نحو ثقافة إسلامية أصيلة

سليمان الأشقر، عمر

الطبعة الرابعة 1414 هـ - 1994 م حقوق الطبع محفوظة دار النفائس للنشر والتوزيع الأردن - عمان - العبدلي - مقابل جوهرة القدس هاتف: 693940 - فاكس: 693941 - ص. ب: 211511 إن دار النفائس للنشر والتوزيع - الأردن هي صاحبة الحق وحدها في طباعة مؤلفات الدكتور عمر سليمان الأشقر ولا صحة لما تزعمه بعض دور النشر من حصولها على إذن من المؤلف بطباعة مؤلفاته، وعليه فلا يجوز لأي جهة أن تطبع أو تترجم أو تصور كتب المؤلف المذكور أو جزءًا منها، وسوف نقوم بالإجراءات القانونية المتبعة للحفاظ على حقوقنا

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 1 - 4] «لقد وجدت في الإسلام نظامًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وأخلاقيًّا يصلح لإخراج البشرية من ورطتها الحاضرة» روجيه جارودي

بين يدي الكتاب

بين يدي الكتاب الحمد لله واهب النعم، رافع النقم، العزيز الوهاب، الذي لا يَعِزُّ من عصاه، ولا يضل من اتبع هداه، الذي جعل الرفعة والكرامة لمن سلك سبيله، والتزم شريعته، واقتدى برسوله المصطفى المختار، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، الذي جاءنا بالهدى والنور، فما زال بالبشرية حتى أقامها على المحجة البيضاء، وخلصها من سبل الغواية، وطرق الضلالة، وأوصلها إلى الشاطئ الآمن، والرياض الفيحاء، وعلى آله وصحبه الأخيار الأبرار الذين رضوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا، وجاهدوا في الله حق جهاده، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فالدين الإسلامي المنزل من عند الله منهج حياة كامل واف، وهذا الدين يمثل الأصالة في حياة الأمة المسلمة، بل في حياة البشرية جميعًا، والانحراف عن هذا المنهج ونبذه يعدُّ جمودًا وتأخرًا ورجعية، وقد خسر العالم كثيرًا عندما انحط المسلمون حملة هذا الدين، خسر العَالم الروح الدافقة، والنور الهادي، والقيم والموازين، وقد حاول الغرب جاهدًا أن يذيب المسلمين في بوتقة ثقافته وحضارته، وأن يبعد المسلمين عن دينهم وشريعتهم، وأن يبث فيهم عقائده وأفكاره ونظرياته، وأن يحول قبلتهم إلى لندن وباريس وواشنطن وموسكو، وأن يرفع من شأن الذين تأثروا بفكره ومبادئه، حتى يكونوا رجال الفكر والأدب،

وعلماء الاقتصاد والسياسة، والمنظِّرون والمفكرون، وصبغ مناهج التعليم عندنا بالنظرة المادية، وسلب من مناهجنا ومحعبنا محتواها الإسلامي، وجاء بالمسرح والتلفاز والسيما وصبغها بالصبغة المعادية للإسلام، فأقام في ديارنا صروحًا تهزأ بالإسلام، وتسخر منه، وتغرضه بصورة منفرة، وجاء بأقوام سلمهم قيادنا" جعلوا كل همهم فصل الدين عن الحياة، وتطبيق القوانين التي تضاد الإسلام وتنابذه العداء، لقد اهتزت ثقافتنا الإسلامية بعنف ورياح الغرب العاتية تحاول أن تجتث أصولها، وتعرضت الشخصية الإسلامية للمسخ والذوبان بسبب الموثرات الهائلة التي صبت عليها من الغرب صبًا، ولقد صدق المفكر المسلم روجيه جارودي الذي اعتنق الإسلام بعد عمر طويل من الضياع عندما قال: "إن الحضارة الغربية ارتكبت أعظم جرم عرفه التاريخ بحق ثقافات العالم وشعوبه، لتبني لنفسها حضارة سلطوية شرسة تتجه اتجاهًا كارثيًا مخيفًا ربما يؤدي في النهاية إلى الدمار". ولقد شاهدنا في فترة من هذا القرن ردة عنيفة عن الإسلام، وقد هالت تلك الردة المفكر المسلم أبا الحسن الندوي فإذا به يصرخ من أعماق قلبه: ردة ولا أبا بكر لها، لقد وُجِدَ لتلك الردة التي حاولت أن تجتث الإسلام في عصره الأول رجال في طليعتهم الصديق، ولكنها لم تجد في وقتنا حاكمًا من حكام المسلمين يواجه تلك الردة. وضرب المسلمون في بيداء الفكر الإنساني، فجاؤوا بأفكار الشرق والغرب، وأصبح العالم الإسلامي بحرًا لجيًّا هادرًا يموج بالأفكار والنظريات. وانقسم عالمنا الإسلامي إلى فرق وأحزاب ودول وتكتلات فيها كل شيء إلا الإسلام، ونُبذ دعاة الإسلام نبذ النواة، وأقيمت لدعاة الإسلام في ديار الإسلام أعراس حمر

قطعت فيها رؤوسهم، وانتهكت حرماتهم، وصودرت أموالهم، وألصقت بهم كل تهم الخيانة والفساد، وتكشّف ليل الأمة الإسلامية عن بلاء رهيب ضاعت فيه المقدسات، وأقيمت فيه لأعداء الإسلام في مسرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - دولة، وصال أعداؤنا وجالوا في ديارنا وقهروا دولنا وجيوشنا وأذاقونا البلاء أشكالًا وألوانًا، وأفاقت الأمة على واقع مرير، ونظرت إلى الزعامات والرئاسات والنظريات والفلسفات التي كانت تمنيها بالعزة والكرامة والحياة الطيبة ... ، فإذا بذلك كله سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده، وبلغت المأساة قمتها عندما أثارها الصليبيون واليهود في لبنان فتنة راح ضحيتها رجالنا ونساؤنا وأطفالنا ونحن ساكتون سكوت الموت، وأثارها الشيوعيون علينا حربًا شعواء في أفغانستان، وما أخبار ما يفعله الصليبيون في الحبشة والفلبين بسر. لقد أفاقت الأمة الإسلامية وخيول الصليبيين واليهود والشيوعيين تدق معاقل الإسلام في شرقه وغربه، وتلفتت إلى الدول المتمدنة والمتحضرة التي أقامت هيئة الأمم ومجلس الأمن تطلب نصرًا، وتريد عدلًا، وتطمع في الخلاص، فكان حالها كحال المستجير من الرمضاء بالنار. لقد اقتنع كثير من المسلمين اليوم أن الإسلام هو الملاذ الوحيد لهذه الأمة التي اجتمع عليها أعداؤها وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم، والأكلة بالقصعة، فعادت الأصوات ترتفع من هنا وهناك معلنة التوبة عن ماض شائن، وأفكار عفنة، وعمالة منتنة، عادت الوجهة إلى الإسلام وكعبة الإسلام ورب الإسلام، وأسلمت الجموع قيادها لربها، ورضيت به إلها وبدينه منهجًا، وبرسوله مرشدًا وموجهًا، وأخذت الأصوات تتعالى هنا وهناك، مطالبة برفع راية الجهاد، وتحكيم شرع الله، والالتزام بأخلاق الإسلام، ومنابذة الكفرة العداء، ومن جملة

ذلك العودة إلى العلوم الصافية الأصيلة، وإصلاح الفاسد من مناهج التعليم، ونبذ الدخن الذي خالط العلوم والكتب والمناهج. لقد طالب رجال الفكر بأسلمة مناهج التعليم، وجعل الإسلام محور المناهج والدراسات، وعَرْض الإسلام لأبناء الإسلام عرضًا غضًا طريًّا، وطالب الأخيار بأن يزود الطلبة في الجامعات بقسط من الثقافة الإسلامية يمثل الحدَّ الأدنى من المعرفة التي ينبغي أن يحيط بها كل طالب. وقد وجدنا الطلبة في جميع الجامعات يقبلون على دراسة الثقافة الإسلامية إقبالًا منقطع النظير، وألفت في الثقافة مؤلفات كثيرة بين مطول ومختصر، ويأتي هذا الكتاب في الثقافة الإسلامية ليضم إلى الجهود التي سبقت في هذا المجال، ولم يأت هذا الكتاب من فراغ، فهو حصيلة لمطالعات كثيرة، ودراسات متواصلة في علوم مختلفة، انتهت إلى هذه الخلاصة في مجال الثقافة الإسلامية، وقد قمت بتدريس الثقافة في المعاهد التابعة لوزارة التربية وفي جامعة الكويت عده سنوات، وكانت مباحث هذا الكتاب محور المحاضرات والدروس. وهذا الكتاب يقع في مقدمة وسبعة أبواب، وقد حاولت أن أضع في المقدمة تصورًا وافيًا للثقافة الإسلامية، فقد حددَّت مفهومها وأصولها وموضوعها وأهم معالمها ومراجعها وبينت خصائصها، وألقيت الضوء على الثقافة الغربية التي تزاحم الثقافة الإسلامية في ديار الإسلام، ورصدت الانحراف الذي طرأ على الثقافة الإسلامية الأصيلة. وختمت هذه المقدمة ببيان عناوين الدين الإسلامي ومراتبة وعلومه، والعلوم الرئيسة التي تدور في فلك الشريعة الإسلامية ثلاثة، هي العقيدة والأخلاق والفقه، وقد تعرضت لبيان كل علم من هذه العلوم وأعطيت فكرة واضحة عنه

وعرضت لأهم مباحثه، وحددت أهم المراجع التي يرجع إليها في كل علم من هذه العلوم. ففي الباب الأول الخاص بالعقيدة بينت أهمية العقيدة، كما أوضحت المناهج التي سلكها العلماء من قبل في إثبات العقائد، وأشدت بالمنهج القرآني النبوي، وحذرت من المنهج الذي يزاحمه ويعارضه وهو المنهج الفلسفي الكلامي، وبينت أمورا في غاية الأهمية في باب العقائد، ثم تناولت كل أصل من أصول الاعتقاد بشيء من التفصيل، وركزت على الأصل الأول، وهو العقيدة في الله، لأنه أصل الأصول، والركيزة التي يقوم عليها الإيمان والإسلام، وتعرضت تعرضًا سريعًا لنفي بعض الشبه التي يوردها الملحدون، بعد أن ذكرت براهين وجود الله، وفي ختام هذا الباب تحدثت عن أثر الإيمان في الأفراد والجماعات. وعقدت الباب الثاني للآداب الشرعية ومكارم الأخلاق، فعرفت كلًّا منهما, وعرضت لجملة من الآداب الشرعية والأخلاق الإسلامية. وعرفت في الباب الثالث الفقه الإسلامي، وألقيت نظرة عجلى على أقسام موضوعاته، وفرقت بينه وبين الشريعة الإسلامية، وألمحت إلى مساره عبر القرون، ثم تحدثت عن الأسس التي قامت عليها الشريعة الإسلامية، وختمت بحثي في هذا الموضوع بتعريف موجز لكل أصل من الأصول التي قام عليها الفقه الإسلامي. والأبواب الأربعة التالية عرضت فيها لعلوم انفصلت عن الفقه الإسلامي ولا غنى للمسلم عن أخذ فكرة وافية عنها. ففي الباب الرابع عرضت للأسرة في الإسلام مبينًا أهميها ومنهج الإسلام في تكوين الأسرة معرجًا على نظام الطلاق في الإسلام رادًّا للشبهات التي أثيرت حول

تعدد الزوجات، وعقدت فصلًا طويلًا لبيان وضع المرأة في التشريع الإسلامي، كاشفًا اللثام عن أدعياء التقدم الذين يزعمون مناصرة المرأة وواقع الأمر أنهم يدمرونها ويدمرون الأسرة، وبينت كثيرًا من الشبهات التي أثارها المستغربون في دعواهم أن الإسلام ظلم المرأة. وفي الباب الخامس تعرضت لنظام العقوبات في الإسلام، وبينت أنواع الجرائم والعقوبة التي أوقعتها الشريعة على كل منها، ورددت بعض الشبهات التي تثار حول العقوبات في الإسلام، وأعطيت صورة عجلي لوضع الجريمة في العالم الغربي، تبين الدمار الذي تنحدر إليه تلك المجتمعات عاجلًا أم آجلًا. وفي الباب السادس، تعرضت للنظام الاقتصادي الإسلامي، مبينًا أهم المبادئ التي يقوم عليها هذا النظام، معرفًا بالمجالات الإقتصادية الإسلامية، وفي ثلاثة فصول عرضت عرضا سريعًا، لأنواع الملكية والربا والمصارف الإسلامية. وفي الباب السابع والأخير عرضت للنظام السياسي الإسلامي، وقد افتتحته بالتدليل على وجود هذا النظام في الإسلام, مبينا أن الذين نفوا ذلك مغرضون، ثم تحدثت في فصلين متتاليين عن مميزات الدولة الإسلامية ووظيفها، وفي الفصل الرابع تحدثت عن رئيس الدولة الإسلامية: ألقابه والشروط الواجب توافرها فيه، وطريقة اختياره، وحقه على الرعية، وحق الرعية في الدولة الإسلامية، وختمت هذا الباب كما ختمت كل باب قبله يذكر بعض المؤلفات في النظام السياسي. وأحب أن أقرر في خاتمة هذا التمهيد أن هذا الكتاب جاء ليعطي فكرة عن الإسلام وعن العلوم الدائرة في فلكه، ولم يأت ليبلغ الغاية في كل علم من العلوم التي تعرضت لها فيه، لأن هذا ليس شأن الثقافة، بل شأن الدراسات المتخصصة، وأحب أن أصرح أيضًا بأنني لم أبلغ الغاية في بحثي، فالكمال لله

وحده، ولكنني بذلت في ذلك جهدًا ليس بالقليل، وأسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت، وأسأله تعالى إن كان هذا الكتاب صالحًا نافعًا - أن يهيئ انتشاره في بقاع الأرض لينتفع به عباد الله الذين يريدون معرفة دين الله، وأن يسخر الصالحين من القائمين على شأن التعليم في بقاع الأرض لتسهيل الانتفاع به في مجال الثقافة الإسلامية في المعاهد والجامعات، وأسأل الله تعالى أن ينفعني به ويثيبني عليه، ويجعله حجة لي لا علي في يوم لقياه، إنه نعم المولى ونعم المجيب. د. عمر سليمان الأشقر كلية الشريعة - جامعة الكويت

المقدمة

المقدمة مفهوم الثقافة وخصائصها وتشتمل على ستة (*) فصول: الفصل الأول: مفهوم الثقافة وموضوعاتها. الفصل الثاني: أصول الثقافة الإسلامية. الفصل الثالث: الثقافة الإسلامية بين الأصالة والانحراف. الفصل الرابع: خصائص الثقافة الإسلامية. الفصل الخامس: الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافات الجاهلية. الفصل السادس: عناوين الدين الإسلامي ومراتبه.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ساق المؤلف -رحمه الله- سبعة فصول

الفصل الأول مفهوم الثقافة

الفصل الأول مفهوم الثقافة المبحث الأول: تعريف الثقافة عند إطلاقها وعند إضافتها. شاع استعمال لفظ "الثقافة" في عصرنا في مجال الحديث والتأليف والمحاضرات والندوات، فيقال: فلان مثقف، وفلان غير مثقف، وفلان ثقافته واسعة، وفلان ثقافته ضحلة، ويقال: الثقافة الغربية، والثقافة الإسلامية، والثقافة الفرنسية، فما المراد بالثقافة؟ ليس الجواب عن ذلك سهلًا، فالثقافة لم تعرف تعريفًا واضحًا لا يختلف عليه، على الرغم من كثرة المؤتمرات والمؤلفات والمحاضرات التي تبحث في الثقافة وميادينها، وقد ناقشت إحدى لجان المؤتمر العالمي الثاني الذي دعت إليه اليونسكو للبحث في السياسات الثقافية، والمنعقد في دولة المكسيك في الفترة من 26 يوليو - تموز إلى 6 أغسطس - آب من عام 1982، وحضره ممثلون عن (129) دولة - ناقشت تعريف الثقافة، وقد أجمع أعضاء اللجنة على أن هذه الكلمة لا تزال غامضة، وغير محددة، على الرغم من أن مفهومها أصابه توسع ملموس في المناقشات التي جرت منذ انعقاد المؤتمر العالمي الأوّل للثقافة في البندقية في عام 1970. وقد استخدمت أثناء المناقشة بعض التعريفات التي تتخذ مكانها بين مفهومين متعارضين: أحدهما: عام مستمد من (الانثربولوجيا) الثقافية، ويشمل كل ما أضافه الإنسان إلى الطبيعة، ومجموع طرائق التفكير والممارسة والفن وأسلوب الحياة،

تعريف الثقافة عند إطلاقها

والتعبير عن الكرامة الإنسانية، والمفهوم الثاني: ضيق إلى درجة أن بعضهم وصفه بأنّه ثقافة الثقافة، ولذا فقد طالبت اللجنة بأن يتجه الجهد إلى البحوث، وتعميق المفاهيم حتى يمكن التأمل في مفهوم الثقافة (¬1). وعدم وضوح التعريف يجعل الباحثين والكتاب في الثقافة غير محددي الاتجاه، وغير واضحي المباحث والأفكار، ولذلك يجدر بنا أن نقف مع تعريف الثقافة وقفة تحدد التعريف وتبين مفهومه. والذي يظهر لي أن هناك فرقًا بين اللفظ المفرد: (ثقافة)، واللفظ المركب: (ثقافة الأمة). المبحث الأول تعريف الثقافة عند إطلاقها فالثقافة كلفظ مفرد يراد بها في الاستعمال الأخذ من كل علم بطرف، ولا يراد بها التعمق في دراسة علم من العلوم، ولذلك يقولون: "تعلم شيئًا عن شيء لتكون مثقفًا، وتعلم كل شيء عن شيء لتكون عالمًا" (¬2). وإذا رجعت إلى معاجم اللغة العربية، فإنك تجد بين معنى الثقافة هذا والمعنى اللغوي صلة ونسبًا، فالإنسان لا يكون واسع الاطلاع، ملمًا بمختلف العلوم إلا إذا كان حاذقا جيد الفهم، والحذق وجودة الفهم هما المحور الذي تدور عليه مادة: "ثقف" في لغة العرب، فهم يقولون: "ثقف الشيء ثقفًا: حذقه، ورجل ثقف - وثَقْفٌ: حاذق فَهِم، ويقولون: رجل ثقف لقف، إذا كان ¬

_ (¬1) انظر حديث الأستاذ عبد العزيز حسين وزير الدولة الكويتي، ورئيس وفد الكويت إلى المؤتمر لجريدة العاصمة الكويتية بتاريخ 25/ 9 / 1982. (¬2) نحو فلسفة عربية، للدكتور عبد الغني النوري ورفيقه ص 54.

ضابطا لما يحويه، قائمًا به، ويقولون: هو غلام ثقف: أي ذو فطنة وذكاء، والمراد أنه ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، وجاء في حديث أم حكيم بنت عبد المطلب: "إنّي حصان فما أكلم، وثقاف فما أعلم" (¬1). وتقول العرب: ثقفه أدركه ببصره، لحذق في النظر، ثم أطلق على مجرد الإدراك، وتحصيل الشخص للعلوم المختلفة - يدخل في هذا الباب، لأنّه إدراك لتلك العلوم. وقد أدرك العلماء المسلمون أهمية وضع علم يعطى قارئه اطلاعًا جيدًا في العلوم المختلفة، والعلم الذي وضعوه لهذا الغرض هو "علم الأدب"، وإذا أنت رجعت إلى كتاب من كتب الأدب كصبح الأعشى للقلقشندي، ونهاية الأرب للنويري، وتصفحت الموضوعات التي تناولتها هذه الكتب - فإنك تجدها تطلع قارئها على جملة جيدة في كل علم من العلوم التي لا بدَّ منها لمن نعده - اليوم - شخصًا مثقفًا. وهذه الكتب وضعت في الأصل لتثقيف الذين يقومون على ديوان الإنشاء، وهو الجهاز الذي يخاطب الحاكم من خلاله الشعب والولاة وحكام الدول الأخرى، وما لم يكن موظفو هذا الديوان ملمين بالعلوم التي توسع آفاقهم، وتقوم ألسنتهم، وتزيد معارفهم، وتكشف لهم عن طبائع الذين يخاطبونهم، فإنهم لن يستطعوا القيام بالمهمة المناطة بهم. يقول القلقشندي في صبح الأعشى: "اعلم أن كاتب الإنشاء، وإن كان يحتاج ¬

_ (¬1) لسان العرب، مادة ثقف: 1/ 364 وراجع محيط المحيط للبستاني 1/ 191 , والفائق في غريب الحديث للزمخشري 1/ 479، طبعة البابي الحلبي - مصر، الأول: 1366 = 1947.

إلى التعلق بجميع العلوم، والخوض في سائر الفنون، فليس احتياجه إلى ذلك على حدّ سواء" (¬1). وهو هنا يقرر أمرين: الأول: أن كاتب الإنشاء ينبغي أن يكون آخذًا من كل علم بطرف. الثاني: أن حاجته إلى هذه العلوم متفاوتة، وأهم هذة العلوم لكاتب الإنشاء علم اللغة. وقد أصبحت كنب الأدب - في تلك العصور - محل عناية الفئة المثقفة من أبناء المسلمين خاصة أولئك الذين يطمعون في الوصول إلى ديوان الإنشاء، ولا يستننى عنه طالب علم يبغي تهذيب نفسه وتقويمها، وتوسيع آفاق فكره، يقول ابن قتيبة في مقدمة كتابه: "عيون الأخبار": "جمعت لك منها (أي الأخبار) ما جمعت في هذا الكتاب، لتأخذ تفسك بأحسنها، وتقومها بثقافها، وتخلصها من مساوئ الأخلاق، كما تخلص الفضة البيضاء من خبثها، وتروضها على الأخذ بما فيها من سنّة حسنة، وسيرة قويمة، وأدب كريم، وخلق عظيم، وتصل بها كلامك إذا حاورت، وبلاغتك إذا كتبت" (¬2). وقد شبه الكتاب في فنون الأدب كتبهم التي صنفوها في هذا العلم بالمائدة التي حفلت بكل ما لذَّ وطاب: "وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين" (¬3). وفي لسان العرب: "الأدب الذي يتأدب به الأديب من الناس، سمي أدبًا، لأنه يؤدي بالناس إلى المحامد، وينهاهم عن القبائح" (¬4). ¬

_ (¬1) صبح الأعشى: 1/ 146، طبع وزارة الثقافة، القاهرة. (¬2) عيون الأخبار لابن قتيبة، الجزء الأول، المقدمة: ط، طبعة وزارة الثقافة - مصر. (¬3) المصدر السابق: ى. (¬4) لسان العرب: مادة (أدب) 1/ 33.

تعريف الثقافة عند إضافتها للأمة

تعريف الثقافة عند إضافتها للأمّة: وضح لنا المراد بكلمة "ثقافة" عند إطلاقها، أما إذا أضيفت إلى الأمّة، فالمراد بها تراث تلك الأمّة الحضاري والفكري في جميع جوانبه النظرية والعملية الذي تمتاز به الأمّة، وهذا التراث الذي يشكل ثقافة الأمّة متداخل مترابط يشكل إطارًا ومحيطًا يحكم الأفراد والأسر والمجتمع في كل أمّة. وثقافة الأمّة في جوانبها المختلفة تشكل أسلوبها في الحياة, فعقيدة الأمّة وتاريخها ونظرتها إلى الحياة، والأفكار والنظريات التي تدور في عقول أبنائها ومفكريها، وتدون في كتبها ودراساتها - تشترك جميعًا في تحديد الأسلوب الذي يحكم حياة الأمّة، ويضبط مسارها، ولذلك عرف بعض الباحثين الثقافة بقوله: "هي أسلوب الحياة السائد في مجتمع من المجتمعات" (¬1). والأفراد في كل مجتمع من المجتمعات يتشربون -منذ أن تتفتح عيونهم على الحياة- ثقافة الأمّة التي يعيشون فيها، وتأثر هذه الثقافة في تكوينهم الفكري والعقائدي والخلقي، ويندمج الفرد بذلك في مجتمعه، وتتكون عاداته وتقاليده شيئًا فشيئًا، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" (¬2)، فالوليد خامة نظيفة طاهرة ليس فيها دنس الشرك والمعاصي، ولكن الوالدين يغرسان في ولدهما فكرهما وعقيدتهما وأسلوب حياتهما، وإذا خرج بعض الأفراد في مجتمع ما عن الطريقة التي ينهجها ذلك المجتمع- فإنَّ أبناء جلدته لا ينظرون إلى هذا الخارج عن طريقتم نظرة الرضا، ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية الميسرة، للدكتور شفيق غربال ورفاقه ص 39، وكتاب الثقافة والتربية في العصور القديمة للدكتور وهيب إبراهيم، طبع دار المعارف - مصر 1961. (¬2) رواه البخاري ومسلم.

الثقافة الصالحة والثقافات الجاهلية

ويعتبرهم خارجين على تعاليم الآباء والأجداد، ومتمردين على قيم وآداب مجتمعهم، وقد يعاقب المجتمع هؤلاء الخارجين عن نمط حياته عقوبات رادعة. واعتبر في هذا بحال الأنبياء مع أقوامهم، فقد اعتبروهم خارجين عن طريقهم، وناصبوهم العداء، {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]. وتهددوهم بالقتل على خلافهم لهم {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116]. واستمسك الضالون بتراث الآباء والأجداد {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلا قَال مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} [سورة: الزخرف 22 - 25]. إن هذا الذي وجدوا عليه آباءهم وصدّهم عن اتباع الرسل هو تراث الآباء العقائدي والفكري والحضاري، ذلك التراث الذي تربوا عليه ونشؤوا عليه، وهو الذي نطلق عليه اليوم اسم الثقافة، فالأمم جميعًا ثقافتها تحيط بها وتشكل حياتها، وتأسر الذين يعيشون في إطار مجتمعاتها. الثقافة الصالحة والثقافات الجاهلية: من العرض السابق يمكن أن نستنتج أن الثقافة قد تكون سويّة صالحة، وقد تكون ضالة جاهليَّة، فإذا كانت الثقافة مبنية على الإيمان بالله، والتوجه إليه،

والتحاكم إلى شريعته، والتصديق بما جاء من عنده - فإنها ثقافة سويّة صالحة، وإلَّا فإنها ثقافة جاهلية ضالة، وكلّ الأمم التي رفضت دعوة الرسل على اختلاف مناهجها ثقافها ضالة منحرفة {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. وقد جاءت الرسل لإصلاح الحياة الإنسانية وتقويمها وتطهيرها، ولا يجوز لأحد أنه يدعي أن ثقافات الأمم متساوية، وهي بذلك غير قابلة للنقد والتقويم، وقد خلط الإعلان النهائي للمؤتمر العالمي الثاني للثقافة الذي نظمته اليونسكو عام 1982 م في المكسيك حقًّا بباطل عندما قال: "إن لكل ثقافة قيمها، وإن تأكيد الذاتية الثقافية يسهم في تحرير الشعوب، ويزيد من ازدهار الجنس البشري، وإن جميع الثقافات جزء لا يتجزأ من التواث المشترك للإنسانية، وإن كل الثقافات متساوية في إطار الكرامة، وإنه لا بدَّ من الاعتراف لكل شعب، ولكل مجتمع ثقافي بحقه في تأكيد ذاتيته الثقافية، وفي صونها، وفي كفالة الاحترام الواجب لها" (¬1). والباطل الذي ورد في هذا الإعلان أن الثقافات متساوية، ووجوب الاعتراف لكل مجتمع ثقافي بحقه في تأكيد ذاتيته الثقافية .. ، وهذا القول قد يكون صوابًا في ثقافات الأمم النابعة من عاداتها وتقاليدها .. ، ، فليس من حق أمّة أن تفرض على أمة أخرى ثقافتها، لأن ثقافات الأمم في هذه الحال متساوية، ولكن الحال يختلف إذا كانت ثقافة الأمّة نابعة من دين إلهي سماوي منزل من عند العليم الحكيم، فيكون التسوية بين هذه الثقافة الصالحة، والثقافات الجاهلية تسوية ظالمة {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيفَ تَحْكُمُونَ (36)} [سورة: القلم 35 - 36]. ¬

_ (¬1) حديث جريدة السياسة الكويتية بتاريخ 25/ 9 / 1982.

المبحث الثاني الفرق بين العلم والثقافة وأثر هذا الفرق

المبحث الثاني الفرق بين العلم والثقافة وأثر هذا الفرق " العلم هو مجموعة الحقائق التي توصل إليها العقل الإنساني في مراحل تفكيره وتجاربه وملاحظاته المتسلسلة بتسلسل الزمن، والمحررة بالامتحانات المتكررة، فلا تختلف بتفاوت الأذواق، ولا تتغير بتغير المصالح" (¬1). وهذا النوع من العلم تراث إنساني عالمي، لا تختص به أمّة دون أمّة، ولا تحتكره قارة من قارات الأرض، فيكون غيرها عالة عليها فيه، إنه مشاع كالهواء الذي نتنفسه، والبحار التي تحيط باليابسة، وتمخر فيها ألوف السفن حاملة مئات الأعلام، ولا زالت الدول تتبارى وتتنافس في تحصيل هذه العلوم، بل إن الدول الكبرى تبذل الأموال النفيسة لمن يعرفها الأسرار العلمية التي توصلت إليها الدول التي تخالفها في عقيدتها ومبدئها، ولكن رجال الإصلاح ورجال القيادة في تلك الدول نفسها يقضون الليالي الطوال باحثين عن الطريقة التي يحمون بها أبناء أمتهم من العقائد الدخيلة الوافدة. وقد أقام الغرب الرأسمالي بناءه العلمي الشامخ على النتائج التي توصل إليها علماؤنا المسلمون من قبل في مجال الطب والهندسة والحساب والجبر والفلك وغيرها من العلوم. وإذا كان العلم تراثًا إنسانيًا عالميًا، تتوقف نهضة آية أمة من الأمم على الأخذ به - فإن واجبنا أن نستفيد من علوم الشرق والغرب، والأوائل والأواخر، ونبني الصروح العلمية التي تجعلنا أمّة قويّة مرهوبة الجانب، وقد أمرنا القرآن ببناء القوة الحربية {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. وإعداد القوة اليوم المتمثلة في الطائرة والدبابة والبارجة والغواصة والبندقية والمدفع ¬

_ (¬1) منهج الثقافة الإسلامية لمحب الدين الخطيب ص 10.

المبحث الثالث الفرق بين الثقافة والحضارة

والصاروخ والقنبلة الذريّة والهيدروجينية - لا يتم إلا بإتقان علوم كثيرة. هذا في العلم المادي. أمّا الثقافة فالأمّة الإسلامية لها ثقافها التي تشكل شخصية الفرد والأمّة، وتميزها عمن عداها، ومتى انسلخت الأمّة الإسلامية من ثقافتها التي تتمثل في قيمها وأخلاقها وتشريعها وآدابها فإن ذلك مؤذن بزوالها ودمارها، وبذلك ترتد إلى الجاهلية التي جاء الإسلام لينقذها منها. وإذا عرفنا هذا علمنا ما نأخذ وما ندع من حضارة الغرب. المبحث الثالث الفرق بين الثقافة والحضارة كلمة "حضارة" ككلمة ثقافة، يكثر دورانها اليوم في المحاضرات والندوات والتأليف، فيقولون: فلان متحضر، وفلان غير متحضر، والأمّة الإسلامية أمّة متحضرة، وكما يوصف الأفراد والجماعات بالتحضر توصف بها الأعمال، فالمعاملة المهذبة توصف بأنها حضارة، والغلظة والجفاء توصف بعكس ذلك. والعرب تريد بالحضارة ما يقابل البداوة، والحاضرة تقابل البادية، وخلاصة ما في المعاجم اللغوية عن مادة حضارة تنتهي بنا إلى أن الحضارة هي حياة المدينة، والبداوة هي حياة البادية، والحضر سكان المدن، والبدو سكان الصحراء. ولم تعد كلمة حضارة في العرف المعاصر مقصورة على مدلولها القديم المقابل لمدلول كلمة "بداوة"، وإنما جاوزته إلى مدلول آخر هو التعبير عن ارتقاء المجتمع وارتفاعه عن المستويات البدائية, ويقصدون عادة بالمجتمع المتحضر ذلك المجتمع الذي له قيمه الروحية الرفيعة، وأساليبه المادية المتطورة في مواجهة الحياة الطبيعية.

وبناءً على هذا التعريف لكلمة "حضارة يكون مصطلح الحضارة أوسع وأشمل من كلمة ثقافة، فالثقافة كما عرفنا هي أسلوب الحياة السائد في مجتمع ما، وهذا الأسلوب إنما هو ثمرة الصفات الخلقية، والقيم الإجتماعية، والمبادئ الروحية، والأصول العقائدية، فالثقافة على ذلك هي المحيط الذي يشكل طباع الفرد وشخصيته، أمّا الحضارة فإنها تضم إلى جانب هذا الرقي المادي الذي بلغه الفرد، وبلغته الأمّة. ويرى بعض الباحثين أن مدلول الثقافة مساوٍ لمدلول الحضارة، فيشمل كل منهما الجانب المعنوي والجانب المادي. ويرى فريق ثالث أن الحضارة تعني ما توصل إليه مجتمع ما من تقدم مادي في الصناعات والابتكارات والمخترعات والبناء والزراعة وغير ذلك، ولا يُعدُّونها إلى الجانب المعنوى في حياة الأمة (¬1). وينبغي أن نلاحظ هنا أمرين، الأول: أن علاقة الثقافة بالحضارة مبنية على تحديد المعنى الاصطلاحي لكل منهما، فقد يكون الاصطلاحان متساويين، وقد يكون مدلول الحضارة أوسع, وقد يكون مدلول كل منهما مختلفًا عن الآخر، وقد قال العلماء قديمًا: لا مشاحَّة في الاصطلاح. الثاني: أن العلاقة بين الثقافة والحضارة علاقة وثيقة، فإمّا أن تكون الحضارة والثقافة شيئًا واحدًا، فثقافة الأمّة وحضارتها بناء على ذلك تعني المستوى الرفيع الذي بلغته الأمّة في فكرها وتصوراتها وعقائدها وأخلاقها، وإمّا أن تكون الثقافة ¬

_ (¬1) راجع في هذا المبحث كتاب: دراسات في الحضارة والمدنية للدكتور أحمد إبراهيم الشريف ص 19 طبعة - الفكر العربي - بيروت، وكتاب تاريخ الحضارة لأبي زيد شلبي ص 7 - طبع مكبة وهبة القاهرة، وكتاب لمحات في الثقافة الإسلامية للدكتور عمر عودة الخطيب ص 42.

المبحث الرابع موضوع الثقافة الإسلامية

هي الركيزة التي تقوم الحضارة عليها - إذا عنينا بالثقافة الجانب المعنوي، وبالحضارة الجانب المادي. المبحث الرابع موضوع الثقافة الإسلامية بعد أن عرَّفنا الثقافة بمعناها المفرد ومعناها المركب يحسن بنا أن نحدد موضوع الثقافة الإسلامية، وهنا ينبغي أن نتذكر تعريف الثقافة بمعناها المركب، وقد قلنا إن الثقافة بهذا المعنى تعني: "أسلوب حياة الأمة" وهذا الأسلوب يحدده عند الأمم الأخرى تراثها الفكري والحضاري، وأمّا عند المسلمين فيحدده الإسلام، بل إن الإسلام في حقيقته "منهج حياة متكامل"، ومحور ثقافة الأمة بناء على ذلك الإسلام في عقائده وأخلاقه وطرائقه وفي السلوك والاقتصاد والسياسة والاجتماع والتشريع.

الفصل الثاني أصول الثقافة الإسلامية

الفصل الثاني أصول الثقافة الإسلامية كل ثقافة لها منابعها وأصولها، فأصول الثقافة الغربية يمكن إعادتها إلى الكتابين السماويين المحرفين: التوراة والإنجيل، وإلى القانون الروماني, وجهود العلماء الأوربيين، والتاريخ الأوربي. أما أصول الثقافة الإملامية فهي الوحي الإلهي الذي يتمثل في الكتاب والسنة، فالوحي الإلهي هو الذي بنى التصور العقائدي الواضح السليم عند الأمّة الإسلامية، وهو الذي حدد الوجهة والطريق، كما حدد معالم الطريق، وبين النطم والتشريعات التي تحكم الأمّة. وقد كان الوحي يعيد صياغة الفرد في معتقداته وأفكاره ويزكيه ويطهره، وينشئ العلائق والروابط، ويؤسس الصرح الذي يقوم عليه بناء الأمّة. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الأنموذج الذي يمثل هذا الدين، وكان المعلم والمربي والقائد والحاكم الذي اختاره الله ليرفع صرح الإسلام عاليا. ولا تزال نصوص الوحي السماوي وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي التي تحكم ثقافة الأمّة وتقومها. وتاريخنا الإسلامي يمثل نماذج للثقافات التي تفاعلت مع الإسلام عبر القرون.

الفصل الثالث الثقافة الإسلامية بين الأصالة والانحراف

الفصل الثالث الثقافة الإسلامية بين الأصالة والانحراف المبحث الأول أهم معالم الثقافة الإسلامية الأصيلة كلما انضبطت ثقافة الأمة الإسلامية بالاسلام كلما صعدت في مدارج الرقي, وقد تحقق هذا الكمال في عصر الصحابة والتابعين، ثمَّ دخل في ثقافة الأمة، ليس منها، وعند ذلك خالطها الدخن الذي أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - به، وقد يشتد هذا الدخن حتى لا تكاد تظهر معه معالم الثقافة الإسلاية الأصيلة، وقد يخف نتيجة جهود الدعاة والمصلحين فتعود الأصالة إلى البروز. والباحث في هذا الجانب لا بدَّ أن يعود إلى أمرين: الأول: الإسلام، لأنه هو الذي شكل ثقافة الأمة، ووضع لها القواعد والضوابط. والثاني: المجتمع الإسلامي، الذي تفاعل مع الإسلام وكوّن تلك الثقافة في واقع مشهود، بحيث أصبحت إطارًا تؤثر في حياة الأفراد وتوجهاتهم. وسنحاول أن نبرز في هذا المبحث أهم معالم الثقافة الإسلامية الأصيلة: 1 - بناء العقل الإنساني بناء سويّا: لقد كان العقل الإنساني نتيجة المبادئ الضالة والانحرافات العقائدية -

مشوها في بعض جوانبه، مظلمًا في جوانب أخرى، يفكر تفكيرًا معوجًا، ويحكم حكما مشربًا بالهوى، لقد ارتضى العقل الإنساني الخضوع للأشجار والأحجار، وعبد الشمس والقمر، والإنسان والحيوان، وسيطرت عليه الخرافة، فاعتقد أن الملائكة بنات الله، وظن أن أرواح الملائكة حَلت في النجوم، وقامت الحروب انتصارًا لعقيدة فاسدة يكذبها الواقع الصادق، فجاء الإسلام ليعيد ترتيب العقل الإنساني، ويكشف عنه الزيف والخرافة, ويفك عنه إساره، ثم يطلقه ليعرف ربّه من خلال آياته المسطورة والمنظورة, ثمَّ يأمره أن يفكر في نفسه وفي الكون بقصد البناء والإعمار. 2 - وضوح الهدف والغاية: أصدق ما يطلق على البشر الذين لم يهتدوا بهدي الله أنهم ضالون، والضال هو الضائع التائه الذي لا يعرف طريقه ووجهته، والبشر قبل إشراق نور النبوة كانوا كذلك، الأنعام أهدى سبيلًا منهم، لا يعرفون لماذا خلقوا، ولا يعلمون الوجهة التي ينبغي أن تتجه أعمالهم وأقوالهم إليها، فجاء الإسلام فعرفهم بالهدف والطريق الموصل إليه، وقال لهم أنتم مخلوقون لعبادة الله وحده، وهذا الدين أنزله الله إليكم ليدلكم كيف تعبدونه، وعرفهم بالجزاء الذي يستحقونه في حال استقامتهم، وفي حال اعوجاجهم. وعندما وضح السبيل والغاية وتحركت الأمّة الإسلامية في المسار الصحيح صلح أمر الناس، وإنجابت عنهم الظلمات. 3 - الإيمان الصادق العميق: الذي ينظر في المجتمع الإسلامي يجد أن أفراده كانوا شديدي الصلة بالله،

وكان ارتقاء الفرد في مجتمعه محكوما بارتقافه بصلته بربّه، وإذا خبا هذا الاتصال فإن الفرد يضعف، وتبدو عليه علامات المرض، والإيمان الصادق معرفة قويّة قويمة بالله، وتوجه إليه بالقلوب والمشاعر توكلًا واعتمادًا وحبًا ورجاءً وخوفًا، وتوجه إليه بالعمل، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [سورة الأنعام: 162 - 163]. 4 - الانتماء لأمة الفكرة والعقيدة: أصبح الانتماء في المجتمع الإسلامي للأمة الإسلامية، والأمّة في الإسلام هي الفئة التي ارتضت أن تجتمع على أساس من عقيدة الإسلام بغض النظر عن اختلاف أجناسها ولغاتها وألوانها وديارها. وكانت العصبيات القبلية والجنسية ولا زالت تمزق الشعوب وترفع بينها لواء العداوة والبغضاء، وتقوم الحروب ليؤكد كل فريق أنه الأعز. جاء الإسلام ليقول للناس: أصلكم واحد، وأبوكم واحد، وربكم واحد، ودينكم واحد، فالتفاضل بينكم بالتقوى، لا باللون أو الجنس. وارتقى المسلمون في تصورهم للعلاقة التي تربط بين البشر إلى مستوى القمة، فالرابطة التي تجمعهم رابطة العقيدة، والأمة التي ينتسبون إليها هي أمّة الإسلام. 5 - مجاهدة الباطل: التقوى والفجور خطَّان يتعاوران النفس الإنسانية والمجتمعات الإنسانية، وقد مرنت المجتمعات الإسلامية بتوجيهات الإسلام على محاربة الباطل، فالإنسان

يحارب النفس الأمارة بالسوء، ووساوس الشيطان، وهو يأمر غيره بالعدل والحق، ويحارب الباطل الذي يتلبس به، والأمّة في مجموعها تدعو إلى الحق وتحارب الباطل الذي يطل بعنقه هنا وهناك، وتجرد الجيوش لمحاربة أهل الكفر والضلال. وإذا نظرت إلى هذا المعلم من خلال المجتمع الإسلامي تجد الأمثلة لديك وفيرة، والنصوص الآمرة بذلك كثيرة، فلقد دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى الحق، وبعد قيام المجتمع المسلم حارب الباطل الذي كان يخالط النفوس، وحارب المسلمون الكفار، وحارب الصحابة المرتدين، ووقف العلماء في وجه الحكام الظلمة، ووقف الإمام أحمد في وجه الزيغ العقائدي، وكانت العقوبات توقع على العصاة والمتمردين ... 6 - السعي لاستعمار الأرض: لم يكن المسلمون فئة من الكسالى القاعدين، بل كانوا دائمًا وأبدًا ذوي همّة عالية، يجوبون البلاد، يبحثون ويثمِّرون ويعمِّرون، استجابة لأمر الله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. وآثار المسلمين شاهدة في كل قطر نزلوه أنهم لم يكونوا مخربين، بل معمرين، هذه آثار حضارتهم في بلادنا، وتلك آثارهم في الهند والأندلس وتركيا وكثير من دول أوربا. وهذا الاستعمار لا بدَّ له من العلم، فالعلم خارطة العمل، واستعمار الأرض لا يمكن أن يتحقق للجهلاء، فالأرض لا تخرج كنوزها، ولا تنقاد لمن يستعمرها

ما لم يكن معه المفتاح، ومفتاح ذلك العلم الذي يعرفنا بالسبيل الذي يسخر لنا فيه الكون. 7 - تحقيق المبادئ في عالم الواقع: إن الدول التي ترفع الشعارات الجملة كالحرية والعدل والمساواة والإخاء اليوم هي أشدُّ الدول انتهاكا لهذه المبادئ واعتبر بأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا وما فعلته هذه الدول بأمّة الإسلام في عصرنا الحاضر، بل إن الذين يستظلون بظل هذه الدول من أبنائها ليعانون من الظلم والعبودية والتفرقة في الحقوق والواجبات، وما أمر المتشدقين بالشيوعية في روسيا بسر، فأفراد الحزب الشيوعي يملكون كل شيء، بينما الأمّة مغلوبة على أمرها، تعيش كالقطيع لا تملك من أمرها شيئًا. لقد حقق المسلمون العدل في أرقى صوره، لقد كان القاضي المسلم يحاكم الخليفة، ويقضي عليه، وقد كان القاضي لا يفرق في قضائه بين حاكم ومحكوم، وكانت روح الإخاء هي التي تسيطر على أبناء المجتمع الإسلامي. 8 - وضع الضوابط والتنظيمات والتشريعات: الفرد المسلم والأمة المسلمة كلهم محكومون في تصرفاتهم وأعمالهم بالشريعة الإسلامية، ولذلك فإنهم يعلمون ما يأخذون وما يدعون، وكيف يتصرفون فيما بينهم، وكيف يعاملون خصومهم، وهذا يوحد مسارهم، ويضبط حركتهم, ويؤلف قلوبهم، ويعلي كلمتهم، وهذه الضوابط والتنظمات والتشريعات كلها

كاملة وافية، ولذلك جاءت صورة المجتمع المسلم في غاية الضبط والتنظيم والتماسك. 9 - الصبغة الأخلاقية الطاهرة: والأخلاق هي الضابط الأعظم في حياة الفرد وحياة الأمة، والمسلمون يحرصون على العمل بمقتضاها مهما كان الثمن باهظًا، لقد أوقف المشركون جماعة من المسلمين المستخفين في إسلامهم، كانوا ذاهبين إلى المدينة أثناء حصار المشركين للمدينة في موقعة الخندق، ولم يسمحوا لهم بالمرور إلا بعدما أخذوا عليهم العهود والمواثيق بأن لا يحاربوهم مع المسلمين، فلما أخبروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم" (¬1)، ولم يأذن لهم بالمقاتلة معه، وعندما أخرج الذين كفروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة لم يسمح لنفسه بالاستيلاء على أمانات الكفار، بل أمر عليًّا بردها إلى أهلها، والقصة معروفة مشهورة. ولقد تحدثت بأخلاق المسلمين الركبان في المشارق والمغارب، ولقد كانت هذه الأخلاق من أعظم ما حبب الكفار بدين الإسلام، فدخلت الأمم المغلوبة في دين الله أفواجًا، لمّا رأوا عدل المسلمين، وصدقهم ووفاءهم بالعهود، وما كان للمسلمين إلا أن يكونوا كذلك والإسلام يأمرهم بذلك {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن حذيفة: صحيح الجامع الصغير: 6/ 33.

المبحث الثاني انحراف مسار الثقافة الإسلامية

المبحث الثاني انحراف مسار الثقافة الإسلامية خالط الدخن الثقافة الإسلامية في التصورات والأفكار والعقائد والأعمال وأثر في العقول، كما أثر في تكوين الفرد فانحرف بها السار، وأثر في تكوين الأمة ومسلكها، وقد أنبأنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الذي أصاب الأمة، ففي حديث حذيفة، قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله جاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرّ؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي" (¬1). وهذا الدخن انحراف عن مصادر التلقي الأصيلة، وانحراف في المفهومات والتصورات نتيجة الانحراف عن تلك المصادر الأصيلة، وسنحاول أن نشير إلى أهم هذه الانحرافات: 1 - الانحراف عن مصادر التلقي الأصيلة: كان المسلمون يستمدون تصوراتهم ومعارفهم وأحكامهم من الكتاب والسنة، ولم يكونوا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ولم يكن لهم خيار إذا قضى الله ورسوله أمرًا، وكان العقل تابعًا للشرع، وكانوا ينخلعون من كل الأفكار والعقائد والتصورات التي تخالف الإسلام، ولما ترجمت الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية والصابئية عملت عملها في إفساد عقائد المسلمين، وزاحمت الكتاب والسنة في تكوين عقائد الأمّة وتصوراتها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم: جامع الأصول: 10/ 45.

هذا جانب، وجانب آخر أن الفلاسفة وعلماء الكلام نصبوا العقل حاكمًا على الشرع، وردوا كثيرًا مما جاء به الشرع إلى أحكام العقل، فرفعوا العقل، عن منزلته، وأنزل الشرع عن مكانته، وخاض العقل في مجالات ما كان ينبغي له أن يخوض فيها. 2 - الاختلاف العقائدي وفرقة الأمّة: ونتج عن الأمور السابقة: تعدد مصدر التلقي، ومخالطة الفلسفة وعلم الكلام للعقيدة الإسلامية وتحكيم العقل في الشرع - اختلافُ الأمّة وافتراقها، فانقسمت إلى سنَّة وشيعة وخوارج ومرجئة ومعتزلة ... وغير ذلك. ونتج عن هذا الاختلاف عداء وبغضاء، وحروب أدت إلى سفك الدماء، واختلاف في المناهج والسبل، مما أضعف المسلمين، وجعل بأسهم بينهم. 3 - الانحراف في المفاهيم الإسلامية: أصاب المفاهيم الإسلامية انحرافات أدت إلى انحراف مسار الفرد والأمة، فالتوكل أصبح تواكلًا، والإيمان بالقدر أصبح عجزًا وقعودا عن العمل، والزهد أصبح خمولًا وقعودا عن الجهاد، والعبادة رهبنة وانقطاعًا عن الحياة، وذكر الله أصبح همهمات وتمايلًا ورقصا وفقدانًا للعقل في حلقات الذكر. 4 - التعصب المذهبي والجمود الفكري: كان الكتاب والسنة محور الدراسة والعلم, ومنطلق العمل، وقاعدة الفهم، يدلك على ذلك الأمرُ بتدبرهما وتعلمهما وتعليمهما، وكان التعصب للحق لا

لآراء الرجال، ثم تغير الحال فاقتصر الطلب على تعلم آراء الرجال، وتعصبوا لهذه الأقوال، وتلك الآراء، من غير دليل ولا برهان، وأصبحت تلك الكتب هي المحور الذي تدور حوله الدراسة. وقد قتل هذا الإبداع في الفهم والتفكير، وأبعد المسلمين عن النبع الصافي المتدفق، وشغل طلبة العلم بحل الرموز والعبارات الجامدة، وشغلهم في بعض الأحيان بسفاسف الأمور. 5 - فشو الجهل وقلة العلم: قل نور العلم، وكثر الجهل في الأمة الإسلامية، وأصبحت الأمّة - التي جاءها دينها بالعلم، وجعله فريضة في بعض الأحيان، وفرض كفاية في أحيان أخرى، ومستحبًا حينا ثالثًا - تعوم في مستنقع الجهل، البلاد التي كانت تغص بالعلماء، أصبحت تسير في مشارقها ومغاربها لا ترى فيها عالمًا، والأمّة التي كانت تصارع الدول الكبرى بما تصنعه من قوة أصبحت لا تستطيع أن تصنع مسمارًا أو إبرة خياطة، وتوقف المسلمون في تنمية العلم في الوقت الذي تلقف الغرب علمنا ونماه، ثمَّ جاءنا يصفع به وجوهنا، ويدوس ظهورنا، وينتهك حرماتنا ومقدساتنا، وتلفتنا فوجدنا أننا قصرنا في حق أنفسنا. 6 - الانحراف السياسي: لقد جاء الإسلام ليعبِّد العباد لرب العباد، وقام الإسلام حكمًا فيهم، وألزم المسلمين باختيار حاكم يقيم فيهم كتاب الله، وكان أول من قام بالمهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم اختار المسلمون أبا بكر لهذه المهمة، ثم عمر، ثم عثمان، وكان قاعدة

آثار هذه الانحرافات

الحكم الالتزام بالشريعة، ومشاروة المسلمين، فلما تولى الحكم بنو أمية أصبح الحكم لا يسير على هذه القاعدة، ثمَّ أصبح وراثيًا في عهد بني العباس، وتصرف الحكام في بعض الأحيان وفق أهوائهم في الأموال وفي الأحكام، ولكن الحياة الإسلامية في الجوانب الأخرى كانت أكثر استقامة. 7 - فشو البدع والحرافات: كثرت البدع وانتشرت الخرافات، وشكلت هذه البدع والخرافات جزءًا من عقائد المسلمين، وأثرت في سلوك الفرد وحياة المجتمع، فقد أصبح لبعض الصالحين مكانة تحاط بهالة من التقديس، وتحاك حول هؤلاء الأساطير, فكان هؤلاء يُقْصَدون في حياتهم وبعد مماتهم بما لا يقصد به إلا الله تبارك وتعالى، فيذهب كثير من جهود المسلمين هباءً مثورًا، واخترعت العبادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وفشت في ديار الإسلام, حتى أصبح المسلمون لا يعرفون السنة من البدعة. آثار هذه الانحرافات لقد أثرت تلك الانحرافات على بنية الأمّة وبنية الفرد ومسارهما، وغشى الدخن عيون بعض أبناء الإسلام، فأصبح يرى في الإسلام عقبة تحول دون تقدم المسلمين، وما درى أن الذي يحول دون ذلك هو تلك الآصار والأغلال التي كبل المسلمون بها أنفسهم، وتلك العقائد والتصورات التي وفدت إلينا من خارج الأصول الإسلامية. ولما كانت هذه الانحرافات أمراضا هدَّت جسد الأمّة، وأضعفت قواها،

وفرقت شملها، فإن الأمر الطبيعي أن يطمع فيها أعداؤها الذين يتربصون بها الدوائر، وعندما سنحت لهم الفرصة وثبوا عليها وثوب الأسد على الفريسة، وأعملوا أنيابهم في جسدها المريض، فمزقوه إربًا إربًا، لقد وجهوا حرابهم وسيوفهم إلى الأمّة الإسلامية، فاحتلوا ديارنا وقسموها وأزالوا الخلافة، واستعبدوا شعوبنا، وامتصوا خيراتنا.

الفصل الرابع خصائص الثقافة الإسلامية

الفصل الرابع خصائص الثقافة الإسلامية الثقافة الإسلامية ثقافة فريدة متميزة بين الثقافات، ذلك أن ثقافات الأمم هي نتيجة لأفكارها ومعتقداتها وعاداتها، فالثقافة وإن شكلت إطارًا يحيط بكل أفراد المجتمع بحيث يوجه قلوبهم ووجوههم وجهة معينة، إلا أنها نتاج المجتمع نفسه. أما الثقافة الإسلامية فإن أصولها العقائدية والأخلاقية والعملية وحى الهي رباني، فالإسلام هو الذي أنشأ عقائد الأمّة الإسلامية وتصورها وأخلاقها وقيمها، وهو الذي حدد مسارها، وبين منهجها، ووضع لها قانونها، وأقام لها الضوابط التي تعصم الفكر من الانحراف، وهيمن الإسلام على الدراسات الإنسانية، وقوم الفنون التي تمارسها الأمّة: خلاصة القول أن الإسلام هو الذي صنع الأمّة، فالفرق بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى ليس به خفاء. والثقافة الإسلامية بين الثقافات الإنسانية نسيج وحدها، فهي كالزيتونة التي وصفها الله في كتابه {زَيتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] والسرّ الكامن وراء ذلك أن الذي بنى أصول هذه الثقافة، وحدد مسار فروعها هو الإسلام، والإسلام منهج إلهي رباني فريد. وسنتناول بعض خصائص الإسلام الذي قامت عليه الثقافة الإسلامية 1 - صبغة إلهية ربانية: سبق أن بينا أن الثقافة هي أسلوب الحياة السائد في مجتمع من المجتمعات،

وأصدق ما يوصف به نمط الحياة الذي تحياه الأمّة الإسلامية - أنّه صبغة إلهية، فأنماط الحياة عند غير المسلمين تحددها العادات والتقاليد والنظريات والمناهج التي يضعها مفكروها وعباقرتها، وتتفرد الأمّة الإسلامية دون غيرها بنمط إلهي، أصدق ما يقال فيه إنه صبغة إلهية، كما قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]. فالله أنزل لنا دينا بين لنا فيه الحال التي ينبغي أن نكرن عليها في أحوالنا الظاهرة والباطنة، كما وضَّح لنا الغاية التي ينبغي أن نهدف إليها من وراء الحياة، لقد أوضح لنا ديننا الأسلوب الذي تنهجه الأمَّة الإسلامية في حياتها، وقد سماه القرآن الكريم الصراط المستقيم، وشرع لنا أن ندعوه أن يهدينا إليه في كل ركعة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]. وهذا الطريق مخالف لطريق اليهود والنصارى والمشركين في القديم والحديث {غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]. ولم يتوف الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى اتضح الطريق والمنهج الذي تسير عليه الأمّة الإسلامية في حياتها، {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. وقد سمى القرآن هذا الطريق أيضًا سبيل المؤمنين، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. فسبيل المؤمنين كانت واضحة بينة، وهي التي سلكها الرسول - صلى الله عليه وسلم - واقتدى به أصحابه فيها عملا بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]. وقد سار على ذلك النهج التابعون وأتباعهم، ومن شذَّ عن هذا السبيل عدَّ فاسقًا أو كافرًا بحسب المعصية التي يرتكبها، وهذا السبيل الإلهي الرباني سبيل ثابت،

فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "كان خلقه القرآن" (¬1)، والخلق الصفة الثابتة الراسخة، وإذا تفكر المسلم في شأنه وحاله وجد أنه يعرف سبيله وطريقه: في عقيدته، وإرادته، وأعماله القلبية: من الخوف، والرجاء والرغبة، والرهبة، والحب والبغض، كما يعرف ما يأخذ وما يدع من أعمال، وما يقوم به من عبادات تجاه ربه، بل يعلم سبيله في كثير مما يدخل في العادات من طعام ولباس ونكاح ومسكن واجتماع وافتراق ... الخ. وقد بلغ من دقة هذا السبيل الذي أعيناه أسلوب حياة الأمّة أن المسلم عندما يتنقل في ديار الإسلام لا يشعر بالغربة مهما نأت به الديار، ذلك أن سبيل المؤمنين في عقائدهم وتصوراتهم وأفكارهم وعباداتهم وأعمالهم سبيل واحد. وفي ظلال هذه الصبغة الإلهية التي تحيط بالأمّة الإسلامية تتربى الأجيال، فتتشرب الأسلوب الذي تحيا به الأمّة، فيتربى الناشئة على الإسلام وتعاليمه وآدابه وأخلاقه. 2 - اتساع آفاقها: الثقافات الإنسانية ثقافات ضيقة، يعيش أفرادها في إطار ضيق من الحياة الدنيا، أمّا الثقافة الإسلامية فآفاقها رحبة واسعة، وقد عبر عن هذا المعنى موفد المسلمين إلى قائد جيش الفرس، حيث قال له مبينا الهدف الذي خرجوا من أجله: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 39، وموفد المسلمين هو ربعي بن عامر.

