم. شهد معه الخندق وما بعدها. انظر: الإصابة للحافظ ابن حجر 2/ 34؛ وسير أعلام النبلاء 3/ 114 - 117؛ والبداية والنهاية 9/ 4. (¬4) أبو داود (رقم: 2877).

ومن الأدلة ما رواه البخاري (¬1) من طريق عن ابن شهاب قال أخبرني عروة أن عائشة أخبرته: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة. وروي من غير وجه عن عائشة؛ ووجه الاستدلال أن استقبال القبلة حال النوم لشرفها وقبل النوم تشرع أذكار عديدة. وعند البخاري (¬2) وغيره عن عبد الله بن زيد (¬3) - رضي الله عنه - قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المصلى يستسقي فدعا واستسقى ثم استقبل القبلة وقلب رداءه». وروى البيهقي في الكبرى: (¬4) من طريق القاسم بن عروة عن محمد بن كعب القرظى حدثنى عبد الله بن عباس يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن لكل شيء شرفًا وأشرف المجالس ما استقبل به القبلة لا تصلوا خلف نائم ولا متحدث واقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في صلاتكم ولا تستروا الجدر بالثياب». وذكر الحديث. وروى ذلك أيضًا عن هشام بن زياد أبى المقدام عن محمد بن كعب وروى من وجه آخر منقطع عن محمد بن كعب ولم يثبت في ذلك إسناد. ا. هـ. كلامه. ¬

(¬1) البخاري (رقم: 376). (¬2) البخاري (رقم: 5983). (¬3) هو: عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب، أبو محمد، الأنصاري، المدني. وقيل المازني. صحابي. كان شجاعًا. اختلف في شهوده بدرًا وبه جزم أبو أحمد الحاكم وابن منده. وقال ابن عبد البر: شهد أحدًا وغيرها ولم يشهد بدرًا. وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب فيما ذكر خليفة بن خياط وغيره، وكان مسيلمة الكذاب قد قتل أخاه حبيب بن زيد. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث الوضوء، وغيره. وروى عنه أخوه عباد بن تميم وسعيد بن المسيب وغيرهما. له 48 حديثًا. قتل في وقعة الحرة. انظر: الاستيعاب 3/ 913، والإصابة 2/ 312، والأعلام 4/ 219، وتهذيب التهذيب 5/ 223. (¬4) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 14982).

وقال ابن أبي شيبة في مصنفه: باب الجلوس قبالة القبلة. وأسند عن ابن مسعود وجماعة من التابعين وغيرهم تفضيل استقبال القبلة إما مطلقًا أو في مجالس خاصة. وقال ابن عبد البر في الاستذكار ما نصه: (¬1) وجائز إشعار الهدي قبل تقليده، وتقليده قبل إشعاره، وكل ذلك قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما توجهه إلى القبلة في حين التقليد، فإن القبلة على كل حال يستحب استقبالها بالأعمال التي يراد بها الله عز وجل - تبركًا بذلك، واتباعًا للسنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا الحديث» (¬2).ا. هـ. وقال في التيسير شرح الجامع الصغير (¬3) ما نصه: «أن لكل شيء شرفًا» أي: رفعة «وأن أشرف المجالس ما استقبل به القبلة» فيندب المحافظة على استقبالها في غير قضاء الحاجة ونحوه ما أمكن سيما عند الأذكار ووظائف الطاعات. ا. هـ. قال في فيض القدير: (¬4) قال الحليمي: وإذا ندب استقبال القبلة في كل مجلس فاستقبالها حال الدعاء أحق وآكد. قال العراقي: الجهات الأربع قد خص منها جهة القبلة بالتشريف فالعدل أن يستقبل في الذكر والعبادة والوضوء وأن ينحرف عنها حال قضاء الحاجة وكشف العورة إظهارًا لفضل ما ظهر فضله. ا. هـ. وقال في الفروع: (¬5) وظاهر ما ذكره بعضهم يستقبل القبلة، ولا ¬

(¬1) الاستذكار لأبو عمر النمري 4/ 246. (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 384) والنسائي (رقم: 4997). (¬3) التيسير بشرح الجامع الصغير. للمناوي 1/ 691. (¬4) فيض القدير (1/ 523). (¬5) الفروع لابن مفلح 1/ 121.

تصريح بخلافه، وهو متجه في كل طاعة إلا لدليل. ا. هـ. تنبيه: حديث: «أشرف المجالس ما استقبل به القبلة» لا يثبت كما تقدم النقل عن البيهقي، ولذا قال العقيلي في الضعفاء (¬1) ما نصه: وليس لهذا الحديث طريق يثبت. ا. هـ. وقال شيخ الإسلام في شرح العمدة (¬2) ما نصه: ويستحب إذا جلس لانتظار الصلاة أن يجلس مستقبلا القبلة؛ لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة؛ ولأن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، ومن سنة المصلي أن يكون مستقبل القبلة، قال القاضي: ويكره الاستناد إلى القبلة، وقد نص أحمد على أنه مكروه قبل صلاة الغداة، قال أحمد بن أحرم: رأيت أبا عبد الله، دخل المسجد لصلاة الصبح، فإذا رجل مسند ظهره إلى القبلة، ووجه إلى غير القبلة قبل صلاة الغداة، فأمره أن يتحول إلى القبلة، وقال: هذا مكروه. وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أنه رأى رجالًا قد أسندوا ظهورهم بين أذان الفجر والإقامة إلى القبلة، فقال عبد الله: «لا تحولوا بين الملائكة وبين صلاتهم». وفي لفظ: «تحولوا عن القبلة لا تحولوا بين الملائكة وبينها فإن هذه الركعتين تطوع». وقال إبراهيم: «كانوا يكرهون أن يتساندوا إلى القبلة قبل صلاة الفجر». رواهن النجاد وعن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: «نهي أن تستدبر القبلة في مواقيت الصلاة». رواه أبو حفص .. الخ ما ذكره. وانظر مسند أحمد (16972) وكتابي اللباب شرح فصول الآداب ص 179 ... ففيه الإشارة لما جاء في كلام ابن مسعود والنخعي. ¬

(¬1) الضعفاء الكبير للعقيلي (4/ 340). (¬2) شرح العمدة لابن تيمية (3/ 86).

وقال صاحب المرقاة: (¬1) وفيه أن كثيرا من مواضع الدعاء وقع استقباله - صلى الله عليه وسلم - لغير القبلة منها ما نحن فيه، ومنها حالة الطواف والسعي، ودخول المسجد، وخروجه، وحال الأكل والشرب، وعيادة المريض، وأمثال ذلك، فيتعين أن يقتصر الاستقبال وعدمه على المورد إن وجد وإلا فخير المجالس ما استقبل القبلة كما ورد به الخبر. ا. هـ. والمسألة فيما يظهر لي اجتهادية محتملة. ¬

(¬1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1257).

الحكم العشرون

الحكم العشرون يشرع عند تدارس القرآن ودروس العلم التحلق وعدم التفرق، وأيضا الدنوُّ من المعلم وسد الفرج. أخرج مسلم في صحيحه (¬1) وغيره: (¬2) من طريق الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طَرَفة، عن جابر بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمسِ؟ اسكنوا في الصلاة» قال: ثم خرج علينا فرآنا حلقا فقال: «مالي أراكم عزين» قال: ثم خرج علينا فقال: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟» فقلنا يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف». قال الخطابي في معالم السنن ما نصه: (¬3) قال الشيخ: قوله عزين يريد فرقًا ¬

(¬1) مسلم (رقم: 430). (¬2) أخرجه الطيالسي (رقم: 786) وأحمد (رقم: 21001) وأبو داود (رقم: 1000) والنسائي (رقم: 1184) وابن حبان (رقم: 1878) وأخرجه أيضًا: ابن أبي شيبة (رقم: 8447) وأبو عوانة (رقم: 1552) والطبراني (رقم: 1826) والبيهقي (رقم: 3336). (¬3) معالم السنن 4/ 114.

مختلفين لا يجمعكم مجلس واحد. وواحد العزين عزة يقال عزة وعزون كما قالوا ثبة وثبون، ويقال أيضًا ثبات وهي الجماعات المتميزة بعضها عن بعض ا. هـ. قال النووي في شرح مسلم ما نصه: (¬1) «ما لي أراكم عزين» أي متفرقين جماعة جماعة. وهو بتخفيف الزاي الواحدة عزة معناه النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع. ا. هـ. وأما ما يتعلق بسد فجوات الحلقات، فقد أخرج البخاري في باب الحلق والجلوس في المسجد: (¬2) عن أبي واقد الليثي قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فأقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ألا أخبركم عن الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض الله عنه» وأخرجه أيضا مسلم. (¬3) وفي شرح ابن بطال ما نصه: (¬4) وفيه سد الفرج في حلق الذكر، وقد جاء في سدِّها في صفوف الصلاة وفى الصف في سبيل الله، ترغيب وآثار، ومعلوم أن حلق الذكر من سبيل الله. وفيه: أن التزاحم ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم 4/ 153. (¬2) البخاري (رقم: 462). (¬3) مسلم (رقم: 2176). (¬4) شرح صحيح البخاري لابن بطال 2/ 121.

بين يدي العالم من أفضل أعمال البر، ألا ترى قول لقمان لابنه: «يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما يحيى الأرض بوابل السماء. ا. هـ. وقال في الاستذكار ما نصه: (¬1) وفي هذا الحديث معان من آداب مجالسة العالم والتحلق إليه والتخطي في حلقته إلى فرجة إن كانت فيها أو الجلوس حيث انتهى بالطلب المجلس وغير ذلك. ا. هـ. فائدة في الاجتماع للقراءة: قال ابن القيم في الكلام على مسألة السماع ص443 ما نصه: وهذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، وهي قراءة الجماعة بصوت واحد فكرهها طائفة واستحبوا قراءة الإدارة وهي يقرأ هذا، ثم يسكت فيقرأ الآخر حتى ينتهوا، واستحبتها طائفة، وقالوا: تعاون الأصوات يكسو القراءة طيبا، وتجلالة وتأثيرا في القلوب، وتأمل هذا في تعاون الحركات بالآلات المطربة كيف يحدث لها كيفية أخرى؟ فإن الهيئة الاجتماعية لها من الحكم ما ليس لإفرادها وفصلت طائفة وقالوا: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون، فلم يكونوا يقرأون جملة، ولم يكونوا يديرون القراءة بل القارىء واحد، والباقون مستمعون، ولا ريب أن هذا أكمل الثلاثة، والله أعلم. ا. هـ. ¬

(¬1) الاستذكار 8/ 468.

الحكم الواحد والعشرون

الحكم الواحد والعشرون الذكر الجماعي وصورته ما ذكره العلماء ومنهم شيخنا ابن باز بقوله: أما التكبير الجماعي المبتدع، فهو أن يرفع جماعة - اثنان فأكثر- الصوت بالتكبير جميعا يبدأونه جميعا، وينهونه جميعا بصوت واحد وبصفة خاصة. وهذا العمل لا أصل له ولا دليل عليه، فهو بدعة في صفة التكبير ما أنزل الله بها من سلطان، فمن أنكر التكبير بهذه الصفة فهو محق؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬1) أي مردود غير مشروع. ا. هـ. قلت: كتب عامل لعمر - رضي الله عنه -: إن ها هنا قومًا يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير. فكتب إليه عمر - رضي الله عنه -: أقبل بهم معك، فأقبل، وقال عمر - رضي الله عنه - للبواب: أعد سوطًا، فلما دخلوا على عمر - رضي الله عنه -، علا أميرهم ضربًا بالسوط. (¬2) ¬

(¬1) مسلم (رقم: 1718). (¬2) أخرجه ابن وضاح في البدع ص 18 بسند قوي.

وقال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى: (¬1) وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن نقل عنه: أنه أمر معاذا أن يقول دبر كل صلاة: «اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك» (¬2) ونحو ذلك. ولفظ دبر الصلاة قد يراد به آخر جزء من الصلاة. كما يراد بدبر الشيء مؤخره، وقد يراد به ما بعد انقضائها، كما في قوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40]. وقد يراد به مجموع الأمرين، وبعض الأحاديث يفسر بعضًا لمن تتبع ذلك وتدبره. وبالجملة فهنا شيئان: أحدهما: دعاء المصلي المنفرد، كدعاء المصلي صلاة الاستخارة، وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلي وحده، إماما كان أو مأموما. والثاني: دعاء الإمام والمأمومين جميعا، فهذا الثاني لا ريب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله في أعقاب المكتوبات، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه، إذ لو فعل ذلك لنقله عنه أصحابه، ثم التابعون، ثم العلماء، كما نقلوا ما هو دون ذلك. ا. هـ. وقال أيضا في المسائل والأجوبة: (¬3) وأما دعاء الإمام والمأمومين بعد الصلاة - رافعي أصواتهم وغير رافعيها - فهذا ليس في سنة الصلاة الراتبة، لم يكن يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد استحبت طائفة من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد في وقت الصلاة صلاة الفجر وصلاة العصر؛ ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى 2/ 216. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 22172) وأبو داود (رقم: 1522) والنسائي (رقم: 9937) والحاكم (رقم: 1010) وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين. (¬3) المسائل والأجوبة 1/ 233.

لأنه لا صلاة بعدها، وبعض الناس يستحبه في أدبار الخمس. والذي عليه الأئمة الكبار أن ذلك ليس من سنة الصلاة، ولا يستحب الدوام عليه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يفعله هو ولا خلفاؤه الراشدون، ولكن كان يذكر الله عقب كل صلاة، ويرغب في ذلك، ويجهر بالذكر عقيب الصلاة، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة - حديث المغيرة بن شعبة وعبد الله بن الزبير. ا. هـ. وقال في الفتاوى الكبرى: (¬1) ما لم يُسن له الاجتماع المعتاد الدائم: كالتعريف في الأمصار، والدعاء المجتمع عليه عقب الفجر، والعصر، والصلاة، والتطوع المطلق في جماعة، والاجتماع لسماع القرآن وتلاوته، أو سماع العلم، والحديث، ونحو ذلك، فهذه الأمور لا يكره الاجتماع لها مطلقا، ولم يسن مطلقا، بل المداومة عليها بدعة فيستحب أحيانا، ويباح أحيانا وتكره المداومة عليها، وهذا هو الذي نص عليه أحمد في الاجتماع على الدعاء، والقراءة، والذكر، ونحو ذلك، والتفريق بين السنة والبدعة في المداومة أمر عظيم ينبغي التفطن له. ا. هـ. وفي المجموع: (¬2) وسئل - رحمه الله -: عن عوام فقراء يجتمعون في مسجد يذكرون ويقرءون شيئًا من القرآن ثم يدعون ويكشفون رءوسهم ويبكون ويتضرعون وليس قصدهم من ذلك رياء ولا سمعة بل يفعلونه على وجه التقرب إلى الله تعالى فهل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة - كالاجتماعات المشروعة - ولا ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى 5/ 357. (¬2) المجموع (22/ 522).

اقترن به بدعة منكرة وأما كشف الرأس مع ذلك فمكروه لا سيما إذا اتخذ على أنه عبادة فإنه حينئذ يكون منكرا ولا يجوز التعبد بذلك والله أعلم. ا. هـ. وقال الشاطبي في الاعتصام ما نصه: (¬1) وإلا فأين في الكتاب أو في السنة الاجتماع للذكر على صوت واحد جهرًا عاليًا؟ وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]. والمعتدون في التفسير: هم الرافعون أصواتهم بالدعاء. وعن أبي موسى قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، وهو معكم». (¬2) وهذا الحديث من تمام تفسير الآية. ولم يكونوا يكبرون على صوت واحد، ولكنه نهاهم عن رفع الصوت ليكونوا ممتثلين للآية. وقد جاء عن السلف أيضا النهي عن الاجتماع على الذكر والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها هؤلاء المبتدعون، وجاء عنهم النهي عن المساجد المتخذة لذلك، وهي الربط التي يشبهونها بالصُفة. ذكر من ذلك ابن وهب وابن وضاح (¬3) وغيرهما ما فيه كفاية لمن وفقه الله. ا. هـ. وقال سماحة الشيخ ابن باز في فتاويه: (¬4) والسنة للإمام والمنفرد والمأموم الجهر بهذه الأذكار بعد كل صلاة فريضة، جهرًا متوسطًا ليس ¬

(¬1) الاعتصام للشاطبي 2/ 108. (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 2992) ومسلم (رقم: 2704). (¬3) البدع والنهي عنها ص 34. (¬4) مجموع فتاوى ابن باز 11/ 189.

فيه تكلف، وقد ثبت في الصحيحين (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عباس - رضي الله عنه -: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. ولا يجوز أن يجهروا بصوت جماعي بل كل واحد يذكر بنفسه من دون مراعاة لصوت غيره؛ لأن الذكر الجماعي بدعة لا أصل لها في الشرع المطهر. ا. هـ. وقال شيخنا أيضًا في فتاويه ما نصه: (¬2) والتكبير الجماعي محدث فهو بدعة، وعمل الناس إذا خالف الشرع المطهر وجب منعه وإنكاره؛ لأن العبادات توقيفية لا يشرع فيها إلا ما دل عليه الكتاب والسنة، أما أقوال الناس وآراؤهم فلا حجة فيها إذا خالفت الأدلة الشرعية، وهكذا المصالح المرسلة لا تثبت بها العبادات، وإنما تثبت العبادة بنص من الكتاب أو السنة أو إجماع قطعي. والمشروع أن يكبر المسلم على الصفة المشروعة الثابتة بالأدلة الشرعية وهي التكبير فرادى. وقد أنكر التكبير الجماعي ومنع منه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية - رحمه الله - وأصدر في ذلك فتوى، وصدر مني في منعه أكثر من فتوى، وصدر في منعه أيضا فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وألف فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري - رحمه الله - رسالة قيمة ¬

(¬1) البخاري (رقم: 805) ومسلم (رقم: 583). (¬2) مجموع فتاوى ابن باز 13/ 22.

في إنكاره والمنع منه، وهي مطبوعة ومتداولة ا. هـ. وفتاوي شيخنا ابن باز - رحمه الله - في هذا البحث كثيرة .... وسئل ابن عثيمين - رحمه الله - في الباب المفتوح: فضيلةَ الشيخ: توجد ظاهرة، وهي: أن التكبير يوم العيد قبل الصلاة يكون جماعيًا، ويكون في ميكرفون، وكذلك في أيام التشريق يكون جماعيًا في أدبار الصلوات، ويقولون: هذا قياسًا على الأذان، فما حكم هذا؟ الجواب: التكبير في عشر ذي الحجة ليس مقيدًا بأدبار الصلوات، وكذلك في ليلة العيد -عيد الفطر- ليس مقيدًا بأدبار الصلوات، فكونهم يقيدونه بأدبار الصلوات فيه نظر، ثم كونهم يجعلونه جماعيًا فيه نظر أيضًا؛ لأنه خلاف عادة السلف، وكونهم يذكرونه على المآذن فيه نظر، فهذه ثلاثة أمور كلها فيها نظر. والمشروع في أدبار الصلوات أن تأتي بالأذكار المعروفة المعهودة، ثم إذا فرغت كَبِّر، وكذلك المشروع ألا يُكَبِّر الناس جميعًا، بل كلٌّ يكبر وحده، هذا هو المشروع كما في حديث أنس - رضي الله عنه -: كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنهم المهلل ومنهم المكبر. (¬1) ولم يكونوا على حال واحد. ا. هـ. وسئل أيضًا: فضيلةَ الشيخ! قلتم: إنه يجوز أن يرفع الصوت بالذكر بعد الصلاة، ولكن إن أدى هذا إلى أن يكون الذكر جماعيًا بين المصلين فهل يجوز؟ الجواب: أنا في الواقع لم أقل: يجوز! بل قلت: إنه من السنة، يعني: الأفضل، فإنه من السنة ولا شك. وأما أداء هذا الذكر جماعة فهذا بدعة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك، كلُّ يذكر على نفسه لكنهم يجهرون. ا. هـ. ¬

(¬1) مسلم (رقم: 1285).

وسئل أيضا: بعض الناس يجتمعون على حديث ذكر، وفي النهاية يقومون بدعاء جماعي واحد يدعو والبقية يقولون: آمين، هل هذا صحيح؟ الجواب: هذا صحيح إذا لم يتخذ عادة، فإن اتخذ عادة صار سنة، وهو ليس بسنة، فإذا كان هذا عادة كلما جلسوا ختموا بالدعاء، فهذا بدعة لا نعلمها عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأما إذا كان أحيانًا كأن يمر بهم وعيد أو ترغيب ثم يدعون الله - عز وجل - فلا بأس، لأنه فرق بين الشيء الراتب والعارض، العارض قد يفعله الإنسان أحيانًا ولا يداوم عليه، كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام أحيانًا يصلي معه بعض الصحابة في صلاة الليل جماعة، ومع ذلك ليس بسنة أن يصلي الإنسان جماعة في صلاة الليل إلا أحيانًا. ا. هـ. وفتاوي الشيخ في هذا الموضوع كثيرة، وقال - رحمه الله - في لقاءات الباب المفتوح: (¬1) أما قراءة القرءان بصوت واحد من أجل التحفظ أو التعلم فلا بأس بها، وأما إذا كانت من أجل التعبد فلا ... الخ كلامه. فائدة قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي: (¬2) في جواب لسؤال ما نصه: الحمد لله رب العالمين، صلاة التطوع في جماعة نوعان: أحدهما: ما تسن له الجماعة الراتبة كالكسوف والاستسقاء وقيام رمضان فهذا يفعل في الجماعة دائما كما مضت به السنة. الثاني: ما لا تسن له الجماعة الراتبة: كقيام الليل والسنن الرواتب وصلاة الضحى وتحية المسجد ونحو ذلك، فهذا إذا فعل جماعة أحيانًا جاز. وأما الجماعة الراتبة في ذلك فغير مشروعة بل بدعة مكروهة. الخ كلامه - رحمه الله -. قلت: صلاة الضحى جماعة كما في حديث عتبان متفق عليه، وصلاة تحية المسجد جماعة كما في حديث سعد عند مسلم (2890) ¬

(¬1) السؤال (رقم: 1422). (¬2) مجموع الفتاوى (23/ 413).

الحكم الثاني والعشرون

الحكم الثاني والعشرون كل ذكر جاء مطلقًا في الكتاب والسنة فلا يجوز تقيده بزمان أو مكان أو حال؛ إلا بدليل، بل يعمل به بإطلاق؛ كما جاء بإطلاق والتقييد له موقوف على ثبوت الخبر، وإلا كان ضربًا من ضروب البدع. مثاله: الأمر بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فلو ذهب ذاهب إلى تقييد ذلك عند وضوئه، أو عند أكله لكان ذلك ممنوعًا، ولو التزمه عند دخول المسجد وخروجه منه لكان ذلك مشروعًا لثبوت الخبر وقس على ذلك سائر الأذكار. قال الشاطبي في الاعتصام (¬1) ما نصه: وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا في الجملة مما يتعلق بالعبادات مثلًا، فأتى به المكلف في الجملة أيضًا؛ كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة؛ كان الدليل عاضدًا لعلمه من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به. ¬

(¬1) الاعتصام 1/ 318.

فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة، أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارنًا لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلا أن الكيفية، أو الزمان أو المكان مقصود شرعًا من غير أن يدل الدليل عليه؛ كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه. فإذا ندب الشرع مثلًا إلى ذكر الله، فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت، أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات؛ لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم، بل فيه ما يدل على خلافه؛ لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعًا شأنها أن تفهم التشريع، وخصوصا مع من يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد؛ فإنها إذا ظهرت هذا الإظهار ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المساجد وما أشبهها كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف؛ فهم منها بلا شك أنها سنن، إذا لم تُفهم منها الفرضية، فأحرى أن لا يتناولها الدليل المستدل به، فصارت من هذه الجهة بدعًا محدثة بذلك - إلى أن قال - ومثل هذا الدعاء؛ فإنه ذكر الله، ومع ذلك؛ فلم يلتزموا فيه كيفيات، ولا قيدوه بأوقات مخصوصة. بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الأوقات، إلا ما عينه الدليل؛ كالغداة والعشي. ولا أظهروا منه إلا ما نص الشارع على إظهاره؛ كالذكر في العيدين وشبهه، وما سوى ذلك؛ فكانوا مثابرين على إخفائه وسره، ولذلك قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رفعوا أصواتهم: «أربعوا على أنفسكم؛ إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» (¬1) وأشباهه، ولم يظهروه في الجماعات. فكل من خالف هذا الأصل؛ فقد خالف إطلاق الدليل أولًا؛ لأنه ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 2830) ومسلم (رقم: 2704).

قيد فيه بالرأي، وخالف من كان أعرف منه بالشريعة. وهم السلف الصالح - رضي الله عنهم -، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خوفًا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم - إلى أن قال - فقد يتوهم أن إطلاق اللفظ يشعر بجواز كل ما يمكن في مدلوله وقوعًا، وليس كذلك؛ خصوصًا في العبادات؛ فإنها محمولة على التعبد على حسب ما تلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح؛ كالصلوات حين وضعت بعيدة عن مدارك العقول في أركانها وترتيبها وأزمانها وكيفياتها ومقاديرها، وسائر ما كان مثلها.- إلى أن قال- فالمخصص كالمخالف لمفهوم التوسعة.- إلى أن قال- ومن أمثلة هذا الأصل التزام الدعاء بعد الصلوات بالهيئة الاجتماعية معلنًا بها في الجماعات. الخ كلامه.

الحكم الثالث والعشرون

الحكم الثالث والعشرون أن ألفاظ التهليل الواردة في الأذكار صفتها الصحيحة والمحفوظة هي: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (¬1) وما يتخللها من زيادات مثل: 1 - يحيى ويميت. أو. 2 - بيده الخير أو. 3 - وهو حي لا يموت. لا يصح منها شيء. والأحاديث الصحيحة التي جاء فيها هذا الذكر تنقسم إلى قسمين. قسم لم يقع في شيء من طرقه أيٌّ من هذه الزيادات. وذلك كحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، في الصحيح (¬2) ولفظه أنه قال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون ¬

(¬1) أخرجه مالك (رقم: 488) وابن أبي شيبة (رقم: 29476) وأحمد (رقم: 7995) والبخاري (رقم: 3119) ومسلم (رقم: 2691) والترمذي (رقم: 3468) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (رقم: 3798) وابن حبان (رقم: 849). وغيرهم. (¬2) البخاري (رقم: 1703).

عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده». وكذا حديث ابن الزبير عند مسلم (¬1) ولفظه قال أبو الزبير - محمد مسلم بن تَدرُس -، قال: كان ابن الزبير - رضي الله عنه -، يقول: في دبر كل صلاة حين يسلم «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل بهن دبر كل صلاة. وكذلك حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عند مسلم (¬2) ولفظه قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمسى قال: «أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله لا إله إلا الله، وحده لا شريك له» قال: أراه قال فيهن: «له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر» وإذا أصبح قال ذلك أيضا: «أصبحنا وأصبح الملك لله». وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين (¬3) ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير. في يوم مائة مرة كانت له عدل ¬

(¬1) مسلم (رقم: 594). (¬2) مسلم (رقم: 2723). (¬3) البخاري (رقم: 3119) ومسلم (رقم: 2691).

عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك». وقسم وقعت فيه بعض هذه الزيادات لكنها غير محفوظة. مثل ما أخرجه صاحبا الصحيح (¬1) من طريق وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وقال شعبة عن الملك بهذا عن الحكم عن القاسم بن مخيمرة عن وراد بهذا. وقال الحسن: الجد غنى. وإنما وقعت زيادة «وهو حي لا يموت» وزيادة «بيده الخير» عند الطبراني: (¬2) من طريق المسيب بن رافع عن مولى المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة كتب إلى معاوية - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من الصلاة يقول: لا اله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد». ووقعت «بيده الخير» أيضًا في حديث المغيرة عند ابن السني (¬3) وكل هذه الزيادات لا تثبت. ومما وقع فيه زيادة حديث عبادة بن الصامت: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) البخاري (رقم: 808) ومسلم (رقم: 593). (¬2) المعجم الكبير الطبراني (رقم: 925). (¬3) عمل اليوم والليلة لابن السني (رقم: 115).

قال: «مَن تَعَارَّ من الليل، فقال: لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهمَّ اغفر لي - أو قال: ثم دعا - استجِيبَ له، فإن عزم فتوضأ وصلَّى، قبلتْ صلاته». أخرجه البخاري (¬1) وغيره. (¬2) فقد أخرجه أبو نعيم في الحلية: (¬3) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي، ثنا عمير بن هانئ، قال: حدثني جنادة بن أبي أمية، حدثني عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (¬4)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي غفر له، أو قال: فدعا، استجيب له، فإن هو عزم فتوضأ وصلى قبلت صلاته» ثم قال أبو نعيم عقبه: صحيح متفق عليه، من حديث عمير بن هانئ والأوزاعي. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 1103). (¬2) أخرجه: الدارمي (رقم: 2687) وأبو داود (رقم: 5060) والترمذي (رقم: 3414) وقال: حسن صحيح غريب. وابن ماجه (رقم: 3878) النسائي (رقم: 10697). (¬3) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 159). (¬4) هو: عبادة بن الصامت بن قيس، أبو الوليد، الأنصاري الخزرجي. صحابي. من الموصوفين بالورع، شهد بدرًا، وقال ابن سعد: كان أحد النقباء بالعقبة، وآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مرثد الغنوي، وشهد المشاهد كلها بعد بدر. وقال ابن يونس: شهد فتح مصر. وهو أول من ولي القضاء بفلسطين، مات بالرملة أو بيت المقدس. روى 181 حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على ستة منها. وكان من سادات الصحابة. انظر: الإصابة 2/ 268، وتهذيب التهذيب 5/ 111، والأعلام 4/ 30.

قلت: دون زيادة «يحيي ويميت» فهي شاذة في هذا الموضع. ومما وقع فيه زيادة أيضًا: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال: تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (¬1) أخرجه مسلم. فقد أخرجه النسائي في الكبرى (¬2)، وزاد فيه «يحيي ويميت» وهي زيادة شاذة. ومما وقع فيه زيادة أيضًا حِديث جابر - رضي الله عنه - في سياق حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. «أبدأ بما بدأ الله به» فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا بين ذلك، قال: مثل هذا ثلاث مرات ...» الحديث. (¬3) فقد وقع عند أبي داود (¬4) في الحديث ما نصه: فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فكبر الله ووحده وقال: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب ¬

(¬1) مسلم (رقم: 597). (¬2) النسائي (رقم: 9895). (¬3) مسلم (رقم: 1218). (¬4) أبو داود (رقم: 1907).

وحده» ثم دعا بين ذلك. وقال: مثل هذا ثلاث مرات. وكذا عند النسائي (¬1) وابن ماجه (¬2) والمحفوظ في الخبر بدونها كما أخرجه مسلم. ومما جاء فيه زيادة حديث أبي أيوب - رضي الله عنه - مرفوعًا من قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل» أصل الحديث في صحيح مسلم (¬3) ووقع عند الطبراني في الكبير (¬4) «يحيي ويميت» ولا تصح. ووقعت هذه الزيادات في أذكار أخرى، ولا تثبت، والمقام يطول وإنما نبهت على أصله، وانظر الحلل الإبريزية لي (1/ 248 - 249). ¬

(¬1) النسائي (رقم: 3968). (¬2) ابن ماجه (رقم: 3074). (¬3) مسلم (رقم: 2693). (¬4) المعجم الكبير للطبراني (رقم: 4021).

الحكم الرابع والعشرون

الحكم الرابع والعشرون الأصل أن الأذكار لابد من الإتيان بها بألفاظها دون زيادة أو نقص أو تبديل؛ لأن ألفاظ الشارع مقصودة يتعبد له بها، وهذا يفوت بالمخالفة؛ لأن الذكر عبادة بابها التوقيف، والوقوف على الرسوم وهذا بخلاف الأدعية النبوية، وهي وإن كانت متلقاة من الشارع لكن للعبد فيها سعة، ولهذا في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن. الحديث. (¬1) قال القسطلاني في إرشاد الساري (¬2) ما نصه: «كما يعلمنا السورة من القرآن»، قال في البهجة: التشبيه في تحفظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه. ا. هـ. وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفي بين كفيه التشهد كما يعلمني السورة من القرآن. الحديث متفق عليه. (¬3) قال أبو الفضل في الفتح (¬4) ما نصه: وفي رواية الأسود بن يزيد ¬

(¬1) البخاري (رقم: 1109 - 6019). (¬2) أرشاد الساري 9/ 216. (¬3) البخاري (رقم: 5910) ومسلم (رقم: 402). (¬4) الفتح (11/ 184).

عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أخذت التشهد من في رسول الله كلمة كلمة. أخرجها الطحاوي (¬1) وفي حديث سلمان نحوه وقال: حرفًا حرفًا. أخرجه الطبراني. (¬2) وعند ابن خزيمة (¬3) من طريق عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه التشهد في الصلاة، قال: كنا نحفظه عن عبد الله بن مسعود كما نحفظ حروف القرآن الواو والألف. الحديث. ولذا في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به» قال فرددتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت ورسولك، قال: «لا ونبيك الذي أرسلت» متفق عليه. (¬4) وفي لفظ للترمذي: (¬5) فقلت: وبرسولك الذي أرسلت، قال: فطعن بيده في صدري، ثم قال: «وبنبيك الذي أرسلت». قال في فتح الباري (¬6) ما نصه: وأولى ما قيل في الحكمة في رده - رضي الله عنه - على من قال الرسول بدل النبي، أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ¬

(¬1) شرح معاني الآثار (رقم: 1562). (¬2) المعجم الكبير الطبراني (رقم: 6171). (¬3) صحيح ابن خزيمة (رقم: 702). (¬4) البخاري (رقم: 244)، ومسلم (رقم: 2710). (¬5) الترمذي (رقم: 3394). (¬6) فتح الباري 11/ 111.

ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فتجنب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، وهذا اختيار المازري، قال: فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحى إليه بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها. وهذا كلام متين غاية في التحرير، ولهذا جاء في فتاوي اللجنة: (¬1) ما نصه: سؤال: إذا قال المسلم بعد الأذان: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد. فهل قوله في ذلك: إنك لا تخلف الميعاد بدعة؟ الجواب: الأصل في الأذكار وسائر العبادات الوقوف عند ما ورد من عباراتها وكيفياتها في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لما رواه البخاري (¬2) وغيره عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول، فقلت - أستذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت». فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراء بن عازب أن يضع كلمة: ورسولك، مكان كلمة: ونبيك، في الذكر والدعاء عند النوم. الخ. ا. هـ. ¬

(¬1) فتاوي اللجنة 6/ 90. (¬2) البخاري (رقم: 244)، وأخرجه: مسلم (رقم: 2710) الترمذي (رقم: 3394).

الحكم الخامس والعشرون

الحكم الخامس والعشرون الأذكار الشرعية شُرعت لأغراض صحيحة للتعبد بها، وطلب الثواب في الآخرة، والإتيان بها لغير ما شرعت له عدول عن الطريق السوي واحورا عن المنهج النبوي، ويعظم الأمر حينما تكون لأغراض دنيئة؛ كمن يهلل ويسبح من الباعة جهرًا لجلب الزبائن، أو من يفعل مثل ذلك ممن يسألون الناس من الشحاذين، أو يكبر من الحراس لتنبيه اللصوص على الفطنة حسب. قال في البحر الرائق (¬1) ما نصه: ولو فتح التاجر السلعة فصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد بذلك إعلام المشتري جودة ثوبه، فذلك مكروه، بخلا العالم إذا قال في علمه صلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو قال قارئ القوم كبروا حيث يثاب، وفي الخلاصة: الفقيه هل يصلي صلاة التسبيح؟ قال: ذلك طاعة العامة، قيل له: فلان الفقيه يصليها قال هو عندي من العامة وفي الغياثية وردت الأخبار بتفضيل بعض السور والآيات على بعض؛ كآية الكرسي ونحوها، واختلفوا في معنى الأفضل، قال بعض: إن ثواب قراءتها أفضل، وقيل بأنها للقلب أيقظ، وهذا أقرب إلى الصواب، والأفضل أن لا يفضل بعض القرآن ¬

(¬1) البحر الرائق 8/ 235.

على بعض، كره بعض المشايخ التصدق على الذي يقرأ القرآن في الأسواق زجرًا له، والتسبيح والتهليل من الذي يسأل في الأسواق نظير القرآن. ا. هـ. وفي الفتاوي الهندية (¬1) ما نصه: الكلام منه ما يوجب أجرًا كالتسبيح والتحميد وقراءة القرآن والأحاديث النبوية وعلم الفقه، وقد يأثم به إذا فعله في مجلس الفسق وهو يعلمه لما فيه من الاستهزاء والمخالفة لموجبه، وإن سبح فيه للاعتبار والإنكار وليشتغلوا عما هم فيه من الفسق فحسن، وكذا من سبح في السوق بنية أن الناس غافلون مشتغلون بأمور الدنيا وهو مشتغل بالتسبيح وهو أفضل من تسبيحه وحده في غير السوق، كذا في الاختيار شرح المختار. من جاء إلى تاجر يشتري منه ثوبًا فلما فتح التاجر الثوب سبح الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أراد به إعلام المشتري جودة ثوبه فذلك مكروه هكذا في المحيط. رجل شرب الخمر فقال: الحمد لله لا ينبغي له أن يقول في هذا الموضع الحمد لله، ولو أكل شيئا غصبه من إنسان فقال: الحمد لله، قال الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد- رحمه الله تعالى-: لا بأس به كذا في فتاوى قاضي خان، حارس يقول: لا إله إلا الله أو يقول: صلى الله على محمد يأثم؛ لأنه يأخذ لذلك ثمنًا، بخلاف العالم إذا قال: في المجلس صلوا على النبي، أو الغازي يقول: كبروا حيث يثاب، كذا في الكبرى، وإن سبح الفقاعي أو صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند فتح فقاعه على قصد ترويجه وتحسينه، أو القصاص إذا قصد بها. (كومئ هنكامه) أثم، وعن هذا يمنع إذا قدم واحد من العظماء إلى ¬

(¬1) الفتاوى الهندية 5/ 315.

مجلس فسبح أو صلى على النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه إعلاما بقدومه حتى ينفرج له الناس أو يقوموا له يأثم. ا. هـ. قلت: وهذا لا يمنع أن يكون لبعض الأذكار أغراض صحيحة؛ كالتسبيح في الصلاة لتنبيه الإمام على سهوه أو خارج الصلاة تعجبًا أو التكبير كذلك عند التعجب، فهذا لون وما تقدم التنبيه عليه لون. لطيفة: قال في سير النبلاء (¬1) في ترجمة ابن أبي داود- ابن صاحب السنن- ما نصه: قال محمد بن عبد الله القطان: كنت عند ابن جرير، فقيل: ابن أبي داود يقرأ على الناس فضائل الإمام علي. فقال ابن جرير: تكبيرة من حارس. قلت «الذهبي»: لا يسمع هذا من ابن جرير للعداوة الواقعة بين الشيخين. ا. هـ. وفي موضع آخر: (¬2) قيل لابن جرير: إن أبا بكر بن أبي داود يملي في مناقب علي. فقال: تكبيرة من حارس. وقد وقع بين ابن جرير وبين ابن أبي داود، وكان كل منهما لا ينصف الآخر، وكانت الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود، فكثروا وشغبوا على ابن جرير، وناله أذى، ولزم بيته، نعوذ بالله من الهوى. وكان ابن جرير من رجال الكمال، وشنع عليه بيسير تشيع، وما رأينا إلا الخير منه وبعضهم ينقل عنه أنه كان يجيز مسح الرجلين في الوضوء، ولم نر ذلك في كتبه. ا. هـ. أعدته لما فيه من زيادة الفائدة. وفي الإنصاف للمرداوي ما نصه: (¬3) وقال الشيخ تقي الدين ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء للذهبي 13/ 230. (¬2) سير أعلام النبلاء للذهبي 14/ 277. (¬3) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي 10/ 250.

- رحمه الله -: وقوله «الله أكبر عليك» كالدعاء عليه وشتمه بغير فرية. ا. هـ. وهذه فتوى للجنة الدائمة (¬1) مهمة تتعلق بما نحن فيه. السؤال: ونصه: أنه يتوفر للمستشفى التخصصي وسائل اتصالات داخلية جيدة، تسمح للمخاطب بمقاطعة المكالمة القادمة، والانتقال إلى مكالمة أخرى مدة تطول أو تقصر، حسبما تدعو الحاجة، ثم العودة إلى المكالمة الموقوفة، وخلال فترة الانقطاع المذكورة يمكن للمتكلم أن يستمع إلى مادة مسجلة مناسبة، ولقد رغبنا أن نملأ فترة الانقطاع هذه بمادة دينية، سواء مقاطع من القرآن الكريم أو من الأحاديث الشريفة. وحيث إنه قد يتخلل الانقطاعات أمور دنيوية يدخل فيها الجد والهزل حسب مكانة وظرف المتحدثين، فقد رأينا الاستئناس برأي سماحتكم قبل إدخال مثل هذه المواد الدينية. ومما جاء في الإجابة ما نصه: القرآن الكريم كلام الله تعالى، فيجب احترامه وصيانته عما لا يليق به من خلطه بهزل أو مزاح يسبق تلاوته أو يتبعها، ومن اتخاذه تسلية أو ملء فراغ مثل ما ذكرت، بل ينبغي القصد إلى تلاوته قصدًا أوليًا؛ عبادة لله وتقربا إليه، مع تدبر معانيه والاعتبار بمواعظه، لا لمجرد التسلية والتفكه وملء الفراغ، وكذلك أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز خلطها بالهزل والدعابات، بل تجب العناية بها، وصيانتها عما لا يليق، والقصد إليها لفهم أحكام الشرع منها والعمل بمقتضاها. ا. هـ. المراد من الفتوى. فائدة: انتشر في عصرنا السؤال عن قراءة القرءان أو بعضه لأجل حصول الزواج، أو النجاح أو الوظيفة، وكل هذا من طلب الدنيا بعمل الآخرة، والعياذ بالله. فيجب الحذر من ذلك. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 4/ 84. فتوى رقم (5959).

وأما الأغراض المذكورة فتدرك بالتوكل على الله وبذل الأسباب العادية، وكثرة السؤال ودعاء مالك الأمور ومدبرها جل وعلا، والله المستعان.

الحكم السادس والعشرون

الحكم السادس والعشرون الأصل في الذكر أن يكون سرًا، وإنما يشرع الجهر في مواضع، لأغراض صحيحة، قال الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] قال في زاد المسير (¬1) ما نصه: في هذا الذكر أربعة أقوال: أحدها: أنه القراءة في الصلاة، قاله ابن عباس فعلى هذا، أمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإسرار. والثاني: أنه القراءة خلف الإمام سرًا في نفسه، قاله قتادة. والثالث: أنه ذكر الله باللسان. والرابع: أنه ذكر الله باستدامة الفكر، لا يغفل عن الله تعالى، ذكر القولين الماوردي. ا. هـ. قال النسفي في تفسيره: (¬2) هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك. ا. هـ. ¬

(¬1) زاد المسير في علم التفسير 2/ 184. (¬2) تفسير النسفي 1/ 628.

وقال ابن كثير في تفسيره ما نصه: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداء ولا جهرًا بليغًا؛ ولهذا لما سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أقريبِ ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. (¬1) وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا؛ إن الذي تدعونه سميع قريب» (¬2).ا. هـ. وقال شيخ الإسلام في كتاب الاستقامة ما نصه: (¬3) الوجه السادس: أن رفع الأصوات في الذكر المشروع لا يجوز؛ إلا حيث جاءت به السنة؛ كالأذان والتلبية ونحو ذلك، فالسنة للذاكرين والداعين ألا يرفعوا أصواتهم رفعًا شديدًا؛ كما ثبت في الصحيح: (¬4) عن أبي موسى أنه قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا إذا علونا على شرف كبرنا فارتفعت أصواتنا، فقال: «يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته». وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]. ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره 3/ 480. (¬2) البخاري (رقم: 4205) ومسلم (رقم: 2704). (¬3) الاستقامة 1/ 322. (¬4) سبق تخريجه.

وقالِ عن زكريا {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]. وفي هذه الآثار عن سلف الأمة وأئمتها ما ليس هذا موضعه؛ كما قال الحسن البصري: رفع الصوت بالدعاء بدعة، وكذلك نص عليه أحمد بن حنبل وغيره، وقال قيس بن عباد: وهو من كبار التابعين من أصحاب علي - رضي الله عنه - روى عنه الحسن البصري، قال: كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند الجنائز وعند القتال. ا. هـ. وقال في الفتاوي الكبرى: (¬1) وهذا لأن الذكر قد تكون السنة المخافتة به، ويجهر به لمصلحة راجحة مثل تعليم المأمومين، فإنه قد ثبت في الصحيح: أن ابن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة، ليعلمهم أنها سنة. (¬2) ... إلى قوله: واتفق العلماء على أن الجهر بذلك ليس بسنة راتبة: لكن جهر به للتعليم، ولذلك نقل عن بعض الصحابة أنه كان يجهر أحيانًا بالتعوذ، فإذا كان من الصحابة من جهر بالاستفتاح والاستعاذة مع إقرار الصحابة له على ذلك، فالجهر بالبسملة أولى أن يكون كذلك. وأن يشرع الجهر بها أحيانا لمصلحة راجحة. وقال: (¬3) بل السنة في الذكر كله ذلك، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية 2/ 121. (¬2) البخاري (رقم: 1335). (¬3) الفتاوى الكبرى لابن تيمية 2/ 200.

تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}. [الأعراف: 205] وفي الصحيحين: (¬1) أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا معه في سفر. فجعلوا يرفعون أصواتهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائبا، وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وهذا الذي ذكرناه في الصلاة عليه والدعاء، مما اتفق عليه العلماء، فكلهم يأمرون العبد إذا دعا أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدعو، لا يرفع صوته بالصلاة عليه أكثر من الدعاء، سواء كان في صلاة، كالصلاة التامة، وصلاة الجنازة، أو كان خارج الصلاة، حتى عقيب التلبية فإنه يرفع صوته بالتلبية، ثم عقيب ذلك يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو سرًا، وكذلك بين تكبيرات العيد إذا ذكر الله، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه وإن جهر بالتكبير لا يجهر بذلك. ا. هـ. وقال ابن القيم في كتابه الكلام على مسالة السماع (¬2) ما نصه: الوجه العاشر: أن رفع الأصوات بالذكر المشروع مكروه؛ إلا حيث جاءت به السنة ... الخ. وقال السرخسي في المبسوط (¬3) ما نصه: والمستحب عندنا في الأذكار والدعاء الخفية إلا فيما تعلق بإعلانه مقصود كالأذان للإعلام، والخطبة للوعظ، وتكبيرات الصلوات لإعلام التحرم والانتقال والقراءة لإسماع المؤتم. ا. هـ. ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) مسالة السماع ص 348. (¬3) المبسوط 4/ 6.

وقال في بدائع الصنائع: (¬1) لأن المخافتة أصل في الأذكار والجهر بها بدعة. ا. هـ. فائدة: أخرج البخاري (¬2) في باب: قراءة فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة، من طريق سعد بن إبراهيم عن طلحة بن عبد الله بن عوف، قال: صليت خلف ابن عباس - رضي الله عنه - على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، فقال: ليعلموا أنها سنة. فائدة أخرى: سئل شيخنا ابن باز (¬3) - رحمه الله - عن جهره عليه الصلاة والسلام بالقراءة في ركعتي الطواف مع أنها بالنهار: فقال لتعليم الصحابة مثل ما جهر ابن عباس بالفاتحة. ا. هـ. ومما يجلي الأمر من السنة تشبيه الجهر بالقرآن؛ كالجهر بالصدقة فقد أخرج أحمد (¬4) وغيره (¬5): من طريق بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن كثير بن مرة، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - (¬6)، قال: ¬

(¬1) بدائع الصنائع 1/ 204. (¬2) البخاري (رقم: 1335). (¬3) مسائل ابن باز لعبد الله بن مانع 1/ 425. (¬4) أحمد (رقم: 17368) قال أبو عبد الرحمن- ابن الإمام أحمد-: قال أبي: كان حماد بن خالد حافظًا، وكان يحدثنا، وكان يخيط، كتبت عنه أنا ويحيى بن معين. (¬5) أخرجه الترمذي (رقم: 2919) وقال: حسن غريب. وأبو داود (رقم: 1335) والنسائي (رقم: 2342) وابن حبان (رقم: 734) والطبراني في الشاميين (رقم: 1164) والبيهقي (رقم: 4488) والديلمي (رقم: 2623). (¬6) هو عقبة بن عامر بن عيسى الجهني، يكنى أبا حماد. وقيل غير ذلك. كان قارئًا عالمًا بالفرائض والفقه، قديم الهجرة والسابقة والصحبة. وهو أحد من جمع القرآن. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمر، وروى عنه أبو أمامة وابن عباس وقيس بن أبي حازم وآخرون. ولي إمرة مصر من قبل معاوية سنة 44 هـ. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 242 والاستيعاب 3/ 1073.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة». قال في المرقاة (¬1) ما نصه: قوله: «الجاهر بالقرآن» أي بقراءته «كالجاهر بالصدقة» أي: كالمعلن بإعطاءها «والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة» وقد قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. فالظاهر من الحديث إن السر أفضل من الجهر؛ كما أشار إليه النسائي، حيث عقد على هذا الحديث باب فضل السر على الجهر؛ لكن الذي يقتضيه أمره - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: «ارفع من صوتك» (¬2) إن الاعتدال في القراءة أفضل، فإما أن يحمل الجهر في الحديث على المبالغة والسر على الاعتدال، أو على أن هذا الحديث محمول على ما إذا كان الحال تقتضي السر، وإلا فالاعتدال في ذاته أفضل قاله السندي. وقال الترمذي: معنى هذا الحديث إن الذي يسر بالقراءة القرآن أفضل من الذي يجهر بقراءة القرآن؛ لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية، وإنما معنى هذا عند أهل العلم لكي يأمن الرجل من العجب؛ لأن الذي يسرُّ بالعمل لا يخاف عليه بالعجب ما يخاف عليه في العلانية. انتهى. قلت: وردت أحاديث تقتضي استحباب رفع الصوت بالقراءة، وأحاديث تقتضي الأسرار وخفض الصوت، فمن الأول ما تقدم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند الشيخين: (¬3) «ما أذن الله لشي ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به» ومن الثاني حديث عقبة هذا وحديث ¬

(¬1) المرقاة 7/ 284. (¬2) أبو داود (رقم: 1329) والترمذي (رقم: 447) وقال: هذا حديث غريب، وصححه ابن خزيمة (رقم: 1161). (¬3) البخاري (رقم: 7044) ومسلم (رقم: 792).

معاذ بن جبل أخرجه الحاكم. (¬1) بلفظ: حديث عقبة وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي. قال النووي في الأذكار: (¬2) والجمع بينهما إن الإسرار أبعد من الرياء فهو أفضل في حق من يخاف ذلك، فإن لم يخف الرياء فالجهر أفضل بشرط أن لا يؤذي غيره من مصل أو نائم أو غيرهما يعني إن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى مصلون أو نيام بجهره، والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكبر ولأنه يتعدى نفعه إلى غيره أي من استماع أو تعلم أو إقتداء أو انزجار أو كونه شعارًا للدين، ولأنه يوقظ قلب القاريء ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ولأنه يطرد النوم عنه ويزيد في النشاط ويوقظ غيره من نائم وغافل وينشطه فمتى حضره شيء من هذه النيات فالجهر أفضل- انتهى. قال السيوطي: ويدل لهذا الجمع حديث أبي داود (¬3) بسند صحيح عن أبي سعيد - رضي الله عنه -: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر. وقال: «ألا أن كلكم مناج لربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» قلت: ويدل له أيضًا ما روى الديلمي (¬4) في مسند الفردوس عن ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: «السر أفضل من العلانية، والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به» ذكره الذهبي في ترجمة عبد الملك بن مهران عن عثمان بن زائدة عن ¬

(¬1) أخرجه الحاكم 1/ 555. (¬2) الأذكار للنووي ص 107. (¬3) أبو داود (رقم: 1334). (¬4) أخرجه الديلمي (رقم: 3572). وأورده أيضًا: الحكيم (4/ 71) والعقيلي (3/ 202)، ترجمة (رقم: 1203. عثمان بن زائدة) وقال: حديثه غير محفوظ. وابن الجوزي في العلل المتناهية (رقم: 1377) وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

نافع عن ابن عمر. قال السيوطي: (¬1) وقال بعضهم يستحب الجهر ببعض القراءة والأسرار ببعضها لأن المسر قد يميل فيأنس بالجهر والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار ا. هـ. ¬

(¬1) الإتقان في علوم القرآن 1/ 374.

الحكم السابع والعشرون

الحكم السابع والعشرون الأذكار الشرعية الأصل أن تكون باللغة العربية عند لفظها وكتابتها. قال شيخ الإسلام في الاقتضاء (¬1) ما نصه: وقد اختلف الفقهاء في أذكار الصلوات هل تقال بغير العربية؟ وهي ثلاث درجات: أعلاها القرآن، ثم الذكر الواجب غير القرآن، كالتحريمة بالإجماع وكالتحليل والتشهد عند من أوجبهما ثم الذكر غير الواجب، من دعاء أو تسبيح أو تكبير أو غير ذلك. فأما القرآن: فلا يقرؤه بغير العربية، سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور، وهو الصواب الذي لا ريب فيه، بل قد قال غير واحد: إنه يمتنع أن يترجم سورة، أو ما يقوم به الإعجاز. واختلف أبو حنيفة وأصحابه في القادر على العربية. وأما الأذكار الواجبة: فاختلف في منع ترجمة القرآن هل يترجمها العاجز عن العربية، وعن تعلمها؟ وفيه لأصحاب أحمد وجهان، أشبهها بكلام أحمد: أنه لا يترجم، وهو قول مالك وإسحاق، والثاني: يترجم، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي. ¬

(¬1) الاقتضاء 1/ 519.

وأما سائر الأذكار فالمنصوص من الوجهين، أنه لا يترجمها ومتى فعل بطلت صلاته، وهو قول مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي. والمنصوص عن الشافعي: أنه يكره ذلك بغير العربية ولا تبطل، ومن أصحابنا من قال: له ذلك، إذا لم يحسن العربية. وحكم النطق بالعامية في العبادات: من الصلاة والقراءة والذكر، كالتلبية والتسمية على الذبيحة، وفي العقود والفسوخ كالنكاح واللعان وغير ذلك: معروف في كتب الفقه ا. هـ. قال ابن رجب في القواعد (¬1) ما نصه: (القاعدة العاشرة): الألفاظ المعتبرة في العبادات والمعاملات. (منها) ما يعتبر لفظه ومعناه وهو القرآن لإعجازه بلفظه ومعناه، فلا تجوز الترجمة عنه بلغة أخرى. (ومنها) ما يعتبر معناه دون لفظه كألفاظ عقد البيع وغيره من العقود وألفاظ الطلاق. (ومنها) ما يعتبر لفظه مع القدرة عليه دون العجز عنه ويدخل تحت ذلك صور: (منها) التكبير والتسبيح والدعاء في الصلاة لا تجوز الترجمة عنه مع القدرة عليه، ومع العجز عنه هل يلحق بالقسم الأول فيسقط أو بالثاني فيأتي به بلغته،؟ على وجهين. (ومنها) خطبة الجمعة لا تصح مع القدرة بغير العربية على الصحيح وتصح مع العجز. ¬

(¬1) القواعد لابن رجب ص 13.

(ومنها) لفظ النكاح ينعقد مع العجز بغير العربية ومع القدرة على التعلم فيه وجهان. (ومنها) لفظ اللعان وحكمه حكم لفظ النكاح. ا. هـ. وفي فتاوى اللجنة الدائمة: (¬1) السؤال الأول من الفتوى: س1: هل تجوز الصلاة بلغة غير العربية؟ ج1: لا تجوز الصلاة بغير اللغة العربية مع القدرة عليها، فيلزم المسلم أن يتعلم باللغة العربية من الدين ما لا يسعه جهله، ومنه تعلم سورة الفاتحة والتشهد والتسميع والتحميد والتسبيح في الركوع والسجود، ورب اغفر لي بين السجدتين والتسليم؛ أما العاجز عن اللغة العربية فعليه أن يأتي بما ذكر بلغته؛ إلا الفاتحة فإنِا لا تصح قراءتها بغير العربية، وهكذا غيرها من القرآن، وعليه أن يأتي بمكانها بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، لحديث عبد الله بن أبي أوفى (¬2) - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه، فقال: «قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» الحديث ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة الفتوى (رقم: 4211). (¬2) هو: عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث بن أبي أسيد بن رفاعة، أبو محمد، الأسلمي. صحابي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعنه إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي وإبراهيم بن سلم الهاري وإسماعيل بن أبي خالد والحكم بن عتيبة وطارق بن عبد الرحمن البالي وعطاء بن السائب وغيرهم. شهد بيعة الرضوان. قال عمرو بن علي: وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة، وفي كتاب الجهاد من البخاري ما يدل على أنه شهد الخندق. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 151، والطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 21.

رواه أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، والنسائي (¬3)، والدارقطني (¬4)، وصححه ابن حبان (¬5) والحاكم (¬6)، لقول الله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬7) إلى أن يتعلم اللغة العربية، وعليه أن يبادر بذلك. ا. هـ. فرع: الذكر عند الإتيان به لا يُمطط ولا يلحن ولا يخرج عن صفته المعروفة في العربية، ولا يتغنى به على أوزان أهل الألحان، ولذا كره العلماء تلحين الأذان، فقد قال ابن أبي شيبة: (¬8) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين المكي، أن مؤذنا أذن فطرب في أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز: «أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا». علقه البخاري (¬9) في باب: رفع الصوت بالنداء: باب رفع الصوت بالنداء وقال عمر بن عبد العزيز: أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا. ا. هـ. قال في كشاف القناع (¬10) ما نصه: ويصح أذان ملحن وهو الذي ¬

(¬1) مسند أحمد (رقم: 19110). (¬2) أبو داود (رقم: 832). (¬3) النسائي (رقم: 923). (¬4) سنن الدارقطني (رقم: 1195). (¬5) صحيح ابن حبان (رقم: 1809). (¬6) المستدرك على الصحيحين (رقم: 880). (¬7) البخاري (رقم: 7288) ومسلم (رقم: 1337). (¬8) مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 2375). (¬9) صحيح البخاري 1/ 125. (¬10) كشاف القناع 1/ 245.

فيه تطريب، يقال: لحن في قراءته إذا طرب به وغرد، لحصول المقصود به. ويصح أذان ملحون إن لم يحل لحنه المعنى؛ كما لو رفع الصلاة أو نصبه؛ لأن ذلك لا يمنع إجزاء القراءة في الصلاة فهنا أولى مع الكراهة فيهما، أي: في الملحن والملحون قال أحمد كل شيء محدث أكرهه مثل التطريب، فإن أحال اللحن المعنى كقوله والله أكبر، أي: بهمزة مع الواو بدليل رسم الألف بعدها، وأما لو قلب الهمزة واو الوقف لم يكن لحنا؛ لأنه لغة وقرئ به، كما يعلم من كتب القراءات لم يعتد به؛ كالقراءة في الصلاة. ا. هـ. وقال في مجمع الأبحر: (¬1) ويكره التلحين والمراد به التطريب يقال: لحن في قراءته إذا طرب بها أي يكره تغيير الكلمة عن وضعها بزيادة حرف أو حركة أو مد أو غيرها سواء في الأوائل أو في الأواخر وكذلك في قراءة القرآن ولا يحل الاستماع ولا بد أن يقوم من المجلس إذا قرئ باللحن، وأما تحسين الصوت لا بأس به إذا كان من غير تغن قيل لا يحل سماع المؤذن إذا لحن. وقال شمس الأئمة الحلواني: إنما يكره ذلك فيما كان من الأذكار، أما في قوله حي على الصلاة حي على الفلاح لا بأس فيه بإدخال مد ونحوه. ا. هـ. قال أبو محمد: ما نفى عنه البأس لا ينتفي عنه فما دليل الاستثناء؟ ¬

(¬1) مجمع الأبحر 1/ 76.

الحكم الثامن والعشرون

الحكم الثامن والعشرون الأذكار الشرعية لا تكون إلا كلاما تامًا مفيدًا، وهذا شأنها كلها، ومن هنا علم فساد الذكر بالاسم المفرد أو المضمر، قال شيخ الإسلام في كتاب العبودية (¬1) ما نصه: ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة هو الاسم المضمر، فهم ضالون غالطون، واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. من أبين غلط هؤلاء فإن الاسم الله مذكور في الأمر بجواب الاستفهام في الآية قبله، وهو قوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أي: الله هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فالاسم الله، مبتدأ وخبره قد دل عليه الاستفهام كما في نظائر ذلك؛ تقول: من جاره؟ فيقول: زيد. وأما الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فليس بكلام تام، ولا جملة ¬

(¬1) العبودية ص 137.

مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي. ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة، ولا حالًا نافعا، وإنما يعطيه تصورًا مطلقًا، ولا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب، وحاله ما يفيد بنفسه، وإلا لم يكن فيه فائدة، والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه، لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره. وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع من الاتحاد كما قد بسط في غير هذا الموضوع. وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات، حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به، إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر يتلقين الميت: لا إله إلا الله. وقال: «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة» (¬1) ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائهًا موتًا غير محمود، بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد. والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة، وأدخل في البدعة وأقرب إلى ضلال الشيطان، فإن من قال: يا هو يا هو أو هو هو، ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إلا إلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل. وقد صنف صاحب «الفصوص» كتابا سماه كتاب «الهو» وزعم ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 22180) وأبو داود (رقم: 2945) والطبراني (رقم: 727)، والحاكم (رقم: 1299) وقال: صحيح الإسناد.

بعضهم أن قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]. معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو الهو، وإن كان هذا مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئا من ذلك: لو كان هذا ما قلته لكتبت الآية: وما يعلم تأويل «هو» منفصلة. ثم كثيرا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل: «الله» بقوله {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91]. ويظن أن الله أمر نبيه بأن يقول الاسم المفرد وهذا غلط باتفاق أهل العلم فإن قوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} معناه: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وهو جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أي: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من قال: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. فقال: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} ثم قال: {قُلِ اللَّهُ} أنزله ثم ذر هؤلاء المكذبين {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} - إلى أن قال- والله تعالى لا يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد ولا شرع للمسلمين. والاسم المجرد لا يفيد شيئا من الإيمان باتفاق أهل الإسلام، ولا يؤمر به في شيء من العبادات ولا في شيء من المخاطبات. ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر: أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول: «أشهد أن محمدا رسول الله» بالنصب فقال: ماذا

يقول هذا؟ هذا الاسم، فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟ - إلى أن قال- وكذلك ما شرع للمسلمين في صلاتهم وأذانهم وحجهم وأعيادهم من ذكر الله تعالى إنما هو بالجملة التامة كقول المؤذن: «الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله». وقول المصلي: «الله أكبر، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، التحيات لله». وقول الملبي: «لبيك اللهم لبيك». وأمثال ذلك. فجميع ما شرعه الله من الذكر، إنما هو كلام تام لا اسم مفرد، ولا مظهر ولا مضمر- إلى أن قال- والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الله سبحانه هو ذكره بجملة تامة، وهو المسمى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، ويجذب القلوب إلى الله، ومعرفته ومحبته وخشيته، وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية. وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له، فضلا عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين. بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات، وذريعة إلى تصورات وأحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد؛ كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع. ا. هـ. - رحمه الله -. وفيه الشفاء والكفاية ..

الحكم التاسع والعشرون

الحكم التاسع والعشرون الأصل أن الأذكار الشرعية لا يُصاحبها عند القيام بها شيءٌ من عمل البدن من الاضطراب أو الإغماء أو الصعق أو الاهتزاز أو الرقص أو التمايل أو التصفيق، أو الإشارة باليد أو الأصابع أو بالأبصار أو مسح الوجوه، هذا هو الأصل. وهكذا كان حال أكمل الذاكرين عليه الصلاة والسلام وصحبه، فلم يكن فيهم من يصعق أو يغشى عليه أو يصيبه جنون، وذلك لكمال أحوالهم، وثبات قلوبهم وصدق خشوعهم. قال شيخ الإسلام في فتاويه (¬1) ما نصه: وأما «الرقص» فلم يأمر الله به ولا رسوله ولا أحد من الأئمة، بل قد قال الله في كتابه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19]. وقال في كتابه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]. أي: بسكينة ووقار. وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود؛ بل الدف والرقص في الطابق لم يأمر الله به ولا رسوله ولا أحد من سلف الأمة؛ بل أمروا بالقرآن في الصلاة والسكينة. ا. هـ. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 11/ 599.

وقال أيضا في الفتاوى الكبرى: (¬1) وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب، ودمع العين، واقشعرار الجسوم، فهذا أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب والسنة، وأما الاضطراب الشديد والغشي والموت والصيحات، فهذا إن كان صاحبه مغلوبًا عليه لم يلم عليه، كما قد كان يكون في التابعين ومن بعدهم، فإن منشأه قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب، والقوة والتمكن أفضل كما هو حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة. وأما السكون قسوة وجفاء فهذا مذموم لا خير فيه. ا. هـ. وقال في مجموع الفتاوي (¬2) ما نصه: وهذا «السماع» له آثار إيمانية من المعارف القدسية والأحوال الزكية يطول شرحها ووصفها، وله في الجسد آثار محمودة من خشوع القلب ودموع العين واقشعرار الجلد، وهذا مذكور في القرآن. وهذه الصفات موجودة في الصحابة ووجدت بعدهم آثار ثلاثة: الاضطراب والصراخ والإغماء والموت في التابعين. وقال أيضًا: (¬3) ووجد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة: الاضطراب والاختلاج والإغماء- أو الموت والهيام؛ فأنكر بعض السلف ذلك - إما لبدعتهم وإما لحبهم. وأما جمهور الأئمة والسلف فلا ينكرون ذلك؛ فإن السبب إذا لم يكن محظورا كان صاحبه فيما تولد عنه معذورا. لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم وضعف قلوبهم عن حمله فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين كما ذم الله الذين قال فيهم: {ثُمَّ ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى 2/ 385. (¬2) مجموع الفتاوى 11/ 562. (¬3) مجموعة الفتاوى 11/ 591.

قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74]. وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. ولو أثر فيهم آثارًا محمودة لم يجذبهم عن حد العقل. لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة كانوا محمودين أيضًا ومعذورين. فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك: إما نشيد مجرد نظير الغبار. وإما بالتصفيق ونحو ذلك. فهو السماع المحدث في الإسلام فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «خير القرون: القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» (¬1) وقد كرهه أعيان الأمة ولم يحضره أكابر المشايخ. الخ كلامه. وقال أيضا في منهاج السنة: (¬2) ونبينا - صلى الله عليه وسلم - والسابقون الأولون هم أفضل وما أصاب أحدًا منهم هذا الفناء ولا صعق ولا موت عند سماع القرآن وإنما تجد هذا الصعق في التابعين لا سيما في عُباد البصريين. ا. هـ. وقال في مختصر الفتاوى المصرية: (¬3) وأما سماع القرآن والتماوت أو الموت عنده والغشي ونحوه؛ كما نقل عن زُرارة بن أوفى قاضي البصرة، أنه سمع قارئًا يقرأ فإذا نقر في الناقور فمات، وكذا ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 20061) ومسلم (رقم: 6568) وأبو داود (رقم: 4657) والترمذي (رقم: 2222). (¬2) منهاج السنة 5/ 356. (¬3) مختصر الفتاوى المصرية ص 568.

جرى لأبي جهير، فأنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين، وظن ذلك تكلفًا وتصنعًا؛ كما قال ابن سيرين: بيننا وبين الذين يصعقون عن سماع القرآن أن يقرأ واحد منهم على رأس الحائط، فإن خر فهو صادق، ومنهم من أنكره؛ لأنه رآه بدعة مخالفة لما عرف من هدى الصحابة - رضي الله عنهم -، والذي عليه الجمهور من هؤلاء أنه إذا كان مغلوبًا لم ينكر عليه، وإن كان حال الثبات أكمل منه ولهذا لما سئل أحمد عن هذا، قال: قرىء القرآن على يحيى بن سعيد فغشي عليه، وأخذ أن يدفع عن نفسه، ولو قدر لدفعه، فما رأيت أعقل منه. ونقل عن الشافعي: أنه أصابه ذلك، وكذلك عن الفضيل بن عياض. وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه؛ لكن أحوال الصحابة ? هي التي ذكرت في القرآن من وجل القلوب ودمع العيون واقشعرار الجلود، وقد ينكر أحوال هؤلاء من عنده قسوة قلب لا يلين عند تلاوة القرآن، ويغلو فيهم من يظن أن حالهم أكمل الأحوال، فكل من الطرفين مذموم، بل المراتب ثلاثة، ظالم لنفسه الذي هو قاس القلب لا يلين للقرآن، ولا للذكر ففيه شبه من اليهود لقوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74]. الآية. والثاني: حال الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه، فهذا يصعق صعق موت، أو يشي لقوة الوارد، وليس هذا بعلامة على الإيمان أو التقوى، فإنه قد يحصل لمن يفرح أو يحزن أو يخاف أو يحب، ففي عشاق أهل الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه وكذلك في غيرهم. والحاصل أنه إذا لم يكن ثم تفريط ولا عدوان ولا ذنب له فيما

أصابه، وجعل له ضعف، فليس بملوم، كمن سمع القرآن سماعًا شرعيًا، ولم يفرط بترك ما وجب له من ذلك. ا. هـ. وقال ابن القيم في المدارج (¬1) ما نصه: وليس أيضا هذه الحال بلازمة لجميع السالكين، بل هي عارضة لبعضهم، منهم من يبتلى بها، كأبي يزيد وأمثاله، ومنهم من لا يبتلى بها، وهم أكمل وأقوى، فإن الصحابة - رضي الله عنهم -، وهم سادات العارفين، وأئمة الواصلين المقربين، وقدوة السالكين، لم يكن منهم من ابتلي بذلك، مع قوة إرادتهم، وكثرة منازلاتهم، ومعاينة ما لم يعاينه غيرهم، ولا شم له رائحة، ولم يخطر على قلبه، فلو كان هذا الفناء كمالًا لكانوا هم أحق به وأهله، وكان لهم منه ما لم يكن لغيرهم. ولا كان هذا أيضًا لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، ولا حالًا من أحواله، - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا في ليلة المعراج لما أسري به، وعاين ما عاين مما أراه الله إياه من آياته الكبرى، لم تعرض له هذه الحال، بل كان كما وصفه الله - عز وجل - بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17، 18]. وقال {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. وقال ابن عباس: هي رؤيا عين، أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به، ومع هذا فأصبح بينهم لم يتغير عليه حاله، ولم يعرض له صعق ولا غشي، يخبرهم عن تفصيل ما رأى، غير فانٍ عن نفسه، ولا عن شهوده، ولهذا كانت حاله أكمل من حال موسى بن عمران - رضي الله عنه - لما خر صعقا حين تجلى ربه للجبل وجعله دكًا. ا. هـ. ¬

(¬1) مدارج السالكين 1/ 177.

وقال الشاطبي في الاعتصام (¬1) ما نصه: وحكي أن شابا كان يصحب الجنيد إمام الصوفية في وقته، فكان الشاب إذا سمع شيئا من الذكر يزعق، فقال له الجنيد يومًا: إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني، فكان إذا سمع شيئًا يتغير ويضبط نفسه حتى كان يقطر العرق منه بكل شعرة من بدنه قطرة، فيومًا من الأيام صاح صيحة تلفت نفسه. فهذا الشاب قد ظهر فيه مصداق ما قاله السلف؛ لأنه لو كانت صيحته الأولى غلبته لم يقدر على ضبط نفسه، وإن كان بشدة، كما لم يقدر على ضبط نفسه الربيع بن خثيم، وعليه أدبه الشيخ حين أنكر عليه ووعده بالفرقة، إذ فهم منه أن تلك الزعقة من بقايا رعونة النفس، فلما خرج الأمر عن كسبه بدليل موته؛ كانت صيحته عفوًا لا حرج عليه فيها إن شاء الله. بخلاف هؤلاء القوم الذين لم يشموا من أوصاف الفضلاء رائحة، فأخذوا بالتشبه بهم، فأبرز لهم هواهم التشبه بالخوارج، ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد المذموم، ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر والدوران والضرب على الصدور، وبعضهم يضرب على رأسه، وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى؛ لكونه من أعمال الصبيان والمجانين، المبكي للعقلاء رحمة لهم، ولم يتخذ مثل هذا طريقًا إلى الله وتشبها بالصالحين. وقد صح من حديث العرباض بن سارية (¬2) - رضي الله عنه -؛ قال: «وعظنا ¬

(¬1) الاعتصام 2/ 355. (¬2) هو: عرباض بن سارية، أبو نجيح، السلمي، له صحبة. وهو من أهل الصفة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عبيدة بن الجراح. روت عنه ابنته أم حبيبة وكذلك روى عنه عبد الرحمن بن عمر السلمي وسويد بن جبلة السلمي وعمرو بن الأسود العنسي وأبو أمامة الباهلي وعبد الرحمن بن عائذ وغيرهم. قال ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد: كان عتبة بن عبيد يقول: عرباض خير مني، وعرباض يقول: عتبة خير مني، سبقني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنة. قال أبو بكر بن البرقي: له بضعة عشر حديثًا. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 174، وأسد الغابة 3/ 399، وسير أعلام النبلاء 3/ 419، والاستيعاب 3/ 1238.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة؛ ذرفت منها العيون، وجلت منها القلوب» الحديث. (¬1) فقال الإمام الآجري العالم السني أبو بكر: ميزوا هذا الكلام؛ فإنه لم يقل: صرخنا من موعظة، ولا زعقنا، ولا طرقنا على رؤوسنا، ولا ضربنا على صدورنا، ولا زفنّا، ولا رقصنا. كما يفعل كثير من الجهال؛ يصرخون عند المواعظ ويزعقون ويتغاشون. قال: وهذا كله من الشيطان يلعب بهم، وهذا كله بدعة وضلالة، ويقال لمن فعل هذا: اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصدق الناس موعظة، وأنصح الناس لأمته، وأرق الناس قلبًا، وخير الناس من جاء بعده، لا يشك في ذلك عاقل؛ ما صرخوا عند موعظته ولا زعقوا ولا رقصوا ولا زفنوا، ولو كان هذا صحيحا؛ لكانوا أحق الناس بهذا أن يفعلوه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه بدعة وباطل ومنكر، فاعلم ذلك. انتهى كلامه، وهو واضح فيما نحن فيه. ا. هـ. فائدة: أخرج أبو داود في سننه: (¬2) من طريق معاوية بن صالح، يحدث عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر (¬3) - رضي الله عنه -، ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 17184) أبو داود (رقم: 4609) والترمذي (رقم: 2676) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) أبو داود (رقم: 169) (¬3) هو: عقبة بن عامر بن عيسى الجهني، يكنى أبا حماد. وقيل غير ذلك. كان قارئًا عالمًا بالفرائض والفقه، قديم الهجرة والسابقة والصحبة. وهو أحد من جمع القرآن. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمر، وروى عنه أبو أمامة وابن عباس وقيس بن أبي حازم وآخرون. ولي إمرة مصر من قبل معاوية سنة 44 هـ. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 242. والاستيعاب 3/ 1073.

قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدام أنفسنا، نتناوب الرعاية - رعاية إبلنا - فكانت علي رعاية الإبل، فروحتها بالعشي، فأدركت رسول الله يخطب الناس، فسمعته يقول: «ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيركع ركعتين، يقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا قد أوجب»، فقلت: بخ بخ، ما أجود هذه، فقال رجل من بين يدي التي قبلها: يا عقبة، أجود منها، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب، فقلت: ما هي يا أبا حفص؟ قال: إنه قال آنفًا قبل أن تجيء: «ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقول حين يفرغ من وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء»، قال معاوية: وحدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، .. ثم أعاده من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة وهو ابن شريح، عن أبي عقيل، عن ابن عمه، عن عقبة بن عامر الجهني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، ولم يذكر أمر الرعاية، قال: عند قوله: «فأحسن الوضوء»، ثم رفع بصره إلى السماء، فقال: وساق الحديث، بمعنى حديث معاوية. وأصل الحديث عند مسلم. (¬1) لكن هذا السياق الذي فيه رفع البصر إلى السماء لا يثبت فيه جهاله. وأخرجه أيضا الدارمي (¬2) وسياقه عنده: من طريق حيوة، أنبأنا أبو عقيل زهرة بن معبد، عن ابن عمه، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، أنه ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 234). وأخرجه أحمد (رقم: 17352) والنسائي (رقم: 148) وابن ماجه (رقم: 419). (¬2) سنن الدارمي (رقم: 743).

خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما يحدث أصحابه، فقال: «من قام إذا استقلت الشمس، فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين، خرج من ذنوبه، كيوم ولدته أمه» فقال عقبة: فقلت: الحمد لله الذي رزقني أن أسمع هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكان تجاهي جالسا: أتعجب من هذا؟ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعجب من هذا قبل أن تأتي، فقلت: وما ذلك بأبي أنت وأمي؟ فقال عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع بصره إلى السماء - أو قال نظره إلى السماء - فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيهن شاء». فائدة أخرى: روى الطبراني في الدعاء (¬1)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (¬2): من طريق سلام الطويل، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قضى صلاته يعني وسلم مسح جبهته بيده اليمنى، ثم يقول: «بسم الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الرحيم، اللهم أذهب عني الهم والحزن» ولا يصح سلام واهي وزيد ضعيف. وهذا الفعل - أعني مسح الجبهة - عند السلام من الصلاة يكثر في مسلمي شرق آسيا، والله المستعان. فائدة: أخرج البخاري ومسلم: (¬3) من طريق مالك، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، مولى ابن عباس: أنه أخبره، عن عبد الله بن ¬

(¬1) الدعاء للطبراني (رقم: 659). (¬2) عمل اليوم والليلة لابن السني (رقم: 112). (¬3) البخاري (رقم: 1198) ومسلم (رقم: 763).

عباس - رضي الله عنه -: أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهي خالته - قال: فاضطجعت على عرض الوسادة، «واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله في طولها، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتصف الليل - أو قبله بقليل، أو بعده بقليل - ثم استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجلس، فمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر آيات خواتيم سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة، فتوضأ منها، فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي» الحديث. فائدة: قال الباجي: (¬1) وقوله استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده يحتمل أمرين: أحدهما: أنه أراد به إزالة النوم من الوجه. والثاني: إزالة الكسل بمسح الوجه. ا. هـ. وقال النووي في شرح مسلم: (¬2) قوله فجعل يمسح النوم عن وجهه معناه أثر النوم وفيه استحباب هذا. ا. هـ. فائدة: استحب بعضهم السجود المفرد للدعاء، وإليك النقول قال في الباعث: (¬3) واغتر بعض الجهال المتعلمين منهم بقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. وظن أن هذا يقتضي عموم السجود في جميع الأوقات، وأن كل سجود على الإطلاق يحصل به التقرب من الله تعالى، وهو قرب الكرامة، واتعضد بما جاء قبل ذلك من التعجب والإنكار في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9، 10]. وغفل عن السجود المقرب إلى الله تعالى هو السجود المأذون فيه، وهو المشروع لا كل ¬

(¬1) المنتقى شرح الموطأ 1/ 218. (¬2) شرح مسلم 6/ 46. (¬3) الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 29.

سجود من حيث الصورة والإنكار، وقع في الآية ووقع على ما ينهي عن الصلاة المأذون فيها، وهي المشروعة، فتلك لا ينبغي لأحد أن ينهى عنها. وقال: (¬1) وقال صاحب التتمة: جرت عادة بعض الناس بالسجود بعد الفراغ من الصلاة، يدعو فيه، قال: وتلك سجدة لا يعرف لها أصل، ولا نقلت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، والأولى أن يدعو بالصلاة لما روى من الأخبار فيه. والله أعلم. قلت- أبو شامة-: ولا يلزم من كون السجود قربة في الصلاة أن يكون قربه خارج الصلاة؛ كالركوع، قال الفقيه أبو محمد: لم ترد الشريعة بالتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب وشرائط وأوقات وأركان لا تصلح بدونها، وكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في وقته بأسبابه وشرائطه، فكذلك لا يتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة وإن كانت قربة. ا. هـ. وقال في كشاف القناع: (¬2) قال الشيخ: ولو أراد الدعاء فعفر وجهه لله في التراب وسجد له ليدعوه فيه، فهذا سجود لأجل الدعاء، ولا شيء يمنعه، والمكروه: هو السجود بلا سبب. ويعني بالشيخ ابن تيمية، والصحيح أنه لا يشرع، فالعبادة موقوفة على مورد الخبر. تنبيه: لا تشرع الإشارة بالسبابة بين السجدتين، وأما ما رواه ¬

(¬1) الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 61. (¬2) كشاف القناع 1/ 450.

أحمد: (¬1) قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر فرفع يديه حين كبر، يعني استفتح الصلاة، ورفع يديه حين كبر، ورفع يديه حين ركع، ورفع يديه حين قال: سمع الله لمن حمده وسجد فوضع يديه حذو أذنيه، ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ثم وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع ذراعه اليمنى على فخذه اليمنى، ثم أشار بسبابته، ووضع الإبهام على الوسطى، وقبض سائر أصابعه، ثم سجد، فكانت يداه حذاء أذنيه. وفيه إثبات الإشارة بين السجدتين، فخبر شاذ تفرد به عبد الرزاق، عن الثوري، وقد خالفه عبد الله بن الوليد العدني عند أحمد (¬2) والحميدي (¬3) في مسنده ومحمد بن يوسف الفريابي (ثلاثتهم) عن الثوري فلم يذكروا ما ذكر عبد الرزاق من الإشارة بين السجدتين. وأما أصل حديث وائل بطرقه، وكذا الأخبار في هذه الجلسة، فليس فيها ذكر الإشارة في هذا الموضع البتة، ولا أعلم أحدا قال بالإشارة في هذا الموضع؛ إلا الشيخ ابن عثيمين، ولم يسبقه أحد، ولم يوافقه أحد. وقد بحثت هذه المسألة بتوسع في نفح العبير فراجعه إن أحببت. تنبيه: رفع اليدين عند الدعاء مما تواترت به الأخبار، لكن ها هنا تقسيم فالأحوال ثلاثة: ¬

(¬1) أحمد (رقم: 18858). (¬2) أحمد (رقم: 18871). (¬3) الحميدي (رقم: 909).

1 - أن يثبت الدعاء مع رفع اليدين. 2 - أن يثبت الدعاء مع ترك الرفع. 3 - أن يثبت الدعاء ويسكت عن الرفع، فهنا لا يواظب على رفع اليدين، ويلزمه ملازمة الحال الأول، ولكن لا بأس بالرفع في الحين بعد الحين. وأما الحالة الثانية: فمن أمثلتها الرفع أدبار الصلوات المفروضة، فلم يجيء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يرفع يديه، فإن قيل قد أخرج الشيخان: (¬1) من طريق عمرو بن ميمون الأودي، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان، فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته، رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، ثم قال: «اللهم، عليك بقريش» ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: «اللهم، عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط» - وذكر السابع ولم أحفظه- فوالذي بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا ¬

(¬1) والبخاري (رقم: 237) ومسلم (رقم: 1794).

إلى القليب- قليب بدر- قال أبو إسحاق: «الوليد بن عقبة غلط في هذا الحديث» فالجواب أن هذا وقع لعارض كما هو صريح الحديث. وأما ما رواه البخاري: (¬1) من طريق حميد عن أنس - رضي الله عنه -: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم سليم فأتته بتمر وسمن، قال: «أعيدوا سمنكم في سقائه وتمركم في وعائه فإني صائم». ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت أم سليم: يا رسول الله إن لي خويصة، قال: «ما هي». قالت: خادمك أنس. فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به، قال: «اللهم ارزقه مالًا وولدًا وبارك له». فإني لمن أكثر الأنصار مالًا. وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مقدم حجاج البصرة بضع وعشرون ومائة. فالجواب عنه كالجواب عما قبله، لكنه دعاء دعت له الحاجة حينئذ، وإلا لم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام الدعاء عقيب النافلة. مع أن الأمر في النافلة عمومًا أوسع منه في الفريضة. فتدبره. ولهذا الحافظ البخاري في صحيحه عقد بابًا: الدعاء بعد الصلاة. (¬2) ولم يذكر فيه سوى الأذكار المعروفة من التسبيح والتهليل كما في حديث أبي هريرة (¬3) وحديث المغيرة. (¬4) تنبيه: المراد بترك الدعاء في هذا الموضع الدعاء الذي لم يرد في السنة بخلاف الاستغفار ونحوه من الأدعية الثابتة دبر الصلاة المكتوبة. ¬

(¬1) البخاري (رقم: 1982). (¬2) البخاري (8/ 72). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 6329). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 6330).

فائدة: روى أحمد (¬1) وغيره: (¬2) من طريق الليث بن سعد، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمران، عن عبد الله، عن ربيعة بن الحارث، عن الفضل بن العباس (¬3) - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين، وتضرع، وتخشع، وتساكن، ثم تقنع يديك- يقول: ترفعهما - إلى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك، وتقول: يا رب، يا رب- ثلاثا- فمن لم يفعل ذلك فهي خداج» ولا يصح. عبد الله الراوي عن ربيعة هو ابن نافع بن العمياء قال البخاري: (¬4) لا يصح حديثه. وفي معناه أخبار لا تثبت. قال في الهدي: (¬5) وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين، فلم يكن ذلك من هديه - صلى الله عليه وسلم - أصلًا، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن. فائدة: في فتاوي (¬6) شيخنا ابن باز - رحمه الله - ما نصه: من ¬

(¬1) أحمد (رقم: 17525). (¬2) الترمذي (رقم: 385) والنسائي (رقم: 615) والمعجم الكبير للطبراني (رقم: 757) والبزار (رقم: 2169) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 4758). (¬3) هو: الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو محمد، الهاشمي القرشي من شجعان الصحابة ووجوههم، غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وحنينًا، وثبت يومئذ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد معه حجة الوداع وأردفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراءه، فيقال: «ردف رسول الله»، وخرج بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - مجاهدا إلى الشام، فاستشهد في وقعة أجنادين (بفلسطين) وقيل مات بناحية الأردن في طاعون عمواس. له 24 حديثًا. انظر: طبقات ابن سعد 4/ 54، وتاريخ الخميس 1/ 166، الأعلام 5/ 355. (¬4) التاريخ الكبير 5/ 213. (¬5) زاد المعاد 1/ 249. (¬6) الفتاوى لابن باز 11/ 182.

عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم وفقه الله لما فيه رضاه آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده يا محب. كتابكم الكريم وصل وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من السؤال حول موضوع حكم رفع اليدين في الدعاء بعد التسليم من صلاة الفريضة وغيرها. إلخ. كان معلوما وعليه نفيدكم بأن رفع اليدين في الدعاء سنة، ومن أسباب الإجابة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا». (¬1) والأحاديث كثيرة صحت في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما رفع اليدين في المواضع التي لم يرفع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - كالرفع بعد صلاة الفريضة للإمام والمأموم والمنفرد، فلا يشرع لأحد منهم أن يرفع يديه بعد الفريضة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفعهما بعد سلامه من الفريضة. أما النوافل فلا بأس بالرفع في الدعاء بعده بين وقت وآخر، لا بصفة دائمة، وهكذا لا يشرع رفع اليدين في خطبة الجمعة وخطبة العيدين، ولا بين السجدتين ولا بعد قراءة التحيات قبل أن يسلم، ونحو ذلك من المواضع التي لم يرفع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويشرع الرفع في خطبة الاستسقاء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه في خطبة صلاة الاستسقاء، وهكذا رفع يديه لما استسقى في خطبة الجمعة ورفع الناس أيديهم، وبما ذكرنا تجتمع الأحاديث الواردة في ذلك وقد نص جمع من أهل العلم على ما ذكرنا. ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للفقه في دينه والثبات عليه إنه ¬

(¬1) أخرجه: أبو داود (رقم: 1488)، والترمذي (رقم: 3556)، وابن ماجه (رقم: 3865).

سبحانه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس العام لإدارات البحوث ا. هـ. فائدة: السنة في التشهد في الصلاة الإشارة بالسبابة دون تحريك وأصل المسألة ما رواه أحمد في مسنده (¬1) وغيره: (¬2) من طريق زائدة، حدثنا عاصم بن كليب، أخبرني أبي، أن وائل بن حجر الحضرمي (¬3)، أخبره قال: قلت: لأنظرن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف يصلي؟ قال: فنظرت إليه قام فكبر، ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، والرسغ والساعد، ثم قال: لما أراد أن يركع، رفع يديه مثلها ووضع يديه على ركبتيه، ثم رفع رأسه، فرفع يديه مثلها، ثم ساد، فاعل كفيه بحذاء أذنيه، ثم قعد فافترش رجله اليسرى، فوضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض بين أصابعه فحلق حلقة، ثم رفع إصبعه، فرأيته يحركها يدعو بها. والحديث ثابت دون قوله: فرأيته يحركها يدعو بها. فهي ¬

(¬1) أحمد (رقم: 18870). (¬2) أخرجه أبو داود (723) والترمذي (رقم: 268) وقال: حسن غريب، والنسائي (رقم: 888) وابن ماجة (رقم: 882). (¬3) هو: وائل بن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل، أبو هنيدة، الحضرمي القحطاني، صحابي. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه ابناه علقمة وعبد الجبار وكليب بن شهاب، وغيرهم. قال أبو نعيم الأصبهاني: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزله وأصعده معه على المنبر وأقطعه القطائع وكتب له عهدًا، وقال: هذا وائل بن حجر سيد الأقيال جاءكم حبًا لله ولرسوله، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بشرَ أصحابه بقدومه قبل أن يصل بأيام، وكان أبوه من ملوك حضرموت، وذكره ابن سعد فيمن نزل الكوفة من الصحابة. انظر: الإصابة 3/ 628، وأسد الغابة 4/ 659، وتهذيب التهذيب 11/ 108، والأعلام 9/ 117.

زيادة شاذة انفرد بها زائدة- وهو ابن قدامة- من بين أصحاب عاصم بن كليب. وقد خالفه كل من: عبد الواحد بن زياد، وشعبة، وسفيان الثوري، وزهير بن معاوية، وسفيان بن عيينة، وسلام بن سليم أبو الأحوص، وبشر بن المفضل، وعبد الله بن إدريس، وقيس بن الربيع، وأبو عوانة، وخالد بن عبد الله الواسطي والمحفوظ في الأحاديث الإشارة حسب، ولما أخرجه ابن خزيمة (¬1) قال: ليس في شيء من الأخبار يحركها إلا في هذا الخبر زائد ذكره. ا. هـ. وقد جاء نفي التحريك عند أبي داود (¬2)، والنسائي (¬3)، وأبو عوانة (¬4)، والبيهقي (¬5): من طريق محمد بن عجلان، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير (¬6) - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها. وقد ذكر أبو عوانة في مسنده هذا الحديث تحت قوله: بيان الإشارة بالسبابة إلى القبلة ورمي البصر إليها وترك تحريكها في الإشارة. ¬

(¬1) ابن خزيمة (رقم: 714). (¬2) أبو داود (رقم: 989). (¬3) النسائي (رقم: 1193). (¬4) مسند أبي عوانة (رقم: 2019). (¬5) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 2897). (¬6) هو: عبد الله بن الزبير بن العوام من بني أسد من قريش. فارس قريش في زمنه. أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق. أول مولود للمسلمين بعد الهجرة. شهد فتح إفريقية زمن عثمان، وبويع له بالخلافة بعد وفاة يزيد بن معاوية، فحكم مصر والحجاز واليمن وخرسان والعراق وبعض الشام. وكانت إقامته بمكة. سير إليه عبد الملك بن مروان جيشًا مع الحجاج بن يوسف، وانتهي حصار الحجاج لمكة بمقتل ابن الزبير. له في الصحيحين 33 حديثًا. انظر: الأعلام للزركلي 4/ 218؛ وفوات الوفيات 1/ 210؛ وابن الأثير 4/ 135.

وقال البيهقي (¬1) في الجمع بين لفظة (يحركها) وحديث ابن الزبير ما نصه: فيحتمل أن يكون المراد بالتحريك الإشارة بها لا تكرير تحريكها، فيكون موافقا لرواية ابن الزبير، والله تعالى أعلم. ا. هـ. قال أبو محمد: وفيه نظر: أولًا: أن تأويله في التحريك بعيد. وثانيًا: أنها شاذة كما تقدم. وثالثًا: أن زيادة «ولا يحركها» تفرد بها ابن عجلان، وقد خولف فيه لما أخرجه أبو داود: (¬2) من طريق محمد بن عجلان، عن عامر بن عبد الله، عن عبد الله بن الزبير، أنه ذكر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بأصبعه إذا دعا، ولا يحركها- زاد- قال ابن جريج: وزاد عمرو بن دينار، قال: أخبرني عامر، عن أبيه، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو كذلك، ويتحامل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده اليسرى على فخذه اليسرى. وعمرو أثبت وسياقه هو المحفوظ. فائدة: أخرج أبو داود والنسائي (¬3) وغيرهما: (¬4) من طريق عصام بن قدامة- من بني بجيلة- عن مالك بن نمير الخزاعى، عن أبيه قال: رأيت النبى - صلى الله عليه وسلم - واضعا ذراعه اليمنى على فخذه اليمنى رافعًا أصبعه السبابة قد حناها شيئًا. وهذا إسناد مقارب. قال أبو بكر البرقاني كما في سؤلاته للدارقطني (¬5) عن الدارقطني: لا يحدث عن أبيه إلا هو، يعتبر به، ولا بأس بأبيه .. ¬

(¬1) البيهقي (رقم: 2787). (¬2) أبو داود (رقم: 989). (¬3) أبو داود (رقم: 991) والنسائي (رقم: 1271). (¬4) أخرجه أحمد (رقم: 15960) وابن ماجة (رقم: 911) وابن خزيمة (رقم: 715) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 2896). (¬5) سؤالات البرقاني للدارقطني (رقم: 496).

وتعقبه في تهذيب التهذيب (¬1) بقوله: قلت: هذا الكلام فيه نظر فإن أباه ذكر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا في الصلاة. الحديث، فإن ثبت إسناده فهو صحابي. وقال ابن القطان: لا يعرف حال مالك ولا روى عن أبيه غيره. وقال الذهبي لا يعرف. قال أبو محمد: يحتمل مثل هذا فإنه لا نكارة في المتن مع أن نميرًا لم تثبت صحبته إلا من طريق ابنه. وقوله: حناها شيئا. هو بمقتضى العادة لا التكلف. فلا يجعلها كالرمح السمهري في الاستقامة ولا المحجن في الانحناء بل على العادة. تنبيه: أحاديث مسح الوجه بعد الدعاء لا يصح منها شيء. فائدة: أخرج البخاري في الأدب المفرد (¬2)، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح قال: أخبرني أبي، عن أبي نعيم وهو وهب قال: رأيت ابن عمر وابن الزبير يدعوان، يديران بالراحتين على الوجه. وهذا إسناد ضعيف فليح متكلم فيه. مع عدم صراحة الخبر في المسح فيحتمل يرفعان أيديهما بحذاء الوجه. وهذا ظاهر ترجمة البخاري حيث قال: باب رفع الأيدي في الدعاء. ¬

(¬1) تهذيب التهذيب 11/ 23. (¬2) الأدب المفرد (رقم: 609).

الحكم الثلاثون

الحكم الثلاثون عند الجمع بين الأذكار التي يسوغ الجمع بينها لا يشترط ترتيب معين؛ إلا أن يدل الدليل على تقديم وتأخير؛ كما في حديث البراء - رضي الله عنه -، وقد تقدم ذكره وفيه: «واجعلهن آخر ما تقول» (¬1) فهذا في التأخير، ومن التقديم الاستغفار دبر الصلاة، فعن ثوبان (¬2) - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا انصر من صلاته استغفر ثلاثا، وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام» أخرجه مسلم (¬3) وغيره (¬4)، ثم بعد ذلك يأتي بالأذكار دبر الصلاة. ¬

(¬1) البخاري (رقم: 244)، وأخرجه: مسلم (رقم: 2710) الترمذي (رقم: 3394). (¬2) هو: ثوبان بن بجدد، أبو عبد الله: مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصله من أهل السراة (بين مكة واليمن) اشتراه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أعتقه، فلم يزل يخدمه إلى أن مات، فخرج ثوبان إلى الشام فنزل الرملة (في فلسطين) ثم انتقل إلى حمص فابتنى فيها دارًا، وتوفي بها. له 128 حديثًا. الأعلام للزركلي 2/ 102، الاستيعاب 1/ 209 وحلية الأولياء 1/ 180. (¬3) مسلم (رقم: 591). (¬4) وأخرجه: أحمد (رقم: 22723) والدارمي (رقم: 1348) وأبو داود (رقم: 1513) وابن ماجة (رقم: 928) والترمذي (رقم: 300) والنسائي (رقم: 1261).

قال في الشرح الممتع: (¬1) والتَّرتيب بعد الاستغفار، وقوله: «اللَّهمَّ أنت السَّلام، ومنك السَّلام» لا أعلم فيه سُنة، فإذا قدَّم شيئًا على شيء فلا حَرج. ا. هـ. والأمر هنا واضح جلي؛ فلا داعي للتطويل، والحمد لله. ¬

(¬1) الشرح الممتع 3/ 222.

الحكم الواحد والثلاثون

الحكم الواحد والثلاثون يجب صون محال الذكر ومجالسه من القواطع والمفسدات والمشوشات، حتى تتم الفائدة، ولذا روى مسلم عن هريرة - رضي الله عنه -، يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا» ولفظه عند الترمذي (¬1) وغيره (¬2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك». وفي صحيح مسلم: (¬3) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلني منكم، أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثلاثا، وإياكم وهيشات الأسواق» ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (رقم: 1321) وقال: حسن غريب. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 8572) ومسلم (رقم: 568) وأبو داود (رقم: 473) والنسائي (رقم: 10004) وابن ماجه (رقم: 767) ابن خزيمة (رقم: 1302) وأبو عوانة (رقم: 1212) وابن حبان (رقم: 1651) والبيهقي (رقم: 4140). (¬3) مسلم (قم: 432).

فائدة: أخرج أحمد في مسنده: (¬1) قال: حدثنا خلف، حدثنا خالد، عن مطر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه -: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يرفع الرجل صوته بالقراءة قبل العشاء وبعدها، يغلط أصحابه وهم يصلون. والحارث ضعيف، وله شاهد عند أحمد: (¬2) من طريق معمر، عن صدقة المكي، عن عبد الله بن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف وخطب الناس فقال: «أما إن أحدكم إذا قام في الصلاة، فإنه يناجي ربه، فليعلم أحدكم ما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة في الصلاة». وأخرج أحمد وأبو داود: (¬3) من طريق معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة وهو في قبة له، فكشف الستور، وقال: «إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة»، أو قال: «في الصلاة» وهو خبر ثابت. وخرج مالك في موطئه: (¬4) عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي حازم التمار، عن البياضي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على الناس وهم يصلون، وقد علت أصواتهم بالقراءة، وقال: إن المصلي يناجي ربه فلينظر ما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن. وأخرجه أحمد من طريق مالك. (¬5) ¬

(¬1) أحمد (رقم: 663). (¬2) أحمد (رقم: 4928). (¬3) أخرجه أحمد (رقم: 11896) وأبو داود (رقم: 1334). (¬4) موطأ مالك (رقم: 264). (¬5) مسند أحمد (رقم: 19022).