فالبشر في المجتمعات الجاهلية تحكمهم قوانين البشر، وعادات البشر، وأعراف البشر، وتسرى فيهم العقائد الضالة المحرفة، وكل ذلك يشكل ضيقا في الأفق، ويحجر على الفكر، ويجعل العباد يعيشون في دائرة ضيقة تقيد أعمالهم، ويؤيد الأمر آصارًا وأغلالًا أن العباد يحصرون أنفسهم في ظلال المناهج الجاهلية في دائرة الحياة الدنيا {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]. وهذه الدائرة الضيقة، وذلك الضلال عن الآخرة يحوَّل الحياة إلى شقاء وأي شقاء، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]. انظر كيف حصر الشيوعيون أنفسهم في نظرية ضالة لا تؤمن بخالق الكون، وتؤمن بأزلية المادة، وهي نظرية فاسدة، وانظر كيف أقاموا الحياة على ما سموه يصراع الطبقات، وكيف جعلوا الإنسان محكومًا للمادة، تسيره وتوجهه، ولا يملك لنفسه شيئًا, ومثل هذا يجعل المبدأ يضيق ضيقا لا يزيد عمّا كان يعيشه العابد للوتن، والساجد للصنم، والزاعم أن عيسى ابن الله تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، والثقافة الغربية كبقية الثقافات المعرضة عن هدي السماء قتلت أشواق الروح، وقطعت الصلة بين النفس وخالقها، فجفت فيها ينابيع المودة والمحبة والطمأنينة، وتحول الإنسان في عالم الغرب إلى آلة كبقية الآلات التي تعمل بغير شعور وإحساس. 3 - عالمية الثقافة: تقوم الثقافات البشرية على اعتبارات وأسس محكومة بالنظرة القومية والعنصرية، يقول رينان الفرنسي: "جنس واحد يلد السادة والأبطال هو

الجنس الأوربي، فإذا ما نزلت بهذا الجنس إلى مستوى الحظائر التي يعمل فيها الزنوج والصينيون فإنه يثور، فكل ثائر عندنا هو بطل لم يتح له ما خلق له، هو إنسان ينشد حياة البطولة، فإذا هو مكلف بأعمال لا تتفق وخصائص جنسه، إن الحياة التي يتمرد عليها عمالنا يسعد بها صيني أو فلاح أو كائن لم يخلق لحياتنا" (¬1). وصنف هتلر البشر فجعل أمته في المرتبة الأولى، وجعل العرب في المرتبة الرابعة عشرة، ولم يبق وراءهم إلا اليهود والكلاب، وكان شعاره: ألمانيا فوق الجميع، ولا يزال داء العنصرية يسري في الأمم الغربية، فالأسود هناك ممقوت مكروه، يضرب ويهان، ويحرم من حقه في التعليم والوظائف، ولا عجب إذا رأيت لافتة كتب عليها: ممنوع دخول السود والكلاب، ولذلك فإن الزنوج هناك يثورون بين فترة وأخرى ويقتلون ويدمرون، وينتسب بعض الناس إلى رقعة من الأرض يسمونها الوطن, بها يعتزون وإليها ينتسبون. أما الثقافة الإسلامية فليست ثقافة العرب ولا الفرس ولا البربر، وليست ثقافة الرجل الأبيض ولا الأسود، إنها ثقافة البشر كلهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم، لم توضع لجنس ولا لون ولا بيئة معينة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. إن الإسلام يقرر أن انقسام البشر إلى شعوب وقبائل إنما هو للتعارف، لا للتناحر والتقاتل والتفاضل، أما مقياس التفاضل في الإسلام فهو التقوى: الإيمان والعمل الصالح. ¬

_ (¬1) الثقافة الإسلامية لعبد الكريم عثمان: ص 16.

وفي ظل هذا المقياس الذي وضع للناس كافة يرتقي الناس جميعًا، ويتنافسون في ميدان العمل الصالح، لا فرق بين أبي بكر العربي، وبين سلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وتدخل الشعوب في الإسلام، فلا تشعر بغضاضة في نفوسها، ذلك أن الناس في ظل الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. وقد جاءت تعاليم الإسلام للإنسان كإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه وموطنه، فالعناصر الثقافية الإسلامية: التربوية، والنفسية، والروحية، والأخلاقية - جاءت أحكامها وفق الطيعة الذاتية للإنسان مجردة عن إطار الزمان والمكان، ذلك أن الإنسان كإنسان ثابت لا يتغير، ولا يتبدل في روحه وعواطفه وأشواقه وضروراته وغرائزه، والجانب المتغير في الإنسان هو الجانب العملي، أو الجانب الذي يتعامل فيه الإنسان مع الكون. إن هذا الدين يسع البشرية كلها، لأنه من عند الله، منزل إلى الناس كلهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]. {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]. أمَّا الثقافات البشرية فكل أمّة تستمد ثقافتها من مألوفها وذوقها وموارثيها الأدبية وظروفها الجغرافية، وضروراتها الإقليمية، وحاجاتها الاجتماعية، فكيف يمكن أن ئكون ثقافة أمّة من هذه الأمم ثقافة للعالم كله، وهذا يدلنا على بطلان ما ينادي به الغرب من عالمية الثقافة الغربية. وغاية الإسلام إيجاد الإنسان الصالح، أما المبادئ الأرضية فغايتها تكوين المواطن الصالح، الإسلام يجعل كل إنسان هدفًا لمنهجه، بينما المبادئ الأرضية تتجه إلى فئة معينة من الناس دون سواهم.

4 - الشمول والكمال: يتصف الدين الإسلامي الذي تقوم عليه ثقافتنا بالشمول والكمال، ويتبدى هذا الشمول في أمور كثيرة نكتفي منها بثلاثة: الأول: العقيدة التي تعطى المسلم تصورًا كاملًا عن الإنسان والكون والحياة، كما تعطي تفسيرًا للقضايا الكبرى التي شغلت الفكر الإنساني، ولا تزال تشغله، فالإنسان كان ولا يزال يتساءل عن أصله ونشأته، ومصيره ونهايته، ومنشئه وعلاقته بخالقه ومنشئه، ودوره في هذا الوجود، والعوالم الخافية المستورة وراء هذا الكون المشهود، وعلاقته بتلك العوالم، والعقيدة تجيب عن ذلك كله. الثاني: إحاطة الشريعة بالإنسان، فهي من جانب تصاحب الإنسان طفلًا وشابًا وشيخًا، بل إنها تعنى به قبل ميلاده، وبعد وفاته، فهناك أحكام الجنين، وأحكام تتعلق بالموتى، من غسل وتكفين وصلاة وقسمة ميراث، ونحو ذلك، وتعني أيضًا بجوانب حياته كلها، في زواجه وطلاقه، وطعامه وشرابه، وعسره ويسره، وأفراحه وأتراحه ... ومن جانب ثالث تعنى بروحه وجسده وعقله. وكما عنيت الشريعة بالفرد عنيت بالمجتمع في كل المجالات التي تهمه. الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. الثالث: الشريعة قانون شامل يضم كل القوانين التي سماها البشر بأسماء مختلفة، كالقانون الدستوري، والقانون المدني، والقانون الإداري، والقانون المالي، والقانون الجنائي، والقانون الدولي. 5 - التوازن: إن الموازنة بين الحقوق والواجبات، والموازنة بين الحقوق بعضها مع بعض،

والواجبات بعضها مع بعض، والموازنة بين مطالب الروح والجسد أمر عسير ليس بالسهل، فالإنسان يغرق بطبعه في الميل إلى أحد الجانبين، وهذا الميل يسبب فسادًا للفرد والمجتمع. وقد جاء الإسلام بتشريعه حافظًا هذا التوازن، فأمر الإنسان بعبادة ربه، ولكنه أمره أن يصرف شيئًا من اهتمامه لنفسه وأولاده ومجتمعه، وجعل ذلك نمطًا من التعبد. وأمره أن يصرف همه للدار الآخرة ونهاه عن أن ينسى نصيبه من الدنيا، ونهاه عن تحريم الطيبات التي أباحها الله لعباده، ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عن الانقطاع للتعبد، وترك الجهاد والزواج. ووازن بين مطالب الروح والجسد، كل ذلك وفق توازن عجيب يبرز خصائص الإنسان، ويقيم الحياة على نحو فريد. 6 - الإيجابية الفاعلة: إحدى السمات البارزة في ثقافة الأمّة الإِيجابية الفاعلة، فالإسلام يأمر أتباعه بالسعي في الأرض وإعمارها، وفي مجال الحياة الاجتماعية لا يتوقف عند النهي عن الإفساد في الأرض بالقتل والسرقة والزنا وشرب الخمر وتخريب الحضارة والعمران، ولكنه يأمر بالإصلاح والتعمير، وتستطيع أن ترى هذا المبدأ من خلال أمر الإسلام بالمعروف ونهيه عن المنكر {كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] ونراه من خلال الأمر بالتعاون على البر والتقوى والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

إن الثقافة الغربية تقول: لا تؤذ عيرك، لا تؤذ جارك، لا ترم الأذى في الطريق، ولكن الإسلام يقول ذلك ويضيف إليه أحسن إلى غيرك، أحسن إلى جارك، أمط الأذى عن الطريق، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]. وفي الحديث "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (¬1). 7 - الواقعية: ليس المراد بالواقعية الرضا بالحال التي عليها الإنسان في حال سموه، وفي حال انحداره، كما هو حال الأدب الهابط الذي يصف الواقع المريض الذي يعيشه كثير من البشر، ولكن المراد بالواقعية أنها تضع التشريعات للإنسان من حيث هو إنسان، فالإنسان فيه القوة والضعف، يعلو أحيانًا ويهبط أحيانًا، وهو بحاجة إلى الشريعة التي ترقى به إلى مدارج الكمال، وتثني على استقامته إذا استقام، وتبصره بخطئه حين يخطئ، وتفتح له باب التوبة إذا عصى، وتشرع له الرخص التي يأخذ بها حين الضعف والمرض وعدم القدرة على العمل، والشريعة الإسلامية هي التي تفعل ذلك كله، أحلت الطيبات وحرمت الخبائث، وأحلت للمضطر تناول ما حرم عليه من الطعام، وأوجبت الوضوء للصلاة، وأباحت التيمم حين فقد الماء أو حين عدم القدرة على استعماله، وألزمت بالصلوات في أوقاتها بأعدادها المقررة، ورخصت بالجمع والقصر في السفر، وشرعت الفطر للمسافر في رمضان. ¬

_ (¬1) متفق عليه.

وكثير من المذاهب تفترض في الإنسان المضي في الحياة على استقامة، وحين يعجز البشر عن المضي وفق التشريعات المثالية يفقدون الثقة بتلك التشريعات أو يفقدون الثقة بأنفسهم. وجانب آخر هو أن الشريعة لا تكلف البشر فوق ما يطيقون، بعكس الشرائع التي ترهق الناس بالتكاليف التي تسبب لهم العنت والإرهاق، فتصبح بذلك آصارًا وأغلالًا. 8 - الحركة حول محور واحد: لم تزل المذاهب البشرية المختلفة تتنازع النفس البشرية، فالمنهج الذي يسير عليه البشر البعيدون عن الوحي السماوي خليط من الأفكار والمبادئ والعقائد والتصورات، وهذه قد تتضارب فيما بينها، وتلك طبيعة المبادئ الأرضية {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. فالمجتمع الواحد البعيد عن هدي السماء كالمجتمع الغربي اليوم - قد توجد فيه المثل التي تطالب بالأخذ بالفضيلة، وهي بقايا الدين النصراني المحرف، ولكن المذهب المادي النفعي القائم على الكفر بالله واليوم الآخر يناديه كي يغرق في الشهوات، ويعيش لدنياه فحسب، ودين الإنسان في الغرب يناديه كي يؤمن بالمسيح إلهًا وربا، فهو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وعقله يرفض هذا المنطق. وهذا الاختلاف والتضارب في المناهج يمزق النفس الإنسانية، ويجلب لها الصراع الذي ينتج الهموم والحيرة القلق. أمّا في الإسلام فإنَّ حياة المسلم تدور حول محور واحد ثابت، فهو يؤمن بالله

ربًا واحدًا لا شريك له، فلا تعدد في الأرباب ولا تعدد في الآلهة، ومن الله يستمد تصعوره ومعرفته لربه، ومعرفته للكون من حوله، ولما وراء الكون المشهود، كما يستمد منه القيم والأحكام التي يقوّم بها الأشياء، فلا تضارب ولا تعارض، ولا تصادم، لأنه يأخذ كل ذلك من الله تبارك وتعالى، ودين الله وِحْدة متكاملة تتوافق ولا تتعارض، وبذلك تتحقق طمأنينة القلب، وانشراح النفس، وهدوء البال، فلا عقد نفسية، ولا صراع داخلي، ولا قلق، ولا هموم.

الفصل الخامس الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافات الجاهلية

الفصل الخامس الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافات الجاهلية المبحث الأول نظرة في ثقافة الغرب الحياة مجال صراع بين بني البشر، وكثير من البشر يجهل حقيقة هذا الصراع، فيقضي نحبه في صراع يدمره ويهلكه، وقد وجه الإسلام أبناءه إلى مصارعة الباطل، وأمرهم بمناصرة الخير. والإسلام أمر بمصارعة الباطل في حنايا النفس الإنسانية، وفي داخل المجتمع المسلم، كما أمر بمصارعة الباطل في معاقله، وهي تلك المجتمعات التي تقيم حياتها بعيدًا عن هدي السماء. ولقد أهدى الإسلام البشرية الحياة والنور والضياء والحق، وأنقذهم من الجهل والشرك والضلال، ولكن البشر يأبون إلا أن يحاربوا الخير والهدى، ويصرون على الحياة في الظلام. لقد كان الإسلام دينًا زاحفا يهاجم الجاهلية في معاقلها، وكانت ثقافته ثقافة زاحفة أيضًا، وقد كان تأثير الإسلام وثقافته في العالم كله تأثيرا كبيرا، وكان همّ كثير من الأمم كاليهودية والنصرانية والمجوسية حماية مجتمعاتهم من هذا الدين الآسر الزاحف، ثم حاولوا مهاجة الإسلام، وقذف النصارى بمئات الألوف من أبنائهم في هجمة شرسة على معاقل الإسلام، ولكن المسلمين أطاحوا بهم وردوهم على أعقابهم بعد جهاد مرير، وتلك الحروب هي التي عرفت "بالحروب الصليبية" في التاريخ.

وعاد الصليبيون إلى ديارهم وقد فتح الشرق أعينهم على كثير من الحقائق العلمية، وغيَّر كثيرًا في تفكيرهم، ولم تزل علوم المسلمين تعمل عملها فيهم، حتى ثاروا على الأغلال والآصار التي قيدتهم الكنيسة بها، فرجال الدين النصراني كانوا يمارسون هيمنة على المجتمعات النصرانية باسم الدين، وكانوا يحاكمون ويقتلون ويسجنون، ولكنهم لم يكونوا بقادرين على تقديم الأنموذج الممتاز للأمّة النصرانية، فالمبادئ التي يعتقدونها تعتبر الرجل الفاضل هو الذي يهرب من الحياة وينقطع للعبادة، ولا يعافس زوجة ولا ولدًا، ولكن الفطرة تغلبهم على هذا الانحراف الفكري، فيرتد إلى انحراف عملي، فتصبح كثير من الأديرة مباءة للفسق والفجور، ويتحول كثير من رجال الدين إلى كانزي مال، يكدسون منه في دورهم ما يعييهم حمله وحفظه، ويشرعون من الطرق لاكتسابه ما يمجه الدين والعقل، وما بيعهم لصكوك الغفران وتعاملهم بالربا ببعيد عن أذهاننا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]. وقام العلماء المتنورون بمحاربة الكنيسة ومخالفتها خاصة في الآراء العلمية التي تبنتها الكنيسة، وعدتها من الدين، وما هي من الدين. وأقام رجال الكنيسة محام التفتيش، ودفعوا بالألوف إلى المشانق والمقاصل، ودفنوا الأحياء، وأخيرًا انهار الجدار الصلب تحت ضربات رجال النهضة العلمية، فاندحر رجال الدين إلى أديرتهم وكنائسهم، وقصرت مهمة الدين على التعبد، أمّا الحياة فقد أصر المتنورون على إخراجها من سلطان الكنيسة، وأصرَّ البشر على حكم أنفسهم بأنفسهم.

المبحث الثاني مدى عداء الغرب للإسلام

وابتعد النصارى كثيرًا عن الدين النصراني، وأنشؤوا دينًا يقوم على احترام المادة، والتحلل من الدين، وأصبح الدين المهيمن هو النفعية العنصرية، وسرت هذه النفعية في دم قادة تلك الأمم ومفكريها وشعوبها، وأصبح الإنسان مهما كان اتجاهه في عالم الغرب يعرف دينًا واحدًا هو الرقي المادي، وأصبح الاعتقاد السائد أنه لا غاية في الحياة إلّا أن يجعلها الإنسان حرة طليقة من كل القيود، وأقاموا معابد لهذا الدين الجديد، وهي تمثل في المصانع العملاقة الضخمة، ودور السينما، ومختبرات الكيمياء، ودور الرقص، وكهنة هذه المعابد هم رؤساء المصارف والمهندسون والممثلون وكواكب السينما، وأقطاب التجارة والصناعة. والملاحظ أن الثقافة الغربية أهملت الروح، وانعدم الاهتمام بها، ذلك أن مذهب النفعية المادية المرتبط بالحياة الدنيوية الضيقة قتل أشواق الروح وتطلعاتها. وبناء الثقافة الغربية على هذا النحو جعلها تناصب الإسلام العداء، وتكيد له في السر والعلانية، وقد استعانت على تحقيق أهدافها بما بلغته من قوة وعلم. المبحث الثاني مدى عداء الغرب للإسلام المسلم النبيه المتابع للحياة في العالم الغربي يراها تنضح بالحقد والكراهية والعداء للإسلام وأهله، وقد بلغ العداء إلى درجة الإسفاف، لقد طبعوا صفحات من القرآن الكريم على الأوراق التي تغلف بها المبيعات، ورأينا الملابس الداخلية التي تستر العورة وقد كتب عليها شعار الإسلام "لا إله إلا الله"، وأطلق الحاقدون اسم "مكة" على محلات يجتمعون فيها للفساد والإفساد، وفي كل يوم تصدر مجلات وصحف وكتب تسخر بالإسلام وتعاليم الإسلام ونبي الإسلام، واستغلوا المنظمات العالمية لحرب الإسلام، فمنظمة اليونسكو تشرف على موسوعة تعرف باسم (تاريخ الجنس البشري وتقدمه الثقافي والعلمي) وفي الجزء الثالث من هذه

الموسوعة (الحضارات الكبرى في العصر الوسيط) الذي ترجم عن الإنجليزية والفرنسية نجد في الفصل العاشر حديثًا مسهبا عن العرب، وقد ملئ بالتشويه والمسخ لتاريخ الإسلام، والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه. والغرب هو الذي أقام لأبناء القردة والخنازير دولة في مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمدها بالمال والرجال والسلاح، وبحراب الفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين والأمريكيين ... سقط ملايين وملايين من أبناء المسلمين في فلسطين وسوريا ومصر والجزائر وليبيا والهند وأفغانستان ... إن الحقد والكراهية هي التي توجّه العالم الغربي، وهو يخشى أن يتجمع المسلمون على الإسلام، يخشون أن يعود المارد الذي كان يقف في وجه مطامعهم، فلذلك يحاربون الإسلام بكل سبيل، وعندما انتصر الصليبيون على تركيا في الحرب العالمية الأولى - اشترطوا على دولة الخلافة أربعة شروط وهي الشروط المعروفة باسم شروط (كرزون) وهي: 1 - أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام. 2 - أن تلغي الخلافة الإسلامية. 3 - أن تتعهد بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة. 4 - أن تختار تركيا لنفسها دستورًا مدنيًّا بدلا من الدستور العثماني المستمد من أحكام الشريعة الإسلامية والقائم على قواعدها. وقد نفذ كمال أتاتورك شروط (كرزون)، وانسحبت جيوش الحلفاء من تركيا، ولاقى هذا الانسحاب معارضة شديدة من النواب الإنجليز، ولما وقف (كرزون) في مجلس العموم البريطاني يتحدث عن هذا الاتفاق مع تركيا، انهالت عليه الاحتجاجات: كيف اعترفت انجلترا باستقلال تركيا التي يمكن أن

تجمع حولها الدول الإسلامية مرة أخرى وتهجم على الغرب؟ ! فأجاب (كرزون): لقد قضينا على تركيا ولن تقوم لها قائمة بعد اليوم، لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين: الإسلام والخلافة، فصفق النواب الإنجليز كلهم، وسكتت المعارضة (¬1). ولم يكتف حكام تركيا الموالون للغرب بذلك، بل غيروا الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية، ومنعوا الكتابة بالعربية، ومنعوا الأذان بالعربية، وألزموا الشعب بلبس القبعة الأوربية (البرنيطة). وفي الديار الإسلامية أقصى الحكام الشريعة الإسلامية عن الحكم، واستبدلوا بها قوانين من وضع البشر، وامتلأت الحياة الاجتماعية بالأعمال والتصرفات المخالفة للشريعة الإسلامية، لقد انتشر في كثير من ديار الإسلام الزنا والخمر والميسر والربا، وسخر الساخرون من الإسلام وتعاليمه، ورمى المتمسكون بدينهم بالجمود والرجعية، وتقلص ظل الشريعة الإسلامية عن الهيمنة على حياة المسلمين. ولا يزال مدّ الثقافة الغربية إلى اليوم طاغيًا متمردًا يريد أن يجتاح كل شيء، ويمكننا أن نلخص آثاره في النقاط التالية: 1 - عزلة الإسلام عن قيادة المجتمعات الإسلامية. 2 - التمزق الثقافي الذي أصاب الأمّة الإسلامية. 3 - الافتتان بالحضارة المادية الغربية. 4 - فقدان الذات وضياع معالم الشخصية الإسلامية. 5 - انتشار الإلحاد في صفوف المسلمين. 6 - الفهم الخاطئ للإسلام وتاريخه بسبب تحكم أعداء الإسلام في فهمنا. ¬

_ (¬1) مجلة الأمة القطرية, عدد المحرم: 1402 ص 76.

المبحث الثالث الغزو الفكري والثقافي الغربي: أهدافه ووسائله

المبحث الثالث الغزو الفكري والثقافي الغربي: أهدافه ووسائله لقد درس قادة الدول الغربية وعلماؤها تاريخ الأمّة الإسلامية، ووجدوا أن منابع القوة عند المسلمين تتمثل في العقيدة الإسلامية المستقرة في القلوب، والشريعة الإسلامية التي تحكم الحياة، ووجدوا أن آباءهم الصليبيين هزموا قديما بسبب تمسك المسلمين بهذا الدين، فوجهوا همهم لخلخلة الثقافة الإسلامية، حتى يسهل عليهم اقتلاع عقيدة الإسلام، وتشويه صورته في نفوس المسلمين، وبذلك يسهل السيطرة عليهم. وسائل الغزو الفكري والثقافي اتخذوا وسائل كثيرة لتحقيق أهدافهم نفذوها بدقة متناهية، وقد عقدوا مؤتمرات كثيرة لتقويم هذه الوسائل وتطويرها، وأهم هذه الوسائل: 1 - ادعاؤهم عالمية الثقافة: غلف الغرب دعوته إلى سيادة الثقافة الغربية بغلاف جميل براق، يخدع البسطاء والسذج من البشر، فأخذوا ينادون بوحدة الثقافة العالمية، وهي عبارة خلابة المظهر، براقة الصورة، والهدف من وراء ذلك صهر الثقافات الإنسانية في بوتقة الثقافة الأوربية، وقد ركزوا هجومهم على القيم والخصائص التي تميز الثقافة الإسلامية لهدمها في الفرد المسلم والأمة المسلمة. وشبيه بهذه الدعوة دعوتهم الأمة الإسلامية إلى التحضر والتمدن، ويزعمون أن

التمدن والتحضر هو نمط الحياة التي يعيشها العالم الغربي، فهي الدول المتقدمة أما نحن ودول العالم الثالث فمتخلفون ومرادهم من وراء هذه الدعوة سوق، الناس جميعًا إلى الولاء والعبودية لسيادة الفكر الغرو، وإحلال القيم والمفاهيم الغربية محل القيم الفكرية الثقافية التي يدين بها الشرق والعالم الإسلامي، وهي قيم ومفاهيم تختلف في جوهرها وأصولها وفلسفتها عن مثيلاتها في العالم الغربي. وهذا الذي نقرره هنا من التضاد بين الثقافتين يدركه قادة الفكر والسياسة الغربيون، ولكنهم يخادعون ويمكرون، يقول (أيوجين روستو) رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية، ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس السابق (جونسون) لشؤون الشرق الأوسط إلى سنة 1967. "إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي ... فلسفته، عقيدته، ونظامه ... وذلك يجعلها تقف معادية للشرق الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي، والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك، فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها" (¬1)، وصدق الله إذ يقول: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]. وإذا أنت دققت في كلام (أيوجن) هذا علمت أمرين: الأول: الخلفية التي تحرك الشعوب النصرانية بالعداء لهذه الأمة، والثاني: السبب الذي من أجله أقامت الأمم الغربية دولة اليهود في مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أدرك هذه الحقيقة المسلم المهتدي روجيه جارودي عندما قال: "تعتبر الكنائس النصرانية ومن ورائها كل العالم الغربي أنها الوريثة للشعب المختار ومتضامنة معه حيث إنها مكلفة ¬

_ (¬1) مجلة الأمة القطرية: عدد المحرم 1402 ص 75.

بالرسالة نفسها، وبهذا الخلط المستمر بين إسرائيل الواردة في التوراة ودولة إسرائيل، فإن الأخيرة تمكنت من أن تواصل بدون رادع القيام بدور الوكيل للاستعمار الغربي الجماعي" (¬1). 2 - إفساد التعليم: حرص الصليبيون عندما احتلوا ديارنا على إفساد التعليم الديني وتكريه المسلمين بالإسلام بطرق مختلفة، لقد نصبوا رجالاتهم والذيت تربوا على أعينهم مستشارين للمؤسسات التعليمية، فقد كان القسيس النصراني دنلوب مستشار وزارة المعارف في مصر أيام الانتداب البريطاني، وقد قلصوا حصص الدين من المدارس النظامية، وأهملوا العناية بالمدارس الدينية, وأرسلوا الطلبة النابهين إلى المدارس والجامعات الغربية وربوهم على أعينهم، ثم سلموا هؤلاء مهمة قيادة التعليم في ديارنا وجعلوا المميزات الأدبية والمالية من نصيبهم، وفتحوا المدارس والجامعات التبشيرية في ديارنا، وفد فعلت هذه المدارس والجامعات بنا ما لم تفعله حراب المستعمرين ومدافعهم، ولا تزال الجامعة الأمريكية ببيروت تخرج أجيالًا ينتشرون في كل مراكز التوجيه انتشار المرض العضال في أجزاء الجسد. ولا يزال الصليبيون يعنون بإرسال رجالهم إلينا خبراء ومفكرين ومدرسين، كما يحرصون على عقد المؤتمرات لمفكرينا ورجالات الحكم والشباب من أبنائنا ليستمر تأثير الثقافة الغربية فينا عبر مراكز التوجيه، وعبر الأجيال الناشئة، ومن أشهر المؤتمرات التي عقدت في هذا المجال، مؤتمر الثقافة الإسلامية، في عام 1953، عقدته جامعة برنستون، ومكتبة الكونغرس بواشنطن، وقد حضره جمع من المفكرين من أبناء المسلمين. ¬

_ (¬1) مجلة المجتمع الكويتية: العدد الصادر في: 28/ 7 / 83.

3 - الدعوة إلى القومية: كانت الرابطة التي تجمع الشعوب الإسلامية هي الرابطة الإسلامية، فشجع الغرب الصليبي الشعوب المختلفة على المناداة بالقوميات التي تنتسب إليها الأمم المختلفة، فنادى العرب بالقومية العربية، والأتراك بالتركية الطورانية، ونادى الأكراد بالكردية، وبذلك تفسخت عرا الرابطة الواحدة التي كانت تجمع هذه الأمّة وتوحدها، وقد كان ظهور هذه الدعوات سببًا في إزالة الخلافة العثمانية وتحطمها. وقد أغرق دعاة الضلال في دعوتهم عندما أحيوا الحضارات القديمة لإيجاد مزيد من الانقسام والفرقة، فرأينا الدعوة إلى الفرعونية، والدعوة إلى البابلية، والآشورية ... وغيرها. 4 - إفساد المرأة: وقد حرص الكفار على إفساد المرأة، لأنَّ فسادها يفسد الأبناء والأزواج، أخرجوها من بيتها، وهتكوا حجابها، وزينوا لها التمرد على دينها بمختلف الأساليب، وزعموا أن تحضرها وتقدمها لا يكون إلا إذا سارت مسيرة المرأة في أوروبا. 5 - إقصاء الشريعة الإسلامية من الحكم: وهذا الأسلوب بذل الكفار في سبيل تحقيقه الكثير من الجهد والمال والفكر، وقد أقنعوا به كثيرًا من الحكام في الديار الإسلامية، وقد تبنت دولة الخلافة في آخر عهدها كثيرًا من القوانين الكافرة، وفرضت القوانين الفرنسية على الشعب

المسلم في مصر في عام 1882 م ولم ينتصف القرن الرابع عشر الهجري حتى أقصيت الشريعة الإسلامية من الديار الإسلامية، باستثناء أحكام الزواج والطلاق والميراث. 6 - تنصير المسلمين: على الرغم من أن الأمم النصرانية تبتعد عن النصرانية، وعلى الرغم من بيعهم للكنائس في ديارهم، إلا أنهم حريصون على تنصير المسلمين، وبناء الكنائس في ديارنا، وقد رصدوا لذلك مئآت الملايين من الدولارات، وأرسلوا البعثات التبشيرية مجهزة بكل ما يمكن أن يحقق الهدف الذي قامت من أجله، وعلى الرغم من الصعاب التي تقف في طريقهم، إلا أنهم ماضون في هذا الطريق، وهم يصطادون المسلمين الجهلة، وينشبون أنيابهم في فقراء المسلمين، حيث يقدمون لهم بعض ما يحتاجون إليه مقابل تركهم لدينهم وعقيدتهم. 7 - استخدام وسائل الإعلام: استغل الغربيون والمستغربون وسائل الإعلام المختلفة لحرب الإسلام, ونظرة سريعة إلى وسائل الإعلام في ديارنا ترينا مدى البلاء الذي تصبه ليل نهار على معتقداتنا وشعائرنا وسلفنا وعلمائنا، سيل من الشبهات التي تشكك في الدين وأحكامه، وسيل آخر من الأفلام والتمثيليات والمسرحيات التي تتهكم بالإسلام، وتقوم بعرض نماذج من أنماط الحياة تضاد الإسلام في كل شيء، أنماط جاهلية عفنة، تمجد الجريمة، وتدعو إلى الفسق والفجور، وتكره في الحياة المستقيمة الفاضلة، وتتهكم بالمسلمين والمسلمات، وتتخذ الدين هزوًا، وتعرض ما حرّم الله: الرقص الفاضح، وشرب الخمر، والكذب والدجل، وإخلاف الوعد،

المبحث الرابع في مواجهة الثقافة الغربية

وقد قامت للتافهين أسواق ضخمة في كل مكان باسم الفن، ولو صدقوا لسموا ذلك فجورًا وقباحة وخلاعة. 8 - الاستشراق: منذ عدة قرون اهتم الغربيون بدراسة ديننا ولغتنا، ودفعوا أبناءهم لدراسة الإسلام، وقد تحقق لهم ما أرادوا، وقد ألفوا ودرسوا وكتبوا، ولكنهم لم يكونوا أمناء في ذلك كله، لقد أرادوا إضلال أبناء المسلمين، وتشكيكهم في دينهم، لقد كان الاستشراق واحدًا من السبل التي خطط أعداء الإسلام لها لغزو عقول المسلمين. المبحث الرابع في مواجهة الثقافة الغربية قامت في العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر حركات إسلامية أخذت تنادي أبناء الإسلام، وتدعوهم إلى العودة إلى الإسلام، وتحذرهم من الخطر الداهم والمصاب الجلل الذي أصابتهم به الثقافة الغربية الغازية، وقد بدأ طلائع المد الإسلامي يظهرون في كل مكان يعرضون الإسلام الصحيح، ويُبصِّرون المسلمين بثقافتهم الإسلامية الحقة، وبدأ يسري في الأمّة الإسلامية تيار دافق مرتبط بالإسلام يحيي القلوب والنفوس، وبدأت قلاع الكفر تهتز في ديارنا، ويوشك أن تسقط، ويمكننا أن نجمل مظاهر الصحوة المباركة التي يعيشها المسلمون اليوم في النقاط التالية: 1 - توجه الشباب إلى الفكر الإسلامي والحماس للإسلام والدعوة إليه، وعمارتهم للمساجد، ومحاولتهم الالتزام بشعائر الإسلام وشعاراته.

2 - عودة نسبة كبيرة من النساء .. إلى الالتزام بالإسلام فكرًا وسلوكًا. 3 - تردد أصداء الدعوة إلى الإسلام في مختلف ديار الإسلام. 4 - الدعوة إلى إصدار تشريعات وقوانين مستوحاة من الشريعة الإسلامية أو مستمدة منها. 5 - النشاطات والمجامع العلمية ومعاهد العلم التي تقام في كل مكان، كالمؤتمرات والتجمعات والمدارس والكليات الإسلامية ... التي نراها تنتشر في كل مكان. وحتى تؤتي هذه الصحوة أكلها الطيبة، وتبلغ مداها المرجو لا بدَّ من تحقيق الأمور التالية: أ - إصلاح التعليم في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، بحيث نجعله تعليمًا إسلاميًا صافيا، ولا يكفي في هذا توجيه الشباب إلى الكتاب والسنة فحسب، بل يجب أن تجعل التعاليم والموازين والمقاييس الإسلامية ضابطة لكل العلوم، ومحورًا للعلوم أيضًا، وهذا ما يطلق عليه بعض المفكرين المسلمين اسم "أسلمة العلوم"، وقد انعقد المؤتمر التأسيسي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ايسيسكو) في مايو 1982، ووضع قضية أسلمة مناهج التعليم في طليعة أهداف المنظمة، ثم عقدت ندوة (دور المنظمة في خدمة الفكر الإسلامي) بفاس في يناير 1983، وأدرجت مسألة أسلمة العلوم ضمن الأولويات التي ينبغي على المنظمة أن تسعى لتحقيقها، وبناء على هذا أدخل المؤتمر الإسلامي العام الأول لوزراء التربية والعلوم والثقافة الذي انعقد بالدار البيضاء في يونيه عام 1983 برناج (جعل الثقافة الإسلامية محور مناهج التعليم) في خطة عمل المنظمة لسنتي (83 - 85)، وفي هذا المجال عقدت ندوة في مدينة الرباط في 8 فبراير - 1984 باسم (ندوة جعل الثقافة الإسلامية محور مناهج التعليم) وقد

قال مدير المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الأستاذ عبد الهادي أبو طالب في كلمته التي افتتح بها الندوة: "ليس الهدف من برنامج (جعل الثقافة الإسلامية محور مناهج التعليم)، زيادة حصص مادة التربية الإسلامية، أو تعميمها في جميع مراحل التعليم، وإنما إعادة صياغة المنهج المدرسي كله على أسس إسلامية، وتأليف مفرداته وصوغ معطياته من منظور إسلامي، وصبغ التعليم كله بالصبغة الإسلامية، لخلق جيل متماسك الشخصية، محدد الهوية, واثق بنفسه، مؤمن برسالته. ولا يتأتى هذا إلا إذا أعدنا النظر في جيع مناهج العلوم سواء منها الإنسانية أو المنضبطة أو التطبيقية في المدارس والجامعات بحيث يقع التركيز فيها على المبادئ الغربية في مادية العلم ونفعيته، ويتم فيها الإطلاع على منجزات العلماء المسلمين وإسهامهم في شتى ميادين المعرفة ومختلف فروع العلم، فليس من المعقول، ولا من الموضوعية، ولا من الأمانة العلمية في شيء أن نلقن أبناءنا مثلًا نظريات كارل ماركس وآدم سميث في الاقتصاد دون أن نعرفهم بنظريات ابن خلدون والقاضي أبي يوسف فيه، أو أن نقدم لهم منجزات غاليلو ونيوتن في الفيزياء، ونغفل إبداعات ابن الهيثم والبيروني فيها، أو أن يتدارسوا أعمال ليبنز وباسكال في الرياضيات، ونهمل أعمال الخوارزمي وجابر بن حيان فيها، أو أن نعلمهم منهج ديكارت وسبينوزا ومنطقهما دون التطرق إلى منهج الرازي والأنصاري ومنطقهما، أو نشرح لهم آراء جان جاك روسو وجون ديوي في التربية وعلم النفس بلا إشارة إلى نظريات الغزالي وابن سحنون في هذه الميادين". وتابع الأستاذ عبد الهادي قائلًا: "إن على شبابنا أن يدركوا بأن لهم أيضًا ثقافة إسلامية كاملة أسهمت في تطوير المعرفة الإنسانية وشاركت في تقدمها.

المؤلفات في الغزو الفكري والثقافي

وإذا ما كان قد علاها الصدأ أو دب إلى أطرافها الهرم فهذا لا يعني أن الأسس التي قامت عليها واهية، أو أن الجذور التي تأصلت منها سقيمة، وإن دعوتنا للاعتزاز بتراثنا الأصيل وإقامة مناهج التعليم كلها على أسس إسلامية ليس فيه انغلاق أو رجوع إلى الوراء، وإنما فيه انفتاح على تراثنا وثقافتنا إلى جانب انفتاحنا على تراث الآخرين وثقافتهم بحيث نستطيع دخول العالم الجديد بهويتنا المتميزة القائمة على ثقافتنا النوعية لنسهم في الحضارة الإنسانية برافد متميز". ب - تحكيم الشريعة الإسلامية ونبذ القوانين الوضعية، فالشريعة هي القانون الذي أنزله الله ليحكم الذين رضوا به ربًا وبالاسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولًا, والمسلم لا يستطيع أن يدعي الإسلام وهو يرفض شريعة الله، ويطبق قوانين البشر. جـ - بناء الشخصية الإسلامية وفق المنهج القرآني النبوي، لتخرج الشخصية الإسلامية شخصية مستقلة متوازنة، بعيدة عن الضياع والنفاق والتناقض. د - كشف عيوب الثقافة الغربية، وأنماط الحياة الغربية، وإبراز محاسن الحياة الإسلامية المنبثقة عن الإسلام. المؤلفات في الغزو الفكري والثقافي ألفت مؤلفات كثيرة تكشف الغزو الفكري والثقافي والديني للعالم الإسلامي، كما تكشف مخططات أعداء الإسلام وتبين أهدافهم، فمن ذلك كتاب الغارة على العالم الإسلامي، وهو محاضر واحد من أخطر مؤتمرات المبشرين نشره وعلق عليه محب الدين الخطيب، وكتاب التبشير والاستعمار لفروخ والخالدي، وكتاب

المبحث الخامس التحصين الثقافي

خطر اليهودية العالمية لعبد الله التل، وكتاب أجنحة المكر الثلاثة لعبد الرحمن حسن حبنكة، وكتاب غارة تبشيرية على أندونيسيا لأبي هلال الأندونيسي. المبحث الخامس التحصين الثقافي الإسلام منهج حياة، يصوغ المسلم صياغة ربانية خالصة من خلال الوحي السماوي الذي يتمثل في الكتاب والسنة، وقد كان الوحي السماوي منذ الوهلة الأولى يحصن المسلمين من الغزو الفكري والثقافي المتمثل في العقائد الضالة والمنحرفة، والمناهج الباطلة، لقد أعلمهم الله أن وحيه هو الحق، وغيره ضلال، وأنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنكارًا شديدًا على من طلب الهداية من كتب اليهود والنصارى، وزادنا تحصينًا عندما أعلمنا بما عند اليهود والنصارى من انحراف وباطل. والواجب على الدعاة المسلمين ورجال الفكر والكتاب والباحثين أن يقوموا بعملية التحصين الثقافي ضد الفلسفات والنظريات والمناهج التي تغزو عقول المسلمين، وكان الواجب على الدول التي تنتمي إلى الإسلام أن تسخر وسائل الإعلام للقيام بهذه المهمة، كما يجب عليها أن تعالج هذه الأمور من خلال مناهج وزارات التربية في بلادنا، ولكن الأمر يجري بما لا تشتهي السفن، فقد أصبحت وسائل الإعلام ومناهج التربية في كثير من ديار الإسلام منابر للغزو الثقافي والفكري، ومن هنا عظمت مهمة العلماء والدعاة، إذ يجب عليهم أن يحصنوا أبناء الإسلام بتعريفهم بدينهم أولًا، ثم ببيان مفاسد الحياة الغربية ومدى ضلال أهلها، ومن خير من عالج هذا الموضوع العلامة أبو الأعلى المودودي في كتابة "الحضارة الإسلامية"، وكتابه الآخر "نحن والحضارة الغربية", وللدكتور محمد

المبحث السادس إلى أي مدى غير الإسلام ثقافات الأمم

محمد حسين رحمه الله مؤلف بعنوان: "موقف الإسلام من الحضارة الغربية" ولأبي الحسن النووي كتاب "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية". المبحث السادس إلى أي مدى غير الإسلام ثقافات الأمم قبل أن أنهي حديثي عن صراع الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية أحب أنّ أنبه إلى أن الثقافة الإسلامية على الرغم من اتساعها ورحابتها، فإنها لا تصوغ جميع الأمم في بوتقة واحدة وقالب واحد، بحيث تكون نسخًا مكرورة، وأفضل ما يمكن عرضه في هذا هو الثقافة العربية قبل الإسلام، فالإسلام غير كثيرًا من القضايا العقائدية، والفكرية والعلمية للأمة العربية، وإقرار العقائد والفضائل والشعائر الصحيحة التي كانت عند العرب. والسرّ في ذلك أن الأمم لا يتمخض فكرها وعملها للشرّ، ولكن الخير يختلط بالشرّ، ويأتي الوحي السماوي لتقويم الاعوجاج، ولكنه يقر الخير الذي قد يكون باقيًا عند تلك الأمم. والإسلام يشكل الهيكلية الأساسية للفرد والمجتمع، ولكنه لا يتدخل في كل الجوانب والقضايا، فالشعوب التي دخلت في الإسلام لم يسلخها الإسلام سلخًا كاملًا عن مألوفها، فالفضائل قد تتعدد، ودائرة المباح واسعة، وبذلك تتمايز الشعوب التي تدخل في الإسلام فيما بينها تمايزًا واضحًا مع اشتراكها في كثير من السمات والخصائص، والإسلام من السعة بحيث يسع الأفراد والشعوب مع اختلاف خصائص الأفراد والشعوب.

الفصل السادس المؤلفات في الثقافة الإسلامية

الفصل السادس المؤلفات في الثقافة الإسلامية ألفت في الثقافة الإسلامية عدة مؤلفات، ومن أجودها كتاب لمحات في الثقافة الإسلامية لعمر عودة الخطيب، وكتاب دراسات في الثقافة الإسلامية، شارك في تأليفه الدكتور محمد عبد السلام، ومؤلف هذا الكتاب وزملاؤهما، وهو مقرر على طلبة المعاهد في دولة الكويت. واشترك مجموعة من العلماء، منهم الشيخ محمد الغزالي والأستاذ محمد قطب وغيرهما في كتاب "الثقافة الإسلامية, وهو مقرر على طلبة جامعة الملك عبد العزيز في جدة". وللدكتور عدنان زرزور كتيب بعنوان "إنسانية الثقافة الإسلامية"، وكتب الدكتور محمد رشاد سالم كتابًا بعنوان "المدخل إلى الثقافة الإسلامية"، وقد كتب الدكتور يوسف القرضاوي كتابًا يدور موضوعه حول "ثقافة الداعية" وهناك كتب كثيرة تعطي فكرة شاملة عن الإسلام يمكن أن تدخل في عداد كتب الثقافة الإسلامية منها: 1 - منهاج المسلم للشيخ أبي بكر الجزائري. 2 - نظام الحياة في الإسلام لأبي الأعلى المودودي. ومن رام أن ترسخ قدمه في فهم الإسلام فلا بدَّ له من الاطلاع على ما كتبه أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحاضر في الموضوعات والمفهومات الإسلامية المختلفة، مثل مبادئ الإسلام للمودودي، ومعالم في الطريق لسيد قطب، وجاهلية القرن العشرين، والتطور والثبات، كلاهما لمحمد قطب.

الفصل السابع عناوين الدين الإسلامي ومراتبه

الفصل السابع عناوين الدين الإسلامي ومراتبه أولًا: عناوين الدين: الإسلام، الإيمان، الملة، الشريعة: الدين الإسلامي هو ذلك المنهج الذي أنزله الله إلى عباده عبر رسله وأنبيائه - مشتملًا على العقائد والمعارف والتعاليم والأخلاق والأوامر والنواهي، ومهمته إصلاح الفرد وسياسة المجتمع وفق نمط معين حدد هذا الدين مساره، وأصل الدين الخضوع والذلة، سمي بذلك لأن صاحبه يدين لله تبارك وتعالى بالامتثال لشرعه. وقد أطلق القرآن على هذا الدين عدة عناوين، فقد سماه إسلامًا، وإيمانًا، وملة، وشريعة، فكل واحد من هذه الأسماء عَلَمُ على الدين كله، ولكن باعتبارات مختلفة: فالدين باعتبار وجوب الاستسلام لتعاليمه والانقياد لها إسلام، ومن حيث التصديق بالله وما جاء من عند الله إيمان، وباعتبار أنه يملى ويكتب هو ملة، وباعتبار أن الله سنه وابتداه هو شريعة، فالإسلام والإيمان عنوانان للدين كله، وكل منهما شامل للاعتقاد والقول والعمل والأخلاق. وهذا هو المشهور عند علماء السلف، وأهل الحديث في معنى الإيمان, وقد حكى الشافعي رحمه الله تعالى إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم على ذلك، وأنكر السلف عل من أخرج الأعمال من مسمى الإيمان إنكارًا شديدًا، وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولًا محدثا سعيد بن جبير، وميمون بن

مهران وقتادة، وأيوب السختياني، والنخعي، والزهري وغرهم، وقال الثوري هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره، وقال الأوزاعي: وكان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان، وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار: أما بعد: فإن الإيمان فرائض وشرائع، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، ذكره البخاري في صحيحه. (¬1) وقد دل على دخول الأقوال والأفعال في مسمى الإيمان نصوص كثيرة، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [الأنفال: 2 - 3]. وفي تحويل القبلة قال الحق: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]. أي صلاتكم، وفي حديث ابن عباس في الصحيحين قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس: "آمركم بالايمان بأربع: الإيمان بالله وحده، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس"، (¬2) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" ولفظه لمسلم (¬3). وقد ألف الحافظ البيهقي المتوفى سنة 458 هـ سفرًا عظيمًا سماه "شعب ¬

_ (¬1) راجع في هذا: جامع العلوم والحكم، لابن رجب: ص 25. (¬2) رواه مسلم. (¬3) متفق عليه.

الإيمان"، ثم جاء الإمام أبو جعفر عمر القزويني المتوفى سنة 699 هـ فاختصره في مجلد لطيف. وإذا أنت تتبعت هذه الشدب وجدتها تتناول الإيمان بالله عزَّ وجلَّ وبالرسل والملائكة والقرآن والقدر واليوم الآخر والبعث والحشر والجنة والنار، كما تتناول أعمال القلوب من محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه، ومحبة الرسول وتعظيمه، كما تتناول طلب العلم ونشره، وتتناول أيضًا الأعمال الظاهرة من الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وبر الوالدين وأداء الخمس والعتق والكفارات، كما تتناول الأخلاق من الوفاء بالعهد، وشكر ندم الله، وحفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والفحش، كما تتناول ترك المحرمات من قتل النفوس وإيذائها وعدم قربان الزنا والخمر، ... وبالجملة فإن الإيمان شامل للدين كله. أما إطلاق الإسلام على الدين كله فيدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. والإسلام دين الرسل جميعا وإن كنا نخصه بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه الصورة الأخيرة المنزلة من عند الله. ومدار مادة (ش ر ع) في لغة العرب على الظهور والبيان والوضوح، والشريعة مأخوذة - (¬1) كما يقول اللغوي الأزهري - من قولهم شرع الإرهاب إذا شقَّ، ولم يزقق، أي يجعل زقا، ولم يرجل، وهذه ضروب من السلخ معروفة أوسعها وأبينها الشرع (¬2). ¬

_ (¬1) راجع في هذا المبحث كتابنا خصائص الشريعة الإسلامية ص 11. (¬2) لسان العرب: 2/ 299.

ثانيا: مراتب الدين: الإسلام، الإيمان، الإحسان

وتطلق العرب "الشريعة" على مورد الناس للاستقاء، سميت بذلك لوضوحها وظهورها، (¬1) ولا تسمى العرب هذا المورد شريعة إلا إذا كان الماء المورود "عدًا لا انقطاع له، ظاهرًا معينا لا يسقى منه بالرشاء" (¬2)، كما تطلق العرب الشرع على نهج الطريق الواضح (¬3). وتطلق الشريعة في اصطلاح العلماء على كل ما سنه الله لعباده من الأحكام الاعتقادية والأخلاقية والعملية، يقول ابن تيمية: "الشريعة تنتظم كل ما شرعه الله من العقائد والأعمال" (¬4)، ويقول التهانوي: "الشرع ما شرع الله لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء، سواءً أكانت متعلقة بكيفية عمل وتسمى فرعية عملية، ودون لها علم الفقه، أو بكيفية اعتقاد، وتسمى اعتقادية، ودون لها علم الكلام" (¬5). وبعض العلماء يريد بالشريعة الأحكام الشرعية العملية دون غيرها، إلا أن الاصطلاح القرآني يطلقها على كل ما أنزله الله تعالى، وهذا هو الاصطلاح الأولى والأطيب. ثانيا: مراتب الدين: الإسلام، الإيمان، الإحسان: قد يكون كل من الإسلام والإيمان مرتبتين من مراتب الدين الثلاثة، وهي الإسلام، والإيمان، والإحسان. ¬

_ (¬1) المصباح المنير: ص 310. (¬2) لسان العرب: 2/ 299، والمصباح المنير 310، والعد: الكثير، والمعين: الجاري والرشاء: الحبال. (¬3) بصائر ذوي التمييز: 3/ 309. (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/ 306. (¬5) كشاف اصطلاحات الفنون 3/ 759.

وفي هذه الحال يكون المراد بالايمان التصديق القلبي، وبالإسلام الاستسلام الظاهري، وقد سأل جبريل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن مراتب الدين الثلاثة عندما جاءه في صورة رجل يعلم الصحابة دينهم، وقد فسر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إجابته الإسلام بالانقياد الظاهرى: "أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" وعرف الإيمان بالتصديق القلبي "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى". وقال في الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (¬1). وقد أرشدنا علماؤنا إلى كيفيه تحديد المعنى المراد بالإسلام والإيمان عند ورودهما في آيات الكتاب وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إذا اقترنا افترقا، وإذا افترقا اتفقا، والمراد أنه إذا وردا مقترنين في آية واحدة كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35]. افترقا، أي حمل الإيمان على التصديق بالقلب، والإسلام على الانقياد بالعمل، وإذا ذكر الإيمان وحده فإنه يكون شاملًا للإسلام كقوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] وكذلك إذا ذكر الإسلام وحده فإنه يكون شاملًا لمعنى الإيمان، أي شاملًا للتصديق القلبي والانقياد بالعمل الظاهرى كقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] ¬

_ (¬1) رواه البخاري.

أقسام علوم الشريعة الإسلامية مما سبق يتبين لنا أن العلوم التي جاءت بها الشريعة الإسلامية تقسم إلى ثلاثة أقسام. الأول: أحكام اعتقادية، ووضع لها علم العقيدة أو علم التوحيد. الثاني: أحكام أخلاقية، ووضع لها علم الأخلاق. الثالث: أحكام فرعية عملية ووضع لها علم الفقه. وسنتناول كل علم من هذه العلوم الثلاثة بشيء من التفصيل.

الباب الأول العقيدة الإسلامية

الباب الأول العقيدة الإسلامية ويشتمل على تسعة فصول: الفصل الأول: مدخل إلى دراسة العقيدة. الفصل الثاني: العقيدة في الله. الفصل الثالث: الملائكة والجن. الفصل الرابع: الكتب السماوية. الفصل الخامس: الرسل والأنبياء. الفصل السادس: اليوم الآخر. الفصل السابع: القضاء والقدر. الفصل الثامن: أثر الإيمان في الفرد والمجتمع. الفصل التاسع: المؤلفات في العقيدة.

الفصل الأول مدخل إلى دراسة العقيدة

الفصل الأول مدخل إلى دراسة العقيدة المبحث الأول أهمية العقيدة لا شك أن العقيدة لها أهمية عظيمة في حياة الإنسان، بل في حياة البشرية جمعاء، ويدلنا على ذلك أمور كثيرة يمكننا أن نوجزها في النقاط التالية: 1 - العقائد هي الركائز والأسس التي تقوم عليها المبادئ والشرائع، فالبشر أسرى المعتقدات والأفكار، فالذين يعتقدون أن الله هو ربهم ومعبودهم، وأن مصيرهم إليه، وأن الدنيا معبر وطريق - يقيمون حياتهم وفق شريعة الله، بحيث تهيمن هذه الشريعة على تصرفاتهم وأعمالهم. والذين كفروا بالله، وقالوا بأزلية المادة، أقاموا حياتهم وفق معتقداتهم، وعملوا لهذه الحياة: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. والذين ألَّهوا الأبقار فضلوها على آبائهم وأمهاتهم، وقدموا لها القرابين والنذور، وحرموا ذبحها، وأهلكوا أنفسهم في سبيل تقديسها. وقل مثل ذلك في الذين عبدوا النيران والأشجار والأحجار والشمس والقمر. 2 - العقائد تستولي على أنفس أصحابها، وتدفعهم لبذل أموالهم وأنفسهم في

سبيل تحقيق ما يعتقدونه، وهم راضون مطمئنون، وهذا يفسر لنا السرّ في انتصار أصحاب العقائد وعدم تنازلهم عن مبدئهم على الرغم من الآلام والمصائب التي تعترض طريقهم. ويدلنا على صدق هذا - المعنى اللغوي للعقيدة، فعقد الحبل نقيض حله، ومادة (عقد) في اللغة مدارها على اللزوم والتأكد والاستيثاق، ففي القرآن: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ} [المائدة: 89]. وتعقيد الإيمان إنما يكون بقصد القلب وعزمه، بخلاف لغو اليمين التي تجري على اللسان بدون قصد. و(العقود) أوثق العهود، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وتقول العرب: "اعتقد الشيء: صلب واشتدَّ" (¬1). والعقائد في الإسلام هي الأمور التي تصدق بها النفوس، وتطمئن إليها القلوب، وتكون يقينًا عند أصحابها، لا يمازجها ريب، ولا يخالطها شك، وأصول عقائد الإسلام حددها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى" (¬2). 3 - ضلال الإنسان في معتقده، يجر عليه البلاء، ويضل عمله وسعيه، واعتبر في هذا بالذين قدسوا الأصنام - والفئران كيف أهانوا أنفسهم، وكيف ضيعوا أموالهم، وكيف سفكت دماؤهم عندما حاربهم المسلمون، وعندما يقدمون على ¬

_ (¬1) لسان العرب: مادة "ع ق د". (¬2) رواه مسلم.