فائدة: قال في التمهيد (¬1) ما نصه: وقال ابن عيينة: إنما رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخميصة إلى أبي جهم؛ لأنه كرهها إذ كانت سبب غفلة، وشغل عن ذكر الله كما فعل في الموضع الذي نام فيه عن الصلاة، لما نال فيه الشيطان منهم من الغفلة، قال: ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبعث إلى أبي جهم بشيء يكرهه لنفسه، ألم تسمع قوله لعائشة: «لا تتصدقي بما لا تأكلين» (¬2) وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقوى خلق الله على أمر الله على أمر الله، وعلى رد كل وسوسة، ولكنه كرهها وأبغضها إذ كانت سبب الغفلة عن الذكر. ا. هـ. فائدة: أخرج أحمد في مسنده: (¬3) من طريق شريك، وزائدة فرقه في موضعين؛ كلاهما عن عبد الملك بن عمير، عن أبي روح الكلاعي، قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة، فقرأ فيها سورة الروم، فلب س بعضها، قال: «إنما لبس علينا الشيطان، القراءة من أجل أقوام يأتون الصلاة بغير وضوء، فإذا أتيتم الصلاة فأحسنوا الوضوء». وهذا مرسل فإن أبا روح تابعي، ورواه أحمد: (¬4) من طريق شعبة، والثوري فرقه في موضعين كلاهما عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت شبيبًا أبا روح يحدث، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: صلى الصبح فقرأ فيها الروم فأوهم، فذكره هكذا موصولًا وهو أصح .. ¬

(¬1) التمهيد 20/ 109. (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (رقم: 1832). قال الهيثمي (3/ 113): فيه خالد القسري، وفيه كلام. (¬3) أحمد (رقم: 15872 - 15874). (¬4) أحمد (رقم: 15873 - 23072).

وكذا أخرجه النسائي (¬1) من طريق الثوري، وأبو روح يقال اسمه شبيب، وقد روى عنه حريز بن عثمان، وقد قال أبو داود شيوخ حريز بن عثمان كلهم ثقات. قال في الوهم والإيهام: (¬2) قال ابن الجارود، عن محمد بن يحيى الذهلي: هذا شعبة، وعبد الملك بن عمير في جلالتهما يرويان عن شبيب أبي روح، وروى عنه أيضا حريز بن عثمان. هذا كله غير كافي المبتغى من عدالته فاعلمه. ا. هـ. والخبر أعله ابن عبد البر في التمهيد بالاضطراب. قلت: ويخشى أيضا من تخاليط عبد الملك بن عمير، وغلطه فقد وصفه أحمد بكثرة ذلك، مع ما في المتن من الغرابة، فأنى له الثبوت؟ والخبر ذكره ابن كثير في تفسيره (¬3)، وقال: وهذا إسناد حسن، ومتن حسن، وفيه سر عجيب، ونبأ غريب، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - تأثر بنقصان وضوء من ائتم به، فدل ذلك على أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام ... قال أبو محمد: وقوله إسناد حسن ليس بحسن. وقال في موضع آخر: (¬4) فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها. وقال السندي في حاشيته على المسند ما نصه: قوله: «فلبس» بالتخفيف أو التشديد، أي: خلط. ¬

(¬1) النسائي (رقم 947). (¬2) الوهم والإيهام 5/ 31. (¬3) تفسير ابن كثير ط العلمية 6/ 294. (¬4) تفسير ابن كثير ط العلمية 4/ 189.

«بغير وضوء» أي: حسن، بقرينة: فأحسنوا الوضوء، ويحتمل أن بعض المنافقين ما كانوا يتوضؤون من الأصل. وبالجملة، فهذا من صفاء قلبه صلى الله عليه حيث ظهر له أثر قلة مراعاتهم آداب الطهارة، كالمرآة المجلوة، والله أعلم. ا. هـ. فائدة: قال ابن القيم في المدارج (¬1) ما نصه: فإن قيل: ما تقولون في صلاة من عدم خشوع هل يعتد بها أم لا؟ قيل: أما الاعتداد بها في الثواب فلا يعتد له فيها إلا بما عقل فيه منها، وخشع فيه لربه. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. وفي المسند (¬2) مرفوعا: «إن العبد ليصلي الصلاة، ولم يكتب له إلا نصفها، أو ثلثها، أو ربعها حتى بلغ عشرها». وقد علق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم، فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح، ولو اعتد له بها ثوابا لكان من المفلحين. وأما الاعتداد بها في أحكام الدنيا، وسقوط القضاء فإن غلب عليها الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعًا، وكانت السنن، والأذكار عقيبها جوابر ومكملات لنقصها. ¬

(¬1) مدارج السالكين 1/ 521. (¬2) لم أجده بهذا النص. والموجود عند أحمد (رقم: 18894) عن عبد الله بن عنمة قال: رأيت عمار بن ياسر دخل المسجد فصلى، فأخف الصلاة، قال: فلما خرج قمت إليه، فقلت: يا أبا اليقظان لقد خففت قال: فهل رأيتني انتقصت من حدودها شيئًا؟ قلت: لا، قال: فإني بادرت بها سهوة الشيطان. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها.

وإن غلب عليه عدم الخشوع فيها، وعدم تعقلها، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها، فأوجبها أبو عبد الله بن حامد من أصحاب أحمد، وأبو حامد الغزالي في إحيائه، لا في وسيطه وبسيطه. واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عليها، ولم يضمن له فيها الفلاح، فلم تبرأ ذمته منها، ويسقط القضاء عنه كصلاة المرائي. قالوا: ولأن الخشوع والعقل روح الصلاة ومقصودها ولُبُّها، فكيف يعتد بصلاة فقدت روحها ولبُّها، وبقيت صورتها وظاهرها؟. قالوا: ولو ترك العبد واجبًا من واجباتها عمدا لأبطلها تركه. وغايته: أن يكون بعضا من أبعاضها بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المعتق في الكفارة، فكيف إذا عدمت روحها، ولبها ومقصودها؟ وصارت بمنزلة العبد الميت، إذا لم يعتد بالعبد المقطوع اليد، يعتقه تقربًا إلى الله تعالى في كفارة واجبة، فكيف يعتد بالعبد الميت. وقال بعض السلف: الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك، فما الظن بمن يهدي إليه جارية شلاء، أو عوراء، أو عمياء، أو مقطوعة اليد والرجل، أو مريضة، أو دميمة، أو قبيحة، حتى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة، فكيف بالصلاة التي يهديها العبد، ويتقرب بها إلى ربه تعالى؟ والله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وليس من العمل الطيب صلاة لا روح فيها، كما أنه ليس من العتق الطيب عتق عبد لا روح فيه. قالوا: وتعطيل القلب عن عبودية الحضور والخشوع: تعطيل لملك الأعضاء عن عبوديته، وعزل له عنها، فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها، وقد عزل ملكها وتعطل؟. قالوا: والأعضاء تابعة للقلب، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده،

فإذا لم يكن قائمًا بعبوديته، فالأعضاء أولى أن لا يعتد بعبوديتها، وإذا فسدت عبوديته بالغفلة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه، وعن أمره يصدرون، وبه يأتمرون؟. قالوا: وفي الترمذي وغيره (¬1)، مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل» وهذا إما خاص بدعاء العبادة، وإما عام له ولدعاء المسألة، وإما خاص بدعاء المسألة الذي هو أبعد، فهو تنبيه على أنه لا يقبل دعاء العبادة الذي هو خاص حقه من قلب غافل. قالوا: ولأن عبودية من غلبت عليه الغفلة والسهو في الغالب لا تكون مصاحبة للإخلاص، فإن الإخلاص قصد المعبود وحده بالتعبد. والغافل لا قصد له، فلا عبودية له. قالوا: وقد قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5]. وليس السهو عنها تركها، وإلا لم يكونوا مصلين، وإنما هو السهو عن واجبها إما عن الوقت كما قال ابن مسعود وغيره، وإما عن الحضور والخشوع، والصواب أنه يعم النوعين، فإنه سبحانه أثبت لهم صلاة، ووصفهم بالسهو عنها فهو السهو عن وقتها الواجب، أو عن إخلاصها وحضورها الواجب، ولذلك وصفهم بالرياء، ولو كان السهو سهو ترك لما كان هناك رياء. قالوا: ولو قدرنا أنه السهو عن واجب فقط، فهو تنبيه على ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (رقم: 3479) وقال: حديث غريب. والحاكم (رقم: 1817) وقال: مستقيم الإسناد. وتعقبه الذهبي في التلخيص بأن فيه صالح المري متروك. وأخرجه أيضًا: ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (4/ 75)، والطبراني في الأوسط (رقم: 5109) وابن عدي (4/ 60، ترجمة 912 صالح بن بشير أبو بشر المري) وقال: قال البخاري: منكر الحديث، والرافعي (3/ 329).

التوعد بالويل على سهو الإخلاص والحضور بطريق الأولى لوجوه: أحدها: أن الوقت يسقط في حال العذر، وينتقل إلى بدله، والإخلاص والحضور لا يسقط بحال، ولا بدل له. الثاني: أن واجب الوقت يسقط لتكميل مصلحة الحضور، فيجوز الجمع بين الصلاتين للشغل المانع من فعل إحداهما في وقتها بلا قلب ولا حضور، كالمسافر، والمريض، وذي الشغل الذي يحتاج معه إلى الجمع، كما نص عليه أحمد وغيره. فبالجملة: مصلحة الإخلاص والحضور، وجمعية القلب على الله في الصلاة أرجح في نظر الشارع من مصلحة سائر واجباتها، فكيف يظن به أنه يبطلها بترك تكبيرة واحدة، أو اعتدال في ركن، أو ترك حرف، أو شدة من القرآن، أو ترك تسبيحة أو قول سمع الله لمن حمده أو قول ربنا ولك الحمد أو ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليه، ثم يصححها مع فوت لُبها، ومقصودها الأعظم، وروحها وسرها. فهذا ما احتجت به هذه الطائفة، وهي حجج كما تراها قوة وظهورًا. قال أصحاب القول الآخر: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح (¬1) أنه قال: «إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان، وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وبين نفسه، فيذكره ما لم يكن يذكر، ويقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل ¬

(¬1) البخاري (رقم: 1222) ومسلم (رقم: 389).

الرجل لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس». قالوا: فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الصلاة التي قد أغفله الشيطان فيها، حتى لم يدر كم صلى بأن يسجد سجدتي السهو، ولم يأمره بإعادتها، ولو كانت باطلة كما زعمتم لأمره بإعادتها. قالوا: وهذا هو السر في سجدتي السهو، ترغيما للشيطان في وسوسته للعبد، وكونه حال بينه وبين الحضور في الصلاة. ولهذا سماهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المرغمتين» (¬1)، وأمر من سها بهما ولم يفصل في سهوه الذي صدر عنه موجب السجود بين القليل والكثير، والغالب والمغلوب، وقال «لكل سهو سجدتان» (¬2) ولم يستثن من ذلك السهو الغالب، مع أنه الغالب. قالوا: ولأن شرائع الإسلام على الأفعال الظاهرة، وأما حقائق الإيمان الباطنة فتلك عليها شرائع الثواب والعقاب، فلله تعالى حكمان: حكم في الدنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح، وحكم في الآخرة على الظواهر والبواطن، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانية المنافقين، ويكل أسرارهم إلى الله فيناكحون، ويرثون ويورثون، ويعتد بصلاتهم في أحكام الدنيا، فلا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة، إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة، وأحكام الثواب والعقاب ليست إلى البشر، بل إلى الله، والله يتولاه في الدار الآخرة. ¬

(¬1) أبو داود (رقم: 1027) وابن خزيمة (رقم: 1063). (¬2) أخرجه الطيالسي (رقم: 997) وعبد الرزاق (رقم: 3533) وابن ابي شيبة (رقم: 4483) وأحمد (رقم: 22470) وأبو دواد (رقم: 1038) وابن ماجه (رقم: 1219) والطبراني (رقم: 1412) والبيهقي (رقم: 3638).

نعم لا يحصل مقصود هذه الصلاة من ثواب الله عاجلًا ولا آجلا، فإن للصلاة مزيد ثواب عاجل في القلب من قوة إيمانه، واستنارته، وانشراحه وانفساحه ووجود حلاوة العبادة، والفرح والسرور، واللذة التي تحصل لمن اجتمع همه وقلبه على الله، وحضر قلبه بين يديه، كما يحصل لمن قربه السلطان منه، وخصه بمناجاته والإقبال عليه والله أعلى وأجل. وكذلك ما يحصل لهذا من الدرجات العلى في الآخرة، ومرافقة المقربين. كل هذا يفوته بفوات الحضور والخضوع، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وليس كلامنا في هذا كله. فإن أردتم وجوب الإعادة لتحصل هذه الثمرات والفوائد فذاك إليه إن شاء أن يحصلها وإن شاء أن يفوتها على نفسه، وإن أردتم بوجوبها أنا نلزمه بها ونعاقبه على تركها، ونرتب عليه أحكام تارك الصلاة فلا. وهذا القول الثاني أرجح القولين، والله أعلم. ا. هـ.

الحكم الثاني والثلاثون

الحكم الثاني والثلاثون الأذكار عبادة فلا تثبت بالتجارب ولا بالاستحسان، ولا بالذوق، فإذا ثبت ذكر في محل فلا يثبت في شبيهه أو نظيره ما لم يدل دليل، ولهذا فلا يكون بعد صلاة النافلة من الأذكار مثل ما ثبت في الفريضة، وفي مجموع فتاوي أبي العباس: (¬1) وسئل - رحمه الله -: عمن يقول: أنا أعتقد أن من أحدث شيئا من الأذكار غير ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصح عنه أنه قد أساء وأخطأ؛ إذ لو ارتضى أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيه وإمامه ودليله، لاكتفى بما صح عنه من الأذكار، فعدوله إلى رأيه واختراعه جهل وتزيين من الشيطان وخلاف للسنة؛ إذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يترك خيرا إلا دلنا عليه وشرعه لنا، ولم يدخر الله عنه خيرا؛ بدليل إعطائه خير الدنيا والآخرة؛ إذ هو أكرم الخلق على الله فهل الأمر كذلك أم لا؟. فأجاب: الحمد لله، لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع، فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة والفوائد والنتائج التي ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 22/ 510.

تحصل لا يعبر عنه لسان ولا يحيط به إنسان، وما سواها من الأذكار قد يكون محرما وقد يكون مكروها، وقد يكون فيه شر، مما لا يهتدي إليه أكثر الناس، وهي جملة يطول تفصيلها. وليس لأحد أن يسن للناس نوعا من الأذكار والأدعية غير المسنون، ويجعلها عبادة راتبة يواظب الناس عليها، كما يواظبون على الصلوات الخمس؛ بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به؛ بخلاف ما يدعو به المرء أحيانًا من غير أن يجعله للناس سنة، فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معنى محرمًا لم يجز الجزم بتحريمه؛ لكن قد يكون فيه ذلك والإنسان لا يشعر به. وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت فهذا وأمثاله قريب. وأما اتخاذ ورد غير شرعي واستنان ذكر غير شرعي: فهذا مما ينهى عنه ومع هذا ففي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة ونهاية المقاصد العلية ولا يعدل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مفرط أو متعد. ا. هـ. قال أبو محمد: وفي إحداث الأذكار واختراعها: استدراك على الشارع، وهجر للمشروع، وتغرير بالعامة .. وهنا مسألة: إذا كان البدل له حكم المبدل فما المانع -إذا استوى معه في جميع الوجوه-؟ فإذا قلنا تشرع التسمية في الوضوء فكذا في الغسل من الحدث وقد صح عن عمر التسمية عنده، قال ابن المنذر في الأوسط: (¬1) حدثنا موسى بن هارون، ثنا أبي، ثنا محمد بن بكير، ثنا ابن جري، قال: أخبرني عطاء، قال: أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه، قال: بينما عمر يغتسل إلى بعير وأنا أستر، عليه بثوب يعلى الساتر قال: بسم الله. ا. هـ. فكذا تشرع عند التيمم؛ ¬

(¬1) الأوسط 1/ 367.

قال البخاري في صحيحه: (¬1) باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء. وروى أهل السنن خلا ابن ماجه: (¬2) من طريق قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين» وهذا لفظ النسائي مختصر .. فسماه النبي عليه الصلاة والسلام وضوءًا. ¬

(¬1) صحيح البخاري 1/ 75. (¬2) أخرجه أبو داود (رقم: 332) والترمذي (رقم: 124) والنسائي (رقم: 322) وابن حبان (رقم: 1313) وقال الحافظ في المختصر: إسناده قوي، وصححه ابن حبان والدارقطني.

الحكم الثالث والثلاثون

الحكم الثالث والثلاثون الأصل فيما يشغل ويصد عن الذكر أنه مكروه، فإن أشغل عما يجب من الذكر والقراءة فهو حرام. قال الله جل وعلا في تحريم الخمر وما يصد عن الطاعة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91]. قال السعدي في تفسيره (¬1) بعد كلام: ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالخمر والميسر، يصدانه عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لُبّه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو، فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن ص 243.

وعن الصلاة؟ فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟ ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها، عرضا بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. لأن العاقل- إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ. ا. هـ. وقال البخاري في صحيحه: باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر، حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن. ثم أخرج: (¬1) من طريق سالم، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأن يمتلئ جو أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا». قال في فتح الباري: (¬2) وقال النووي: استدل به على كراهة الشعر مطلقًا، وإن قل، وإن سلم من الفحش، وتعلق بقوله في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: «خذوا الشيطان» (¬3) وأجيب باحتمال أن يكون كافرا، أو كان هو الغالب عليه، أو كان شعره الذي ينشده، إذ ذا، من المذموم، وبالجملة فهي واقعة عين يتطرق إليها الاحتمال، ولا عموم لها، فلا حجة فيها، وألحق بن أبي جمرة بامتلاء الجو بالشعر المذموم حتى يشغله عما عداه من الواجبات والمستحبات، الامتلاء من السجع مثلا، ومن كل علم مذموم؛ كالسحر وغير ذلك، من العلوم التي تقسي القلب وتشغله عن الله تعالى، وتحدث الشكوك في الاعتقاد، وتفضي به إلى التباغض والتنافس. ¬

(¬1) البخاري (رقم: 6154). (¬2) فتح الباري 10/ 548. (¬3) مسلم (رقم: 2259).

تنبيه مناسبة هذه المبالغة في ذم الشعر، أن الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه، والاشتغال به، فزجرهم عنه ليقبلوا على القرآن، وعلى ذكر الله تعالى وعبادته، فمن أخذ من ذلك ما أمر به لم يضره ما بقي عنده مما سوى ذلك والله أعلم. ا. هـ. قال ابن عابدين (¬1) ما نصه: وفي الظهيرية: قيل معنى الكراهة في الشعر أن يشغل الإنسان عن الذكر والقراءة وإلا فلا بأس به ا. هـ. وقال في تبيين المحارم: واعلم أن ما كان حراما من الشعر ما فيه فحش أو هجو مسلم أو كذب على الله تعالى أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو على الصحابة أو تزكية النفس أو الكذب أو التفاخر المذموم، أو القدح في الأنساب، وكذا ما فيه وصف أمرد أو امرأة بعينها إذا كانا حيين، فإنه لا يجوز وصف امرأة معينة حية ولا وصف أمرد معين حي حسن الوجه بين يدي الرجال ولا في نفسه، وأما وصف الميتة أو غير المعينة فلا بأس .. إلى قوله .. ولا وصف الخمر المهيج إليها والديريات والحانات والهجاء ولو لذمي كذا في ابن الهمام والزيلعي .... وقال في المعارف: لا يليق بأهل الديانات، وينبغي أن لا يجوز إنشاده عند من غلب عليه الهوى والشهوة لأنه يهيجه على إجالة فكره فيمن لا يحل، وما كان سببا لمحظور فهو محظور. ا. هـ. لطيفة: في طبقات الحنابلة (¬2) ما نصه: وأنبأنا المبارك، أخبرنا أبو الحسين المعدل، أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك، قال: سمعت أبا خليفة الفضل بن الحباب الجمحي بالبصرة، يقول: قدم علينا أحمد بن حنبل البصرة ليسمع من أبي الوليد الطيالسي سنة اثنتي عشرة إن ¬

(¬1) الدار المختار وحاشية ابن عابدين 6/ 350. (¬2) طبقات الحنابلة 1/ 250.

شاء الله، فاستشرف له أهل البصرة، فلقيه أبي، وكان بينهما صحبة قديمة، فسأله أن يضيفه، فأجابه، فأقام عندنا ثلاثة أيام، فكنت أذاكره بالليل كثيرا، فقلت: له يا أبا عبد الله سمعت شعبة بن الحاج، يقول: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة وعن صلة الرحم، فهل أنتم منتهون. قال: فأطرق ساعة، ثم قال: أما نحن فلا نعرف هذا من أنفسنا، فإن كان شعبة يعرف من نفسه شيئا فهو أعلم. ا. هـ.

الحكم الرابع والثلاثون

الحكم الرابع والثلاثون يتأكد ذكر الله بإطلاق في كل مجلس، أو ممشى أو مضطجع، وقد يقال بالوجوب، فإن الذكر من أجل الطاعات، وأعظم القربات، والإعراض عنه سبيل المحرومين، ومن احتوشتهم الشياطين، والنصوص في الأمر به وافرة وفي التأكيد عليه متكاثرة. قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]. أمره بألا يترك، الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه، على القول الأول. وقد مضى في البقرة معنى الذكر. وقال محمد ابن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله - عز وجل -: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} [آل عمران: 41]. ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله - عز وجل -: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45]. وقال ابن كثير في تفسيره: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}. [الأحزاب: 41 - 44]

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب. قال الإمام أحمد: (¬1) حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن سعيد، حدثني مولى ابن عياش، عن أبي بحرية عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم» قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «ذكر الله - عز وجل -» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية واسمه عبد الله بن قيس الترايمي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - به، قال الترمذي: رواه بعضهم عنه فأرسله. قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى: والذاكرين الله كثيرا والذاكرات. وقال أيضا: وقال الإمام أحمد: (¬2) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال: سمعت عبد الله بن بُسر (¬3) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 21750) قال المنذري (2/ 254) والهيثمي (10/ 73): إسناده حسن. والترمذي (رقم: 3377) وابن ماجه (رقم: 3790) والحاكم (رقم: 1825) وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في الشعب (رقم: 519). (¬2) أحمد (رقم: 17698). وأخرجه عبد بن حميد (رقم: 509) والترمذي (رقم: 2329) وقال: حسن غريب. والبيهقي (رقم: 6318) والضياء (رقم: 66) وابن أبي شيبة (رقم: 34420) والطبراني في الأوسط (رقم: 1441) وابن قانع (2/ 81) وأبو نعيم في الحلية (9/ 51). (¬3) هو: عبد الله بن بسر بن أبي بسر المازني القيسي، أبو بسر، ويقال أبو صفوان، له ولأبيه صحبة، كان ممن صلى إلى القبلتين، سكن حمص روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، توفي بحمص، عن 95 عامًا. وهو آخر الصحابة موتًا بالشام. له 50 حديثًا. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 158) والأعلام للزركلي (4/ 74).

يقول: جاء أعرابيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «من طال عمره وحسن عمله» وقال الآخر: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فمرني بأمر أتشبث به، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى» وروى الترمذي وابن ماجة الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به، وقال الترمذي: حديث حسن يريب. إلى أن قال ابن كثير: وقال الإمام أحمد: (¬1) حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي، سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة». وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]. إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على تركه، فقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]. بالليل والنهار في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال - عز وجل -: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42]. فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جدا، وفي هذه الآية الكريمة الحث على الإكثار ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 7093) قال الهيثمي (10/ 80): رجاله رجال الصحيح.

من ذلك. وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما. ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي - رحمه الله -.ا. هـ. وقال ابن حبان في صحيحه: (¬1) باب فيمن ترك الذكر والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من أحواله. وأسند من طريق: (¬2) ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة، وما مشى أحد ممشى لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة، وما أوى أحد إلى فراشه ولم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة». ثم أخرج بعده من طريق: (¬3) عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ما قعد قوم مقعدًا لا يذكرون الله فيه ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب». وقال في موضع آخر: (¬4) ذكر البيان بأن تف رق القوم عن المجلس عن غير ذكر الله والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون حسرة عليهم في القيامة. ثم أسند من طريق: (¬5) سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال:، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمع قوم في مجلس، فتفرقوا من غير ذكر الله، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة». ¬

(¬1) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص 577. (¬2) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (رقم: 2321). (¬3) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (رقم: 2322). (¬4) صحيح ابن حبان 2/ 351. (¬5) صحيح ابن حبان (رقم: 590).

وأخرجه أحمد (¬1) من طريق سهيل به بلفظ: «ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله، إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة» وهذا الحديث له طرق وألفاظ تدل على تأكّد الذكر ولزومه في كل الأحوال. قال شيخ الإسلام في الفتاوى: (¬2) لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره: أن ملازمة ذكر الله دائمًا هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة، وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي رواه مسلم: (¬3) «سبق المفردون قالوا يا رسول الله ومن المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات» وفيما رواه أبو داود (¬4) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ذكر الله». والدلائل القرآنية والإيمانية بصرًا وخبرًا ونظرًا على ذلك كثيرة. وأقلّ ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين - صلى الله عليه وسلم -؛ كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره، وعند أخذ المضجع وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات والأذكار المقيدة، ¬

(¬1) أحمد (رقم: 9052). (¬2) مجموع الفتاوى 10/ 660. (¬3) مسلم (رقم: 2676). (¬4) لم أجده عند أبي داود. وأخرجه حديث أبى الدرداء: أخرجه أحمد (رقم: 21750) قال المنذرى (2/ 254) والهيثمى (10/ 73): إسناده حسن. والترمذي (رقم: 3377)، وابن ماجه (رقم 3790) والحاكم (رقم: 1825) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقى في الشعب (رقم: 519).

مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك وعند المطر والرعد إلى غير ذلك، وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة. ثم ملازمة الذكر مطلقًا وأفضله «لا إله إلا الله». وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل: «سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله» أفضل منه. ا. هـ. وقال ابن القيم في الوابل: (¬1) أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله - عز وجل -، فأفضل الصوام أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل - في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل -، وأفضل الحاج أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل -، وهكذا سائر الأحوال. وقد ذكر ابن أبي الدنيا (¬2) حديثًا مرسلًا في ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي أهل المسجد خير؟ قال: «أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل - «قيل: أي الجنازة خير؟ قال: «أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل -» قيل: فأي المجاهدين خير؟ قال: «أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل - «قيل: فأي الحجاج خير؟ قال: «أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل -» قيل: وأي العباد خير؟ قال: «أكثرهم ذكرًا لله - عز وجل -» قال أبو بكر: ذهب الذاكرون بالخير كله. ا. هـ. وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (¬3) ما نصه: وعن يحيى بن أبي كثير، قال: ركب رجل الحمار، فعثر به، فقال: تعس الحمار، فقال صاحب اليمين: ما هي حسنة أكتبها، وقال صاحب الشمال: ما هي سيئة فأكتبها، فأوحى الله إلى صاحب الشمال: ما ترك ¬

(¬1) الوابل ص 104. (¬2) موجود في شعب الإيمان لأبو بكر البيهقي (رقم:558). (¬3) جامع العلوم والحكم 1/ 337.

صاحب اليمين من شيء، فاكتبه، فأثبت في السيئات «تعس الحمار». (¬1) وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة، فهو سيئة، وإن كان لا يعاقب عليها، فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها، وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر، ولكن زمانِها قد خسره صاحبها حيث ذهبت باطلًا، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه، وهو نوع عقوبة. وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي (¬2) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة». وخرجه الترمذي (¬3) ولفظه: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم تِرة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم». وفي رواية لأبي داود والنسائي: (¬4) «من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرة، ومن اضطجع مضطجعًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله تِرة» زاد النسائي: «ومن قام مقامًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله تِرة» وخرج أيضًا (¬5) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من قوم يجلسون مجلسًا لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة، وإن دخلوا الجنة». ¬

(¬1) أخرجه: ابن أبي شيبة (رقم: 35480) وأبو نعيم في الحلية 6/ 76. والحسين المروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك (رقم: 1013). (¬2) مسند أحمد (رقم: 10680) وأبو داود (4855) والنسائي (رقم: 10169). (¬3) الترمذي (رقم: 3380) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) أخرجه أبو داود (رقم: 4856) والنسائي (رقم: 10237). (¬5) النسائي (رقم: 10242).

وقال مجاهد: ما جلس قوم مجلسًا، فتفرقوا قبل أن يذكروا الله، إلا تفرقوا عن أنتن من ريح الجيفة، وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم، وما جلس قوم مجلسًا، فذكروا الله قبل أن يتفرقوا، إلا أن يتفرقوا عن أطيب من ريح المسك، وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم. وقال بعض السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات. وخرجه الطبراني: (¬1) من حديث عائشة مرفوعًا: «ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير، إلا حسر عندها يوم القيامة». الخ كلامه. وقال في سبل السلام (¬2) ما نصه: والحديث دليل على وجوب الذكر والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلس سيما مع تفسير الترة بالنار أو العذاب فقد فسرت بهما فإن التعذيب لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محظور، وظاهره أن الواجب هو الذكر والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - معًا. ا. هـ. وقال في فتح الباري: (¬3) وقد أشرت إليه مستشكلًا في أوائل الجهاد مع ما ورد في فضل المجاهد، أنه كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتر، وغير ذلك مما يدل على أفضليته على غيره من الأعمال الصالحة، وطريق الجمع والله أعلم أن المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل، وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى، واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلًا من غير استحضار لذلك وأن ¬

(¬1) المعجم الأوسط (رقم: 8316). (¬2) سبل السلام 2/ 701. (¬3) فتح الباري 11/ 210.

أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره، وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلًا، فهو الذي بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله تعالى، وأجاب القاضي أبو بكر بن العربي بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته أو صيامه مثلًا، فليس عمله كاملًا، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية ا. هـ. وقال في دليل الفالحين (¬1) ما نصه: «فإن شاء عذبهم» جزاء قصروا في ذلك بتركها «وإن شاء غفر لهم» ذلك النقص، وهذا يقتضي وجوب وجود الذكر والصلاة على النبي في المجلس؛ لأنه ر تّب العذاب على تر، ذلك وهو آية الوجوب، ولم أر من ذكر عنه القول بوجوب ذلك في كل مجلس والحديث يقتضيه والله أعلم. قال في المرعاة (¬2) ما نصه: قال الطيبي: أي ما يقومون قيامًا، إلا هذا القيام، وضمن قاموا معي تجاوزوًا وبعدوا فعدي بعن يعني لا يوجد عنهم قيام عن مجلسهم؛ إلا كقيام المتفرقين عن أكل الجيفة التي هي غاية في القذر والنتن، والجيفة جثة الميت المنتنة. قال ابن الملك: وتخصيص جيفة الحمار بالذكر؛ لأنه أدون الجيف من بين الحيوانات التي تخالطنا، وفي هذا التشبيه غاية التنفير عن ترك ذكر الله تعالى في المجالس، وإنه مما ينبغي لكل أحد أن لا يجلس في مجلس الغفلة ولا يلابس أهله. وإن يفر عنه كما يفر عن جيفة الحمار، فإن كل عاقل يفر عنها ولا يقعد عندها «وكان» أي ذلك المجلس «عليهم حسرة» أي ¬

(¬1) دليل الفالحين 5/ 312. (¬2) المرعاة 7/ 406.

ندامة يوم القيامة بسبب تفريطهم في ذكر الله في ذلك المجلس، وذلك لما يظهر لهم في موقف الحساب من أجور العامرين لمجالسهم بذكر الله تعالى، فيتحسرون على كل لحظة من أعمارهم لم يذكروا الله فيها. ا. هـ. وقال في فيض القدير: (¬1) «ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله؛ إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار». لأن ما يجري في ذلك المجلس من السقطات والهفوات إذا لم يجبر بذكر الله يكون كجيفة تعافها النفس، وتخصيص الحمار بالذكر يشعر ببلادة أهل ذلك المجلس. وقال أيضًا: (¬2) أي: مثلها في النتن والقذارة والبشاعة لما صدر منهم من رديء الكلام ومذمومه شرعًا إذ المجلس الخالي من ذكر الله إنما يعمر بما ذكر ونحوه. ا. هـ. ومما يعزّز هذا التأكيد على الذكر أن هذه الشريعة جاءت بالنصوص الكثيرة التي توزع الذكر على المحالّ والأحوال - هذا سوى الأوامر المطلقة بالذكر - كل هذا لتبقى أحوال المكلف بالذكر عامرة، وفرحة قلبه بذكر مولاه يأمره. والله المستعان. لطيفة: نقل أبو العباس في كتابه الاستقامة: (¬3) عن الشبلي: أنه سُئل متى يستريح، قال: إذا لم أر له ذاكرًا. ا. هـ. يعني إذا لم أر لله ذاكرًا. فعلق شيخنا ابن باز على قوله هذا: يحبون ألا يعبد الله غيرهم هذه غيرة خبيثة. ا. هـ. تنبيه: فإن قال قائل ألم يجيء الثناء والتفخيم للعبادة في زمن ¬

(¬1) فيض القدير 5/ 408. (¬2) فيض القدير 5/ 493. (¬3) الاستقامة 2/ 14.