الله يكونون من الأخسرين، الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، ويخلدون في النار. 4 - أعظم خلاف حصل على مدار التاريخ هو الاختلاف حول قضايا الاعتقاد، ولذلك كانت أعظم مهمات الرسل تصحيح عقائد البشر الزائفة، وتصحيح تصوراتهم عن الله والكون والحياة. عبد البشر على مدار التاريخ الأصنام والأوثان والقبور، فجاءتهم رسلهم تردهم إلى الله مولاهم الحق، فنوح نهى قومه عن عبادة الأصنام والأوثان، فلم يستجيبوا {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]. وإبراهيم قال لقومه مناقشا إياهم فيما يعبدون {قَال هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)} [الشعراء: 72]. وقال القرآن للعرب منكرًا عليهم {أَفَرَأَيتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} [النجم: 20 - 22]. ونسب الضالون إلى الله الولد، {وَقَالتِ الْيَهُودُ عُزَيرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]. والنصارى زعموا في عيسى ما زعموه {وَقَالتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] والعرب زعموا أن الملائكة إناث {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19].

وذلك إفك كبير {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)} [الصافات: 149 - 156]. واختلف البشر في صفات ربهم، ونسبوا إليه القبائح، فاليهود قالوا إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وتعب في اليوم السابع واستراح، فأكذبهم الحق في مقالتهم أنه تعب {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]. ومن افتراءاتهم على الله قولهم {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64]. وهذه الخلافات العقائدية تسبب اختلافًا بين الأمم، بل بين أبناء الأمة الواحدة، فيتعادون ويتباغضون، ثمَّ يتقاتلون ويتتاحرون، وما خبر الحروب الدينية التي قامت بين النصارى عنا ببعيد، وقد أهلك الحرث والنسل وصدق الله، إذ يقول: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَينَا بَينَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14]. أمّا العقيدة الصافية المستقيمة، فإنها تجلب المودة والمحبة بين البشر {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. 5 - يقف كثير من الطواغيت وراء العقائد الفاسدة الزائفة التي تمكن لسلطانهم، وتعبد الناس لهم، أو من يحكمون الناس باسمه، وقد كان سدنة الأصنام أحرص

المبحث الثاني المناهج في إثبات العقائد

الناس على تعبيد الناس لها، لما يحصلون عليه من مركز اجتماعي عظيم، ومال وفير، من الهدايا والقرابين. وقد كان الملوك حريصين على تكريم الكهنة والسحرة الذين يعبدون الناس للحكام، وادعى أقوام القداسة والعصمة، وأنهم أبناء الآلهة، وأن الدماء الزرقاء تجري في عروقهم، ونادى فرعون في قومه قائلًا {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]. {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرِي} [القصص: 38]. ولقد كان الفلاسفة والحكام ينسبون إلى الآلهة الفسق والفجور ومرادهم بذلك تبرير فسقهم وفجورهم. 6 - العقيدة التي جاء بها الرسل ضرورية للبشر ضرورة الما والهواء، لأنها تحرر العقل من الخرافة، وتفسر للإنسان لغز الحياة، وتدله على مصدر وجوده ومصدر وجود الكون، كما تعرِّفه بالعلاقة التي بينه وبين الله، وبينه وبين الكون، وتحدثه عن العوالم الأخرى التي هي من عالم الغيب، وتبصره بمصيره بعد الحياة، والإنسان إذا لم يجد الإجابة الشافية عن هذه القضايا فإنه يبقى متعبًا قلقا حائرًا، والذي ينظر في حال الفلاسفة والمفكرين الذين لم يهتدوا بهدى الله سيشعر بمدى التعب النفسي، والإرهاق الفكري الذي عانى منه هؤلاء الرجال. المبحث الثاني المناهج في إثبات العقائد هناك منهجان لمعرفة قضايا الاعتقاد: الأول: منهج الرسل، وهذا المنهج يقف العقل الإنساني فيه عند حدّ التصديق بالله، ثمّ بعد ذلك يتلقى عن الله عقيدته في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر

والقدر، والعقل الإنساني هنا يتدبر وحي الله ويفقهه، ولا يخوض في هذه القضايا بعيدًا عما أوحى الله إليه، وعلى المسلم في هذه الحال أن يتأكد من صدق نسبة النصوص إلى الرسول التي أُوحى إليه بها، فإن كانت صادقة فعليه أن يترك رأيه وهواه، ويحكِّم ما أوحاه الله، وهذا المنهج يمكن أن نطلق عليه المنهج "الإيماني القرآني النبوي"، وعمدة هذا المنهج الأخذ بنصوص الكتاب، وصحيح حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مسائل الاعتقاد. الثاني: منهج الفلاسفة الذين رفضوا الاحتكام إلى الشرع، وأصروا على أن يضربوا في بيداء شاسعة من غير دليل، فضلوا وأضلوا، لقد غفل هؤلاء عن أن العقل لا يستطع أن يخوض في هذه الميادين بنفسه، لأنها فضايا غيبية، لا تدخل في نطاق قدرات العقول البشرية، ولذلك فإن الفلاسفة كانوا أعدى أعداء الرسل. وقد تأثر كثير من المنتسبين إلى الإسلام بهؤلاء الفلاسفة، فاحتكموا إلى الموازين والمقاييس العقلية التي أخذوها من أولئك الفلاسفة، وعارضوا بها الشرع، وحكموها في الشرع، وردوا بها كثيرًا من الأحكام الشرعية بحجة أن الأدلة العقلية يقينية، والأدلة الشرعية كثير منها ظني الثبوت ظني الدلالة، أو ظني الثبوت وإن كان قطعي الدلالة، أو ظني الدلالة وإن كان قطعي الثبوت، فرد هؤلاء أحاديث الآحاد في العقيدة، ومنهم من ردها في العقيدة والأحكام، ومنهم من لم يأخذ بنصوص الكتاب لكونها ظنية الدلالة ويمكننا أن نسمي هذا المنهج "المنهج الفلسفي الكلامي". وهذا الفريق من الناس أكثر الناس اختلافا وتناقضا، وقد حذر العلماء الجهابذة من مغبة السير في هذا الطريق، وبعض سالكيه تراجع عنه جزئيًّا أو كليًّا بعد أن عرفوا ما فيه من اعوجاج.

والطريق الأول طريق الرسل قصير مأمون العواقب، أما هذا فإن سالكيه لا يصلون إليه إلا بعد أن يقتحموا لجة البحر الخضم، فنهم من أوجب الشك أولًا، ومنهم من أوجب النظر أو القصد إلى النظر، ومنهم من ألزم بالبحث في النفوس والعقول، ومنهم الذي نادى بتعلم الرياضيات والطبيعيات، وفهم من قال نبدأ بالمنطق ثم الطبيعيات والرياضيات، وهي علوم لا يتقنها إلا الخاصة، فكيف يتيسر لعوام الناس تعلمها، ثمَّ إذا تعلمها المتعلمون وجدوا مباحث علماء الكلام والفلاسفة بعد ذلك لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، أليس الأولى بهؤلاء معرفة الله عن طريق الله وطريق رسوله! ! إن الوحي عندنا أساس العلم، والعلم السماوي نور العقل، والعلم السماوى يعرفنا بربنا وأنفسنا والكون من حولنا، ولسنا بحاجة إلى مقاييس الفلاسفة، وموازين المتكلمين، قيل لابن عباس: كيف عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي وصدق والله. اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا وإذا كان العقل يستضيء بنور الوحي، فإن الوحي السماوي قد حوى الأدلة العقلية الباهرة، وألزم العقل بالنظر في ملكوت السموات والأرض، والتفكير في ذلك في قدرة العقل ومكنته، وهذا التفكر يؤكد الإيمان ويقويه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 190 - 191].

المبحث الثالث ملاحظات مهمة في المسائل الإعتقادية

المبحث الثالث ملاحظات مهمة في المسائل الإعتقادية العالم بقضايا الاعتقاد ومسائله المتعمق في ذلك يجد أن هناك عدة أمور ضابطة في هذه المسائل: الأول: كونها غيبية، وليست أمورًا محسوسة، فالله غيب، وكذلك الملائكة واليوم الآخر، والقدر، أمّا الرسل والكتب فالايمان بها إنما يكون بالتصديق بنسبتها إلى الله، أي كونه أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وهذا غيب، وهناك قضايا هامّة ألحقت بمسائل الاعتقاد، وبحثت في كتب العقيدة لأهميها. الثاني: مصدر هذا الغيب هو الوحي السماوى الصادق، {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 1 - 3]. والإيمان بالغيب يقابل عدم التصديق إلا بالمحسوس؛ هي نظرية الشيوعيين. الثالث: مسائل العقائد يقين، ولا تصح العقيدة مع الشك، فالشك ينافي الاعتقاد {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]. وهذا بخلاف حال الذين ذمهم الله لريبهم وشكهم {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]. الرابع: العقيدة في الإسلام وحدة متشابكة مترابطة، إذا هدم أصل من أصولها خرج صاحبها من دائرة الإسلام، فالذي يكفر باليوم الآخر، أو الجنة أو النار، أو كذب الرسل أو واحدًا من الرسل، أو كذب بالملائكة، أو واحدًا منهم ممن

أخبر الله به فهو كافر، قال تعالى في الذين يكفرون ببعض أصول الاعتقاد: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَينَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَينَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150 - 151]. وذمَّ أهل الكتاب لكفرهم بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَينَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]. ومن هنا يظهر لنا خطأ إطلاق اسم الإيمان على الذين يؤمنون بوجود الله من الكفار، ولو لم يعبدوه ويوحدوه، ولو لم يؤمنوا بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر، فالإيمان بوجود الله وحده لا يكفي. الخامس: الاعتقاد الجازم لا يكفي وحده، فقد جَزَمَ فرعون بأنّ الآيات التي جاء با موسى هي من عند الله {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. وإبليس جازم بصدق الرسل والكتب، بل لا بدَّ مع الاعتقاد الجازم من الرضا بالله ربًا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولًا، ولا بدَّ من الإعلان عن ذلك باللسان، وتصديق ذلك بالعمل، أي الإذعان والانقياد لله تبارك وتعالى، فما آمن من اعتقد ورفض الخضوع والطاعة لله كما هو حال الشيطان والمستكبرين. السادس: سبق أن تحدثنا عن مفهوم الإيمان عند السلف الصالح، وأن الإيمان اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وعلى ذلك فمفهوم الإيمان أوسع من مفهوم العقيدة, العقيدة في المصطلح الإسلامي جزء من الإيمان، وهي

تعتبر قاعدة الإيمان وأساسه الذي يقوم عليها بناؤه، والعقيدة للإيمان كالجذور بالنسبة للشجرة، وإذا زالت العقيدة زال الإيمان، ولا يكافي في الإيمان وجود العقيدة من غير نطق وعمل، فلا يمكن أن تكون العقيدة صادقة، ثمَّ لا يقر بها صاحبها بلسانه، ولا يقوم بالأعمال التي تعتبر امتدادًا للعقيدة، إن العقيدة التي لا تغير سلوك صاحبها عقيدة ضعيفة مهزوزة. السابع: كل من أنكر شيئًا من أصول الاعتقاد أو فروعه المعلومة من الدين بالضرورة فإنه كافر لا شك في كفره، أمّا الذي يترك عملًا من الأعمال الشرعية الواجبة، أو يفعل شيئًا مما حرمه الله - فإنه يكون عاصيًا، والذين يُكَفِّرون بالذنوب والمعاصي هم الخوارج، أمّا منهج السلف الصالح فإن ترك الواجبات وفعل المحرمات يعد ذنبًا ومعصية تشوه الإيمان وتنقصه، ولكنا لا تزيله وتذهبه.

الفصل الثاني العقيدة في الله

الفصل الثاني العقيدة في الله تمهيد: موضوعات العقائد: الأصول الاعتقادية التي أثبتتها النصوص ستة: الله، الملائكة، الكتب، الرسل، اليوم الآخر، القضاء والقدر. ومن النصوص التي أثبتت أصول الاعتقاد: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. وقوله: {لَيسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وسنتناول هذه الأصول بشيء من التفصيل، ونبدأ بأعظمها وأهمها، وهو العقيدة في الله، وهذا الأصل عليه مبنى العقيدة والشريعة، فهو أصل الأصول، وقاعدة الإيمان، وجذر الإسلام، ومتى فقد هذا الأصل انمحت معالم الإسلام، وتقطعت عرا الإيمان وهذا الأصل قائم على الإيمان بأن الله واحد في ربوبيته وفي ألوهيته واحد لا أسمائه وصفاته {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 2].

المبحث الأول توحيد الربوبية

وقال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]. ومبنى هذا الأصل هو التوحيد، وتوحيد الله له ثلاثة جوانب: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. المبحث الأول توحيد الربوبية والمراد بتوحيد الربوبية أن نعتقد أن الله وحده الخالق البارئ المصور المالك المدبر المصرف المحيي المميت، والرب في لغة العرب هو المربي المنشيء الموجد، والآيات التي تتحدث عن خلق الله، وبديع صنعه، وتصريفه لأمور الكون كثيرة جدًّا في كتاب الله، يذكر الله بها عباده ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، وليوجه أنظار المشركين إليه وحده لأنه المستحق للعبادة دون سواه، ويفتح أبصار الجاحدين وبصائرهم، وقد استخدم الأنبياء هذا الأسلوب في دعوة أقوامهم، فنوح يذكر قومه قائلًا: {أَلَمْ تَرَوْا كَيفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} [نوح: 15 - 20]. وإبراهيم يقول لقومه: {أَفَرَأَيتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلا رَبَّ الْعَالمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء: 75 - 82]. وقد أطال القرآن في الحديث عن ربوبية الله: والاحتجاج على أهل الجاهلية

المبحث الثاني توحيد الألوهية

المعترفين بالربوبية المشركين في الألوهية {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَينَ الْبَحْرَينِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَينَ يَدَي رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} [النمل: 59 - 64]. ولم تزل بعض الأمم تشرك بالله في ربوبيته، كالمجوس الذين قالوا بربوبية النور والظلام، والصابئة الذين قالوا بربوبية الكواكب وتأثيرها في العوالم، ومثل هؤلاء أولئك الذين اعتقدوا بأن الأموات يتصرفون في قبورهم في الكون والحياة، وكل ذلك من الشرك. المبحث الثاني توحيد الألوهية أي العبادة، فالله وحده هو المعبود، ولا يستحق العبادة غيره, وقد جاءت الرسل لدعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلا نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

ذلك أن الشرك في العبادة هو جريمة البشر الكبرى التي لم تسلم منها أمّة من الأمم، وقد كانت بعض الأمم يسلمون لله بالربوبية كالأمّة العربية، في الجاهلية، ولكنهم كانوا يجادلون أشد الجدال في استحقاقه العبادة وحده، ويتعجبون من دعوة الرسول لهم إلى عبادة الله دون غيره {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. والعبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله كثيرة، فدائرة العبادة واسعة رحبة، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأفعال، والعبادات أنواع، فمنها عبادة القلب، وعبادة اللسان، وعبادة الجوارح، والعبادات المالية. فعبادة القلب تكون بقصد الله وحده، وإخلاص النية له، والخوف منه تبارك وتعالى، وخشيته، وحبه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضا بحكمه. وعبادة اللسان بذكر الله، وتسبيحه، وحمده، والثناء عليه، وتمجيده، وقراءة القرآن، وعبادة الجوارح بالصلاة والصيام والحج ونحر الذبائح تقربًا إلى الله، والجهاد في سبيل الله ... والعبادات المالية تكون بالزكاة والصدقات، ولها مدخل في الحج والأضاحي والنذور. والشرك في الألوهية بكون بالتوجه بالعبادات أو بعض منها لغير الله كالاستعانة بغير الله، أو الذبح لغير الله، ودعاء غير الله. وقد يكون الشرك أصغر كالحلف بغير الله، والعمل لأجل الرياء.

المبحث الثالث توحيد الأسماء والصفات

المبحث الثالث توحيد الأسماء والصفات الإيمان الصادق هو الذي يقوم على المعرفة التامّة بالله تبارك وتعالى، وطريق ذلك الإيمان بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمعرفة صفاته والتأمل في معانيها وإثبات الأسماء الدالة عليها - كل ذلك يعمق الإيمان بالله ويؤكده ويثبته، وقد أخبرنا ربنا بأن له الأسماء الحسنى، وأمرنا أن ندعوه بها {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. وحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إحصائها "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة" (¬1) والمراد بالإحصاء, حفظها، وفقه معانيها، والعمل بمقتضاها. مذاهب الفرق في الأسماء والصفات والناظر في عقائد الفرق الإسلامية يجد أن كثيرًا منهم قد انحرفوا في هذا الباب، وقد اتخذ الانحراف مسارين: الأول: تشبيه صفات الخالق بصفات الخلوق، فقالوا إن لله صفات كصفات البشر، فيده كأيديهم، ووجهه كوجوههم، وسمعه كأسماعهم، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وهؤلاء يضاهئون قول الضالين من اليهود والنصارى والأمم المشركة الذين صوروا الإله بشرًا ينام ويتعب ويتزوج ويلعب ... وهذا النهج مرفوض من الفرق الإسلامية، ولم يسلكه إلا عدد قليل من الذين طمست بصائرهم. الثاني: تجريد الحق عمّا ينبغي له من الصفات، وهو الذي يسميه علماؤنا تعطيل الله عن صفاته، وقد وقع في هذا كثير من المنتسبين إلى الإسلام، وهو منهج قديم ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم.

أيضًا، ضلت فيه الأمم، وهم يعللون نهجهم هذا تعليلًا حسنًا، فيقولون نحن نريد تنزيه الحق تبارك وتعالى عن صفات الخلق، وهذا أمر مقبول ومطلوب، ولكن ليس طريقه أن ننفي صفات الكمال والجلال التي أثبتها لنفسه خوفًا من الوقوع في التشبيه، وللفرق الإسلامية في هذا المجال اتجاهات: أ - الجهمية: وهم أتباع الجهم بن صفوان، وهؤلاء غلوا غلوًا عظيمًا في التجريد، فنفوا أسماء الله، ونفوا ما دلت عليه من المعاني، وهم في ذلك يزعمون أنهم ينزهون الله ويوحدونه، وقد كذبوا الله في قوله، فقد أثبت الحق تبارك وتعالى لنفسه الأسماء والصفات، ثم إنهم وقعوا في الأمر الذي منه فروا وهو التشبيه، فقد شبهوا الله بالمعدومات، لأنهم يقولون: الله لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم وليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق، ولا تحت، ومن هذا حاله، وتلك صفاته لا يكون موجودا بل معدوما، ولذلك قال العلماء: المشبه يعبد صنمًا، والمعطل -أي النافي للأسماء والصفات- يعبد عدمًا. 2 - المعتزلة: وهم أتباع واصل بن عطاء، وكان من تلاميذ الحسن البصري، ثمَّ خالفه فيما ذهب إليه، واعتزل مجلسه، فقال الحسن: اعتزلنا واصل، فسمى وأصحابه بالمعتزلة، وسميت الأصول والقواعد التي تبناها بالمنهج المعتزلي. وهؤلاء أثبتوا أسماء الله ونفوا الصفات، فقالوا: رحمن بلا رحمة، سميع بلا سمع، قدير بلا قدرة. 3 - الأشاعرة، وهؤلاء أثبتوا من الصفات سبعًا ونفوا ما عداها، والصفات السبع هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام.

مذهب السلف الصالح

وهذا المذهب ينسب إلى أبي الحسن الأشعري, وكان على طريقة المعتزلة، ثم انفصل عنهم، وخالفهم، وعارضهم، وعاد في آخر أمره إلى مذهب السلف وطريقة الإمام أحمد بن حنبل، وأثبت لله كل أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء والصفات ونفى عنه كل ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء والصفات، ولكن كثيرًا من أتباعه بقوا على ما كان عليه أبو الحسن الأشعري من قبل، ولم يتابعوه فيما صار إليه في آخر عمره وإذا شئت أن تعرف طريقة الأشعري رحمه الله التي صار إليها في آخر عمره في الأسماء والصفات، فاقرأ كتابي الإبانة ومقالات الإسلاميين، وهما من تأليفه، وقد آن للذين يزعمون أنهم على مذهبه أن يصيروا إلى ما صار إليه. مذهب السلف الصالح المراد بالسلف الصالح -كما يقول ابن بدران- ما كان عليه الصحابة الكرام وأعيان التابعين، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شُهد له بالإِمامة، دون من رمي ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضي، كالخوارج والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، ونحوهم. ثم غلب هذا اللقب على الإمام أحمد وأتباعه على اعتقاده من أي مذهب كانوا، فقيل لهم في فن التوحيد: علماء السلف، هذا ما اصطلح أصحابنا (الحنابلة) والمحدثون (¬1)، وقال ابن حجر الفقيه في رسالته: "شن الغارة" "الصدر الأول: لا يقال إلا على السلف وهم خير القرون الثلاثة، الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم خير القرون، وأما من بعدهم، فلا يقال في حقهم ذلك" (¬2). ¬

_ (¬1) المدخل لابن بدران: ص 212. (¬2) المدخل لابن بدران: ص 212.

ونستطيع أن نسمي من علماء السلف من بعد الصحابة المئات أمثال: الحسن البصري، والأئمة: مالك والشافعي وأحمد، وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وإسحق بن راهويه، وابن خزيمة، والليث بن سعد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود ... وغيرهم كثير. ومذهب السلف الصالح هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو يقوم في باب أسماء الله وصفاته على ثلاثة أصول: الأول: الإيمان بكل الأسماء والصفات التي أثبتها الله لنفسه، أو أثبتها له رسوله، ونفى كل ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أمر بدهي، فالمسلم يعلم أن الحق ما قرره العليم الخبير، وأنه لا أحد أعلم بالله من الله {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]. وليس بعد الله أعلم بالله من رسوله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3 - 4]. وقبيح بالمرء أن يقول له الرب: لي سمع وبصر ورحمة ويد، فيقول له: ليس لك سمع، ولا بصر، ولا رحمة، ولا يد، والسلف يثبتون هذه الصفات إثباتًا من غير تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل. الثاني: تنزيهه جل وعلا عن مشابهة صفاته بصفات خلاقه، فالله تعالى لا تشبه ذاته ذوات المخلوقين، وكذلك صفاته، كما قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]. وقال: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. وهذه الآية دلت على الأصل الأول والثاني فقوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} تدل على أن صفاته لا تشبه صفات خلقه، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

تدل على أن له سمعًا وبصرًا. وينبغي أن ننبه هنا إلى أن الذين نفوا صفات الخالق أو أولوها - لم يقدروا الله حقَّ قدوه، فالله عندما يحدثنا عن صفاته يجب أن يتبادر إلى ذهن المسلم أن هذه الصفات هي فوق ما يتصور الواصفون، وأنها كمال لا يعروه نقص، أمّا هؤلاء فإنهم قالوا: المتبادر منها التشبيه، ولذلك نؤولها ونحرفها حتى ننزه الله تبارك وتعالى، ولو أنصفوا لقالوا: المتبادر منها الكمال وعدم التشبيه. ثم هم يعتمدون في مقابل النصوص على المقاييس العقلية، فيقولون: نحن ننفي اليد والوجه، لأننا لا نعرف اليد إلا هذه الجار، ولا نعرف إلا هذه الوجوه، والله منزه عن الجارحة وما يشبه صفات الخلق, وتحكيم العقل بتصوراته الخاطئة بنصوص الشرع لا يجوز، ومقاييسهم العقلية هذه ضالة فالله منزه عن مشابهة الخلق، وصفاته كمال يخصه، ولا يجوز إجراء المقاييس العقلية على رب العزة. الثالث: عدم التطلع إلى معرفة كيفية صفات الله، ومعرفة الكيف غيب لا يعلمه إلا الله {يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]. وبما أن الله لا يشبه أحدًا من خلقه، وصفاته لا يشبهها شيء من صفات الخلق، فلا يمكن أن تعرف كيفية ذاته، ولا يمكن أن تعرف كيفية صفاته، والذين انحرفوا في باب الصفات أصل ضلالهم أنَّهم بحثوا في الكيفية، فمرة مثلوا صفات الخالق بصفات الخلق ومرة نفوها وأولوها. والواجب هو التفويض في كيفية الصفات، فكما أننا لا نعلم كيف ذاته كذلك صفاته تبارك وتعالى لا نعلم كيف هي, فنحن نؤمن بها وإن لم نعرف كيف هي.

الإمام مالك يوضح المنهج السلفي

وهنا أمر يجب بيانه، وهو أن معنى الصفة معروف في لغة العرب، ويجب أن نعرف معاني صفاته، من الرحمة والسمع والعلم والبصر ... ، وقد حدثنا الله تبارك وتعالى عن سعة علمه وضرب لنا الأمثال، كما حدثنا عن عظيم قدرته، ... ولكننا لا نعلم الكيفية، فالتفويض الذي عليه السلف إنما يكون في كيفية الصفات لا في معاني الصفات، وبعض الذين يفوضون يظنون أن التفويض يكون في معنى الصفات وهذا ليس بصواب. الإمام مالك يوضح المنهج السلفي سأل رجل الإمام مالكا، فقال له: الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فقال الإمام: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا، ثمَّ أمر به فأخرج من المسجد. والإمام مالك رحمه الله يوضح في هذه الواقعة المنهج السلفي، فهو يقرر عدة أمور: 1 - أن معاني صفات الله وأسمائه معلومة، أي معلوم معناها في لغة العرب، والمسلم قادر على فهمها ومطالب به. 2 - كيفية صفات الله مجهولة لا يدركها العقل الإنساني، ولذلك كان البحث عن ذلك ضلال وبدعة. 3 - وجوب الإيمان بصفات الله التي أخبرنا الله عنها، أو أخبر عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن عدم الإيمان بها تكذيب لله ورسوله. 4 - السؤال عن كيفية صفات الله، والبحث عن هذه الكيفية بدعة ضلالة، ليس من منهج السلف الصالح.

المبحث الرابع الأدلة على وجود الحق تبارك وتعالى

المبحث الرابع الأدلة عَلى وجود الحق تبارك وتعالى وجود الله تبارك وتعالى من أعظم الحقائق وضوحًا وظهورًا، ولكن العقل الإنساني قد يضل ويزيغ، حتى عن الحقائق الواضحة، وقد ادعى طوائف من البشر في القديم والحديث أن ليس لهذا الكون خالق، وأن الكون أزلي، وقد ناقش المؤمنون بالله الملحدين والزنادقة بأدلة كثيرة، وخير طريقة في الاستدلال هي طريقة القرآن، وطريقته لا تتوقف على الاستدلال الخبري، بل يقدم الأدلة العقلية السهلة الإدراك البعيدة عن التعقيد، بخلاف أدلة الفلاسفة والمتكلمين. وسأورد بعض الأدلة المستخلصة من القرآن. 1 - دليل الفطرة: يجعل القرآن التوجه إلى الله وحده، وعبادته لا شريك له، قضية فطرية مغروسة في أعماق النفس الإنسانية، وإذا كان توحيد الله أمرًا فطريًا، فمعرفته من باب أولى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]. والسبب في الإلحاد والشرك والكفر هو المؤثرات الخارجية التي تطرأ على الفطرة الإنسانية، ومن هذه الأسباب إضلال الشياطين، ففي الحديث القدسي "خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فأضلتهم عن دينهم"، (¬1) والبيئة المنحرفة تعمل عملها في إضلال الفطرة السليمة، ففي الحديث "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه. (¬2) رواه البخاري ومسلم.

2 - دلالة الآيات المعجزة: أجرى الله على يد رسله وأنبيائه آيات بينات معجزات، كالعصا التي تتحول إلى ثعبان مبين، واليد التي تخرج بيضاء من غير سوء، وعدم إحراق النار لإبراهيم، وإِحياء عيسى الموتى ... وكل هذه الآيات تدل على أن لما خالقًا قديرًا عليما مدبرا. 3 - دلالة اتفاق الكتب والرسل: الخبر الصادق أحد طوق العلم، وقد اتفقت كلمة الرسل والعقلاء على وجود الله تبارك وتعالى، وقد تتابع الرسل على مدار التاريخ على إظهار هذه الحقيقة، وإبرازها، ولا يمكن أن يتفق الرسل على الرغم من اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وكثرة عددهم- على أمر باطل، هذا مما يرفض العقل التصديق به. 4 - دلالة الآيات الكونية: الآيات الكونية تدل على الله تبارك وتعالى، كما يدل ضوء الشمس على الشمس، وليس هناك من حاجة لإتعاب الفكر في طريق دلالتها على الله تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191]. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَينَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].

والنصوص التي تتحدث عن هذا النوع من الأدلة كثيرة في كتاب الله .. والآيات الكونية تدل على الله تبارك وتعالى من وجوه عدة: أ- وجودها: فالعقل الإنساني يضع ثلاثة احتمالات لهذا الوجود: الأول: وجودها من عدم أي من غير موجد، الثاني: أنها أوجدت نفسها، الثالث: أن الله أوجدها. والعقل الإنساني يرفض رفضا قاطعًا الاحتمال الأول والاحتمال الثاني، ويقبل بالاحتمال الثالث ويجزم به، وإذا كان هناك من خالق للسموات والأرض فيجب أن يكون عظيمًا قادرًا، لأن هذا الخلق العجيب لا يمكن أن يصدر من عاجز ضعيف وقد ناقش القرآن الكفرة بهذا الدليل العظيم فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36]. وإذا صدق العقل بوجود الخالق على هذا النحو، تكون المرحلة التالية هي معرفة هذا الخالق، وهذا قد تكفل الله به، حيث عرفنا بنفسه من خلال كتبه ورسله. ب - هداية كل شيء لما خلق له، فالقلب يعمل عمله بدون معلم، وكذلك الكبد، والطحال، والأعصاب والمعدة والأمعاء، بل أن الحيوانات والطيور مهدية لطريقة الحياة هداية ربانية، وقل مثل ذلك في النجوم والشمس والقمر، {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]. {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 - 3]. جـ - الإبداع والإتقان، انظر إلى كيفية تركيب عينك، أو عقلك، أو

مفاصلك، وانظر إلى ما يحدثنا عنه العلماء عن الخلية الإنسانية، وانظر إلى كلام العلماء عن النبات وكيف يعمل ويتكون، وانظر إلى ترابط النجوم وسيرها وأبعادها وضخامة حجمها وإتقان صنعتها {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَينِ يَنْقَلِبْ إِلَيكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} [الملك: 3، 4]. د - التقدير والتسخير: ولولا ذلك لفسد الخلق، وفسد الكون، فالمطر لو كان ينزل بدون تقدير لأهلك الحرث والنسل {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون: 18]. والتكاثر في الإنسان والحيوان لو لم يكن له ضوابط لضاقت الأرض، والشمس لو كانت أقرب إلينا لاحترقنا، ولو كانت أبعد لتجمدنا، والقمر لو لم يكن بهذا البعد من الأرض لفسدت الأرض، وجاذبية الأرض كانت بالمقدار الكافي، ولو كانت أقل لانتثرت الخلائق في هذا الكون، ولو كانت أكثر لالتصقنا بها، وثقلت حركتنا {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)} [الزخرف: 10 - 12]. {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام: 95، 96]. وهذا الدليل في غاية الأهمية، ولذلك أكثر القرآن من الحديث عن خلق الله،

وفعل الله في الكون، وتقديره وتصريفه لهذا الكون، وأمر العباد بالتفكر والتأمل في الكون {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]. {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)} [الطارق: 5، 6] {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)} [عبس: 24، 25] {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية: 17 - 20] أهمية هذا الدليل: كان العلماء ولا يزالون يعنون بالآيات الكونية عناية فائقة، فينظرون في الكون، ويكشفون أسراره، ويوجهون الأبصار والأفكار إلى عجائبه، وقد عنى العلماء في العمر الحاضر بهذا الأمر عناية كبيرة أيضًا، وقد ساعدهم على هذا التقدم العلمي الكبير الذي حققه البشر في هذا العصر، حيث غاصوا في أعماق البحار، وسبحوا في أجواز الفضاء، وعرفوا تركيب الذرة والخلية، وراقبوا الحيوان والنبات، وعرفوا طبائع الخلق، وأسرار الكون. وقد ألفت في هذا مؤلفات كثيرة، منها كتاب "العلم يدعو إلى الإيمان" لـ: أكرستي موريسون، ومؤلفه من أعظم العلماء الغربيين الأمريكيين، وكتاب "الله يتجلى في عصر العلم "لجون كلوفرمونس، وكتاب "الإنسان ذلك المجهول" لـ "الكسس كاريل"، وكتاب "مع الله في السماء" لأحمد زكي، وكتاب "الإسلام يتحدى" لوحيد الدين خان.

عالم فلكي تذهله حقائق الكون وحقائق القرآن

عالم فلكي تذهله حقائق الكون وحقائق القرآن ينقل العلامة الباكستاني وحيد الدين خان عن مجلة باكستانية تعرضت لسيرة العلامة الكبير عناية الله المشرقي، وقد بلغ من علمه أن طلب منه أن يترجم أحد مؤلفاته العلمية إلى اللغة الإنجليزية ليمنح عليها جائزة نوبل، فرفض أن يتقدم للحصول على هذه الجائزة العالمية من جهة لا تعترف بلغته "الأردية"، يحدث العلامة عناية الله المشرقي أنّه كان في يوم من أيام الأحد في عام 1909 خارجًا من منزله في لندن، فرأى الفلكي المشهور: السيرجمس جينز، وكان في ذلك الوقت أستاذًا في جامعة كمبرج، رآه وهو منطلق إلى الكنيسة، والإنجيل والشمسية تحت إبطه، فاستوقف عناية الله ذلك العالم الفلكي وحياه أول مرة، فلم يرد عليه، ثمَّ حياه مرة أخرى، فوقف وقال له: ماذا تريد؟ فقال له: أمران: الأول إن شمسيتك تحت إبطك على الرغم من شدَّة المطر، فابتسم السيرجيمس، وفتح شمسيته على الفور، وقد حدد عناية الله المطلب الثاني بسؤال وجهه إليه قائلًا: ما الذي يدفع رجلًا ذائع الصيت في العالم مثلك لأن يتوجه إلى الكنيسة؟ وأمام هذا السؤال توقف السيرجيمس لحظة، ثم دعا عناية الله إلى تناول الشاي في المساء عنده في منزله. وفي الوقت المحدد وصل عناية الله إلى منزل العالم الفلكي ليجده في انتظاره، وأمامه منضدة صغيرة موضوع عليها أدوات الشاي، وكان ذلك البروفيسور منهمكا في أفكاره، وعندما شعر بوجود عناية الله قال له: ماذا كان سؤالك؟ ولم ينتظر جوابًا من عناية الله، بل أخذ يلقي على مسامعه محاضرة عن تكوين الأجرام السماوية، ونظامها المدهش، وأبعادها وفواصلها اللامتناهية، وطرقها، ومداراتها وجاذبيتها، وطوفان أنوارها المذهلة، يقول

عناية الله: لقد شعرت أن قلبي يهتز هيبة لله وإجلالًا له، ثمَّ نظرت إلى السير جيمس فوجدت شعر رأسه قائمًا، والدموع تنهمر من عينيه، ويداه ترتعدان من خوف الله، ثمَّ توقف فجأة، ووجه كلامه إليَّ قائلًا: "يا عناية الله! عندما ألقي نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلهي، وعندما أركع أمام الله وأقول له: إنك لعظيم! أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء، وأشعر بسكون وسعادة عظيمين، وأحسُّ بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة، أفهمت يا عناية الله لماذا أذهب إلى الكنيسة؟ " لقد أدرك هذا العالم أن لهذا الكون خالقًا، ولكنه لم يجد سبيلًا إلى عبادته والتوجه إليه إلا بالدين النصراني المحرف المغير في عقائده وتشريعاته. يقول العلامة عناية الله المشرقي: لقد أحدثت هذه المحاضرة طوفانًا في عقلي، وقلت للعالم الفلكي: لقد تأثرت كثيرًا بالتفاصيل العلمية التي رويتموها لي، وتذكرت بهذه المناسبة آية من آيات كتابي المقدس، فلو سمحتم لي بقراءَتها عليكم، فهز العالم الفلكي البريطاني رأسه قائلًا: بكل سرور، فقرأ عليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27، 28]. وهذه الآية دعوة للناس للنظر إلى الماء النازل من السماء، وآثار هذه الرحمة التي أنزلها الله تعالى، حيث يخرج الحق سبحانه بتلك الرحمة ثمرات مختلفًا ألوانها، وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع الرسامين في

جميع الأجيال، فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر، بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد، فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون. ثم يلفت القرآن أنظار العباد إلى ألوان الجبال، ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها، بل إن فيها أحيانا ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك، حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها. والجدد الطرائق والشعاب، وهذه الطرائق والشعاب منها البيض ومنها الحمر، والبيض مختلف ألوانها فيما بينها، والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها، مختلف في درجة اللون والتظليل، والألوان الأخرى متداخلة فيه، وهناك جدد غرابيب سود، حالكة شديدة السواد. ثم يلفت القرآن أنظار العباد إلى ألوان الناس، وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر، فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه، بل متميز من توأمه الذي يشاركه حملًا واحدًا في بطن واحدة. (¬1) ويوجه أنظارنا إلى ألوان الدواب والأنعام أيضًا، وألوانها مختلفة كذلك، ثمَّ يربط بين الذين ينظرون في هذا الخلق ويعتبرون وبين الذين يخشون الله، فيقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. العلماء الذين يعلمون أنه هذا الصنع الغريب العجيب هو صنع إله حكيم، فيستدلون بالصنعة على الصانع، وبالخلق على الخالق، وبما يجدونه في الصنعة والصنع على الحكمة والعلم والقدرة، فعند ذلك تلقى المهابة في قلوبهم، ويعظم قدر الله في نفوسهم، فيتوجهون إليه وحده، راغبين راهبين، ولكنَّ الذين ¬

_ (¬1) راجع تفسير في ظلال القرآن 5/ 2942.

المبحث الخامس شبهات حول إثبات وجود الله تبارك وتعالى

يحققون هذا على الوجه الصحيح إنما هم العلماء الموحدون المؤمنون بالله. قرأ عناية الله هذه الآية مترجمًا لها باللغة الإنجليزية موضحا لمعانيا، فإذا بالسير جيمس يصرخ عندما سمعها قائلًا: ماذا قلت؟ إنما يخشى الله من عباده العلماء! ! مدهش .. ! غريب .. ! عجيب جدًّا .. ! ! من الذي أخبر محمدًا بالأمر الذي لم يكشف عنه إلا بعد دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة! ! لو كان الأمر كذلك، فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحى به من عند الله .. ، لقد كان محمد أميًّا، ولا يمكنه أن يكشف هذا السرّ بنفسه، ولكنَّ "الله" هو الذي أخبره بهذا السرّ، مدهش ... غريب ... عجيب جدا! ! (¬1) المَبحث الخامس شبهات حول إثبات وجود الله تبارك وتعالى لم يزل الملحدون يعللون نشوء الكون ووجود الحياة بتعليلات فاسدة، ومع ذلك فإنهم يطلقون على تلك التعليلات اسم المنهج العلمي، والعلم مما يقولونه براء، وقد أثبت العلم بطلان بعض هذه النظريات الفاسدة، وسكتت الألسن التي كانت تزعم أنها جاءت بجديد، فمن ذلك نظرية التولد الذاتي، حيث زعموا أن الأشياء تخلق خلقًا ذاتيًّا لا يحتاج إلى خالق، بدليل ظهور الديدان في الطعام الفاسد، وعلى البراز، ثم تبين لهم خطأ مقالتهم هذه، فالديدان بويضات خرجت ¬

_ (¬1) كتاب الإسلام يتحدى لوحيد الدين خان ص 121، وقد نقل هذه الحادثة عن جملة "نقوش" الباكستانية، العدد الخاص بالشخصيات العالمية، شخصية المرحوم: عناية الله المشرقي: ص 1208 - 1209.

إلى الحياة عند وجود الجو المناسب، ولذلك فإننا عندما نغلي الطعام، ثم نحفظه في المعلبات لا تفسد بعد ذلك. وزعموا أن الخلق تطور في رحلة طويلة وأن أصله خلية وجدت من تفاعلات معينة، وهذه هي التي تسمى بنظرية التطور، وقد أصبحت هذه النظرية اليوم واضحة البطلان، ظاهرة الفساد، وتبين للعلماء أنه لا يمكن الأخذ بها. وقالوا أيضًا: الطبيعة هي الخالق، ولكن هذه المقالة تتهاوى في مجال الحوار والنقاش، فإذا سألت هؤلاء عن الطبيعة، فإن الجواب يكون: الطبيعة هي الكون، أو السنن التي تحكم الكون، أو هي قوة وراء الكون، فإذا كانت الطبيعة هي الكون، فمعنى ذلك أن الشيء يخلق نفسه، وقد تبين لنا بطلان هذا القول، وإذا كانت هي النظم والقوانين التي تحكم الكون، فإن هذا ليس بجواب، لأن السؤال لا يزال قائمًا، فالسؤال عن الكون المشهود، أي بسننه القائمة به، وإذا كانت الطبيعة قوة وراء الكون، فالجواب صحيح، ولكن هذه القوة اسمها "الله" لا "الطبيعة". وقال بعضهم بنظرية المصادفة، أي أنا الخلق وجد هكذا بالمصادفة، ولقد اصبحت المصادفة اليوم نظرية تسمى بنظرية الاحتمالات، وهذه النظرية تدل دلالة جازمة على أن الكون لم يخلق صدفة، يدلك على هذا أن احتمال إخراج عشرة أوراق مرقمة ترقيمًا متسلسلًا من كيس إخراجًا مرتبًا هو واحد إلى عشرة بلايين، فهذا الخلق المحكم المنظم المنسق المنسجم الذي إذا اختل شيء فيه يحصل فساد عجيب- لا يمكن أن يوجد بطريق المصادفة، والاحتمال في ذلك لا يمكن أن يحسب بالأرقام. إن الدول الشيوعية التي تزعم العلمانية تتراجع في كل يوم مع تقدم العلم، ولا

تجد في العلم سندًا، بل العلم ينفي الإلحاد ويوجه إلى الإيمان، وصدق الله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].

الفصل الثالث الملائكة والجن

الفصل الثالث الملائكة والجن لا يزال البشر ينظرون في هذا الكون متسائلين: هل هناك عوالم حيّة عاقلة غير عالم البشر، ومع تقدم العلم، واختراع الوسائل التي تمكن الإنسان من البحث والنظر -زادت الرغبة عند الإنسان في اكتشاف المجهول، فلم يكتف بالبحث في آفاق الأرض، بل انطلق إلى الفضاء، وحط رحاله فوق ظهر القمر، وأرسل مراكبه إلى كواكب بعيدة، يرتاد الفضاء رغبة في أن يعلم ما لم يكن يعلم. وقد أعلمنا الله عن وجود عالمين من عوالم الغيب، وهما عالمان حيَّان عاقلان، الأول: عالم الملائكة: وقد حدثنا الله طويلًا عنهم في كتابه، حدثنا عنهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأصبحنا نعرف شيئًا كثيرًا عن أصلهم وقدراتهم وأعمالهم وصفاتهم، بل إننا نعرف أسماء بعضهم، ونستطيع أن نستخلص من الكتاب والسنة خلاصة وافية عنهم، فهم خلق كريم طيب، خلقهم الله لعبادته وطاعته، وهم يديمون عبادة الله، يسيحون الليل والنهار لا يفترون، ولهم قدرات هائلة في الحركة والعمل، وقد وكل الله إليهم القيام على أمر الكون، فمنهم ملائكة مختصة بالسحاب، وملائكة بالنبات، وآخرون موكلون بالإنسان، لحفظه وحفظ أعماله، ومنهم سفراء الله إلى رسله من البشر وهناك خزنة الجنة وخزنة النار وعددهم كثير لا يحصيه إلا الذي خلقهم، وهم أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع.

والإيمان بهم يقتضي الإيمان بوجودهم، والإيمان بمن أعلمنا اسمه منهم، والإيمان بما علمنا الله من صفاتهم كصفة جبريل، والإيمان بما أعلمنا الله من أعمالهم. الثاني عالم الجن: وهم عالم مفكر حي عاقل، خلقهم الله للمهمة التي خلق الإنسان من أجلها، وهي عبادة الله وحده {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وقد جاءَتهم الرسل، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن: 14]. خلقهم الله من نار {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27]. وإبليس من الجن {إلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]. وقد كان في أول أمره صالحا يعبد الله مع ملائكة السماء، ثم أمره الله كما أمر الملائكة بالسجود لآدم حين نفخ فيه الروح، فأبى، فطرده الله من رحمته وجنته، وغضب عليه ولعنه، فحقد على آدم وذريته، وأخذ على نفسه العهد أن يضل بني آدم، وقد زين لآدم وزوجه الأكل من الشجرة التي حرم الله عليه أن يأكل منها في الجنة، فأهبطه الله إلى الأرض، ولا تزال المعركة قائمة بيننا وبين الشيطان، وكل الفساد الذي وقع في الأرض من الشيطان، وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتاب آمرا بطاعته، واتباع شرعه، ومحذرًا من إتباع الشيطان {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ} [النور: 21].

{إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]. وقد فصل لنا القرآن الحديث عنه، وبين أهدافه ووسائله، كما بين لنا طريق الخلاص منه. (¬1) والجن لهم قدرات في الحركة والعمل حدثنا القرآن بشيء ما، ولكنهم في الوقت نفسه ضعفاء {إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]. وليس لهم سلطان على عباد الله المخلصين، {إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوينَ} [الحجر: 42]. ولا تزال الشياطين تضل الناس بطرق مختلفة، وهناك أحداث ووقائع لا يمكن أن تُفَسَّر ما لم يصدق المرء بوجود الجن والشياطين، والمكذبون بوجودهم يحتارون في تعليل تلك الأحداث. والجن كالملائكة يروننا من حيث لا نراهم، وهم يسكنون معنا في عالمنا الأرض، ولكننا لم نعط القدرة على رؤيتهم على الرغم من تقدمنا اليوم في فن الاتصال السلكي واللاسلكي. وكثير من البشر ضلوا في شأن الملائكة والجن، فمنهم من أنكر وجودهم، ومنهم من اعتقد فيهم عقائد فاسدة، فقد زعم الكفرة المشركون أن الملائكة إناث، وقالوا هم بنات الله، تعالى الله عما يقولون {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 151 - 153]. ¬

_ (¬1) ارجع في هذا الموضوع إلى كتابنا: عالم الجن والشياطين.

وقال الكفار إن الله تزوج من الجن، تعالى الله عن مقالتهم {وَجَعَلُوا بَينَهُ وَبَينَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]. وضلال البشر في هذا كثير، والحمد لله على هداية الإسلام.

الفصل الرابع الكتب السماوية

الفصل الرابع الكتب السّماوية يعظم الكتاب بعظم كاتبه، وأعظم الكتب على الإطلاق الكتب المنزلة من عند الله، على رسل الله، فهي الكتب الخالصة المبرأة من العيوب، السليمة من الاختلاف، الداعية إلى الهدى، المعرفة بالله، المبينة لحدوده، الشارحة لمراده من خلقه، وهي نور كلها، وحق كلها، {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44]. {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. وآخر الكتب نزولًا هو القرآن الكريم، وهو كتاب محفوظ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]. أمّا الكتب السماوية الأخرى فبعضها ضاع ولا يُعْرَف له وجود اليوم كصحف إبراهيم وبعضها موجود، ولكنه محرف أدخل فيه ما ليس منه كالتوارة والانجيل والزبور. والإيمان بالكتب السماوية يقتضي التصديق بكل ما أخبرنا الله به منها، وذلك بالجزم بأنها بن عند الله تبارك وتعالى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَينَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136].

أمّا العمل فكل أمة تعمل بكتابها، وهذه الأمة تعمل بالقرآن الذي تضمن خلاصة التعاليم الإلهية، ولا يجوز العمل بالشرائع المنسوخة {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]. وليس معنى ذلك أن الشرائع السماوية مختلفة فيما بينها اختلافًا كليًّا، فهناك مواضع اتفاق، ومواضع اختلاف، والمجال هنا لا يتسع للتفصيل. (¬1). ¬

_ (¬1) راجع في هذا كتابنا "الرسل والرسالات"، طبع مكتبة الفلاح - الكويت.

الفصل الخامس الأنبياء والرسل

الفصل الخامس الأنبياء والرسل المَبحَث الأول منزلة الأنبياء والرسل الرسل والأنبياء هم الكملة من البشر الذين اختارهم الله واصطفاهم ليكونوا سفراءه إلى خلقه، يتحملون وحيه وتعاليمه وشرائعه، ويبلغون عنه، وهم وحدة واحدة، كلهم يدعو إلى الله، ويعلن العبودية والولاء لجلاله، وهم يمثلون في التاريخ الإنساني المسار الصحيح للبشرية، وهم الشموس والأقمار التي كانت تشرق فتضيء للناس الظلمات، وتخرجهم إلى النور، وهم كثير كثير، فما من أمة إلا خلا فيها نذير، وقد أبلغهم الله وحيه بطرق مختلفة، منهم من كلمه الله، ومنهم من أرسل إليه ملكا، والملك كان يأتي الرسول بطرق مختلفة {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]. ومن المكلمين نبي الله موسى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. والملك كان يأتي رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في صورته التي خلقه الله عليها، وأحيانا يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وأحيانًا يتمثل له الملك رجلًا فيكلمه. والإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور: الأول: التصديق بأن الله أرسلهم فمن كفر برسالة واحد منهم كفر.

المبحث الثاني وظائف الرسل

الثاني: الإيمان بمن أعلمنا الله بهم بأسمائه، ومن لم يعلمنا بأسمائهم آمنا بهم إجمالًا. الثالث: التصديق بما صح من أخبارهم. الرابع: العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم، وهو خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -. المبَحَث الثاني وظائف الرسل للأنبياء والرسل وظائف كثيرة منها: 1 - البلاغ المبين: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالتَهُ} [المائدة: 67]. 2 - الدعوة إلى الله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. 3 - التبشير والإنذار: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الكهف: 56]. 4 - إصلاح النفوس وتزكيتها: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. 5 - تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائغة: فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، بل الرسل جميعًا أنكَروا على قومهم عبادة الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب، وكل رسول وجد في قومه انحرافًا أنكره عليهم. 6 - إقامة الحجة: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

المبحث الثالث أدلة صدق الرسول

7 - سياسة الأمة: ففي الحديث: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، قام نبي (¬1) "، وقد كان داود خليفة في الأرض يحكم بين الناس بالعدل {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]. ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالحكم كذلك {فَاحْكُمْ بَينَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]. المبحث الثالث أدلَّة صدق الرسُول لم يرسل الله رسولًا إلا وأقام الأدلة الدالة على صدقه، ومن هذه الأدلة حال الرسل وسيرتهم في قومهم، فكل رسول كان مثالًا في قومه في الصدق والأمانة وقول الحق، ومنها تأييد الله لهم ونصرهم على أعدائهم. ومن ذلك الآيات البينات التي يسميها علماء التوحيد المعجزات، فقد كان يؤتى كل رسول آية باهرة تدل على صدقه، ومن ذلك أن إبراهيم ألقي في النار فكانت عليه بردًا وسلامًا، وأعطي موسى تسع آيات بينات فكان يلقي عصاه فتتحول إلى ثعبان مبين، وينزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين، وأرسل على الذين كذبوه الجراد والقمل والضفادع والدم آيات بينات، وآتى صالحًا الناقة آية مبصرة، حيث أخرج الله لقومه ناقه عشراء من صخرة صماء كما طلبوا، وكان عيسىى - عليه السلام - يحيى الموتى، ويشفي الأبرص والأقرع والأعمي بإذن الله، ويصنع من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله. إعجاز القرآن: وآتى نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا من الآيات البينات، فمن ذلك ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة.

القرآن نمط جديد من الإعجاز

انشقاق القمر فلقتين، ومن ذلك تسبيح الحصى في يده، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثيره الطعام القليل حتى يكفى الجمع الكثير، وأعظم ما آتاه الله هذا القرآن، والقرآن العظيم آية عظيمة، تخاطب القلوب والعقول، وهو آية دائمة باقية إلى يوم القيامة، وقد تحدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - قومه، وهم الفصحاء البلغاء، بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بمثل سورة منه، فعجزوا ولم يستطيعوا ذلك، هذا مع شدّة الخصومة، التي تدفعهم إلى معارضة القرآن لإبطال هذا الدين، ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلًا. وإذا كان العرب قد عجزوا عن الإتيان بمثل هذا القرآن فغيرهم أعجز، ذلك أن العرب الذين أنزل فيهم القرآن هم ملوك الفصاحة والبلاغة، والتاريخ شاهد على أن القرآن آية معجزة، فلم يأت من يزعم أنه أتى بمثل القرآن {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42]. {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة: 23، 24]. القرآن نمط جديد من الإعجاز: القرآن آية فريدة بين آيات الرسل جميعًا، إذ هي آية باقية دائمة خالدة، لا تزول بوفاة من نزلت عليه، كما هو الحال بالنسبة للرسل السابقين، وهي آية تخاطب العقول والقلوب، كما تخاطب فطره الإنسان عبر الزمِان والمكان، لقد كانت معجزته الوحي المتلو: القرآن، ، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما من الأنبياء من

جوانب الإعجاز القرآني

نبي إلا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحى الله إليّ، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (¬1). لم يشأ الحق تبارك وتعالى أن يجعل معجزة الرسالة الأخيرة حسيّة تذهل من يراها، فلو شاء لأنزل معجزة قاهرة تلوي أعناق الذين يشاهدونها، فلا يملكون معها جدالًا ولا انصرافًا عن الإيمان بها {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]. لقد شاء الله أن تكون الرسالة رسالة مفتوحة إلى الأمم كلها، وللأجيال كلها، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان، فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب، لكل أمة ولكل جيل، والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها، ثمَّ تبقى بعد ذلك قصة تروى، لا واقعًا يشاهد، ها هي معجزة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا لا تزال كتابًا مفتوحًا ومنهجًا مرسومًا، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم -لو هدوا إلى "اتخاذه إمامهم- ويلبي حاجاتهم كاملة، ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ومصير أمثل. (¬2) جوانب الإعجاز القرآني: والقرآن معجز في كل جانب من جوانبه، وفي كل ناحية من نواحيه: 1 - فهو معجز في بنائه التعبيري، وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصة، كما هي الحال في أعمال البشر، إذ يبدو الارتفاع والانخفاض ¬

_ (¬1) متفق عليه، انظر مشكاة المصابيح: 3/ 124. (¬2) انظر في ظلال القرآن: 19/ 2584.

القوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات، بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدلُّ على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال. 2 - وهو معجز في بنائه، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة، كل توجيهاته تلتقي وتتناسق وتتكامل، وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهج الشامل الضخم مع جزئية أخرى، ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية، إذ تقصر عن تلبيتا ... وكلها مشدودة إلى محور واحد، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة، ولا بدّ أن يكون هناك علم شامل غير مقيد بقيود الزمان والمكان هو الذي أحاط به هذه الإحاطة، ونظمه هذا التنظيم. 3 - وهو معجز في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح مغاليقها، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها، وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين، وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة (¬1). وهو معجز في إخباره عن المغيبات التي وراء عالم الشهادة كعالم الملائكة والجن واليوم الآخر، والمغيبات الماضية والآتية، وما يكشف الإنسان عنه من تاريخ الإنسان، وما تأتي به الأحداث - يصدق ما جاء به النبي الأميّ الذي لم يخط بالقلم ولم يقرأ من كتاب. ¬

_ (¬1) المصدر السابق بشيء من التصرف.

الإعجاز العلمي في القرآن

4 - وهو معجز فيما أخبر به من حقائق الكون، التي لم يهتد الإنسان إلى معرفتها، ولم يكتشف بعض من أسرارها إلا حديثًا. 5 - وهو معجز في تشريعاته وأحكامه في شمولها وسموها وصلاحيها للإنسان على مرّ العصور. الإعجاز العلمي في القرآن العجيب في أمر هذا القرآن أن إعجازه متجدد على مر الزمان، فكل قوم يصل إليهم هذا القرآن، فينظرون فيه نظر معتبر متبصر، فإنهم يجدون فيه من الآيات والدلائل ما يؤكد لهم أنه من عند الله، ونحن اليوم في هذا العصر نبغنا في العلوم التي كشفت عن شيء من أسرار الكون، فتطلعنا نبحث في مواقع النجوم، ومساراتها، وأحجامها، وأجوائها، بحث العلماء في تكوين الخلق وأسرار المخلوقات، فبحثوا في الذرة والخلية، وغاصوا في أعماق الأرض وقيعان البحار، وإذا كنا نفاجأ بأن من الحقائق التي توصل إليها العلماء بعد دراسات طويلة، وجهود مضنية - قد تحدث عنها هذا القرآن العظيم، أو أشار إليها إشارات واضحة، وكل هذا مما يزيد في الإيمان ويعمقه، ويدلُّ على أن هذا القرآن العظيم منزل من عند العليم الحكيم الخبير، فهذا القرآن قول الله وأمره، والخلق صنعه وخلقه، فإذا تحدث الخالق عن الخلق، وذكر شيئًا من حقاثق الخلق فلا بدَّ أن يتطابق الخبر القولي مع الخلق الكوني، فالقول قوله، والخلق خلقه {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. والنفوس الإنسانية تخضع خضوعًا عظيمًا عندما تعلم أسرارًا مذهلة لم يكن للبشر علم بها، ثم تجد أن النبي العربي الأمي، الذي لم يخط بالقلم، ولا قرأ من

قسيس نصراني يستخدم النصوص العلمية في التوراة لدعوة الشيوعيين إلى النصرانية

كتاب، ولا درس في جامعة، ولا تعلم من معلم من بني آدم تحدث عن تلك الحقيقة العلمية أو أشار إليها، فلو لم يكن هذا القرآن وحيًا بن الخالق لما استطاع محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقرر هذه الحقائق المجهولة، والأسرار الخفية التي لم يطلع عليها البشر قبل هذا العصر، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]. قسيس نصراني يستخدم النصوص العلمية في التوراة لدعوة الشيوعيين إلى النصرانية: وقد استخدم كاهن نصراني هذا الأسلوب في الدعوة إلى النصرانية، فقد توجه اثنا عشر طالبًا صينيًا كانوا يدرسون في جامعة كلفورنيا، في الولايات المتحدة الأمريكية إلى كاهن كنيسة تسمى "بركلي"، وطلبوا منه أن ينظم لهم دراسة حول الدين النصراني في أيام الأحد، وكان هدفهم من وراء تلك الدراسة هو معرفة مدى تأثر الدين على الحضارة الأمريكية. فدعا ذلك القسيس عالمًا من علماء الرياضة والفلك هو البروفيسور "بيتر، وستونر" وطلب منه أن يتولى مهمة تدريب أولئك الشبان. وقد اختار ذلك الأستاذ العالم بالرياضيات والفلك سفر التكوين من كتاب التوراة، وفيه بقية معلومات تتحدث عن بدء الكون، ولم يدرسهم التوراة على الطريقة التقليدية، أمضى ذلك الأستاذ فترة الشتاء يدرس مع الطلبة تلك المعلومات، ثم يسجلون في كل درس الاستفسارات والأسئلة التي تدور في أذهانهم حول ما يسمعون، ثم يرجعون إلى الكتب العلمية في مكتبة الجامعة للبحث عن مدى صدق ما تحدث عنه سفر التكوين، ذلك السفر الذي يعود إلى

نماذج من الإعجاز العلمي في كتاب الله

أيام نبي الله موسى قبل بضعة ألوف من السنين، وبعد جلسات كثيرة متواصلة اعتنق أولئك الطلبة الدين النصراني (¬1). نحن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ولكن ما فيهما من نصوص طرأ عليه كثير من التغيير والتحريف والتبديل بفعل الترجمات المستمرة من لغة إلى لغة، وبفعل علماء الضلال الذين أدخلوا في هذين الكتابين ما ليس منهما، وحذفوا منهما نصوصًا لم ترق لهم، فالبقية الباقية من الحق فيهما اختلطت بباطل كثير، أمّا القرآن فهو آخر الكتب السماوية، لم يتغير ولم يتبدل، والحقائق الكونية الموجودة فيه كثيرة وصادقة. نماذج من الإعجاز العلمي في كتاب الله لقد ألفت مؤلفات في هذا الموضوع وأنا أذكر بعض الأمثلة فمن ذلك: 1 - مراحل خلق الجنين، فالقرآن يفصل هذه المراحل تفصيلًا دقيقا، ولم يعرف العلماء هذه التفصيلات إلا قريبًا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج: 5]. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 12 - 14]. ¬

_ (¬1) انظر هذه الحادثة في كتاب: الإمام يتحدى لوحيد الدين خان ص 121 وقد نقلها المؤلف عن ذلك الأستاذ في كتابه The Evidence of God p.p. 137 - 38

ارجع إلى أوثق المصادر الطبية التي تتحدث عن خلق الجنين، هل تجد في ما حدثنا الله عنه شيئًا يناقض هذه الحقائق التي ذكرها العزيز العليم! ! 2 - الأذى الذي في المحيض، فقد نهى القرآن الرجال عن معاشرة أزواجهم في المحيض، وعلل ذلك بأن المحيض أذى، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]. وقد تبين للعلماء في هذا العصر أن دم الحيض دم فاسد، يحتوي على ميكروبات عديدة، وجراثيم متنوعة، فإذا عاشر الرجل زوجته أثناء فترة الحيض فلا يأمن أن يصاب بالتهابات وأمراض مؤذية. أضف إلى هذا أن الأعضاء التناسلية في المرأة تكون محتقنة أثناء فترة الحيض، وبخاصة الرحم، الذي يكون محتقنًا إلى درجة النزف، فإذا خالط الرجل زوجته فإن هذا قد يؤدى إلى تمزيق أغشية رحم المرأة فتنتشر العدوى بواسطة الميكروبات الموجودة في الأغشية إلى أمكنة أخرى مما يؤثر في صحة المرأة، ثم هناك أذى من نوع ثالث هو الأذى النفسي الذي يصيب الزوجين، فكثير من الرجال والنساء يصابون باشمئزاز ونفور نفسي ينتج عنه ضعف جنسي قد يكون شديدًا. 3 - مكان الأعصاب التي تحس بالحرق أو الإصابة: وهذه الأعصاب موجودة في الجلد فقط، ولذلك لو قطعت أمعاء الإنسان بعد فتح بطنه لا يحس بقطعها، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56].

ولا يعترض على هذا بإحساس الإنسان بالبرودة والحرارة فِي أمعائه، لأن الذي في الجلد هو أعصاب الإحساس بالإصابة والحرق، وهناك أعصاب أخرى كثيرة منتشرة في أجزاء الجسم. 4 - الكون الآخذ في الاتساع: {وَالسَّمَاءَ بَنَينَاهَا بِأَيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]. والقوم الذين لم يقرؤوا القرآن ولكنهم يبحثون في خلق الله تساءلوا قائلين: "ما حجم الفضاء المحيط بنا؟ وقد كان الجواب عن هذا السؤال يقول إن الفضاء ليس له حجم معين، حيث أنه يتسع باستمرار"، يقول الدكتور (أدينغتون) Eddinqton في هذا الموضوع: "يمكننا تمثيل النجوم والمجرات وكأنها قائمة على سطح بالون من المطاط يجري نفخه بصورة مستمرة، وهكذا فإن الأجرام الفلكية تبتعد عن بعضها أكثر فأكثر بفعل التضخم كعنصر مستقل عن حركاتها العادية، وعن الآثار المترتبة على قوى التجاذب فيما بينها" (¬1)، ولقول "جوليان" معقبا على مقالة البرفسور (أدينغتون): "للكون ميل طبيعي للتوسع، تقابله بصورة تقريبية قوى التجاذب الموجودة في المادة ... إن نصف قطر الفضاء اليوم لا يقل عن عشرة أضعاف نصف قطره الأصلي حسب تقديرات البرفسور (أدينغتون) ومعدل التوسع الفعلي يزداد بصورة مستمرة، ... ومعدل الازدياد هذا سوف يكبر في المستقبل" (1) 5 - الشمس الجارية في الفضاء: كان الظن أن الشمس تدور حول الأرض، ثم ¬

_ (¬1) انظر كتاب "الكون المتسع" ص 18 - 19 وهو فصل مترجم من كتاب Limitation of Science G.W.Sullivan، وقد ترجمت هذا الفصل الدار العلمية بالكويت.

ثبت لدى العلماء أن الأرض هي التي تدور حول الشمس, ولكن العلماء أخطؤوا عندما زعموا أن الشمس واقفة، وأخيرا تبين لهم أنها تسير بسرعة خارقة، وأفضل تعبير عن حركتها هو الجريان، وصدق الله إذ يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] 6 - في العسل شفاء للناس: قبل ثلاثين سنة فقط كان الشائع في أمريكا أن العسل ناقل للجراثيم، ولم يظهر للعلماء فوائد العسل الطبية إلا منذ عهد قريب، واليوم يدخل العسل في أكثر من خمسين دواءً، وتبين للأطباء أن العسل قاتل للجراثيم، فلم تعش فيه جرثومة واحدة، وتبين لهم أنه علاج جيد لكثير من الأمراض، كفقر الدم، وأمراض الرئة، وأمراض الجهاز التنفسي، وأمراض العين، والأمراض الجلدية، وغيرها كثير (¬1)، وصدق الله إذ يقول: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]. ¬

_ (¬1) لقد استقصى محمد حسن الحمصي في كتابه "النحلة تسبح الله" الفوائد الطبية التي في العسل، ورجع إلى المصادر الطبية والعلمية الحديثة الموثقة في هذا المجال، وهو مطبوع منتشر في الأسواق.

الفصل السادس اليوم الآخر

الفصل السادس اليَوم الآخِر الإيمان باليوم الآخر ركيزة عظيمة وقاعدة من القواعد المهمة، وأصل من الأصول، وما لم يتحقق هذا فإن العبد يتعثر في مسيرته، ولا يستقيم أمره. وقد حدثنا القرآن كما حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن علامات هذا اليوم الدالة على قرب وقوعه، وأعظمها خروج الدابة والدجال ونزول عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها. وحدثنا ربنا كما حدثنا نبينا عن حال الإنسان عند الموت وفي القبر وهو الذي سماه القرآن بالبرزخ، ففي الأحاديث وصف دقيق لرحلة الإنسان بعد الموت إلى أن يبعث من قبره. أما حديث القيامة وأهوالها فحديث طويل، حيث يدمر هذا الكون: أرضه وسماؤه، فتكسف شمسه، ويخسف قمره، وتتناثر نجومه، وتنشق سماؤه، وتدك أرضه، وتزول جباله، وتسجَّر بحاره، ولا يبقى إلا الحي القيوم، ثم يبعث الله الخلائق، ويقوم الناس لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وهو يوم طويل مهول، يجعل الولدان شيبًا، وترى الناس فيه سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وفي ختام ذلك اليوم يكون الحساب، وتطاير صحف صحف الأعمال، فأمَّا من أوتي كتابه بيمينه فهو من أهل السعادة، فيفرح ويسر وينادى {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)} [الحاقة: 19 - 22].

الأدلة على البعث والمعاد

وأمَّا الأشقياء الذين يؤتون كتابهم بشمالهم، فإنهم يدعون بالويل والثبور وعظائم الأمور. ويساق العباد في نهاية المطاف الأخيار إلى الجنَّة، والأشرار إلى النار، الأخيار في نعيم أبدي سرمدي لا نهاية له، والأشقياء في عذاب أبدي سرمدي لا نهاية له. والإيمان باليوم الآخر يتضمن ثلاثة أمور: الأول: الإيمان بالبعث وهو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور ويقوم الناس لرب العالمين. الثاني: الإيمان بالحساب والجزاء، حيث يحاسب الله العباد على ما قدموا. الثالث: الإيمان بالجنّة والنار، وأن مصير العباد جميعًا إليهما، فالجنة دار الطائعين، والنار دار الكافرين. الأدلة على البعث والمعاد: كثير من الناس يصدق بوجود الخالق المعبود، وقد يتوجه إليه بشيء من العبادة، ولكنه يجادل أشدَّ الجدال في أمر المعاد، وينكر ذلك أشدَّ الإنكار، ومن هؤلاء أهل الجاهلية الذين بعث فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس لهم من حجّة إلا أن عقولهم لم تطق التصديق برجوع الإنسان حيًّا بعد أن تلاشى في التراب وفني فيه، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَال مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ

يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 78، 82]. لقد ذكر الله في هذه الآيات شبهة منكري البعث ورده عليهم، والرد عليهم يمكن أن يوجز في أربعة أمور: الأول: أن الذي يحيي النفوس بعد موتها إنما هو الله، وهو قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. إذا أراد أن يخلق شيئًا قال له كن فيكون كما شاء. الثاني: أن الذي سيعيد الإنسان حيًّا بعد موته هو الذي أحياه في هذه الدنيا، فلماذا يستبعد الإنسان العودة بعد الموت! ! إن حياتنا في الدنيا دليل على حياتنا الأخرى. الثالث: أن الله قادر على تحويل الأشياء من حال إلى حال، فالحياة تتحول إلى خمود وموت، والميت يقوم حيًّا بإذن ربّه، والشجر الأخضر الذي لا تشتعل فيه النار يتحول إلى شجر يابس يصلح لاشتعال النار فيه، والأرض الميتة الخامدة ينزل عليها الماء فإذا هي تهتز وتنبت {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت: 39]. الرابع: أن القادر على خلق الأعظم قادر على خلق الأدنى {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]. {أَوَلَيسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].

الفصل السابع القضاء والقدر

الفَصل السَابع القضَاء وَالقدَر سئل الإمام أحمد رحمه الله عن القدر، فقال: القدر قدرة الله، والإيمان بقدر الله يعني أن نؤمن أن علم الله محيط بكل شيء، فإنّه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد سجل تبارك وتعالى في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، فما من أمر إلا وهو في الكتاب مسطور، ومن ذلك ميلادنا وأقوالنا وأعمالنا رأرزاقنا وآجالنا وعَلِمَ الله السعيد منا والشقي فينا، ولكنه ستر عنّا علم ذلك كله، وأرسل إلينا رسلًا، وأنزل علينا كتبًا، وجعل لنا عقولًا وأسماعًا وأبصارًا، وقال لنا أنا ربكم وإلهكم وعليكم أن تعملوا بطاعتي وتجتنبوا معصيتي، فإن لم تفعلوا عذبتكم بناري، وإن كنتم كما طلبت منكم أدخلتكم جنتي. وليس للعباد أن يعارضوا أمر الله الشرعي الديني بما قدره وكتبه عليهم، فالله شاء منهم أن يعبدوه، ولم يطلعهم على ما قدره فيهم وكتبه عليهم، والقدر لا يُسَلَّم له إلا بعد وقوعه، أمّا قبل وقوعه وحدوثه فإن العبد مطالب بأن يفعل أحسن ما قدر على فعله، والقدر لا حجّة فيه لمن ضل وغوى بعد أن بلغته الرسالة، وقامت عليه الحجّة، فالحساب والعذاب ينظر فيهما إلى قدرة العبد على الاستقامة والطاعة وبلوغه الوحي. والبحث عن الطريقة التي تعمل فيها قدرة الله بحث عقيم، لا يستطيع العقل

الأصول التي يقوم عليها الإيمان بالقضاء والقدر

الإنساني أن يدرك كيفيته، وما دمنا نؤمن بالله ولا ندري كيف هو، ونؤمن بصفاته ولا ندرك كيفيتها، كذلك القدر نؤمن به ولا نعلم كَيفيته، والذين عقَّدوا الإيمان بالقدر هم الذين خاضوا في كيفية القدر، فجعلوا الإيمان به عويصًا، نحن نؤمن أنه لا يقع في كون الله شيء إلا بقدر الله، وأن أفعال العباد مخلوقة لله تبارك وتعالى، أمّا كيف يكون ذلك كله بقدر الله فنسلم به، ولا نخوض فيه. وقد ضل في القدر طائفتان، طائفة زعمت أن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة، والثانية الذين قالوا إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة وليس لمشيئة الله وقدرته فيه أثر. ومن نظر في النصوص علم أن العبد له في عمله إرادة وقدرة ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله وقدرته. الأصول التي يقوم عليها الإيمان بالقضاء والقدر: هناك عدة أصول يقررها علماء السلف في هذا الموضوع: 1 - أن علم الله الأزلي محيط بالأشياء قبل حدوثها، فالله -جلَّ وعلا- بكل شيء عليم، وهو يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد كتب في اللوح المحفوظ كل شيء. 2 - أن الله خالق كل شيء، ومن جملة ذلك أفعال العباد، فالله خلق الناس وما يعملون، وخلق الله للأشياء يتم وفق ما قدره الله لها، فالله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. 3 - لا يقع في ملك الله إلّا ما يشاء، فمشيئة الله محيطة بالخلائق، ومن جملة

ذلك الهداية والضلال، والإيمان والكفر، فلا يمكن أن يقع أمر في هذا الكون إذا لم يرده الباري عزَّ وجلَّ. 4 - لا يجوز لأحد أن يناقش الله في قضائه وحكمه تبارك وتعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. ذلك أن الله تبارك وتعالى هو الحكيم الخبير العليم الملك المطاع. 5 - لا يجوز لأحد أن يحتج بالقدر في مواجهة الأمر الشرعي الديني، فالقدر مستور عن العباد، وقد كلفهم رب العزة بما تضمنه الوحي المنزل، وعليهم الاستقامة وفق ما شرع لهم، ولا يجوز لهم التمرد على شرع الله محتجين بالقدر. 6 - وبناء على الأصل السابق فإن كل إنسان مسؤول عن تصرفاته وأعماله، ولذلك شرع الإسلام العقوبات في الدنيا، وأنذر المجرمين بالعذاب الأليم في الآخرة. 7 - والله في ذلك كله تبارك وتعالى عادل، ولا يجوز أن ينسب إليه الظلم، عادل في تقديره، وعادل في أمره ونهيه. 8 - مباشرة الأسباب من القدر، فالله قدَّر أن يكون حرث وزرع وحصاد، وقدَّر أن يأتي الولد بالنكاح، وأن يكون الري بشرب الماء، وأن يكون الدواء سببًا في الشفاء، فلا يجوز إهمال الأسباب احتجاجًا بالقدر، وقد فقه هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأعدوا العدة للحرب والقتال، وفكروا ودبروا، وخططوا.

الفصل الثامن أثر الإيمان في الفرد والمجتمع

الفَصل الثامن أثر الإيمَان في الفَرد وَالمُجتمع للإيمان آثار كثيرة طيبة في النفس الغفو الإنسانية وفي المجتمع الإنساني، ومن هذه الآثار: 1 - الرضا النفسي، والاطمئنان القلبي، فالنفوس البشرية دائمة الاضطراب، تزعجها الشدة والبلاء، وتبطرها النعمة والرخاء، وليس مثل الإيمان بالله الواحد الأحد مطمئنًا للنفوس، وجالبًا للسعادة والهناء {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]. 2 - الشجاعة والإقدام، لأنَّ الإيمان يغرس في النفس أن الأرزاق والآجال بيد الله تبارك وتعالى، وأن العباد مربوبون محكومون أمرهم بيد خالقهم، فما دام العبد متوكلًا على الله، معتمدًا عليه - فإنه لا يرهب الباطل، ولا يخشى الموت، ويواجه الظلم والطغيان بنفس غير هيابة، وهذا هو السرّ في وقوف أهل الصلاح من هذه الأمّة في وجه الظلمة والظالمين. 3 - الاستقامة والصلاح، فالذي يراقب الله ويخشاه، ويعلم أنه عليه رقيب، وله حسيب، يستقيم على أمر الله، وينتهي عن نهيه، ويصلح في معتقده وعلمه. 4 - تحرير العباد من التخبط الفكري، والفوضى العقائدية، والعبودية للمادة، وإخراجهم من ظلمات الشرك والجهل والخرافة والدجل إلى نور العلم الذي يكشف الحقائق ويبصر بالصواب، ومن في تاريخ الأمم يعجب من ذلك

الضلال الذي عاش فيه البشر حيث عبدوا الأشجار والأحجار والشموس والأقمار، وألَّهوا البشر والبقر. 5 - الثبات على خط واحد في اليسر والعسر، شكر في النعمة، وصبر في المصيبة، وفي الحديث "عجبا لأمر المؤمن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وليس ذلك إلا للمؤمن". 6 - الوحدة والاتفاق، فاتباع هذا الدين، تأتلف منهم القلوب، وتتفق منهم الأعمال، وكلما استمسكوا بهذا الدين ازدادوا اتحادًا، فالرب واحد، والدين واحد، والرسول واحد، والقبلة واحدة، والتصورات واحدة، والأعمال متقاربة متشابهة، ولا يفرقهم إلا اختلافهم في الدين {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. 7 - الحفاظ على النفوس والأموال، فالإيمان بالله الذي يغرس خوف الله وخشيته في القلوب- يردع النفوس عن الإفساد في الأرض، فتحفظ النفوس والأموال، وتحفظ من ناحية أخرى بسبب عدم بذلها في مسار يضيعها، فأهل الجاهلية كانوا ولا يزالون يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل آلهة باطلة، لا تضر ولا تنفع، ولا تزال مئات الملايين - إلى اليوم - تذهب في كل عام في سبيل المعتقدات الباطلة. 8 - التوجه بالأعمال إلى الدار الآخرة، هذا بعكس الكفار الذين لا يؤمنون باليوم الآخر- فإنهم لا ينظرون إلى أبعد من موطئ أقدامهم، تصوراتهم وأعمالهم وإرإداتهم محكومة بإطار الحياة الدنيا، أمّا المؤمن فإنه يحقق قول الله {وَابْتَغِ

فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. 9 - العزة، فالإنسان الذي يعرف أصله الطيب، وربَّه الكريم العظيم، وغايته الكبيرة -يشعر بالعزة والكرامة، أمّا الإنسان الذي يظن أن أصله قرد أو جرثومة خبيثة، أو أن إلهه الشمس أو القمر أو البقر، أو أنه خلق عبثًا من غير غاية- فإنه مهين في نفسه، يشعر بالضعة والذلة والهوان، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَال إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. 10 - معرفة شيء من العوالم غير المنظورة كالملائكة والجن والجنَّة والنار وهي كلها من عالم الغيب. 11 - الحياء من الكرام الكاتبين الذين يراقبون أعمال العباد ويسجلون عليه صغير أعماله وكبيرها، ثم يودع ذلك في كتاب يعرض على العبد في يوم القيامة. 12 - العلم بعظمة الله وقوته وسلطانه وجبروته من خلال التعرف إلى صفاته، ومعرفة مخلوقاته العظيمة كالملائكة.

الفصل التاسع المؤلفات في العقيدة

الفصل التَاسع المؤلفات في العقيدَة المؤلفات في العقيدة كثيرة في القديم والحديث، وبعض هذه المؤلفات تعتبر مؤلفات شاملة تناولت كل مسائل الاعتقاد، وبعضها تناول قضية من قضاياه. وأحب أن أنبه في هذا المجال على أمرين: الأول: أن تراثنا العقائدي فيه الغث والسمين، والمشوب والخالي من الشوائب فلكل فرقة من الفرق الإسلامية كتبها العقائدية التي شحنتها بانحرافاتها وضلالها، والكتب العقائدية الصافية هي تلك التي كتبت على طريقة السلف الصالح، والتي تمثل خط أهل السنة والجماعة. الثاني: ينبغي أن يعلم أن مراد كثير من السلف الذين ألفوا في العقيدة هو بيان منهج أهل السنة والجماعة في مسائل الاعتقاد التي اختلف فيها، وضل فيها من ضل من المسلمين، وبالتالي فإن المؤلفات في العقيدة إنما هي ضوابط تعصم من الضلال والانحراف وتبين المنهج السليم الخالي من الزيغ، ولا غنى لطالب العلم عن دراسة هذه القواعد والضوابط. أمّا دراسة العقيدة دراسة تفصيلية وافية فهذا مجاله الكتاب والسنة وقد اتجه بعض العلماء في الحديث إلى تجلية مسائل الاعتقاد من خلال الكتاب والسنة. ومن أفضل كتب العقيدة التي ألفت على منهج السلف الصالح تلك التي كتبها أبو جعفر الطحاوي الحنفي المتوفى في سنة 321 هـ، وقد شرحها الشيخ علي بن

محمد بن أبي العز الحنفي شرحًا وافيًا، وقد صدر عن دار النذير في الديار العراقية مختصر لطيف لهذا الشرح، عنون له باسم "مختصر شرح العقيدة الطحاوية" ولشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ باع طويل في كتابة في مسائل العقيدة، ومن راجع قسم العقيدة من كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام الذي جمعه ابن قاسم وطبع على نفقة المملكة العربية السعودية وجد فيه علمًا جمًّا، ومن مؤلفات شيخ الإسلام في هذا الباب كتاب: الفتوى الحموية الكبرى، والعقيدة التدمرية، والعقيدة الواسطية، وقد شرح الواسطية شرحا لطيفا مختصرًا الشيخ محمد خليل الهراس، رحمه الله تعالى. وللشيخ موفق الدين ابن قدامة كتاب في العقيدة سماه لمعة الاعتقاد ـ ولأبي عثمان إسماعيل الصابوني المتوفى سنة 449 هـ مؤلف صغير الحجم عنون له بـ "عقيدة السلف وأصحاب الحديث". وللسفاريني عقيدة شرحها بنفسه في مجلد ضحم وقت بعقيدة السفاريني. وللشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى كتاب "الإبانة عن أصول الديانة" ومن المُحْدثين الذي ألفوا في باب العقيدة الشيخ أحمد بن حجر آل طامي له كتاب: "تطهير الجنان"، وكتاب: "عقائد السلف". وقد اتجه بعض المعاصرين إلى تجلية العقيدة من خلال الكتاب والسنة النبوية وقد وفقني الله لإصدار سلسلة تحت عنوان: العقيدة الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة، صدر منها عدة أجزاء. ومن المؤلفات الحديثة الحسنة في باب العقيدة ما كتبه الأستاذ سيد قطب، وما كتبه الشيخ يوسف القرضاوي، وما كتبه الشيخ عبد المجيد الزنداني، وما كتبه الدكتور محمد نعيم ياسين وقد خص بعض العلماء

بعض مسائل الاعتقاد بالتأليف، فابن خزيمة ألف كتابًا في التوحيد، وكذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1206 هـ له كتاب في "التوحيد" يحسن بكل طالب علم يروم تصحيح عقيدته أن يدرسه دراسة متبصر، فإنه فريد في بابه، وقد شرحه شرحا وافيا حفيد المؤلف الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1233 هـ، وقد عنون لهذا الشرح بـ "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد". وقد ألف العلامة الشوكاني رسالة لطيفة في مسائل الصفات جلى فيها مذهب السلف، وعنوانها: التحف في مذاهب السلف. وللشيخ محمد الأمين الشنقيطي رسالة صغيرة في باب الأسماء والصفات نافعة جدًّا، وقد طبعت بعنوان "منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات"، وقد جمع الحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 هـ النصوص الدالة على علو الله على خلقه في مجلد عنون له بـ"العلو للعلي الغفار". وكتب ابن تيمية رسالة في مسألة القدر، ولتلميذه ابن القيم في هذا الموضوع كتاب أسماه: "شفاء العليل" وقد خصص الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ القسم الأخير من كتابه الشهير بالبداية والنهاية للحديث عن أشراط الساعة واليوم الآخر، وقد طبع في مجلدين كبيرين. وكتب بعض المعاصرين كتبًا في بيان فساد المذاهب المعاصرة، فقد كتب العقاد كتاب: الشيوعية والإنسانية، وكتب عبد الله عزام كتاب: السرطان الأحمر، وكتب سفر عبد الرحمن كتاب العلمانية، وكتب عماد الدين خليل كتاب تهافت العلمانية، وكتب أنور الجندي كتاب: الدهرية، وكتب مسعود الندوى كتاب: الاشتراكية وموقف الإسلام منها.

الباب الثاني الآداب الشرعية ومكارم الأخلاق

البَاب الثَّاني الآداب الشرعيَّة وَمكارم الأخلاق ويشتمل على ثلاثة فصول: الأول: الآداب الشرعية وذكر نماذج منها. الثاني: مكارم الأخلاق وذكر نماذج منها. الثالث: المؤلفات في الأخلاق.

الفصل الأول الآداب الشرعية

الفَصل الأول الآداب الشرعية أدب الله عباده بآداب كثيرة، وهذه الآداب حلية المسلمين تزين نفوسهم الباطنة، وأفعالهم الظاهرة، وآداب النفوس الباطنة هي مكارم الأخلاق، وآداب النفوس الظاهرة تتحقق "باستعمال ما يحمد قولًا وفعلًا ... ، والأدب مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه" (¬1) وسنشير إشارات موجزة، إلى أهم الآداب الشرعية التي تتعلق بالأقوال والأفعال، ثم نتحدث بعد ذلك عن الأخلاق. المَبحَث الأول برُّ الوالدين أمرنا الله أن نبر آباءَنا، وجعل حق الوالدين في مرتبة تالية لحقه، فالوالدىن هما السبب الذي شاء الله أن يوجدنا من خلاله، وقد عانيا في سبيل ذلك عناءً كبيرًا، ولاقيا صعابًا جمة، وخاصة الأم التي حملت وليدها كرهًا ووضعته كرهًا، وقد أمرنا بإكرامهما، وتنفيذ رغباتهما، وخفض الجناح لهما، والدعاء لهما {وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23، 24]. ¬

_ (¬1) فتح الباري: 10/ 400.

المبحث الثاني صلة الأرحام

{وَوَصَّينَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَينِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]. وجاءَت الأحاديث النبوية موافقة للنصوص القرآنية، فقد سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الأعمال إلى الله، فجعل الصلاة على وقتها في المرتبة الأولى، وبر الوالدين في المرتبة الثانية، والجهاد في سبيل الله في المرتبة الثالثة (¬1)، وعد عظائم الذنوب، فجعل عقوق الوالدين أحدها، "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قبنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، ... وقول الزور (¬2) "فإذا تعارض حق الوالدين وحق الله، بأن كان الأب مشركًا، يأمر ولده بالكفر، أو كان مسلمًا يأمر ولده بالمعصية، فلا طاعة للوالد، وحق الله أعظم، ودعوتهما إلى الشرك والمعصية لا تمنع برهما بالمصاحبة الحسنة في الدنيا {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15]. المبحَث الثاني صلة الأرحَام الأرحام: الأقارب، وهم من بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا محرم أم لا (¬3) وقد حذرنا الله من قطيعة الرحم، فقال {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا ¬

_ (¬1) الحديث في صحيح البخاري، انظر فتح الباري: 10/ 400. (¬2) صحيح البخاري: فتح الباري: 10/ 405. (¬3) فتح الباري: 10/ 414.

اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ومن النصوص الآمرة بصلة ذوي القربى، قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى} [البقرة: 83]. {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]. {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38]. وقد يظن كثير من الناس أن صلة الرحم تذهب الأوقات والأموال، فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الأمر على خلاف ما يظنون، ففي الحديث الذي يرويه أنس بن مالك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه (¬1) "، وفي الحديث أن الله قال للرحم: "أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك قالت: بلى يا رب، قال فهو لك (¬2) "، وفي الحديث الآخر "إن الرحم شُجْنَة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته" ومن قطعك قطعته (¬3) ". وتكون صلة الرحم بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، والإنفاق على القريب، وتفقد أحوال الأقارب، والتغافل عن زلاتهم، والدعاء لهم، والمعنى الجامع: إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارًا أو فجارًا، فيوصلون إذا كانت صلتهم تقربهم إلى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، انظر فتح الباري: 10/ 415. (¬2) صحيح البخاري، فتح الباري: 10/ 417. (¬3) صحيح البخاري، فتح الباري: 10/ 417.

المبحث الثالث الإحسان إلى الجار

الإسلام، فإن أصروا على باطلهم فمقاطعتهم صلتهم، وهذا لا يمنع من الدعاء لهم بالصلاح والهداية. المَبحث الثالث الإحسَان إلى الجَار قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. وفي الحديث: الذي يرويه البخاري وغيره "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". والإحسان إلى الجار يكون بكف الأذى عنه، ففي الحديث: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه (¬1) "، ثم بالإحسان إليه، بحسب الطاقة، بأن يُهْدِي إليه، ويسلم عليه، ويلقاه طلق المحيا، ويتفقد أحواله، ويعاونه فيما يحتاج إليه، كل ذلك بحسب الطاقة. المَبحث الرابع الإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السَبِيل قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيرٍ فَلِلْوَالِدَينِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215]. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: 10/ 443.

المبحث الخامس النهي عن السخرية والظن والتجسس والغيبة

وقال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]. وقال: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الروم: 38]. وفي الحديث "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار، ويقوم الليل (¬1) "وفي الحديث الآخر: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا, وقال بأصبعيه السبابة والوسطى (¬2) ". المبحث الخامس النهي عن السخرية والظن والتجسس والغيبة المتكبر في نفسه يصاب بأمراض كثيرة، منا السخرية، وهمز الناس، ولمزهم، وذلك أنه يظن في نفسه الكمال، وواقع الأمر أن فيه نقصا، فتراه يتصيد عيوب الناس، ويدلل على أخطائهم ليدل على كماله ورفعته، والسخرية: الاستهانة بالآخرين وتحقيرهم، والتنبيه على عيوبهم ونفائصهم على وجه يضحك منه، وقد حرم الله علينا السخرية، ونبه الله عباده إلى أن من تسخر منه قد يكون أفضل منك، وعيب بالمرء أن يسخر بمن هو فوقه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11]. ومن السخرية المحرمة لمز الناس ونبزهم بالألقاب {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: فتح الباري: 10/ 437. (¬2) صحيح البخاري: فتح الباري: 10/ 436.

المبحث السادس جملة من الآداب الشرعية

ولمز الناس وهمزهم، يكون بالسخرية بهم والطعن في أعراضهم وذكر عيوبهم، ونبزهم بالألقاب: أي مناداتهم بألقاب وأوصاف يكرهونها، وقد أشارت الآية إلى أن المسلمين كالجسد الواحد، فمن رمى أخاه أو لمزه أو نبزه بلقب يكرهه فكأنما فعل ذلك بنفسه، لأن الأمة الإسلامية وحدة واحدة. ومما حذر الله منه اتهام الآخرين اتهامات تقوم على الظنون، فإن الظنون تفسد العلائق بين الناس، وتقود إلى مزالق في الأحكام والتصرفات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. ومما حذرنا الله منه التجسس، لمعرفة أسرار الآخرين والاطلاع على عوراتهم {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]. وحذرنا تبارك وتعالى من الجريمة النكراء وهي اغتياب الناس، وعدّ المغتاب بمثابة ذلك الذي يأكل لحم أخيه وهو ميت {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]. "والغيبة ذكرك أخاك بما يكره (¬1) " كذلك عرفها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته وكذبت عليه. المبحَث السادس جملة من الآداب الشرعية والآداب الشرعية كثيرة جدًّا، منها إكرام الضيف، وفي الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" (¬2) ومنها الاستئذان عند الدخول {يَا أَيُّهَا ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) متفق عليه.

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]. ومنها إلقاء السلام ورده {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]. ومنها التسمية في أول الطعام، والحمد في آخره، والأكل باليمين، وقد أدب الرسول - صلى الله عليه وسلم - غلامًا ققال له: "يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك (¬1) "، ومنها أن يحمد العاطس الله، فيقول له من يسمعه يرحمك الله، وهذا هو تشميت العاطس الوارد في الحديث، فيرد عليه العاطس: يهديكم الله ويصلح بالكم، ففي الحديث: "إذا عطس أحدم، فليقل الحمد لله، وليقل أخوه وصاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم" (¬2). ومن الآداب عدم تناجي اثنين دون الثالث، ففي الحديث: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه" (¬3). ورغب الإسلام في عيادة المريض، ففي الحديث: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، قيل يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: جناها (¬4) ". وأرشدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى عدم الشرب والأكل وقوفا، ففي الحديث الذي يرويه أنس رضي الله عنه "نهى أن يشرب الرجل قائما"، قال قتادة. قلنا لأنس: فالأكل؟ قال: "أشرُّ وأخبث" (¬5) أي الأكل قائمًا. ¬

_ (¬1) متفق عليه (¬2) رواه البخاري. (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه مسلم. (¬5) رواه مسلم.

ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب والحرير ففي الحديث: "نهانا عن الحرير والديباج, والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" (¬1). ومما أرشدنا إليه رسولنا المختار عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام, رعاية الأبناء ورحمتهم وتقبيلهم، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقبل الحسن والحسين، وأنكر على من قال له: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم واحدًا فقال له المصطفى: "من لا يرحم لا يرحم" (¬2) والمسلم تتعدى رحمته دائرة الإنسان إلى الحيران، وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك الرجل الذي سقى كلبًا، فشكر الله له فغفر له، فقال الصحابة: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؛ فقال: "في كل ذات كبدة رطبة أجر" (¬3). وأرشد عليه الصلاة والسلام إلى الرفق في معالجة الأمور، وقد قال عليه السلام لزوجه عائشة مؤدبًا ومعلمًا عندما سبت اليهود ولعنتهم: "مهلا يا عائشة, إن الله يحب الرفق في الأمر كله" (¬4) ووجهنا الإسلام إلى التعاون فيما بيننا على البر والتقوى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وشبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترابط الجسد الواحد, "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" (¬5). ¬

_ (¬1) متفقق عليه. (¬2) صحيح البخاري, فتح الباري: 10/ 426. (¬3) صحيح البخاري, فتح الباري: 10/ 438. (¬4) صحيح البخاري, فتح الباري: 10/ 449. (¬5) صحيح البخاري, فتح الباري: 10/ 450.

وحذرنا - عليه السلام - من النميمة، وأخبر أن الذي كان يمشي بالنميمة بين الناس يعذب في قبره (¬1). ورغبنا الإسلام في السعي في حاجات إخواننا، ففي الحديث: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" (¬2). ¬

_ (¬1) الحديث في صحيح البخاري، انظر فتح الباري: 10/ 469. (¬2) صحيح مسلم، انظر شرح النووي لمسلم: 16/ 135.

الفصل الثاني مكارم الأخلاق

الفصل الثاني مكارم الأخلاق تمهيد: تعريف الخلق لغة واصطلاحا: يطلق الخلق في اللغة على: "الدين والطبع والسجية" (¬1)، ويمكننا أن نقول إن العرب تطلقه على تلك الصفات الراسخة في أعماق النفس الإنسانية بحيث تصبح طبعًا وسجية يصعب على المرء مخالفتها وتغييرها. وقد تنبه كثر من العلماء إلى أن الأخلاق صفات النفس الإنسانية الباطنة، يقول ابن منظور: "وحقيقة الخُلُق أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها الختصة بها بمنزلة الخُلُق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة" (¬2)، ويقول الراغب في مفرداته: "الخلَقْ والخُلُق يعني بالفتح وبالضم في الأصل بمعنى واحد، كالشرب والشرب, لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوي والسجايا المدركة بالبصيرة" (¬3) والأخلاق في الاصطلاح لا تبعد عن المعنى اللغوي، فالعلماء يريدون بها تلك الصفات التي تقوم كالنفس على سبيل الرسوخ، ويستحق الموصوف بها المدح أو الذم، (¬4) كما ورد في حديث أشج عبد ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور: 1/ 889. (¬2) لسان العرب، لابن منظور: 1/ 889. (¬3) نقله عنه ابن حجر في فتح الباري: 10/ 457. (¬4) بصائر ذوي التمييز: 2/ 568.

المبحث الأول دعوة الشريعة الإسلامية إلى مكارم الأخلاق

القيس، حيت قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - له: "إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة" (¬1)، وقد يطلق العلماء الخلق ويريدون به التمسك بأحكام العشر. والأخلاق الكريمة تدعو إليها الفطر السليمة، فالبشر كانوا ولا يزالون يعدون الصدق والوفاء بالعهد والجود والشجاعة والصبر أخلاقًا فاضلة يستحق صاحبها الثناء والتكريم، ولا يزالون يعدون الكذب والغدر والجبن أخلاقًا سيئة ترفضها العقول السليمة، وتذم صاحبها، والشريعة جاءَت داعية إلى المعروف من الأخلاق، وتنهى عن المنكر منها. المبحث الأول دعوة الشريعة الإسلامية إلى مكارم الأخلاق الأخلاق قسمان: أخلاق كريمة، وأخلاق ذميمة، وقد جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى تزكية النفوس وتطهيرها حتى تكون كريمة الأخلاق، نبيلة السجايا، مسلم تدع خلقًا كريمًا إلا رغبت فيه، ولا خلقًا ذميمًا إلا حذرت منه، بل إن جميع الأحكام الشرعية تدور مع الأخلاق حيث دارت، فلا ترى حكمًا شرعيًّا يعارض الأخلاق ويصادمها، وحسبك أن الله أثنى على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. ودعا الحق عباده إلى المبادرة إلى رحمته وجنته التي أعدها للمتقين من عباده، وأول صفاتهم تحليهم بالأخلاق الفاضلة الكريمة، من الإنفاق في حال اليسر والعسر وكظم الغيظ والعفو عن الناس {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ¬

_ (¬1) رواه أحمد والنسائي والبخاري في الأدب المفرد، وصححه ابن حبان: فتح الباري: 10/ 459.

عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134]. وعدّ في آية أخرى الأعمال التي تعتبر بحق أعمالًا صالحة في ميزان الخير فعدَّ الأخلاق الفاضلة من الوفاء بالعهد، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس أحد أركانها {لَيسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَال عَلَى حُبِّهِ ذَوي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. وقد رغب الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباع الأخلاق الحميدة, وحذر من كل خلق ذميم, فالخير الحقيقي في ميزان الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخلق الحسن, ففي الحديث: "البر حسن الخلق" (¬1) والخلق سبيل الإرتقاء إلى مدارج الكمال, وفي الحديث: "إن من خيركم أحسنكم خلقا" (¬2) وفي حديث أبي هريرة: "إن من أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقا" (¬3). وحسن الخلق أثقل شيء في الميزان، كما يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ففي الحديث: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق" (¬4)، وصاحب الخلق الطيب، يدرك ¬

_ (¬1) حديث صحيح, رواه مسلم وغيره عن النواس بن سمعان، انظر مسلم بشرح النووي: 15/ 48. (¬2) رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو، انظر فتح الباري: 10/ 452. (¬3) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، انظر فتح الباري: 10/ 458. (¬4) أخرجه البخاري في (الأدب المفرد)، وأبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان: فتح الباري: 10/ 458.

بحسن خلقه منازل العاملين المجدين، ففي الحديث: "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة" (¬1) , وأكثر ما يدخل الناس الجنة الخلق الحسن، ففي الحديث: "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق" (¬2). وأحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقربهم منه مجلسًا في يوم القيامة أحسن المؤمنين خلقا، ففي الحديث: "إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون" (¬3). وبحسن الخلق يسع المرء الناس، فمال المرء لا يسع الناس جميعًا، وفي الحديث: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" (¬4). وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقًا، فهو الأسوة والقدوة صلوات الله وسلامه عليه, وقد بلغ بأخلاقه الكريمة منازل عالية، وحسبك شهادة ربه له {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. ¬

_ (¬1) الترمذي، والبزار، وأبو داود وابن حبان والحاكم، فتح الباري: 10/ 458. (¬2) أخرجه الترمذي وابن حبان وصححاه، وهو عند البخاري في الأدب المفرد، من حديث أبي هريرة، فتح الباري: 10/ 459. (¬3) رواه الترمذي وحسنه، انظر جامع الأصول: 4/ 6، والثرثارون الذين يكثرون الكلام تكلفًا، وخروجا عن حدّ الواجب، والمتفيهقون: الذين يتوسعون في الكلام، ويفتحون به أفواههم، مأخوذ من الفهق وهو الامتلاء، والمتشدقون: الذين يتكلمون بملء أفواههم تفاصحًا، وتحظيمًا لنطقهم، انظر جامع الأصول: 4/ 7. (¬4) رواه البزار بسند حسن عن أبي هريرة، انظر فتح الباري: 10/ 459.

المبحث الثاني المجاهدة في إصلاح الأخلاق وتقويمها

وقد عَرَف خُلُقَه أصحابُه وأعداؤُه على حدّ سواء، وتحدث به الركبان، ولم يجد الخصوم في خلقه مطعنا. وقد وصف لنا الصحابي الجليل أنس بن مالك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عالما به حق العلم، فهو خادمه الذي لازمه عشر سنين، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس" (¬1). وانظر إلى هذه الصورة الرائعة التي ينقلها أنس عن خلق الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، والله ما قال لي أفًّا قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا" (¬2). وكما أثنى الله على الأخلاق الفاضلة وأهلها، حذر من الأخلاق الذميمة وأهلها، ففي محكم التنزيل {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} [القلم: 10 - 13]. ومما وصى به لقمان ابنه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. المبحث الثاني المجاهدة في إصلاح الأخلاق وتقويمها ذهب بعض الباحثين والفلاسفة إلى أن الأخلاق غرائز في النفس الإنسانية لا تقبل تقويمًا ولا تعديلا، وقد استغل هذه المقالة من ثقلت عليهم مجاهدة نفوسهم، ¬

_ (¬1) رواه مسلم: شرح النووي على مسلم: 15/ 48. (¬2) رواه مسلم: شرح النووي على مسلم: 15/ 51.

وذهبوا يبررون ما أقاموا عليه من ذميم الأخلاق بأنه ليس في وسعهم تغيير ما غرس فيهم من الأخلاق الذميمة، والصواب من القول أن من الأخلاق الكريمة ما يطبع عليه صاحبه، فهذا يحمد الله على ما آتاه الله من فضيلة، ومن الأخلاق الكريمة ما ينال بالاكتساب والمجاهدة، وقد وقع في حديث أشج عبد القيس عند أحمد والنسائي والبخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة، قال: يا رسول الله، قديما كانا فيَّ أو حديثًا؟ قال: قديمًا، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما" (¬1)، قال ابن حجر العسقلاني معقبا على الحديث: "فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب" (¬2)، وقد نقل ابن حجر مقالة القرطبي في هذا الموضوع حيث يقول: "الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محمودا، وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفًا فيرتاض صاحبه حتى يقوى" (¬3). والأدلة على أن الأخلاق قابلة للتعديل والتقويم كثيرة منها: الأول: الرؤية والمشاهدة، فنحن نشاهد الجبان تحول بالمجاهدة والتدريب إلى شجاع، كما نرى الكذوب بالتربية والتعليم أصبح صادقًا، وكم رأينا من رجال ساءت أخلاقهم عندما خالطوا الأشرار، وكم من رجال حسنت أخلاقهم عندما هدوا إلى الإيمان والأعمال الصالحة وعاشروا عباد الله الصالحين. الثاني: أننا نرى دائما حيوانات تغيرت طباعها، بالتدريب والتعليم، فقد حدث ¬

_ (¬1) فتح الباري: 10/ 459. (¬2) فتح الباري: 10/ 459. (¬3) المصدر السابق

أن دُرِّب الهرُّ حتى عاش مع الفأر، والكلب مع الهر، ودربت القردة على أمور كثيرة عجيبة، فإذا أمكن تقويم طماع الحيوان، فالإنسان من باب أولى. الثالث: جاءت جميع الشرائع داعية إلى مكارم الأخلاق ناهية عن ذميمها، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلا بِاللَّهِ} [النحل: 127]. وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. فلو كان تقويم الأخلاق وتهذيبها غير مستطاع فإن دعوة الشرائع إلى ذلك يكون عبثًا لا طائل تحته، وكل عاقل يعلم أن الله ما أمر إلا بالممكن المستطاع، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]. {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. الرابع: صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشرَّ يوقه"، رواه الخطيب عن أبي هريرة وسنده حسن، (¬1) ويمكن أن يستدل أيضًا بحديث أشج عبد القيس وقد سبق ذكره، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يطلب من ربّه الهداية لأحسن الأخلاق، فمن دعائه في استفتاح الصلاة: "واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئهما إلا أنت" (¬2) ¬

_ (¬1) انظر تحقيق "تهذيب موعظة المؤمنين": 2/ 5. (¬2) رواه النسائي بإسناد صحيح (انظر صفة صلاة النبي: ص 74).

المبحث الثالث أصول الأخلاق الكريمة

المَبحث الثالث أصول الأخلاق الكريمة أعاد محمد بن يعقوب الفيروز آبادي جميع الأخلاق إلى أربعة وهي: الصبر، والعفّة، والشجاعة، والعدل. والسرّ في ذلك أن الصبر يحمل صاحبه -كما يقول الفيروز آبادي- على الاحتمال وكظم الغيظ وإماطة الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وعدم الطيش، والعجلة. والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبيح من القول والفعل، وتحمله على الحياء وهو ركن كل خير، وتمنعه من الفحش والبخل والكذب والغيبة والنميمة. والشجاعة تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم، فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ويكبحها بلجامها عن السطوة والبطش، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب"، وهذه هي حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها على قهر خصمه. والعدل -كما يقول الفيروز آبادي- يحمل صاحبه على اعتدال أخلاقه، وتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء، الذي هو توسط بين الإمساك والتقتير، وعلى خلق الحياء الذي هو توسط بين الذلة والقحة، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة، والتوسط منشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة. (¬1) ¬

_ (¬1) بصائر ذوي التمييز: 1/ 569.

المبحث الرابع نماذج من الأخلاق المأمور بها أو المنهي عنها

المبحث الرابع نماذج من الأخلاق المأمور بها أو المنهي عنها 1 - الصدق: الصدق طريق الفلاح والنجاح، والكذب طريق السقوط والضلال، بهذا جاءنا ديننا، والواقع يصدقه، وإن ظن بعض الناس خلاف ذلك فقد أخطؤوا، فالذي يظن أن الكذب منجاة وأن الصدق مهلكة لم يعرف الحق أبدًا، وقد بين هذه الحقيقة الحبيب المصطفى في الحديث الذي يرويه عنه أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود حيث يقول: "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا" (¬1)، وحسبك بالصادقين أن الله أثنى عليهم في محكم التنزيل {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]. وذم الذين أخلفوا الله ما عاهدوه عليه {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 75 - 77]. والصدق كما يكون في الحديث والوعد والعهد، يكون كذلك في العزم بأن ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري.

يفعل ما عزم على فعله عندما يأتي وقت الفعل، كمن عزم على الصدقة، ويكون أيضًا في الفعل، ويتحقق الصدق بالفعل بأن يجاهد نفسه حتى يكون عمله الظاهر صورة لنفسه الباطنة، فلا يرائي الناس بعلمه. والصادق محبوب إلى عباد الله، مؤتمن على الأموال، مقبول الشهادة، موثق الأقوال، بعكس الكاذب، فإن الناس لا يصدقون قوله، ولا يقبلون شهادته، ولا يأتمنونه على أموالهم. 2 - التواضع: إذا نظر الإنسان إلى أصله الذي خلق منه، وإلى الكون الذي نشأ فيه، وإذا عرف الإله العظيم الكبير الذي أنشأه وأنشأ الكون من حوله - فإنه لا بدَّ وأن يتواضع لعظمة الله وكبريائه، وسيتبدى هذا التواضع في كلمته التي ينطق بها، وفي حركته التي يدب بها فوق ظهر الأرض، استمع إلى الحق يصف حركة عباد الرحمن في مشيتهم {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]. ولا يأتي الكبر إلّا من جهل الإنسان بنفسه، وبالله الذي خلاقه، فالذي يتكبر به الإنسان عرض زائل وعارية مسترجعة: المال يذهب، والسلطان يزول، والجمال يذوي، والحياة لا تدوم، والله وحده الحى القيوم الذي لا يحول ولا يزول {كُلُّ مَنْ عَلَيهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26 - 27]. والمستكبر يضع نفسه في مكانة لا يستحقها، فهو ينازع الله في صفة من صفاته، والله لا يرضى من عباده شيئًا من ذلك، ففي الحديث القدسي: "يقول

الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم، ولا أبالي" (¬1) والمتكبر يمنعه كبره من الاستفادة من حملة الحق والهدى، فيخسر كثيرا {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]. وهم يخسرون في الآخرة أنفسهم، لأن من اتصف بالكبر يذله الله، ويدخله جهنم وبئس القرار، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. وإذا كانت سنة الله في المتكبرين أن يذيقهم الذل والهوان، فشأنه في المتواضعين أن يعزهم ويكرمهم، ففي الحديث: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه" (¬2)، والتواضع كما يقول الفضيل بن عياض: "أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته، ولو سمعته من جهال الناس قبلته" (¬3)، والكبر بخلاف ذلك، ففي الحديث: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" (¬4). 3 - الحياء: يتصف كل أهل دين بخلق أكثر مما يتسمون بغيره, فخلق اليهود الذي يتسمون به الخوف، والنصارى المحبة، وأهل هذا الدين خلقهم الذي يتميزون به خليط من الخوف والحب، ألا وهو الحياء، فقد روى مالك في موطئه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء". ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم. (¬3) تهذيب موعظة المؤمنين: 2/ 110. (¬4) رواه مسلم، ومعنى غمط الناس: الازدراء بهم واحتقارهم.

والخلق دافع إلى الفضائل، ناه عن الرذائل، فالذي يستحيي من الله، يسارع إلى طاعته، ويبتعد عن معصيته، ويعبده حق عبادته، وفي سنن الترمذي: "استحوا من الله حق الحياء"، وفي الحديث أيضًا: "الحياء لا يأتي إلا بخير" متفق عليه، والحياء من الإيمان، ففي الحديث: "الإيمان بضع وسبعون، أو قال: بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلّا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطويق، والحياء شعبة من الإيمان"، متفق عليه. وفي الحديث الآخر، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرجل مر عليه كان يعظ أخاه في الحياء: "دعه فإن الحياء من الإيمان"، متفق عليه، وإذا كان الحياء دافعًا لكل خير، فالتجرد من الحياء يرفع الضوابط والقيود التي تمنع من ارتكاب الموبقات، والوقوع في الزلات، وفي الحديث: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" رواه البخاري. ولكن لا ينبغي أن يمنع المرءَ حياؤُه من فعل الخيرات، والنهي عن المنكرات، والاستفصال عن أمور الدين، وقد قالت أم سليم للرسول - صلى الله عليه وسلم - "يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء" رواه البخاري. 4 - الإيثار: الإيثار تفضيل الغير على النفس في الخير، وهو درجة عالية لا تصل إليها إلا النفوس الكبيرة، ولقد تبدت هذه الصفة عند الرعيل الأول في صورة رائعة، وقد شهد لهم الحق تبارك وتعالى ببلوغ هذه المرتبة السامية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

فقد روى أبو هريرة أن رجلًا جاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إني لمجهود، قلم يجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند نساءه ما يكرم به الضيف، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: من يضيف هذا الليلة؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء، وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا، فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، ... فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لقد عجب الله من صنيعكما الليلة بضيفكما" متفق عليه. أي خلق كريم هذا! وأية نفوس هذه! إن هذا شيء فوق الكرم والجود، وقد أثنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الأشعريين قوم أبي موسى الأشعري، فقال: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، وقل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسويّة، فهم مني وأنا منهم" متفق عليه. ومن درس أخبار المسلمين إثر الهجرة ورأى ما استقبل به الأنصار المهاجرين، وما أكرموهم به يعلم صدق قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. 5 - أداء الأمانة والوفاء بالعهد: كيف يتصور حال مجتمع ما، لا تؤدى فيه الأمانة، ولا يفي فيه الناس بعهودهم! ! إن الناس في مثل هذه المجتمعات تنعدم ثقة بعضهم ببعض، ويصبح

الناس فيه أقرب إلى الحيوانات التي لا يهمها سوى إشباع نهمها، وتلبية حاجاتها، ولو كان في ذلك تعاسة الآخرين، ولذلك فليس عجيبًا أن يأتي سيل من النصوص آمرًا بأداء الأمانات والوفاء بالعهود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]. {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وعدّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكذب في الحديث، والخلف بالوعد، وخيانة الأمانة، من علامات النفاق، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان"، متفق عليه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة فهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" متفق عليه. 6 - البخل: مدح الله الذين زكوا أنفسهم بتخلصهم من الشح فقال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16].