الفتن، وعند كثرة الغفلة، كم أخرج مسلم: (¬1) من طريق حماد بن زيد، عن معلّى بن زياد، عن معاوية بن قرة، عن معقل بن يسار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «العبادة في الهرج كهجرة إلي». وما جاء في معناه: (¬2) عن عون، قال: الذاكر في الغافلين كالمقاتل عن الفارين. فالجواب: أن يقال هذا مدح للعبادة في زمن الإعراض والغفلة والفتن لا محبة لانصراف الناس عنها. فهذه الأخيرة غيرة الهلكى والمبتدعة، وأما حال الصالحين فانظر لما أخرجه الطبراني: (¬3) قال: حدثنا بشر بن موسى، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة الأسلمي قال: شتم رجل ابن عباس، فقال ابن عباس: «إنك لتشتمني وفيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله - عز وجل -، فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم منها، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح، وما لي به من سائمة. إسناده صحيح. فهذا لون، وغيرة الشبلي وأمثاله لون وبينهما البون، ومن الله نستمد العون. ¬

(¬1) مسلم (رقم: 2948). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 36108). (¬3) الطبراني في الكبير (رقم: 10621).

الحكم الخامس والثلاثون

الحكم الخامس والثلاثون الذكر يتفاضل فيه أهله تفاضلًا عظيمًا، لما يقوم بقلوبهم من الإخلاص والخشية والمتابعة، وهذا التفاضل حاصل في أحوالهم في الدنيا، وحاصل عند الموت في ختم العمر بأفضل الذكر، وكلمة التوحيد «لا إله إلا الله» وهذا تقسيم لقائليها عند الموت: أولاً: مِن يقولها عند الغرغِرة فهذه لا تنفعهِ، قاِل تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17، 18]. ثانيًا: من يقولها عند معاينة عذاب الاستئصال الذي وعد الله به الكفار على ألسنة الرسل، فحكمه كالذي سبق؛ لأنه إيمان اضطرار لا إيمان اختيار {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ} [غافر: 85]. وقال عن فرعون {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس: 90]. ومثل ذلك من أخبر الله عنه بدخول النار لتكذيبه

كأبي لهب. قال شيخ الإسلام في مجموع فتاويه: (¬1) كمن يزعم أن أبا لهب كلف بأن يؤمن بأنه لا يؤمن فهو مبطل في ذلك عند عامة أهل القبلة من جميع الطوائف. بل إذا قدر أنه أخبر بصلية النار المستلزم لموته على الكفر وأنه أسمع هذا الخطاب، ففي هذا الحال انقطع تكليفه، ولم ينفعه الإيمان حينئذ كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85]. وقال تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]. وقال: (¬2) فإنه من أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلى النار بعد دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له إلى الإيمان فقد حقت عليه كلمة العذاب: كالذي يعاين الملائكة وقت الموت لم يبق بعد هذا مخاطبًا من جهة الرسول. ا. هـ. ثالثًا: أن يقولها قبل ذلك وهم أحوال: 1 - من يقولها تائبًا من جميع ذنوبه خالصًا من قلبه فهذا أسعد الناس بها. 2 - من يقولها خالصًا من قلبه غير مستحضر للتوبة من ذنوبه التي لا تخرجه من الملة فهي حسنة عظيمة، قد تربو على سيئاته فتزيلها، وقد تقصر عن ذلك فيحاسب عليها، وكل ذلك بحسب ما يقوم بقلب قائلها من الإخلاص. وفيه حديث البطاقة. 3 - من يقولها وله أعمال كفرية مقيم عليها كاستحلال ما ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 3/ 321. (¬2) مجموع الفتاوى 8/ 302.

حرم الله، وشركيات كدعاء أهل القبور. فهذه لا تنفعه فإن أعماله تضادها ولم يتب منها. لطيفة: قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: (¬1) حدثنا عبد الرحمن، قال: سمعت محمد بن مسلم، يقول: رأيت أبا زرعه - رحمه الله - في المنام، فقلت: ما فعل بك ربك؟ فقال: قربني وأدناني، وقربني وأدناني، حتى هكذا، وأومأ بيده، ثم قال لي: يا عبيد الله تدرعت بالكلام؟ قلت: لأنهم حاولوا دينك، قال: ألحقوه بأبي عبد الله، وأبي عبد الله، وأبي عبد الله. لطيفة: قال في الجرح والتعديل (1/ 345): باب ما ظهر لأبي زرعه من سيد عمله عند وفاته حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبي يقول: مات أبو زرعه مطعونًا مبطونًا يعرق جبينه في الَنَزّعِ فقلتُ لمحَمد بن مُسلمٍ: ما تحفظ في تلقين الموتى لا إلهَ إلا الله؟ فقال محمد بن مُسلم: يُروى عن معاذ بن جَبلٍ - فمن قبل أن يستتمَّ رفع أبو زرعه رأسه وهو في النَّزع فقال: روى عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي عَريبٍ عن كثير بن مُرة عن معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من كان آخِرُ كلامه لا إلهَ إلا الله دخل الجنة. فصار البيتُ ضجة ببُكاء من حضر. ¬

(¬1) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 346).

الحكم السادس والثلاثون

الحكم السادس والثلاثون الأصل أن يقوم العبد بالذكر من تِلقاء نفسه ولا يقوم به غيرُه، فالذكر عبادة لا تدخلها النيابة كالصلاة فلا يصلي أحد عن أحد. وهذا لا يمنع الإعانة بالتلقين للجاهل والتعويذ للصبية، وقد أخرج البخاري في صحيحة (¬1) من طريق: سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين، ويقول: «إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة». ولفظه عند ابن ماجة: (¬2) «أعيذكما بكلمات الله التامة». ورواه أبو داود: (¬3) من طريق محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم من الفزع كلمات: «أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون». وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه ا. هـ. ولفظه عند أحمد في مسنده: (¬4) من طريق ابن إسحاق به، قال: ¬

(¬1) البخاري (رقم: 3191). (¬2) ابن ماجه (رقم: 3525). (¬3) أبو داود (رقم: 4739). (¬4) أحمد (رقم: 16573).

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع: «بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون» قال: فكان عبد الله بن عمرو: يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرًا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه. ومداره على ابن إسحاق، ويخشى من تدليسه، ولم يصرح بالسماع، فهذا الخبر الموقوف على ابن عمرو فيه نظر، والمحفوظ في الأحاديث التعويذ للصبية لا التعليق عليهم. فائدة أخرج البخاري: (¬1) تحت باب: ما يتعوذ من الجبن. من طريق عمرو بن ميمون الأودي، قال: كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: «اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر»، فحدثت به مصعبًا فصدقه. ا. هـ. وأما تعليق التعاويذ ولو كانت بكلام الله أو الأدعية النبوية فلا يجوز، وقد روى أحمد: (¬2) من طريق الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن أخي زينب، عن زينب، امرأة عبد الله، قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق، كراهية أن يهجم منا على شيء يكرهه، قالت: وإنه جاء ذات يوم، فتنحنح، قالت: وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، فدخل، فجلس إلى جنبي، فرأى في عنقي خيطًا، قال: ما ¬

(¬1) صحيح البخاري (4/ 23) (رقم: 2822). (¬2) أحمد (رقم: 3615).

هذا الخيط؟ قالت: قلت خيط أرقي لي فيه، قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرقى، والتمائم، والتولة شرك». إسناده حسن. والحديث عام في كل ما يعلق من التمائم. وثانيًا: ما يفضي إلى تعلق قلب العبد بهذه التميمة وضعف توكله. والغالب ميل قلبه إليها ميلًا تامًا والعياذ بالله. وثالثًا: أن من تعلق مثل هذه لا تسلم من الامتهان والتدنيس لكثرة تنقله بها. وأما التعليم للجاهل والتذكير للناسي فلا بأس بذلك؛ كما لو عطس شخص فلم يحمد الله لجهله بالسنة فيعلم ويشمت. وأما المعرض فلا يذكّر بالحمد وضابط المعرض أن يكون مثله لا يجهل فيدع الحمد، فيعزر بترك تشميته. وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما: (¬1) من طريق سليمان التيمي، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: عطس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلان، فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمته، وعطست أنا فلم تشمتني، قال: «إن هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله» لفظ مسلم. ومن اللطائف ما أخرجه البيهقي: (¬2) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، سمعت الحسن بن محمد بن حليم، سمعت أبا العباس بن سعيد، يذكر عن مشايخه فقالوا: شُكي سوار بن عبد الله القاضي إلى أبي ¬

(¬1) البخاري (رقم: 6221 - 6225) ومسلم (رقم: 2991). (¬2) البيهقي في شعب الإيمان 11/ 493.

جعفر المنصور، وأُثني عليه عنده شرّا، قال: فاستقدمه، فلما أن قدم دخل عليه فعطس المنصور، فلم يشمته سوّار، فقال: ما يمنعك من التشميت؟ قال: لأنك لم تحمد الله، قال: قد حمدته في نفسي. قال فقد شمتك في نفسي، فقال: ارجع إلى عملك فإنك إن لم تحابني؛ لا تحابي غيري. قال ابن القيم في الزاد: (¬1) وقد اختلف الناس في مسألتين: الثانية: إذا ترك الحمد فهل يستحب لمن حضره أن يذكره الحمد؟ قال ابن العربي: لا يذكره، قال: وهذا جهل من فاعله. وقال النووي: أخطأ من زعم ذلك، بل يذكره، وهو مروي عن إبراهيم النخعي، قال: وهو من باب النصيحة، والأمر بالمعروف، والتعاون على البر والتقوى، وظاهر السنة يقوي قول ابن العربي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشمت الذي عطس، ولم يحمد الله، ولم يذكره وهذا تعزير له وحرمان لبركة الدعاء لما حرم نفسه بركة الحمد، فنسي الله، فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له، ولو كان تذكيره سنة، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بفعلها وتعليمها، والإعانة عليها. ا. هـ ... وتقدم تحرير المسألة. تنبيه: لا تسقط الفاتحة عن كل مصل قادر على الإتيان بها، ولا يتحملها الإمام عمن خلفه، وإنما تسقط عن المأموم في حالة واحدة: إذا جاء والإمام راكع. لأن الاقتداء لا أثر له في إسقاط الأذكار بالإجماع. قاله في بدائع الصنائع. (¬2) وقال في البناية شرح الهداية: (¬3) ويستوي عندهم في استحباب الأذكار الإمام والمأموم والمنفرد ا. هـ. ¬

(¬1) زاد المعاد 2/ 397. (¬2) بدائع الصنائع 1/ 209. (¬3) البناية شرح الهداية 2/ 228.

وقال أيضًا: (¬1) وقال الشافعي: إذا قرأ الإمام آية الرحمة فيستحب له أن يسأل الله تعالى، أو آية العذاب يستحب له أن يستعيذ، أو آية تنزيه يستحب له أن يسبح؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما مر بآية رحمة إلا سألها، أو آية عذاب إلا استعاذ منها. ويستحب للمقتدي أن يتابعه على ذلك نقله المزني في «المختصر»؛ لأن كل ذكر يسن للإمام فيسن للمقتدي كسائر الأذكار. ا. هـ. وقال في الشرح الممتع: (¬2) وله التعوذ عند آية وعيد، والسؤال عند آية رحمة، ولو في فرض. قوله: «وله التعوذ» أي: للمصلِّي أن يتعوَّذ بالله. والتعوُّذ هو الاعتصام بالله تعالى من كل مكروه. قوله: «عند آية وعيد» أي: إذا مَرَّ بآية وعيد، فله أن يقول: أعوذ بالله من ذلك، وظاهر كلام المؤلف أنه لا فَرْقَ بين الإمام والمأموم والمنفرد. أما المنفرد والإمام فمُسلم أن لهما أن يتعوذا عند آية الوعيد، ويسألا عند آية الرحمة. وأما المأموم فغير مُسلَّم على الإطلاق، بل في ذلك تفصيل وهو: إن أدَّى ذلك إلى عدم الإنصات للإِمام فإنه ينهى عنه، وإن لم يؤدِّ إلى عدم الإنصات فإن له ذلك. مثال الأول: لو كانت آيةُ الوعيد في أثناء قراءة الإمام، فإن المأموم إذا تعوَّذ في هذه الحال والإمام لم يسكت انشغل بتعوُّذه عن ¬

(¬1) البناية شرح الهداية 2/ 321. (¬2) الشرح الممتع 3/ 287.

الإنصات للإِمام، وقد نِهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المأمومَ أن يقرأ والإمامُ يقرأ؛ إلاَّ بأمِّ القرآن. (¬1) ولهذا لو دخلت في صلاة جهرية والإمام يقرأ فلا تستفتح، بل كبر، واستعذْ بالله من الشيطان الرجيم، واقرأ الفاتحة، فصار ظاهر كلام المؤلف فيه تفصيل بالنسبة للمأموم. وقوله: «عند آية وعيد» أي: كل ما يدل على الوعيد، سواء كان بذكْرِ النار، أم بذكْرِ شيء من أنواع العذاب فيها، أم بذكْرِ أحوال المجرمين، وما أشبه ذلك. قوله: «والسؤال عند آية رحمة» أي: وللمصلِّي أن يسأل الرحمة إذا مرَّ بآية رحمة. مثاله: مرَّ ذكر الجنة يقول: اللهم إنِّي أسألك الجنة، وله أن يسأله من فضله، ولو مرَّ ثناء على الأنبياء أو الأولياء أو ما أشبه ذلك فله أن يقول: أسأل الله من فضله، أو أسأل الله أن يلحقني بهم، أو ما أشبه ذلك. قوله: «ولو في فرض» هذا إشارة خلاف: هل له ذلك في الفرض، أو ليس له ذلك؟ والصحيح: ما قاله المؤلف أنَّ له ذلك: لأن هذا لا يعدو أن يكون دعاء، والصَّلاةُ لا بأس بالدُّعاء فيها فله أن يتعوَّذ عند آية الوعيد، ويسأل عند آية الرحمة، ولو كان في الفرض. والدليل: حديث (¬2) حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: أنه صَلَّى مع النبي صلّى - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبقرة، والنساء، وآل عمران، لا يمرّ بآية ¬

(¬1) البخاري (رقم: 756) ومسلم (رقم: 394). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 772).

رحمة إلا سأل، ولا بآية وعيد إلا تعوَّذ. وهذا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والأصل أنه أسوة لنا، وأن ما فعله فلنا أن نتأسَّى به، إلا ما دَلَّ عليه الدليل، فإذا قال قائل: هذا في النَّفْلِ فما دليلكم على جوازه في الفرض؟. فالجواب: أن ما ثبت في النَّفْل ثبت في الفرض إلا بدليل، وهنا لا دليل على الفرق بين الفرض وبين النفل. والراجح في حكم هذه المسألة أن نقول: أما في النفل، ولا سيما في صلاة الليل، فإنه يُسنّ له أن يتعوّذ عند آية الوعيد، ويسأل عند آية الرحمة؛ اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأن ذلك أحضرُ للقلب وأبلغُ في التدبر، وصلاة الليل يُسَنّ فيها التطويل، وكثرة القراءة والركوع والسجود، وما أشبه ذلك. وأما في صلاة الفرض فليس بسُنة وإنْ كان جائزًا. فإن قال قائل: ما دليلك على هذا التفريق، وأنت تقول: إنَّ ما ثبت في النَّفْلِ ثبت في الفرض، فليكن سُنة في الفرض كما هو في النفل. فالجواب: الدليل على هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في كل يوم وليلة ثلاث صلوات، كلَّها جهر فيها بالقراءة، ويقرأ آيات فيها وعيد وآيات فيها رحمة، ولم ينقل الصَّحابةُ الذين نقلوا صفة صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعل ذلك في الفَرْض، ولو كان سُنة لفعله ولو فعله لنقل، فلمَّا لم ينقل علمنا أنه لم يفعله، ولما لم يفعله علمنا أنه ليس بسُنة، والصَّحابةُ - رضي الله عنهم - حريصون على تتُّبع حركات النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وسكناته حتى إنِهم كانوا يستدلُّون على قراءته في السرِّية باضطراب لحيته، ولمَّا سكت بين التكبير والقراءة سأله أبو هريرة - رضي الله عنه - ماذا يقول؟

ولو كان يسكت عند آية الوعيد مِن أجل أن يتعوَّذ، أو آية الرحمة من أجل أن يسأل لنقلوا ذلك بلا شكّ. فإذا قال قائل: إذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا لا تمنعونه في صلاة الفرض كما مَنَعَهُ بعضُ أهل العلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي» (¬1)؟ فالجواب على هذه أن نقول: ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - له لا يدلُّ على تحريمه؛ لأنه أعطانا عليه الصَّلاة والسَّلام، قاعدة: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء مِن كلام الناس، إنَّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (¬2) والدعاء ليس من كلام الناس، فلا يبطل الصَّلاة، فيكون الأصل فيه الجواز، لكننا لا نندب الإنسان أن يفعل ذلك في صلاة الفريضة لما تقدم تقريره. مسألة: لو قرأ القارئ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]؟ فهذه ليست آية وعيد ولا آية رحمة فله أن يقول: بلى، أو سبحانك فبلى؛ لأنه ورد في حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، ونص الإمام أحمد عليه، قال الإمام أحمد: (¬3) إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] في الصلاة وغير الصلاة، قال: سبحانك فبلى، في فَرْضٍ ونفْلٍ. وإذا قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] فيقول: «سبحانك فبلى». ¬

(¬1) البخاري (رقم: 1117). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 23813) ومسلم (رقم: 237) وأبو داود (رقم: 930 (والنسائي (رقم: 1218). (¬3) أحمد (رقم: 7391).

ولو قرأ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30]. فهنا لا يقول: يأتي به الله؛ لأن هذا إنما جاء في سياق التهديد والوعيد، فالله أمرِ الرسوِل - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهؤلاء المكذبين: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] والعامَّة نسمعهم يقولون: يأتي به اللهُ، وهذا لا يصلح. وفيه آيات كثيرة؛ كقوله في سورة النمل: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60]؟ فهل يصحُّ أن يقول: لا؟ الجواب: نعم، يصحُّ أن يقول: لا إله مع الله. ا. هـ كلام الشيخ - رحمه الله - وعلى كلام الشيخ تنبيهات: الأول: قوله عن المأموم غير مسلّم إن أدى ذلك إلى عدم الإنصات. قلت: هذا غير مسلّم، فسبب تعوذه إنصاته لإمامه، وهذا شيء يسير لا ينافي الإنصات. الثاني: قوله وأما في صلاة الفرض فليس بسنة. فالجواب قال الشافعي في الأم: (¬1) قال: أخبرنا ابن مهدي، عن سفيان، عن السدي، عن عَبْدِ خَيْرٍ: أن عليًا - رضي الله عنه - قرأ في الصبح بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فقال: سبحان ربي الأعلى، وهم ¬

(¬1) الأم للشافعي 7/ 175.

يكرهون هذا ونحن نستحبه وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء يشبهه. ا. هـ. قلت: وهذا إسناد حسن من أجل السدي، وهو الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن. وهذا فعل خليفة راشد. وأخرجه ابن أبي شيبة: (¬1) عن عبده ووكيع، كلاهما عن الثوري، به تحت باب: من كان إذا قرأ سبح أسم ربك الأعلى قال: سبحان ربي الأعلى. وأخرج أيضًا: (¬2) من طريقين: عن مسعر، عن عمير بن سعيد، قال: سمعت أبا موسى قرأ في الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، فقال: سبحان ربي الأعلى. ولهذا قال النووي في المجموع (¬3) ما نصه: قال الشافعي وأصحابنا: يسنّ للقاري في الصلاة وخارجها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى الرحمة، أو بآية عذاب أن يستعيذ به من العذاب، أو بآية تسبيح أن يسبح، أو بآية مثل أن يتدبر، قال أصحابنا: ويستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد، وإذا قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]. قال بلى وأنا على ذلك من الشاهدين وإذا قرأ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]. قال آمنا بالله وكل هذا يستحب لكل قارئ في صلاته أو غيرها، وسواء صلاة الفرض والنفل والمأموم والإمام والمنفرد - إلى أن قال - وقال بمذهبنا جمهور العلماء من السلف ممن بعدهم ا. هـ. ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة 2/ 247. (¬2) (رقم: 8639). (¬3) المجموع 4/ 66.

الثالث: قوله إذا قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 2]. قال: سبحانك فبلى. فإن كانت عمدته ما ورد هنا فلا يثبت. مع أن سياقه مختلف، وإن أراد أن الموضع هنا آية تسبيح في المعنى فنعم. وهنا أنقل كلامًا للموفق أبي محمد من المغني (¬1) حيث قال ما نصه: وعن علي، أنه قال له رجل من الخوارج، وهو في صلاة الغداة، فناداه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] قال: فأنصت له حتى فهم، ثم أجابه وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]. احتج به أحمد، ورواه أبو بكر النجاد، بإسناده. ولأن ما لا يبطل الصلاة ابتداء لا يبطلها إذا أتى به عقيب سبب، كالتسبيح لتنبيه إمامه. قال الخلال: اتفق الجميع، عن أبي عبد الله، على أنه - لا يرفع صوته - يعني: العاطس لا يرفع صوته - بالحمد، وإن رفع فلا بأس؛ بدليل حديث الأنصاري. وقال أحمد، في الإمام يقول: «لا إله إلا الله». فيقول من خلفه: «لا إله إلا الله» يرفعون بها أصواتهم، قال: يقولون، ولكن يخفون ذلك في أنفسهم. وإنما لم يكره أحمد ذلك، كما كره القراءة خلف الإمام؛ لأنه يسير لا يمنع الإنصات، فجرى مجرى التأمين. قيل لأحمد: فإن رفعوا أصواتهم بهذا؟ قال: أكرهه. قيل: فينهاهم الإمام؟ قال: لا ينهاهم. قال القاضي: إنما لم ينههم؛ لأنه قد روي عن ¬

(¬1) المغني 2/ 44.

النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهر بمثل ذلك في صلاة الإخفاء، فإنه كان يسمعهم الآية أحيانًا. فصل: قيل لأحمد - رحمه الله -: إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]. هل يقول: «سبحان ربي الأعلى». قال: إن شاء قاله فيما بينه وبين نفسه، ولا يجهر به في المكتوبة وغيرها. وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قرأ في الصلاة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]. فقال: سبحان ربي الأعلى،. وعن ابن عباس، أنه قرأ في الصلاة: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، فقال: سبحانك، وبلى. وعن موسى بن أبي عائشة، قال: «كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، قال: سبحانك فبكى، فسألوه عن ذلك، فقال: سمعته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه أبو داود. (¬1) ولأنه ذكر ورد الشرع به، فجاز التسبيح في موضعه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 884).

الحكم السابع والثلاثون

الحكم السابع والثلاثون الصلاة شُرعت لذكر الله فهي مبنية عليه ولا سكوت فيها، وإنما هي إتيان بذكر أو سكوت لسماع ذكر قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. قال ابن كثير: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. قيل: معناه صلّ لتذكرني، وقيل: معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لي، ويشهد لهذا الثاني ما رواه الإمام أحمد: (¬1) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: وأقم الصلاة لذكري»، وفي الصحيحين (¬2) عن أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك». ا. هـ. وقال القرطبي في تفسيره: (¬3) اختلف في تأويل قوله: «لذكْري». فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول. ¬

(¬1) أحمد (رقم: 12909). (¬2) البخاري (رقم: 597)، ومسلم (رقم: 684). (¬3) تفسير القرطبي 11/ 177.

وقيل: المعنى، أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة. وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه، وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمى الله تعالى الصلاة ذكرًا في قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]. وقيل: المراد إذا نسيت فتذكرت فصل كما في الخبر «فليصلها إذا ذكرها». أي لا تسقط الصلاة بالنسيان. ا. هـ. وقال ابن سعدي ما نصه: (¬1) وقوله: {لِذِكْرِي} اللام للتعليل أي: أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي، لأن ذكره تعالى أجل المقاصد، وهو عبودية القلب، وبه سعادته، فالقلب المعطل عن ذكر الله، معطل عن كل خير، وقد خرب كل الخراب، فشرع الله للعباد أنواع العبادات، التي المقصود منها إقامة ذكره، وخصوصا الصلاة. ا. هـ. قال في المغني (¬2) في حق الإمام في صلاة الخوف حينما ينتظر الطائفة الأخرى: ولنا، أن الصلاة ليس فيها حال سكوت، والقيام محل للقراءة، فينبغي أن يأتي بها فيه، كما في التشهد إذا انتظرهم فإنه يتشهد ولا يسكت، كذلك هاهنا. ا. هـ. وقال في الشرح الممتع (¬3) على كلامه في الدعاء بعد التكبيرة الرابعة في صلاة الجنازة: والقول بأنه يدعو بما تيسر أولى من السكوت؛ لأن الصلاة عبادة ليس فيها سكوت أبدًا إلا لسبب كالاستماع لقراءة الإمام، ونحو ذلك. وقال أيضًا: (¬4) وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش، ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه. ¬

(¬1) تفسير السعدي، تيسير الكريم الرحمن ص 503. (¬2) المغني لابن قدامه 2/ 299. (¬3) الشرح الممتع على زاد المستنقع 5/ 336. (¬4) الشرح الممتع على زاد المستنقع 4/ 179.

قوله: «وإذا لم يسمعه لبعد» أي: ويستحب أن يقرأ إذا لم يسمع الإمام لبعد مثل: أن يكون المسجد كبيرًا، وليس هنا، مكبر صوت فيقرأ المأموم إذا لم يسمع قراءة الإمام حتى غير الفاتحة، ولا يسكت؛ لأنه ليس في الصلاة سكوت. وقال في المجموع شرح المهذب (¬1) ما نصه: ويستحب أن يدعو في هذه السكتة بما ذكرناه في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في دعاء الاستفتاح: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي إلى آخره» (¬2) قلت: ومختار الذكر والدعاء والقراءة سرًا، ويستدل له بأن الصلاة ليس فيها سكوت حقيقي في حق الإمام، بالقياس على قراءته في انتظاره في صلاة الخوف، ولا تمنع تسميته سكوتًا مع الذكر فيه كما في السكتة بعد تكبيرة الإحرام؛ ولأنه سكوت بالنسبة إلى الجهر قبله وبعده. ا. هـ. وقال أيضًا: (¬3) ولأن الصلاة مبنية على أن لا يفتر عن الذكر في شيء منها. ا. هـ. وفي حاشية الجمل (¬4) ما نصه: ولا يكرر التشهد فلو لم يحفظ إلا دعاء قصيرًا كرره؛ لأن الصلاة لا سكوت فيها، وإنما لم يكرر التشهد خروجًا من خلاف من أبطل بتكرير الركن القولي. اهـ. وقال في إعانة الطالبين: (¬5) قوله: «ودعاء»: أي حتى عقب التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الصلاة لا سكوت فيها. ا. هـ. ¬

(¬1) المجموع شرح المهذب 3/ 364. (¬2) البخاري (رقم: 744) ومسلم (رقم: 598). (¬3) المجموع شرح المهذب 3/ 420. (¬4) حاشية الجمل 5/ 565. (¬5) إعانة الطالبين 2/ 22.

وقال في نهِاية الزين في إرشاد المبتدئين (¬1) ما نصه: وخرج بهذا ما لو أدركه في سجدة التلاوة فيكبر لأنه كإدراك الإمام في الركوع وهو محسوب له ويوافق المسبوق إمامه استحبابًا في أذكار ما أدركه معه وإن لم يحسب له كالتحميد والدعاء حتى عقب التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الصلاة لا سكوت فيها. ا. هـ. وإذا تقرر أنه ليس في الصلاة سكوت، كان القول الراجح أن المأموم إذا أطال الإمام التشهد الأول أن يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، ويدعو أيضًا خلافًا للمذهب، حيث قالوا: إنه يكرر التشهد، وهذا بناء على أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام إنما تشرع في التشهد الذي يعقبه سلام. وهذا وإن كان هو الراجح؛ لكن الكلام إذا أطال الإمام الجلسة، وخالف السنة. قال ابن خزيمة في صحيحة: (¬2) باب الاقتصار في الجلسة الأولى على التشهد وترك الدعاء بعد التشهد الأول، ثم روى من طريق: عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي، عن أبيه قال: وكنا نحفظه عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كما نحفظ حروف القرآن حين أخبرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه إياه، قال: فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة، وفي آخرها على وركه اليسرى: «التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» قال: ثم إن كان في وسط الصلاة نهِض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو، ثم يسلم. ا. هـ. ¬

(¬1) إرشاد المبتدئين 1/ 119. (¬2) صحيح ابن خزيمة (رقم: 708).

وله شاهد قوي أخرجه أحمد (¬1) والترمذي (¬2): من طريق شعبة، قال: حدثني سعد بن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن أبيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف. قال شعبة: ثم حرك سعد شفتيه بشيء، فأقول: حتى يقوم؟ فيقول: حتى يقوم. هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. والعمل على هذا عند أهل العلم: يختارون أن لا يطيل الرجل القعود في الركعتين الأوليين، ولا يزيد على التشهد شيئًا في الركعتين الأوليين، وقالوا: إن زاد على التشهد فعليه سجدتا السهو. هكذا روي عن الشعبي وغيره. ا. هـ. قال ابن رجب في شرح علل الترمذي: (¬3) قال ابن المديني في حديث يرويه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه هو منقطع، وهو حديث ثبت، وقال يعقوب بن شيبة: إنما استجاز أصحابنا أن يدخلوا حديث أبي عبيدة عن أبيه في المسند، يعني في الحديث المتصل، لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها، وأنه لم يأت فيها بحديث منكر. ا. هـ. وروى الدارقطني في سننه: (¬4) من طريق خِشْفِ بن مالك، عن عبد الله بن مسعود، قال: «قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دية الخطأ مائة من الإبل، منها عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بني مخاض». - ثم قال - هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث، من وجوه عدة ¬

(¬1) أحمد (رقم: 3656). (¬2) الترمذي (رقم: 366). (¬3) شرح علل الترمذي 1/ 544. (¬4) الدارقطني في سننه (رقم: 3364).

أحدها أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، بالسند الصحيح عنه الذي لا مطعن فيه، ولا تأويل عليه، وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وفتياه من خشف بن مالك ونظرائه. ا. هـ. محل الغرض من النقل. وله شاهد آخر موقوف أخرجه ابن أبي شيبة: (¬1) من طريق تميم بن سلمه: كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف. يعني: حتى يقوم. وإسناده صحيح. وأما ما أخرجه النسائي في سننه: (¬2) من طريق سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، أن عائشة، قالت: كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكه وطهوره فيبعثه الله - عز وجل - لما شاء أن يبعثه من الليل، فيستاك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن؛ إلا عند الثامنة، ويحمد الله ويصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويدعو بينهن ولا يسلم تسليمًا، ثم يصلي التاسعة ويقعد، وذكر كلمة نحوها ويحمد الله، ويصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويدعو ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد» مما يفهم منه الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في التشهد الأول فهذه الزيادة غير محفوظة. فقد أخرجه مسلم: (¬3) من طريق سعيد بن أبي عروبة مطولًا، وليس فيه الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام. وكذا عند أبي داود (¬4) بنحو سياق مسلم من طريق همام عن ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 3017). (¬2) سنن النسائي (رقم: 1719). (¬3) مسلم (رقم: 746). (¬4) أبو داود (رقم: 1349).

قتادة، وكذا أخرجه النسائي (¬1) من طريق هشام الدستوائي ومعمر كلاهما عن قتادة وليس في شيء من ذلك الصلاة على النبي، وإذا تقرر أنه ليس في التشهد الأول زيادة على تشهد ابن مسعود، وكان الإمام يطيل القعدة فالأفضل أن يكمل المأموم، ويأتي بما يسمى التشهد الأخير؛ لأنه لا سكوت في الصلاة ولا يكرر التشهد؛ كما نص عليه أحمد؛ لأنه لا دليل على ذلك، وعلى هذا لا يسكت ولا يكرر. تنبيه: وبهذا يعلم خطأ النسائي حيث، قال: باب الرخصة في ترك الذكر في الركوع. (¬2) ثم أسند: (¬3) من طريق ابن عجلان، عن علي بن يحيى الزرقي، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع وكان بدريا، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ دخل رجل المسجد فصلى ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمقه ولا يشعر، ثم انصر فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم عليه فرد - عليه السلام -، ثم قال: «ارجع فصل فإنك لم تصل «قال: لا أدري في الثانية أو في الثالثة، قال: «والذي أنزل عليك الكتاب لقد جهدت فعلمني وأرني. قال: «إذا أردت الصلاة فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قم فاستقبل القبلة، ثم كبر، ثم اقرأ، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع رأسك حتى تطمئن قاعدًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، فإذا صنعت ذلك فقد قضيت صلاتك، وما انتقصت من ذلك فإنما تنقصه من صلاتك». ولا حجة فيه على دعواه، وكّرره في السجود. وقد أخرج مسلم: (¬4) من طريق إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن ¬

(¬1) النسائي (رقم: 1721). (¬2) النسائي (2/ 193). (¬3) النسائي (رقم: 1053). (¬4) مسلم (رقم: 479).

أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: «أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب - عز وجل -، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم» فهذا النبي عليه الصلاة والسلام يأمر بتعظيم الله. فكيف نقول الرخصة في ترك ذلك. اللهم غفرًا. فجنس التعظيم في الركوع واجب وصيغة (سبحان ربي العظيم) مستحبة. قال أبو العباس ما نصه: (¬1) وأما قراءة القرآن فيهما فقد ثبت عنه أنه، قال: «إني نِيت أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا» رواه مسلم. (¬2) من حديث علي ومن حديث ابن عباس. وذلك أن القرآن كلام الله فلا يتلى إلا في حال الارتفاع والتكبير أيضًا محله حال الارتفاع. وجمهور العلماء على أنه يشرع التسبيح في الركوع والسجود، وروي عن مالك أنه كره المداومة على ذلك لئلا يظن وجوبه، ثم اختلفوا في وجوبه، فالمشهور عن أحمد وإسحاق وداود وغيرهم وجوبه، وعن أبي حنيفة والشافعي استحبابه، والقائلون بالوجوب منهم من يقول: يتعين «سبحان ربي العظيم» و «سبحان ربي الأعلى» للأمر بهما، وهو قول كثير من أصحاب أحمد: ومنهم من يقول: بل يذكر بعض الأذكار المأثورة، والأقوى أنه يتعين التسبيح إما بلفظ «سبحان» وإما بلفظ «سبحانك» ونحو ذلك. وذلك أن القرآن سماها «تسبيحًا»، فدل على وجوب التسبيح فيها، وقد بينت السنة أن محل ذلك الركوع والسجود كما سماها الله «قرآنا»، وقد بينت السنة أن محل ذلك القيام، وسماها «قيامًا» و «سجودًا» و «ركوعًا»، وبينت السنة علّة ذلك ومحله، وكذلك التسبيح يسبح في الركوع والسجود، وقد نقل عن ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 16/ 114. (¬2) مسلم (رقم: 479).

النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى؛ وأنه كان يقول: «سبحانك اللهم وبحمد، اللهم اغفر لي؛ وسبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت» (¬1). وفي بعض روايات أبي داود: (¬2) «سبحان ربي العظيم وبحمده». وفي استحباب هذه الزيادة عن أحمد روايتان. وفي صحيح مسلم عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: «سبوح قدوس رب الملائكة والروح» وفي السنن أنه كان يقول: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة». (¬3) فهذه كلها تسبيحات. وقال بعد ذلك: وأيضا فقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]. و {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] أمر بتسبيح ربه ليس أمرًا بصيغة معينة. فإذا قال «سبحان الله وبحمده» «سبحانك اللهم وبحمدك» فقد سبح ربه الأعلى والعظيم. فإن الله هو الأعلى وهو العظيم واسمه «الله» يتناول معاني سائر الأسماء بطريق التضَمُّن. وقال: (¬4) ما نصه: فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بجعل هذين التسبيحين في الركوع والسجود وأمره على الوجوب، وذلك يقتضي وجوب ركوع وسجود تبعًا لهذا التسبيح، وذلك هو الطمأنينة، ثم إن من الفقهاء من قد يقول: التسبيح ليس بواجب، وهذا القول يخالف ظاهر الكتاب والسنة، فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل والقول جميعًا. ا. هـ. ¬

(¬1) البخاري (رقم: 817) ومسلم (رقم: 484) وغيرهم. (¬2) أبو داود رقم (رقم: 870). (¬3) أخرجه: أحمد (رقم: 23411) والنسائي (رقم: 1048) وأبو داود (رقم: 873). (¬4) مجموع الفتاوى 22/ 550.

الحكم الثامن والثلاثون

الحكم الثامن والثلاثون لا بأس بإهداء الذكر للأموات؛ لأن الراجح جواز إهداء جميع الأعمال الصالحة، وهو مذهب المحققين كالإمام أحمد وشيخ الإسلام وابن القيم وجماعة. قال ابن القيم في الروح (¬1) ما نصه: وهي هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعى الأحياء أم لا. فالجواب: أنِا تنتفع من سعى الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السنة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير. أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته. والثاني: دعاء المسلمين له واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع ما الذي يصل من ثوابه، هل ثواب الإنفاق أو ثواب العمل، فعند الجمهور يصل ثواب العمل نفسه، وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب الإنفاق. واختلفوا في العبادة البدنية؛ كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر، فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف وصولها، وهو قول ¬

(¬1) الروح 1/ 117.

بعض أصحاب أبي حنيفة نص على هذا الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال، قال: قيل لأبي عبد الله الرجل يعمل الشيء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك، فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه، قال: أرجو أو قال الميت يصل إليه كل شيء من صدقة أو غيرها. وقال أيضًا: اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات، وقل هو الله أحد، وقل اللهم إن فضله لأهل المقابر. والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل. وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شيء البتة لادعاء ولا غيره. ا. هـ. إلى أن قال: (¬1) وبالجملة فأفضل ما يهدى إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار له والدعاء له والحج عنه، وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعًا بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والخ. ا. هـ. وقال في تبيين الحقائق: (¬2) الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره عند أهل السنة والجماعة صلاة كان أو صومًا أو حجا أو صدقة أو قراءة قرآن أو الأذكار إلى غير ذلك من جميع أنواع البر، ويصل ذلك إلى الميت وينفعه. ا. هـ .. وسئل الشيخ محمد الصالح كما في فتاويه: (¬3) سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم الصلاة عن الميت والصوم له؟ ¬

(¬1) الروح 1/ 142. (¬2) تبيين الحقائق 2/ 83. (¬3) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 17/ 255.

فأجاب فضيلته بقوله: هنا، أربعة أنواع من العبادات تصل إلى الميت بالإجماع، وهي: الأول: الدعاء. الثاني: الواجب الذي تدخله النيابة. الثالث: الصدقة. الرابع: العتق. وما عدا ذلك فإنه موضع خلاف بين أهل العلم: فمن العلماء من يقول: إن الميت لا ينتفع بثواب الأعمال الصالحة إذا أهدي له في غير هذه الأمور الأربعة. ولكن الصواب: أن الميت ينتفع بكل عمل صالح جعل له إذا كان الميت مؤمنًا. ا. هـ. وله فتاوى كثيرة اخترت منها ما تقدم، وإذا تقرر هذا جاز إهداء ثواب الذكر لمن شاء من الأموات. تنبيه: فرّق كثير من العلماء بين ابتداء العمل لنفسه، ثم إهداء الثواب، وقالوا هذا محض تفضل من العامل فيهديه لمن يشاء، ولا إشكال في ذلك، بخلاف النيابة عن الغير من أول العمل، فقالوا الأصل الاقتصار على ما ورد مما جاءت النيابة فيه، وكثير ممن تكلم في المسألة لم يفرّق. قال ابن القيم في الروح: (¬1) وسر المسألة أن الثواب ملك العامل ¬

(¬1) الروح 1/ 143.

فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن وحار على العبد أن يوصله إلى أخيه وهذا عمل سائر الناس حتى المنكرين في سائر الإعصار والأمصار من غير نكير من العلماء. ا. هـ. وهو أكثر من بسط الكلام على أصل المسألة في كتابه هذا.

الحكم التاسع والثلاثون

الحكم التاسع والثلاثون الذكر عبادة من أجلّ العبادات، وهي روح العبادات كلها، فلا حرج علي العابد أن يكثر منه، فلا جد لأكثره، فقد قال الله جلّ وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]. وعيرّ المنافقين بقوله: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]. وأخرج الترمذي وابن ماجه (¬1) بسند لا بأس به: عن عبد الله بن بُسر (¬2) - رضي الله عنه -، أن رجلًا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطبًا من ¬

(¬1) الترمذي (رقم: 3375) وقال: قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وابن ماجه (رقم: 3793). وأخرجه أحمد (رقم: 17716) وابن أبى شيبة (رقم: 29453) وابن حبان (رقم 814) والحاكم (رقم: 1822) وقال: صحيح الإسناد. (¬2) هو: عبيد الله بن بسر، شامي من أهل حمص. روى عن أبي إمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنه صفوان بن عمرو، ذكره ابن حبان في كتاب «الثقات» قال الترمذي: ولعله أن يكون أخا عبد الله بن بسر، ذكر أبو موسى المديني في ذيل الصحابة عبيد الله بن بسر أخو عبد الله بن بسر. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 4 - 5، وتهذيب الكمال 19/ 13، وميزان الاعتدال 3 / الترجمة 5436، وثقات ابن حبان 5/ 66.

ذكر الله». وقال الترمذي عقبه: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. فلو استوعب دهره بالقراءة والتسبيح وسائر أنواع الذكر، ما كان عليه من جناح، بل كان محمودًا، ما لم يشق على نفسه أو يقصر في أداء حق لله أو واجب للخلق، ولذا نهى عليه الصلاة والسلام عن الوصال، وأخبر أن خير الصيام صيام يوم وإفطار يوم، وفي الصحيحين: (¬1) عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: كانت عندي امرأة من بني أسد، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «من هذه؟» قلت: فلانة لا تنام بالليل، فذكر من صلاتها، فقال: «مه عليكم ما تطيقون من الأعمال، فإن الله لا يمل حتى تملوا». وأخرج البخاري: (¬2) من طريق عون بن أبي جحيفة، عن أبيه (¬3)، قال: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان، وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: كل؟ قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال: سلمان قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صدق سلمان». ¬

(¬1) البخاري (رقم: 3206) ومسلم (رقم: 899). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1968). (¬3) هو: وهب بن عبد الله بن مسلم بن جنادة، أبو جحيفة، السوائي. صحابي، توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مراهق. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن على والبراء بن عازب - رضي الله عنهما -، وعنه ابنه عون وسلمه بن كهيل والشعبي والحكم بن عتيبة وغيرهم. وسكن الكوفة وولي بيت المال والشرطة لعلي، فكان يدعوه «وهب الخير». انظر: الإصابة 3/ 642، وتهذيب التهذيب 11/ 164، والإعلام 9/ 149.

وقال البخاري في صحيحة: باب: في كم يقرأ القرآن. (¬1) ثم روى: (¬2) من طريق مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته، فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشًا، ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «القني به»، فلقيته بعد، فقال: «كيف تصوم؟» قال: كل يوم، قال: «وكيف تختم؟»، قال: كل ليلة، قال: «صم في كل شهر ثلاثة، واقرإ القرآن في كل شهر»، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم ثلاثة أيام في الجمعة»، قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: «أفطر يومين وصم يومًا» قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم أفضل الصوم صوم داود صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة» فليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذاك أني كبرت وضعفت، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار، ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أيامًا وأحصى، وصام مثلهن كراهية أن يترك شيئًا، فارق النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، قال أبو عبد الله: وقال بعضهم: في ثلاث وفي خمس وأكثرهم على سبع. قلت: رواية «ثلاثة أيام» وقعت للبخاري أيضًا في باب: صوم يوم وإفطار يوم. (¬3) من طريق شعبة، عن مغيرة، قال: سمعت مجاهدًا، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «صم من الشهر ثلاثة أيام»، قال: أطيق أكثر من ذلك، فما زال حتى قال: «صم يومًا وأفطر ¬

(¬1) صحيح البخاري 6/ 196. (¬2) البخاري (رقم: 5052). (¬3) البخاري 3/ 40.

يومًا» فقال: «اقرأ القرآن في كل شهر»، قال: إني أطيق أكثر فما زال، حتى قال: «في ثلاث». وعند أبي داود: (¬1) من طريق همام وسعيد كلاهما عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: يا رسول الله، في كم أقرأ القرآن؟ قال: «في شهر»، قال: إني أقوى من ذلك، يردد الكلام أبو موسى، وتناقصه حتى قال: «اقرأه في سبع»، قال: إني أقوى من ذلك، قال: «لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث» وأخرجه الترمذي في سننه: (¬2) طريق أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن عبد الله بن عمرو، قال: قلت: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ قال: «اختمه في شهر». قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «اختمه في عشرين» قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «اختمه في خمسة عشر» قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «اختمه في عشر». قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «اختمه في خمس». قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فما رخص لي. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، يستغرب من حديث أبي بردة عن عبد الله بن عمرو. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عبد الله بن عمرو. وروي عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث». وروي عن عبد الله بن عمرو، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «اقرأ القرآن في أربعين». ¬

(¬1) أبو داود (رقم: 1392). (¬2) الترمذي (رقم: 2946).

وقال إسحاق بن إبراهيم: ولا نحب للرجل أن يأتي عليه أكثر من أربعين يوما، ولم يقرأ القرآن لهذا الحديث. وقال: بعض أهل العلم لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث للحديث الذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورخص فيه بعض أهل العلم. وروي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أنه كان يقرأ القرآن في ركعة يوتر بها. وروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ القرآن في ركعة في الكعبة. والترتيل في القراءة أحب إلى أهل العلم» ا. هـ. وقال في شرح السنة: (¬1) وقال عبد الله بن مسعود: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث، فهو راجز. ورخص بعض أهل العلم فيه، روي عن عثمان، أنه كان يقرأ القرآن في ركعة يوتر بها. وعن سعيد بن جبير، أنه قرأ القرآن في ركعة في الكعبة. وعن تميم الداري، أنه كان يقرأ القرآن في ركعة. ا. هـ. والمقصود من هذا وغيره من النقول أن الشريعة متسعة التكاليف، متنوعة الواجبات، فلا بد من الفقه في هذا الأمر. ولذا قال الذهبي في سيره (¬2) ما نصه: وصح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نازله إلى ثلاث ليال، ونهاه أن يقرأه في أقل من ثلاث (¬3)، وهذا كان ¬

(¬1) شرح السنة 4/ 498. (¬2) سير أعلام النبلاء 4/ 84. (¬3) أخرجه أبو داود (رقم:1394) والترمذي (رقم: 2950) وابن ماجه (رقم: 1347).

في الذي نزل من القرآن، ثم بعد هذا القول نزل ما بقي من القرآن. فأقل مراتب النهي أن تكره تلاوة القرآن كله في أقل من ثلاث، فما فقه ولا تدبر من تلا في أقل من ذلك. ولو تلا ورتل في أسبوع، ولازم ذلك، لكان عملا فاضلا، فالدين يسر، فو الله إن ترتيل سبع القرآن في تهجد قيام الليل مع المحافظة على النوافل الراتبة، والضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار المأثورة الثابتة، والقول عند النوم واليقظة، ودبر المكتوبة والسحر، مع النظر في العلم النافع والاشتغال به مخلصا لله، مع الأمر بالمعرف، وإرشاد الجاهل وتفهيمه، وزجر الفاسق، ونحو ذلك، مع أداء الفرائض في جماعة بخشوع وطمأنينة وانكسار وإيمان، مع أداء الواجب، واجتناب الكبائر، وكثرة الدعاء والاستغفار، والصدقة وصلة الرحم، والتواضع، والإخلاص في جميع ذلك، لشغل عظيم جسيم، ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتقين، فإن سائر ذلك مطلوب. فمتى تشاغل العابد بختمة في كل يوم، فقد خالف الحنيفية السمحة، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه، ولا تدبر ما يتلوه. هذا السيد العابد الصاحب كان يقول لما شاخ: ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) وكذلك قال له - صلى الله عليه وسلم - في الصوم، وما زال يناقصه حتى قال له: «صم يوما، وأفطر يوما، صوم أخي داود - عليه السلام -». (¬2) وثبت أنه قال: «أفضل الصيام صيام داود». (¬3) ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخرجه. (¬3) البخاري (رقم: 1131) ومسلم (رقم: 1159).

ونهى - عليه الصلاة والسلام - عن صيام الدهر. (¬1) وأمر - عليه الصلاة والسلام - بنوم قسط من الليل، وقال: «لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني». (¬2) وكل من لم يزمّ نفسه في تعبده وأوراده بالسنة النبوية، يندم ويترهب ويسوء مزاجه، ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الحريص على نفعهم، وما زال - صلى الله عليه وسلم - معلما للأمة أفضل الأعمال، وآمرا بهجر التبتل والرهبانية التي لم يبعث بها، فنهى عن سرد الصوم، ونهِى عن الوصال، وعن قيام أكثر الليل إلا في العشر الأخير، ونهى عن العزبة للمستطيع، ونهى عن ترك اللحم، إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي. فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذور مأجور، والعابد العالم بالآثار المحمدية، المتجاوز لها مفضول مغرور، وأحب الأعمال إلى الله - تعالى - أدومها وإن قل. ألهمنا الله وإياكم حسن المتابعة، وجنبنا الهوى والمخالفة .. ا. هـ. وهو كلام شاف كاف. فائدة: أخرج في شعب الإيمان: (¬3) الحسن بن محمد الزعفراني، حدثنا أسباط بن محمد القرشي، عن الأعمش، عن شقيق، قال: قيل لابن مسعود: إنك تقلّ الصوم، قال: إني إذا صمت ضعفت عن القرآن، وقراءة القرآن أحب إلي. قال: وحدثنا الزعفراني، حدثنا أبو ¬

(¬1) البخاري (رقم: 1102) ومسلم (رقم: 1159). (¬2) البخاري (رقم: 4776) مسلم (رقم: 1401). (¬3) شعب الإيمان 3/ 394.

معاوية الضرير، حدثنا الأعمش، عن شقيق قال: قيل لعبد الله: إنك تقلّ الصوم. بمثل ذلك. وأخرجه الطبراني في الكبير: (¬1) من طريق حماد بن سلمه، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن ابن مسعود (ولفظه) أنه قيل له: إنك تقلّ الصوم، فقال: أجل، إني إذا صمت ضعفت عن الصلاة، والصلاة أحب إلي من الصوم. وأخرجه ابن أبي شيبة: قال: أبو معاوية، عن الأعمش، عن سفيان، قال: قيل لعبد الله: إنك تقل الصوم، فقال: إني أخاف أن يمنعني من قراءة القرآن، فإن قراءة القرآن أحب إلي من الصوم. هكذا وفيه انقطاع، والخبر محفوظ عن ابن مسعود، وفيه الفقه المتين لهذا الصحابي الجليل. فائدة أخرى: قال في فتح الباري (¬2) ما نصه: في كتاب محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد: أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها .. ا. هـ. وهنا مسألة: كيف يتفق هذا مع كراهة قراءة القرآن في أقل من ثلاث. والجواب: يتبرع به ابن رجب في اللطائف (¬3) حيث قال ما نصه: وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من ¬

(¬1) المعجم الكبير للطبراني (رقم: 8872). (¬2) فتح الباري 2/ 482. (¬3) اللطائف ص171.

غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره. ا. هـ. كذا قال ابن رجب - رحمه الله - وهو يدل على الإباحة بالشرط المتقدم. ولكنّ خير الهدي هدي النبي عليه الصلاة والسلام. تنبيه: يوجد في أذكار المتصوفة التسبيحات بالألوف بل بمئات الألوف، وهذا من البدع بل عندهم قراءة سور بأمثال هذه الأعداد، وأوراد بنحو هذه الأعداد، وأكثر ما ورد في السنة المطهرة من التسبيح أو التهليل، هو التسبيح المئوي، أعني ما رتّب عليه فضل خاص.

الحكم الأربعون

الحكم الأربعون الأصل استواء الرجال والنساء في أصل هذه العبادة ووصفها ما لم تدل الأدلة على التفريق، وهذا نظام الشريعة طرّا. ومما جاء في الأدلة إثبات الفرق بين الجنسين في هذه العبادة أن النساء لا أذان عليهن ولا إقامة وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه: (¬1) قال: نا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: كنا نسأل أنسا، هل على النساء أذان وإقامة؟ قال: «لا، وإن فعلن فهو ذكر» إسناده صحيح. ولا يجهرن بالتلبية ولا يسبحن بل يصفقن خلف الإمام الساهي. قال في المغني (¬2) ما نصه: مسألة: قال: «ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية، إلا بمقدار ما تسمع رفيقتها». قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها، وإنما عليها أن تسمع نفسها. وبهذا قال عطاء، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي. وروي عن سليمان بن يسار أنه قال: السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال. وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها، ¬

(¬1) ابن أبي شيبة (رقم: 2317). (¬2) المغني 3/ 305.

ولهذا لا يسن لها أذان ولا إقامة، والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح. ا. هـ. وقال في مجموع الفتاوى (¬1) ما نصه: و «أيضًا» يأمرون المرأة في الصلاة أن تجمع ولا تجافي بين أعضائها وتتربع ولا تفترش وفي الإحرام لا ترفع صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها وأن لا ترقى فوق الصفا والمروة. كل ذلك لتحقيق سترها وصيانتها ونُهيت أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم؛ لحاجتها في حفظها إلى الرجال مع كبرها ومعرفتها .. الخ كلامه. وسئل: (¬2) عن امرأة سمعت في الحديث «اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك» إلى آخره فداومت على هذا اللفظ فقيل لها: قولي: اللهم إني أمتك بنت أمتك إلى آخره. فأبت إلا المداومة على اللفظ فهل هي مصيبة أم لا؟ فأجاب: بل ينبغي لها أن تقول: اللهم إني أمتك بنت عبدك ابن أمتك فهو أولى وأحسن. وإن كان قولها: عبدك ابن عبدك له مخرج في العربية كلفظ الزوج والله أعلم. ا. هـ. وقال ابن عثيمين في لقاء الباب المفتوح (¬3) ما نصه: أليس نقول في دعاء الجنازة: «اللهم أبدلها زوجًا خيرًا من زوجها»، وهذا الدعاء مُشْكِل؛ لأنها إن كانت متزوجة فكيف نقول: «اللهم أبدلها زوجًا خيرًا من زوجها»، وإن كانت غير متزوجة فأين زوجها؟ الجواب عن هذا أنْ نقول: إنَّ قولنا: «أبدِلْها زوجًا خيرًا من ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 34/ 130. (¬2) مجموع الفتاوى 22/ 488. (¬3) لقاء الباب المفتوح 3/ 25.

زوجها» فيما إذا كانت غير متزوجة، فالمراد: خيرًا من زوجها المقدّر لها لو بقيت، وأما إذا كانت متزوجة فالمراد بكونه خيرًا من زوجها أي: خيرًا منه في الصفات في الدنيا؛ لأن التبديل يكون: 1 - بتبديل الأعيان كما لو بعت شاة ببعير مثلًا. 2 - ويكون بتبديل الأوصاف كما لو قلت: بدل الله كفر هذا الرجل بإيمان، وكما في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 42]. والأرض هي الأرض؛ لكنها مدت، والسماء هي السماء؛ لكنها انشقت. ا. هـ.

الحكم الواحد والأربعون

الحكم الواحد والأربعون الاستهزاء بالأذكار الشرعية أو الاستخفاف بها كفر مخرج من الملة قال الله جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]. الآية. وأي صورة لإهانة الذكر مكتوبًا أو غير مكتوب داخلة في هذه الآية، ومن ذلك حرق المصاحف وكتب الحديث والذكر للإهانة لا للصيانة هي كفر وزندقة. وأما حرقها لأجل الصيانة عن الامتهان لتمزقها. فليس كذلك فقد حرق عثمان - رضي الله عنه - المصاحف في الأمصار درءا للاختلاف، وكذا حرم توسدها للإهانة، وأما توسدها خوفا من السرقة أو التنجيس أو من عدو يهينها فيتجه جوازه، وقد نص عليه جماعة، وأما كتابة القرءان أو أسماء الله أو الأذكار الشرعية بالنجاسات فكفر شنيع وردة إن فعله مسلم والعياذ بالله. ومن صور الاستخفاف به الغناء به قال في كفاية الأخيار: (¬1) وأما الكفر بالفعل فكالسجود للصنم والشمس والقمر، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس، وكذا الذبح للأصنام ¬

(¬1) كفاية الأخيار 1/ 494.

والسخرياء باسم من أسماء الله تعالى أو بأمره أو وعيده أو قراءة القرآن على ضرب الدف، وكذا لو كان يتعاطى الخمر والزنا ويقدم اسم الله تعالى استخفافا به فإنه يكفر. ا. هـ. وقال في مجمع الأنهر في ملتقى الأبحر: (¬1) «الثالث في القرآن والأذكار والصلاة ونحوها». إذا أنكر آية من القرآن واستخف بالقرآن أو بالمسجد أو بنحوه مما يعظم في الشرع أو عاب شيئا من القرآن أو خطئ أو سخر بآية منه كفر إلا المعوذتين ففي إنكارهما اختلاف والصحيح كفره وقيل إن كان عاميا يكفر وإن كان عالما لا لكن ذهب بعض الفقهاء إلى عدم إيجاب الكفر ويكفر باعتقاد أن القرآن مخلوق حقيقة وكذا بخلق الإيمان ويجب أكفار الذين يقولون إن القرآن جسم إذا كتب وعرض إذا قرئ. وفي فصول العمادية إذا قرأ القرآن على دقّ الدفّ والقصب يكفر. ا. هـ. تنبيه: من صور الاستخفاف بالذكر أن يفتتح به الاجتماعات الباطلة، والمؤتمرات الآثمة، والمهرجانات والألعاب وغيرها مما يكون القرآن، والحمد والصلاة على نبيه مقدمة لها، ثم بعد ذلك لا تسأل عن الكفر بالقرآن ونبذه خلف الظهور وانعقاد الخناصر على تنحيته، فو الله لو كان افتتاحهم بآلات الطرب لكان أهون من اتخاذ آيات الله هزوا. فائدة: فيما وقع لبعض المستهزئين، ذكر أبو العباس في مجموع فتاويه: (¬2) ذكره الطبراني في «كتاب السنة «عن زكريا بن يحي الساجي ¬

(¬1) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 1/ 692. (¬2) مجموع الفتاوى 4/ 539.

قال: كنا نختلف إلى بعض الشيوخ لسماع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاسترعنا في المشي ومعنا شاب ماجن. فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة. لا تكسروها. قال: فما زال حتى جفته رجلاه ... وقال قبل ذلك: (¬1) ذكر: أبو سعيد بن السمعاني عن الشيخ العارف يوسف الهمداني عن الشيخ الفقيه أبي إسحاق الشيرازي عن القاضي أبي الطيب الطبري قال: كنا جلوسا بالجامع ببغداد فجاء خراساني سألنا عن المصراة. فأجبناه فيها واحتججنا بحديث أبي هريرة فطعن في أبي هريرة فوقعت حية من السقف وجاءت حتى دخلت الحلقة وذهبت إلى ذلك الأعجمي فضربته فقتلته. ا. هـ. قال الذهبي في سيره (¬2) ما نصه: قال الحافظ أبو سعد السمعاني: سمعت أبا المعمر المبارك بن أحمد، سمعت أبا القاسم يوسف بن علي الزنجاني الفقيه، سمعت الفقيه أبا إسحاق الفيروزابادي، سمعت القاضي أبا الطيب يقول: كنا في مجلس النظر بجامع المنصور، فجاء شاب خراساني، فسأل عن مسألة المصراة، فطالب بالدليل، حتى استدل بحديث أبي هريرة الوارد فيها، فقال - وكان حنفيا -: أبو هريرة غير مقبول الحديث. فما استتم كلامه حتى سقط عليه حية عظيمة من سقف الجامع، فوثب الناس من أجلها، وهرب الشاب منها وهي تتبعه. فقيل له: تب تب. فقال: تبت. فغابت الحية، فلم ير لها أثر. إسنادها أئمة. ا. هـ وفي سياقها اختلاف، عمّا ذكر أبو العباس في فتاويه. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 4/ 538. (¬2) سير أعلام النبلاء 2/ 618.

تنبيه: يكره كتابة ما فيه ذكر الله على العملات؛ لأن هذا سبب لامتهانها. فائدة: سمعت شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله -، يقول: قرأت زمن الطلب قصة امرأة لا تتكلم إلا بالقرآن خشية الزلل، وكل فعلها زلل، ثم علل ذلك بامتهان القرآن ووضعه في غير موضعه. قلت: وهذا سياق القصة، قال: عبد الله بن المبارك،: خرجت حاجًا إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام، فبينما أنا في بعض الطريق إذ أنا بسواد، فتميزت ذاك فإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف، فقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقالت: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]. قال: فقلت لها: يرحمك الله ما تصنعين في هذا المكان، قالت: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33]. فعلمت أنها ضالة عن الطريق، فقلت لها: أين تريدين، قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]. فعلمت أنها قد قضت حجها، وهي تريد بيت المقدس، فقلت لها: أنت منذ كم في هذا الموضع قالت: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]. فقلت: ما أرى معك طعامًا تأكلين، قال: {هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79]. فقلت: فبأي شيء تتوضئين، قالت: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. فقلت لها: أن معي طعامًا فهل لك في الأكل، قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى

اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. فقلت: ليس هذا شهر رمضان، قالت: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]. فقلت: قد أبيح لنا الإفطار في السفر، قالت: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]. فقلت: لم لا تكلميني كما أكلمك، قالت: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. فقلت: فمن أي الناس أنت، قالت: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. فقلت: قد أخطأت فاجعليني في حل، قالت: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92]. فقلت: فهل لك أن أحملك على ناقتي هذه فتدركي القافلة، قالت: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197]. قال: فأنخت ناقتي، قالت: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 197]. فغضضت بصري عنها، وقلت لها: اركبي، فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة فمزقت ثيابها، فقالت: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]. فقلت: لها أبصري حتى أعلقها، قالت: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]. فعلقت الناقة، وقلت لها: اركبي، فلما ركبت، قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13، 14]. قال:

فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسرع وأصيح، فقالت: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]. فجعلت أمشي رويدًا رويدًا وأترنم بالشعر، فقالت: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. فقلت لها: لقد أوتيت خيرًا كثيرًا، قالت: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]. فلما مشيت بها قليلًا، قلت: ألك زوج، قالت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. فسكت ولم أكملها حتى أدركت بها القافلة، فقلت لها: هذه القافلة فمن لك فيها، فقالت: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]. فعلمت أن لها أولادًا، فقلت: وما شأنهم في الحج، قالت: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]. فعلمت أنهم أدلاء الركب فقصدت بها القباب والعمارات، فقلت: هذه القباب فمن لك فيها، قالت: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]. {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]. فناديت يا إبراهيم يا موسى يا يحيى، فإذا أنا بشبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا، فلما استقر بهم الجلوس، قالت: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19]. فمضى أحدهم فاشترى طعامًا فقدموه بين يدي، وقالت: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ

الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]. فقلت: الآن طعامكم علي حرام حتى تخبروني بأمرها، فقالوا: هذه أمّنا لها منذ أربعين سنة لم تتكلم إلا بالقرآن، مخافة أن تزل فيسخط عليها الرحمن، فسبحان القادر على ما يشاء، فقلت: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] ا. هـ. (¬1) ولا يشرع أيضا عند احترام كتب الذكر وأجله القرآن تقبيلها. وأما ما أخرجه الدرامي في سننه: (¬2) أخبرنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، أن عكرمة بن أبي جهل، كان يضع المصحف على وجهه ويقول: «كتاب ربي، كتاب ربي». فلا يثبت بل هو منقطع فابن أبي مليكة لم يدرك، عكرمة وهو موقوف أيضا على عكرمة. وسئل ابن تيمية في الفتاوى: (¬3) عن القيام للمصحف وتقبيله؟ وهل يكره أيضا أن يفتح فيه الفأل؟. فأجاب: الحمد لله، القيام للمصحف وتقبيله لا نعلم فيه شيئا مأثورا عن السلف، وقد سئل الإمام أحمد عن تقبيل المصحف. فقال: ما سمعت فيه شيئا. ولكن روي عن عكرمة بن أبي جهل: أنه كان يفتح المصحف ويضع وجهه عليه ويقول: «كلام ربي. كلام ربي». ¬

(¬1) انظر جواهر الأدب1/ 405. (¬2) الدرامي (رقم: 339). (¬3) مجموع الفتاوى 23/ 65.

ولكن السلف وإن لم يكن من عادتهم القيام له، فلم يكن من عادتهم قيام بعضهم لبعض اللهم إلا لمثل القادم من مغيبه ونحو ذلك. ولهذا قال أنس: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك. والأفضل للناس أن يتبعوا طريق السلف في كل شيء. ا. هـ.

الحكم الثاني والأربعون

الحكم الثاني والأربعون الذكر سبب لشرح الصدور وشفاء أسقام الأرواح والأجساد، فما استشفى بمثل كلام الله وذكره وما استدفعت الأسقام بمثل ذلك، قال الله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57، 58]. وقد فسر فضله بالإسلام، ورحمته بالقرآن. كذا قال جمهرة من المفسرين. قال ابن كثير في تفسيره: (¬1) يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزل إليهم من القرآن العظيم على رسوله الكريم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: زاجر عن الفواحش، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي: من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس، {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} أي: محصل لها الهداية والرحمة من الله تعالى. وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه؛ كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. وَقالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 4/ 274.

وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. ا. هـ. وقال ابن القيم عن فاتحة الكتاب ما نصه: (¬1) فاتحة الكتاب: وأم القرآن، والسبع المثاني، والشفاء التام، والدواء النافع، والرقية التامة، ومفتاح الغنى والفلاح، وحافظة القوة، ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارها وأعطاها حقها، وأحسن تنزيلها على دائه، وعر وجه الاستشفاء والتداوي بها، والسر الذي لأجله كانت كذلك. ولما وقع بعض الصحابة على ذلك، رقى بها اللديغ، فبرأ لوقته، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وما أدراك أنِا رقية». (¬2) ومن ساعده التوفيق، وأعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة، وما اشتملت عليه من التوحيد، ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال، وإثبات الشرع والقدر والمعاد، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية، وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين، وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحهما، ودفع مفاسدهما، وأن العاقبة المطلقة التامة، والنعمة الكاملة منوطة بها، موقوفة على التحقق بها، أغنته عن كثير من الأدوية والرقى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشر أسبابه. ا. هـ. والأخبار في الاستشفاء بها كثيرة. ¬

(¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد 4/ 318. (¬2) البخاري (رقم: 5736) مسلم (رقم: 2201)

فائدة أخرج أحمد في مسنده (¬1) قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن سماك، قال: قال محمد بن حاطب: (¬2) انصبت على يدي من قدر، فذهبت بي أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في مكان، قال: فقال كلامًا فيه: «أذهب البأس، رب الناس - وأحسبه قال - اشف أنت الشافي» قال: وكان يتفل. وأعاده (¬3) من طريق: حدثنا شريك، عن سما، بن حرب، عن محمد بن حاطب، قال: دببت إلى قدر، وهي تغلي فأدخلت يدي فيها، فاحترقت - أو قال: فورمت يدي - فذهبت بي أمي إلى رجل كان بالبطحاء، فقال: شيئًا، ونفث، فلما كان في إمرة عثمان، قلت لأمي من كان ذلك الرجل؟ قالت: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحديث ثابت وشريك متابع. فالاستشفاء يكون بكلام الله وبالأذكار النبوية. قال ابن القيم: في غير موضع من كتبه في أنواع هجر القرآن: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهار التداوي به وكل هذا داخل في قوله: {وَقَالَ ¬

(¬1) أحمد (رقم: 15452) (¬2) هو محمد بن حاطب بن الحارث بن معمر القرشي الجمحي. صحابي. ولد بأرض الحبشة أمه أم جميل فاطمة بنت المجلل. عده ابن حبيب من «أجواد الإسلام» وهو أول من سمي «محمدًا» في الإسلام. قال هشام بن الكلبي: شهد محمد بن حاطب مع علي مشاهده كلها الجمل وصفين والنهروان. انظر: الإصابة 3/ 372، وأسد الغابة 4/ 314، وشذرات الذهب 1/ 82، والأعلام 6/ 304. (¬3) أحمد (رقم: 15454).

الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. الخ كلامه. فائدة: أخرج الشيخان: (¬1) من طريق عروة بن الزبير، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» زاد مسلم: وليقل: «آمنت بالله ورسله». وروى أبو داود: (¬2) من طريق محمد - يعنى ابن إسحاق - قال حدثني عتبة بن مسلم مولى بني تيم عن أبى سلمه بن عبد الرحمن عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يِقول فذكر نحوه، قال: «فإذا قالوا ذلك فقولوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا وليستعذ من الشيطان». فائدة: الألفاظ قوالب للمعاني، فكل مرض ناسبه ألفاظ من القران والأدعية المشروعة، فهو من أسباب الشفاء بإذن الله لا يختلفون في ذلك. قال ابن القيم: (¬3) كتاب للرعاف: كان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يكتب على جبهته: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود: 44]. وسمعته يقول: كتبتها لغير واحد فبرأ، فقال: ولا يجوز كتابتها بدم الراعف، كما يفعله الجهال، فإن الدم ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 3102) ومسلم (رقم: 134). (¬2) أبو داود (رقم: 4722) (¬3) الطب النبوي لابن القيم ص 271.

نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى. كتاب آخر له: خرج موسى - عليه السلام - برداء، فوجد شعيبًا، فشده بردائه {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]. كتاب آخر للحزاز: يكتب عليه: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266]. بحول الله وقوته. وقال أيضًا: (¬1) كتاب لوجع الضرس: يكتب على الخد الذي يلي الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23]، وإن شاء كتب: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13]. كتاب للخراج: يكتب عليه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105 - 107]. ا. هـ وقال ابن القيم في المدارج: (¬2) وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة. وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها - من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة - قال: فلما اشتد علي الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: ¬

(¬1) الطب النبوي لابن القيم ص 272. (¬2) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 2/ 471.

اقرءوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قلبه. ا. هـ. قال أبو محمد: والرقية بهذا وأمثاله مباحة فإنها ليست توقيفية لكن يشترط لها ما ذكره السيوطي بقوله: قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وبما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى ... ا. هـ. وقد نقله العلماء عنه. فائدة: يشرع رقية الحيوانات التي ينتفع بها العبد ويحتاجها، وهي تنتفع بالرقية. وقد أخرج أحمد في مسنده: (¬1) قال: حدثنا أبو سعيد، مولى بني هاشم، حدثنا ذَيّال بن عبيد بن حنظلة، قال: سمعت حنظلة بن حِذيم جدِّي، أن جده حنيفة، قال لحذيم: اجمع لي بني، فإني أريد أن أوصي، فجمعهم، فقال: إن أول ما أوصي أن ليتيمي هذا الذي في حجري مائة من الإبل، التي كنا نسميها في الجاهلية: المطيبة، فقال حذيم: يا أبت، إني سمعت بنيك يقولون: إنما نقر بهذا عند أبينا، فإذا مات رجعنا فيه، قال: فبيني وبينكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال حذيم: رضينا، فارتفع حذيم، وحنيفة، وحنظلة معهم غلام، وهو رديف لحذيم، فلما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، سلموا عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما رفعك يا أبا حذيم؟» قال: هذا، وضرب بيده على فخذ حذيم، فقال: إني خشيت أن يفجأني الكبر، أو الموت، فأردت أن أوصي، وإني قلت: إن أول ما أوصي أن ليتيمي هذا الذي في حجري مائة من الإبل، كنا نسميها في الجاهلية: المطيبة، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى رأينا ¬

(¬1) أحمد (رقم: 20665).

الغضب في وجهه، وكان قاعدًا فجثا على ركبتيه، وقال: «لا، لا، لا الصدقة خمس، وإلا فعشر، وإلا فخمس عشرة، وإلا فعشرون، وإلا فخمس وعشرون، وإلا فثلاثون، وإلا فخمس وثلاثون، فإن كثرت فأربعون»، قال: فودعوه ومع اليتيم عصا، وهو يضرب جملًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عظمت هذه هراوة يتيم»، قال حنظلة: فدنا بي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن لي بنين ذوي لحى، ودون ذلك، وإن ذا أصغرهم، فادع الله له، فمسح رأسه، وقال: «بارك الله فيك»، أو «بورك فيه»، قال ذيّال: فلقد رأيت حنظلة، يؤتى بالإنسان الوارِم وجهُه، أو بالبهيمة الوارمة الضرعُ، فيتفل على يديه، ويقول: بسم الله، ويضع يده على رأسه، ويقول على موضع كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيمسحه عليه، وقال ذيال: «فيذهب الورم». وإسناده صحيح. وقال ابن عبد البر في التمهيد: (¬1) أخبرنا عبد الوارث، حدثنا قاسم، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، حدثنا حصين، عن هلال بن يساف، عن سحيم بن نوفل، قال: كنا عند عبد الله نعرض المصاحف، فجاءت جارية أعرابية إلى رجل منا، فقالت: إن فلانًا قد لقع مهرك بعينه وهو يدور في فلك لا يأكل ولا يشرب ولا يبول ولا يروث، فالتمس له راقيًا، فقال عبد الله: لا نلتمس له راقيًا، ولكن ائته فانفخ في منخره الأيمن أربعًا، وفي الأيسر ثلاثًا، وقل لا بأس أذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي لا يكشف الضر إلا أنت. فقام الرجل فانطلق فما برحنا حتى رجع، فقال لعبد الله: فعلت الذي أمرتني به فما برحت حتى أكل وشرب وبال وارث. ا. هـ. ¬

(¬1) التمهيد (6/ 238) وانظر: الاستذكار (8/ 402) حيث رواه من طريق شعبة عن حصين به أيضًا. وإسناده صحيح.

فائدة: قال في الإصابة (¬1) في ترجمة خلّاد بن رافع بن مالك الخزرجيّ أخو رفاعة، يكنى أبا يحيى، ذكرهما ابن إسحاق وغيره في البدريّين، وروى البّزار والباوردي وابن السّكن والطّبرانيّ، من طريق عبد العزيز بن عمران عن رفاعة بن يحيى عن معاذ بن رفاعة، عن أبيه رفاعة بن رافع، قال: خرجت أنا وأخي خلّاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر على بعير أعجف؛ حتى إذا كنا خلف الرّوحاء برك بنا بعيرنا، فذكر الحديث. وفيه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما، وتفله على البعير وغيره. ا. هـ. ¬

(¬1) الإصابة في تمييز الصحابة 2/ 284.

الحكم الثالث والأربعون

الحكم الثالث والأربعون إذا اجتمع للذكر الواحد أكثر من سبب فهل يأتي به مرة واحدة؟ فيحكم بالتداخل أم يأتي به مكررًا؛ فيه بحث. قال ابن رجب في قواعده: القاعدة الثامنة عشر: إذا اجتمعت عبادتان من جنس في وقت واحد ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت تداخلت أفعالهما، واكتفى فيهما بفعل واحد وهو على ضربين: وقال في أمثلة الضرب الأول: ومنها: لو أدرك الإمام راكعًا فكبر تكبيرة ينوي بها تكبيرة الإحرام والركوع فهل يجزئه؟ على وجهين حكاهما أبو الخطاب وغيره، واختار القاضي عدم الأجزاء للتشريك بين الركن وغيره، وأخذه من نص أحمد - رحمه الله - فيمن رفع رأسه من الركوع وعطس، فقال الحمد لله ربنا ولك الحمد ينوي به الواجب وسنة الحمد للعاطس أن لا يجزئه، واختار ابن شاقلا الأجزاء وشبهه بمن أخرج في الفطرة أكثر من صاع ولا يصح هذا التشبيه، ومن الأصحاب من قال إن قلنا تكبيرة الركوع سنة أجزأته وحصلت السنة بالنية تبعًا للواجب، وإن قلنا واجبة لم يصح التشريك وفيه ضعف. وهذه المسألة تدل على أن تكبيرة الركوع تجزئ في حال القيام خلاف ما يقوله المتأخرون.

وقال في أمثلة الضرب الثاني: ومنها: إذا أدرك الإمام راكعًا فكبر للإحرام فهل تسقط عنه تكبيرة الركوع؟ على روايتين أيضًا والمنصوص عنه الأجزاء. وهل يشترط أن ينوي بها تكبيرة الافتتاح أم لا؟ على روايتين نقلهما عنه ابن منصور إحداهما: لا يشترط بل يكفيه أن يكبر بنية الصلاة، وإن لم يستحضر بقلبه أنِا تكبيرة الإحرام؛ كما لو أدرك الإمام في القيام. والثانية: لا بد أن ينوي بها الافتتاح؛ لأنه قد اجتمع ههنا تكبيرتان، فوقع الاشترا، فاحتاجت تكبيرة الإحرام إلى نية تميزها، بخلاف حال القيام فإنه لم يقع فيه اشترا. ا. هـ. وقال شيخنا ابن باز في فتاوى نور على الدرب (¬1) ما نصه: أما إذا دعت الحاجة إلى الجمع فإنه يجمع، ثم يأتي بالأذكار الشرعية بعد الثانية. ا. هـ. ¬

(¬1) فتاوى نور على الدرب 13/ 108.

الحكم الرابع والأربعون

الحكم الرابع والأربعون لا يجوز إحداث فضل للأذكار لم ينقل في الأخبار عن الله ورسوله. وما جاء من فضل لم يصح فهو كالمعدوم فلا يجوز نشره أو ترويجه، فإنه كذب على الله ورسوله، وما أكثر ما ينقل في عصرنا من ذلك مما يصنعه الجهلة وأشباههم، فتبلغ كذبتهم الآفاق في فرية هي أعظم الفري، وهي الكذب على الله - عز وجل - وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أفرى الفري أن يرى عينيه ما لم تر» كما في البخاري (¬1) وغيره (¬2) وهو كذب في المنام على الله في قدره، فكيف بمن يكذب على الله في شرعه ودينه جهارًا نهارًا، فتراهم يكذبون عليه في الترغيب والترهيب، ويزخرفون أفكهم أيضًا بالعقوبة العاجلة، وأن من لم يقل كذا حصل له كذا من ألوان العقوبات والآفات. فمثلًا في مجلة البحوث الإسلامية: (¬3) وفيها تنبيه على نشرة مكذوبة. وجاء فيها أن تكتبها (13) مرة وتوزعها على المسلمين، وجاء أيضًا أن فقيرًا وزّعها فاغتنى. وغني رفضها ففقد كل ما يملك. الخ هذا الهراء والإفك، ومثل هذا ما يفعله ¬

(¬1) البخاري (رقم: 7043). (¬2) أحمد (رقم: 5711). (¬3) مجلة البحوث الإسلامية العدد 36/ 377.

بعض جهلة الوعاظ أن من قرأ: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] كذا مرة وهو عقيم رزق الذرية، فأين الدليل على ذلك؟ نعم فضل الله واسع، وهو سميع الدعاء سبحانه وبحمده؛ لكن الكلام في الجزم والتحديد.

الحكم الخامس والأربعون

الحكم الخامس والأربعون متى يخرج العبد من حد الغفلة التي تردي صاحبها وتهلكه؟، وقبل هذا نذكر متى يكون من الذاكرين لله كثيرًا. صح من طرق: (¬1) عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد - رحمه الله - أنه، قال: لا يكون من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا. وسئل أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - عن القدر الذي يصير به من الذاكرين كثيرًا والذاكرات، فقال: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحًا ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلًا ونهارًا، كان من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، والله أعلم. (¬2) وأما حد الغفلة ومتى ينجو منها العبد، فقد قال ابن القيم في الجواب الكافي (¬3) ما نصه: وأصل هذا كله: أن القلب كلما كان أبعد ¬

(¬1) الزهد والرقائق لابن المبارك (رقم: 938) تفسير ابن أبي حاتم (رقم: 11275) تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني 3/ 117. (¬2) الأذكار للنووي 114 - 126. (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص 79.

من الله كانت الآفات إليه أسرع، وكلما قرب من الله بعدت عنه الآفات. والبعد من الله مراتب، بعضها أشد من بعض، فالغفلة تبعد القلب عن الله، وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله .. ا. هـ. وقال في الوابل الصيب (¬1) ما نصه: فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبًا على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه. فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًا ولا ينكر باطلًا، وهذا أعظم عقوبات القلب. ا. هـ. قال أبو محمد: ومن مكملات الجواب عن هذا السؤال أن نقول: أخرج مسلم في صحيحة: (¬2) من طريق معاوية وهو ابن سلام، عن زيد - يعني أخاه - أنه سمع أبا سلام، قال: حدثني الحكم بن ميناء، أن عبد الله بن عمر، وأبا هريرة حدثاه، أنِما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول على أعواد منبره: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين». وبوب عليه ابن حبان: (¬3) ذكر الأمر بالمواظبة على الجمعات للمرء مخافة من أن يكتب من الغافلين. ¬

(¬1) الوابل الصيب من الكلم الطيب ص 40. (¬2) مسلم (رقم: 865). (¬3) صحيح ابن حبان 7/ 25.

وأخرج أبو داود (¬1) بسند صحيح: من طريق ابن وهب، أخبرنا عمرو، أن أبا سوية، حدثه، أنه سمع ابن حجيرة، يخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» قال أبو داود: ابن حجيرة الأصغر عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة». وبوب عليه ابن حبان في صحيحة: (¬2) ذكر نفي الغفلة عمن قام الليل بعشر آيات. أخرج ابن خزيمة: (¬3) من طريق علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا أبو حمزة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ في ليلة مائة آية لم يكتب من الغافلين، أو كتب من القانتين» وأبو حمزة هو السكري محمد بن ميمون. والخبر يدل على خروج المحافظ على الصلوات الخمس عن كونه غافلًا. ونظير ذلك أني سمعت شيخنا ابن باز، وقد سئل عن هجر القرآن، فقال: من يصلي الفرائض فليس بهاجر للقرآن فإنه يقرؤه فيها. ا. هـ. كلامه. وقال الطبري في تفسيره: (¬4) حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عمر أبو حفص الآبار، عن منصور بن المعتمر، قال: قال ¬

(¬1) أبو داود (رقم: 1398). (¬2) صحيح ابن حبان 6/ 310. (¬3) ابن خزيمة (رقم: 1142). (¬4) تفسير الطبري 15/ 569.

مسروق: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس، فيكتب من الغافلين. قال في مرعاة المفاتيح: (¬1) قوله: «من قام بعشر آيات» أي: أخذها بقوة وعزم من غير فتور ولا توانٍ، من قولهم قام بالأمر، فهو كناية عن حفظها والدوام على قراءتها والتفكر في معانيها والعمل بمقتضاها، وإليه الإشارة بقوله: لم يكتب من الغافلين، ولا شك أن قراءة القرآن في كل وقت لها مزايا وفضائل، وأعلاها أن يكون في الصلاة لاسيما في الليل قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]. ومن ثم أورد محي السنة الحديث في باب صلاة الليل، قاله الطيبي: وحاصلة أن الحديث مطلق غير مقيد لا بصلاة ولا بليل، فينبغي أن يحمل على أدنى مراتبه، ويدل عليه قوله لم يكتب من الغافلين، وإنما ذكره البغوي في محل الأكمل. وقال ابن حجر: أي يقرأها في ركعتين أو أكثر، وظاهر السياق أن المراد غير الفاتحة- انتهى. قلت: تفسير قام يصلي أي بالقراءة في الصلاة بالليل في هذا المقام هو الظاهر بل هو المتعين، لما روى ابن خزيمة في صحيحة (¬2) والحاكم (¬3) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا بلفظ: «من صلى في ليلة بمائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن صلى في ليلة بمائتي آية فإنه يكتب من القانتين المخلصين». قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضًا البزار، لكن في سنده يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في مجمع ¬

(¬1) مرعاة المفاتيح 4/ 187. (¬2) مجمع الزوائد 2/ 267. (¬3) سورة النور آية 37.

الزوائد: (¬1) «لم يكتب من الغافلين» أي: لم يثبت اسمه في صحيفة الغافلين. وقيل: أي خرج من زمرة الغفلة من العامة ودخل في زمرة {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37].ا. هـ. فعلم من هذا أن الغفلة تدفع بالذكر قال في المدارج: (¬2) تفصيل أوجه الذكر في القرآن. فصل في تفصيل ذلك: 1 - أما الأول: فكقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 43]. وَقَوْلهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]. وفيه قولان: أحدهما: في سرك وقلبك، والثاني: بلسانك بحيث تسمع نفسك. 2 - وأما النهي عن ضده: فكقوله: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]. وَقَوْلهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]. وقال أيضًا: (¬3) قال: والذكر: هو التخلص من الغفلة والنسيان. ¬

(¬1) مدارج السالكين 2/ 397. (¬2) المستدرك على الصحيحين للحاكم (رقم: 1161). (¬3) مدارج السالكين 2/ 405.

والفرق بين الغفلة والنسيان: أن الغفلة ترك باختيار الغافل، والنسيان ترك. وقال: (¬1) والمقصود: أن الغفلة هي نوم القلب عن طلب هذه الحياة، وهي حجاب عليه، فإن كشف هذا الحجاب بالذكر وإلا تكاثف حتى يصير حجاب بطالة ولعب واشتغال بما لا يفيد، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب معاص وذنوب صغار تبعده عن الله، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب كبائر توجب مقت الرب تعالى له وغضبه ولعنته، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب بدع عملية يعذب العامل فيها نفسه، ولا تجدي عليه شيئًا، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب بدع قوليه اعتقاديه؛ تتضمن الكذب على الله ورسوله، والتكذيب بالحق الذي جاء به الرسول، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب شك وتكذيب؛ يقدح في أصول الإيمان. الخ كلامه. قلت: وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. وقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29]. فأمر بالإعراض عن أهل الغفلة وترك طاعتهم. ويمكن تلخيص القول بأن من يشهد الفرائض خرج من الغفلة المذمومة، ولكن لا يكون من الذاكرين كثيرًا كما تقدم في ضبط من يكون كذلك والله المستعان. ¬

(¬1) مدارج السالكين 3/ 267.

الحكم السادس والأربعون

الحكم السادس والأربعون هل تشرع التسمية عند الشروع في كل أمر؟، وللجواب نقول أخرج أحمد في مسنده (¬1) وابن ماجه: (¬2) من طريق الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل كلام، أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله، فهو أبتر» أو قال: «أقطع». وهو خبر ضعيف، لضعف قرة بن عبد الرحمن، وللاضطراب الذي وقع في إسناده ومتنه. وروي عن الزهري مرسلًا، فقد أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة: (¬3) من طريق الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، ومن طريق الليث، عن عقيل بن خالد، ومن طريق الحسن بن عمر، ثلاثتهم عن الزهري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره، وقال فيه: «بذكر الله». ورجح الدارقطني في سننه (¬4)، والعلل (¬5) هذه الرواية المرسلة ¬

(¬1) أحمد (رقم: 8712). (¬2) وابن ماجه (رقم: 1894). (¬3) النسائي في عمل اليوم والليلة (رقم: 495 - 496 - 497). (¬4) سنن الدارقطني (رقم: 883). (¬5) علل الدارقطني (رقم: 1391).

على الرواية الموصولة، قلت: ومراسيل الزهري ضعيفة. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه: (¬1) عن معمر، قال: أخبرني رجل من الأنصار رفع الحديث، فذكره. وهذا مرسل أيضًا. وفي بعض ألفاظه: «بسم الله» ولا يثبت. والتسمية شرعت في مواضع كثيرة. ومن ذلك: أن الله افتتح بها كتابه وجميع سور القرآن عدا سورة براءة، وشرعت عند الأكل والشرب ودخول المنزل والخروج منه، وعند الذبح وإرسال الصيد، وعند الوضوء والجماع، وعند الدفن، وعند بعث الجيوش، وعند النوم، وعند الاستيقاظ والرقية وفي صدور الكتب. وغير ذلك مما صحت به الأخبار، فهل تحصر التسمية فيما جاءت به الأخبار، أم يقال الشارع أراد التكثير، وإنما المواضع الواردة أمثلة؟ الظاهر الثاني فهي مشروعة للاستعانة أصالة، والعبد محتاج لعون الله كل لحظة، ما لم تدل الأدلة على ترك التسمية. فإن افتتاح صلاته بالتكبير لا بالتسمية، وعلى هذا تشرع عند قيامه لمهامه وشروعه لكل ذي بال من عمله وكسبه. هذا ما ظهر لي. قال ابن كثير في مقدمة تفسيره (¬2) ما نصه: ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قولك: باسم الله، هل هو اسم أو فعل متقاربان وكل قد ورد به القرآن؛ أما من قدره باسم، تقديره: باسم الله ابتدائي، فلقوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]. ومن قدره بالفعل: أمرًا وخبرًا، نحو: أبدأ ببسم الله أو ابتدأت ببسم الله. فلقوله: ¬

(¬1) مصنف عبد الرزاق (رقم: 20208). (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 121.

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]. وكلاهما صحيح، فإن الفعل لا بد له من مصدر، فلك أن تقدر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله، إن كان قيامًا أو قعودًا أو أكلًا أو شربًا أو قراءة أو وضوءًا أو صلاة، فالمشروع ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله، تبركًا وتيمنًا واستعانة على الإتمام والتقبل، والله أعلم. ا. هـ. وقال على آية هود: (¬1) {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] الآية. ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور: عند الركوب على السفينة وعلى الدابة، كما قال تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 12، 13] الآية، وجاءت السنة بالحث على ذلك، والندب إليه. ا. هـ. فائدة: التسمية عند الذبح؛ قيل سنة، وقيل واجب، وقيل شرط، وهو أصح الأقوال. قال ابن حزم: (¬2) أخبرنا حمام بن أحمد نا أبو محمد الباجي نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن مسلم نا أبو ثور نا معلى نا هشيم، عن يونس هو ابن عبيد - عن محمد بن زياد: قال: إن رجلًا نسي أن يسمي الله تعالى على شاة ذبحها فأمر ابن عمر غلامه فقال: إذا أراد أن يبيع منها لأحد؟ فقل له: إن ابن عمر يقول: إن هذا لم يذكر اسم الله عليها حين ذبحها - وهذا إسناد في غاية الصحة. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 4/ 322. (¬2) المحلى 6/ 89.

ومن طريق ابن أبي شيبة نا معتمر بن سليمان عن خالد هو الحذاء - عنِ ابن سيرين عن عبد الله بن يزيد (¬1) - رضي الله عنه - قال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. [الأنعام: 121] ومن طريق ابن أبي شيبة، أخبرنا يزيد بن هارون، عن أشعث - هو الحمراني - عن ابن سيرين، عن عبد الله بن يزيد - رضي الله عنه -: سأله رجل عمن ذبحِ ونسي أن يسمي الله؟ فتلا عبد الله قول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. وعبد الله هذا هو صحيح الصحبة. ا. هـ. قال أبو محمد: هذان أثران صحيحان عن صحابيين وروى عبد الرزاق: (¬2) عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء قال: حدثنا عين يعني عكرمة، عن ابن عباس، قال: «إن في المسلم اسم الله، فإن ذبح، ونسي اسم الله فليأكل، وإن ذبح المجوسي، وذكر اسم الله فلا تأكله». وهذا خلاف ما نقل عنهما فالجواب: أنِما أسعد بالنص منه ¬

(¬1) هو: عبد الله بن يزيد بن زيد بن حصين بن عمرو بن الحارث بن خطمة، أبو موسى، الأنصاري الخطمي. (بفتح الخاء وسكون الطاء وفي آخرها الميم هذه النسبة إلى بطن من الأنصار يقال له خطمة). صحابي شهد الحديبية وهو صغير، وشهد الجمل وصفين مع علي وكان أميرًا له على الكوفة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي أيوب وأبي مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم. وعنه ابنه موسى وابن ابنته عدي بن ثابت الأنصاري والشعبي ومحمد ابن سيرين وغيرهم. انظر: الإصابة 2/ 382، وتهذيب التهذيب 6/ 87، والأنساب 5/ 163، والأعلام 4/ 290. (¬2) عبد الرزاق (رقم: 8548).

ففي الصحيحين: (¬1) عن رافع بن خديج، قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدًا، وليست معنا مُدى، فقال: «أعجل، أو أرن، ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل، ليس السن والظفر، وسأحدثك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدى الحبشة». فجعل أنهار الدم والتسمية بمنزلة واحدة، وكلهم يقول بشرطية أنهار الدم، والشروط لا تسقط بالنسيان، فكذا التسمية، وهذا أصح ما قيل في التسمية هنا، والحمد لله. فائدة: افتتح البخاري صحيحة بالبسملة ولم يذكر الحمد ولم يتشهد. قال ابن حار في شرحه (¬2) ما نصه: ليس فيهما أن ذلك يتعين بالنطق والكتابة معًا فلعله حمد وتشهد نطقًا عند وضع الكتاب ولم يكتب ذلك اقتصارًا على البسملة لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله وقد حصل بها ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن أقرأ باسم ربك فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها ا. هـ. فائدة: قال السبكي في طبقاته: (¬3) قلت: وقد قال الخطيب أبو بكر الحافظ - رحمه الله - في جامعه: إنه رأى كثيرًا من خط الإمام أحمد - رحمه الله - فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليست الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مكتوبة معه، قال: وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظًا. ا. هـ. فائدة: قال في بدائع الفوائد: (¬4) قال إسحاق بن هانئ: تعشيت ¬

(¬1) البخاري (رقم: 5509) ومسلم (رقم: 1968). (¬2) فتح الباري لابن حجر 1/ 8. (¬3) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 1/ 22. (¬4) بدائع الفوائد 4/ 119.

مرة أنا وأبو عبد الله وقرابة لنا، فاعلنا نتكلم وهو يأكل، وجعل يمسح عند كل لقمة بيده بالمنديل، وجعل يقول عند كل لقمة: «الحمد لله وبسم الله» ثم قال لي: «أكل وحمد خير من أكل وصمت». في آداب ابن مفلح: (¬1) وكذا قال خالد بن معدان التابعي الثقة الفقيه الصالح أكل وحمد خير من أكل وصمت ... وتعقبه بقوله: ولو كان مستحبًا لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولًا أو فعلًا ولو في حديث واحد، بل ظاهر ما نقل من حاله أنه لم يفعله وهو - صلى الله عليه وسلم - الغاية في فعل الفضائل، وكذلك المعروف، والمشهور من حال الصحابة، والتابعين فمن بعدهم - رضي الله عنهم - ا. هـ. قال أبو محمد هذا باب واسع؛ أعني الأذكار المنقولة عن السلف - من الصحابة والتابعين - في الأحوال المقيدة؛ وأما في الإطلاق فلا بأس؛ وإنما وقع الخلاف في التقييد، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في الحكم الثاني. فائدة: قال أبو العباس في الفتاوى الكبرى: (¬2) وإذا قال عند الأكل بسم الله الرحمن الرحيم كان حسنًا فإنه أكمل بخلاف الذبح فإنه قد قيل إن ذلك لا يناسب. ا. هـ. ¬

(¬1) الآداب الشرعية والمنح المرعية 3/ 178. (¬2) الفتاوى الكبرى 5/ 480.

الحكم السابع والأربعون

الحكم السابع والأربعون الأذكار الضعيفة أو الزيادات الضعيفة في الأذكار الثابتة كثيرة والذي يتأكد ملازمة الثابت، وإطراح الضعيف منها حتى لا تفشو بين الناس، وسأذكر ما تيسر منها لا على سبيل الحصر ففي ذلك عسر، فمنها: 1 - التهليل ثلاثًا دبر المكتوبة: قال النسائي في الذكر بعد الصلاة باب: باب كم مرة يقول ذلك؟ ثم قال: (¬1) أخبرنا الحسن بن إسماعيل المجالدي، قال: أنبأنا هشيم، قال: أنبأنا المغيرة، وذكر آخر، ح وأنبأنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أنبأنا غير واحد، منهم المغيرة، عن الشعبي، عن وراد، كاتب المغيرة: أن معاوية كتب إلى المغيرة، أن اكتب إلي بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليه المغيرة: إني سمعته يقول عند انصرافه من الصلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»، ثلاث مرات. ا. هـ. وأخرجه أحمد (¬2) وأخرجه ابن خزيمة (¬3) وهذه الزيادة شاذة، والمحفوظ كما في الصحيح مرة واحدة. ¬

(¬1) النسائي (رقم: 1343). (¬2) أحمد (رقم: 18192). (¬3) ابن خزيمة (رقم: 742).

تنبيه: وقعت في البخاري (¬1) هذه اللفظة وهي في نسخة الصغاني: «ثلاث مرات». كما قال ابن حجر. (¬2) وقال ابن رجب: (¬3) وخرّجه الإمام أحمد والنسائي من طريق مغيرة، عن الشعبي، عن ورادٍ، أن المغيرة كتب إلى معاوية: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند انصرافه من الصلاة: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» ثلاث مراتٍ، وهذه زيادةٌ غريبةٌ. ا. هـ. والخلاصة أنِا لا تثبت. والله أعلم. 2 - زيادة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عند الوسوسة؛ كما روي ابن أبي عاصم: (¬4) من طريق عن ابن إسحاق حدثني عتبة بن مسلم مولى بني تميم عن أبي سلمه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يوشك الناس أن يسألوا نبيهم حتى يقول قائلهم: هذا الله خالق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ثم ليتفل عن يساره وليستعذ بالله من الشيطان». وأصل الحديث متفق عليه: (¬5) من طريق من طريق عروة بن الزبير، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» دون هذه الزيادة، وهي زيادة غريبة .. ¬

(¬1) البخاري (رقم: 6473). (¬2) فتح الباري لابن حجر 11/ 307. (¬3) فتح الباري لابن رجب 7/ 417. (¬4) ابن أبي عاصم (رقم: 653). (¬5) أخرجه البخاري (رقم: 3102) ومسلم (رقم: 134).

3 - زيادة: «بسم الله» في دعاء الخلاء .. قال ابن حجر في شرح البخاري: (¬1) روى المعمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار، عن عبد العزيز بن صهيب، بلفظ الأمر، قال: «إذا دخلتم الخلاء فقولوا بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث» وإسناده على شرط مسلم وفيه زيادة التسمية، ولم أرها في غير هذه الرواية، قلت: هي شاذة. 4 - زيادة: «ولا راد لما قضيت» قال في فتح الباري: (¬2) فائدة اشتهر على الألسنة في الذكر المذكور زيادة، ولا راد لما قضيت وهي في مسند عبد بن حميد، من رواية معمر عن عبد الملك بن عمير بهذا الإسناد. وقال أيضًا: (¬3) زاد فيه مسعر، عن عبد الملك بن عمير، عن وراد: «ولا راد لما قضيت» أخرجه الطبراني بسند صحيح عنه. قلت أخرجها عبد الرزاق (¬4) ومن طريقه عبد بن حميد: (¬5) أنبأنا معمر، عن عبد الملك بن عمير، حدثني وراد كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية، إلى المغيرة أن اكتب إلي بشيء من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فكتب إليه: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من ثلاثة: من عقوق الأمهات، ومن وأد البنات، ومن منع وهات، وسمعته ينهى عن ثلاث: عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، قال: وسمعته يقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا راد ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر 1/ 244. (¬2) فتح الباري لابن حجر 2/ 333. (¬3) فتح الباري لابن حجر 11/ 513. (¬4) مصنف عبد الرزاق (رقم: 19638). (¬5) عبد بن حميد (رقم: 391).