وأكذب ظن البخلاء الذين يظنون أن البخل بالمال خير، وأخبرهم بالجزاء الرهيب الذي ينتظرهم في يوم القيامة حيث سيعذبون بما جمعوه {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]. والشح مهلك للمجتمعات، فمن أجله سفكت الدماء، واستحلت المحارم، روى مسلم في صحيحه قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم"، ولما كان مال الإنسان حبيبًا إلى نفسه أثيرًا عنده، فقد جاءَت النصوص واعدة بالثواب الجزيل والأجر الكبير على بذله وإنفاقه في المجالات التي يحبها الله تبارك وتعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]. {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 133 - 134]. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 5 - 7]. 7 - الحسد: الحسود إنسان حقود لجوج، تشقيه سعادة الآخرين، ويؤلمه ما يصيبهم من

نعم، فلا يرى على عبد نعمة إلا وتمنى زوالها، أو تمنى أن تصير إليه، وقد يعقب الأماني السعي في ذلك، والحسد قلما يشفى منه صاحبه، ولذا أمرنا الله بالاستعاذة من الحاسد وحسده {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق: 1 - 5]. والحسد أول خطيئة عصى الله بها، فالذي منع إبليس من السجود لآدم الحسد، {قَال أَنَا خَيرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]. واليهود كفروا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به حسدا، ولم يكتفوا بذلك، بل أعملوا مكرهم في رد المؤمنين عن دينهم {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]. وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته عن ما يفرق المؤمنين، ويقطع وشائج أخوتهم، ويزرع الأحقاد بينهم، وفي طليعة ما يوجد ذلك الحسد، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا (¬1) ". وليس من الحسد أن يتمنى المرءُ نعمة مثل النعمة التي أعطيها عبد ما، فذلك هو الغبطة، وليس من الحسد، ففي الصحيحين عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، قال ابن رجب بعد ¬

_ (¬1) انظر الحديث وشرحه في جامع العلوم والحكم لابن رجب: ص 307.

الفصل الثالث المؤلفات في الأخلاق

أن ساق هذا الحديث وهذا هو الغبطة، وسماه حسدًا من باب الاستعارة" (¬1). وإذا تفكر العبد دائمًا في نعم الله عليه، وما وهبه إياه، ونظر إلى من هو دونه في الدنيا، كان ذلك أبعد عن الحسد وأقرب للشكر. الفصل الثالث المؤلفات في الأخلاق كتب الأستاذ محمد الغزالي كتاب خلق المسلم، والأستاذ المودودي كتاب نظرية الإسلام الخلقية، ولمحمد عبد الله دراز كتاب في الأخلاق أسماه: دستور الأخلاق في الإسلام، وقد تقدم بهذا الكتاب لنيل إجازة الدكتوراه من السوربون في فرنسا، وقد جمع فخر الدين الحسيني الآيات والأحاديث التي تتعلق بالأخلاق، ورتبها وجعلها في كتاب سماه تهذيب الأخلاق، ومن الكتب الحسنة في هذا الباب كتاب من أخلاق الرسول لعبد المحسن العباد، ولأبي حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين كلام حسن عن الأخلاق. ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم: ص 309.

الباب الثالث الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي

البَاب الثالث الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي ويشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول: تعريف الفقه، والفرق بينه وبين الشريعة ومساره عبر القرون. الفصل الثاني: الأسس التي بنيت عليها الشريعة الإسلامية. الفصل الثالث: المؤلفات في الفقه. الفصل الرابع: مصادر الأحكام الشرعية.

الفصل الأول تعريف الفقه

الفصل الأول تعريف الفقه الشريعة عَلَم على جمع ما أنزله الله من أحكام كما سبق بيانه، إلا أن بعض العلماء المتأخرين جعلوا الشريعة علمًا على الأحكام العملية دون غيرها، وقد قلنا من قبل إن اصطلاح القرآن على خلاف هذا، والاصطلاح الذي وضعه العلماء للأحكام العملية هو: "الفقه، أو علم الفروع"، وسنلم إلمامة سريعة بهذا العلم، كما سنعرض باختصار للأصول التي قام عليها. مدار الفقه في لغة العرب على الفهم والعلم، قال موسى في دعائه لربه {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه: 27 - 28]. وقال قوم شعيب في خطابهم لنبيهم {قَالُوا يَاشُعَيبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]. وبعد مجيء الإسلام غلب اسم الفقه على "علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم، كما غلب النجم على الثريا والعود على المندل" (¬1). وقد كان اسم الفقه شاملًا للدين كله، فالفقه فقه الكتاب والسنة, لا فرق في ذلك بين العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والأخبار، يقول ابن عابدين: "المراد بالفقهاء: العالمون بأحكام الله تعالى اعتقادًا وعملًا، لأن تسمية علم الفروع فقهًا حادثة، ويؤيده قول الحسن البصري: إنّما الفقيه المعرض عن ¬

_ (¬1) لسان العرب: 2/ 1119، بصائر ذوي التمييز: 4/ 290.

أقسام موضوعات الفقه الإسلامي

الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينة، المداوم على عبادة ربّه، الورع، الكاف عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم" (¬1). وقد خص المتأخرون علم الفقه بفروع الدين دون أصوله كما علمت من عبارة ابن عابدين، وقد عرفوه بقولهم: "هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية" (¬2). فالتعريف كما ترى قصر الفقه على العلم بالأحكام الشرعية العملية، أي التي تتعلق بكيفية عمل، دون تلك التي تتعلق، بالاعتقاد أو الأخلاق. والفقيه -كما يشعر التعريف- هو الذي يأخذ الأحكام من الأدلة التفصيلية، وهي نصوص الآيات والأحاديث، دون الذي يحفظها من غير معرفة بأدلتها. أقسام موضوعات الفقه الإسلامي أغلب الفقهاء يقسمون الفقه إلى قسمين: عبادات ومعاملات، ومنهم من يزيد قسمًا ثالثًا هو العقوبات، ومنهم من يزيد قسمًا رابعًا: هو المناكحات، والأولون يدخلون العقوبات والمناكحات في المعاملات. وقد بحث الفقهاء في قسم العبادات: الطهارة والمياه، النجاسات، الوضوء، الغسل، التيمم، الحيض، النفاس، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، الإيمان النذور، الجهاد، الأطعمة الأشربة، الصيد الذبائح. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 1/ 26، 1/ 33 المطبعة المصرية، الأولى 1272 هـ. (¬2) الأحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 5.

الفرق بين الشريعة والفقه

وأهم مباحث المعاملات: الزواج، الطلاق، العقوبات، البيوع، القرض، الرهن، المساقاه، المزارعة، الإجارة، الحوالة، الشفعة، الوكالة، العاريّة، الوديعة، الغصب، اللقيط، الكفالة، الجعالة، الشركات، القضاء، الأوقاف، الهبة، الحجر، الوصية، الفرائض. الفرق بين الشريعة والفقه يمكننا أن نوجز الفرق بينهما في أربع نقاط: 1 - الشريعة تنزيل من الحكيم الخبير، والفقه فهم العلماء لدين الله وشريعته. 2 - الشريعة صواب كلها، والفقه قد يخطئ في بعض الأحيان. 3 - الشريعة تشمل العقائد والأحكام، والفقه خاص بالأحكام العملية. 4 - الشريعة كاملة لا نقص فيها، وهي لازمة للناس جميعًا، والفقه ليس كذلك، فما وافق الشرع فهو ملزم، وإلا فإنه ملزم للمجتهد ومن اقتنع برأيه. مسار الفقه عبر القرون الفقه عند المسلمين هو القانون الذي يحكم تصرفاتهم وأعمالهم في جميع الأحوال، وقد كان الفقهاء هم الذين يعلمون هذه الأحكام من الكتاب والسنة، وقد تكون هذه الأحكام منصوصة لا تحتاج إلى إعمال فكر ونظر، وقد تحتاج إلى إعمال فكر ونظر، لأن دلالة النصوص على الأحكام خفية، تحتاج إلى استنباط أو قياس. وقد حفظ لنا التابعون اجتهادات الصحابة كما حفظ أتباع التابعين أقوال الصحابة والتابعين، وعندما ابتدأ تدوين العلوم بعد القرن الأول دونت أقوال

الصحابة مع أقوال التابعين وتابعيهم، وكان تدوين هذه الأقوال مختلطًا بالسنة، ثئم دون الفقهاء كتب الفقه مجردة عن السنة، إلا أن هذه الكتب كانت مسائلها مدعمة بالنصوص من الكتاب والسنة، وبعض هذه الكتب عرضت مسائل الفقه مجردة عن الأدلة. وقلت عناية الفقهاء بالأدلة من الكتاب والسنة بعد القرن الرابع الهجري، وكثر الاهتمام بأقوال أئمة الفقه، ومع امتداد الزمان أغرق المسلمون في التقليد، وأصبح كثير من الفقهاء ينظرون إلى أقوال أئمتهم نظرتهم إلى نصوص الشريعة، وزاد الطين بلة أن المتأخرين أهملوا النظر في كتب أئمة المذاهب وتلامذتهم، وعكفوا على كتب المتأخرين، وهذه الكتب اهتم مدونوها فيها باختصار كتب الأوائل اختصارًا جعلها إلى الألغاز أقرب. ولا نزال حتى اليوم نرزح تحت بلاء التقليد الأعمى الذي لا يأبه بالدليل، وإن كانت هناك بوادر خير، حيث أقبل كثير من طلبة العلم على دراسة الكتاب والسنة، وهم مع ذلك لا يهملون فقه الأئمة.

الفصل الثاني الأسس التي بنيت عليها الشريعة الإسلامية

الفصل الثاني الأسس التي بنيت عليها الشريعة الإسلامية قامت هذه الشريعة المباركة على أسس كثيرة، استقرأها العلماء من نصوص الكتاب والسنة، ونحن سنكتفي بثلاثة منها في هذا الكتاب: أولًا: اليسر ورفع الحرج: هذه الصفة بينة واضحة في جميع أحكام هذه الشريعة، وكونها ميسرة لا حرج فيها هو نتيجة منطقية لسعتها وكمالها، وقد نص الله على هذا المعلم في أكثر من موضع في كتابه الكريم {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. وقد بلغ اليسر في الشريعة إلى درجة التخفيف من الواجبات عند وحود الحرج، والسماح بتناول القدر الضروري من المحرمات عند الحاجة، فالذي لا يستطيع استعمال الماء لعدم القدرة عليه أبيح له التيمم {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. والمريض والمسافر يباح لهما الفطر {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].

وقال في حق الذي لا يجد قوتا حلالا: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيهِ} [البقرة: 173]. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمريض: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬1). وكان من معالم اليسر في هذا الدين المبارك أن أباح الله لنا الطيبات، ولم يحرم علينا طعامًا ولا شرابًا إلا إذا كان خبيثًا، وإباحة الطيبات كلها هو مقتضى رفع الله تلك الآصار التي حملها الأمم من قبلنا، فقد وضع الله على الذين هادوا آصارًا وأغلالًا بسبب تمردهم على ربهم {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 - 161]. {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيهِمْ شُحُومَهُمَا إلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَو الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَينَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146]. لقد جاء النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر الله في الكتب السابقة وفي القرآن ليرفع عن البشرية الآصار والأغلال التي حملتها الأمم عبر القرون، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَال الَّتِي كَانَتْ عَلَيهِمْ} [الأعراف: 157]. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب تقصير الصلاة 19، وانظر فتح الباري: 2/ 587.

لفد كان الوحي وهو يتنزل يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه بمنهج اليسر، ويقوم معوجَّ المسلمين في هذا الجانب، ويسددهم حين يكون الانحراف. وقد فقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا المنهج الذي أراده الله بهذه الأمّة، فقام على تحقيقه في نفسه وفي الآخرين، فكانت حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسوا كلها, كيف لا، وقد وعده الله بأن يكون كذلك، {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8]. إن الناظر في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعجب لذلك اليسر المدهش الذي كان يأخذ به نفسه في عبادته ودعوته وتعامله مع أصحابه وأعدائه، كان يصوم من الشهر حتى يقول القائل لا يفطر، ويفطر من الشهر حتى يقول القائل لا يصوم، وإذا وجد طعاما أكل، وإذا وجد شرابًا: عسلا أو غيره شرب، وإلا صبر، يدعى فيستجيب، ويسأل فيعطى، في كلمات قليلة يعالج أمراضًا نفسية استحكمت في النفوس، وفي بساطة وسهولة يقيم الحجّة على الخصوم، وبالطريقة نفسها كان يقود المجتمع المسلم، ويقود الجيوش. وكان يرقب الرسول - صلى الله عليه وسلم - صحبه الكرام، فإذا رأى منهم ميلًا إلى التعسير ردهم إلى التيسير، وأرشدهم إلى الأخذ بالرفق، وقد وجههم توجيها عامّا إلى هذا انمهج المبارك، فقد ثبت عنه في صحيحي البخاري ومسلم قوله: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا (¬1) "، "ودخل المسجد يوما، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد" رواه البخاري والنسائي (¬2)، وهكذا يرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - زوجه إلى اليسر، إذا أتعبها طول القيام في صلاة الليل، فلا حرج عليها أن تصلي قاعدة، ودخل يومًا على زوجه ¬

_ (¬1) جامع الأصول: 1/ 309. (¬2) جامع الأصول: 1/ 311.

ثانيا: العدل

عائشة، وعندها الحولاء بنت تويت، وكانت تذكر من عبادتها، وأنها لا تنام الليل، فردها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المنهج الوسط قائلا: "مه، عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وكان أحب الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه"، رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ والنسائي (¬1). إن التشديد على النفوس بالعبادة والطاعة نهج أخذ به المتعبدون أنفسهم في الأمم الخالية، ولم يكن منهجا موفقا، ولذلك حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من سلوكه، ففي سنن أبي داود: "لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد عليكم، فإن قوما شَدَّدوا على أنفسهم، فشُدِّد عليهم، كتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم (¬2) ". ثانيا: العدل تتطلع الشعوب دائمًا إلى إيجاد قوانين تتصف بالعدل وتنفي الظلم والجور، وكم يكون مصاب البشر أليمًا عندما يجدون القوانين التي يرجونها لإقرار العدل والإنصاف تقنن الظلم بحيث يكون هو النظام الذي يحكم في رقاب العباد. إننا لا نريد بالعدل هنا تطبيق القاعدة القانونية، فجور القاضي وظلم الحاكم في الحكم بخلاف القانون ليس هو المراد هنا، بل المراد هو اتصاف القانون بالعدل. إنَّ الذين يضعون القوانين البشرية لا يمكنهم أن ينسلخوا من طبائعهم البشرية، ولذلك نراهم يميلون بالقوانين تجاه الفئة الحاكمة، فتعطيها من المصالح والمنافع ما لا تعطي غيرها، وهي في هذه الحالة تقرر الظلم وهي تعلم بذلك، وفي بعض ¬

_ (¬1) جامع الأصول: 1/ 312. (¬2) جامع الأصول: 1/ 310.

الأحيان تضع القوانين الظالمة بسبب جهلها بالحكم العادل الذي يجب أن تقننه، وقد حدثنا الله عن طبيعة الإنسان فقال: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. فواضعو القوانين البشرية بشر فيهم ظلم وجهالة، وبسبب ذلك يقررون كثيرًا من القواعد القانونية التي تتصف بالظلم. القوانين الوضعية اليوم تقرّ الربا، وتبيح الزنا واللواط، وتجيز شرب الخمر، وتمنع من قتل القاتل واقتصاص الإنسان ممن اعتدى عليه، ولا تزال هذه القوانين تخص بعض فئات المجتمع بحقوق دون بقية أفراد المجتمع. وفي كثير من الأحيان يغفو واضع القانون في تقرير العقوبة، فيقرر العقوبة العظيمة للذنب الحقير، وقد يحكم بالعقوبة على غير من ارتكب الجرم، والشريعة الإسلامية ليست من وضع البشر، بل من عند خالق البشر، الذي يتصف بالعدل التام، يقول تبارك وتعالى {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]. ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَال ذَرَّةٍ} [النساء: 40]. ويقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. ويقول: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]. قال: قتادة: "صدقا فيما قال: وعدلا فيما حكم (¬1) "وقال ابن كثير (¬2): "كل ما أخبر الله به فحق لا مرية فيه، ولا شك، وكل ما أمر به فهو العَدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهي إلا عن مفسدة، كما ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 3/ 86. (¬2) المصدر السابق.

ثالثا: حفظ مصالح العباد

قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. وإذا كان منزل الشريعة متصف بالعدل المطلق - فإن شريعته لا بدَّ أن تكون كذلك متصفة بالعدل المطلق، فالأحكام الشرعية هي العدل، والعدل هو الشريعة الإسلامية، فلا تميل القواعد القانونية الشرعية إلى جانب الحاكم ضد مصالح المحكوم، ولا تعطي الرجال حقوقا بحيث تظلم النساء، ولا يمكن أن تخطئ المقدار المناسب للجريمة، لأن واضعها يتصف بالعلم المطلق الشامل سبحانه وتعالى. ثالثا: حفظ مصالح العباد (¬1): يقرر علماء الشريعة بعد استقرائهم لأحكام الشريعة ونصوصها أن مقصد الشريعة الإسلامية تحقيق مصالح العباد على الوجه الأكمل، يقول ابن تيمية: "إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها (¬2) "، ويقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام: "والشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح" (¬3). وقد عالج الإسلام صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه، وبصلاح مجموعه وهم النوع كله، فابتدأ الدعوة إلى إصلاح الاعتقاد الذي هو إصلاح مبدأ التفكير الإنساني، الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم، ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه، لأن الباطن محرك الإنسان ¬

_ (¬1) للتوسع في هذا البحث راجع كتابًا خصائص الشريعة الإسلامية: ص 78. (¬2) منهاج السنة النبوية: 2/ 131. (¬3) قواعد الأحكام: 1/ 11.

رابعا: التدرج في التشريع حين تنزل التشريع

إلى الأعمال الصالحة كما ورد في الحديث: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (¬1). وقد عالج بعد ذلك إصلاح العمل، وذلك بالتشريعات التي أنزلها. رابعا: التدرج في التشريع حين تنزل التشريع: التدرج في التشريع نوعان: الأول: التدرج في تشريع جملة الأحكام، بمعنى أنها لم تشرع كلها مرة واحدة، وإنما شرعت شيئًا فشيئًا، ففي ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة فرضت الصلاة، وفي السنة الأولى من الهجرة شرع الأذان والقتال كما شرعت أحكام من النكاح كالصداق والوليمة، وفي السنة الثانية شرع الصوم وصلاة العيدين ونحر الأضاحي، والزكاة، وحولت فيها القبلة، وأحلت الغنائم للمجاهدين، وفي السنة الثالثة كان تشريع أحكام المواريث وأحكام الطلاق، وشرع قصر الصلاة في السفر وفي الخوف في السنة الرابعة، وفيها شرعت عقوبة الزنا، وأنزل الله أحكام التيمم والقذف، وفرض الحج. وفي السنة السادسة بين الله أحكام الصلح والإحصار، وفيها حرم الله الحمر والميسر والأنصاب والأزلام، وفي السابعة حرمت الحمر الإنسية، وشرعت أحكام المزارعة والمساقاة، وفي السنة الثامنة شرع حدّ السرقة، وفي التاسعة شرع اللعان، ومنع الكفار من دخول مكة، وفي العاشرة حرّم الربا تحريمًا لا خفاء فيه. الثاني: التدرج في تشريع الحكم الواحد، فكثير من الأحكام لم تشرع كما هي ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم، انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب: ص 63.

الفصل الثالث المؤلفات في الفقه

عليه الآن من أوّل الأمر، بل تدرج الشارع في شرعها، فالصلاة مثلًا فرضت ركعتين في أول الأمر، ثم زيدت بعد الهجرة وأقرت في السفر، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة قالت: "فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى". ولم تبين أحكام الصلاة جملة واحدة بل فصل الله ذلك على فترات، وكذلك الزكاة والصيام والجهاد، والخمر لم يحرم مرة واحدة، ولكنها حرمت على أحوال، فقد بين الله أولًا أن إثم شربها أعظم من المنافع التي فيها، ثم حرم تناولها قرب الصلاة، فلا يجوز قربان الصلاة حال السكر، ثم حرمها بعد ذلك تحريمًا قاطعًا. الفصل الثالث المؤلفات في الفقه أمهات كتب الفقه الإسلامي كثيرة منها: كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي، وكتاب المحلى لابن حزم الظاهري، وكتاب المجموع للنووي الشافعي، ولكنه لم يتمه، وكتاب الذخيرة للقرافي المالكي، وحاشية ابن عابدين في فقه الحنفية. ومن أفضل المؤلفات كتاب فقه السنة، ومؤلفه كاتب معاصر هو الشيخ سيد سابق، وقد خص جمع من العلماء آيات الأحكام وأحاديث الأحكام بالتأليف، فمن القسم الأول أحكام القرآن لابن العربي، وأحكام القرآن للجصاص، وأحكام القرآن للقرطبي، وهذا المؤلف مع عنايته بآيات الأحكام إلا أنه لم يهمل بقية الآيات فقد فسر القرآن كله. ومن القسم الثاني كتاب سبل السلام للصنعاني، وكتاب نيل الأوطار للشوكاني، وميزة هذه المؤلفات أنها جعلت النصوص التي تستفاد منها الأحكام

موضعًا للدراسة، بحيث يتمكن الدارس من معرفة الحكم بدليله، وهذا هو الفقه الحق. وقد خص بعض العلماء مسألة من مسائل الفقه بالتأليف دون غيرها، فأبو الحسن الندوي كتب كتاب الأركان الأربعة تحدث فيها عن الصلاة والزكاة والصيام والحج، والشيخ ناصر الدين الألباني كتب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ألف حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكتاب صلاة التراويح، وقد خصصْتُ مباحث النيات في العبادات بمؤلف، والتأليف في مسألة أو أكثر من مسائل الفقه كثير.

الفصل الرابع مصادر الأحكام الشرعية

الفصل الرابع مصادر الأحكام الشرعية تمهيد: في التعريف بعلم أصول الفقه: هذا المبحث عِلْم من العلوم الشرعية يطلق عليه اسم "أصول الفقة", أي أدلة الفقه التي تستفاد منها الأحكام الشرعية، وهي كثيرة منها الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب والمصالح المرسلة والعرف والاستحسان. وبعض هذه الأدلة متفق عليه كالكتاب والسنة، وبعضها مختلف فيه كالعرف والاستحسان. وقد بحث العلماء في علم أصول الفقه في كل دليل من الأدلة التي يؤخذ منها الفقه، وفي البرهان على أنّه حجّة على الناس، ومصدر تشريعي يلزمهم اتباع أحكامه، وفي شروط الاستدلال به، وفي أنواعه الكلية، وفيما يدل عليه كل واحد منها من الأحكام الشرعية الكلية. وبحثوا أبضًا في الأحكام الشرعية الكلية التي تستفاد من تلك الأدلة، وفيما يتوصل به إلى فهمها من النصوص، وإلى استنباطها من غير النصوص من القواعد لغوية وتشريعية، وبحثوا أيضًا في من يتوصل إلى استمداد الأحكام من أدلتها وهو المجتهد، فبينوا الاجتهاد وشروطه، والتقليد وحكمه. وقد عرف العلماء أصول الفقه بقولهم: "هو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية". وسنتناول في هذا المؤلف أدلة الفقه بشيء من الاختصار.

المبحث الأول القرآن الكريم

المبحث الأول القرآن الكريم أول مصدر تستفاد منه الأحكام الشرعية هو القرآن الكريم، وهو في اصطلاح العلماء كلام الله تبارك وتعالى، الذي نزل به جبريل على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ عربية، ليكون معجزة دالة على صدقه، وهدى ونورًا يضيء الطريق أمام البشر، وهو المدون في المصاحف، المحفوظ في الصدور، المتعبد بتلاوته، المنقول إلينا نقلًا متواترًا بطريق المشافهة وبطريق الكتابة. شرح بعض ما يتعلق بالتعريف: أولًا: القرآن كلام الله: الذي عليه أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله، وقد استدلوا على دعواهم بقوله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]. والكلام اسم للفظ والمعنى، وما قذفه الملك في روع الرسول ليس قرآنًا كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يرويه ابن حبان في صحيحه: "إنَّ روح القدس نفث في: روعي أن نفسا لن تموت، حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"، وترجمات القرآن ليست قرآنًا، لأن المترجم هو ما فقهه المترجم من القرآن، والقرآن اللفظ والمعنى، ولذلك لا يجوز أن تقرأ الترجمة في الصلاة، كما لا يجوز أن تستنبط منها الأحكام.

ثانيا: نزول القرآن

ثانيا: نزول القرآن: نزل القرآن من عند الله مفرقًا في مدى ثلاثة وعشرين عامًا، وقد جعل هذا التنزيل المستمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - على صلة دائمة بربه، وهذا مما أعانه على ثبات قلبه، وخفف عنه ما كان يلاقيه من عنت، وقد كان القرآن يبين معالم الإيمان شيئًا فشيئًا، ويصوغ الفرد المسلم، والأسوة المسلمة، والجماعة المسلمة, بتعاليمه المتتابعة التي تعالج النفوس، وتحدد الأهداف، وتبين الوسائل، وتكشف الشبهات، ولقد كانت تعاليمه هي الموجه والمعلم والمرشد للرعيل الأول، وفي ظلها تربى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهم الجيل الذي تربى على القرآن. القرآن عربي اللفظ: وما ورد فيه من كلمات مأخوذة من غير العربية كالاستبرق والصراط والياقوت وأسماء الأعلام كإبراهيم وعيسى فهي من الكلمات التي أدخلتها العرب في لغتها، وصاغتها على أوزانها وجرت بها كلماتها، فعادت عربية. وما دام القرآن عربيًّا فلا مناص من أراد أن يكشف عن أسراره أن ينال قسطا وافرا من لغة العرب. ثالثا: تواتر القرآن: القرآن نقل إلينا نقلًا متواترًا، لم ينتقص منه حرف، ولم يزد فيه كلمة، وقد بلغنا بطريق المشافهة وبطريق الكتابة، وقد كتبه الخليفة الراشد أبو بكر الصديق، ثم عثمان بن عفالط، وقد وزع نسخًا من المصاحف التي كتبت في أمصار الدولة الإسلامية.

الحديث القدسي والقرآن

الحديث القدسي والقرآن الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله تبارك وتعالى على الصحيح كقوله - صلى الله عليه وسلم - "قال الله تعالى: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا"، والفرق بينه وبين القرآن أنه غير معجز في لفظه، ولا متعبد بتلاوته، وقد يكون متواترًا وقد لا يكون متواترًا، أمّا القرآن فإنه معجز متواتر ولا بدَّ (¬1). المبحَث الثاني السنة النبوية السنة أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته، فالقولية مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وتران في ليلة"، رواه الخمسة إلا ابن ماجه، والسنة الفعلية مثل ما روته عائشة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرقد فإذا استيقظ تسوك، ثم توضأ، ثم صلى ثماني ركعات يجلس في كل ركعتين ويسلم، ثمَّ يوتر بخمس ركعات، لا يجلس ولا يسلم إلا في الخامسة" رواه أحمد. ومثال السنة التقريريّة، ما رواه أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله قالا: "سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيصوم الصائم، ويفطر المفطر، فلا يعيب بعضهم على بعض" رواه مسلم. منزلة السنة من القرآن السنة بيان للقرآن قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ} [النحل: 44]. ¬

_ (¬1) سبق أن بحثنا الإعجاز القرآني في "مبحث الرسل" في باب العقيدة.

حجية السنة

ذلك أن النص القرآني قد يكون مجملًا أو مبهمًا أو عامًّا أو مطلقًا، فتكون السنة بيانًا للمجمل، وتوضيحًا للمبهم، وتخصيصًا للعام، وتقييدًا للمطلق. جاء الأمر بالصلاة أمرًا مطلقًا عامًّا {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]. فبين الرسول أعداد الصلوات، وعدد ركعات كل صلاة، وأوقاتها، وكيفياتها، وما يباح وما لا يباح فيها، وأمر القرآن بالزكاة، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقاديرها وشروطها، وأمر القرآن بقطع يد السارق {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكان القطع، ومقدار المال الذي يجب فيه القطع، وقد تأتي السنة بأحكام غير مذكورة في القرآن, كتحريم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وكتحريمه الحمر الأهلية. حجية السنة تعرضت السنة في القديم والحديث لهجوم شديد، فمن الذين ينسبون إلى الإسلام من ينكر حجيتها إنكارًا مطلقًا, ومنهم الذي ينكر حجيّة الآحاد من الأحاديث، ومنهم من ينكر حجيّة أحاديث الآحاد في العقائد دون غيرها من الأحكام. والذين ينكرون حجية السنة مغرضون, يريدون التلاعب بالقرآن، لأن السنة تبين القرآن وتوضحه، فإذا أُقصي التوضيح والبيان - سهل عليهم التلاعب، بآيات القرآن من خلال الآيات المجملة، والنصوص المطلقة، حيث يحملونها على

أقسام السنة من حيث الإسناد

محامل تناقض ما أراده رب العالمين منها, إن في السنة ضوابط تمنع من التلاعب بكتاب الله، فهم يريدون إقصاء السنة ليتم التلاعب بدين الله. ومن العجيب أن يطلق منكرو السنة على أنفسهم اسم القرآنيين بحجة أنهم إنما يعتمدون على القرآن دون السنة، وكذبوا في زعمهم، فلو كانوا يحكمون القرآن لأخذوا بالسنة، فإن القرآن يلزم بالأخذ بها، ويضلل ويفسق من لا يأخذ بها، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. أقسام السنة من حيث الإسناد الأحاديث التي وصلت إلينا منها المقبول المحتج به، ومنها المردود، والمقبول درجات في صحته وقوته، والمردود درجات، فبعضه في الدوجة الدنيا، وبعضه محتمل للنظر، والتصحيح والتضعيف علم له قواعده وأصوله. المَبحث الثالث الإجماع الإجماع في اللغة العزم والتصميم على الأمر، قال تعالى {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]. ويأتي بمعنى الاتفاق على الشيء، كقولك: أجمع القوم على كذا إذا اتفقوا عليه. والإجماع عند الرعيل الأوّل من الأئمة يطلق على ما علم من الدين بالضرورة، وعندما سئل الإمام الشافعي: هل من إجماع قال: "نعم بحمد الله كثير، في

الإجماع عند الأصوليين

جملة الفرائض التي لا يسع جهلها، فذلك الإجماع هو الذي لو قلت: أجمع الناس لم تجد حولك أحدًا يعرف شيئًا، يقول لك: هذا ليس بإجماع، فهذه الطريق التي يصدق بها من ادعى الإجماع وفي أشياء من أصول العلم دون فروعه" (¬1). الإجماع عند الأصوليين: يعرف كثير من الأصوليين الإجماع بأنه اتفاق المجتهدين من أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر من العصور على حكم شرعي. وهذا النوع من الإجماع مستحيل وجوده، ولا يستطيع أحد من الفقهاء أن يمثل له بمثال، وقد ناقش الشافعي القائلين به طويلًا، وبين ما يرد على القائلين به (¬2). وقد شدد الإمام أحمد النكير على الذي يدعي هذا النوع من الإجماع، ونسب القائلين به إلى الكذب، قال: "من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغنا (¬3) "، ودعوى الإجماع على هذا النحو ليست مقالة أهل السنة، يقول الإمام أحمد: "من ادعى الإجماع فقد كذب، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم نزاعا (¬4) ". ¬

_ (¬1) الأم: 7/ 257. (¬2) راجع الأم: 7/ 255. (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 9/ 271. (¬4) المصدر السابق.

المبحث الرابع القياس

المبحث الرابع القياس القياس في اللغة التقدير للشيء بما يماثله، وفي اصطلاح الأصوليين: "هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة الحكم". ومن أمثلة القياس قياس غير البيع والشراء على البيع والشراء عند النداء لصلاة الجمعة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيعَ} [الجمعة: 9]. فالبيع محرم يوم الجمعة ابتداء من الأذان، وهذا منصوص على حكمه، والعلة هو الانشغال عن الصلاة، وكل معاملة غير البيع كالإجارة أو الرهن أو الهبة أو الوصية فإن حكمها حكم البيع لأنها تشغل عن الصلاة كالبيع. مواقف الفقهاء من القياس بعض العلماء أنكر القياس ورفض اعتباره دليلًا وحجّة، وآخرون أسرفوا وتوسعوا فيه، ومن هؤلاء من قدمه على خبر الواحد. والفريق المعتدل هو الذي أثبت القياس ولم ينفه، ولكنه لم يغل ولم يسرف فيه، وهذا قول جماهير علماء أهل السنة، وهؤلاء يقولون: إن القياس حجّة عند فقد النص، يقول ابن حجر العسقلاني: "والحاصل أن المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النص"، وقد ثبت عن الشافعي والإمام أحمد: "أن القياس يكون عند الضرورة"، وفي كتاب الرسالة للشافعي: "لا يحل القياس والخبر

المبحث الخامس الاستحسان

موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء، إنما يكون طهارة عند الإعواز"، ولمثبتي القياس ومنكريه حجج كثيرة أثبتها علماء الأصول في مصنفاتهم (¬1) المَبحث الخامس الاستحسان الاستحسان في اللغة طلب الحسن والأحسن، وهو رؤية الشيء حسنًا، كما أن الاستقباح رؤية الشيء قبيحًا، وقد قال الله لموسى في أمر التوراة: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]. والاستحسان عند الحنفية يطلق إطلاقين: (¬2) الأول: قياس خفي وقع في مقابلة قياس جلي. ثانيهما: دليل وقع في مقابلة القياس الظاهر سواء كان الدليل نصًّا أو إجماعًا. وقد مثل الأحناف للأول بالأرض الموقوفة، قالوا: يدخل، فيها شربها وطريقها استحسانا، والشرب والطريق لا يدخلان عندهم في الأرض المباعة إلا بالنص عليهما، ويدخلان في عقد الإجارة من غير نص على ذلك عندهم، والوقف يمكن قياسه على البيع باعتبار أن كلًّا منهما إخراج للعين من ملك صاحبها، فلا يدخل الشرب والطريق إلا بالنص، وهو قياس جلي، ويمكن قياسه على الإجارة باعتبار أن كلا منهما يراد به ملك المنفعة فقط، وهي لا تتأتى إلا بطريقها وشربها، فيدخلان فيه من غير نص عليهما، وهذا قياس خفي، فإذا استقر في عقل المجتهد رجحان القياس الثاني على الأول، لأن المقصود من الوقف مجرد الانتفاع, وهو ¬

_ (¬1) راجع في هذا المبحث كتابنا: "القياس في مؤيديه ومعارضيه". (¬2) أصول الفقه لمحمد أبي النور زهير: 4/ 188.

المبحث السادس الاستصحاب

لا يتأتى إلا بدخول الطريق والشرب في وقف الأرض وإن لم ينص عليهما كان ذلك استحسانا. ومثال الثاني: أن الشارع نهى عن بيع المعدوم والتعاقد على المعدوم، ورخص استحسانًا في السلم والإجارة والمزارعة والمساقاة والاستصناع، وهي كلها عقود، المعقود عليه فيها معدوم وقت التعاقد، ووجه الاستحسان حاجة الناس وتعارفهم. والصحيح أن الاستحسان ليس مصدرًا تشريعيًّا مستقلًا، فهو استدلال خفي، يحيث يرجح على قياس جلي، أو ترجيح قياس على قياس يعارضه بدليل يقتضي الترجيح، يقول الشوكاني: "إن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه، لأنه إن كان راجعًا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار، وإن كان خارجًا عنها فليس من الشرع في شيء" (¬1). المبحث السادس الاستصحاب الاستصحاب في اللغة: اعتبار المصاحبة، وفي اصطلاح الأصوليين: هو الحكم على الشيء بالحال التي كان عليها من قبل حتى يقوم دليل على تغير تلك الحال، أو هو جعل الحكم الذي كان ثابتًا في الماضي باقيًا في الحال حتى يقوم دليل على تغيره. فإذا سئل المجتهد عن حكم عقد أو تصرف، ولم يجد نصًّا في القرآن أو السنة، ولا دليلًا شرعيًّا يدلُّ على حكمه، حكم بإباحة هذا العقد أو التصرف بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة، وهي الحال التي خلق الله عليها ما في الأرض ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول للشوكاني: 212.

المبحث السابع المصالح المرسلة

جميعه، فما لم يقم دليل على تغيرها فالشيء على إباحته الأصلية. وإذا سئل المجتهد عن حكم حيوان أو جماد أو نبات أو أي طعام أو أي شراب ولم يجد دليلًا شرعيًّا على حكمه، حكم بإباحته، لأن الإباحة هي الأصل، ولم يقم دليل على تغيره. المَبحَث السَابع المصَالح المرسَلة الشريعة كلها مصالح، جاءت بجلب المصالح وتكميلها ورفع المفاسد وتقليلها، والعلماء حكموا بذلك بعد استقراء الشريعة إستقراءً يفيد العلم. والمبحوث فيه هنا المصالح المرسلة أي المطلقة التي لم يشرع الشارع حكمًا لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، وسميت مطلقة لأنها لم تقيد بدليل الاعتبار أو دليل الإلغاء، ومثالها المصلحة التي شرع لأجلها اتخاذ السجون، أو ضرب النقود، أو إبقاء الأرض الزراعية التي فتحها الصحابة في أيدي أهليها ووضع الخراج عليها. وتوضيح هذا أن المصالح التي نيطت الأحكام بها ثلاثة أنواع: الأول: أن يشهد الشرع باعتبار تلك المصلحة كالإسكار، فإنه وصف مناسب لتحريم الخمر لتضمنه مصلحة حفظ العقل، وقد نص الشرع على اعتبار هذه المصلحة فحرم لأجلها الخمر. الثاني: أن يلغى الشرع تلك المصلحة ولا ينظر إليها كما لو ظاهر ملك من امرأته، فالمصلحة في تكفيره بالصوم لأنَّه هو الذي يردعه لخفة العتق ونحوه عليه، لكن الشرع ألغى هذه المصلحة، وأوجب الكفارة بالعتق من غير نظر إلى وصف

المكفِّر بكونه فقيرًا أو ملكًا، وهذا الوصف يسمى الغريب عند جماعة من أهل الأصول. الثالث: أن لا يشهد الشرع لاعتبار تلك المصلحة بدليل خاص، ولا لإلغائها بدليل خاص، وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة، وسميت مصلحة لاشتمالها على المصلحة، وسميت مرسلة لعدم التنصيص على اعتبارها ولا على إلغائها. والإمام مالك يراعي المصلحة المرسلة في الحاجيات والضروريات كما قرره علماء مذهبه، ودليل مالك على مراعاتها إجماع الصحابة عليها كتولية أبي بكر لعمر، واتخاذ عمر سجنا، وكتبه أسماء الجند في ديوان، وعثمان جمع الناس على مصحف واحد ونشره وحرق ما عداه، وعليٌّ حرق الغلاة الذين ألهوه، والحنفية حجروا على المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس، والمالكية أباحوا حبس المتهم وتعزيره توصلًا إلى إقراره، والشافعية أوجبوا القصاص من الجماعة إذا قتلوا الواحد، فأهل المذاهب كلهم يعملون بالمصالح المرسلة وإن قرروا في أصولهم أنها غير حجّة كما أوضحه القرافي في التنقيح (¬1). والذين منعوا من الاحتجاج بالمصالح المرسلة قالوا: إن هذا الباب مضلّة للأفهام ومزلة للعقول، لأن العقول قد تعدّ ما ليس مصلحة مصلحة، وقد تعدُّ المصلحة غير مصلحة، فاليهود حرموا بسبب هذا طيبات أحلت لهم حتى قيل إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعًا، والواجب عليهم مئتان وثمانية وأربعون أمرًا. ¬

_ (¬1) مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر: ص 168.

المبحث الثامن العرف

المَبحَث الثامن العُرف " العرف عادة تواضع الناس على اتباعها، معتقدين في قوتها الإلزام، إذ هم يصنعونها بأنفسهم، ويتبعونها على نسق متواتر، حتى تصبح عامّة على نحو يعتقدون معه أنها ملزمة لهم في التعامل" (¬1). وكانت أعراف البشر من أعظم ما صدَّ الناس عن أتباع الرسل، فالأعراف والتقاليد ميراث الأجداد، لها سلطان عظيم على النفوس، واحترام كبير عند الأجيال، يفتخرون بالحفاظ عليها، والسير وفق مقتضياتها، ويرون الخروج عليها إثمًا عظيمًا، ولو كانت هذه الأعراف مخالفة للحق الذي ترتضيه العقول السليمة، والشرائع المنزلة {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلا قَال مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} [الزخرف: 22 - 25]. والمراد بالأمّة التي وجدوا عليها آباءَهم عاداتهم عادات الآباء وتقاليدهها وطريقتهم، فهم لها متبعون وإن خالفت الحق، وكانت باطلًا، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَينَا عَلَيهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}. [البقرة: 170]. وفي كثير من الأحيان تكون الأعراف دينًا يتبع، وقد يصنع هذه الأعراف ¬

_ (¬1) أصول الأحكام الشرعية د، عبد العزيز العلي النعيم، الطبعة الأولى- طبعة دار الاتحاد العربي- القاهرة.

الحكام الظلمة، وقادة الفكر، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137]. والشركاء هم الزعماء والقادة الذين يشرعون ما لم يشرعه الله، ومن هؤلاء عمرو بن عامر أبو خزاعة الذي غير دين العرب كما ثبت ذلك في أحاديث صحيحة، رواها صاحبا الصحيح وغيرهما. وعندما جاء الإسلام غير الأعراف الباطلة وحاربها، وأقَرَّ الصحيح منها، وقد راعى العلماء المسلمون الأعراف السائدة في الديار التي يعيشون فيها إذا لم تصادم النصوص الشرعية، وقد أشار إلى هذا ابن عابدين بقوله: والعرف في الشرع له اعتبار ... لذا عليه الحكم قد يدار وقد غلا بعض العلماء فجعلوه دليلًا شرعيًّا، والأمر ليس كذلك، فالأدلة التي استدلوا بها لا تنهض على جعل العرف أحد أدلة الشريعة المعتمدة، يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف "وبالنظر الدقيق في العرف وأمثلته، وما قاله الأصوليون والفقهاء فيه -يتبين أن العرف ليس دليلًا مستقلًا يشرع الحكم في الواقعة بناء عليه، وإنما هو دليل يتوصل به إلى فهم المراد من عبارات النصوص، ومن ألفاظ المتعاملين وإلى تخصيص العام منها وتقييد المطلق، ويستند إليه في تصديق قول أحد المتداعيين، إذا لم توجد لأحدهما بينة، وفي رفض بعض الدعاوي التي يكذبها العرف، وفي اعتبار الشرط الذي جرى به العرف، وفي الترخيص بمحظور دعت إليه ضرورة الناس وجرى به عرفهم، وفي أمثال هذا مما يجعل اجتهاد المجهد أو قضاء القاضي ملائمًا حال البيئة ومتفقًا وإلف الناس ومصالحهم" (¬1) والذين قالوا إن العرف دليل شرعي اشترطوا فيه عدة شروط ¬

_ (¬1) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه لعبد الوهاب خلاف ص 149 طبع دار القلم- الكويت.

المبحث التاسع شرع من قبلنا

هي: 1 - أن يكون ذلك العرف مطردًا أو غالبًا. 2 - أن لا يخالف العرف نصًّا شرعيًّا، يقول السرخسي: "وكل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر". 3 - ألا يكون العرف مخالفًا لنص أو شرط أحد المتعاقدين. 4 - أن يكون العرف سابقًا أو مقارنًا لزمن الشيء الذي يحمل على العرف، فلا عبرة بالمتأخر (¬1). ومن الأعراف الصحيحة المعتبرة التعارف على البيع بالتعاطي من غير أن توجد صيغة لفظية لعقد البيع، وتعارفهم لبس الثياب الجديدة في الأعياد، ودخول الحمام العام بدون تعيين زمن للمكث فيه، ومن غير تعيين لمقدار الماء الذي يستعمل أو يستهلك للاغتسال. والعرف نوعان: عملي وقولي، والأمثلة التي ذكرت هي للعرف العملي، أمّا العرف القولي فمثاله إطلاق اسم الدابة في بعض الديار على الفرس وفي بلاد أخرى على الحمار، مع أن الدابة لغة اسم لكل ما يدب على الأرض. المَبحث التَاسع شرع مَن قبلنَا (¬2) هذه المسألة لها طرفان وواسطة، طرف يكون فيه شرع من قبلنا شرعًا لنا إجماعًا، وطرف يكون فيه غير شرع لنا إجماعًا، وواسطة هي محل الخلاف. أمَّا الطرف الذي يكون فيه شرعًا لنا إجماعًا- فهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ثم ثبت بشرعنا أنَّه شرع لنا كالقصاص، فإنه ثبت بشرعنا أنه كان ¬

_ (¬1) انظر سلم الوصول إلى علم الأصول لعمر عبد الله ص 322، الطبعة الثانية، طبعة مؤسسة المطبوعات الحديثة. (¬2) راجع: مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي.

المبحث العاشر مذهب الصحابي

شرعًا لمن قبلنا في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]. ثم صرح القرآن بأنّه شرع لنا في قوله: {كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. أمّا الطرف الثاني: الذي يكون فيه غير شرع لنا إجماعًا فهو أمران. أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلًا كالمأخوذ من الإسرائيليات. الثاني: ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لهم، وصرح في شرعنا بنسخه كالآصار والأغلال التي كانت عليهم، كما في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَال الَّتِي كَانَتْ عَلَيهِمْ} [الأعراف: 157]. وقد ثبت في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَينَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]. قال الله: قد فعلت. والواسطة التي هي محل النزاع والخلاف: هي ما ثبت بشرعنا أنه شرع لمن قبلنا، ولم يصرح بنسخه في شرعنا. والأرجح في هذا ما ذهب إليه الشافعي من كونه ليس بشرع لنا بدليل قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. المَبحَث العَاشر مَذهَب الصحابي إذا قال الصحابي قولًا، فإمّا أن يخالفه صحابي آخر أو لا يخالفه، فإن خالفه صحابي مثله لم يكن قول أحدهما حجّة على الآخر، وإن لم يخالف الصحابي

صحابيًّا آخر، فإمّا أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجّة. وقالت طائفة منهم: هو حجّة، وليس بإجماع، وقالت طائفة قليلة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين: لا يكون إجماعًا ولا حجة، وإن لم يشتهر قوله، أو لم يعلم اشتهر أم لا، فاختلف فيه الناس: هل يكون حجة أم لا؟ فالذي عليه جهور الأمّة أنّه حجّة، هذا قول جمهور الحنفية، صرح به محمد بن الحسن، وذكر عن أبي حنيفة نصًّا، وهو مذهب مالك وأصحابه، وتصرفه في موطئه يدل عليه، وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي عبيد، وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع عنه، واختيار جمهور أصحابه، وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد (¬1). ومذهب الشافعي هذا صرح به في كتابهِ الرسالة قال: "ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحد (أيّ الصحابة) مرة ويتركونه أخرى، ويتفرقون في بعض ما أخذوا منهم، قال (أي مناظره): فإلى أي شيء صرت من هذا؟ قلت: اتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابًا ولا سنة ولا إجماعا ولا شيئًا في معناه يحكم" (¬2). وقال في الأم: "إن لم يكن في الكتاب والسنة صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو واحد منهم، ثمَّ كان قول أبي بكر وعمر أو عثمان إذا صرنا فيه إلى التقليد أحب إلينا، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة، لنتبع القول الذي معه الدلالة" (¬3). ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين 4/ 153 - 155. (¬2) الرسالة: ص 598. (¬3) الأم: 7/ 247.

المبحث الحادي عشر نصوص الكتاب والسنة هي الأقوى

وهذان النصان يدلان على أن مذهب الشافعي الجديد كمذهبه القديم أن قول الصحابي حجّة، وهذا يبطل ما نسبه كثير من أصحابه إليه أن مذهبه الجديد ليس قول الصحابي بحجة. تنبيه: قول الصحابي إن لم يكن فيه مجال للرأي فهو في حكم الحديث المرفوع، كما تقرر في علم الحديث، فيقدم على القياس، ويخص به النص، إن لم يعرْف الصحابي بالأخذ من الإسرائيليات. المبحَث الحَادي عَشَر نصوص الكتاب والسنة هي الأقوى إذا كانت أدلة الأحكام بهذه الكثرة فليست في القوة في درجة واحدة، فنصوص الكتاب والسنة المتواترة هي الأقوى، ثم يليها نصوص السنة الأحادية، ثم المجمع عليه، فالقياس. قال الشافعي في كتابه الرسالة: "يحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها، الذي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن. ويحكم بالسنة قد رويت من طريق الانفراد، لا يجتمع الناس عليها، فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر، لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث. ونحكم بالإجماع ثم القياس، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة ضرورة، لأنه لا يحل القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء، إنما يكون طهارة في الإعواز.

طريقة السلف في تناول الأحكام

وكذلك يكون ما بعد السنة حجة إذا أعوز من السنة (¬1). فالشافعي يجعل الأدلة على ثلاث مراتب من حيث القوة: الأولى: نصوص الكتاب والسنة المجتمع عليها، وهي السنة المتواترة، أو الصحيحة صحة لا يختلف عليها بحيث يصححها كافة أهل العلم، وهذه في غاية القوة، ونحن نجزم بأننا حكمنا بالحق في الظاهر والباطن كما يقول الشافعي- عندما حكمنا بها. الثانية: نصوص السنة الآحادية، وهي التي رويت من طريق الانفراد، كما يقول الشافعي، وهنا نكون حكمنا بالحق في الظاهر، لأنه قد يمكن الغلط فيما روي بطريق الآحاد. الثالثة: وهي أضعف من المرتبتين السابقتين، وهي الحكم بالإجماع ثم القياس، وهي منزلة ضرورة، لا تستخدم إلا عند فقد النص. طريقة السلف في تناول الأحكام هذا الذي ذكرناه عن الشافعي من تقديم نصوص الكتاب والسنة على الإجماع هو منهج السلف في تناول الأحكام، فقد جاء في كتاب عمر لقاضيه شريح: "اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما سنه رسول الله، فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك، وفي رواية بما أجمع عليه الناس". يقول ابن تيمية: "وعمر قدم الكتاب، ثمَّ الإجماع، وكذلك ابن مسعود ¬

_ (¬1) الرسالة: ص 599.

قال مثل ما قال عمر، وكذلك ابن عباس، كان يفتي بما في الكتاب، ثمَّ بما في السنة، ثمَّ بسنة أبي بكر وعمر ... وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود، وابن عباس، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو الصواب (¬1). "فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم، فعليه أن ينظر أولًا: هل فيها اختلاف أم لا؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب، ولا في سنّة، بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع، وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل، فأفتى به وحكم به، وهذا خلاف ما دلَّ عليه حديث معاذ، وكتاب عمر، وأقوال الصحابة. والذي دلَّ عليه الكتاب والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم، وهذا إن لم يكن متعذرا فهو أصعب شيء وأشقَّه إلّا فيما هو من لوازم الإسلام، فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه، ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما، ويسرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقًا سهلة التناول من قرب. ثم ما يدريه؟ فلعلَّ الناس اختلفوا، وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علمًا بعدمه، فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كلّه؟ ثمَّ كيف يسوغ ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به، وغايته أن يكون موهومًا، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًا قيه شكًا متساويًا أو راجحا؟ (¬2) "وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتج عليه ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 19/ 201. (¬2) إعلام الموقعين 2/ 237.

المبحث الثاني عشر المؤلفات في أصول الفقه

بالقرآن والسنة، قال: هذا خلاف الإجماع، وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام وعابوا من كل ناحية على من ارتكبه وكذبوا من ادعاه" (¬1). وقد ذكر ابن تيمية أن بعض المتأخرين قالوا: يبدأ المجتهد بأن ينظر أولًا في الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصًّا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، وقال بعضهم: الإجماع نسخة، وصوب ابن تيمية طريقة السلف. المبحَث الثَّاني عَشَر المؤلفات في أصول الفِقه ألف الشيخ الدكتور محمد سليمان الأشقر في أصول الفقه مؤلفًا قصد به تيسير أصول الفقه للمبتدئين، وعنوانه: "أصول الفقه للمبتدئين". وهناك عدة مؤلفات يمكن أن تجعل للطلبة المتوسطين مثل: أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف، وأصول الفقه لبدران أبي العينين، وأصول الفقه لأبي زهرة. ومن المؤلفات في أصول الفقه للمتقدمين كتاب المستصفى في أصول الفقه للغزالي، وكتاب الموافقات للشاطبي، وكتاب أحكام الأحكام للآمدي، وكتاب أحكام الأحكام لابن حزم. ومن المؤلفات في تاريخ الفقه: تاريخ التشريع الإسلامي للخضري، وخلاصة تاريخ التشريع الإسلامي لعبد الوهاب خلاف، وتاريخ الفقه الإسلامي لمؤلف هذا الكتاب. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين 2/ 238.

الباب الرابع الأسرة في الإسلام

البَابُ الرابع الأسرة في الإسلام ويشتمل على مقدمة وأربعة فصول: المقدمة: في بيان مدى اهتمام الإسلام بالأسرة. الفصل الأول: منهج الإسلام في تكوين الأسرة. الفصل الثاني: تعدد الزوجات. الفصل الثالث: منهج الطلاق في الإسلام. الفصل الرابع: المرأة في الإسلام. الفصل الخامس: المؤلفات في الأسرة.

مقدمة اهتمام الإسلام بالأسرة

مقَدّمَة اهتمام الإسلام بالأسرَة كل الشرائع التي أنزلها الباري اهتمت بالأسرة اهتمامًا كبيرًا، ونستطيع أن نقول: إن الأسر بمثابة الخلايا التي تكون جسم المجتمعات الإنسانية، وهي التي تقيم الروابط والعلائق بين أبناء المجتمع الواحد، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]. ولا يتصور أن تقوم الحياة الإنسانية على استقامة إذا هدمت الأص، وتقطعت العلائق التي تقيمها الأسر بين بني البشر، والذين ينادون بهدم نظام الأسرة، ويزعمون أنه نظام عتيق ينبغي الخلاص منه ضالون، وهما لا يريدون بالبشرية خيرا، وقد كانت دعوتهم ولا زالت صوتًا نشازًا على مرّ التاريخ الإنساني، فالشيوعية تدعو إلى شيوعية المال والنساء، وتحطيم الأسر، واجتثاث أصولها، ولكن دعوتهم لم تصادف نجاحًا، حتى في البلاد التي حكموها لا تزال الأسرة قاعدة المجتمع، ولا يزال رجالات الحزب في روسيا والصين يكونون الأسر ويتزوجون. وفي مقابل هؤلاء زعم أقوام من الذين غلوا في العبد أن العلاقة الجنسية قذارة ووساخة، وزعموا أن الرجل المثالي هو الذي يترهبن ولا يتزوج، وأن المرأة المثالية هي التي تعزف عن الزواج وتتبتل، ولو رضيت البشرية بهذا المسار لانتهى الوجود الإنساني في هذه الأرض. إن هذه الدعوة تصادم الفطرة الإنسانية،

حكمة الزواج

وتصادم الحق الذي ينبغي أن تقوم عليه حياة البشر. وقد تمرد النصارى على دينهم المحرف، فعاد المجتمع الذي يدعوه دينه المحرف إلى الرهبنة مجتمعا أقرب إلى الإباحية منه إلى الرهبنة، وما حديث دول الغرب وما يجري في مجتمعاتهم بين رجالهم ونسائهم بسر. إن الذي يقرره الإسلام أن الزواج هو سنة الحياة، وهو يقتضي تكوين الأسرة على أسس وأصول، وإن لم يحدث ذلك فإنه يقع فساد كبير. حكمة الزواج: للزواج حكم تدركها عقول أولي الألباب، وقد أشارت إليها نصوص الكتاب العزيز، فمن ذلك: 1 - أنه سكن للنفوس، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. وكلمة (تسكنوا) تعني حاجة فطرية بعيدة الغور في النفس الإنسانية وإذا لم تلبَّ هذه الحاجة الفطرية فإن البديل هو القلق النفسي، والتعب القلبي، وقد عدّ علماء النفس العزوف عن الزواج أحد أسباب الأمراض النفسية السائدة في عالم الغرب. والزواج سكن لأن زوج الإنسان جزء منه، فحواء مخلوقة من آدم، فالرجل والمرأة متوافقان نفسيًا، وروحيًا، ولذلك فإن المشاعر الإنسانية الراقية من الود والرحمة تنشأ وتنمو في ظلال العلاقة الزوجية {وَجَعَلَ بَينَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].

ترغيب الإسلام في الزواج

2 - والزواج سبيل تكاثر الجنس الإنساني فوق ظهر البسيطة، كذلك شاء الخالق تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [سورة النساء: 1]. 3 - إن عزوف البشر جميعًا عن الزواج ينهي الوجود الإنساني ويوقفه، وقيام العلاقة بين الرجل والمرأة على الإباحية من غير نظام يؤدي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، وتضييع الأولاد لعدم من يدعيهم. 4 - وإذا شاءَت المرأة أن تقوم على تربية الأولاد الذين لا ينسبون إلى أب فإن ذلك يشق عليها، ذلك أن المرأة ضعيفة، وخاصة في حملها حيث تحتاج إلى العون والرعاية، ثم حين تضع حملها، وتحتاج إلى النفقة على نفسها وولدها، وليس من العدل أن تتولى وحدها القيام على الأولاد. وإذا قيل إن الدولة هي التي تربي الأولاد وتقوم عليهم، فالجواب واضح، إن الملاجئ لا تربي أطفالًا، ولا تعطي حنانًا، والأطفال ليسوا كأبناء الحيوانات يمكنهم أن يتربوا في الحظائر، إن الأطفال الذين ينزعون من أحضان الأمهات، ويفقدون رعاية الآباء، ويعيشون معيشة القطيع يخرجون حاقدين على المجتمعات التي أهملتهم واحتقرتهم، يخرجون مرضى النفوس، ثمَّ يكونون بلاء على أمتهم. ترغيب الإسلام في الزواج: امتن الله على عباده بأنه خلق لهم من أنفسهم أزواجًا {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72].

وأمر بإنكاح الأيامى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]. وفي الحديث: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءَة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" (¬1)، وبين القرآن أن الزواج سنّة المرسلين {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]. ولما كان الزواج له دافع فطري قوي في نفس الإنسان - فإن الإسلام لم يكثر من الأمر به والحث عليه، وإنما بين مشروعيته، ووضع له الضوابط، وحارب الاتجاهات المنحرفة والغالية، فقد حارب الزنا، كما حارب الرهبنة، وأبطل الاتجاهات القائمة على التقرب إلى الله بترك الزواج. ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم، جامع الأصول: 11/ 426.

الفصل الأول منهج الإسلام في تكوين الأسرة

الفَصل الأول منهج الإسلام في تكوين الأسرَة 1 - الاختيار: يحث الإسلام كلًّا من الرجل والمرأة على إحسان اختيار الطرف الآخر عند إرادة الزواج، والاختيار عند البشر له مقاييس مختلفة، فمنهم من يرى مقياس الصلاح هو الغني، وآخرون يرونه الحسب، وفريق يراه الجمال، وفريق يراه القدرة على العمل الشاق المضني. والإسلام لا يمانع في أن يشترط الزوج في زوجه واحدًا من هذه الشروط أو أكثر، ولكنه يأمر بأن يكون ذلك كله محكومًا بالصلاح الديني، فإذا كان الزوج المنتظر ملتزمًا بأحكام الشرع، تقيًّا ورعًا صاحب خلق، فلا بأس أن نشترط بالإضافة إلى ذلك الجمال أو الحسب أو الغنى، ولكن إذا فقد الصلاح الديني، فإن صاحبة الدين الأقل جمالًا أو غنىً أو حسبا أفضل في ميزان الإسلام وأحرى بالتوجه إلى الزواج منها، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه (¬1). إن المال قد يذهب، والجمال قد يذوي، والحسب قد يجلب الغرور، والدين يزين بالتقوى، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ويحفظ الحقوق، ويأمر بالعدل ¬

_ (¬1) مشكاة المصابيح: 2/ 158.

والرحمة، ويمنع من الانحراف والزيغ والطغيان والتبذير، والإسلام يأمر المرأة الصالحة بأن تكون مثال الزوجة الخيرة، فدينها يأمرها بأن تكون كذلك "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" رواه ابن ماجة (¬1). وقد حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تزويج الرجل المرضى في دينه وأمانته، وهدد الذين يزوجون على غير ذلك بالبلاء العظيم، ففي الحديث: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" رواه الترمذي (¬2). وإذا لم يراع هذا المقياس قامت البيوت على دخن، فالزوج الضال يفتن زوجته، ولا يرعى حقوقها، والمرأة التي لا تراعي حق الله لا ترعى حق الزوج، وهنا يحدث الخلاف والشقاق والفتن. 2 - الخطبة إذا رام الرجل أن يتزوج امرأة معينة- فإن الإسلام يرشده إلى النظر إليها، ليعرف إذا كانت نفسه تميل إليها أم لا، ففي الحديث "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" رواه أبو داود (¬3) وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من أصحابه خطب امرأة أن ينظر إليها، وعلل ذلك بقوله، "فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" رواه أحمد والترمذي والنسائي (¬4) والأمر ¬

_ (¬1) مشكاة المصابيح: 2/ 161. (¬2) مشكاة المصابيح: 2/ 160 وإسناده حسن. (¬3) مشكاة المصابيح: 1/ 163، وإسناده حسن. (¬4) مشكاة المصابيح: 1/ 164، وإسناده صحيح، ومعنى يؤدم أي يؤلف ويصلح.

يتوقف على مجرد النظر الذي يستطيع المرء أن يحكم بعده إذا ما كان يرغب في الزواج منها أم لا، وهذا يكفي فيه النظر إلى ما يظهر غالبًا كالوجه والكفين، وكذلك الطول والحجم، أمّا النظر إلى الشعر والصدر ونحو ذلك فهذا مما نهى الشارع عن كشفه، ولم يرد من النصوص ما يبيح للمرأة كشفه للخاطب. ولم يبح الإسلام للخاطب، والمرأة المخطوبة أن يخلوا ببعضهما، كما يفعل الذين يزعمون الحضارة والرقي من مقلدي الغرب، حيث يخلو الخاطب بالمخطوبة، وقد يسافر بها، وعقد الزواج لم يتم بعد، وينشأ من هذا مفاسد كثيرة، فالمرأة في حال الخطبة أجنبية، والخلوة بالأجنبية حرام، وقد يقع المحذور حال الخلوة، وفي بعض الأحيان يفسخ الرجل الخطبة فتخسر المرأة كثيرًا، خاصة في المجتمعات الإسلامية التي لا يزال أهلها يقيمون للعفاف والشرف وزنًا كبيرًا بعكس المجتمعات الغربية. وما يزعمه دعاة الاختلاط أن فترة الخطبة سبيل لتحقيق التعارف الذي يقيم الحياة الزوجية على أسس قويمة ليس بصواب، لأن كل واحد من الخاطبين إذا كان يرغب في الآخر يتكلف غير طباعه، فلا يتمكن الآخر من معرفته على حقيقته، وإنما تعرف الأخلاق من خلال من عَرَفَ الشخصَ في عمله أو بمجاورته، أو نحو ذلك. 3 - الرضا: وهذا المبدأ شرط من شروط عقد الزواج، لا يتم الزواج إلا به، ويتحقق هذا الشرط بالصيغة التي تدل عليه، فيقول ولي الأمر مثلًا: زوجتك ابنتي فلانة، فيقول الخاطب: قبلت، وهذا يسمى الإيجاب والقبول، ولا يشترط في تحقق

القبول في الزوج رضا شخص آخر. أما في المرأة فإن الزواج لا يتمُّ إلا إذا وافقت على الزوج، فإذا رفضته- فإن من حق القاضي أن يوقف هذا الزواج ويفسخه إذا رفع الأمر إليه، ولكن يكفي سكوت المرأة البكر إذا استؤذنت، ولم تتكلم، فحياؤها قد يمنعها من الموافقة في كثير من الأحيان، أمّا الثيب فلا بدَّ من أن توافق نطقا، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكح الأيم (¬1) حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "صمتها" متفق عليه، وفي صحيح مسلم "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وأذنها سكوتها" (¬2). وروى البخاري عن خنساء بنت خذام: "أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فردَّ نكاحها" (¬3). وروى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها" (¬4). 4، 5 - الولي والشهود روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي بإسناد صحيح قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بولي" (¬5)، وفي رواية عن الإمام أحمد: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (¬6). ¬

_ (¬1) الأيم: الثيب. (¬2) مشكاة المصابيح: 2/ 168. (¬3) مشكاة المصابيح: 2/ 168. (¬4) أي لا تعدى عليها. (¬5) مشكاة المصابيح: 2/ 169. (¬6) مشكاة المصابيح: 2/ 169.

وروى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحلَّ من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ من لا وليَّ له" (¬1) وعن ابن عباس إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البغايا اللاتي ينكحن أنفسهنَّ بغير بينة" (¬2) رواه الترمذي. وهذه الأحاديث تدل على وجوب موافقة ولي أمر المرأة على الزواج، وأن الزواج الذي يتم من غير رضا الولي باطل، كما يدل وجوب الإشهاد، وأقل ذلك شاهدان عدلان. 6 - المهر والصداق: أمرت الشريعة الأزواج بمنح الزوجات مبلغًا من المال عطية {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وهذا العطاء إنما هو ترضية للمرأة، وإكرام لها، وليس ثمنًا لها. وينبغي عدم المغالاة في المهور: "إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة" رواه أحمد (¬3)، وقد كان من أسباب عزوف الشباب عن الزواج: المغالاة في المهور، وارتفاع تكاليف الزواج، مع فتح باب الحرام، وسهولة الدخول إليه. وليس هناك حدّ أدنى للمهر، فقد تزوجت امرأة وكان مهرها نعلين، فقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه (¬4) " رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه (¬5). ¬

_ (¬1) المنتقى للمجد ابن تيمية: ص 543. (¬2) مشكاة المصابيح: 2/ 169. (¬3) المنتقى: ص 542. (¬4) منتقى الأخبار: 556. (¬5) منتقى الأخبار: 556.

حقوق كلا من الزوجين على الآخر

7 - الكفاءَة لا يجوز تزوج المرأة المسلمة من كافر مطلقًا، سواءً أكان كتابيًا أو غير كتابي، قال تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]. كما لا يجوز تزويج المسلم الحرّة من العبد مسلمًا أو غير مسلم. ولا يجوز للمسلم أن ينكح المشركة إلا أن تكون كتابية محصنة أي عفيفة {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. ويجوز له أن ينكح الأمة عند عدم استطاعته نكاح الحرّة {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. وكل مسلم بعد ذلك فهو مكافيء للمسلمة بغض النظر عن الجنس أو اللون أو التعليم، فميزان التفاضل في الإسلام التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وكل ما ذكره الفقهاء من وجوب مراعاة المنزلة الاجتماعية أو الجنس فلا دليل عليه. حقوق كلا من الزوجين على الآخر للرجل على زوجه حقوق، وللمرأة على زوجها حقوق، والأصل في هذا قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. ومن حق الرجل على زوجه أن تطيعه إذا أمرها بما لا يخالف شرع الله ودينه،

وأن تبر قسمه، وأن تحفظه في نفسها وماله، ولا تدخل بيته أحدا يكرهه، وإذا طلبها للفراش فلا تمتنع عليه، وعليها أن تقوم على داره وأبنائه، ولا تخرج من دارها إلا بإذنه. وقد ورد في الحديث: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان، وفي الحديث الآخر في وصف المرأة الصالحة: "إن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته". في الحديث المتفق عليه: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، فبات غضبان، لعنتها الملائكة حتى تصبح". وللمرأة على زوجها أن يرعاها ويحفظها وينفق عليها، ويهيء لها المسكن المناسب وفي الحديث: "استوصوا بالنساء خيرا" متفق عليه، وفي الحديث الصحيح: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" رواه الترمذي والدارمي.

الفصل الثاني تعدد الزوجات

الفَصل الثاني تعَدّد الزّوجَات شرع الإسلام للرجل أن يتزوج أكثر من زوجة، ولم يجز له أن يتجاوز الأربع، قال تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. وقد كان الرجال منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى اليوم في المجتمع الإسلامي يتزوجون بأكثر من واحدة من غير نكير. وجاءنا اليوم دعاة الغرب الذين آمنوا بفكره يزعمون أن التعدد جريمة ترتكب في حق المرأة، قالوا: في التعدد احتقار للمرأة، وبسط لنفوذ الرجل عليها، وطريق إلى البطالة وكثرة العاطلين، وسبب لتفكك الأسرة، وبذر الشقاق بين الناس، وفي الرد عليهم نقول: أولًا: التعدد أمر شرعه الله في كتابه وفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأجمعت عليه الأمّة، ونحن واثقون بأن شرع ربنا هو الشرع الصالح الذي لا شرع غيره، بل إن غيره ضلال وباطل. ثانيا: التعدد ضرورة اجتماعية، فالإحصاءات العالمية تقول إن عدد النساء أكثر من عدد الرجال، وهذا يعود إلى المخاطر التي يتوجب على الرجال خوضها

كالحروب التي تحصد الألوف وعشرات الألوف من الرجال، وكذلك الأعمال الشاقة التي يمارسها الرجال من دون النساء، وقد برزت هذه المشكلة بشكل واضح بعد الحرب العالمية الثانية خاصة في ألمانيا، حيث كانت نسبة الرجال أقل بكثير من نسبة النساء. لو كان عدد النساء دائما بمقدار عدد الرجال، أو كان عددهن أقل من عدد الرجال فإن منع التعدد يكون مطلوبًا أما وأن العكس هو الصحيح فما الحلّ؟ هل الحل أن يتزوج كل رجل امرأة واحدة، ثمَّ يبقى العدد الزائد من النساء بغير زواج، ثمَّ ما الذي يحدث لهذا العدد الزائد؟ إن الدافع الفطري الذي لا يقاوم يدفع المرأة إلى الزنا المحرم، فتكون المرأة في هذه الحال سقط متاع تتداولها الأيدي، أو تكون خليلة ليس لها حقوق الزوجة، ثمَّ كيف يكون حال الثمرة الحرام: الأولاد الذين يثمرهم الاتصال المحرم؟ لا يعترف بهم آباؤهم، أو لا يعرف لهم آباء، ويكونون كلًّا على أمهاتهم، وقد تتخلص المرأة من جنينها بالإجهاض، وقد تلده ثم تفتك به، أو تلقيه على قارعة الطريق، وقد تقذف به في الملاجئ، حيث يعيش عيشة الحيوان، يحرم من حنان الأمومة، ورعاية الأب، ولا يعرف الاستقرار النفسي، ثم يكون هؤلاء مادة الإجرام، يخرجون حاقدين على مجتمعاتهم، فيعيثون في الأرض فسادًا. إن الإحصائيات التي تنشر في البلاد التي تمنع التعدد مذهلة، في عام 1901 عقد مؤتمر للبحث في أسباب ارتفاع نسبة اللقطاء والموؤودين في فرنسا، وجاء في تقرير المؤتمر أن عدد اللقطاء في مقاطعة واحدة في فرنسا هي مقاطعة السين الذين يربون على نفقة الدولة بلغ خمسين ألف لقيط (¬1). وفي عام 1959 صدر عن هيئة الأمم المتحدة نشرة أثبتت بالأرقام ¬

_ (¬1) الإسلام عقيدة وشريعة لشلتوت: ص 191.

والإحصائيات أن العالم يواجه الآن مشكلة "الحرام أكثر من الحلال في شأن المواليد"، وجاء في الإحصائية أن نسبة الأطفال غير الشرعيين قد ارتفعت إلى ستين في المائة، وجاوزت في بعض البلاد الخمسة والسبعين في المائة، كدولة (بنما) (¬1). هذه هي آثار منع التعدد، ألم يكن أكرم للمرأة أن تكون زوجة ثانية، أو ثالثة لها مكانتها، وبيتها، وينسب أولادها إلى أبيهم بلا تفرقة بينهم وبين إخوانهم، إن التعدد فيه مصلحة للنساء، وتحريمه فيه إضرار بهن. لقد عقدت عدة مؤتمرات في ألمانيا بعد الحرب العالمية، ونادى المؤتمرون يوجوب إباحة التعدد لمواجهة المشكلة الناتجة عن نقص الرجال، ونادى كثير من المفكرين الغربيين بوجوب إباحة التعدد (¬2)، ولكن العالم الغربي أصم أذنيه، واختار أن يسير في طريق الرذيلة. ثالثا: تحريم التعدد ظلم للأمة وظلم للرجال: إذا نظرنا في طبيعة كل من الرجل والمرأة وجدنا أن فاعلية الرجل الجنسية أقوى وأدوم من فاعلية المرأة في هذا الجانب. والمرأة تتوقف عن الإنجاب في سن الخمسين أو قبل ذلك، والرجل تستمر قدرته على الإنجاب حتى لو عاش مائة عام، والمرأة تحيض في كل شهر أيامًا قد تصل إلى أسبوع، وتحمل مدة تسعة أشهر فتقل رغبتها في المعاشرة الجنسية، وتلد وتصبح نفساء مدة قد تزيد على الشهر، ومعاشرة الحائض والنفساء حرام، فالحيض ¬

_ (¬1) الإسلام يتحدى: ص 149. (¬2) راجع: تعدد الزوجات لعبد الله علوان.

والنفاس أذى، يؤذي الرجل والمرأة. فإذا حسبت الزمن الذي تكون المرأة غير مهيأة للمعاشرة الجنسية تجده طويلًا، قد يصل إلى ثلث عمرها، بينما الرجل لا تأتيه هذه العوارض التي تصاحب المرأة. إن منع الرجل من الزوجة الثانية ظلم للرجل لأن طبيعته الجنسية لا يعرض لها ما يعرض لطبيعة المرأة، وظلم له من ناحية ثانية، لأنه قادر على الإنجاب في الحال التي لا يمكن المرأة أن تنجب فيها، وظلم للأمَّة التي تُحرْم من الاكثار من النسل بسبب منع التعدد مع كون أحد الطرفين صالحا للإنجاب وإمداد الأمّة بمزيد من الذرية. رابعًا: التعدد لمعالجة مشكلات طارئة: قد تمرض المرأة، وقد تكون عاقرًا، وقد يصيبها البرود الجنسي ... ، ومع ذلك كله فقد يرغب الزوجان في استمرار العلاقة الزوجية، والحفاظ على الود القديم، أمّا في ظل منع التعدد- فإن الرجل يجد نفسه ملزمًا بتطليق زوجته حتى يتمكن من التزوج بأخرى. خامسا: التعدد نظام عالمي: كان التعدد نظامًا أخذت به البشرية على مدار التاريخ، التوراة تنص صراحة على إباحة التعدد، وإبراهيم أبو الأنبياء تزوج من سارة وهاجر، ويعقوب وسليمان وداود تزوجوا بأكثر من زوجة، ولا يوجد فِي الإنجيل نص يمنع التعدد، بل إن التعدد كان في كثير من الشرائع غير مقيد بقيود ولا محدود

هل في التعدد ظلم للمرأة؟

بحدود، فوقف الإسلام موقفا وسطا في ذلك، فأباح التعدد في حدود لا يجوز تجاوزها. هل في التعدد ظلم للمرأة؟ إن كثيرا من النساء يرفضن أن يشاركهن في أزواجهن امرأة أخرى، وتنشأ من هذه المشاركة مشكلات ومنازعات وخلاف. ونحن لا ننكر أنه قد يحدث شيء من ذلك، إلا أن المصالح التي تترتب على التعدد أعظم بكثر من المضار التي تنشأ عنه، بل إن هذه المضار لا تمثل واحدًا في الألف بالنسبة للمصالح المترتبة على التعدد، ثم إن الإسلام لم يهمل المفاسد التي يمكن أن تنشأ عن التعدد، ومن هنا لا يوافق الإسلام على التعدد إذا لم يكن الرجل قادرا على الإنفاق على الزوجة الثانية، والإسلام بأمر الرجل بالعدل في القسمة والنفقة والسكنى بين أزواجه، كما يأمره بالعدل بين أولاده، فلا يجوز التفريق بين الأبناء في المعاملة والهبة والعطية، وكل هذا علاج لما يمكن أن ينشأ من التعدد من آثار. لماذا لا يباح للمرأة التعدد؟ تعدد الأزواج للمرأة الواحدة محرم شرعًا، ومستقبح عقلًا، فالمرأة مكان الزرع، وإذا تعدد الأزواج اختلطت المياه، وضاعت الأنساب، والرجل يعاشر عدة نساء ونجزم مع ذلك بنسبة جميع الأولاد من جميع نسائه إليه، أما المرأة فليس الحال عندها كذلك. ثمَّ إن الرجل له القوامة على المرأة، فمن الذي تطيعه المرأة وتستجيب لأمره إذا اشترك فيها عدة رجال؟ ثمَّ إن أكثر النساء لا تستطيع تلبية حاجة رجل واحد

زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم -

فكيف تلبي حاجة مجموعة من الرجال! ! إن هذه الشبهة لا يرددها إلا الذين لا يريدون خير المجتمع ولا خير المرأة. زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - تزوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أربع زوجات، واجتمع عنده تسع زوجات في وقت واحد. وقد أثار المستشرقون والمستغربون زوبعة حول هذه المسألة، يريدون الطعن في الإسلام وفي رسول الإسلام، وإضلال المسلمين عن دينهم، والرد عليهم: أولًا: أننا نؤمن بأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه فعل ما شرع الله له {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50]. فالاعتراض على ذلك اعتراض على حكم الله وشرعه، وهو فساد في العقل، وقصور في العلم، وخلل في النظر. ثانيا: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة للأمّة، فاختصه الله بهذا العدد من الزوجات لكي ينقلن لنا صورة لحياته الداخلية مع أسرته حيث لا يصاحبه غيرهن، ولا شكَّ أن قدرة التسعة على ذلك أعظم من قدرة الواحدة والاثنتين. ثالثًا: هناك حكم راعاها الإسلام ورسول الإسلام من وراء هذا التعدد، فكثير من النساء اللاتي تزوجهنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قصد من ذلك رعايتهنَّ، وإكرام آبائهنَّ بالزواج منهنَّ، ومدَّ الحبال بينه وبين عشائرهن.

الفصل الثالث منهج الطلاق في الإسلام

الفصل الثالث منهج الطَلاق في الإسلام إذا كان الزواج بناء، فإن الطلاق هدم، والزواج شرع للحاجة، والطلاق قد تدعو إليه الحاجة، والزواج يحتاج إلى نظام يقوم به حتى تنضبط العلاقة بين الرجل والمرأة من خلاله، وحتى لا تفسد العلاقة غير المنضبطة الحياة الإنسانية، والطلاق يحتاج إلى نظام، لأن الذين يهدمون البيوت والعمارات غير الصالحة إذا لم يحسنوا الهدم أضروا بأنفسهم وأضروا بغيرهم. إن الزواج اجتماع باتفاق وتراضي، وقد يتعين بعد اللقاء أن حياة الزوجين لا يمكن أن تستمر بحال من الأحوال، لاختلاف الأفكار والتصورات، أو لبغضاء وكراهيه تملأ قلب الواحد منهما على الآخر، أو لاعتبارات أخرى، وما دام الزواج تمَّ برضاهما فيمكن أن يقع الانفصال برضاهما أو بإرادة واحد منهما، وليس من العقل والحكمة والمنطق أن يلزم الإنسان أن يعيش مع آخر طيلة عمره، وهو يكرهه ويبغضه، وقد يصل الأمر -إذا ألزم بذلك- إلى قتله أو قتل نفسه ولما كانت الدواعي إلى الفرقة والانفصال قد لا تكون حقيقية فقد أمر الإسلام باتباع نظام معين، هذا النظام يقلل من نسبة الطلاق، ويوقف الفرقة الناشئة عن نزوة طارئة، أو كراهية وقتية، أو حالة نفسية عارضة. إن الإسلام يأمر الرجل بالصبر على زوجه وإن رأى منها ما يكرهه، {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

وكل امرأة تتصف بصفات حسنة، ويوجد بها ما قد يكرهه الرجل، وإذا شاء الرجل امرأة كاملة الأوصاف فقد لا يجد، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إذا كره منها خلقًا رضي منها آخر" رواه مسلم (¬1). فإذا ثارت بين الزوجين مشكلات فقد شرع الإسلام سبيل العلاج، ويكون باتباع الخطوات التالية: الأول: وعظ الزوجة إن كان الخطأ من جانبها، وتذكيرها بالله، وما أوجب عليها من حقه، وتذكيرها ياليوم الآخر. الثاني: فإن لم ترتدع فله أن يهجرها، ويكون الهجران في المضجع، ولا يغادر المنزل. الثالث: الضرب غير المبرح إن لم يُجْدِ الهجر شيئًا. وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]. فإذا لم تصلح الأمور أو كان الخطأ من قبل الزوج - فقد أمر الله بالتحكيم بينهما، وذلك باجتماع رجلين واحد من أهل الزوج، والثاني من أهلها، فيسمعان من الزوجين، وقد يوفق الله على أيديهما بينهما، فإن بعض الناس لا يستطيعون حل مشكلاتهم بأنفسهم {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَينَهُمَا} [النساء: 35]. فإذا لم يُجْد ذلك شيئًا، ولم يستطع الرجل البقاء مع زوجه فله أن يطلق. ¬

_ (¬1) مشكاة المصابيح: 2/ 298.

وإذا شاء الطلاق فعليه أن ينتظر حتى تحيض زوجته ثمَّ تطهر ثمَّ يوقع الطلاق، وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. فلا يجوز تطليقها في الحيض، ولا في طهر جامعها فيه. فإذا انتظر الزوج كل هذه الفترة وهو مصمم على الطلاق، ثم أوقع الطلاق فإن أسباب الطلاق تكون حقيقية ولا شك، وليست نزوة وقتية عارضة. فإذا أوقع الطلاق على النحو الذي وصفنا، فإن الحياة الزوجية لا تنقطع، وعلى المرأة أن تبقى في بيت زوجها مدة العدة، ومدتها ثلاث حيضات لمن تحيض، وثلاثة أشهر للآيسة، والحامل أجلها أن تضع حملها. والمرأة في هذه الفترة لا تحتجب عن زوجها، ولا تمتنع عن تكليمه، إلا أنه لا يعاشرها، فإن عاشرها فإن ذلك عودة عن الطلاق، وإبطال له، وفي هذه الحال ترجع إليه بدون عقد وبلا مهر، لأنها زوجة، كل ما يفعله أن يشهد على إعادتها. فإذا أصر على المضي في الطلاق طيلة هذه الفترة التي هي فترة تأمل، ومحاسبة للنفس- فلا شك أن الأسباب الداعية للطلاق وجيهة. فإذا تركها حتى انقضت عدتها، ورغبا في إعادة العلاقة الزوجية فإن الإسلام لا يمنع من ذلك، فقد يكون في الطلاق علاج للرجل، أو علاج للمرأة، فالمخطئ قد يبصر خطأه، وقد يدرك أنه كان ظالمًا، فترجع الحياة الأسرية إلى أفضل مما كانت عليه. وقد نهى الإسلام أولياء المرأة من منع المرأة من العودة إلى زوجها {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَينَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232].

حق المرأة في الفراق

فإذا أعاد الزوج زوجه في عدتها، أو أعادها بعقد بعد انقضاء عدتها، ثم حدث ما أوجب طلاقها مرة أخرى فإنه يعطى مثل الفرصة الأولى التي تحدثنا عنها. فإن طلق الثالثة فإنها لا تنتظر في داره، بل تعود إلى منزل والديها، ولا تحل له بعد ذلك حتى تنكح زوجًا غيره {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ} [البقرة: 230]. إلى هذه الدرجة يحرص الإسلام على استمرار عقد الزوجية ومعالجة المشكلات الناشئة بين الزوجين. حق المرأة في الفراق إذا كانت المرأة هي الراغبة فِي الفراق، فلها أن ترفع الأمر إلى القاضي، وهنا تكون ملزمة بأن تعيد إلى زوجها المال الذي بذله لها، وإذا تحقق ذلك يصدر القاضي أمره بالفرقة. روى ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة" رواه البخاري (¬1). وهذا الذي أشار به الرسول - صلى الله عليه وسلم - منصوص عليه في الكتاب، قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيتُمُوهُنَّ شَيئًا إلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. ¬

_ (¬1) مشكاة المصابيح: 2/ 208.

الفصل الرابع المرأة في الإسلام

الفَصل الرابع المَرأة في الإسلام (¬1) تعرض وضع المرأة في التشريع الإسلامي لهجوم شديد من أعداء الإسلام، وقد ركزوا على هذا الجانب، لأنهم يعلمون أن فساد المرأة يعني فساد الأجيال التي تربيها المرأة، وفساد المجتمع الذي تعيش فيه المرأة، وقد رفع راية الحملة على المرأة المسلمة المستغربون في ديارنا، لقد هاجموا المتحجبات والحجاب، وقالوا الحجاب ظاهرة، وظاهرة عفنة، وقال قائلهم (¬2): "الحجاب رمز مَذَلَّة المرأة، ومصادرة لما وهبتها إياه الطبيعة، وصورة انقطاعها القسري عن الحياة الحقيقية الوسيعة والخصيبة". وقال حاكم من حكام ديار المسلمين: الحجاب تقليد من التقاليد البالية العتيقة. وقال بعض هؤلاء: "ما تحجبت من تحجبت إلا سترًا لعيوب الجسد، ورغبة في الزواج من شاب متدين إذا كسدت سوق الزواج". وقالوا ما هذا التحجر والجمود، وقالوا: "العودة إلى الحجاب عودة إلى الجاهلية الأولى". وقالوا: "إن الحجاب لا يصلح إلا في مجتمع قبلي جاهلي". ¬

_ (¬1) راجع في هذا الموضوع رسالتنا "المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم" طبعة مكتبة الفلاح- الكويت. (¬2) عفيف فراج في مجلة الأسبوع العربي عدد 831، بتاريخ 12/ 5 / 75.

مأساة المرأة في العالم الغربي

وأهل الضلال وقادته يسيرون على هدي إبليس في إضلالهم العباد، فهم يصورون الحقَّ في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وهم في ذلك يفلسفون الباطل، ويحاولون أن يدللوا عليه بما يوهم الذين لا علم عندهها بأن قولهم حقائق لا تقبل الجدل، ومن جملة ذلك ما يفعله أدعياء التقدم حين يطلبون من المرأة التمرد على دين ربها، والخروج على تعالميه، باسم التحرر والتمدن ... ، فمن ذلك أنهم يقولون للمرأة ما هذه الملابس التي تكبل حريتك، وتخفي جمالك ومحاسنك، وتحرمك من التمتع بالحياة؟ ويقولون لها: لماذا أنت في المجتمع عضو أشل، لا تساعدين في رفاهية المجتمع ولا تقومين بأعمال الرجال؟ ! أنت لست بأقل من الرجل شأنًا، والرجل ليس أذكى منك. ويقولون لم لا تخالطين الرجال، ألست واثقة من نفسك؟ ! مأساة المرأة في العالم الغربي إن هؤلاء يريدون المرأة المسلمة أن تسير كما سارت المرأة الغربية، والذي يتابع أخبار تلك المجتمعات يعلم أن سعادة المرأة البيتية في عالم الغرب قد انهارت، وأضاعت المرأة هناك أمومتها الحانية، وفقدت إرادتها وشخصيتها، فغدت حامل الطفل اللقيط تبحث في شرق البلاد وغربها عن مستشفيات الوضع، ففي تقرير إحصائي أصدرته منظمة الصحة العالمية (¬1) في عام 1962 ذكرت منظمة الصحة أنه يجري في كل عام (15) مليون حادثة إجهاض أو قتل جنين، وهذا الرقم يمثل فقط العمليات السرّية غير المشروعة قانونًا، أما الدول التي تسمح بهذا العمل كالدول (الإسكندنافية)، ومعظم دول أوروبا التي تبيح الإجهاض فهي غير داخلة في الإحصاء. ¬

_ (¬1) راجع مجلة الأمان البيروتية، في عددها الثامن 23/ 3 / 79.

الرجل والمرأة في ميزان الإسلام

المرأة اليوم في عالم الغرب تمزقها مأساة مؤلمة، إن كثيرًا من النساء هناك يحملن على أكتافهن ظلم الرجال، وصعوبة الحياة، يحملن على أكتافهنَّ أطفالًا قد حرموا من حنان الأبوة، والمرأة هناك يقلقها ظلمات الحيرة والندم كلما صرخ الطفل: ماما ... لماذا ليس لي أب كسائر الأطفال؟ ! . الرجل والمرأة في ميزان الإسلام الرجل والمرأة في ميزان الإسلام جناحان لا تقوم الحياة الإنسانية ولا ترقى إلا في ظل عملية تنسيق ومواءَمة بينهما، فالله خلق المرأة للمهمة ذاتها التي خلق من أجلها الرجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وأناط السعادة بتحقيق كل من الرجل والمرأة لهذه المهمة، والتعاسة والشقاء بالإعراض عنها، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124]. حرية الرجل والمرأة إن الإسلام ألزم الرجل والمرأة بالعبودية لله الواحد الأحد في صورة الخضوع لمنهجه ودينه، وهذه العبودية هي أعظم مراتب الحرية، فالإنسان من خلال توجهه لله وعبادته له، يتحرر من كل سلطان، فلا يوجه قلبه ولا يطأطئ رأسه إلا لخالق السموات والأرض، فالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب كلها مخلوقات معبَّدة مربوبة خلقها الله لمنفعتنا لا لنعبدها.

لا ظلم ولا استبداد

والإنسان في الإسلام يتحرر حتى من سيطرة الهوى وسلطان الشهوة، فالذي يسيطر على ضميره ودخيلته إنما هو سلطان الشرع، وهو يطرد سلطان الهوى إذا عارض سلطان الشرع {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]. إذن هي حرية في صورة العبودية، ولا يمكن للبشرية أن تتحرر إلا بهذه العبودية، إن الحرية في غير الإسلام تصبح حريّة جوفاء لا معنى لها، بل هي العبودية المذلّة المهينة، وإن بدت في صورة الحريّة، إن الخضوع للزعماء والرؤساء والمناهج والقوانين والنظم وما تحبه النفس بعيدًا عن تشريع الخالق إنما هو عبودية وأي عبودية. لا ظلم ولا استبداد في الإسلام ليس هناك مجال كي يظلم الرجل المرأة، لأن الرجل لا يحكم بهواه، بل هو محكوم بشريعة الله كما أن المرأة محكومة بشريعة الله. وتحقيق الخير في المجتمع الإسلامي يتوقف على فقه الشريعة التي تحكم الرجل والمرأة، ثم تنفيذ هذه الشريعة في حال رضى الطرفين أو عدم رضاهما، وهذا ينطلق تصور المسلم للقضية، وقد عبر الله عن هذا بقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. مصدر الخطأ ويحق لنا هنا أن نتساءَل عن السبب الذي من أجله تأخرت المرأة المسلمة،

لا نسوغ الأخطاء

وعن سبب الظلم الواقع عليها في ديار المسلمين، السبب في ذلك أن كثيرا من الأوضاع في ديار المسلمين بعيدة عن الإسلام، في شؤون السياسة والاقتصاد والتعليم والاجتماع، وبسبب هذا البعد عن الإسلام نشأت أوضاع فاسدة. إن الظلم الواقع على المرأة في ديارنا كالظلم الواقع على الرجل سواء بسواء ليس سببه الإسلام الذي ندين به، بل سببه البعد عن الإسلام ومحاولة فصل الدين عن الحياة. لا نسوِّغ الأخطاء إننا لا نتعامى عن الأخطاء، ولا نسوغها ونفلسفها، هناك ظلم حاق بالمرأة، وأوضاع فاسدة تحيط بها، هناك من العلماء والعوام في ديارنا من يرى أن المرأة لا يجوز أن تتعلم، ولا يجوز أن تخرج من بيت والدها إلا إلى بيت زوجها، والخرجة الأخرى لا تكون إلا إلى القبر، هناك من يرى أن المرأة ليست جديرة بالتقدير والاحترام ... ، هناك من يكلف المرأة فوق طاقتها ولا يرحم ضعفها، هناك الآباء القساة، والأزواج الجهلة، الذين يضربون بناتهم وزوجاتهم ضرب غرائب الإبل، نحن ندرك ذلك ولا نتعامى عنه، ولكننا نعلم أن هذا مرض من أمراض كثيرة تحيط بالأمة الإسلامية، في رجالها ونسائها وأطفالها، ونحن نحمد عمل كلّ من خاض غمار المجتمعات الإسلامية لتقويم المعوج وإصلاح الفاسد، وتسديد المتجه إلى الحق، ولكن لا نريد علاج الخطأ بخطأ آخر، ولا نريد أن ننتقل من إفراط إلى تفريط، ومن ضلال إلى ضلال، لا نريد أن نبقى هكذا مرة إلى اليمين ومرة إلى الشمال من غير ضابط ولا معيار، نحن نعلم أن في اتباع الإسلام الخير الذي أصلح الحياة من قبل، ورحم الله الإمام مالك حيث يقول: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".

المرأة في المجتمع الإسلامي

المرأة في المجتمع الإسلامي إن الذي يعايش المسلمين، ويعرف الإسلام يدرك أن المراد المسلمة تتبوأ في المجتمع الإسلامي مكانة عالية، مكانة تحفظ لها كرامتها، وتحفظ إنسانيتها، وتصفون عفافها. الإسلام لا يعتبر المرأة جرثومة خبيثة كما اعتبرتها اليهودية والنصرانية، الإسلام يقرر الحقيقة الأزلية التي تزيل الهوان الذي وصمت به الأديان المحرفة المرأة. الإسلام يقول إن المرأة خلقت من الرجل، وأن خلق المرأة نعمة ينبغي أن يحمد الرجال ربهم على إيجادها {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. والمرأة في ميزان الإسلام كالرجل، فرض الله عليهما القيام بالتكاليف الشرعية، وهي تحمد إذا استجابت لأمر الله، وتذم إن تنكبت الصراط السوي: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ (40)} [غافر: 40]. {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (195)} [آل عمران: 195]. واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ

وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]. والتناصر في المجتمع الإسلامي، والقيام بالأعباء الاجتماعية يشمل الرجال والنساء: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71]. وإيذاء المؤمنات في المجتمع الإسلامي كإيذاء المؤمنين يمقت الله صاحبه، وهو عمل يستوجب العقوبة في الدنيا والآخرة: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58]. وقال في الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق} [البروج: 10]. والمرأة في المجتمع المسلم لها أن تتعلم ما ينفعها من علوم الدنيا والآخرة، وما خبر تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسر، وقد ثبت أن الشفاء بنتَ عبد الله القرشيّة علَّمت أمَّ المؤمنين حفصة الكتابة، وكان ذلك بإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياها على ذلك (¬1). وقد صحح الشيخ ناصر الدين الألباني أيضًا بعض طرق حديث: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، أي بزيادة لفظ: "مسلمة" (¬2). ¬

_ (¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، حديث رقم 178. (¬2) انظر تعليق الشيخ ناصر الدين الألباني على كتاب حقوق النساء لمحمد رشيد رضا ص 19.

التفاضل بين الرجل والمرأة

وجعل الإسلام للمرأة أن ترث وتملك وتتصرف في مالها في الوقت الذي لا زالت بعض دول أوروبا لم تعطها هذا الحق بعد. وجعل من حقّ المرأة أن تُستأذن في أمر زواجها ولها الحق في أن ترفض، وليس لولي أمرها أن يلزمها بالزواج ممن لا ترضاه زوجا. فقد روى أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة وابن ماجة من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "جاءَت فتاة إلى رسول الله، فقالت إن أبي زوجني من ابن أخيه، ليرفع بي خسيسته. قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر إليها، فقالت: "قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أنه ليس إلى الآباء من شيء"، تعنى أنه ليس لهم إكراههن على التزوج بمن لا يرضينه. وجعل الإسلام للمرأة حقوقًا علي زوجها، كما للزوج حقوقًا عليها، قال {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. والمراد بهذه الدرجة درجة القوامة التي نص الله عليها في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. التفاضل بين الرجل والمرأة تعرضت هذه الآية من كتاب الله: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} لنقد شديد من الخفافيش وأدعياء التقدم، وقالوا هذا ظلم للمرأة وإهانة لها، وقد ضلَّ

هؤلاء الذين ينسبون لله الظلم وخاب سعيهم، إن القرآن يقرر هنا حقيقة: وهي أن البيت كالمجتمع تماما يحتاج إلى قيادة، يحتاج إلى أن يكون شخص ما فيه هو المسؤول الأول، كي يحسم الأمور إذا لم يحصل الاتفاق، وقد جعل الله ذلك للرجل لأمرين: الأول: لأنَّ الله فضله، وهذا التفضيل بسبب تلك الخصائص التي ميزه الله بها كي يؤدي دوره ويقوم بواجباته. الثاني: أن الأزواج هم المسؤولون عن الإنفاق على أزواجهم وأولادهم. والذين لا يثبتون فروقًا بين الرجل والمرأة يتعامون عن الحقيقة، والذين لا يرون أن الرجل أقدر على القيادة عماهم أكثر وأشدّ، "لقد أثبت علم الأحياء أن التكوين الجسمي في المرأة غيره في الرجل، فالتكوين الجسمي في المرأة، وما يكون فيها من غدد تعدّها لخصائص الأنوثة في دقة الخاصرة وبروز الثديين، ولين الجانب، ورقة العاطفة، ونعومة الملمس، وعذوبة الحديث، وغلبة الحياء، وكثرة الخجل، وقلة الجلد، وضعف التحمل. والمرأة يأتيها في كل شهر ما يأتي النساء من المحيض فيسوء الهضم، وتصاب بالآلام في البطن، وصداع في الرأس، وتبلد في الحس، وضعف في التفكير، وانفعال في النفس ... وتحمل فتصاب في الشهور الأولى بغثيان وتقيؤ وصدود عن الطعام والشراب، وانحراف في المزاج وكسل وهبوط، وتظل آلام الحمل العادي معها تسعة أشهر، وتشتد وطأتها في الشهور الأخيرة، فلا تقوى على الكثير من الحركة، وتشكو آلامًا في البطن والصدر والرأس وتحسّ بضيق عام يأخذ بخناقها، ويفسد مزاجها، ويعكر صفو عيشها، وتضع فتأتي فترة الرضاعة، وتتعرض في الأسابيع الأولى لكثير من الأمراض، وتظلّ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ضعيفة البنية، يتحول ما تأكله إلى لبن يروي وديعة الفطرة، ويغذي

ولدها، وتصرف جلّ وقتها في حضانته ورعايته ونظافته" (¬1). وقد جاء العلم الحديث ليقول إن الفرق بين الرجل والمرأة بعيد الغور، فهو لا يتوقف على المظاهر الخارجية -بل هو أبعد من هذا يقول- الكس كاريل في هذا الموضوع: "إن الأمور التي تفرق بين الرجل والمرأة لا تتحدد في الأشكال الخاصة بأعضائهما الجنسية والرحم والحمل، وهي لا تتحدد أيضًا في اختلاف طرق تعليمهما، بل إن هذه الفوارق هي ذات طبيعة أساسية، من اختلاف نوع الإنسجة في جسم كليهما، كما أن المرأة تختلف عن (المرء) كليًّا، في المادة الكيماوية التي تفرز من مبيض الرحم داخل جسمها، والذين ينادون بمساواة الجنس اللطيف بالرجل يجهلون هذه الفوارق الأساسية، فيدَّعون أنه لا بد أن يكون لهما نوع واحد من التعليم والمسئوليات والوظائف، ولكن المرأة في الواقع تختلف عن الرجل كل الاختلاف، فكل خلية من جسمها تحمل طابعًا أنثويًا، وهكذا تكون أعضاؤها المختلفة، بل وأكثر من ذلك هذه هي حال نظامها العصبي. إن قوانين وظائف الأعضاء محدودة ومنضبطة كقوانين الفلك، حيث لا نملك أحداث أدنى تغيير فيهما بمجرد الأمنيات البشرية، وعلينا أن نسلم بها، كما هي، دون أن نسعى إلى ما هو غير طبيعي، وعلى النساء أن يقمن بتنمية مواهبهن بناء على طبيعتهن الفطرية، وأن يبتعدن عن تقليد الرجال" (¬2). وزادنا العلم الحديث إيضاحًا في هذه المسألة عندما أكد لنا أن هناك تباينا ما ¬

_ (¬1) نظام الأسرة لمناع القطان: ص 20. (¬2) الإنسان لا يقوم وحده لا لكسس كاريل ص 93، وقد ترجم إلى العربية بعنوان: "العلم يدعو إلى الإيمان".

بين دماغ الرجل، ودماغ المرأة، ففي مقال نشرته مجلة (الديار) (¬1)، تقول سميرة صايغ كاتبة المقال: "هناك تباين بين انفعالات دماغ المرأة ودماغ الرجل، وإن الأقسام النشطة في دماغ المرأة تختلف عن الأقسام النشطة في دماغ الرجل، على الرغم من محاولات المرأة التشبه بالرجل"، وتقول: "المرأة المعاصرة ترفض النظرية القائلة بأن هناك تباينًا بين الرجل والمرأة من جهة المقدرة (الفزيولوجية)، ومن جهة الكفاءَات الذهنية، واليوم تبرز نظرية بل اكتشاف علمي يؤكد أن هناك فعلا اختلاف بين دماغ الرجل، ودماغ المرأة من حيث الكفاءات الذهنية الناتجة عن ذلك الدماغ أي بكلمة أخرى هناك (دماغ ذكر) و (دماغ أنثى). ويقسم العلماء الدماغ البشري إلى قسمين: قسم أيمن، وقسم أيسر، ويؤكدون أن القسم الأيمن لدى الرجل هو أقوى منه لدى المرأة، ماذا يعني هذا؟ الدماغ هو عضو مؤلف من أنسجة رخوة تتشعب فيها الأوعية الدموية الرفيعة والأعصاب التي تحمل الإحساسات من الخارج إلى الداخل، وتحمل أوامر الدماغ إلى سائر الأعضاء في الجسم كي تقوم بوظيفتها. هذا من الناحية التكوينية للدماغ، أمّا من ناحية العمل (الفزيولوجي) للدماغ فقد تبين للعلم الحديث أن الدماغ يقسم إلى مناطق، وكل منطقة تقوم بمهمة أو مهمات معينة". وقد تأكدت هذه النظرية مؤخرًا بعد أن تمكن العلماء من تصوير الدماغ وهو يقوم بوظائفه المختلفة. ¬

_ (¬1) مجلة الديار، عدد (106) بتاريخ 5 - 11/ 5 / 1975.

وذكرت الكاتبة أن أبرز من عمل في هذا الحقل هو الدكتور (دافيدانغمار) السويدي الذي يعمل في جامعة (لوند) في السويد. استعمل الدكتور (انغمار) غاز (كزينون) الذي يذوب في الدم ويولد إشعاعات (غاما)، وذلك لتصوير الدماغ، وهو يقوم بمهمات مختلفة. فهو يحقن الإنسان ببعض (الكزينون) الذي يذوب، وينتقل عبر الأوعية الدموية إلى الدماغ، وتنتقل صورة ما يحدث في الدماغ عبر (32) سماعة مثبتة في أنحاء مختلفة من الرأس إلى (كومبيوتر) يقوم بتحليل تلك الصورة، وتحديد نوعية العمل الذي يقوم به الدماغ في تلك اللحظة، والركن الذي يصدر عنه ذلك العمل. ولاحظ الدكتور (انغمار) أنّ كلّ عمل يقوم به الدماغ يصدر من مكان مختلف من الدماغ ... ، وإذا ازدادت كثافة ذلك العمل، ازدادت الرقعة العاملة من الدماغ دون أن يتغير مكانها. وأمكن الآن تحديد الأماكن التي تقوم بشتى أنواع النشاطات، فهناك ركن خاص بالقوى النظرية والسمعية وتلك الناتجة عن اللمس ... ، بينما يتركز الإحساس الناتج عن طريق الشم في مكان آخر، إن للتفكير زاوية، وللقدرة على النطق زاوية أخرى، وكذلك القدرة على القراءَة والحساب، وضبط حركة الجسم العضلية، وتوجد زاوية للانفعال النفسي، أي للغضب والعنف، أو العطف والحنان. وانطلاقًا من ذلك كله تبين للعلماء مؤخرًا أن الشطر الأيمن من الدماغ يعمل بصورة أنشط لدى الذكر، بينما يعمل الشطر الأيسر لدى الأنثى بنشاط أكثر من الشطر نفسه لدى الذكر.

سنريهم آياتنا

هذا وتجدر الإشارة إلى أنه في الشطر الأيمن تتركز المناطق الخاصة بالإحساس السمعي باللحن والأصوات، وتلك الخاصة بفهم الرسوم وشمول الرؤيا، وتقدير المسافات، والعلاقات بين الرموز. وهذا ما يفسر إذن تفوق الرجل في الرياضيات والهندسة والموسيقى، أي في المجالات النظرية التي تتعامل بالرموز، وعلاقة بعض تلك الرموز ببعضها الآخر. أما الشطر الأيسر فتتركز فيه القوى السمعية الخاصة بالتقاط الكلمات والألْفاظ وحفظها وكذلك قراءة تلك الكلمات والأحرف، ومن هنا نشأ تفوق المرأة في المجالات الأدبية، وفي التعامل مع الأشياء الملموسة. سنريهم آياتنا ويحق لنا هنا أن نردد قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. فالله تعالى ذكر في كتابه قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. فجعل شهادة امرأتين بشهادة رجل فيما يتعلق بأمور المال، وها هي البحوث الحديثة التي تغلغلت إلى أعماق عقل المرأة وعقل الرجل توضح لنا شيئًا من سر هذا التشريع الرباني. إن هذا التشريع منسجم مع وظائف عقل كل من الرجل والمرأة، والله العليم الخبير يشرع لنا ما يحفظ الأموال، وفي حالة الحاجة إلى شهادة المرأة يلزمنا بشهادة امرأتين، ويذكر العلة {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].

لا ضير على المرأة

مما يدل على أن استيعاب الرجل لأمور المال ورسوخها في فكره أكثر وأقوى منها عند المرأة. لا ضير على المرأة لا ضير على المرأة أن تكون على ما بينّا، فإن حكمة العليم الخبير اقتضت أن تكون كذلك لتؤدي دورها المرسوم في الحياة، فإن المرأة تفضل الرجل فِي تدبير شؤون البيت وتربية الولد والقيام عليه، بما جبلت عليه من الحنان والرقة ومن التركيب العضوي الذي يعينها على وظيفتها مثل جهازها العصبي الذي يقلل من إحساسها بآلام الحمل والوضع. والمرأة تخشى كثيرًا أن تفقد أنوثتها، التي هي أخص خصائص وتفزع كثيرًا إذا ما ضمر ثدياها، أو نبت لها شعر في وجهها، أو خشن صوتها، أو غير ذلك مما هو من خصائص الرجال، وخوض المرأة في المجالات التي هي من خصائص الرجل يفقدها كثيرًا من خصائصها التي تبكي عليها كثيرًا إذا فقدتها. ولقد ظهر في الغرب طبقة جديدة من النساء منذ أواخر القرن الماضي، أطلق عليهن أحد الكتاب الإنجليز اسم (الجنس الثالث) (¬1)، هذه الطبقة تمثل المترجلات من النساء اللواتي يأبين إلا الخروج على فطرتهن، والزج بأنفسهم في ميادين الرجال. لقد فقد هذا الصنف من النساء أنوثتهن فلم يعدن نساء، ولم يدخلن في عداد الرجال، ذلك أنهن يخالفن الرجال طبيعة وتركيبًا، ويخالفن للنساء، وظائف وأعمالًا، وقد درس الكاتب الإنجليزي "أحوالهن درسًا مدققا فوجد أنهن يتركن ¬

_ (¬1) راجع (حصوننا مهددة من داخلها) ص 112.

الزواج، وبانتزاعهن أنفسهن من وظائف الأمومة وما يتبعها قد تغيرت إحساساتهن عن إحساسات بنات جنسهن، وصرن في حالة من الكآبة تشبه أعراض الماليخوليا".

الفصل الخامس المؤلفات في الأسرة

الفصل الخامس المؤلفات في الأسْرَة لم يخص القدامى هذا الموضوع بالتأليف، لأنه داخل في كتب الفقه العام، ومن الذين خصوه بالتأليف صديق حسن خان في كتابه: "حسن الأسوة فيما ثبت عن الله ورسوله في النسوة". وقد أكثر المحدثون من التأليف في هذا الموضوع، فقد كتب عبد الكريم اليافي كتاب "الأسرة بين الجاهلية والإسلام"، وكتب الشيخ مناع القطان كتاب "نظام الأسرة في الإسلام"، وكتب العلامة المودودي كتاب "الحجاب"، وكتب الدكتور محمد عبد السلام كتاب: "قوانين الأسرة"، وقبل هؤلاء كتب محمد رشيد رضا كتاب "حقوق النساء في الإسلام"، وكتب بعض العلماء والباحثين مؤلفات خاصة بوضع المرأة في الدين الإسلامي، فقد كتب عصام عبد الله كتاب "المرأة المؤمنة"، وكتب محمد البيهي كتاب "الإسلام واتجاه المرأة المسلمة"، وكتب الدكتور السباعي كتاب "المرأة بين الفقه والقانون"، وقد كتبتُ رسالة لطيفة بعنوان: "المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم".

الباب الخامس العقوبات في الإسلام

البابُ الخامس العقوبات في الإسلام ويشتمل كل تمهيد وأربعة فصول. التمهيد: في بيان أنواع العقوبات. الفصل الأول: جرائم الحدود. الفصل الثاني: جرائم القصاص. الفصل الثالث: جرائم التعزير. الفصل الرابع: شبهات حول العقوبات في الإسلام. الفصل الخامس: المؤلفات في التشريع الجنائي.

التمهيد: أنواع العقوبات

العقوبات في الإسلام التمهيد: أنواع العقوبات: أنزل الله دينه ليكون منهج حياة، وكل دين أنزله الله فهو منهج حياة لمن أنزل إليهم، ورفض البشر لدين الله يستوجب العقاب، والعقاب للذين يرفضون هذا الدين، أو يتمردون على بعض أحكامه أنواع ثلاثة: 1 - عقاب إلهي أخروي: يبدأ هذا العقاب في البرزح، ثم يكون في المحشر، ويبلغ مداه عندما يدخل أهل النار النار، وقد حدثنا ربنا طويلًا، عن الجزاء الأليم الذي يستحقه الكفار في الآخرة: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} [سورة سورةالواقعة: 41] {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)} [سورة الواقعة: 41 - 56]. وقد يكون هذا العقاب جزئيًّا وهذا لمرتكبي المعاصي من الموحدين، فقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الذي لا يستتر من بوله يعذب في قبره، وحدثنا ربنا أن {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [سورة النساء: 10]. والآيات في ذلك كثيرة.

2 - عقاب إلهي دنيوي: ومن تتبع آيات الكتاب علم يقينا أن التمرد على دين الله يجلب غضب الله وعذابه في الدنيا قبل الآخرة، وقد عرض القرآن لنا مصارع الأُمم المكذبة الغابرة {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [سورة الأعراف: 4]. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَويٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)} [سورة الأنفال: 52]. {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)} [سورة المؤمنون: 44] وقد أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن الله رفع عن هذه الأمة عذاب الاستئصال الكلي العام الذي يأخذ الأمَّة كلها، ولكنه لم يرفع العذاب الدنيوي الجزئي، فكما هو مشاهد أنه في كل عصر وجيل يصاب بعض المسلمين بالزلازل والصواعق والأوبة، بسبب ذنوبهم {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيدِيكُمْ} [سورة الشورى: 30]. 3 - عقاب أمر الله أولي الأمر في الدولة الإسلامية بإيقاعه على المجرمين: وهذا النوع هو الذي قَصَر فقهاء الإسلام نظرهم عليه، وبحثوه في مؤلفاتهم، وسموه العقوبات أو الجنايات وقد تبين للفقهاء أن العقوبات التي شرعها الإسلام في هذا الباب نوعان: عقوبات مقدرة. وعقوبات غير مقدرة. والعقوبات المقدرة قسمان:

قسم لا يجوز إسقاط العقوبة فيه يحال إذا رفعت إلى الحاكم، لا من قبل الحاكم، ولا من قبل المجني عليه، وهذه هي جرائم الحدود، وهي جرائم الزنا، والقذف، والسرقة والحرابة، وشرب الخمر، والردة. وقسم يجوز إسقاط عقوبته المحددة، وهذه هي جرائم القصاص، والأمر متروك للمجني عليه أو ولي أمره - في إقامة الحد أو العفو، فإذا أصر من له حق القصاص على إقامة الحد، فليس للحاكم إلا تحقيق مراده. أما العقوبات غير المقدرة، فهي العقوبات التي فوض الشارع أمرها إلى القاضي أو الحاكم، حيث يقضي كل قاض فيها بما يراه مناسبًا، ذلك أن جرائم هذا النوع تختلف من شخص إلى آخر، ومن زمان إلى زمان. وسنعقد لبيان كل واحد من العقوبات الثلاث فصلًا.