لما قضيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وأخرجها الطبراني في الدعاء (¬1) من طريق مسعر عن عبد الملك به. 5 - زيادة: «اللهم إني أسألك خير المولج» أخرجها أبو داود: (¬2) من طريق شريح، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ولج الرجل بيته، فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج، وخير المخرج، بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله» وهذا إسناد منقطع، فإن شريح بن عبيد لم يدرك أبا مالك الأشعري. وأما التسمية فصحيحة من وجه آخر. 6 - زيادة الصلاة على النبي في دعاء القنوت فقد روى أحمد (¬3) وبعض أهل السنن: من طريق بريد بن أبي مريم السلولي، عن أبي الحوراء، عن الحسن بن علي (¬4)، قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر: «اللهم أهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما ¬

(¬1) الطبراني في الدعاء (رقم: 686). (¬2) أبو داود (رقم: 5098). (¬3) أحمد (رقم:1716). (¬4) هو: الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو محمد الهاشمي، أمير المؤمنين، سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته من الدنيا وأحد سيدي شباب أهل الجنة، روى عن جده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبيه علي وأخيه حسين وخاله هند بن أبي هالة، روى عنه ابنه الحسن وعائشة أم المؤمنين وعكرمة ومحمد بن سيرين وآخرون، كان حليمًا ورعًا فاضلًا، ولي الخلافة بعد أبيه عدة أشهر، ثم تنازل لمعاوية بشروط، وصان الله بذلك جماعة المسلمين، وظهرت المعجزة النبوية في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين». انصرف الحسن إلى المدينة حيث أقام إلى أن توفي. ويقال إنه مات مسمومًا. انظر: الإصابة 1/ 328؛ وأسد الغابة 2/ 9؛ وتهذيب التهذيب 2/ 295، وصفة الصفوة 1/ 340.

قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت». ورواه النسائي: (¬1) من طريق ابن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن علي، عن الحسن بن علي قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الكلمات في الوتر قال: قل: «اللهم أهدني فيمن هديت، وبار، لي فيما أعطيت، وتولني فيمن توليت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت، وصلى الله على محمد النبي». فهذه الزيادة ضعيفة. على أن لفظة القنوت في الوتر غير محفوظة ولذا: قال ابن خزيمة في صحيحة: (¬2) ورواه إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء، عن الحسن بن علي - رضي الله عنه -: فذكر الحديث بمثله. وهذا الخبر رواه شعبة بن الحجاج عن بريد بن أبي مريم في قصة الدعاء، ولم يذكر القنوت ولا الوتر. ثم أسنده: (¬3) كان يعلمنا هذا الدعاء: «اللهم أهدني فيمن هديت». قال أبو بكر ابن خزيمة: ولم يذكر القنوت، ولا الوتر، وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس بن أبي إسحاق، وأبو إسحاق لا يعلم، أسمع هذا الخبر من بُريد، أو دلسه عنه، اللهم إلا أن يكون، كما يدعي بعض علمائنا، أن كل ما رواه يونس، عمن روى عنه أبوه، أبو إسحاق، هو مما سمعه يونس، مع أبيه، ممن روى عنه، ولو ثبت ¬

(¬1) النسائي (رقم: 1746). (¬2) ابن خزيمة (رقم: 1095). (¬3) ابن خزيمة (رقم: 1096).

الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه أمر بالقنوت في الوتر، أو قنت في الوتر، لم يجز عندي مخالفة خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولست أعلمه ثابتًا. ا. هـ. وما ذكره هو الصواب، وأن لفظة القنوت في الوتر غير محفوظة. تنبيه: الصلاة على النبي في آخر القنوت صحت عن الصحابة ولذا قال ابن القيم في جلاء الإفهام: (¬1) قال: ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير (¬2): أن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، وكان في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال، قال: إن عمر خرج ليلة في رمضان فخرج معه عبد الرحمن بن عبد القاري، فطاف في المسجد وأهل المسجد أوازع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر - رضي الله عنه -: والله إني لأظن لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد يكون أمثل، ثم عزم عمر على ذلك وأمر أبي بن كعب أن يقوم بهم في رمضان، فخرج عليهم والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر - رضي الله عنه -: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله، وكانوا يلعنون الكفرة في النصف، يقولون: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك ولا يؤمنون بوعدك وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق، ثم ¬

(¬1) جلاء الإفهام 1/ 362. (¬2) هو: عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد، وأمه أسماء بنت أبي بكر، من كبار التابعين، فقيه محدث، أخذ عن أبيه وأمه، وخالته السيدة عائشة. وعنه خلق كثير. لم يدخل في شيء من الفتن. انتقل من المدينة إلى البصرة، ثم إلى مصر فأقام بها سبع سنين. وتوفي بالمدينة. وبها «بئر عروة» تنسب إليه، معروفة الآن. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 180، والأعلام للزركلي 5/ 17 وحلية الأولياء 2/ 176 ..

يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو للمسلمين ما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين، قال: وكان يقول إذا فرغ من لعنه الكفرة وصلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم - واستغفاره للمؤمنين ومسألته، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد أن عذابك لمن عاديت ملحق، ثم يكبر ويهوي ساجدًا. وقال: إسماعيل بن إسحاق، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث: أن أبا حليمة معاذًا كان يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت. إسناده صحيح. ا. هـ. كلامه. تنبيه: قال في المغني: (¬1) قال أبو عبد الله: إذا قنت قبل الركوع كبر، ثم أخذ في القنوت. وقد روي عن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان إذا فرغ من القراءة كبر، ثم قنت، ثم كبر حين يركع. وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، والبراء، وهو قول الثوري ولا نعلم فيه خلافًا ... وهذا التكبير قبل القنوت لا أحفظه في المرفوع .. روى عبد الرزاق: (¬2) عن الثوري، عن منصور، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: يكبر إذا فرغ من القراءة من الركعة الآخرة من الوتر، ثم يقنت، ويرفع صوته، ثم إذا أراد أن يركع كبر أيضًا. قلت: أما الأخبار المرفوعة فكما تقدم لم يثبت في القنوت في الوتر عنه شيء عليه الصلاة السلام. 7 - زيادة: «رب الملائكة والروح» فالحديث يروى: (¬3) من طرق ¬

(¬1) المغني 2/ 121. (¬2) عبد الرزاق (رقم: 5001). (¬3) أحمد (رقم: 15354) والنسائي (رقم: 10435 - 10573) وعبد الرزاق (رقم: 4697).

عن زبيد الإيامي، عن ذر بن عبد الله المرهبي، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، فإذا سلم، قال: سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، ورفع بها صوته. زاد الدارقطني: (¬1) من طريق فِطر بن خليفة عن زُبيد: «رب الملائكة والروح» وهي زيادة شاذة، فقد رواه جمع عن زبيد منهم شعبة وسفيان لم يذكروها ... تنبيه: السنة الفصل بين الركعتين والوتر في هذا الخبر .. وما جاء أنه يصليها سردًا هنا لا يثبت .. 8 - قول: «ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد» عند سماع القارئ يقرأ فبأي آلاء ربكما تكذبان. فقد أخرج الترمذي: (¬2) من طريق الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر - رضي الله عنهما -، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودًا منكم، كنت كلما أتيت على قوله {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]. قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد». قال الترمذي: هذا حديث يريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. قال ابن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام، ليس هو الذي يروى عنه بالعراق؛ كأنه رجل آخر قلبوا ¬

(¬1) الدارقطني (رقم: 1660). (¬2) الترمذي (رقم: 3291).

اسمه، يعني: لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري، يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة. وقول أحمد من كثرة المناكير في أحاديث الشاميين عن زهير وهذا منها فالوليد بن مسلم شامي. فالخبر منكر لا يثبت. 9 - زيادة: «اللهم اجعلني من التوابين ومن المتطهرين» أخرج مسلم: (¬1) من طريق: معاوية بن صالح، عن ربيعة يعني ابن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر. ح، وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر - صلى الله عليه وسلم -، قال: كانت علينا رعاية الْبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشي فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا يحدث الناس فأدركت من قوله: «ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة» قال فقلت: ما أجود هذه فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود فنظرت فإذا عمر قال: إني قد رأيتك جئت آنفًا، قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء». وقال الترمذي في سننه: (¬2) حدثنا جعفر بن محمد بن عمران الثعلبي الكوفي، قال: حدثنا زيد بن حباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس الخولاني، وأبي عثمان، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من توضأ ¬

(¬1) مسلم (رقم: 234). (¬2) الترمذي (رقم: 55).

فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء» وهذه زيادة شاذة وفي سياق الترمذي اضطراب واختلاف سلمت منه رواية مسلم. 10 - زيادة البسملة وطلب المغفرة عند دخول المسجد، روى أحمد في مسنده والترمذي وغيرهما: (¬1) من طريق عبد الله بن حسن، عن أمه، فاطمة ابنة حسين، عن جدتها، فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد، صلى على محمد وسلم، وقال: «اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك». وإذا خرج، صلى على محمد وسلم، ثم قال: «اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك». قال إسماعيل: فلقيت عبد الله بن حسن فسألته عن هذا الحديث، فقال: كان إذا دخل قال: «رب افتح لي باب رحمتك»، وإذا خرج قال: «رب افتح لي باب فضلك». وقال الترمذي عقبه: حديث فاطمة حديث حسن، وليس إسناده بمتصل. وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى إنما عاشت فاطمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أشهرًا. والمحفوظ ما أخرج مسلم: (¬2) من طريق سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد عن أبي حميد أو عن أبي أسيد، قال: - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دخل أحدكم المسجد، فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج، فليقل: اللهم إني ¬

(¬1) أحمد (رقم: 26416) سنن الترمذي (رقم: 315) وأخرجه ابن ماجه (رقم: 771)، وأبو يعلى (رقم: 6822 - 6823). (¬2) مسلم (رقم: 713).

أسألك من فضلك» قال مسلم: سمعت يحيى بن يحيى، يقول: كتبت هذا الحديث من كتاب سليمان بن بلال، قال: بلغني أن يحيى الحماني يقول وأبي أسيد. ا. هـ. زاد أبو داود: (¬1) بسند صحيح من طريق عبد العزيز الدراوردى، عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، قال: سمعت أبا حميد أو أبا أسيد الأنصاري، يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك فإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك». ومن الضعيف عند الخروج من المسجد ما أخرجه ابن ماجه: (¬2) من طريق الضحاك بن عثمان، قال: حدثني سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج، فليسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم». زيادة: «اللهم اعصمني من الشيطان» قال النسائي في الكبرى بعد روايته من طريق الضحاك ما نصه: خالفه محمد بن عجلان، رواه عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن كعب قوله. ثم رواه: (¬3) قال: أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن كعب ¬

(¬1) أبو داود (رقم: 465). (¬2) ابن ماجه (رقم: 773). (¬3) النسائي في الكبرى (رقم: 9839).

الأحبار - رضي الله عنه -، قال: «يا أبا هريرة، أحفظ مني اثنتين أوصيك بهما: إذا دخلت المسجد فصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرجت من المسجد فصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقل: اللهم أحفظني من الشيطان». خالفه ابن أبي ذئب، رواه عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة عن كعب. ثم رواه: (¬1) أخبرنا عيسى بن إبراهيم، عن ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة» ثم قدم علينا كعب فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: وذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة في يوم الجمعة لا يوافقها مؤمن يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه، قال كعب: صدق والذي أكرمه، وإني قائل لك اثنتين فلا تنسهما: إذا دخلت المسجد فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرجت فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم، وقل: اللهم أحفظني من الشيطان. قال أبو عبد الرحمن: ابن أبي ذئب أثبت عندنا من محمد بن عجلان ومن الضحاك بن عثمان في سعيد المقبري، وحديثه أولى عندنا بالصواب وبالله التوفيق، وابن عجلان اختلطت عليه أحاديث سعيد المقبري، ما رواه سعيد عن أبيه، عن أبي هريرة، وسعيد، عن أخيه، عن أبي هريرة، وغيرهما من مشايخ سعيد، فجعلها ابن عجلان كلها عن سعيد عن أبي هريرة، وابن عجلان ثقة، والله أعلم. ا. هـ. 11 - ومن الضعيف زيادة وبحمده في تسبيح الركوع والسجود، ¬

(¬1) السنن الكبرى للنسائي (رقم: 9840).

أخرج أبو داود: (¬1) من طريق أيوب بن موسى أو موسى بن أيوب، عن رجل من قومه، عن عقبة بن عامر، بمعناه زاد، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال: «سبحان ربي العظيم وبحمده» ثلاثًا، وإذا سجد قال: «سبحان ربي الأعلى وبحمده» ثلاثًا، قال أبو داود: «وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة». ا. هـ. وقال في المغني: (¬2) فصل: وإن قال: سبحان ربي العظيم وبحمده. فلا بأس، فإن أحمد بن نصر روى عن أحمد، أنه سئل عن تسبيح الركوع والسجود، سبحان ربي العظيم، أعجب إليك، أو سبحان ربي العظيم وبحمده؟ فقال: قد جاء هذا وجاء هذا، وما أدفع منه شيئًا. وقال أيضًا: إن قال: «وبحمده». في الركوع والسجود، أرجو أن لا يكون به بأس؛ وذلك لأن حذيفة روى في بعض طرق حديثه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم وبحمده»، وفي سجوده: «سبحان ربي الأعلى وبحمده»، وهذه زيادة يتعين الأخذ بها. وروي عن أحمد، أنه قال: أما أنا فلا أقول: وبحمده. وحكي ذلك ابن المنذر عن الشافعي وأصحاب الرأي. ووجه ذلك أن الرواية بدون هذه الزيادة أشهر وأكثر. ا. هـ. 12 - ومن الأدعية الضعيفة - وهو منتشر - ما أخرجه أحمد: (¬3) من طريق عبد الرحمن بن حسان الكناني، أن مسلم بن الحارث التميمي، حدثه عن أبيه، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صليت ¬

(¬1) أبو داود (رقم: 870). (¬2) المغني لابن قدامه 1/ 361. (¬3) أحمد (رقم: 18054).

الصبح، فقل قبل أن تكلم أحدًا من الناس: اللهم أجرني من النار، سبع مرات، فإنك إن مت من يومك ذلك، كتب الله لك جوارًا من النار، وإذا صليت المغرب، فقل قبل أن تكلم أحدًا من الناس: اللهم أجرني من النار سبع مرات، فإنك إن مت من ليلتك تلك، كتب الله لك جوارًا من النار». وأخرجه أبو داود (¬1) وغيره (¬2) وإسناده ضعيف، مسلم بن الحارث جهله الدارقطني، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان. وقد اختلف في اسمه واسم أبيه، فقيل كما هو هنا: مسلم ابن الحارث، عن أبيه، وقيل: الحارث بن مسلم، عن أبيه، قال الحافظ في تهذيبه: (¬3) صحح البخاري التاريخ الكبير (¬4) وأبو حاتم وأبو زُرعه الرازيان (¬5) والترمذي وابن قانع (¬6) وغير واحد (¬7) أن صحابيَّ هذا الحديث اسمه مسلم بن الحارث. ¬

(¬1) أبو داود (رقم: 5080). (¬2) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 7/ 253 (رقم: 1076) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (رقم: 1212) والنسائي في عمل اليوم والليلة (رقم: 111) وابن السني في عمل اليوم والليلة (رقم: 139) وابن حبان (رقم: 2022) مسند البزار (رقم: 2336). (¬3) تهذيب التهذيب 10/ 125. (¬4) التاريخ الكبير 7/ 253. (¬5) الجرح والتعديل 3/ 87 - 88. (¬6) معجم الصحابة لابن قانع 1/ 184. (¬7) انظر: ثقات ابن حبان 3/ 381، وسؤالات البرقاني للدارقطني، (رقم: 490) والاستيعاب 3/ 1395، وأسد الغابة: 4/ 360، وتجريد أسماء الصحابة (رقم: 835) وتذهيب التهذيب 4/ 36، ونهِاية السول 371، وتهذيب التهذيب: 10/ 125 - 126، والإصابة: (رقم: 7964) والتقريب: 2/ 244، وخلاصة الخزرجي (رقم: 6961).

وقد وقع هذا الاختلاف في حديث الوليد بن مسلم، فروي عنه على الوجهين، وروي عنه على وجه ثالث وهو: الحارث بن مسلم بن الحارث، عن أبيه، عن جده. كما ذكره المزي في التحفة (¬1) وتابعه على الوجه الثاني: الحارث بن مسلم عن أبيه، صدقةُ بن خالد ومحمدُ بن شعيب بن شابور كما سنبينه، وهما ثقتان، وقد استدل الحافظ بهذه المتابعة على صواب تلك الرواية. وذكره ابن حبان في قسم الصحابة من ثقاته: (¬2) باسم مسلم بن الحارث، وقال: حديثه عند ابنه الحارث، وتناقض فذكر ابنه في قسم التابعين (¬3) باسم مسلم بن الحارث أيضًا، وقال: يروي عن أبيه، وروى الحديث في صحيحة (¬4) من رواية مسلم بن الحارث، عن أبيه. قال الحافظ: (¬5) وتصحيح مثل هذا في غاية البعد، لكن ابن حبان على عادته في توثيق من لم يرو عنه إلا واحد إذا لم يكن فيما رواه ما يُنكَر. قلت: ومع ذلك فقد حسنه الحافظ في نتائج الأفكار. (¬6) وبالتتبع فالحافظ في نتائج الأفكار واسع الخطو في شرح الصحيح، فالحديث فيه علتان جهالة تابعيه والصحابي لم تثبت صحبته إلا من هذه الرواية - وهي ضعيفة - فأنى له الثبوت؟ والمقصود التنبيه على جملة من هذه الأذكار والأدعية الضعيفة، وأما الاستيعاب لذلك فعسير. والله المستعان. ¬

(¬1) التحفة 3/ 8 - 9. (¬2) الثقات لابن حبان 3/ 381. (¬3) الثقات لابن حبان 5/ 391. (¬4) صحيح ابن حبان (رقم: 2022). (¬5) مرعاه المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 8/ 137. (¬6) نتائج الأفكار 2/ 310.

الحكم الثامن والأربعون

الحكم الثامن والأربعون تشرع المنافسة في الذكر وترك الإيثار فيه، فالإيثار بالقرب مكروه، وقد أمر الله بالمسارعة إلى مغفرته وجنته، وأمر بالمسابقة إليهما، وقال جل وعلا: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. والمؤثر راغب عن ذلك زاهد فيه، فإذا وقعت المشاحة فيه فالأصل ترك الإيثار، ولهذا شرعت القرعة عند التشاح في الأذان؛ لذا أخرج الشيخان: (¬1) من طريق مالك، عن سمي، مولى أبي بكر، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا؛ إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير، لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوا» فشرعت القرعة للظفر بالأذان لفضله. وعلى هذا يكره إيثاره لغيره في القرب؛ كالذكر وفي محالّ الذكر ومجالسه بل يكره التأخر عن ذلك، وقد روى مسلم: (¬2) من طريق أبي الأشهب، عن أبي نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في أصحابه تأخرًا فقال لهم: «تقدموا فأتموا بي، ¬

(¬1) البخاري (رقم: 2543) ومسلم (رقم: 437). (¬2) مسلم (رقم: 438).

وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله» ورواه من طريق الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومًا في مؤخر المسجد فذكر مثله. ورواه أبو داود: (¬1) من وجه آخر من طريق عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمه، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار» ولا يصح بهذا اللفظ. قال أحمد وأئمة الحديث: أحاديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير، مضطربة ضعاف ليست بصحاح. (¬2) ومن صور الإيثار المكروهة المتعلقة بالذكر، كما لو كان اثنان لهما متاع يخاف عليه السرقة، وحضرت الجمعة وتندفع المفسدة بحراسة أحدهما، فلا يجوز أن يؤثر أحدهما الآخر بحضور الذكر وشهود الجمعة، بل يقترعان فمن خرجت قرعته شهدها. ¬

(¬1) أبو داود (رقم: 679). (¬2) تاريخ الإسلام 4/ 153.

الحكم التاسع والأربعون

الحكم التاسع والأربعون الأصل أن الآن الذكر متى استوفى شروطه، وانتفعت موانعه أنه عبادة مقبولة؛ لأنه عمل صالح، وكلم طيب، يترتب عليه القرب والإثابة فضلًا من الله وجودًا، والأصل في الدعاء ما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم أنه مستجاب فضلًا من الرحيم وكرمًا. قال البغوي في تفسيره: (¬1) {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، أي: يقبل الله الكلم الطيب. قوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، أي: يرفع العمل الصالح الكلام الطيب، فالهاء في قوله يرفعه راجعة إلى الكلم الطيب، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين. وقال الحسن وقتادة: الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء فرائضه، فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. ا. هـ. وقال السعدي في تفسيره: (¬2) {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كلام حسن طيب، فيرفع إلى الله ويعرض ¬

(¬1) تفسير البغوي 3/ 690. (¬2) تفسير السعدي ص 685.

عليه ويثني الله على صاحبه بين الملأ الأعلى {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} من أعمال القلوب وأعمال الجوارح {يَرْفَعُهُ} الله تعالى إليه أيضًا، كالكلم الطيب. وقيل: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فيكون رفع الكلم الطيب بحسب أعمال العبد الصالحة، فهي التي ترفع كلمه الطيب، فإذا لم يكن له عمل صالح، لم يرفع له قول إلى الله تعالى، فهذه الأعمال التي ترفع إلى الله تعالى، ويرفع الله صاحبها ويعزه. ا. هـ. وقد سئل شيخ الإسلام: (¬1) عن رجل مدمن على المحرمات وهو مواظب على الصلوات الخمس ويصلي على محمد مائة مرة كل يوم. ويقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله كل يوم مائة مرة؛ فهل يكفر ذلك بالصلاة والاستغفار؟ فأِجاب: قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] فمن كان مؤمنًا وعمل عملًا صالحًا لوجه الله تعالى فإن الله لا يظلمه. بل يثيبه عليه. وأما ما يفعله من المحرم اليسير فيستحق عليه العقوبة ويرجى له من الله التوبة. كما قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] وإن مات ولم يتب فهذا أمره إلى الله. هو أعلم بمقدار حسناته وسيئاته. لا يشهد له بجنة ولا نار بخلاف الخوارج والمعتزلة فإنهِم يقولون: إنه من فعل كبيرة أحبطت جميع حسناته وأهل السنة والجماعة لا يقولون بهذا الإحباط. بل أهل الكبائر معهم حسنات وسيئات وأمرهم إلى الله تعالى. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 11/ 661.

مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] أي من اتقاه في ذلك العمل؛ بأن يكون عملًا صالحًا خالصًا لوجه الله تعالى وأن يكون موافقًا للسنة. كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. ا. هـ فائدة: بقي هنا مسألة مهمة، وهي من أتى بذكر فصادف بطلان ظرفه، وفوات شرط قبوله، فهل يرد العمل طُرّا؟ كمن صلى محدثًا ناسيًا، فهل يكتب له أجر الذكر والقراءة وإن لم تصح صلاته؟ قال ابن نجيم في الأشباه والنظائر (¬1) ما نصه: ولا تشترط للثواب صحة العبادة، بل يثاب على نيته، وإن كانت فاسدة بغير تعمده كما لو صلى محدثًا على ظن طهارته، وسيأتي تحقيقه. ا. هـ. قال أبو محمد: لأن العبد يثاب على نية الطواعية، وهي حاصلة في مثل هذا العمل وعلى التلفظ بالذكر، وقد حصل، ومعلوم أن الحدث يمنع الصحة؛ لكن لا يمنع النية الحسنة. وقد أخرج البخاري: (¬2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية؟ لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يدي غني، ¬

(¬1) الأشباه والنظائر 1/ 19. (¬2) البخاري (رقم: 1355) ومسلم (رقم: 1022).

فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق وعلى زانية وعلى غني، فأتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله». قال الحافظ: (¬1) وفيه أن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته ولو لم تقع الموقع. ا. هـ. قال في التمهيد (¬2) نقلًا عن الشافعي: وأخبرنا مسلم وعبد المجيد عن ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس كان لا يرى بأسًا أن يفطر الإنسان في صيام التطوع ويضرب لذلك أمثالًا رجل طاف سبعًا ولم يوفه فله ما احتسب أو صلى ركعة ثم لم يصل أخرى فله ما احتسب. ا. هـ. وهو في الأم. (¬3) وقال شيخ الإسلام: (¬4) الأجر هو على إتباعه الحق بحسب اجتهاده؛ ولو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالإتباع لو قدر على معرفته؛ لكن لم يقدر فهذا كالمجتهدين في جهات الكعبة، وكذلك كل من عبد عبادة نهِي عنها ولم يعلم بالنهي - لكن هي من جنس المأمور به - مثل من صلى في أوقات النهي وبلغه الأمر العام بالصلاة، ولم يبلغه النهي أو تمسك بدليل خاص مرجوح، مثل صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاهما، ومثل صلاة رويت فيها أحاديث ضعيفة أو موضوعة؛ كألفية نصف شعبان، وأول رجب، وصلاة التسبيح؛ كما جوزها ابن المبارك، وغير ذلك؛ فإنهِا إذا دخلت ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر 3/ 291. (¬2) التمهيد 12/ 75. (¬3) الأم 1/ 327. (¬4) مجموع الفتاوى 20/ 31.

في عموم استحباب الصلاة ولم يبلغه ما يوجب النهي أثيب على ذلك، وإن كان فيها نهِي من وجه لم يعلم بكونهِا بدعة تتخذ شعارًا، ويجتمع عليها كل عام، فهو مثل أن يحث صلاة سادسة؛ ولهذا لو أراد أن يصلي مثل هذه الصلاة بلا حديث لم يكن له ذلك؛ لكن لما روي الحديث اعتقد أنه صحيح، فغلط في ذلك، فهذا يغفر له خطؤه ويثاب على جنس المشروع. وكذلك من صام يوم العيد ولم يعلم بالنهي. ا. هـ.

الحكم الخمسون

الحكم الخمسون كفارة المجلس؛ وهنا كلام نفيس لأبي الفضل ابن حجر في آخر شرحه لجامع البخاري (¬1)، أنقله بتمامه، قال - رحمه الله -: ورد في حديث أبي هريرة في ختم المجلس ما أخرجه الترمذي في الجامع (¬2)، والنسائي في اليوم والليلة (¬3)، وابن حبان في صحيحة (¬4)، والطبراني في الدعاء (¬5)، والحاكم في المستدرك (¬6): كلهم من رواية حجاج بن محمد، عن بن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جلس في مجلس وكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفر، وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» هذا لفظ الترمذي، وقال: حسن صحيح ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر 13/ 544. (¬2) سنن الترمذي (رقم: 3433) وقال: حسن غريب صحيح. (¬3) عمل اليوم والليلة للنسائي (رقم: 397). (¬4) ابن حبان (رقم: 594). (¬5) الدعاء للطبراني (رقم: 1917). (¬6) المستدرك على الصحيحين (رقم: 1971).

غريب لا نعرفه من حديث سهيل؛ إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي برزة وعائشة. قال ابن رجب في شرح البخاري: (¬1) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يختم مجالسه بكفارة المجلس، وأمر أن تختم المجالس به، وأخبر أنه إن كان المجلس لغوا كانت كفارة له، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة، فإذا وقع اللغو في المساجد ثم ختم المجلس بكفارته، فهو شبيه بالبصاق في المسجد ودفنها بعده. إلى أن قال الحافظ: وقد تتبعت طرقه فوجدته من رواية خمسة آخرين، فكملوا خمسة عشر نفسًا ومعهم صحابي لم يسم، فلم أضفه إلى العدد لاحتمال أن يكون أحدهم وقد خرجت طرقه فيما كتبته على علوم الحديث، وأذكره هنا ملخصًا، وهم: عبد الله بن عمرو بن العاص: وحديثه عند الطبراني في المعجم الكبير، أخرجه موقوفًا، وعند أبي داود: أخرجه موقوفًا؛ كما تقدم التنبيه عليه. وأبو برزة الأسلمي، وحديثه عند أبي داود والنسائي والدرامي، وسنده قوي. وجبير بن مطعم: وحديثه عند النسائي وابن أبي عاصم ورجاله ثقات. والزبير بن العوام: وحديثه عند الطبراني في المعجم الصغير وسنده ضعيف. وعبد الله بن مسعود: وحديثه عند بن عدي في الكامل وسنده ضعيف. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (3/ 345).

والسائب بن يزيد: وحديثه عند الطحاوي في مشكل الآثار والطبراني في الكبير وسنده صحيح. وأنس بن مالك: وحديثه عند الطحاوي والطبراني وسنده ضعيف. وعائشة: وحديثها عند النسائي وسنده قوي. وأبو سعيد الخدري: وحديثه في كتاب الذكر لجعفر الفريابي وسنده صحيح؛ إلا أنه لم يصرح برفعه. وأبو إمامة: وحديثه عند أبي يعلى وابن السني وسنده ضعيف. ورافع بن خديج: وحديثه عند الحاكم والطبراني في الصغير ورجاله موثوقون؛ إلا أنه اختلف على راوية في سنده. وأبي بن كعب: ذكره أبو موسى المديني ولم أقف على سنده. ومعاوية: ذكره أبو موسى أيضًا، وأشار إلى أنه وقع في بعض رواته تصحيف. وأبو أيوب الأنصاري: وحديثه في الذكر للفريابي أيضًا، وفي سنده ضعف يسير. وعلي بن أبي طالب: وحديثه عند أبي علي بن الأشعث في السنن المروية عن أهل البيت وسنده واه. وعبد الله بن عمر: وحديثه في الدعوات من مستدرك الحاكم. وحديث رجل من الصحابة لم يسم: أخرجه بن أبي شيبة في مصنفه من طريق أبي معشر زياد بن كليب، قال: حدثنا رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ورجاله ثقات. ووقع لي مع ذلك من مراسيل جماعة من التابعين منهم:

الشعبي: وروايته عند جعفر الفريابي في الذكر. ويزيد: الفقير وروايته في الكنى لأبي بشر الدولابي. وجعفر أبو سلمه: وروايته في الكنى للنسائي. ومجاهد وعطاء ويحيى بن جعدة: ورواياتهم في زيادات البر والصلة للحسين بن الحسن المروزي. وحسان بن عطية: وحديثه في ترجمته في الحلية لأبي نعيم. وأسانيد هذه المراسيل جياد، وفي بعض هذا ما يدل على أن للحديث أصلًا، وقد استوعبت طرقها، وبينت اختلاف أسانيدها، وألفاظ متونهِا فيما علقته على علوم الحديث لابن الصلاح في الكلام على الحديث المعلول، ورأيت ختم هذا الفتح بطريق من طرق هذا الحديث مناسبة للختم، أسوقها بالسند المتصل العالي بالسماع والإجازة إلى منتهاه، قرأت على الشيخ الإمام العدل المسند المكثر الفقيه شهاب الدين أبي العباس أحمد بن الحسن بن محمد بن محمد بن زكريا القدسي الزينبي بمنزله ظاهر القاهرة، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عيسى بن أبي بكر الأيوبي، أنبأنا إسماعيل بن عبد المنعم بن الخيمي، أنبأنا أبو بكر بن عبد العزيز بن أحمد بن باقا، أنبأنا أبو زرعه طاهر بن محمد بن طاهر، أنبأنا عبد الرحمن بن حمد، ح، وقرأته عاليا على الشيخ الإمام المقرئ المفتي العلامة أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المؤمن بن كامل عن أيوب بن نعمة النابلسي، سماعا عليه، أنبأنا إسماعيل بن أحمد العراقي، عن عبد الرزاق بن إسماعيل القومسي، أنبأنا عبد الرحمن بن حمد الدو، أنبأنا أبو نصر أحمد بن الحيسن الكسار، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق الحافظ المعروف بابن السني، أنبأنا أبو عبد الرحمن

أحمد بن شعيب النسائي، أنبأنا محمد بن إسحاق هو الصغاني، حدثنا أبو مسلم منصور بن سلمه الخزاعي، حدثنا خلاد بن سليمان هو الحضرمي، عن خالد بن أبي عمران، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس مجلسًا أو صلى تكلم بكلمات، فسألته عن ذلك، فقال: «إن تكلم بكلام خير كان طابعًا عليه - يعني خاتمًا عليه إلى يوم القيامة - وإن تكلم بغير ذلك كانت كفارة له، سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» والله أعلم والحمد لله وحده وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا. ا. هـ. قال أبو محمد: وكان الفراغ من كتابة هذا السفر نفع الله به - سوى بعض الزيادات - ضُحى الأحد 14/ 8/1434 والحمد لله كثيرًا ...

§1/1