الفصل الأول جرائم الحدود

الفَصْل الأول جَرائم الحُدود وهذه الجرائم كما قلنا من قبل لا يجوز إسقاط عقوبتها إذا رفعت إلى القاضي، وقد جعل الله إقامة العقوبات على مرتكبيها حقًّا لله وحده، فلا يجوز لأحد أن يعفو ويصفح، وما ذلك إلا لأنها جرائم خطيرة، إذا ترك أمرها للبشر فتساهلوا في إقامتها حصل من جراء ذلك فساد كبير، وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين من التهاون في إقامتها، وعدّ ذلك واحدًا من الأسباب التي أدت إلى ضلال الأمم السابقة، وهلاكها، وقد روت لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، قالوا: من يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن يجترئ عليه إلا أسامة، حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أتشفع في حد من حدود الله"! ! ثم قام، فخطب، فقال: "يا أيها الناس، إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها" متفق عليه (¬1). وسنتناول حكم هذه الجرائم بشيء من الإيجاز. ¬

_ (¬1) المنتقي للمجد ابن تيمية: ص 655.

المبحث الأول حد الزنا

المَبْحَث الأول حَدُّ الزِّنَا الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز عند الإنسان، وقد شرع الحكم العليم الزواج طريقًا لتصريف هذه الغريزة، وجعل الزواج نواة الأسرة التي يقوم عليها المجتمع. ويري الإسلام أن الزنا جريمة تهدم الأخلاق، وتحطم الأسر، وتفسد المجتمعات، ولذلك نهى عنه، وعن كل ما يؤدي إليه {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [سورة الإسراء: 32]. أمر الإسلام بإغلاق كلّ المنافذ التي تؤدي إليه، وتشجع عليه، فحرم التبرج، وأمر بالحجاب، وأمر بالاستئذان عند دخول البيوت، وحرّم الرقص والاختلاط ... الخ. وعقوبة الزاني في الشريعة الإسلامية نوعان: الأول: الزاني الذي لم يسبق له أن تزوج زواجًا صحيحًا، فهذا يجلد مائة جلدة، وقد جاء هذا الحكم في كتاب الله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِالَّةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [سورة النور: 2]. الثاني: الزاني المحصن، وهو الذي سبق له أن تزوج زواجًا شرعيًّا، فحكمه الرجم حتى الموت، وحكم الرجم ثابت في السنة النبوية، فقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم بقوله "والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد (¬1) وأمر - صلى الله عليه وسلم - برجم من اعترف على نفسه بالزنا، فقد ¬

_ (¬1) المنتقى: ص 639.

المبحث الثاني حد القذف

رجم ماعزًا والغامدية ورجلًا يهوديًّا، والرجم للزاني أحد الأحكام المقررة في التوراة، وقد كانت يهود تكتم ذلك، وفي ذلك أخبار صحيحة ثابتة عندنا في الصحاح والسنن (¬1). ولكن الزنا لا يثبت عندنا إلا إذا شهد أربعة شهود أنهم رأوا مواقعة الزنا عيانًا، وهذا أمر نادر الوقوع، خاصة في مجتمع يعلن الحرب على هذه الفاحشة النكراء، أو اعترف الزاني باقترافه لهذه الجريمة. وعقوبة اللواط لا تقل عن عقوبة الزنا، فهو جريمة نكراء، تمجها الفطر الإنسانية، وترفضها الأديان الشرعية، وقد عاجل الله تلك الأمة التي انتشرت فيهم بالدمار. المَبْحَث الثاني حَدُّ القَذْف وهو اتهام النساء المسلمات المحصنات بالفاحشة، وعقوبة الذين يرمون المسلمات بهذه التهمة الشنيعة بغير بينة ثمانون جلدة {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [سورة النور: 4، 5]. وقد أضافت الآية إلى الجلد إسقاط عدالة الرامي وعدم قبول شهادته، ما لم يتب ويرجع عن اتهامه. وهذه العقوبة الظاهرة العاجلة وراءَها عقوبة أشدُّ وأنكى {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ ¬

_ (¬1) راجع المنتقى: ص 639 - 640.

المبحث الثالث حد شرب الخمر

الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} [سورة النور: 23 - 25]. فإذا كان القاذف هو الزوج فالحكم هنا اللعان، وذلك بأن يشهد أربع شهادات على صدقة فيما رماها به، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وتشهد هي أربع شهادات على كذبه والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} [سورة النور: 6 - 9]. وفِي هذا الحكم على الذين يقولون بألسنتهم ما ليس لهم به علم، ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم - قطع لقالة السوء التي تؤذي الأحياء، وتهدم المجتمعات، وتسري بين الناس سريان النار في الهشيم {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة النور: 19]. المَبحث الثالث حَدُّ شرب الخمْر كل ما يغتال العقل ويذهبه فهو خمرٌ، وفي الحديث "كل مسكر حرام" رواه

البخاري ومسلم، فيدخل في الخمر صلى شراب أسكر سواء صنع من التمر أو العنب أو القمح أو غير ذلك، ويدخل فيه الحشيش والأفيون: الحبوب التي تؤدي إلى الهلوسة. وقليل ما أسكر كثيره حرام، وقد صحت الأحاديث بذلك. وقد كانت الخمر شائعة عند أهل الجاهلية، يشربونها ويفخرون بشربها، وتقديما للضيوف قال حسان بن ثابت: ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدًا لا ينهنهنا اللقاء ولكن بعض عقلائهم كان يعرف مضرتها وما تسببه من آفات كما قال الشاعر: شربت الخمر حتى ضل عقلي ... كذاك الخمر تفعل بالعقول فلما جاء الإسلام تدرج بهم، حتى حرمها تحريمًا كليًّا في نهاية المطاف، وآخر ما نزل في شأن الخمر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَينَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [سورة المائدة: 90، 91]. وكما حرم الإسلام شربها حرم تصنيعها والاتجار بها ونقلها وكل ما يتعلق بها. وقد ظهر للناس اليوم شيء كثير من آفات الخمر، وصدقت أبحاث الخبراء أقوال المجربين من قبل الذين قالوا: الخمر أم الخبائث، ذلك أن من ضربها وفقد عقله لا يبعد عليه أن يقع في آية جريمة من الجرائم، فقد يضرب ولده ويقتله ويواقع أُمَّه، ويفعل ما يندى له الجبين، ولو أُخِذ للسكير فلم تلفزيوني حال سكره لذاب حياء من نفسه إذا كانت فيه بقية حياء عند عرض الفلم على من أخذ له.

المبحث الرابع حد السرقة

وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بجلد شارب الخمر نحو أربعين جلدة، ففي حديث أنس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل قد ضرب الخمر، فجلد بجريدتين، نحو أربعين، قال أنس، وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الصحابة، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه (¬1). وأكثر الفقهاء على أن حدَّ شارب الخمر ثمانون جلدة، وفيهم من يقول بل أربعون، منهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. المبحث الرابع حَدُّ السرقَة السارق هو الذي يجيء مستترًا إلى حرز فيأخذ منه ما ليس له، والسارق يعتدي على أموال الناس المعصومة التي حصلوها بالتعب والجهد، وأموال الناس غالية عليهم كأرواحهم. وعقوبة كل من سرق قطع يده اليمنى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا} [سورة المائدة: 38]. ولا تقطع اليد في السرقة إلا بشروط: الأول: أن يكون المال مسروقًا من حرز، والحرز هو المكان الذي يحفظ فيه المال، وحرز كل مال بحسبه، فحرز الذهب والفضة خزائن المال، وحرز البهائم الحظائر، وحرز الأثاث البيوت. ¬

_ (¬1) المنتقى للمجد ابن تيمية ص 655.

المبحث الخامس حد الحرابة

الثاني: أن يكون ثمن المسروق ربع دينار ذهبًا فصاعدًا، والدينار يساوي 4.25 جرام بوزن زماننا، وفي الحديث عن عائشة قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا" رواه الجماعة إلا ابن ماجة (¬1). الثالث: أن تثبت السرقة باعتراف أو شهادة الشهود. الرابع: أن لا يكون للآخذ شبهة في المال، فلا تقطع يد والدٍ أخذ من مال ولده، أو زوجة من مال زوجها. الخامس: أن يكون المسروق مما يتمول ويملك ويحل بيعه، فلا قطع فيمن سرق خنزيرًا أو خمرًا. المَبْحث الخامس حَدُّ الحرابَة المحاربون قطاع الطرق هم طائفة خرجوا مسلحين في دار الإسلام، لإحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الأموال، وهتك الأعراض، وإهلاك الحرث والنسل، متحدِّين بذلك الدين والأخلاق والنظام والقانون. ولا فرق بين أن تكون هذه الطائفة من المسلمين، أو الذميين، أو المعاهدين، أو المحاربين ما دام ذلك في دار الإسلام، وما دام عدوانها على محقون الدم. وكما تتحقق الحرابة بخروج جماعة من الجماعات فإنها تتحقق كذلك بخروج فرد من الأفراد. ويدخل في مفهوم الحرابة العصابات المسلحة المختلفة كعصابات القتل، وعصابات خطف الأطفال، وعصابات اللصوص للسطو على البيوت، ¬

_ (¬1) المنتقى للمجد ابن تيمية: ص 650.

والبنوك، وعصابات خطف البنات والعذارى والفجور بهنَّ، وعصابات إتلاف الزروع وقتل المواشي والدواب. وكلمة الحرابة مأخوذة من الحرب، لأن هذه الطائفة الخارجة على نظام الجماعة تعتبر محاربة للجماعة من جانب، ومحاربة للتعاليم الإسلامية التي جاءَت لتحقيق أمن الجماعة وسلامها بالحفاظ على حقوقها من جانب آخر، وكما يسمى هذا الخروج على الجماعة وعلى دينها حرابة، فإنه يسمى قطع طريق، لأن الناس ينقطعون بخروج هذه الجماعة عن الطريق، فلا يمرون فيه، خشية أن تسفك دماؤهم، أو تسلب أموالهم، أو تهتك أعراضهم، أو يتعرضون لما لا قدرة لهم على مواجهته، ويسميها بعض الفقهاء بـ "السرقة الكبرى" (¬1). وقد وضَّح القرآن عقوبة هؤلاء المجرمين بقوله {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة: 33 - 34]. "وقد قدم قوم من عكل وعرينة (¬2) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة، فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذود، وراع، وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها حتى إذا كانوا بناحية الحرَّة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعى النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث في آثارهم، فأمر بهم، فسملوا أعينهم، وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرّة، حتى ماتوا على حالهم" رواه الجماعة (¬3). ¬

_ (¬1) فقه السنة للسيد سابق 2/ 464، بشيء من التصرف والاختصار. (¬2) قبيلتان من العرب. (¬3) المنتقى للمجد ابن تيمية: ص 659.

المبحث السادس حد الردة

المَبْحَث السَادس حَدُّ الرِدَّة المرتد هو الذي كفر بعد إسلامه، يكون ذلك بإعلانه الردة أو بعلامة واضحة بينة تدل على ذلك، ومما يدل على هذا إنكار ما علم من الدين بالضرورة، أو استباحة محرم، أو تحريم ما أجمع المسلمون على حله، أو سب الخالق أو الرسول أو الدين، أو الاستهزاء بشيء من ذلك، أو ادعاء النبوة، أو إلقاء المصحف في القاذورات ونحو ذلك. والردة جريمة كبرى {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة: 217]. وعقوبة المرتد القتل ففي حديث ابن عباس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه الجماعة (¬1)، وقد اتفقت كلمة الصحابة على قتال المرتدين الذين خرجوا عن الإسلام بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) المنتقى للمجد ابن تيمية ص 668.

الفصل الثاني جرائم القصاص

الفَصْل الثاني جَرائم القصَاص يريد الفقهاء بالقصاص الجناية التي تقع على النفس أو ما دونها من جرح أو قطع عضو، ولا يجوز العدوان على نفوس العباد بالإزهاق أو ما دونه إلا بإذن شرعي، من أجل ذلك حرَّم الله قتل الأولاد والوأد، وحرم القتل عمومًا، ورهب من القتل ترهيبًا شديدًا {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [سورة الإسراء: 31]. {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [سورة التكوير: 8، 9]. {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} [سورة الإسراء: 33]. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [سورة النساء: 93]. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه البخاري ومسلم. فإذا اعتدى شخص على نفس معصومة بالقتل متعمدا فإن جزاءَه أن يقتل، وإن اعتدى عليه بإفساد عضو من أعضائه أو يجرحه فإنه يفعل به كما فعل بالمجني عليه، والقصاص من التشريع الذي كتبه الله على بني إسرائيل وأقرته شريعتنا

{وَكَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَينَ بِالْعَينِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [سورة المائدة: 45]. وتنفيذ القصاص متروك للمجني عليه إن كان حيًّا، أو لوليه إن كان ميتا {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [سورة الإسراء: 33]. فإذا عفى المجني عليه أو ولي أمره فإن القصاص يسقط، وله أن يعفو مطلقا، أو يأخذ الدية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} [سورة البقرة: 178]. أمَّا إذا كان القتل خطأ فلا سبيل إلى قتل القاتل، والواجب عليه الدِّية، وكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلا خَطَأ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَينَكُمْ وَبَينَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)} [سورة النساء: 92].

الفصل الثالث جرائم التعزير

الفَصْل الثالث جَرائم التَّعْزير التعزيرات تكون في "المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة" (¬1) كما يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد مثل لهذه المعاصي "بالذي يقبل الصبي، والمرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جماع، أو يأكل ما لا يحلُّ له كالدم والميتة، أو يقذف الناس بغير الزنا، أو يسرق من غير حرز، أو شيئًا يسيرًا، أو يخون أمانته كولاة أموال بيت المال، أو الوقوف، ومال اليتيم ونحو ذلك، إذا خانوا فيها، وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا، أو يغش في معاملته كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفف المكيال والميزان، أو يشهد بالزور، أو يلقن شهادة الزور، أو يرتشي في حكمه، أو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يعتدي على رعيته، أو يتعزى بعزاء الحاهلية، أو يلبي داعي الجاهلية" (¬2). فهؤلاء وأمثالهم كما يقول ابن تيمية: "يعاقبون تعزيرًا وتنكيلًا وتأديبًا، بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته، فإذا كان كثيرًا زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلًا، وعلى حسب حال كبر الذنب وصغره، فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم ما لا يعاقبه من لم يتعرض إلا لمرأة واحدة، أو صبي واحد" (¬3). ¬

_ (¬1) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 96، طبعة دار الكتب الحديثة، بيروت. (¬2) المصدر السابق ص 97. (¬3) المصدر السابق.

"وليس لأقل التعزير حد" كما يقول العلامة الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى "بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان من قول أو فعل، وترك قول، وترك فعل، فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له، وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة كما هجر النبي وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا، وقد يعزر بعزله عن ولايته، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعزرون بذلك، وقد يعزر بترك استعماله في جند المسلمين، كالجندي المقاتل إذا فرَّ من الزحف، فإن الفرار من الزحف من الكبائر، وقطع خبزه نوع تعزير له، وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم، فعزله من الإمارة تعزير له، وقد يعزر بالحبس، وقد يعزر بالضرب، وقد يعزر بتشويه وجهه (¬1) وإركابه على دابة مقلوبا" (¬2). ¬

_ (¬1) يريد بذلك تسويد وجهه، ولا يقصد التمثيل به، فذلك حرام. (¬2) المصدر السابق.

الفصل الرابع شبهات حول تشريع العقوبات الإسلامي

الفَصْل الرابع شبهات حَول تشريع العقوبات الإسلامي تعرض تشريع العقوبات الإسلامي لهجوم شديد من الذين عميت بصائرهم، أو من الذين يريدون السوء بالإسلام والمسلمين. إن تطبيق العقوبة وفق المنهج في الإسلام يحفظ على المسلمين دينهم وأنفسهم وأموالهم وعقولهم وديارهم، وبذلك يحافظ على مقومات المجتمع الإسلامي، كما تحافظ على ثمار الجهود التي تبذل لتحضر المجتمع ورقيه، والذين يريدون لهذا المجتمع السقوط هم الذين يهاجمون تشريع العقوبات. وقد قالوا في هجومهم على تشريع العقوبات إنها تشريعات قاسية، لا تناسب روح العصر، والمفروض في المشرع أن يعالج نفسية المجرم، أمَّا تشريع العقوبات في الإسلام فإنها تحطم نفسية المجرم عندما تجلده أو تقطع يده. وفي الرد عليهم نقول: 1 - إن الذي فرض هذه العقوبات هو رب العباد، وهو أرحم بعباده من العباد بأنفسهم، ولو لم يكن هؤلاء مستحقون لهذه العقوبات لما فرضها العليم الخبير. 2 - أثبتت هذه العقوبات عبر التاريخ الإسلامي جدواها في الحد من الجريمة، وعندما تخلصت البشرية من هذه العقوبات زاد انتشار الجريمة، وسنلقي نظرة على مدى انتشار الجريمة في الغرب بسبب خفة العقوبة.

3 - إن البديل الذي وضعته القوانين الوضعية للعقوبات البدنية هو السجن، وعقوبة السجن تحتاج إلى تقويم، فقد أصبحت السجون مدارس وجامعات لا لإصلاح المجرمين بل إلى تخريج كبار المجرمين، فالمنحرف يدخل السجن فيختلط بكبار المجرمين، ثم يتخرج على أيديهم، ويصبح مجرمًا كبيرًا. أضف إلى هذا أن العقوبة الشرعية لا تكلف الأمة إلا القليل من الوقت، أمَّا السجون فلها تكاليف باهظة في بنائها وتجهيزها، ثم في حراستها وحمايتها، ثم في تقديم الخدمة لمن نزل فيها، ومهما قامت الدول ببناء السجون فإنها تضيق بنزلائها، حتى الدول الكبرى أرهقها بناء السجون. 4 - إن الذين يريدون إلغاء العقوبات الشرعية بحجة الرحمة بالمجرمين، نظروا إلى الموضوع بعين واحدة، أو نظروا إليه من زاوية واحدة، نظروا إلى المجرم فقط، ولكنهم أهملوا المجتمع الذي عاث فيه المجرمون فسادًا، هؤلاء لم يكترثوا بالدماء التي تسفك، والأعراض التي تنتهك، والأموال التي تنهب، والعقول التي تدمر، ولم يهتموا بالآثار الخطيرة التي تسببها الجريمة للصغار والكبار والرجال والنساء والأسر والمجتمعات، فكم من إنسان فقد النطق بل الحياة عندما فوجئ بمجرم يشهر عليه السلاح في منتصف الليل! وكم من مجتمع فقد الأمن بسبب كثرة الجريمة! ! 5 - من الذي يقول إن العقوبة البدنية لا تعالج نفس المجرم، إن العقوبة فيها صلاح للمجتمع كله بما فيه المجرم وفي ذلك يقول رب العزة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [سورة البقرة: 179]. في القصاص حياة لمن أراد القتل، فبخوفه من القصاص يحفظ نفسه، وبالقصاص يعصم من أراد قتله أيضًا، ومن هذا المنطلق أمر الشارع بأن يشهد

مدى انتشار الجرائم في هذا العصر

العقوبة طائفة من المؤمنين {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِالَّةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [سورة النور: 2]. مدى انتشار الجرائم في هذا العصر وقف المسلمون في الفترة السابقة وقفة المدافع عن دينه ضد الهجمة الشرسة التي يقودها دعاة الاستعمار والتبشير في ديارنا على إسلامنا وديننا، خاصة العقوبات الشرعية، وقد زعموا أنها تشريعات قاسية لا تناسب هذا العصر المتحضر، ولكننا اليوم نقف وقفة الهجوم لا الدفاع، فزوال الخوف من الله من قلوب الناس في المجتمعات الغربية التي يقولون إنها متقدمة، وخفة العقوبة على الجرائم نشر الجريمة في عالم الغرب نشرًا أذهل الزعماء وقادة الفكر هناك، وأصبحت تلك المجتمعات مرتعًا للجرام، وخشى كثير من رجال الفكر في تلك الديار من انهيار الحضارة الغربية، بيد أبنائها، وزاد الطين بلة أن الجرائم التي أباحتها القوانين الغربية كالزنا وشرب الخمر واللواط والإجهاض ... أخذت تعمل عملها في تدمير كيان الفرد وكيان الجماعة، وتحول الأفراد في تلك المجتمعات إلى مخبولين وأنصاف مجانين. نحن لا ندعي هذه الدعوى، بل زعماء الغرب وعلماؤه هم الذين يقولون ذلك، لقد صرح كندي رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في عام (1962) أن مستقبل أمريكيا في خطر، لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات، لا يقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأنه بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد، يوجد ستة غير صالحين، لأن الشهوات التي غرقوا فيها أفسدت لياقتهم الجسمية والنفسية.

وفي نفس العام وفي نفس العام صرح خروشوف رئيس الدولة الكبرى الثانية روسيا كما صرح كندي، فقد صرح بأن مستقبل روسيا في خطر، وأن شباب روسيا لا يؤتمن على مستقبلها لأنه منحل مائع غارق في الشهوات. وفي مطلع عام 1982 قال (رونالد ريغان) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في خطاب موجه إلى الكونغرس بأن "الخوف من الاغتصاب والقتل قد خيم على معظم الأمريكيين ... وكل عائلة من ثلاثة أصبحت ضحية للجريمة" (¬1). وحسب إحصاءَات مكتب التحقيق الفيدرالي فإن عدد الجرائم في الولايات المتحدة قد ازداد من (11) مليونا في عام 1975 إلى (13) مليونا في عام 1981 الأمر الذي دفع ريغان إلى القول: في سبتمبر 1982 "أنه لا يسعنا الاعتقاد بأن في مقدور المواطنين القيام بالنزهات المسائية في الحدائق بشكل هادئ وطبيعي" (¬2). وقد زادت الجرائم في خلال عام 1982 حيث وردت الإحصاءات التالية: جريمة قتل في كل 23 دقيقة، وجريمة اغتصاب بالعنف في كل 6 دقائق، أما السرقات المسلحة ففي كل 58 ثانية تقع سرقة (¬3). وفي إيطاليا استطاعت عصابات الإجرام أن تقطف رؤوس علية القوم هناك، ففي عام 1978 اختطفت الألوية الحمراء (الدومورو) رئيس وزراء إيطاليا، وقد ألقته جثة هامدة في سيارة في وسط المدينة بعد عدة أيام من اختطافه، ولم تستطع شرطة إيطاليا وجيشها أن يفعلوا شيئًا. ¬

_ (¬1) جريدة الوطن الكويتية 28/ 8 / 83. (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق.

إن الصحف التي تنقل لنا أخبار عالم الغرب تأتينا في كل يوم بسيل من أحداث الإجرام، ففي مطلع عام 1983 وفي ليلة عيد الميلاد تمكن اللصوص من سرقة مجوهرات وأوراق نقدية قيمتها 7.9 مليون دولار من بنك الأندلس في بلدة (ماربيلا) في إسبانيا، وقد استعملت العصابة التي سرقت البنك مشاعل اللحام لفتح الباب الرئيسي الذي يؤدي إلى قبو المصرف بعد أن عطلوا نظام الإنذار، وقد أمضوا يومين في فتح وتفريغ مائتي صندوق حديدي في القبو. وفي 26/ 11 / 83 قامت عصابة مسلحة في لندن بواحدة من أكبر عمليات السطو في تاريخ بريطانيا حيث استولت على ما يقدر بنحو ثلاثين مليون جنيه استرليني من سبائك الذهب الخالص من إحدى شركات الودائع البريطانية بالقرب من مطار هيثرو الدولي في لندن، وتقدر زنة سبائك الذهب بنحو ثلاثة أطنان. وقد صرحت الشرطة البريطانية في ذلك الوقت بأن ستة رجال مسلحين بالمدافع قاموا صباح اليوم الذي تمت فيه السرقة بالإغارة على ذلك المستودع الذي كانت تحفظ فيه السبائك، وقاموا بتقييد رجال الحرس الموجودين هناك وصبوا كميات من البترول عليم وهددوهم بإشعال النار فيهم إذا ما قاوموا. وفي 1/ 12 / 83 اقتحم اللصوص مطار ماركو في البندقية واستولوا على 170 كيلو جراما من الذهب المشغول والمجوهرات قيمتها (1.4) مليون دولار. ونقلت لنا الصحف أن الحشيش والمريجوانا والمخدرات تفتك بالشعوب الغربية فتكًا مخيفًا، ففي فرنسا وحدها يوجد مليون مواطن فرنسي يتعاطون الحشيش أو المريجوانا بإدمان، وأن نحو مائة ألف آخرين أعمارهم ما بين 14 و 30 عامًا يدمنون على مخدرات أشد تأثيرًا مثل الكوكايين وغيرها. وقد أعلن البوليس الفرنسي أنه سينظر في عام 1983 في (11) ألف حادثة

إدمان في مقابل (62) حادثة فقط في عام 1965، وذكر البوليس أنه ضبط في خلال عام 1982 (26) طنا من المريجوانا، و (98) كيلوغراما من حشيشة الكيف. أما البلايا الذي تصيب مجتمعاتهم بسبب الإباحة الجنسية والشذوذ الجنسي فحديثها لا ينتهي، وبلاياها لا توصف، يدلك على هذا ما ذكره أحد الأطباء الغربيين المتخصصين وهو الدكتور (جولد) فإنه قرر أنه في كل ثانية يصاب أربعة أشخاص بالأمراض الجنسية في العالم، وبعملية حسابية بسيطة نعلم أنه يصاب في كل يوم (345600) وفي كل عام (126.144.000). ويذكر الدكتور نبيل الطويل الذي نقل هذه الحقائق أن ثلاثة ملايين حالة جديدة من مرض السفلس الإفرنجي ظهرت في العالم، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها سجل في عام 1964 م مليون حالة من مرض السيلان، وارتفع عدد الإصابات في عام (1973) إلى مليونين ونصف مليون إصابة، وفي عام 1980 بلغ عدد الحالات المسجلة رسميًا ثلاثة ملايين ونصف المليون، أما الأعداد التي لم تدخل تحت الإحصاء فأكثر من ذلك بكثير، ويذكر الدكتور نبيل في مقاله الذي نشره في مجلة الأمة القطرية في عددها الصادر في شوال (1404) أن حوادث السيلان ارتفعت عالميًا 200 في المائة في الرجال، و 500 في المائة في النساء، وارتفعت الإصابة في الفتيات المراهقات إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، وينبه الدكتور نبيل في مقاله المدعم بالمراجع إلى أن اللواتي ينقلن المرض هن بنات المجتمعات التي تسمى محترمة، وأن عدد المومسات اللواتي ينقلن هذا المرض لا يتعدى (5) في المائة فحسب. ويذكر الدكتور نبيل أن عدد الأمراض الجنسية قبل أحد عشر عاما كانت

خمسة أو ستة أمراض فقط، أما في وقت نشره المقال فقد بلغت ستة عشر مرضا، وتتفاوت تلك الأمراض شدة وخطورة وانتشارًا، وبسبب تنوع وشذوذ الصلات الجنسية ظهرت أعراض جديدة لم تكن مألوفة في عدة أنحاء من جسد الإنسان. وقد ظهرت أمراض جديدة أشد خطورة وفتكًا بعد كتابة الدكتور نبيل مقاله، فقد ظهر مرضان أذهلا العالم الغربي هما مرضا الهربس، والأيدز. والهربس كما يقول الدكتور عبد الرحمن العوضي وزير الصحة في دولة الكويت مرض تناسلي يصيب الأعضاء التناسلية بآلام لا يعلم إلا الله مداها وقوتها وشدة قسوتها على المصاب ... إن الأعضاء التناسلية حين تصاب بهذا المرض تصابط بمضاعفات خطيرة له، فانسداد تلك الأعضاء أمر وارد، وإصابة المرأة الحامل تعتبر من الإصابات الخطرة، لأن احتمال انتقال الهربس للمولود أمر يصبح واردًا جدًّا. ويذكر الباحثون أن هذا المرض صعب علاجه بل يكاد أن يكون مستحيلًا لأن مسببه فيروس، والفيروسات تعيش كجزء من مادة نواة خلايا الجسم ولقتلها يتعين قتل خلايا الجسم. - وقد عقد مؤتمر دولي في أمريكا للأمراض الجلدية والتناسلية في عام 1983 حضره ستة آلاف طبيب من مختلف أنحاء العالم، يقول الدكتور عبد الوهاب سليمان الفوزان عضو وفد الكويت إلى المؤتمر: "لقد أذهلتنا الأرقام التي سمعناها عن المصابين بمرض الهربس في الولايات المتحدة والذي تجاوز الثلاثين مليون مصاب". وقد تلقت وزارة صحة الكويت في عام 83 تقريرًا من وزارة صحة أمريكا

يفيد: أن تلك الوزارة تتوقع ظهور (300) ألف حالة سنويا في أمريكا، وأن الهربس لا علاج له حتى الآن، وأن المرض ينتقل عن طريق الفم والمعاشرة الجنسية، وأن من 9 - 35 في المائة من الأمريكيين تعرضوا لفيروس الهربس بشكل أو بآخر، وأن النساء المصابات بالمرض يتعرضن للإجهاض أو الولادة المبكرة أو لانتقاله إلى الجنين وأن الأجنة المولودة مصابة، وتكون نسبة الوفيات فيها (50) في المائة. أما مرض (الأيدز) فهو أشدّ خطورة وفتكًا من مرض الهربس، لأنه يقضي على فريسته سريعًا ويهلكها، وقلما ينجو منه أحد، وهو مجهول المصدر، ولا يعرف العلماء أسباب الإصابة به وكيفية دخوله الجسم، وكل ما عرفه الطب الآن هو نوعية الأشخاص الذين يصابون به، وهم فئة الشاذين والشاذات وبنات الليل والمومسات، وهذا المرض يؤدي إلى فقدان المناعة في جسد الإنسان بسبب تكسر كريات الدم الحمراء، وقد نشرت مجلة (النيوزويك) الأمريكية في عام (1983) تحقيقا عنه جاء فيه أن هذا المرض ظهر في عام 1981، ودعي مرض الشباب، وأصيب به (1300) أمريكي، وقد توفي منهم (489)، ولم ينج منه إلا (14) في المائة عاشوا ثلاث سنوات بعد اكتشاف المرض فيهم، ولم يشف أي واحد منهم بصورة نهائية. وما إن نشرت المعلومات المذهلة عن هذا المرض وآلامه المبرحة حتى أصابت الناس في المجتمعات الغربية حالة من الذهول والخوف، يقول أحد المنتجين السينمائين في أمريكا: لا أعتقد أن هناك شخصًا عاقلًا في هذا البلد ليس خائفًا من هذا المرض إلى حد الموت، وارتفعت الأصوات في الدول الإباحية تنادي بالعودة إلى العفة ونبذ

الإباحية والشذوذ، وبلغ الأمر أن امتنعت الممرضات عن تقديم الطعام إلى المصابين بالأيدز، وأخذ الناس يتحاشون المصابين بهذا المرض، وأصبحوا يفرون منهم فرارهم من المجذومين، وامتنعت إحدى روابط دفن الموتى من دفن موتى الأيدز، وطالبت بنوك الدم من المصابين بهذا المرض عدم التبرع بالدم، وقد نشرت الصحف أن ألوف الأشخاص في كل بلد أوربي وفي أمريكايفكرون في الانتحار خوفًا من الإصابة بهذا المرض الرهيب. إن هذا البلاء الذي تعيشه تلك المجتمعات إنما هو نتيجة حتمية لمخالفتها لسنة الله وقانونه، وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هذا المصير الرهيب، ففي الحديث "يا معشر المهاجرين والأنصار: خمس إذا ابتليتم بهنَّ وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ... " (¬1). وعلى الذين يتهمون الشريعة الإسلامية في مجال العقوبات بالشدة والقسوة أن يخجلوا من أنفسهم، وأفكارهم الرجعية المتأخرة التي أدت إلى انتشار الجريمة، وفعلًا فقد عادت الأصوات ترتفع في عالم الغرب مطالبة بالعودة إلى الإعدام والعقوبات البدنية الرادعة، وهذا حق ففي القصاص حياة، ولكن لا يدرك هذا إلا أصحاب العقول. "يكفي أن نذكر مثالًا عمليًّا معاصرًا ليكون عبرة لمن يرون في العقوبات القرآنية قسوة لا تناسب الحضارة المعاصرة، وما يسمونه: "الضمير العالمي" الذي لا يطيق هذه العقوبات القاسية، ولكنه يطيق التفرقة العنصرية، وما يتبعها من استغلال واحتقار جنس لجنس، ويطيق وجود العصابات الدولية كالمافيا ¬

_ (¬1) حديث صحيح عزاه في صحيح الجامع إلى ابن ماجة والحاكم، صحيح الجامع: 6/ 306.

وغيرها، وما لها من أجهزة مسلحة، ومستشارين قانونيين ومحامين مهمتهم التحايل على القانون. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918 م) انتشرت المواد المخدرة كالهروين، في جميع أنحاء العالم، وواجهت اليابان الموقف بقانون يقرر عقوبة الإعدام لكل من يتعاطى أو يتاجر في المخدرات، وكان من نتيجة ذلك أن أُعدم شخصان فقط، وبعدها بادر كل من عنده كمية صغيرة أو كبيرة من المخدرات إلى إلقائها في الشارع، وقام البوليس بجمعها وإعدامها، وبذلك نجا آلاف اليابانيين في مقابل إعدام شخصين اثنين. وفي مدينة كالقاهرة تنشر الصحف أن بعض (النشالين) لهم ثلاثون أو أربعون سابقة في النشل، وأن هناك مدارس سريّة لتعليم (النشل)، بل لقد وصل الأمر إلى تكوين عصابات هاجمت الركاب في وسائل النقل المختلفة، واستولت على أموالهم، جهارًا نهارا. ولو قطعت يد سارق واحد لما وصل بنا الأمر إلى هذا الحد (¬1). وقد لجأت بعض الدول التي انتشرت فيها الجريمة إلى أسلوب غريب، ففي أندنيسيا تشن الدولة حملة واسعة النطاق ولكنها غير معلنة رسميًا على المجرمين، فتسفك دماءَهم في وضح النهار، لتخلص الناس من شرهم، ألم يكن الأولى أن يتم هذا من خلال قانون يقرر العقوبة المناسبة التي تكفل ردع المجرم عن جريمته، ولكن هذه الدول تخشى أن توصم بالرجعية والتخلف من قبل الدول الغربية إذا هي طبقت الإسلام، ومن هنا سلكت هذا السبيل الملتوي في معالجة الجريمة. ¬

_ (¬1) بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون للدكتور محمد عبد الجواد محمد ص 45 - مطبوعات جامعة الخرطوم - 8 - 1393 - 1973.

الفصل الخامس المؤلفات في التشريع الجنائي

الفَصْل الخامس المؤلَّفات في التشريع الجنائي كل كتب الفقه العام تخصص بابًا أو أكثر للتشريع الجنائي تعنون له بالحدود والقصاص، أو الجنايات، أو العقوبات، وقد خص المرحوم عبد القادر عودة هذا العلم بمؤلف مستقل عنون له "بالتشريع الجنائي في الإسلام" وكتب عبد الكريم الخطيب كتاب: "الحدود في الإسلام"، وخص بعض المؤلفين قضية واحدة بالتأليف، ومن ذلك كتاب "أحكام المرتد" لنعمان السامرائي.

الباب السادس الاقتصاد في الإسلام

البَابُ السَّادس الاقتصاد في الإسلام ويشتمل على أربعة فصول الفصل الأول: مباديء مهمة في النظام الاقتصادي. الفصل الثاني: مجالات النشاط الاقتصادي. الفصل الثالث: الربا. الفصل الرابع: المصارف الإسلامية. الفصل الخامس: المؤلفات في الاقتصاد الإسلامي.

تمهيد: هل في الإسلام نظام اقتصادي

الاقتصاد في الإسلام تمهيد: هل في الإسلام نظام اقتصادي: يتساءل بعض أبناء الإسلام اليوم قائلين: هل في الإسلام نظام اقتصادي؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل هو نظام كامل واف؟ وهل يناسب هذا النظام الحياة المعاصرة مع أنه أنزل منذ أربعة عشر قرنا؟ والسبب في هذه التساؤلات التي تكشف عن حيرة نفسية مضنية عائد إلى جهل كثير من المسلمين بدينهم، وإلى تأثير الثقافة الغربية التي غزت عقول أبناء المسلمين، كما غزت مناهج التعليم ونظم الحكم في ديارنا، وكانت نتيجة هذا الغزو ثمارا مرة، وقد كانت هذه التساؤلات واحدة من تلك الثمار. وإذا رجعت الي كتب الاقتصاد الإسلامي التي ألفت منذ أكثر من ألف عام وجدت فيها نظامًا اقتصاديًا فذًا، فقد بين علماؤنا المسلمون موارد بيت المال ومصارفه، فتحدثوا عن الخراج وجبايته، كما تحدثوا عن نظام المقاسة ونظام الالتزام والإقطاع، وفصلوا أمر الجزية وهي الضريبة التي كانت توضع على أهل الذمة مقابل الزكاة المفروضة، وبينوا الزكاة وأحكامها، فقد ذكروا الأموال التي تكون فيها الزكاة، والمصارف التي تصرف إليها، وفصلوا أمر الفيء: مصادره وموارده، كما تحدثوا عن الغنيمة، والعشور، والركاز. وبينوا الطرق والأنظمة التي كانت إطارًا يحكم العمل في تسيير هذه الأمور.

وإذا أنت رجعت إلى كتب الفقه الإسلامي وجدت الأبواب التي تبحث مسائل المال وتنظم أموره كثيرة جدًّا، تغطي مساحة هائلة في تلك الكتب، ومن هذه المباحث: البيوع، الإجارة، الشركات، الحوالة، الشفعة، الوكالة، العارية، الوديعة، الهبة، الوصية، العطية، الميراث، الحجر، الاحتكار، الزكاة، الخمس، الخراج، الميراث ... وغيرها، وهذه المباحث مرتكزة على النصوص من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه النصوص المنظمة لشؤون المال كثيرة جدًّا، وقد درس علماؤنا الواقع الاقتصادي في ضوء الكتاب والسنة، واستخرجوا القوانين والسنن التي تحكم هذا الواقع الاقتصادي وتسوده، وتجري بموجبها حادثاته، وهذا هو الذي يسميه علماء العصر: علم الاقتصاد. وكون الإسلام يعني بعلم الاقتصاد أمر طبيعي لا مناص منه، لأن الإسلام منهج حياة الإنسان، وهو منهج متكامل فذ منزل من العلم الخبير، وأمور الاقتصاد من الأمور الهامة في حياة الإنسان، فما كان للإسلام وهو المنزل من عند العليم الخبير أن يهمل تنظيم هذا الجانب في حياة البشر. وأمور المال تؤثر في حياة الفرد والمجتمع، والمال واحد من أهم العناصر لقيام التمدن الإنساني، فإذا قل المال أو اختل تنظيمه ودورانه في المجتمع - وقع تعثر في مسيرة ذلك المجتمع، وتوقف ارتقاؤه الحضاري، ووقعت فيه المشكلات التي تشغل بال حاكميه ومحكوميه ومفكريه، وفي كثير من الأحيان تصبح هذه المشكلات مزمنة تستعصي على العلاج كما هو الحال في المجتمعات المعاصرة، وقد عبر الإسلام عن أهمية أمر المال في المجتمع بتعبير فذ، قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].

فأمر بالحجر على السفيه، لأن تصرفه في أمر المال على غير استواء ضار بالأمة كلها، وعلل هذا الحجر بأن الله جعل المال قيامًا لأمر الأمّة. وقد يقول قائل: ولماذا ينظم الله بنفسه شؤون المال، ولم لا يترك هذه الأمور الدنيوية للبشر أنفسهم، وفي الجواب نقول: هل يستطيع البشر أن يقيموا أمورهم المالية والاقتصادية على العدل والحق، بعيدًا عن الباطل والظلم؟ على الذين يقولون: إن الإنسان قادر على أن يحقق هذا بنفسه، مستغنيًا عن تدبير الخالق أن ينظر نظرة في تاريخ الاقتصاد ليتبين المآسي والمظالم التي أحدثتها النظم الاقتصادية التي سادت في عالم البشر، فالنظام الإقطاعي كان يعبد البشر لملّاك الأرض، وكانت الأرض تباع، فيباع البشر الذين يعملون فيها كما تباع الحيوانات، ولا يملكون من أمرهم شيئًا. وتحطم نظام الإقطاع، وقام السادة الجدد الذين دعوا إلى النظام الحرِّ مقام السادة الإقطاعيين من قبل، فقد جعلوا من حق الفرد أن يملك ما يشاء ويتصرف في ماله كما يشاء، ولو أدى هذا إلى الإضرار بملايين البشر، وجاءت الشيوعية لتعصف بالنظام الاقتصادي الحر، وتقيم سلطة جديدة تملك كل شيء وتجعل البشر عندها عبيدًا للدولة، يعملون ولكنهم لا يملكون، وليسوا أحرارًا فيما يعملون، الدولة تتصرف في كل شيء، وتقنن كل شيء وقد عالج الفاشيون والنازيون ظلم الشيوعية بظلم جديد، أقام من سلطان الدولة طاغوتا لا يقل عن طاغوت الدولة الشيوعية، فهل تخلص البشر من طغيان البشر، وهل صلحت أحوالهم الدنيوية، إن البشر يفقدون في كل نظام من النظم البشرية حريتهم بنسب متفاوتة، وإن ادعى أرباب كل مذهب والقائمون عليه أنهم حرروا البشر مما يظنونه ظلمًا، إذ هم يرفعون ظلمًا يرونه، ويقررون ظلمًا من نوع آخر {اللَّهُ وَلِيُّ

الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [سورة البقرة: 257].

الفصل الأول مباديء مهمة في النظام الاقتصادي الإسلامي

الفَصْل الأول مبَاديء مهمَّة في النظام (¬1) الاقتصادي الإسلامي المطلع على نظام الاقتصاد في الإسلام يجده نظامًا فريدًا بين النظم الاقتصادية، وهناك مبادئ مهمة كثيرة يحسن تبينها في هذا النظام منها: 1 - نظام مستقل: هذا النظام نظام مستقل عن غيره من النظم، ولا يمكن أن يوصف بوصف غير الإسلام، وقد أخطأ الذين حاولوا ربط هذا النظام بواحد من النظم الاقتصادية السائدة كالرأسمالية والاشتراكية. النظام الاقتصادي يختلف عن غيره في الأهداف والوسائل والتشريعات، واللقاء بينه وبين غيره من النظم في بعض الجزئيات لا يجعل منه نظامًا اشتراكيًا أو رأسماليًا كما يزعم بعض الذين ينظرون إلى ظاهر الأمور نظرة جزئية سطحية. 2 - جزء من كل: ويجب أن يعلم أن نظامنا الاقتصادي جزء من كل، فالاقتصاد في الإسلام ¬

_ (¬1) النظام كلمة تطلق على شيء يراعي فيه الترتيب والانسجام والارتباط، وهي بهذا الاعتبار تشبه العقد من حيث انتظام أحجاره بعضها مع بعض، ونظم أية دولة تتكون من مجموعات القوانين والمبادئ والتقاليد التي تقوم عليها الحياة في تلك الدولة ومن هذه النظام: النظام الاقتصادي، النظام السياسي، النظام الإداري، النظام القضائي، ... (راجع كتاب النظم الإسلامية لحسن إبراهيم حسن ص د) نشر مكتبة النهضة.

3 - نظام فطري

يرتبط مع عقيدة الإسلام، وخلق الإسلام وتشريعات الإسلام الأخرى، ولا يمكن أن نقيم نظام الإسلام الاقتصادي بعيدًا عن أنظمة الإسلام الأخرى، لأن هذا النظام لا يؤدي دوره الأداء الصحيح في إصلاح الجانب المالي عند الأمَّة ما لم يعمل الإسلام عمله في إصلاح النفوس، وغرس القيم الفاضلة فيها، وإحاطة المجتمع بسوره الأخلاقي الذي يحكم مسيرة الفرد والمجتمع. 3 - نظام فطري: عندما يتعامل الفرد وفق نظام الإسلام يجد هذا النظام قريبًا إلى فطرته، فلا تجد صدودا عن التعامل به، فالإنسان مفطور على حب التملك، والإسلام يبيح الملكية في أوسع صورها، وكل ما يفعله هو تقييدها بقيود حتى لا تضر الفرد ولا المجتمع، وكذلك يبيح له من العمل ما لا يضر بنفسه أو غيره أفرادًا وجماعات. وإذا أنت نظرت في النظام الشيوعي وجدته يصادم الفطرة الإنسانية حيث يمنع من ملكية وسائل الإنتاج ويحول الشعب إلى عمال عند الدولة، وفي سبيل تحقيق هذا المبدأ استولى على الأراضي والمصانع والمنشآت، ولما كان الإنسان مفطورًا على حب التملك والحرص على المال فإن الناس هناك ثاروا، فسالت دماؤهم أنهارًا، لقد قتل الشيوعيون في روسيا أكثر من ثلاثين مليونا من البشر، هذا عدا الذين سجنوهم أو نفوهم. ويصادم النظام الشيوعي الفطرة الإنسانية من جانب آخر، فهو يطالب كل عامل في الدولة أن يبذل كل ما يستطيع في سبيل تحقيق الغاية من العمل الذي يقوم به، ولكنه لا يعطيه ما يكافيء جهده، بل يعطيه من المال ما يسد حاجته، والإنسان مفطور على أن يبذل من الجهد بمقدار ما يتوقع من المكافأة، فإذا كانت

4 - الاعتدال والتوازن

المكافأة محددة قل الجهد أم كثر فإن هذا يجعل العمال يتقاعسون عن العمل، فيقل الإنتاج. وإذا أنت نظرت في نظام الإقطاع وجدته يصادم الفطرة الإنسانية، فلم يكن يسمح في ذلك النظام للإنسان بأن ينتقل من مجال عمل إلى مجال آخر، فكل عمل مقصور على فئة معينة، وهذا يخالف الفطرة الإنسانية، فالمرء قد لا يناسبه عمل معين ويناسبه غيره. 4 - الاعتدال والتوازن: مشكلة الأنظمة الاقتصادية أنها ترى جانبًا واحدًا من الحقيقة، وتخفى عليها بقية الجوانب، وتفرد الإسلام -لأنه تنزيل من العليم الخبير- بالرؤية الشاملة لجميع الجوانب، فجاء نظامه الاقتصادي معتدلًا متوازنًا. يتضح هذا للناظر في النظام الاقتصادي الرأسمالي، الذي وضع التشريعات الكثرة لحماية حرية الملكية الفردية، وحرِّية العمل، ولكنه أهمل إهمالًا كبيرًا رعاية حق المجتمع، فنال الأغنياء والأثرياء في تلك المجتمعات أكثر من حقهم، فنشأت عن ذلك مظالم كثيرة، ووقع الضرر بالآخرين، وإذا أنت نظرت في النظام الشيوعي وجدت واضعيه يهدفون إلى تحقيق مصلحة المجتمع، ولكنهم في سبيل تحقيق ذلك ظلموا الفرد ومنعوه من حقوقه في الملكية والعمل. وجاء الإسلام ليضع نظامًا صالحًا لإقامة حياة الأفراد وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه، لا يظلم فيه الفرد ولا المجتمع، وهذا ما لا نجده في النظم الأرضية البشرية.

5 - تحقيق التراحم والتعاون

5 - تحقيق التراحم والتعاون: الإسلام يقيم نظامًا اقتصاديًا ينسجم في مساره مع هدف الإسلام في إقامة المجتمع الإسلامي المتراحم المتعاون، فالتشريعات الاقتصادية الإسلامية توجه الأغنياء إلى السعي في مصالح الفقراء وتقديم العون لهم وسدّ خلتهم، وليس لهم في الأغنياء إلى السعي في مصالح الفقراء وتقديم العون لهم وسدّ خلتهم، وليس لهم في ذلك منه، بل هو أمر إلهي رباني، يعاقب من حاد عنه، فالإسلام يقول لأبنائه أنتم إخوة فيما بينكم، ويقول لهم المال الذي بأيديكم مال الله وللفقراء حق في أموالكم، ويفرض في سبيل تحقيق هذا فرائض كالزكاة، والخمس، والخراج، ويحبب في الصدقات والإنفاق، فتقوم الألفة والمودة بين أبناء المجتمع الإسلامي. وإذا أنت نظرت إلى المجتمع الشيوعي تجد أن أحد أعمدته التي يقوم عليها هو الصراع بين طبقات المجتمع، هذا الصراع الذي يؤدي إلى العداوة والبغضاء وسفك الدماء ونهب الأموال، ومن ينظر في حال الدول الشيوعية يعلم صدق هذا الذي نقوله، والمجتمعات الرأسمالية لا تخلو من هذا المرض، فالفارق هناك بين البشر كبير، فئة قليلة هي التي تملك الثروة، وبقية الأفراد لا يملكون إلا القليل، والأغنياء لا شأن لهم بالفقراء، فالمال مالهم، ولا شأن لأحد بهم. 6 - توزيع الثروة وتفتيتها: يشبه علماء الاقتصاد المال بالدماء التي تجري في شرايين الجسم، وإذا كانت شراين الجسم مفتوحة تسمح بوصول الدم إلى كل أجزاء الجسد فإن جسد الإنسان يكون في وضع حسن، ولكن إذا أغلق شريان من الشرايين فإن الجزء الذي يغذيه ذلك الشريان يصاب بالشلل، وهذا ما يحدث عندما يكون المال دولة بين أيدي فئة قليلة من البشر.

7 - تحقيق تكافؤ الفرص

والضرر هنا لا يتوقف على الذين ليس في أيديهم المال، بل يتعداه إلى المجتمع كله، حتى أولئك الذين يملكون المصانع والمزارع والمتاجر يصابون بضرر كبير، وأصدق وصف توصف به حالة تلك المجتمعات أنها مصابة بالشلل في اقتصادها، فالمصانع والشركات تغلق أبوابها في كثير من الأحيان، والعمال لا يجدون عملًا، والناس لا يستطيعون شراء ما يريدون، والسبب في ذلك ليس هو قلة البضائع، ولكن المال مكنوز في خزائن المرابين والأثرياء، وعامة الناس يريدون شراء حاجاتهم ولكنهم لا يملكون المال الكافي، وعند ذلك تتكدس البضائع في المحازن، فتوقف المصانع والشركات أعمالها أو تقلل منها، وتستغني عن عمالها أو بعض منهم، ولو وضع نظام اقتصادي يوزع الثروة بين أبناء المجتمع، ويسمح بوصولها إلى مختلف القطاعات - فإن الحياة تزدهر، والمال ينمو، وقد علل القرآن توزيع مال الفيء على الفقراء دون الأغنياء بقوله: {كَي لَا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. وليس علاج هذا يحرمان جميع الناس من المال إلا في حدود ضيقة كما هو الحال في المجتمع الشيوعي، بل بوضع تشريعات تمنع من تكدس الثروة عند فئة معينة من فئات المجتمع وتسمح بسريان المال إلى جميع هذه الفئات، ومن أجل ذلك حرّم الإسلام الربا، وفرض الزكاة، وشرع نظام الإرث الذي يفتت الثروة دائمًا وأبدًا. 7 - تحقيق تكافؤ الفرص: النظام الاقتصادي الإسلامي يتيح للأفراد قدرًا متساويًا في فرص العمل وحيازة الممتلكات الإنتاجية منها والاستهلاكية، فلا يمنع فئة دون فئة من عمل من الأعمال، ولا يبيح لفريق دون فريق شيئًا من الممتلكات، يترك الإسلام الباب

8 - المال وسيلة لا غاية

مفتوحًا يلج كل فرد فيه بلا حواجز، ويحصل من الخير على قدر جهده ونشاطه. وهذه المساواة الحقيقية التي يرفضها النظام الشيوعي ونظام الإقطاع، أمَّا المساواة التي يريدها الشيوعيون - وهي إعطاء أفراد المجتمع قدرًا متساويا من الأجر - فهي ظلم وفساد، فما دام الناس متفاوتون في المواهب وما يبذلونه من الجهد - فلا بدَّ أن يتفاوت ما يحصلونه من أجر، وإلا فتكون سوينا بين الكسول والنشيط، والذكي والغبي، والعلم والجاهل، ومع أن الشيوعيين يدعون هذه الدعوى إلا أن واقعهم يناقض هذا، فزعماء روسيا ومفكروها ورؤساء المصانع والممثلون والممثلات ينال الواحد منهم أجرًا يساوي أجر مئات العمَّال بل ألوف العمال. 8 - المال وسيلة لا غاية: إن النظم السائدة اليوم تجعل الرفاه والغنى وتحصيل المال هو الغاية التي يسعى الفرد لنيلها، والمجتمع لبلوغها، ولذلك كانت حضارة اليوم حضارة مادية، سواءً أكانت شيوعية أم رأسمالية، وقد ضرب الرأسماليون في سبيل تحقيق هذا الهدف بمبادئ الدين والأخلاق عرض الحائط، ذلك أن الدين والخلق يوجهان الفرد والمجتمع وجهة أخرى، يكون المال فيها وسيلة لا غاية. إن الغاية في الإسلام هو الله، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الذاريات: 50]. إياه نعبد، وإليه نسعى ونحفد، نرجو رحمته ونخاف عذابه، له صلاتنا، ونسكنا، نقوم في الحياة وفق شرعه، ماضين لتحقيق أمره، وإذا أردنا أن نبذل حياتنا فنبذلها في سبيله وحده، لا نرضى بذلك بديلًا، ونحن نحتاج في مسيرتنا إلى

9 - قيام الاقتصاد على أخلاق الإسلام وقيمه

هدفنا إلى المال كي يعيننا على تحقيق الهدف الكبير الذي نريد بلوغه، نحتاج إليه كي نقيم هذا الجسد الذي ركبت فيه أرواحنا، وتحتاج إليه في إعمار الأرض التي أمرنا الله باستعمارها، وتحتاج إليه ليقوم المجتمع على النحو الذي شرعه الله، فالمال في الإسلام وسيلة لا غاية، ولذلك حثنا الإسلام على أن نجعل المال خادمًا لا مخدومًا، وقد ذم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عباد المال، "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش" (¬1). المال في الإسلام زينة ومتاع، وزينة الدنيا ومتاعها زائلان، والقيمة الكبرى لمتاع الآخرة، ولذلك وجهنا القرآن إلى طلب الآخرة بهذا المتاع الذي أعطانا الله إياه {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [سورة القصص: 77]. هذا هو منهج الإسلام، وهو مناف لمنهج عباد المال، كما أنه مناف لمنهج الرهبان والمتصوفين، الذين طلقوا الدنيا، وأعرضوا عن العمل وحيازة المال، فصادموا الفطرة الإنسانية، وأضروا بالمجتمعات التي انتشرت فيها هذه الأفكار. 9 - قيام الاقتصاد على أخلاق الإسلام وقيمه: لقد قام النظام الإسلامي على إتاحة فرص العمل أمام جميع أفراد المجتمع الإسلامي، كما أباح التملك لهم على حدٍّ سواء، ولكنه لم يترك ذلك فوضى من غير حدود وضوابط. ¬

_ (¬1) رواه البخاري وابن ماجة، صحيح الجامع: 3/ 45.

لقد عني الإسلام بغرس الأخلاق الفاضلة والقيم الحميدة التي تقيم من الإنسان حارسًا على نفسه تمنعه من التصرفات الخاطئة، ولذلك تجد كثيرًا من المسلمين لا يسرقون ولا يغشون، ولا يحتكرون، ولا يكذبون في التعامل ... مع قدرتهم على هذا كله، لخوفهم من الله تبارك وتعالى، بل ترى النوم قد جفاهم، وملأ القلق نفوسهم إذا دخل شيء من المال في حيازتهم، لكونهم لم يعرفوا حكمه الشرعي، ولا يهدأ لهم بال حتى يقفوا على حكم الله فيه، وتراهم يتخلصون منه، ويبذلونه في مصارفه الشرعية، إذا تبين لهم أنه لا يحل لهم، ولا يكتفي الإسلام بغرس التقوى والخلق القويم في النفس الإنسانية، ولكنه يضع الضوابط الشرعية التي تحكم التصرفات العملية، ويأمر الدولة الإسلامية أن تقوم على مراعاة هذه الضوابط والأحكام. فهناك مصادر للمال لا يرضاها الإسلام، ولا يجيز لأبنائه التعامل من خلالها، كالسرقة والغش والزنا وبيع المحرمات كالخمر والخنزير، وأكل مال اليتيم، والغلول من الغنيمة، ونحو ذلك. ولم يجز للإنسان أن يتصرف في ماله كيف شاء، فلا يجوز إهلاك المال وإفساده، كما لا يجوز للمرء أن يسرف في الإنفاق، وقد عدّ القرآن المبذرين إخوان الشياطين، وانظر إلى المجتمع الرأسمالي البعيد عن هذه الضوابط كيف يقيم الصروح الضخمة التي تدمر القيم والأخلاق، وتؤدي إلى الظلم والاستبداد، فالبنوك الربوية التي تمحق الكسب تقوم في كل مدينة وقرية، وتستخدم جيوشًا من العمال والموظفين لكي تحقق الكسب الحرام لفريق من البشر، والعمارات الشاهقة ترتفع في كثير من المدن لتتاجر بالأعراض. والأموال تبذل بسخاء لإقامة العروض الفاجرة هنا وهناك باسم الفن، فمسابقات ملكات الجمال، والأفلام

10 - الوفرة النسبية في الخلق

والتمثيليات والمسارح - أغلبها تقوم على الإفساد والظلم، وانظر إلى إسرافهم في الإنفاق، وكيف يحرقون المحاصيل حتى لا يرخص السعر، وانظر كيف يمتصون دماء الشعوب ويتوزعون بينهم مناطق النفوذ. 10 - الوفرة النسبية في الخلق: الذي تعمق في دراسة الإسلام يعلم أن الأصل هو الوفرة في الخلق الذي يحتاج إليه الناس، ويزداد وجود الشيء كلما كانت حاجة الإنسان إليه ضرورية، ويقل وجوده كلما قلت الحاجة إليه، فالهواء - مثلًا - أكثر الأشياء وجودًا، لأن الإنسان لا يستغني عنه لحظة، وهو يملأ الفضاء، نتنفسه بلا ثمن، ثم يأتي بعده الماء، وهو كثير كثير، وحاجة الإنسان إليه كبيرة، وكلما قلت الحاجة يقل وجود الشيء، فالجواهر واليواقيت واللآليء قليلة، وحاجة الناس إليها قليلة. هذه هي نظرة الإسلام في هذا الموضوع، أمَّا الاقتصاد الغربي فنظرته قائمة على الندرة النسبية، لا على الوفرة، ومن هنا يقوم الصراع بين البشر للحصول على المواد التي يحتاجها الإنسان، وتقوم الدعوة إلى تحديد النسل، ولو وجهت الجهود الإنسانية لاستنباط خيرات الأرض لتضاعف الإنتاج مئات المرات، فهناك مساحات شاسعة من الأراضي لم تستغل بعد، وهناك خيرات البحار المخبوأة في جوفه. ومن العجب أن يقوم النظام الاقتصادي الغربي على نظرية الندرة النسبية، ثم نراهم يحرقون مئات الألوف من أطنان القمح أو الأرز .... بسبب وفرة الإنتاج حرصًا على عدم هبوط الأسعار، في الوقت الذي يموت الناس فيه من الجوع في الدول الفقيرة والغنية.

الفصل الثاني مجالات النشاط الاقتصادي الإسلامي

الفَصْل الثاني مجالات النشاط الاقتصادي الإسلامي للنشاط الاقتصادي مجالان هما: العمل، والملكية، وسنلقي على كل واحد من هذين نظرة سريعة موجزة. المَبْحث الأول العمل والعمَّال مفهوم العمل في المذهب الاشتراكي والمذهب الرأسمالي ضيق، فقد جعلوه مقصورًا على الإنتاج الذي تقدمه فئة من المجتمع مجردة من رأس المال، بل هو عندهم أضيق من هذا، لأنهم قصروه على الإنتاج المادي دون الإنتاج الفني، فاسم العمال عندهم يطلق على هذه الفئة في مقابل أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الأعمال وأصحاب المهن الحرّة والموظفين. أما مفهوم العمل في الإسلام فهو أوسع من ذلك، فكل جهد وعمل مادي أو معنوي أو مؤلف منهما معًا يعد عملًا في نظر الإسلام، فعامل المصنع ومديره، والموظف في الدولة، والتاجر، وصاحب الأرض، والطبيب والمهندس، كل هؤلاء عمال في الدولة الإسلامية. وعلى ذلك فالمفهوم الإسلامي للعمل يشمل كل نشاط أو فعالية مشروعة في مقابل كسب، سواء أكان أجرة أو ربحًا.

والعمل المرضي عنه في الإسلام هو العمل المباح، فإذا كان العمل منهيًا عنه شرعًا فهو غير مشروع ولا مقبول، كالمتاجرة بالمحرمات مثل الخمر والخنزير والمخدرات، ومثل السرقة والتنجيم والشعوذة والزنا، ومثل ذلك الأعمال الهدامة التي تنشر الفاحشة كالمسرحيات والأفلام والقصص والصحف التي لا هم لأصحابها إلَّا الدعوة إلى الفساد والإفساد. ومن ينظر في النصوص من الكتاب والسنة يجد الإسلام يحث على العمل والسعي واستعمار الأرض، وينهى عن البطالة والكسل والقعود، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. وفي الحديث: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري. وقد عدّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - العاملين الذين يسعون لسد حاجتهم وحاجة من يعولونه ساعين في سبيل الله، فقد مر على الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجل فرأى الصحابة من قوته وجلده ونشاطه، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان" رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (¬1). ومهما كان العمل شاقًّا مضنيًا صغيرًا في أعين الناس فهو أفضل من سؤال ¬

_ (¬1) الترغيب والترهيب: للمنذري: 2/ 524.

الناس، ففي الحديث: "لأن يغدو أحدكم، فيحتطب على ظهره، فيتصدق منه، ويستغني به عن الناس، خير له من أن يسأل رجلًا أعطاه أو منعه" (¬1). ولا يجوز لأحد أن يمدّ يده لسؤال الناس - في الإسلام - إلا في ثلاثة مواضع حددها الرسول عقة، ففي الحديث: "المسألة لا تحل إلا لثلاثة: الذي فقر مدقع، أو الذي غرم مفظع، أو الذي دم موجع" (¬2). ولكن الإسلام إذ يحث على العمل ويرغب فيه، فإنّه لا يوجب على الفرد أن يقوم بعمل بعينه، وكل الذي يوجه إليه الإسلام أن يوجد في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية طائفة من المسلمين يسدّون الحاجة، فإذا قصر المسلمون في سدّ جانب من الجوانب فإن الإثم يلحقهم حتى يقوم من يسدّ هذه الحاجة. يقول ابن تيمية: "قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهما: إن هذه الصناعات: كالفلاحة والنساجة والبناية، فرض على الكفاية، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها" (¬3). وقال أيضًا: إن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، ولا سيما إن كان غيره عاجزًا عنها، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبًا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، ولا يُمكِّنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يُمكِّن الناس من ظلمهم" (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه أحمد وأبو داود. (¬3) الحسبة لابن تيمية: ص 28. (¬4) المرجع السابق: ص 30.

بين العاملين وأصحاب العمل

والذي يظهر لي أن الإسلام ترك النص على هذا الجانب لأن حاجة المجتمع إلى هذه الأعمال المختلفة تدفع الناس إلى القيام بها، لأنهم يجدون مرغبات لذلك، فإذا قل العاملون في جانب ما كثر الطلب عليه، ودفع الناس في سبيل ذلك مالًا كثيرًا، وبذلك يقبل الناس على العمل في هذا المجال، وتسد الحاجة فيه. فإن لم يقم المجتمع بتنظيم نفسه بنفسه في هذا وجب على أولياء الأمور توجيه الناس لسدِّ جوانب النقص في مجتمعاتهم. بين العاملين وأصحاب العمل: وجه الإسلام العاملين إلى القيام بالأعمال المناطة بهم على أتم وجه وأكمله، وإتقان العمل في الإسلام يسمى الإحسان، وقد كتب الله الإحسان على كل شيء، ففي الحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"، ولا فرق في هذا بين إحسان العبادة، وإحسان العمل الدنيوي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [سورة الملك: 1 - 2]. فإذا أتقن الأجر أو الموظف العمل الموكول إليه، أحسن فيه فقد قضى ما عليه، ويبقى حقَّه على صاحب العمل. وحقَّه على صاحب العمل أن لا يكلفه فوق طاقته، وأن يؤدي إليه أجره كاملًا غير منقوص، وقد نهانا الله عن أن نبخس الناس أشياءهم كما أمرنا بالوفاء بالعقود {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [سورة الشعراء: 183].

المبحث الثاني الملكية

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: 1]. وفي الحديث الذي يرويه البخاري: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى ولم يوفه أجره". المبحَث الثاني الملكيَّة يغرس الإسلام في كيان أتباعه أن هذا الكون وما فيه كله لله تعالى: الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم والأرض والجبال والبحار والحيوان والنبات، بل الإنسان وما يملك هو ملك لله تعالى، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة المائدة: 120]. وقد أذن للبشر أن يملكوا شيئًا من ملكه، ولكنه ملك على وجه العارّية، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]. وكل إنسان سيؤخذ منه ما يملك في حياته، فإن لم ينزع منه في حياته فسينزع هو من ملكه، {كُلُّ مَنْ عَلَيهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [سورة الرحمن: 26، 27]. فملكهم عارية مستردة، ولكنه ملك حقيقي معتبر شرعًا، ولذلك أضاف الأموال لأصحابها في كثير من النصوص {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [سورة التوبة: 103]. {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)} [سورة المعارج: 24]. وإذا كان الفرد له ملكية خاصة لا يجوز الاعتداء عليها إلا أن الشارع يجعل مال الأفراد جزءًا من مال الأُمَّة لا يسمح لهم بالتصرف فيه تصرفًا يضرهم ويضر الأُمَّة

معهم، ولذلك أمر بالحجر على السفيه الذي يتصرف في ماله تصرفًا غير موزون {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]. والإسلام يبيح للمسلمين التملك إباحة غير مقيدة بالأدوات الاستهلاكية، وكل ما يقيدها به أن تكون الوسائل التي حصل التملك بها مباحة، وقد حدد الطرق غير المشروعة للملكية، فمن ذلك الحصول على المال بطريق الربا، أو الزنا، أو المتاجرة بالخمر ولحم الخنزير، أو التعامل بالقمار واليانصيب أو الأجرة على ارتكاب الجرائم، ومثل ذلك السرقة والرشوة والغش وغير ذلك من الأعمال المبينة في الشرع. ومن الطرق المشروعة في الإسلام الملكية نتيجة الجهد الشخصي، بالبيع والشراء، والزراعة، والصناعة، والتقاط المباح، وقد يأتي التملك من غير جهد شخصي، كالنفقة التي تأخذها الزوجة والأبناء، وكذلك الهبة والوصية، والعطية، والميراث. وإذا كان الإسلام قد أباح التملك فقد أوجب حقوقًا على الذين يملكون فلأبنائهم وآبائهم وأزواجهم عليهم حق، وللفقراء والمساكين عليهم حق، وقد شرع الإسلام في سبيل ذلك الزكاة، وألزم من خالف بعض المخالفات الشرعية بدفع مقدار من المال في وجوه الخير، كالذي يجامع في نهار رمضان، أو الذي يحدث في يمينه، أو الذي يظهر من زوجته، أو الذي يرتكب محذورًا من محذورات الإحرام ولا يكتفي الإسلام بإيجاب مقادير معينة، بل يرغب في بذل المال تطوعًا، ويعد على ذلك بالأجر العظيم والثواب الجزيل، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7].

أنواع الملكية: الملكية الفردية وملكية الدولة

{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد: 7]. {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيرٍ فَلِلْوَالِدَينِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: 215]. وحرّم الإسلام تجاوز الحد في الانفاق، فنهى عن الإسراف والتبذير في نفس الوقت الذي نهى فيه عن البخل والتقتير. أنواع الملكية: الملكية الفردية وملكية الدولة: الذي تحدثنا عنه هو الملكية الفردية، ومن هذه الملكية أن يشترك أكثر من شخص في عقار أو تجارة أو نحو ذلك. وهناك نوع آخر من الملكية وهو ملكية الدولة، وهي ملكية عامة لكل المسلمين الموجودين منهم والذين سيأتون من بعد، وهي ما يرد إلى بيت المال من الخراج والجزية والفيء وخمس الغنائم وخمس الركاز ونحو ذلك، ومن هذه الملكية ملكية الدولة للأنهار والأراضي التي لم يملكها أحد ولم يحبها أحد من المسلمين. وقد منع الرسول - صلى الله عليه وسلم - تملك الأمور المشاعة التي تضر ملكيتها بالمسلمين، كالأنهار وماء الأمطار والنبات الذي ينبت في الخلاء، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار" رواه أحمد وأبو داود.

الفصل الثالث الربا

الفَصْل الثالث الرِّبَا (¬1) الربا آفة خطيرة تصيب المجتمعات الإنسانية كما تصيب الاقتصاد، وهو يحدث آثارًا هائلة في المجتمع والاقتصاد لا يمكن علاجها ما لم تجتث شجرته الخبيثة. وقد رهب العليم الخبير أكلة الربا بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيعُ مِثْلُ الرِّبَا} [سورة البقرة: 275]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة: 278، 279]. وعدّ الرسول عقد الربا واحدًا من ذنوب سبعة كبرى توبق العبد في دنياه وأخراه. وقد دمر الربا مجتمعات كثيرة في الماضي، وهو اليوم يعمل عمله المدمر في الاقتصاد العالمي، ذلك أن الاقتصاد اليوم يقوم على الربا، وعلى الرغم من مساوئه الرهيبة إلا أن العالم لا يستطيع الخلاص من هذا الداء العضال. إن الإسلام قال في هذا القول الفصل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: 275]. ¬

_ (¬1) راجع في هذا بحثنا: "الربا وأثره في المجتمع الإنساني".

تعريف الربا

وأقام المسلمون اقتصادهم عبر التاريخ الإسلامي بعيدًا عن هذا الداء العضال، ولكنهم في هذا العصر أقاموا صرح الاقتصاد على أساس من الربا، بفعل أعداء الإسلام الذين استعمروا ديارنا وعقولنا ومناهج التعليم في ديارنا، وإنك واجد - حيث سرت في ديار الإسلام - البنوك الربوية تقوم شامخة البنيان تتحدى أحكام الله المحرمة للربا، وإذا نظرت إلى الصحف والمجلات والإذاعة والتلفاز رأيت الدعاية إلى الربا المحرم تكاد تملأ آفاق الأمة الإسلامية وتنتشر فيه انتشار الغبار الذي يغطي جو الأرض ويصل إلى كل شيء، أضف إلى ذلك أن الربا يدرس في مدارسنا وجامعاتنا، ويتعامل فيه كثير من رجالنا. والأمّة كلها مطالبة بأن تتقي الله في أنفسها وأموالها، وأن تجتنب هذا الطريق الذي حرم الله سلوكه، وإلا أصابها البلاء. تعريف الربا: الربا في اللغة الزيادة والنماء، وفي الاصطلاح هو ما نسميه اليوم بالفائدة، وهي الزيادة الكائنة على رأس المال المقترض، ويعرفه الفقهاء بقولهم: "الربا في الشريعة عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال". والدليل على أن المال الزائد على رأس المال ربا قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة: 279]. فالتائب يأخذ رأس ماله، والزائد عن رأس المال ربا بنص الآية، ولا فرق بين أن يكون الزائد واحدًا في المائة أو عشرين في المائة، فكل زيادة قليلة أو كثيرة حرام، وهي ربا، والذي يمنعه القائمون على الاقتصاد هو الزيادة الفاحشة أما الزيادة المعقولة فإنها جائزة عندهم، ويدعون أن الربا هو الفائدة المرتفعة، أمّا

الفائدة المعقولة فلا تدخل في الربا. وهذا الذي يقولونه باطل من القول، وليس له نصيب من الصحة، فالربا عندنا هو الزائد على رأس المال وإن كان فلسًا واحدًا، وهذا التفريق بين الكثير والقليل منهج غير إسلامي يقصد به التلاعب بعقول العباد، يدلنا على ذلك أن الفائدة التي كانت تعدُّ فاحشة في أول هذا القرن أصبحت اليوم جائزة ومباحة، فكانت العشرة في المائة فائدة فاحشة، ثم أصبحت العشرين في المائة اليوم جائزة.

الفصل الرابع المصارف الإسلامية

الفَصْل الرابع المصَارف الإسلاميَّة تقوم في العالم العربي والإسلامي شبكة هائلة من البنوك الربوية التي تفسد الحياة كما تفسد الاقتصاد، وقد أفرحت هذه المصارف الشيطان وأغضبت الرحمن، ولكنَّ أصحاب الغيرة من أهل العلم ورجال الاقتصاد المسلمين لم يفتؤوا ينادون مطالبين بإقامة الاقتصاد الإسلامي بعيدًا عن الربا، وإقامة مصارف إسلامية تقوم بالخدمات المصرفية، كما تقوم باستثمار المال وفق الشريعة الإسلامية. وقد بدأت المحاولات الأولى في هذا المجال في عام 1963 حيث أنشئت بنوك الادخار المحلية في مدينة ميت غمر في مصر، ثم أقيم بنك ناصر الاجتماعي في عام 1971 ولم يقدر لهاتين التجربتين أن تمضيا علي صراط مستقيم. وأول بنك قام على أسس سويَّة هو بنك دبي الإسلامي قام على إثره بيت التمويل الكويتي، ثم تتابع قيام البنوك الإسلامية في كل مكان، فأقيم البنك الإسلامي في الأردن، وبنك فيصل الإسلامي في السودان، وبنك فيصل الإسلامي في القاهرة، وقد زاد عدد هذه البنوك اليوم على أربعين بنكا. وفي عام 1975 ظهر أول بنك إسلامي دولي، هو بنك التنمية الإسلامي، ومقره جدة، وقد شاركت فيه كل دول العالم الإسلامي تقريبًا. و17 رمضان 1397 هـ الموافق 21/ 8 / 1977 تم تكوين الاتحاد الدولي

للبنوك الإِسلامية، وقد اعترف بهذا الاتحاد دوليًا. وقد أقامت البنوك الإِسلامية مؤتمرها الأول في دبي 23 - 25 جمادى الآخرة 1399 هـ مايو 1979، وأقيم المؤتمر الثاني في الكويت بتاريخ 6 جمادى الآخرة 1403 هـ، الموافق مارس 1983 م. وفي العام المنصرم 1403 هـ احتفل في دبي بتشكيل الهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية، وعقدت الهيئة أول اجتماعاتها في 30 جمادى الآخرة 1403 هـ 13 / أبريل 1983 م. وهذه البنوك تحاول جاهدة أن تقيم أنظمتها وفق الشرعية الإِسلامية، بعيدًا عن الربا والتعامل المحرم شرعًا. وقد أثبتت هذه البنوك نجاحًا طيبًا في فترة وجيزة، وقد توجه كثير من أبناء الإسلام إلى التعامل مع هذه البنوك، وهجروا البنوك الربوية. وقيام هذه البنوك يمثل لبنة في إقامة صرح النظام الاقتصادي المتكامل.

الفصل الخامس المؤلفات في الاقتصاد الإسلامي

الفصل الخامس المؤلَّفات في الاقتصاد الإسلامي من الذين كتبوا في الاقتصاد من العلماء القدامي القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، فقد كتب كتاب "الخراج" ولأبي عبيد القاسم بن سلام كتاب "الأموال". وقد كتب العلامة أبو الأعلى المودودي عدة مؤلفات في الاقتصاد الإسلامي، منها كتاب: "أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة"، وكتاب "معضلات الاقتصاد وحلها في الإسلام"، وكتاب "الربا". وكتب العَلَم في علم الاقتصاد الإسلامي المرحوم الدكتور عيسى عبده كتاب "الفائدة على رأس المال"، وكتاب "الاقتصاد السياسي"، ومن الكتب الحسنة في هذا الموضوع: "خطوط رئيسة في الاقتصاد" لأبي السعود. وقد ألف في الربا عدة مؤلفات، فكتب فيه المودودي وعيسى عبده وأبو زهرة، وقد كتبتُ بحثًا في الربا بعنوان "الربا وأثره على المجتمع الإنساني". ومن المؤلفات الجيدة في هذا العلم كتاب الزكاة وكتاب مشكلة الفقر، وكلاهما للدكتور يوسف القرضاوي.

الباب السابع النظام السياسي في الإسلام

البَابُ السَابع النظام السياسي في الإسلام ويشتمل على أربعة (*) فصول: الفصل الأول: هل في الإسلام نظام سياسي. الفصل الثاني: مميزات الدولة الإسلامية. الفصل الثالث: وظيفة الدولة الإسلامية. الفصل الرابع: رئيس الدولة الإسلامية. الفصل الخامس: المؤلفات في النظام السياسي الإسلامي.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بل خمسة فصول كما ترى

الفصل الأول هل في الإسلام نظام سياسي

الفصل الأول هل في الإسلام نظام سياسي تمهيد: يعجب كثير من المنتسبين للإسلام، الذين تثقفوا بثقافة الغرب، ونهلوا من مناهله المشوبة إذا قلت لهم: إن الإسلام جاء ليقيم دولة، ويحكم أمّة، وينظم العلاقات بين البشر، وفيه كل القواعد المتناسقة المترابطة التي تنظم الحكم، وتبين طريقة ممارسة السلطة الحاكمة للحكم. إنَّ المستغربين من بني قومنا، الذين هم من جلدتُنا، ويتكلمون بألسنتنا - يظنون كما ظن العلمانيون في ديار الغرب أن الدين علاقة بين الفرد وربه، ولا يجوز أن يسمح للدين في التدخل في شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والقضائية ... ، ويذهبون إلى ما ذهب إليه أساتذتهم من وجوب فصل الدين عن الدولة. وقد نجحت الحكومات التي تحكم ديار الإسلام في تحقيق هذه الفكرة الغربية، فأقصى الإسلام عن الحكم، وإن نصت أكثر دساتير هذه الدولة على أن دين الدولة الإسلام. إن الذين رددوا هذه الفكرة وأصلوها في ديارنا فريقان:

الفريق الأول: أهل المكر بهذه الأمّة، الذين يعلمون طبيعة هذا الدين، ويعرفون حقيقته، وأنه دين شامل، جاء ليحكم عباد الله بمنهج الله، ولكنهم الفريق الأول: أهل المكر بهذه الأمة، الذين يعلمون طبيعة هذا الدين، ويعرفون حقيقته، وأنه دين شامل، جاء ليحكم عباد الله بمنهج الله، ولكنهم يمكرون بهذه الأمة لإقصاء دين الله عن موقعه حتى لا تعود الأمّة إلى أصالتها، وكي لا تعود إليها روحها التي تبني منها النفوس، وتصلح منها القلوب والعقول، ويبقى أهل الشر هم المسلطون على رقابها، ويمتطون ظهورها، ويمصون خيراتها، بلا حسيب ولا رقيب. والفريق الثاني: جاهل بطبيعة هذا الدين، ألبس عليه أهل المكر حقيقة هذا الدين، فظنَّ أن العلماء المسلمين يشرعون باسم الله ما يشتهون، كما هو الحال في رجال الكهنوت في الدين النصراني، الذين يغفرون الذنوب، ويدخلون الناس الجنة، بل يبيعونهم إياها بثمن بخس. إن العلماء المسلمين مثلهم مثل حكام المسلمين، ليس لهم إلَّا أن يحكموا الناس بالهوى، ويشرعون ما يشاؤون، فالإسلام دين يحكم العباد، فلذا حاد العباد عن دين الله، فإنه يجب على بقية الأمة أن تقف في وجوههم، وتقيمهم على الجادة. إن المأمومين في الصلاة يتابعون الإمام ما استقام على المنهج الذي شرعه الله، فإن صلَّى على طريقةٍ مخالفة للمنهج الرباني فلا متابعة له، ولا اقتداء به، وهذا ماضٍ في كل أمر من الأمور، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". إنَّ الذين يزعمون أن الله فوَّض إليهم سلطانه، وأن ما يصدرونه من أحكام وقوانين يمثل إرادة الله ومشيئته ضالون، وفي يوم القيامة يتبرأ عيسى عليه السلام مما نسبه إليه الضالون من النصارى، قال تعالى:

المبحث الأول الأدلة على اعتناء الإسلام بهذا الجانب

{وَإِذْ قَال اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَينِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَال سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [سورة المائدة: 116]. وهذا الذي زعمه أولئك الحكام نوع من أنواع الشرك الذي وقعت فيه الأمم النصرانية، وقد قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة: 31]. وما اتخاذهم إياهم أربابًا إلا بطاعتهم حيث يخالفون حكم الله فيما يذهبون إليه. أمَّا الإسلام فالحاكم فيه ليس مُنَصَّبًا من قبل الله كما تزعم النظريات الدينية النصرانية، وليس حرًّا في أن يقرر ما يشاء، الخليفة المسلم تنصبه الأمة المسلمة، وهو يلتزم بأحكام الشرع ولا يجوز له الحيدة عنها، وهو مسؤول أمام الأمَّة وأمام مجلس الشورى عن أعماله، فأين هذا مما عرف بالحكومة "الثيوقراطية" في عالم الغرب. أمَّا ما دندنوا به من فساد بعض الحكام المسلمين عبر التاريخ الإسلامي، فنحن لا ننكر أنه كان في بعضهم شيء من ذلك، ولكن كان فيهم الأخيار الأبرار الصالحون الذين لا زالت الدنيا تتعطر بسيرتهم وذكرهم، وأخطاء أولئك ليست حجّة على الإسلام، بل الإسلام منها براء، ولقد وجد في المسلمين في كل عصر من أنكر باطل المبطل منهم، وقوّم المعوج من أعمالهم. المبحث الأول الأَدلة عَلى اعتنَاء الإِسلام بهَذا الجانب إننا إذ بينا الخلفية التي يصدر عنها أولئك الذين يزعمون أن لا سياسة في الدين - لم نقم الحجّة والبرهان على أن الإسلام شرع لنا إقامة سلطة سياسية تحكم

المسلمين، والذين يقولون إن الإسلام براء من ذلك قالوا بغير علم، فالله شرع الأحكام التي تنظم المجتمع الإسلامي، وطالب المسلمين بتنفيذ هذه الأحكام، ومعاقبة المتمردين على تلك الأحكام، بإقامة الحدود، والقصاص من المعتدين، وكل ذلك يحتاج إلى سلطة سياسية، وقد كانت هذه السلطة متمثلة في الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته، ولذلك خاطبه ربه قائلا: {وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيكَ} [سورة المائدة: 49]. وانتقلت هذه السلطة إلى الخلفاء الراشدين من بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد أوجب الله طاعة من تولى أمر المسلمين بقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء: 59]. وبلغ من اهتمام المسلمين بالقضية أن بايعوا الخليفة قبل دفنهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين يخرجون عن طاعة الخليفة أو الذين لا يعنون بإقامة الحكم الإسلامي تحذيرًا شديدًا حيث يقول: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". والمسألة في غاية الوضوح عند علماء الأمَّة في القديم والحديث، والإجماع منعقد عند علماء الأمة على وجوب إقامة الحكومة الإسلامية الملتزمة بحكم الله، يقول ابن حزم: "اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيها أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1) ويقول ابن خلدون: "إن نصيب الإمام واجب، قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي ¬

_ (¬1) الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/ 87.

المبحث الثاني أين مباحث الحكم في الإسلام؟

بكر رضي الله عنه، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك، ولم تترك الناس فوضى في عصر من العصور، واستقر ذلك إجماعًا دالًا على وجوب نصب الإمام" (¬1). وقد ساق ابن تيمية الأدلة العقلية والنقلية الدالة على وجوب إقامة الحكومة الإسلامية ثم قال: "فإذا كان قد أوجب الإسلام في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم كان هذا تنبيها على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك" (¬2). المبحث الثاني أين مبَاحث الحكم في الإسلام؟ أطلق المسلمون على سلطة الحكم مصطلح: "الولاية"، وقد أطلقها العلماء من أهل الصدر الأول فمن بعدهم على جميع مراتب الحكم من الإمامة العظمى أو الخلافة حتى أصغر الولايات أو الوظائف كما نسميها في هذا العصر (¬3)، وقد وضع المسلمون مؤلفات كثيرة تبحث في طبيعة الدولة الإسلامية، وتبين مميزاتها، ووظيفتها، وحقوق الراعي والرعية، وتجد هذه المباحث في الكتب التي ألفت في الإمامة والسياسة، والأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية، كما تجدها في كتب الفقه تحت أبواب متعددة. ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون 2/ 688 طبعة لجنة البيان العربي. (¬2) الحسبة لابن تيمية ص 5 طبعة دار الكتب العربية 1387 = 1967. (¬3) راجع الدولة ونظام الحسبة عند ابن تيمية لمحمد المبارك ص 26 طبعة دار الفكر دمشق.

المبحث الثالث نوع الحكم في الدولة الإسلامية

المَبحث الثالث نوع الحكم في الدولة الإسلامية بينت فيما مضى أن الحكم الإسلامي ليس هو الحكم الديني "الثيوقراطي" المعروف عند الغربيين، ويجب أن يعلم أن الحكم في الإسلام لا يوصف بوصف أفضل من كونه إسلاميًّا، وقد أخطأ الذين نسبوه إلى غير الإسلام، لقد زعم أقوام أن الحكم في الإسلام ديكتاتوري، عندما كانت الديكتاتورية هي المسيطرة في العالم، واحتجوا على ذلك بما وجدوه في تعاليم الشريعة من الإلزام بطاعة الحاكم، فلما جاءَت الدول الديموقراطية وعلا شأنها نادى المهزومون قائلين الحكم في الإسلام حكم ديموقراطي، ألا ترون أن الإسلام ينصب الحاكم بالانتخاب، ويلزم بالشورى، فلما ظهر المذهب الشيوعي والإشتراكي، قال الذين لم يحيطوا بالإسلام علمًا: الحكم في الإسلام اشتراكي وشيوعي، واحتجوا على ذلك بما احتجوا به. والحق أن الحكم في الإسلام لا يميل إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ولكنه حكم إسلامي، والحكم الإسلامي برئ من الديكتاتورية التي تجعل الحاكم إلهًا لا يسأل عما يفعل، وتجعل قوله القول، وحكمه الحكم، الحاكم في الإسلام مقيد بالشرع محاسب على أفعاله عند المسلمين. والإسلام ليس هو الديموقراطية، لأن الشعب في الديموقراطية يتوقف دوره عند انتخاب نوابه، والنواب بعد ذلك يشرعون ما يريدون، وفي الإسلام لا يتوقف دور المسلمين عند حدّ الانتخاب، بل تستمر مراقبتهم ومحاسبتهم للنواب والحكام، ولا يجوز للنواب والحكام أن يجاوزوا حدود ما شرع الله. والشيوعية سلطة مستبدة تصل إلى الحكم عن طريق القوة، وتشرع للناس ما

المبحث الرابع أساس الحكم في الدولة الإسلامية

تريد، وأين هذا من الإسلام الذي لا يقرّ القوة في تنصيب الحاكم، والذي يرى وجوب خلع الحاكم إذا نبذ شرع الله وحكّم هواه! ! إذا كان هناك حكم استبدادي وحكم ديموقراطي وحكم شيوعي، فيجب أن يعلم أن هناك نوعًا آخر من الحكم هو الحكم الإسلامي، له أصوله وقواعده، وهو غير أنواع الحكم الأخرى، بل نرى نحن المسلمين أن أنماط الحكم في الأرض نوعان: نوع إلهي رباني، وهو حكم الإسلام، ونوع آخر بشري إنساني، وهو كل ما عدا الإسلام. المَبحث الرابع أساس الحكم في الدولة الإسلامية كان الناس ولا يزالون يتساءَلون في مختلف الدول التي يخضعون لها قائلين: لماذا تخضع لحكم هذه الدولة؟ ولماذا تخضع لهذا الحكم؟ وفي أكثر الأحوال يكون الجواب واضحًا، علينا أن نطيع أمر هذه الدولة لأنها تملك القوة، ولأن هذا الحاكم بيده السلطان، ويستطيع أن يقطع رأس من خالفه فيما ذهب إليه، ولا تزال دول تقوم على هذا الأساس إلى يومنا هذا، ومن هذا النوع دول كثيرة نعتبرها تقدمية وراقية، فالنازية التي كانت في ألمانيا، والفاشية التي كانت في إيطاليا ليس لهما من مستند في الحكم إلا هذا، وإذا أنت تفكرت في الطريقة التي حكمت بها الشيوعية في روسيا لم تجدها إلا كذلك، فهي قائمة على منطق القوة، وإذا شاءت بعض الدول الدائرة في فلك الحكم الشيوعي الروسي الخلاص من السرطان الشيوعي الذي يسري في أحشائها لا تستطيع، لأن روسيا لها بالمرصاد، فتراها ترسل جيوشها ودباباتها وطيرانها إليها، بل أكثر من ذلك ترى هذه الدولة الظالمة ترسل مئات الألوف من جنودها إلى دولة مسلمة مثل أفغانستان

لإجبارها كرهًا على اعتناق الشيوعية. وفي بعض الأحيان يكون الجواب نحن تخضع لحكم هذه الدولة لأننا نحن الذين اخترناها، كما هو الحال في الدول الديموقراطية، أو التي تدعي الديموقراطية. ولكن هل صحيح أن إرادة الشعب هي التي جاءَت بالحاكم في تلك الدول، وبذلك تكون هي التي سنت القوانين المناسبة لتلك الشعوب، لقد سمعنا عن دول تدعي الديموقراطية تسوق العمال والفلاحين لصناديق الانتخاب، وتفرض عليهم شخصًا بعينه، وتكون النتيجة 99.9 في المائة، فأين إرادة الأمة هنا، ولقد سمعنا عن المعارك الانتخابية القذرة في الدول الراقية، التي يستطيع أصحاب المال والنفوذ فيها اللعب بالناخبين، حيث يضفى على الشخصيات الضعيفة العاجزة هالة ضخمة تصورهم بغير صورتهم، وبذلك يحرم أصحاب المميزات الفذة من الوصول إلى الصدارة، لأنهم لا يملكون المال والنفوذ، ثمَّ إن الذين تأتي بهم الدعاية الانتخابية المضللة لا يحكمون بعد ذلك إلا وفقًا لرغبات الطبقة التي بذلت مساعيها الهائلة لإنجاحهم، وفي كثير من الأحيان يكون الحكم حكم الأقلية، فكيف يدعى أن الشعب هو الذي جاء بالنواب والحكام. ثم لو افترضنا أن إرادة الشعب هي التي جاءت بالحكومة فهل يجوز لهذه الدولة استنادًا إلى ذلك أن تسن القوانين كيف شاءت، وتتصرف كما تشاء في عباد الله. إن المستند القانوني للحكم في الدولة الإسلامية هو الإسلام، فالقوانين التي تحكم في الدولة الإسلامية هي من عند الله، وإطاعتها على ذلك واجبة لا بدَّ منها، والإنسان تطمئن نفسه إلى إطاعة ربه وخالقه، بقدر ما تنفر من طاعة قوانين بشر مثله.

الفصل الثاني مميزات الدولة الإسلامية

الفصل الثاني مميِّزات الدولة الإسلاميَّة الدولة الإسلامية التي تلتزم بالشريعة الإسلامية تمتاز بين الدول الأخرى بميزات مهمة، منها: أولًا: اتخاذها الله إلها وربًا وحاكمًا: فالدول الأخرى في القديم والحديث تقوم على تأليه غير الله، أو على الكفر بالله، والذين يحكمون في كل هذه الدول على اختلاف نزعاتهم ومشاربهم - هم الذين يضعون القوانين التي تحكم البشر، لا فرق في ذلك بين الدول الديموقراطية أو الشيوعية أو الديكتاتورية، وهذا في اصطلاح القرآن شرك، لأن الله وحده هو الذي من حقه أن يشرع لعباده، وقد ذم الله اليهود والنصارى باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة: 31]. واتخاذهم إياهم كذلك بمتابعتهم في التشريع الخالف لشرع الله. الحكام في الدولة الإسلامية كالأفراد كلهم يطيعون أمر الله وينفذون حكمه، ولا يجوز لهم الخروج عن شرع اللَّهِ.

ثانيا: دولة العقيدة والفكرة

ثانيا: دولة العقيدة والفكرة: الدول في العالم تقوم على أساس قومي أو جغرافي أو عرقي، أما الدولة في الإسلام فهي دولة العقيدة والفكرة، فالرابطة التي تجمع أبناء الدولة الإسلامية هي الرابطة الإسلامية، بغض النظر عن الوطن أو الجنس أو اللون، وهذا هو الرابط الراقي الذي يناسب كرامة الإنسان، وهو الاعتبار المناسب لموقع الإنسان، والفروق بين البشر في اللون والجنس والأوطان، فروق شكلية، لا توجب اختلافًا ولا تناحرًا، أما المبادئ والمعتقدات فهي التي توجب لقاء وفرقة، وفي ظل هذه الدولة التي هي دولة القيم، تنمو الفضائل والمكارم، لزوال العوائق التي تقف في طريقها {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات: 13]. ثالثًا: دولة عالمية: الحكومة الإسلامية حكومة عالمية، لأن عقيدتها عالمية، ورسالتها عالمية أيضًا، ورسولها رسول عالمي، وقد تحقق هذا خلال التاريخ الإسلامي حيث كانت الدولة الإسلامية تحكم مساحات شاسعة من الأرض، وتحكم أممًا شتى، وكانت الأمم المختلفة تشارك في الحكم، بل إن غير العرب قد تقلدوا أعظم المناصب في الدولة الإسلامية، وخضع لهم العرب أنفسهم. رابعا: دولة شورية: الشورى في الدولة معلم واضح بيّن من معالمها، وتقترب الدولة من الإسلام كلما كثرت الشورى من حكامها وولاتها في مختلف شؤونها، وتبتعد عن الإسلام إذا ما أبرمت أمورها برأي الأفراد، ولم يقف التوجيه القرآني عند أمر الرسول

خامسا: دولة أخلاق وقيم

- صلى الله عليه وسلم - وهو الرسول المختار - بمشاورة أصحابه، في قوله: {وَشَاورْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، [سورة آل عمران: 159] بل جعل الشورى هي القاعدة التي يقوم عليها أمر الأمة الإسلامية {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ} [سورة الشورى: 38]. خامسا: دولة أخلاق وقيم: الدولة الإسلامية دولة أخلاقية، تحافظ على العهود والمواثيق، وتبني تصرفاتها وأعمالها على الأسس الأخلاقية، ولا تحقق مقاصدها إلا بالوسائل المشروعة، ولا يوجد انفصام عندها بين المثل الأخلاقية والواقع العملي، بل انسجام واتفاق، دولة حضارية تسعى للإعمار والإصلاح وفق المنهج الرباني.

الفصل الثالث وظيفة الدولة الإسلامية

الفَصْل الثالث وظيفَة الدَّولة الإسلاميَّة وظيفة الدولة القيام على الدعوة الإسلامية، وإقامة الشريعة الإسلامية، وقيادة الأمة وفق هذه الشريعة، وقد كانت هذه المهمة موكولة إلى الأنبياء في عهد بني إسرائيل، ففي الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي قام نبي" وساسة هذه الأمة بعد نبيها هم الحكام والعلماء وهم المعنيون بأولي الأمر في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء: 59]. فالنبوة ختمت بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والقائمون على ميراثه هم الذين يسوسون الأمَّة بشريعة الإسلام الخالدة. وهذا الذي قررناه هنا أنه وظيفة الدولة وهو إقامة شريعة الإسلام، وقيادة الأمة وفق هذه الشريعة كلام مجمل. وإذا شئنا التفصيل فإننا نقول: إن مهمة الدولة الإسلامية متعددة الجوانب، فمن ذلك: 1 - إقامة العدل في المجتمع الإسلامي: وإقامة العدل في المجتمع أوسع من تنصيب القضاة الذين يقيمون حكم الله في

2 - حراسة العقيدة وتنفيذ الشريعة

الذين يتجاوزون حدود الله، كالذين يرتكبون الزنا ويسرقون ويشربون الخمر، ويرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وكذلك هم يحكمون بين الناس فيما اشتجروا فيه، فيقتصون للناس بعضهم من بعض، ثم إن الدولة مكلفة بأن تقيم العدل في كل شعبة من شعب الحياة، وفق منهج الله في الإنفاق من بيت المال، وفي إتاحة الفرص للناس جميعًا في الوظائف والتجارة والصناعة، وغير ذلك. وإذا أنت تتبعت النصوص القرآنية والنبوية الآمرة بالعدل، وتتبعت عناية الخلفاء والقضاة والولاة والأفراد بتحقيق العدل - فإنك تحكم أن هذه الدولة دولة العدل، أضف إلى هذا أن عدلها لا يشوبه ظلم، لأن مقاييسها تنزيل من حكيم حميد. 2 - حراسة العقيدة وتنفيذ الشريعة: إذا مكَّن الله للمسلمين في الأرض فعلى ولاة الأمر القيام يحراسة العقيدة، بحيث لا تصيبها لوثة الشرك، ولا تتخللها الخرافة، ثمَّ عليهم أن ينفقوا بسخاء على إقرار العقيدة في النفوس، وذلك بالبرامج التي توضح أبعادها، في المدارس والجامعات، ومن خلال الإذاعة والتلفاز، والمسجد، وغير ذلك، والدول الضالة اليوم تنفق بسخاء على الدعوة إلى مبدئها وعقيدتها كالدول الشيوعية، وقد جعل الله الذين ينفقون أموالهم إبتغاء مرضات الله من خير عباد الله. وكذلك عليها أن تقوم على تنفيذ شريعة الله في الأموال والأنفس والمجتمع، وبث الوعي بهذه الشريعة المباركة. والدولة الإسلامية كانت كذلك راعية للعقيدة، منفذة للشريعة، فكان ذلك من أسباب التمكين للأمة {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا

3 - الجهاد في سبيل الله

الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة الحج: 41]. 3 - الجهاد في سبيل الله: وذلك بإعداد القوة الحربية المناسبة للعصر، من إقامة المصانع، وتدريب المقاتلين، وغرس حب القتال في النفوس، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [سورة الأنفال: 60]. والغاية من الجهاد قلع جرثومة الفساد من الأرض، وذلك بإزالة الأنظمة والقوى التي تقف في وجه انتشار الدعوة الإسلامية، وتفتن المسلمين عن دينهم وعقيدتهم وبذلك تكون كلمة الله هي العليا {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [سورة البقرة: 193]. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [سورة التوبة: 40]. ومن أهداف الجهاد حماية الأمّة المسلمة، وإنقاذ المستضعفين في الأرض، والانتقام من أعداء الله الذين يستبدون بالأمر، ويذلون عباد الله {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْولْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [سورة النساء: 75]. {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيهِمْ} [سورة التوبة: 14] وبذلك تتحقق عزة الأمة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون: 8]

4 - العناية بالجانب المالي والاقتصادي

ويخافها أعداؤها، ويرهبون جانبها، وتقيم الحق في الأرض، فأهل الحق لا تسمع كلمتهم ما لم يكونوا أقوياء مرهوبي الجانب. 4 - العناية بالجانب المالي والاقتصادي: تعنى الدولة الإسلامية بجمع المال من طرقه المشروعة وإيصاله إلى مستحقيه، فتجمع مال الزكاة، والفيء، والخمس، والخراج، والصدقات، وتضعها في مواضعها التي شرع الإسلام وضعها فيها. وقد بلغ من عناية الإسلام بالجانب المالي أن رتب مرتبات لكل فرد في الدولة الإسلامية، وقد استغنى جميع المسلمين في بعض فترات التاريخ، فكان الأغنياء يبحثون عن محتاج فلا يجدون. والدولة تتدخل في النشاط الاقتصادي، فتمنع كل ما هو ظلم، ولذلك حرّم الإسلام الاحتكار، كما أوجب على ولاة الأمر مراقبة الأسواق، وكف الناس عن الظلم، وقد أقيم في الدولة الإسلامية جهاز يسمى جهاز الحسبة، يراقب الأسواق والتجار والصناع، وقد كتب كثير من العلماء شروحًا لهذا النظام. 5 - إدارة الدولة: وذلك بتوظيف الموظفين الذين يقومون على كل شعبة من شعب الحياة، ووضع القواعد الإدارية التي تضمن حسن سير العمل، وإقامة الدورات التخصصية التي تخرج أصحاب الكفاءات عند الحاجة لذلك، وفرض المرتبات المناسبة للموظفين. وقد أمر الإسلام بإسناد الوظائف إلى أهل الكفاءات، والرجل الكفء هو

6 - المحافظة على الأمن الداخلي

القوي الأمين {إِنَّ خَيرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَويُّ الْأَمِينُ} [سورة القصص: 26]. والقوة تعني القدرة على العمل لخلال يتصف بها الشخص من القدرات البدنية والعلمية والفكرية، والأمانة هي التي تدفع إلى بذل الجهد والقيام بالعمل خير قيام، وعدم الخيانة والاختلاس، وقد فسر كثير من العلماء أداء الأمانة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء: 58]. بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وقد عدّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب تضييعا للأمانة، وانتشار هذا علامة من علامات الساعة "قال رجل للرسول - صلى الله عليه وسلم -: متى الساعة؟ فأجابه بعد سكوت، "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" قال: يا رسول الله: وما ضياعها؟ قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة". 6 - المحافظة على الأمن الداخلي: فالمجتمع الذي تنتشر الجريمة فيه - مجتمع مريض، يسود فيه الخوف والرعب، وهجره الناس، والدولة الإسلامية مطالبة بإقامة الأجهزة التي تسهر على أمن العباد، وملاحقة المجرمين، وإقامة العقوبات الرادعة للمفسدين في الأرض، وفق شريعة الله.

الفصل الرابع رئيس الدولة الإسلامية

الفَصْل الرابع رئيس الدَولة الإسلاميَّة المَبحَث الأول ألقابه وَالشروط الواجب توافرها فيه يلقب رئيس الدولة بعدة ألقاب: الخليفة، الإمام، أمير المؤمنين، وهو المسؤول الأول أمام الأمة، وكلمته هي الكلمة الأولى في تسيير شؤون الدولة، وفي تعيين الوزراء والولاة وأمراء الجيوش والقضاة، وله محاسبة المقصرين، وعليه أن يكثر من الاستشارة في أموره كلها، وتحري العدل، والالتزام بالشرع. ورئيس الدولة مطالب بتحقيق المهمات المناطة بالدولة. وقد اشترط في الخليفة عدة شروط: 1 - التكليف: وشروط التكليف: الإسلام، والبلوغ، والعقل، ولا يتصور أن يكون غير المكلف خليفة للمسلمين، فالكافر والمجنون والصغير كلهم لا يصلحون لهذا المنصب الخطير. 2 - العدالة: وهذا الشرط تحققه ضروري في جميع الولايات، ومرادهم بهذا الشرط أن يكون الخليفة: "صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم، متوقيا المآثم، بعيدًا عن الريب، مألوفًا في الرضا والغضب، مستعملًا

مروءته، مثالًا في دينه ودنياه، فإذا تكاملت فيه فهي العدالة التي تجوز بها شهادته، وتصح معها ولايته، وإن انخرم منها وصف منع من الشهادة والولاية، فلم يسمع له قول، ولم ينفذ له حكم" (¬1). 3 - العلم: فالذي يتولى شؤون الأمة يجب أن يكون على درجة من العلم يستطيع بها معرفة الحق من الباطل، وسياسة أمور الأمة، والتعرف على الذين يصلحون لمنصب الولاية، ويستطيع بها توجيه الجيوش، ومفاوضة الخصوم، فالعلم نور يكشف لصاحبه الظلمات، وأول العلم وأهمه العلم الشرعي الذي هو دين الأمة، وعليه يقوم بناؤها. وقد اشترط بعض العلماء أن يبلغ الخليفة بعلمه درجة الاجتهاد، ولا شك أن كون الحاكم مجتهدًا أفضل وأكمل، إلا أن اشتراط هذا الشرط ليس ضروريا، والمشروط هو أن يحصل من العلم ما يحقق به قيادة الأمة. 4 - الذكورة: وهذا شرط متفق عليه بين علماء الأمَّة فالولاية الكبرى لا تصلح لها المرأة، وفي الحديث "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، ولم يحدث في التاريخ الإسلامي أن تولت أمر المسلمين امرأة، فالخليفة يحتاج أن يخلو بمستشاريه، وقد يفاوض الخصوم، ويقود الجيوش، والمرأة لا تستطيع ذلك، خاصه وأنه قد يعرض لها ما يمنعها من القيام بواجبات الخلافة، أو يقلل من فعاليتها في ذلك، مثل الحيض والنفاس والرضاع وتربية الأولاد. 5 - سلامة البدن والحواس: وهذا شرط يراد به قدرة الحاكم على تنفيذ الأعمال الكبيرة الموكولة إليه، ولذلك فإنه يشترط سلامته من العيوب التي تمنعه من مزاولة ¬

_ (¬1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 66.

المبحث الثاني كيفية اختياره

واجبات الخليفة، كالعمى والصمم وعدم القدرة على الحركة بسبب شلل أو عجز ونحو ذلك، أما إذا لم يمنعه نقص بعض الحواس من مزاولة أعماله، فلا يعد عيبًا يحرم به من تولى منصب الإمامة، مثل فقدان حاسة الشم، ومثل ذلك قطع بعض أعضائه كمن قطع أصبعه، أو شيئًا من أذنه ونحو ذلك. 6 - أن يكون قرشيًا: وهذا الشرط دلت عليه نصوص كثيرة ثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كقوله: "الأئمة من قريش"، وقد ذهب علماء أهل السنة إلى هذا الشرط، وخالف فيه الخوارج، وفائدة هذا الشرط التحقق من أصالة الحاكم، بحيث لا يتسلل إلى منصب الخلافة بعض الأدعياء الذين يظهرون الصلاح، ويبطنون الشرّ، أضف إلى هذا أن قريشًا كانت لها الصدارة بين القبائل العربية، فهي موضع ثقة العرب. المَبحَث الثاني كيفيَّة اختيَاره تنصيب الخليفة حق من حقوق الأمّة الإسلامية، ومن الظلم أن يستبد بعض الرجال بالحكم دون بقية الأمَّة، ولم ترد نصوص واضحة تدل على الكيفية التي نتعرف بها على مراد الأمَّة في الشخص المناسب للحكم. والذي جرى عليه العمل في عهد الخلفاء الراشدين أن أهل الحل والعقد وهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين كانوا في مركز الخلافة في المدينة هم الذين يختارون الخليفة. ويمكن أن يختار من الأمَّة مجلس شورى، تكون أحد مهماته اختيار الخليفة، ثم تبايعه الأمَّة بعد ذلك ومبايعة الأمَّة له يعني موافقتها على اختياره والتزامها

المبحث الثالث حقه على الرعية

بطاعته، فإذا رفضت الأمَّة مبايعته، فإن هذا يعني عدم موافقتها على ذلك الاختيار. ويأخذ الخليفة البيعة من أفراد الأمَّة مباشرة، أو بطريق ولاته ووزرائه ونوابه، حيث يبايعون الخليفة على السمع والطاعة في المنشط والمكره. المَبحَث الثالث حقُّه عَلَى الرعيَّة من حق الخليفة أن تطاع أوامره، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء: 59]. فله أن يأمر بكل ما يرى فيه للأمة صلاحًا، من إعداد القوة، وتجييش الجيوش، وإعلان الحرب، وتشكيل الأجهزة المختلفة التي تحفظ الأمن، وتقيم العدل، ومن حقه تعيين القضاة والولاة ... ومحاسبتهم. ولكن أمر الحاكم ليس مطلقًا، بل هو مقيد بطاعة الله وطاعة الرسول، فإن أمر بما فيه معصيته فلا طاعة له، ولذلك فإن من حق الأمَّة أن تعصيه إذا أمر بمعصية، كما أن من حق الأمَّة تقويمه إذا ظلم أر حاد عن الصراط المستقيم، وقد قال أبو بكر في الخطبة التي افتتح فيها خلافته "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني". أمَّا واجبات الخليفة فقد تحدثنا عنها عندما تحدثنا عن وظيفة الدولة الإسلامية. المَبحَث الرابع حقوق الرعيَّة في الدَولَة الإسلاميَّة لكل فرد في الدولة الإسلامية حقوق، وقد كفل الإسلام هذه الحقوق وطالب المسلمين بالحفاظ عليها، وعدم التفريط بها، ومن هذه الحقوق:

1 - حق الحياة: فلا يجوز للدولة أن تعتدي على شخص في دولتها إلا إذا ارتكب جرمًا يؤاخذه عليه الشرع، ويعاقبه عليه القانون الإسلامي، ذلك أن ذات المسلم مصانة في الإسلام، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" ولا يكتفي الإسلام بالنهي عن العدوان على نفوس الرعية، بل يلزم الدولة أن تحافظ على نفوسهم، وتأخذ على أيدي الظالمين والمجرمين. 2 - الحرية الشخصية: الفرد في الدولة الإسلامية له مطلق الحرية في الانتقال، والقيام بما يحب من أعمال، والتملك، واختيار السكن، والتزوج ونحو ذلك، كل ما يشترطه الإسلام أن لا يخرج الفرد في تصرفاته وأعماله عن الدائرة التي عددتها له الشريعة الإسلامية، فلا يتعامل بالأعمال المحرمة، ولا يبتغي الأمور من الطرق التي أغلقها الله تبارك وتعالى، ومنع عباده من إتيانها. 3 - الحقوق السياسية: فلكل فرد في الرعية الحق في انتخاب رئيس الدولة، وحق مراقبته ومراقبة عماله، كما لهم الحق في توجيه النقد إلى الولاة إذا لم يستقيموا وفق شريعة الله. 4 - حرية الاعتقاد: وقد قررها القرآن بقوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [سورة البقرة: 256]. فالكافر لا يرغم على اعتناق الإسلام، ولكن يمنع الكفار (أهل الذمة) في الدولة الإسلامية من إحداث خلخلة أو بلبلة في صفوف المسلمين، فلا يسمح لهم بالتمرد على أحكام الشرعية التي هي الإطار الذي يحكم المجتمع الإسلامي، ومن هذا الباب يمنع المسلم من ترك دينه، ويعتبر الإسلام ذلك ردة تبيح دم من ارتد.

5 - عصمة المال: مال الفرد في الدولة الإسلامية معصوم كعصمة دمه، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءَكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدك هذا في شهركم هذا" قاله - صلى الله عليه وسلم - في يوم عرفة في حجة الوداع، وقال أيضًا: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه".

الفصل الخامس المؤلفات في النظام السياسي في الإسلام

الفَصْل الخامس المؤلَّفات في النظام السياسي في الإسلام من خير من ألف في هذا الموضوع من القدامى: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابيه: السياسة الشرعية، والحسبة في الإسلام، والكتاب الثاني يبحث في وظيفة الدولة الإسلامية، وقد استخلص محمد المبارك رحمه الله من هذين الكتابين فكرة الدولة عند ابن تيمية، وطبع بحثه بعنوان: "الدولة ونظام الحسبة عند ابن تيمية". ومن الذين ألفوا في هذا الموضوع من القدامى ابن قتيبة، له كتاب "الإمامة والسياسة" وللماوردي كتاب "الأحكام السلطانية". ومن الذين أجادوا الكتابة في هذا الموضوع أبو الأعلى المودودي في كتابه: "نظرية الإسلام السياسية"، وله جملة أبحاث تتعلق بالدولة، طبعت تحت عنوان: "الحكومة الإسلامية"، وله كتاب: "المبادئ الأساسية للدولة الإسلامية". وكتب ضياء الدين الريس كتابين حسنين في بابهما: الأول بعنوان: "النظريات السياسية في الإسلام"، والثاني: "الخلافة الإسلامية"، وقد كتب في هذا الموضوع أيضًا السيد الشوربجي: "الإسلام ودستور الحكم"، وعبد القادر عودة: "الإسلام وأوضاعنا السياسية"، ومحمد صادق عرجون "الإسلام وأصول الحكم".

§1/1